الرسائل للجاحظ

الجاحظ

الرسالة الأولى مناقب الترك

الجزء الأول الرسالة الأولى مناقب الترك بسم الله الرحمن الرحيم وفقك الله لرشدك، وأعان على شكرك، وأصلحك وأصلح على يديك، وجعلنا وإياك ممن يقول بالحق ويعمل به، ويؤثره ويحتمل ما فيه مما قد يصده عنه، ولا يكون حظه منه الوصف له والمعرفة به، دون الحث عليه والانقطاع إليه وكشف القناع فيه وإيصاله إلى أهله، والصبر على المحافظة في ألا يصل إلى غيرهم، والتثبت في تحقيقه لديهم، فإن الله تعالى لم يعلم الناس ليكونوا عالمين دون أن يكونوا عاملين، بل علمهم ليعملوا، وبين لهم ليتقوا التورط في وسط الخوف، والوقوع في المضار، والتوسط في المهالك. فذلك طلب الناس التبيّن، ولحب السلامة من الهلكة، والرغبة في المنفعة، احتملوا ثقل العلم، وتعجلوا مكروه المعاناة. ولقلة العاملين وكثرة الواصفين قال الأولون: العارفون أكثر من الواصفين، والواصفون أكثر من العاملين. وإنما كثرت الصفات وقلت المواصفات، لأن ثواب العمل مؤجل، واحتمال ما فيه معجل.

وقد أعجبني ما رأيت من شغفك بطاعة إمامك، والمحاماة لتدبير خليفتك، وإشفاقك من كل خلل وخلة دخل على ملكه وإن دق، ونال سلطانه وإن صغر، ومن كل أمر خالفه وإن خفي مكانه، وجانب رضاه وإن قل ضرره؛ ومن تخوفك أن يجد المتأوِّل إليه طريقاً والعدو عليه متعلقاً؛ فإن السلطان لا يخلوا من متأول ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول عن الحكم زارٍ، ومن متعطل متصفح، ومن معجبٍ برأيه ذي خطلٍ في بيانه، مولع بتهجين الصواب، وبالاعتراض على التدبير، حتى كأنه رائدٌ لجميع الأمة، ووكيل لسكان جميع المملكة؛ يضع نفسه في موضع الرقباء، وفي موضع التصفح على الخلفاء والوزراء؛ لا يعذر وإن كان مجاز العذر واضحاً، ولا يقف فيما يكون الشك محتملاً، ولا يصدق بأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وأنه لا يعرف مصادر الرأي من لم يشهد موارده، ومستدبره من لم يعرف مستقبله. ومن محروم قد أضغنه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان. ومن مستبطئٍٍ قد أخذ أضعاف حقه، وهو لجهله بقدره، ولضيق ذراعه وقلة شكره، يظن أن الذي بقي له أكثر، وأن حقه أوجب. ومن مستزيدٍ

لو ارتجع السلطان سالف أياديه البيض عنده، ونعمه السالفة عليه، لكان لذلك أهلاً، وله مستحقاً. قد غره الإملاء، وأبطره دوام الكفاية، وأفسده طول الفراغ. ومن صاحب فتنةٍ خاملٍ في الجماعة، رئيس في الفرقة، نعاق في الهرج، قد أقصاه السلطان، وأقام صغوه ثقاف الأدب، وأذله الحكم بالحق، فهو مغيظ لا يجد غير التشنيع، ولا يتشفى بغير الإرجاف، ولا يستريح إلا إلى الأماني، ولا يأنس إلا بكل مرجفٍ كذاب، ومفتون مرتاب، وخارصٍ لا خير فيه، وخالفٍ لا غناء عنده، يريد أن يسوَّى بالكفاة، ويرفع فوق الحماة، لأمرٍ ما سلف له، ولإحسانٍ كان من غيره، وليس ممن يرب قديماً بحديث، ولا يحفل بدروس شرف، ولا يفصل بين ثواب المحتسبين، وبين الحفظ لأبناء المحسنين. وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية، من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله.

ثم أعلمتني بذلك أنك بنفسك بدأت في تعظيم إمامك، والحفظ لمناقب أنصار خليفتك، وإياها حطت بحياطتك لأشياعه، واحتجاجك لأوليائه. ونعم العون أنت إن شاء الله على ملازمة الطاعة، والمؤازرة على الخير، والمكانفة لأهل الحق. وقد استدللت بذلك بالذي أرى من شدة عنايتك، وفرط اكتراثك، وتفقدك لأخابير الأعداء وبحثك عن مناقب الأولياء، على أن ما ظهر من نصحك أممُ، في جنب ما بطن من إخلاصك. فأمتع الله بك خليفته، ومنحنا وإياك محبته، وأعاذنا وإياك من قول الزور، والتقرب بالباطل، إنه حميد مجيد، فعالٌ لما يريد. وذكرتَ أبقاك الله أنك جالست أخلاطاً من جند الخليفة، وجماعةً من أبناء الدعوة، وشيوخاً من جلة الشيعة، وكهولاً من أبناء رجال الدولة، والمنسوبين إلى الطاعة والمناصحة، والمحبة الدينية، دون محبة الرغبة والرهبة، وأن رجلاً من عرض تلك الجماعة، ومن حاشية تلك الجلة، ارتجل

الكلام ارتجال مستبدٍ، وتفرد به تفرد معجبٍ، وأنه لم يستأمر زعمائهم، ولم يراقب خطباءهم، وأنه تعسف المعاني وتهجم على الألفاظ، وزعم أن جند الخلافة اليوم على خمسة أقسام: خرا ساني، وتركي، ومولًى، وعربي، وبنوي. وأنه أكثر من حمد الله وشكره على إحسانه ومننه، وعلى جميع أياديه وسابغ نعمه، وعلى شمول عافيته وعلى جزيل مواهبه، حين ألَّف على الطاعة هذه القلوب المختلفة، والأجناس المتباينة، والأهواء المتفرقة،. وأنك اعترضت على هذا المتكلم المستبدّ، وعلى هذا القائل المتكلِّف، الذي قسَّم هذه الأقسام، وخالف بين هذه الأركان، وفصَّل بين أنسابهم، وفرق بين أجناسهم، وباعد بين أسبابهم. وأنك أنكرت ذلك عليه أشد الإنكار، وقذعته أشد القذع، وزعمت أنهم لم يخرجوا من الاتفاق أو من شيء يقرب من الاتفاق. وأنك أنكرت التباعد في النسب، والتباين في السبب. وقلت: بل أزعُم أن الخراساني والتركي أخوان، وأن الحيِّز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصُّقع متفق غير مختلف، ومتقارب غير متفاوت. وأن الأعراق في الأصل إن لا تكن كانت راسخة فقد كانت متشابهة، وحدود البلاد المشتملة عليهم إن

لا تكن متساوية فإنها متناسبة، وكلهم خرا ساني في الجملة وإن تميزوا ببعض الخصائص، فافترقوا ببعض الوجوه. وزعمت أن اختلاف التركي والخراساني ليس كالاختلاف بين العجمي والعربي، ولا كالاختلاف بين الرومي والصقلي والزغبي والحبشي، فضلاً عما هو أبعد جوهراً وأشد خلافاً. بل كاختلاف ما بين المكي والمدني، والبدوي والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال: أن هذيلاً أكراد العرب، وكاختلاف ما بين من نزل الحزون، وبين نزل البطون، وبين نزل النجود وبين نزل الأغوار. وزعمت أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضاً في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميمٍ، وسفلي قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي أكثرها على خلاف لغة حِمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص، غير مشوب ولا معلهج ولا مذرَّع ولا مزلج. ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان، من قبل ما طبع الله

عليه تلك البرية من خصائص الغرائز، وما قسم الله تعالى لأهل كل جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة. فإن قلت: فكيف كان أولادهما جميعاً عرباً مع اختلاف الأبوة. قلنا: إن العرب لما كانت واحدةً فاستووا في التربة وفي اللغة، والشمائل والهمة، وفي الأنف والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسكبوا سبكاً واحداً، وأفرغوا إفراغاً واحداً، وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط، وحين صار ذلك أشد تشابهاً في باب الأعم والأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام، جرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب، وصارت هذه الأسباب ولادةً أخرى حتى تناكحوا عليها، وتصاهروا من أجلها، وامتنعت عدنان قاطبة من مناكحة بنى إسحاق وهو أخو إسماعيل، وجادوا بذلك في جميع الدهر لبنى قحطان - وهو ابن عابر - ففي إجماع الفريقين على التناكح والمصاهرة، ومنعهما من ذلك جميع الأمم: كسرى فمن دونه، دليل على أن النسب عندهم متفق، وأن هذه المعاني قد قامت عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة.

وزعمت أنه أراد الفرقة التخريب، وأنك أردت الألفة والتقريب. وزعمت أيضاً أن البنوىَّ خراساني، وأن نسب الأبناء: نسب آبائهم، وأن حسن صنيع الآباء، وقديم فعال الأجداد هو حس الأبناء. وأن الموالي بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمسٌّ؛ لأن السنة جعلتهم منهم. فقلت: إن الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني؛ لأنهم عربٌ في المدعى، وفي العاقلة، وفي الوراثة. وهذا تأويل قوله مولى القوم منهم ومولى القوم من أنفسهم، " والولاء لحمةٌ كلحمة النسب " وعلى شبيه ذلك صار حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم، فصار الأخنس بن شريق وهو رجلٌ من ثقيف، وكذلك يعلى بن منية وهو رجل من بلعودية، وكذلك خالد بن عرفطة وهو رجل من عذرة

من قريش. وبذلك النسب حرمت الصدقة على موالي بني هاشم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجراهم في باب التنزيه والتطهير مجرى مواليهم. وبذلك السبب قدم النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على بني عبد شمس، وقرابتهم سواءٌ ونسبهم واحد، للعقد المتقدم، وللأيدي المتفقة. وقال صلى الله عليه وسلم: " منا خير فارسٍ في العرب: عكاشة بن محصن "، فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك رجلٌ منا يا رسول الله. قال: " بل هو منا بالحلف ". فجعل حليف القوم منهم، كما جعل بن أخت القوم منهم. ثم زعمت أن الأتراك قد شاركوا هؤلاء القوم في هذا النسب، وصاروا من العرب بهذا السبب، مع الذي بانوا به من الخلال، وحبوا به من شرف الخصال. على أن ولاء الأتراك للباب قريش، ولمصاص عبد مناف، وهم في سر بني هاشم وهاشم موضع العذار من خد الفرس، والعقد من لبَّة الكاعب، والجوهر المكنون، والذهب المصفى، وموضع المحَّة من البيضة، والعين في الرأس، والروح من البدن؛ وهم الأنف المقدَّم، والسنام الأكبر، والدرة الزهراء، والروضة الخضراء، والذهب الأحمر. فقد شاركوا العرب في أنسابهم، والموالي في أسبابهم، وفضلوهم

بهذا الفضل الذي لا يبلغه فضلٌ وإن برع، بل لا يعشره شرفٌ وإن عظم، ولا مجدٌ وإن قدم. فزعمت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون المؤازرة والمكاتفة، والطاعة والمناصحة، والمحبة للخلفاء الأئمة. وذكرت أنه ذكر جملاً من مفاخرة الأجناس، وجمهرةً من مناقب هذه الأصناف، وأنه جمع ذلك وفصله وفسره، وأنه ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحا، يخبر عنهم كما أخبر عن حجة كل جيل، وعن برهان كل صنف؛ وذكر أن الخراساني يقول: نحن النقباء وأبناء النقباء، ونحن النجباء وأبناء النجباء، ومنا الدعاة، قبل أن تظهر نقابة، أو تعرف نجابة، وقبل المبالغة والمباراة، وقبل كشف القناع وزوال التَّقيَّة وزوال ملك أعدائنا عن مستقره، وثبات ملك أوليائنا في نصابه. وبين ذلك ما قتلنا وشردنا، ونهكنا ضرباً وبضعنا بالسيوف الحداد، وعذبنا بألوان العذاب. وبنا شفى الله الصدور، وأدرك الثأر. ومنا الإثنا عشر النقباء، والسبعون النجباء. ونحن الخندقية، ونحن الكَّفيَّة وأبناء الكَّفيَّة،

ومنا المستجيبة ومن يهرج التيمية ومنا نيم خزان وأصحاب الجوربين ومنا الزغندية والآزاذمردية. ونحن فتحنا البلاد وقتلنا العباد، وأبدنا العدو بكل وادٍ. ونحن أهل هذه الدولة، وأصحاب هذه الدعوة، ومنبت هذه الشجرة. ومن عندنا هبت هذه الريح. والأنصار أنصاران: الأوس والخزرج نصرو النبي صلى الله عليه وسلم في أول الزمان، وأهل خراسان نصروا ورثته في آخر الزمان. غذانا بذلك آباؤنا وغذونا به أبناءنا، وصار لنا نسباً لا نعرف إلا به، وديناً لا نوالي إلا عليه. ثم نحن على وتيرةٍ واحدة، ومنهاج غير مشترك؛ نعرف بالشيعة، وندين بالطاعة، ونقتل فيها ونموت عليها. سيمانا موصوفٌ، ولباسنا معروفٌ. ونحن أصحاب الرايات السود، والروايات الصحيحة، والأحاديث المأثورة، والذين يهدمون مدن الجبابرة، وينزعون الملك من أيدي الظلمة. وفينا

تقدم الخبر، وصح الأثر. وجاء في الحديث صفة الذين يفتحون عمورية ويظهرون عليها، ويقتلون مقاتليها ويسبون ذراريها، حيث قالوا في نعتهم: شعورهم شعور النساء، وثيابهم ثياب الرهبان. فصدق الفعل القول، وحقق الخبر العيان. ونحن الذين ذكرنا وذكر بلاءنا أمام الأئمة، وأبو الخلائق العشرة: محمد بن علي، حين أراد توجيه الدعاة إلى الآفاق، وتفريق شيعته في البلاد، أن قال: أما البصرة وسوادها فقد غلب عليها عثمان وصنائع عثمان، فليس بها من شيعتنا إلا القليل. وأما الشام فشيعة بني مروان وآل أبي سفيان. وأما الجزيرة فحرورية شارية، وخارجة مارقة، ولكن عليهم بهذا الشرق؛ فإن هناك صدوراً سليمة وقلوباً باسلة، لم تفسدها الأهواء، ولم تخامرها الأدواء، ولم تعتقبها البدع، وهم مغيظون موتورون. وهناك العدد والعدة، والعتاد والنجدة.

ثم قال: وأنا أتفاءل إلى حيث يطلع منه النهار. فكنا خير جندٍ لخير إمام؛ فصدقنا ظنه، وثبتنا رأيه، وصوبنا فراسته. وقال مرةً أخرى: أمرنا هذا شرقيٌ لا غربي، ومقبل لا مدبر، يطلع كطلوع الشمس، ويمتد على الآفاق امتداد النهار، حتى يبلغ حيث تبلغه الأخفاف، وتناله الحوافر. قالوا: ونحن قتلنا الصحصحية، والدالقية، والذكوانية، والراشدية. ونحن أيضاً أصحاب الخنادق أيام نصر بن سيار، وابن جديع الكرماني، وشيبان بن سلمة الخارجي. ونحن أصحاب نباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، وأصحاب ابن هبيرة. فلنا قديم هذا الأمر وحديثه، وأوله وآخره

ومنا قاتل مروان. ونحن قومٌ لنا أجسامٌ وأجرام، وشعور وهام، ومناكب عظام، وجباه عراض، وقصر غلاظ، وسواعد طوال. ونحن أولد للذكورة، وأنسل بعولة، وأقل ضوَّي وضؤولة، وأقل إتآماً وأنتق أرحاماً، وأشد عصبا وأتم عظاما، وأبداننا أحمل للسلاح، وتجفافنا أملأ للعيون. ونحن أكثر مادةً، وأكثر عددا وعدة. ولو أن يأجوج ومأجوج كاثروا من وراء النهر منا لظهروا عليهم بالعدد. فأما الأيد وشدة الأسر، فليس لأحدٍ بعد عادٍ وثمود والعمالقة والكنعانيين مثل أيدينا وأسرنا.

ولو أن خيول الأرض وفرسان جميع الأطراف جمعوا في حلبة واحدة، لكنا أكثر في العيون، وأهول في الصدور. ومتى رأيت مواكبنا وفرساننا، وبنودنا التي لا يحملها غيرنا، علمت أننا لم نخلق إلا لقلب الدول، وطاعة الخلفاء، وتأييد السلطان. ولو أن أهل التبت ورجال الزَّابج، وفرسان الهند، وحلبة الروم، هجم عليهم هاشم بن أشتاخنج لما امتنعوا من طرح السلاح والهرب في البلاد. ونحن أصحاب اللحى وأرباب النهي، وأهل الحلم والحجا، وأهل الثخانة في الرأي، والبعد من الطيش. ولسنا كجند الشام المتعرضين للحرم، والمنتهكين لكل محرم. ونحن ناس لنا أمانة وفينا عفة. ونحن نجمع بين النزاهة والقناعة والصبر على الخدمة، والتجمير عند بعد الشقة. ولنا الطبول المهولة العظام والبنود، ونحن أصحاب التجافيف والأجراس، والبازيكند واللبود الطوال، والأغماد

المعقفة والشوارب المعقربة، والقلانس الشاشية، والخيول الشهرية، والكافر كوبات والطبرزينات في الأكف، والخناجر في الأوساط. ولنا حسن الجلسة على ظهور الخيل. ولنا الأصوات التي تسقط منها الحبالى. وليس في الأرض صناعة غريبة من أدب وحكمة، وحساب وهندسة، وإيقاع وصنعة، وفقه ورواية، نظرت فيها الخراسانية إلا وبرعت فيها الرؤساء، وبزت فيها العلماء. ولنا صنعة السلاح من لبد وركاب ودرع. ولنا مما جعلناه رياضة وتمريناً، وإرهاصاً للحرب، وتثقيفاً ودربةً للمجاولة والمشاولة، وللكر

بعد الكر: مثل الدَّبُّوق، والنَّزو على الخيل صغاراً، ومثل الطبطاب والصوالجة الكبار، ثم رمى المجثمة، والبرجاس والطائر الخطاف. فنحن أحق بالأثرة، وأولى بشرف المنزلة. ثم قلت: وزعم أن القربة تستحق بالأسباب الثابتة، وبالأرحام الشابكة، وبالقدمة، والطاعة للآباء والعشيرة، وبالشكر النافع، والمديح الكافي بالشعر الموزون الذي يبقى بقاء الدهر، ويلوح ما لاح نجم، وينشد ما أهل بالحج، وما هبت الصبا، وما كان للزيت عاصر، وبالكلام المنثور والقول المأثور. أو بصفة مخرج الدولة والاحتجاج للدعوة، وتقييد المآثر، إذ لم يكن ذلك من عادة العجم، ولا كان يحفظ ذلك معروفاً لسوى العرب. ونحن نرتبطها بالشعر المقفى، ونصلها بحفظ الأميين. الذين

لا يتكلون على الكتب المدونة، والخطوط المطرَّسة. ونحن أصحاب التفاخر والتنافر، والتنازع في الشرف، والتحاكم إلى كل حكم مقنع وكاهن سجاع. ولنا التعاير بالمثالب، والتفاخر بالمناقب. ونحن أحفظ لأنسابنا، وأرعى لحقوقنا وتقييدها أيضاً بالمنثور المرسل، بعد الموزون المعدل، بلسان أمضى من السنان، وأرهف من السيف الحسام، حتى نذكرهم ما قد درس رسمه، وعفا أثره. وبين القتال من جهة الرغبة والرهبة فرق، وليس المعرق في الحفاظ كمن هذا فيه حادث. وهذا باب يتقدم فيه التالد القديم الطارف الحديث. وطلاب الطوائل رجلان: سجستاني وأعرابي. وهل أكثر النقباء إلا من صميم العرب، ومن صليبة النسب، كأبي عبد الحميد قحطبة بن شبيب الطائي، وأبي محمد سليمان بن كثير الخزاعي، وأبي نصر مالك بن الهيثم الخزاعي، وأبي داود خالد بن إبراهيم الذهلي، وكأبي عمرو لاهز بن قريظ المرئي، وأبي عتيبة موسى بن كعب المرئي، وأبي سهل القاسم بن مجاشع المرئي، ومن كان يجري مجرى النقباء ولم يدخل فيهم، مثل مالك بن الطواف المزني. وبعد فمن هذا الذي باشر قتل مروان، ومن هزم ابن هبيرة، ومن

قتل ابن ضبارة، ومن قتل نباتة بن حنظلة، إلا عرب الدعوة، والصميم من أهل الدولة؟! ومنفتح السند إلا موسى بن كعب، ومن فتح إفريقيا إلا محمد بن الأشعث؟!. وقلت: وقال: وتقول الموالى: لنا النصيحة الخالصة، والمحبة الراسخة، ونحن موضع الثقة عند الشدة. وعلل المولى من تحت موجبة لمحبة المولى من فوق، لأن شرف مولاه راجعٌ إليه، وكرمه زائد في كرمه، وخموله مسقط لقدره. وبوده أن خصال الكرام كلها اجتمعت فيه؛ لأنه كلما كان مولاه أكبر وأشرف وأظهر، كان هو بها أشرف وأنبل. ومولاك أسلم لك صدراً، وأرد ضميراً، وأقل حسداً. وبعد فالولاء لحمة كلحمة النسب، فقد صار لنا النسب الذي يصوبه العربي، ولنا الأصل الذي يفتخر به العجمي. قال: والصبر ضروب، فأكرمها كلها الصبر على إفشاء السر. وللمولى في هذه المكرمة ما ليس لأحد. ونحن أخص مدخلاً، وألطف في الخدمة مسلكاً. ولنا مع الطاعة والخدمة والإخلاص وحسن النية، خدمة الأبناء للآباء، والآباء للأجداء، وهم بمواليهم آنس، وبناحيتهم أوثق، وبكفايتهم أسر. وقد كان المنصور، ومحمد بن علي، وعلي بن عبد الله، يخصون مواليهم بالمواكلة والبسط والإيناس، لا يبهرجون الأسود لسواده، ولا الدميم

لدمامته، ولا الصناعة الدنيئة لدناءتها. ويوصون بحفظهم أكابر أولادهم، ويجعلون لكثير من موتاهم الصلاة على جنائزهم، وذلك بحضرة من العمومة وبني الأعمام والأخوة. ويتذاكرون إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة مولاه، حين عقد له يوم مؤتة على جلَّة بني هاشم، وجعله أمير كل بلدة يطؤها. ويتذاكرون حبه لأسامة بن زيد، وهو الحبُّ ابن الحبِّ. وعقد له على عظماء المهاجرين وأكابر الأنصار. ويتذاكرون صنيعه بسائر مواليه، كأبي أنسة، وشُقران، وفلان وفلان. قالوا: ولنا من رؤوس النقباء أبو منصور مولى خزاعة، وأبو احكم عيسى بن أعين مولى خزاعى، وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى آل

أبي معيط. فلنا مناقب الخراسانية، ولنا مناقب الموالى في هذه الدعوة، ونحن منهم وإليهم، ومن أنفسهم، لا يدفع ذلك مسلم ولا ينكره مؤمن، خدمناهم كباراً وحملناهم على عواتقنا صغاراً. هذا مع حق الرضاع والخؤولة، والنشوء في الكتاب، والتقلب في تلك العراص التي لم يبلغها إلا كل سعيد الجد، وجيهٍ في الملوك. فقد شاركنا العربي في فخره، والخراساني في مجده، والبنوي في فضله، ثم تفردنا بما لم يشاركونا فيه، ولا سبقونا إليه. قالوا: ونحن أشكل بالرعية، وأقرب إلى طباع الدهماء؛ وهم بنا آنس وإلينا أسكن، وإلى لقائنا أحن؛ ونحن بهم أرحم، وعليهم أعطف، وبهم أشبه. فمن أحق بالأثرة، وأولى بحسن المنزلة ممن هذه الخصال له، وهذه الخلال فيه. وقلت وذكرت أن البنوي قال: أنا أصلي خراسان، وهي مخرج الدولة ومطلع الدعوة؛ ومنها نجم هذا القرن، وصبأ هذا الناب، وتفجر هذا الينبوع، واستفاض هذا البحر، حتى ضرب الحق بجرانه، وطبق الآفاق بضيائه، فأبرأ من السقم القديم، وشفى من الداء العضال، وأغنى من العيلة، وبصر من العمى.

قال: وفرعى بغداد، وهي مستقر الخلافة، والقرار بعد الحولة، وفيها بقية رجال الدعوة، وأبناء الشيعة، وهي خراسان العراق، وبيت الخلافة، وموضع المادة. قال: وأنا أعرق في هذا الأمر من أبي، وأكثر ترداداً فيه من جدي، وأحق في هذا الفضل من المولى والعربي. ولنا بعد في أنفسنا ما لا ينكر من الصبر تحت ظلال السيوف القصار والرماح الطوال. ولنا معانقة الأبطال عند تحطم القنا وانقطاع الصفائح. ولنا المواجأة بالسكاكين، وتلقى الخناجر بالعيون، ونحن حماة المستلحم، وأبناء المضايق. ونحن أهل الثبات عند الجولة، والمعرفة عند الحيرة، وأصحاب المشهرات، وزينة العساكر وحلى الجيوش، ومن يمشى في الرمح، ويختال بين الصفين. ونحن أصحاب الفتك والإقدام، ولنا بعد التسلق، ونقب المدن، والتقحم على ظبات السيوف وأطراف الرماح، ورضخ الجندل، وهشم العمد، والصبر على الجراح وعلى جر السلاح إذا طار قلب الأعرابي، وساء ظن الخراساني. ثم الصبر تحت العقوبة، والاحتجاج عند المساءلة، واجتماع العقل، وصحة

الطرف، وثبات القدمين، وقلة التكفي بحبل العقابين، والبعد من الإقرار، وقلة الخضوع للدهر والخضوع عند جفوة الزوار وجفاء الأقارب والإخوان. ولنا القتال عند أبواب الخنادق، ورؤوس القناطر. ونحن الموت الأحمر عند أبواب النقب. ولنا المواجأة في الأزقة، والصبر على قتال السجون. فسل عن ذلك الخليدية، والكتفية، والبلالية، والخريبية. ونحن أصحاب المكابدات وأرباب البيات، وقتل الناس جهاراً في الأسواق والطرقات. ونحن نجمع بين السلة والمزاحفة. ونحن أصحاب القنا الطوال ما كنا رجالة، والمطارد القصار ما كنا فرسانا. فإن صرنا كمناً فالحتف

القاضي، والسم الذعاف. وإن كنا طلائع فكلنا يقوم مقام أمير الجيش. نقاتل بالليل كما نقاتل بالنهار، ونقاتل في الماء كما نقاتل على الأرض، ونقاتل في القرية كما نقاتل في المحلة. ونحن أفتك وأخشب، ونحن أقطع للطريق وأذكر في الثغور، مع حسن القدود وجودة الخرط ومقادير اللحى، وحسن العمة، والنفس المرة. وأصحاب الباطل والفتوة، ثم الخط والكتابة، والفقه والرواية. ولنا بغداد بأسرها، تسكن ما سكنا، وتتحرك ما تحركنا. والدنيا كلها معلقةٌ بها، وصائرةٌ إلى معناها. فإذا كان هذا أمرها وقدرها فجميع الدنيا تبعٌ لها. وكذلك أهلها لأهلها، وفتاكها لفتاكها، وخلاعها لخلاعها، ورؤساؤها لرؤسائها، وصلحاؤها لصلحائها. ونحن بعد تربية الخلفاء، وجيران الوزراء، ولدنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا، فأخذنا بآثارهم، واحتذينا على مثالهم، فلسنا نعرف سواهم، ولا نعرف بغيرهم، ولا يطمع فينا أحد قط من خطاب ملكهم، وممن يترشح للاعتراض عليهم. فمن أحق بالأثرة، وأولى بالقرب في المنزلة ممن هذه الخصال فيه، وهذه الخلال له.

بسم الله الرحمن الرحيم إن ذهبنا حفظك الله بعقب هذه الاحتجاجات، وعند مقطع هذه الاستدلالات، نستعمل هذه المعارضة بمناقب الأتراك، والموازنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أصحاب الخصومات في كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم. وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم التي كانت مختلفة، ولنزيد الألفة إن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم، ولتسلم صدورهم، وليعرف من كان لا يعرف منهم موضع التفاوت في النسب، وكم مقدار الخلاف في الحسب، فلا يغير بعضهم مغير، ولا يفسده عدو بأباطيل مموهة وشبهات مزورة؛ فإن المنافق العليم، والعدو ذا الكيد العظيم، قد يصور لهم الباطل في صورة الحق، ويلبس الإضاعة ثياب الحزم. إلا أنا على حال سنذكر جملاً من أحاديث رويناها ووعيناها، وأمور رأيناها وشاهدناها، وفضائل تلقفناها من أفواه الرجال وسمعناها. وسنذكر جميع ما في هذه الأصناف من الآلات والأدوات، ثم ننظر أيهم لها أشد استعمالاً، وبها أشد استقلالاً، ومن أثقب كيسا وأفتح عيناً

وأذكى يقيناً، وأبعد غوراً وأجمع أمراً، وأعم خواطر وأكثر غرائب، وأبدع طريقاً، وأدوم نفعاً في الحروب، وأضرى وأدرب دربةً، وأغمض مكيدةً، وأشد احتراساً وألطف احتيالاً؛ حتى يكون الخيار في يد الناظر المتصفح لمعانيه، والمقلّب لوجوهه، والمفكّر في أبوابه، والمقابل بين أوله وآخره، فلا نكون نحن انتحلنا شيئاً دون شيء، وتقلدنا تفضيل بعضٍ على بعض، بل لعلّنا أن لا نخبر عن خاصة ما عندنا بحرف واحد. فإذا دبرنا كتابنا هذا التدبير، وكان موضوعه على هذه الصفة، كان أبعد له من مذاهب الجدال والمراء، واستعمال الهوى. وقد ظنّ ناسٌ أنّ أسماء أصناف الأجناس كما اختلفت في الصورة والخط والهجاء، أن حقائقها ومعانيها على حسب ذلك. وليس الأمر على حسب ما توهمه؛ ألا ترى أنّ اسم الشاكرية وإن خالف في الصورة والهجاء اسم الجند، فإن المعنى فيهما ليس ببعيدٍ؛ لأنهم يرجعون إلى معنىً واحد وعمل واحد. والذي إليه يرجعون طاعة الخلفاء، وتأييد السلطان. وإذا كان المولى منقولاً إلى العرب في أكثر المعاني، ومجعولاً منهم في عامة

الأسباب، لم يكن ذلك بأعجب ممن جعل الخال والداً، والحليف من الصميم، وابن الأخت من القوم. وقد جعل ابن الملاعنة المولود على فراش البعل منسوباً إلى أمه. وقد جعلوا إسماعيل وهو ابن عجميين عربياً؛ لأن الله تعالى فتق لهاته بالعربية المبينة على غير التلقين والترتيب، ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوِّ والتقدير، وسلخ طباعه من طبائع العجم، ونقل إلى بدنه تلك الأجزاء، وركبه اختراعاً على ذلك التركيب، وسوَّاه تلك التسوية، وصاغه تلك الصياغة، ثم حباه من طبائعهم، ومنحه من أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهمهم على أكرمها وأمكنها، وأشرفها وأعلاها، وجعل ذلك برهاناً على رسالته، ودليلاً على نبوته؛ فكان أحق بذلك النسب، وأولى بشرف ذلك الحسب. وكما جُعل إبراهيم أباً لمن لم يلده، فالبنوي خراساني من جهة الولادة، والمولى عربيٌ من جهة المدعى والعاقلة. وإن أحاط علمنا بأن زيداً لم يخلق من نجل عمرو إلا عهاراً لنفيناه عنه، وإن وثقنا أنه لم يخلق من صلبه.

وكما جعل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه أمهات المؤمنين وهن لم يلدنهم ولا أرضعنهم، وفي بعض القراءات: " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم "، على قوله: " ملة أبيكم إبراهيم ". وجعل المرأة من جهة الرضاع أماً، وجعل امرأة البعل أم ولد البعل من غيرها، وجعل الراب والداً، وجعل العم أباً في كتاب الله. وهم عبيده لا يتقلبون إلا فيما قَّلبهم فيه. وله أن يجعل من عباده من شاء عربياً ومن شاء عجمياً، ومن شاء قرشيَّاً، ومن شاء زنجياً؛ كما له أن يجعل من شاء ذكراً ومن شاء أنثى، ومن شاء خنثى، ومن شاء أفرده من ذلك فجعله لا ذكراً ولا أنثى ولا خنثى. وكذلك خلق الملائكة وهم أكرم على الله من جميع الخليقة. وخلق أدم فلم يجعل له أباً ولا أماً، وخلقه من طينٍ ونسبه إليه، وخلق حواء من ضلع آدم وجعلها له زوجاً وسكنا. وخلق عيسى من غير ذكرٍ ونسبه إلى أمه التي خلقه منها. وخلق الجان من نار السموم، وآدم من طين، وعيسى من غير نطفة. وخلق السماء من دخان، والأرض من الماء، وخلق إسحاق من عاقرٍ. وأنطق عيسى في المهد، وأنطق يحيى بالحكمة وهو صغير، وعلم سليمان منطق الطير، وكلام النمل، وعلم الحفظة من الملائكة جميع الألسنة حتى كتبوا بكل خط، ونطقوا بكل لسان. وأنطق ذئب أهبان بن أوس.

والمؤمنون من جميع الأمم إذا دخلوا الجنة، وكذلك أطفالهم والمجانين منهم، يتكلمون ساعة يدخلون الجنة بلسان أهل الجنة على غير الترتيب والتنزيل، والتعليم على طول الأيام والترقيم والتلقين. فكيف يتعجب الجاهلون من إنطاق إسماعيل بالعربية على غير تعليم الآباء، وتأديب الحواضن؟!. وهذه المسألة ربما سأل عنها بعض القحطانية، ممن لا علم له، بعض العدنانية، وهي على القحطاني أشد. فأما جواب العدناني فسلس النظام سهل المخرج، قريب المعنى؛ لأن بني قحطان لا يدعون لقحطان نبوة فيعطيه الله مثل هذه الأعجوبة. وما الذي قسم الله - عز اسمه - بين الناس من ذلك، إلا كما صنع في طينة الأرض، فجعل بعضها حجرا، وبعض الحجر ياقوتاً، وبعضه ذهباً، وبعضه نحاساً، وبعضه رصاصاً، وبعضه حديداً، وبعضه تراباً، وبعضه فخاراً. وكذلك الزاج، والمغرة، والزرنيخ، والمرتك، والكبريت، والقار،

والتوتيا، والنوشادر، والمرقشيثا، والمغناطيس. ومن يحصي عدد أجزاء الأرض، وأصناف الفلز؟!. وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالبنوي خراساني. وإذا كان الخراساني مولى، والمولى عربيٌّ فقد صار الخراساني والبنوي والمولى والعربي واحداً. وأدنى ذلك أن يكون الذي معهم من خصال الوفاق غامراً ما معهم من خصال الخلاف، بل هم في معظم الأمر وفي كبر الشأن وعمود النسب متفقون. والأتراك خراسانية وموالي الخلفاء قصيرة، فقد صار التركي إلى الجميع راجعاً، وصار شرفه إلى شرفهم زائداً. وإذا عرف سائر ذلك سامحت النفوس، وذهب التعقيد، ومات الضغن، وانقطع سبب الاستثقال؛ فلم يبقى إلا التحاسد والتنافس الذي لا يزال يكون بين المتقاربين في القرابة وفي المجاورة. على أن التوازر والتسالم في القرابات وفي بني الأعمام والعشائر، أفشى وأعم من البعداء.

ولخوف التخاذل ولحب التناصر، والحاجة إلى التعاون انضم بعض القبائل في البوادي إلى بعضٍ، ينزلون معاً ويظعنون معاً. ومن فارق أصحابه أقل، ومن نصر ابن عمه أكثر. ومن اغتبط بنعمته وتمنى بقاءها والزيادة فيها أكثر ممن بغاها الغوائل، وطلب انقطاعها وزوالها. ولا بد في أضعاف ذلك من بعض التنافس والتخاذل، إلا أن ذلك قليل من كثيرٌ. وليس يجوز أن تصفو الدنيا وتنقى من الفساد والمكروه حتى يموت جميع الخلائق، وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل.

بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كنت كتبته أيام المعتصم بالله، رضي الله عنه، فلم يصل إليه، لأسبابٍ يطول شرحها، فلذلك لم أعرض للإخبار عنها. وأحببت أن يكون كتاباً قصداً، ومذهباً عدلاً، ولا يكون كتاب إسراف في مديح قوم، وإغراق في هجاء آخرين. وإن كان الكتاب كذلك شابه الكذب، وخالطه التزيد، وبنى أساسه على التكلف، وخرج كلامه مخرج الاستكراه والتغليق. وأنفع المدائح للمادح وأجداها على الممدوح، وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً: أن يكون المديح صدقا، وللظاهر من حال الممدوح موافقا، وبه لائقا، حتى لا يكون من المعبر عنه والواصف له إلا الإشارة إليه، والتنبيه عليه. وأنا أقول: إن كان لا يمكن ذلك في مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد، فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب

أحزم، وذكر الكثير من هذه الأصناف بالجميل، لا يقوم بالقليل من ذكر بعضهم بالقبيح، لأن ذكر الأكثر بالجميل نافلة، وباب من التطوع، وذكر الأقل بالقبيح معصية، وباب من ترك الواجب. وقليل الفريضة أجدى علينا من كثير التطوع. ولكل نصيب من النقض، ومقدار من الذنوب؛ وإنما يتفاضل الناس بكثرة المحاسن وقلة المساوى. فأما الاشتمال على جميع المحاسن، والسلامة من جميع المساوئ دقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيها، فهذا لا يعرف. وقد قال النابغة: ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ، أيُّ الرجال المهذب وقال حر يش السعدي: أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلوَّن ألواناً على خطوبها إذا عبت منه خلة فتركته ... دعتني إليه خلة لا أعيبها وقال بشار: إذا كنت في كلِّ الأمور معاتباً ... خليلك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنبٍ مرةً ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظميت وأيُّ الناس تصفو مشاربه وقال مطيع بن إياسٍ الَّليثيّ: ولئن كنت لا تصاحب إلا ... صاحباً لا تزل، ما عاش، نعله لم تجده ولو جهدت وأنَّى ... بالذي لا يكون يوجد مثله إنما صاحبي الذي يغفر الذَّن ... ب ويكفيه من أخيه أقله وقال محمد بن سعيد، وهو رجلٌ من الجند: سأشكر عمراً إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلتِ فتىً غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مُظهر الشكوى إذا النعل زلتِ رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت

فإذا كان الخلطاء من جمهور الناس، وأصحاب المعايش من دهماء الجماعة، يرون ذلك واجباً وتدبيراً في التعامل، على ما هم فيه من مشاركة الخطأ للصواب، وامتزاج الضعف بالقوة، فلسنا نشك أن الإمام الأكبر والرئيس الأعظم، مع الأعراق الكريمة والأخلاق الرفيعة، والتمام في الحلم والعلم، والكمال في الحزم والعزم، مع التمكين والقدرة، والفضيلة والرِّياسة والسيادة، والخصائص التي معه من التوفيق والعصمة، والتأييد وحسن المعونة، أن الله جل اسمه لم يكن ليجلله باسم الخلافة، ويحبوَه بتاج الإمامة، وبأعظم نعمة وأسبغها، وأفضل كرامةٍ وأسناها، ثم وصل طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، إلا ومعه من الحلم في موضع الحلم، والعفو في موضع العفو، والتغافل في موضع التغافل، ما لا يبلغه فضل ذي فضلٍ، ولا حلم ذي حلمٍ. ونحن قائلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيما انتهى إلينا في أمر الأتراك: زعم محمد بن الجهم، وثمامة بن الأشرس، والقاسم بن سيار، في جماعة ممن يغشى دار الخلافة، وهي دار العامة، قالوا جميعاً: بيننا حميد بن عبد الحميد جالساً ومعه يخشاد الصُّغدي، وأبو شجاع

شبيب بن بخاراخداي البلخي، ويحيى بن معاذ، ورجال من المعدودين المتقدمين في العلم بالحرب من أصحاب التجارب والمراس، وطول المعالجة والمعاناة في صناعات الحرب، إذ خرج رسول المأمون فقال لهم: نقول لكم متفرقين ومجتمعين: ليكتب كل رجلٍ منكم دعواه وحجته، وليقل أيما أحب إلى كل قائد منكم إذا كان في عدته من صحبه وثقاته: أن يلقى مائة تركي أو مائة خارجي؟ فقال القوم جميعاً: لأن نلقى مائة تركي أحب إلينا من أن نلقى مائة خارجي! وحميد ساكت. فلما فرغ القوم جميعاً من حججهم، قال الرسول: قد قال القوم فقل

واكتب قولك، وليكن حجة لك أو عليك. قال: بل ألقى مائة خارجي أحب إلي؛ لأنني وجدت الخصال التي يفضل بها الخارجي جميع المقاتلة غير تامةٍ في الخارجي، ووجدتها تامة في التركي. ففضل التركي على الخارجي بقدر فضل الخارجي على سائر المقاتلة، ثم بان التركي عن الخارجي بأمورٍ ليس فيها للخارجي دعوى ولا متعلق. على أن هذه الأمور التي بان بها التركي عن الخارجي، أعظم خطراً وأكثر نفعا، مما شاركه الخارجي في بعضها. ثم قال حميد: والخصال التي يصول بها الخارجي على سائر الناس صدق الشدة عن أول وهلة، وهي الدفعة التي يبلغون بها ما أرادوا، وينالون الذي أملوا. والثانية: الصبر على الخبب وعلى طول السُّرى، حتى يصبح القوم الذين مرقوا بهم غارين فيهجموا عليهم وهم بسوء، ولحمٌ على وضم، يتعجَّلونهم عن الروية، وعن رد النفس عن النزوة والجولة، لا يظنون أن أحداً يقطع في ذلك المقدار من الزمان ذلك المقدار من البلاد.

والثالثة: أن الخارجي موصوف عند الناس بأنه إن طَلب أدرك، وإن طُلب فات. والرابعة: خفة الأزواد وقلة الأمتعة، وأنها تجنب الخيل وتركب البغال، وإن احتاجت أمست بأرضٍ وأصبحت بأخرى، وأنهم قوم حين خرجوا لم يخلفوا الأموال الكثيرة، والجنان الملتفة، والدور المشيدة، ولا ضياعاً ولا مستغلات، ولا جواري مطهمات، وأنهم لا سلب لهم ولا مال معهم فيرغب الجند في لقائهم، وإنما هم كالطير لا تدخر ولا تهتم لغدٍ، ولها في كل أرض من المياه والأقوات ما تتبَّلغ به، وإن لم تجد ذلك في بعض البلاد فأجنحتها تقرب لها البعيد، وتسهل لها الحزون. وكذلك الخوارج لا يمتنع عليهم القرى والمطعم، وإن تمنع عليهم ففي بنات شحَّاجٍ وبنات صهَّال، وخفة الأثقال على طول الخبب، ما يسهل أقواتها، ويكثر من أرزاقها.

والخامسة: أن الملوك إن أرسلوا إليهم أعدادهم ليكونوا في خفة أوزارهم وأثقالهم، وليقووا على التنقل كقوتهم، لم يقووا عليهم؛ لأن مائة من الجند لا يقومون لمائة من الخوارج؛ وإن كثفوا الجيش بالجيش، وضاعفوا العدد بالعدد ثقلوا عن طلبهم، وعن الفوت إن طلبهم عدوهم. ومتى شاء الخارجي أن يقرب منهم ليتطرَّفهم أو ليصيب الغرة منهم، أو ليسلبهم، فعل ذلك ثقة بأنه يغنم عند الفرصة ورؤية العورة، ويمكنه الهرب عند الخوف. وإن شاء كبسهم ليقطع نظامهم، أو ليقتطع القطعة منهم. قال حميد: فهذه هي مفاخرهم وخصالهم، التي لها كره القواد لقاءهم. قال قاسم بن سيار: وخصلة أخرى، وهي التي رعبت القلوب وخلعتها، ونقضت العزائم وفسختها، وهو ما تسمع الأجناد ومقاتلة العوام، من ضرب المثل بالخوارج، كقول الشاعر: إذا ما البخيل والمحاذر للقرى ... رأى الضيف مثل الأزرقيِّ المجفَّف

وكقول الآخر: وقلبِ ودٍّ حال عن عهده ... والسيف ينبو بيد الشاري وكقول الآخر: لقاء الأسد أهون من لقاه ... إذا التحكيم يسهر بالأصل فهذه زيادة قاسم بن سيار. فأما حميد فإنه قال: الشدة الأولى التركي فيها أحمد أثراً، وأجمع أمراً، وأحكم شأنا؛ لأن التركي من أجل أن تصدق شدته ويتمكن عزمه، ولا يكون مشترك العزم ولا منقسم الخواطر، قد عود برذونه ألا ينثنى وإن ثناه، أن يملأ فروجه للأمر يديره مرة أو مرتين، وإلا فإنه لا يدع سننه، ولا يقطع ركضه. وإنما أراد التركي أن يوئس نفسه من البدوات، ومن أن يعتريه التكذيب بعد الاعتزام، لهول اللقاء، وحب الحياة؛ لأنه إذا علم أنه قد صيَّر برذونه إلى هذه الغاية حتى لا ينثني ولا يجيبه إلى التصرف معه إلا بأن يصنع شيئاً بين الصفين فيه عطبه، لم يُقدم على الشدة إلا بعد إحكام الأمر، والبصر

بالعورة. وإنما يريد أن يشبه نفسه بالمُحرج الذي إذا رأى أشد القتال لم يدع جهدا ولم يدخر حيلة، ولينفيَ عن قلبه خواطر الفرار، ودواعيَ الرجوع. وقال: الخارجيُّ عند الشدة إنما يعتمد على الطِّعان، والأتراك تطعن طعن الخوارج، وإن شدَّ منهم ألف فارس فرموا رشقاً واحداً صرعوا ألف فارس، فما بقاء جيش على هذا النوع من الشدة! والخوارج والأعراب ليست لهم رماية مذكورة إلى ظهور الخيل، والتركيُّ يرمى الوحش والطي، والبرجاس، والناس والمجثَّمة، والمثل الموضوعة، ويرمى بعشرة أسهم قبل أن يفوق الخارجي سهماً واحداً، ويركض دابته منحدراً من جبل، أو مستفلاً إلى بطن واد بأكثر مما يمكن الخارجي على بسيط الأرض. وللتركيِّ أربعة أعين: عينان في وجهه، وعينان في قفاه. وللخارجيِّ

عيب في مستدبر الحرب، وللخرسانيِّ عيبٌ في مستقبل الحرب. فعيب الخرسانية أن لها جولة عند أول الالتقاء، وإن ركبوا كسأهم كانت هزيمتهم، وكثيراً ما يثوبون، وذلك بعد الخطار بالعسكر، وإطماع العدوِّ في الشدة. والخوارج إذا ولوا فقد ولوا وليس لهم بعد الفرِّ كر، إلا ما لا يعد. والتركيُّ ليست له جولة الخراساني، وإذا أدبر فهو السم النافع، والحتف القاضي؛ لأنه يصيب بسهمه وهو مدبرٌ كما يصيب به وهو مقبل، ولا يؤمن وهقه، ولا انتساف الفرس، واختطاف الفارس بتلك الراكضة. ولم يفلت من الوهق في جميع الدهر إلا المهلب بن أبي صفرة، والحريش بن هلال، وعباد بن الحصين. وربما رمى بالوهق وله فيه تدبير آخر

وإن لم يجنب المرمى معه، يوهم الجاهل أن ذلك إنما كان لخرق التركي، أو لحذق المرمى. قال: وهم علموا الفرسان حمل قوسين وثلاثة قسي، ومن الأوتار على حسب ذلك. قال: والتركي في حال شدته، معه كل شيء يحتاج إليه لنفسه وسلاحه ودابته وأداة دابته. فأما الصبر على الخبب وعلى مواصلة السفر، وعلى طول السُّري وقطع البلاد، فعجيبٌ جداً. فواحدةً: أن فرس الخارجي لا يصبر صبر برذون التركي. والخارجي لا يحسن أن يعالج فرسه إلا معالجة الفرسان لخيولهم، والتركي أحذق من البيطار، وأجود تقويماً لبرذونه على ما يريده من الراضة وهو استنتجه، وهو رباه فلواً، وتتبعه إن سماه، وإن ركض ركض خلفه. وقد عوده ذلك حتى عرفه، كما يعرف الفرس أقدم،

والناقة حل، والجمل جاه، والبغل عدس، والحمار ساسا، وكما يعرف المجنون لقبه والصبي اسمه. ولو حصلت عُمر التركي وحسبت أيامه لوجدت جلوسه على ظهر دابته أكثر من جلوسه على ظهر الأرض. والتركي يركب فحلاً أو رمكة، ويخرج غازياً أو مسافراً، أو متباعداً في طلب صيدٍ، أو سببٍ من الأسباب، فتتبعه الرَّمكة وأفلاؤها، إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش، وإن أخفق منها أو احتاج إلى طعامٍ فصد دابةً من دوابِّه، وإن عطش حلب رمكة من رماكه، وإن أراح واحدةً تحته ركب أخرى من غير أن ينزل إلى الأرض. وليس في الأرض أحدٌ إلا وبدنه ينتفض على اقتيات اللحم وحده غيره؛ وكذلك دابته تكتفي بالعنقر والعشب والشجر، لا يظُّلها من شمس ولا يكنها من برد. قال: وأما الصبر على الخبب فإن الثغريين، والفرانقيين، والخصيان والخوارج، لو اجتمعت قواهم في شخصٍ واحد لما وفوا بتركي واحد.

والتركي لا يبقى معه على طول الغاية إلا الصميم من دوابه. والذي يقتله التركي بإتعابه له، وينفيه عند غزاته، هو الذي لا معه فرس الخارجي، ولا يبقى معه كل برذون بخاري. ولو ساير خارجياً لاسترغ وسعه قبل أن يبلغ الخارجي عفوه. والتركي هو الراعي، وهو السائس وهو الراكض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس. والتركي الواحد أمةٌ على حدة. قال: وإذا سار التركي في غير عساكر الترك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلاً؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنةً ويسرة، ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصيد؛ وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع. قال: والتركي لم يسر في العساكر سير الناس قط، ولا سار مستقيماً قط. قالوا: وإذا طالت الدلجة واشتد السير، وبعد المنزل، وانتصف النهار، واشتد التعب، وشغل الناس الكلال، وصمت المتسايرون فلم ينطقوا،

وقطعهم ما هم فيه عن التشاغل بالحديث، وتفسخ كل شيءٍ من شدة الحر، وخمد كل شيء من شدة البرد، وتمنى كل جليد القوى على طول السرى أن تطوى له الأرض، وكلما رأى خيالاً أو أبصر علماً سر به واستبشر، وظن أنه قد بلغ المنزل؛ فإذا بلغه الفارس نزل وهو متفحج كأنه صبيٌّ محقون، يئن أنين المريض، ويستريح إلى التثاؤب، ويتداوى مما به بالتمطي والتضجع. وترى التركي في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى قرب المنزل عيراً أو ظبياً، أو عرض له ثعلب أو أرنب، خيركض ركض مبتدئ مستأنف، كأن الذي سار ذلك السير وتعب ذلك التعب غيره. وإن بلغ الناس وادياً فازدحموا على مسلكه أو على قنطرته، بطن برذونه فأقحمه ثم طلع من الجانب الآخر كأنه كوكب. وإن انتهوا إلى عقبةٍ صعبةٍ ترك السنن وذهب في الجبل صعداً، ثم تدلى من موضع يعجز

عنه الوعل؛ وأنت تحسبه مخاطراً بنفسه، للذي ترى من مطَّلعه. ولو كان في كل ذلك مخاطراً لما دامت له السلامة مع تتابع ذلك منه. قال: ويفخر الخارجي بأنه إذا طلب أدرك، وإذا طُلب لم يدرك. والتركي ليس يحوج إلى أن يفوت؛ لأنه لا يُطلب ولا يرام. ومن يروم ما لا يطمع فيه؟! فهذا. على أنا قد علمنا العلة التي عمت الخوارج بالنجدة استواء حالتهم في الديانة، واعتقادهم أن القتال دين؛ لأننا حين وجدنا السجستاني والخراساني والجزري واليمامي والمغربي والعماني، والأزرقي منهم والنجدي والإباضي والصفري، والمولى والعربي، والعجمي والأعرابي، والعبيد والنساء، والحائك والفلاح، كلهم يقاتل مع اختلاف الأنساب وتباين البلدان علمنا أن الديانة هي التي سوت بينهم، ووفقت بينهم في ذلك. كما أن كل حجامٍ في الأرض من أي جنسٍ كان، ومن أي بلدٍ كان، فهو يحب

النبيذ، وكما أن أصحاب الخلقان والسماكين والنخاسين والحاكة في كل بلد من كل جنس، شرار خلق الله في المبايعة والمعاملة. فعلمنا بذلك أن ذلك خلقة في هذه الصناعات، وبنية في هذه التجارات، حين صاروا من بين جميع الناس كذلك. قال: ورأينا التركي في بلاده ليس يقاتل على دينٍ ولا على تأويل، ولا على ملك ولا على خراج، ولا على عصبية ولا على غيرة دون الحرمة والمحرم، ولا على حمية ولا على عداوة، ولا على وطنٍ ومنع دار ولا مال؛ وإنما يقاتل على السلب والخيار في يده. وليس يخاف الوعيد إن هرب، ولا يرجو الوعد إن أبلى عذرا. وكذلك هم في بلادهم وغاراتهم وحروبهم. وهو الطالب غير المطلوب؛ ومن كان كذلك فإنما يأخذ العفو من قوته، ولا يحتاج إلى مجهوده. ثم هو مع ذلك لا يقوم له شيء ولا يطمع فيه أحد، فما ظنك بمن هذه صفته أن لو اضطره إحراج أو غيرة أو غضب أو تدين، أو عرض له بعض ما يصحب المقاتل المحامي من العلل والأسباب. قال: وقناة الخارجىّ طويلة صماء، وقناة التركيّ مطرد أجوف والقنىُّ المجوفة القصار أشد طعنة وأخف في المحمل. والعجم تجعل القنى

الطوال للرجالة، وهي قنى الأبناء، على أبواب الخنادق والمضايق. والأبناء في هذا الباب لا يجرون مع الأتراك والخراسانية؛ لأن الغالب على الأبناء المطاعنة على أبواب الخنادق وفي المضايق، وهؤلاء أصحاب الخيل والفرسان وعلى الخيل والفرسان تدور الجيوش، لهم الكر والفر. والفارس هو الذي يطوي الجيش طيَّ السجل، ويفرقهم تفريق الشعر. وليس يكون الكمين إلا منهم ولا الطليعة ولا السَّاقة. وهم أصحاب الأيام المذكورة والحروب الكبار والفتوح العظام، ولا تكون المقانب والكتائب إلا منهم. ومنهم من يحمل البنود والرايات، والطبول والتجافيف والأجراس. وهم أصحاب الصهيل والقتام، وزجر الخيل، وقعقة الريح في الثياب

والسلاح ووقع الحوافر، والإدراك إذا طَلبوا، والغوث إذا طُلبوا. ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم للفارس سهمين وللراجل من المقاتلة سهماً واحداً إلا لتضاعيف الرد في القتل والفتوح، والنهبة والمغانم. ثم قال: ولعمري إن الأبناء من القتال في السكك والسجون والمضايق ما ليس لغيرهم. ولكن الرجال أبداً أتباعٌ ومأمورون ومنقادون، وقائد الرجال لا يكون إلا فارساً، وقائد الفرسان من الممتنع أن يكون راجلاً. ومن تعود الطعان والضرب والرمي راكباً إن اضطر إلى الطعن والرمي راجلاً كان على ذاك أدفع على نفسه، وأرد عن أصحابه، من الراجل إذا احتاج أن يستعمل سلاحه فارساً. وعلى أنه ما أكثر ما ينزلون ويقاتلون. وقد قال الشاعر: لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا وقال الضبيُّ: وعلام أركبه إذا لم أنزل.

وقال آخر: فمعانقٌ ومنازل. وقال حميد: وليس في الأرض قومٌ إلا والتساند في الحروب، والإشتراك في الرياسة ضارٌ لهم، إلا الأتراك. على أن الأتراك لا يتساندون ولا يتشاركون؛ وذلك أن الذي يكره من المساندة والمشاركة اختلاف الرأي، والتنافس في السر، والتحاسد بين الأشكال، والتواكل فيما بين المشتركين. والأتراك إذا صافوا جيشاً إن كان في القوم موضع عورةٍ فكلهم قد أبصرها وعرفها؛ وإن لم تكن هناك عورةٌ لم يكن فيهم مطمع، وكان الرأي الانصراف، فكلهم قد رأى ذلك الرأي وعرف الصواب فيه. وخواطرهم واحدة، ودواعيهم مستوية بإقبالهم معاً. وليس هم أصحاب تأويلاتٍ ولا أصحاب تفاخرٍ وتناشدٍ، وإنما شأنهم إحكام أمرهم؛ فالاختلاف يقل بينهم. وكانت الفرس تعيب العرب إذا خرجوا إلى الحرب متساندين، وكانت تقول: الاشتراك في الحرب وفي الزوجة وفي الإمرة سواء. قال حميد: فما ظنك بقومٍ إذا تساندوا لم يضرهم التساند، فكيف يكونون إذا تحاسدوا.

فلما انتهى الخبر إلى المأمون قال: ليست بالترك حاجةٌ إلى حكم حاكم بعد حميد؛ فإن حميداً قد مارس الفريقين، وحميد خراساني وحميد عربي، فليس للتهمة عليه طريق. قالوا: وأتى الخبر ذا اليمينين طاهر بن الحسين فقال: ما أحسن ما قال حميد. أما إنه لم يقصر ولم يفرط. فهذا قول الخليفة المأمون، وحكم حميد، وتصويب طاهر. وخبرني رجلٌ من أهل خراسان أو من بني سدوس قال: سمعت أبا البط يقول: ويلكم، كيف أصنع بفارسٍ يملأ فروج دابته منحدراً من جبل، أو مصعداً في مقطعٍ عفير، ويمكنه على ظهر الفرس ما لا يمكن الرقاص الأبلَّىَّ على ظهر الأرض. قال: وقال سعيد بن عقبة بن سلمٍ الهنائي، وكان ذا رأيٍ في الحرب وابن ذي رأيٍ فيها: فرق ما بيننا وبين الترك أن الترك لم تغز قوماً قط،

ولا صافت جيشاً ولا هجمت على عدو كانوا عرباً أو عجماً، فأخرجوا إليهم أعدادهم ولقوهم بمثلهم. وليس غايتهم إلا أن ينقادوا ليكفوا عنهم بأسهم ومعرتهم، ويصرفوا عنهم كيدهم. فإن هم امتنعوا من الصلح واعتزموا على الحرب فليس شأنهم والذي يدور عليه أمرهم إلا منع أنفسهم وتحصين عسكرهم، والاحتراس منهم. فأما أن ترقى هممهم وتسمو أنفسهم إلى الاحتيال عليهم، والتماس غرتهم، فإن هذا شيءٌ لا يخطر على بال من يحاربهم. ثم قال: وقد عرفتم حيلهم في دخول المدن من جهة حيطانها المصمتة العريضة، وحيلتهم في عبور نهر بلخ. وسعيدٌ هذا هو الذي قال: إذا حاربتم وكنتم ثلاثةً فاجعلوا واحداً مددا، وآخر كمينا. وله كلام في الحرب غير هذا كثير. قال سعيد: وأخبرني أبي قال: شهدت أبا الخطاب يزيد بن قتادة بن دعامة الفقيه، وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الترك حيث قال: " عدوٌّ شديدٌّ طلبه، قليلٌ سلبه "، فقال رجلٌ من العالية: نهى عمر أبا زبيدٍ الطائيَّ عن وصف الأسد؛ لأن ذلك مما يزيد في رعب

الجبان، وفي هول الجنان، ويقل من رغب الشجاع، وقد وصف الترك بأشد من وصف أبي زبيدٍ الأسد. وقال سعيد في حديثه يومئذٍ، وقد قطعت شرذمةٌ منهم بلاد أبي خزيمة - يريد حمزة بن أدرك الخارجي - وما والي خراسان في بعض الأمر، وحمزة في معظم الناس، فقال لأصحابه: أفرجوا لهم ما تركوكم، ولا تتعرضوا لهم؛ فإنه قد قيل: تاركوهم ما تاركوكم. فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه؛ وهو عربي خرساني. وذكر يزيد بن مزيد الوقعة التي قتل فيها يولبا التركي الوليد بن طريف الخارجي، فقال في بعض ما يصف من شأن الترك: ليس لبدن التركي على

ظهر الدابة ثقل، ولا لمشيه على الأرض وقع، وإنه ليرى وهو مدبرٌ ما لا يرى الفارس منا وهو مقبل. وهو يرى الفارس منا صيداً ويعد نفسه فهدا، ويعده ظبياً ويعد نفسه كلبا. والله لو رمى به في قعر بئر مكتوفاً لما أعجزته الحيلة؟ ولولا أن أعمار عامتهم تقصر دون الجبل - يعني جبل حلوان - ثم هموا بنا، لألقوا لنا شغلاً طويلاً. وأنشد رجلٌ من أصحابه: هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال قال: أما التركي فلأن ينال الكفاف غصباً أحب إليه من أن ينال الملك عفواً. ولم يتهن تركيٌّ بطعامٍ إلا أن يكون صيداً او مغنما، ولا يعز على ظهر دابته طالباً كان أو مطلوبا. وقال ثمامة بن أشرس، وكان مثل محمد بن الجهم في كثرة ذكره للترك. قال ثمامة: التركي لا يخاف إلا مخوفا ولا يطمع في غبر مطمع، ولا يكفُّه عن الطلب إلا اليأس صرفا، ولا يدع القليل حتى يصيب أكثر منه، وإن قدر أن يجمعهما لم يفرط في واحدٍ منهما. والباب الذي لا يحسنه لا يحسن منه شيئاً،

والباب الذي يحسنه قد أحكمه بأسره وأمره وخفيه عنده كظاهره، ولا يتشاغل بشيء، ولا على نفسه من شيء. ولولا أن يجم نفسه بالنوم لما نام، على أن نومه مشوبٌ باليقظة، ويقظته سليمة من الوسنة، ولو كان في شقهم أنبياء، وفي أرضهم حكماء، وكانت هذه الخواطر قد مرت على قلوبهم، وقرعت أسماعهم، لأنسوك أدب البصريين، وحكمة اليونانيين، وصنعة أهل الصين. وقال ثمامة: عرض لنا في طريق خراسان تركيٌّ ومعنا قائد يصول بنفسه ورجاله، وبيننا وبين التركي وادٍ، فسأله أن يبارزه فارسٌ من القوم، فأخرج له رجلاً لم أرقط أكمل منه، ولا أحسن تماماً وقواماً منه، فاحتال حتى عبر إليهم الفارس، فتجاولا ساعةً، ولا نظن إلا أن صاحبنا يفي بأضعافه، وهو في ذلك يتباعد عنا. فبينما هما في ذلك إذ ولى عنه التركي كالهارب منه، وفعل ذلك في موضعٍ ظننا أن صاحبنا قد ظهر عليه، وأتبعه الفارس لا نشك إلا أنه سيأتينا برأسه، أو يأتينا به مجنوباً إلى فرسه، فلم نشعر إلا وصاحبنا قد أفلت عن فرسه وغاب عنه، فنزل التركي إليه فأخذ سلبه وقتله، ثم عارض فرسه فجنبه إليه معه.

قال ثمامة: ثم رأيت بعد ذلك التركي قد جيء به أسيراً إلى دار الفضل ابن سهل، فقلت له: كيف صنعت يومئذ، وكيف طاولته ثم علاك ثم وليت عنه هارباً ثم قتلته؟ قال: أما إني لو شئت أن أقتله حين عبر؛ وقد كان مقتله بارزاً لي، ولكني احتلت عليه حتى نحيته عن أصحابه لأجوِّزه، فلا يحال بيني وبين فرسه وسلبه. قال ثمامة: وإذا هو يدير الفارس من سائر الناس ويريغه كيف شاء وأحب. قال ثمامة: وقد غبرت في أيديهم أسيراً فما رأيت كإكرامهم وتحفهم وألطافهم. فهذا ثمامة بن أشرس، وهو عربي لا يتهم في الإخبار عنهم. وأنا أخبرك أني قد رأيت منهم شيئاً عجيباً وأمراً غريباً: رأيت في بعض غزوات المأمون سماطي خيل على جنبتي الطريق بقرب المنزل، مائة فارسٍ من الأتراك في الجانب الأيمن، ومائةٌ من سائر الناس في الجانب الأيسر، وإذا هم قد اصطفوا ينتظرون مجيء المأمون، وقد انتصف النهار واشتد الحر. فورد عليهم وجمع الأتراك جلوسٌ على ظهور خيولهم إلا ثلاثة أو أربعة، وجميع تلك الأخلاط من الجند قد رموا بنفوسهم إلى الأرض إلا ثلاثة أو أربعة. فقلت

لصاحبٍ لي: انظر أي شيءٍ اتفق لنا. أشهد أن المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطنعهم. وأردت مرة القاطول - وهي المباركة - وأنا خارجٌ من بغداد، وأرى فوارس من أهل خراسان والأبناء وغيرهم من أصناف الجندي، قد عار لهم فرس، وهم على خيلٍ عتاق يريغونه فلا يقدرون على أخذه، ومر تركيٌ ولم يكن من ذوي هيئاتهم وذوي القدر منهم، وهو على برذونٍ له خسيس، وهم على الخيول المطهمة، فاعترض الفرس اعتراضاً، وقتله قتلاً وحياً؛ وأتاه من زجره بشيءٍ، فوقف أولئك الجند وصاروا نظارة، فقال بعضهم ممن كان يزري على ذلك التركي: هذا وأبيك التكلف والتعرض: أن فرساً قد أعجزهم وهم أسد البلاد، وجاء هذا مع قصر قامته وضعف دابته، فطمع أن يأخذه. فمى انقضى كلامه حتى أقبل به ثم سلمه إليهم ومضى لطلبته، لم ينتظر ثناءهم ولا دعاءهم، ولا أراهم أنه قد صنع شيئاً، أو أتى إليهم معروفاً. والأتراك قومٌ لا يعرفون الملق ولا الخلابة، ولا النفاق ولا السعاية، ولا التصنع ولاالنميمة ولا الرياء، ولا البذخ على الأولياء، ولا البغيَ على الخلطاء، ولا يعرفون البدع، ولم تفسدهم الأهواء، ولايستحلُّون الأموال على التأوُّل، وإنما كان عيبهم، والذي يوحش منهم، الحنين إلى الأوطان، وحبُّ التقلب في البلدان، والصبابة بالغارات، والشغف بالنهب، وشدة

الإلف للعادة، مع ما كانوا يتذاكرون من سرور الظفر وتتابعه، وحلاوة المغنم وكثرته، وملاعبهم في تلك الصحارى، وتردُّدهم في تلك المروج، وألا يذهب بطول الفراغ فضل نجدتهم باطلاً، ويصير حدهم على طول الأيام كليلاً. ومن حذق شيئاً لم يصبر عنه، ومن كره أمراً فر منه. وإنما خصوا بالحنين من بين جميع العجم لأن في تركيبهم وأخلاط طبائعهم من تركيب بلدهم وتربيتهم، ومشاكلة مياههم ومناسبة إخوانهم، ما ليس مع أحدٍ سواهم. ألا ترى أنك ترى البصريَّ فلا تدري أبصريٌّ هو أم كوفيٌّ، وترى المكيَّ فلا تدري أمكيّ هو أم مدنيّ. وترى الجبليَّ فلا تدري أجبليٌّ هو أم خراسانيّ، وترى الجزريَّ فلا تدري أجزريٌّ هو أم شاميّ. وأنت لا تغلط في التركيّ، ولا تحتاج فيه إلى قيافةٍ ولا إلى فراسة، ولا إلى مساءلة. ونساؤهم كرجالهم، ودوابهم تركيةٌ مثلهم. وهكذا طبع الله تلك البلدة، وقسم لتلك التربة. وجميع دور الدنيا ونشوُّها إلى منتهى قواها ومدة أجلها، جارية على عللها، وعلى مقدار أسبابها وعلى قدر ما خصها الله تعالى به وأبانها، وجعل فيها. فإذا صاروا إلى دار الجزاء، فهي كما قال اللَّه تعالى: " إنا أنشأناهنَّ إنشاءً ". وكذلك ترى أبناء العرب والأعراب الذين نزلوا خراسان، لا تفصل بين من نزل أبوه بفرغانة وبين أهل فرغانة، ولا ترى بينهم فرقاً في السبال الصهب

والجلود القشرة، والأقفاء العظيمة، والأكسية الفرغانية. وكذلك جميع تلك الأرباع، لا تفصل بين أبناء النازلة وبين أبناء النابتة. ومحبة الوطن شيءٌ شامل لجميع الناس، وغالب على جميع الجيرة. ولكن ذاك في الترك أغلب، وفيها أرسخ؛ لما معها من خاصة المشاكلة والمناسبة، واستواء الشبه، وتكافي التركيب. ألا ترى أن العبدي يقول: " عمر الله البلدان بحب الأوطان "، وأن ابن الزبير قال: " ليس الناس بشيءٍ من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم "، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لولا تفرق أهواء العباد لما عمَّر الله البلاد "، وأن جمعة الإيادبة قالت: " لولا ما أوصى الله به العباد من قفر البلاد، لما وسعهم وادٍ ولا كفاهم زاد ". وذكر قتيبة بن مسلم الترك فقال: " هم والله أحن من الإبل المعقلة إلى أوطانها "؛ لأن البعير يحن إلى وطنه وعطنه، وهو بعمان، من ظهر البصرة، فهو يخبط كل شيء ويستبطن كل وادٍ، حتى يأتي مكانه؛ على أنه طريقٌ لم يسلكه إلا مرةً واحدة، فلا يزال بالشم والاسترواح وحسن الاستدلال، وبالطبيعة المخصوص بها حتى يأتي مبركه، على بعد ما بين عمان والبصرة.

فلذلك ضرب به قتيبة المثل. والشح على الوطن والحنين إليه، والصبابة به، مذكورةٌ في القرآن، مخطوطةٌ في الصحف بين جميع الناس. غير أن التركي للعلل التي ذكرناها أشد حنيناً وأكثر نزوعاً. وباب آخر، مما كان يدعوهم إلى الرجوع قبل العزم الثابت، والعادة المنقودة: وذلك أن الترك قومٌ يشتد عليهم الحصر والجثوم، وطول اللُّبث والمكث، وقلة التصرف والتحرك، وأصل بنيتهم إنما وضع على الحركة، وليس للسكون فيها نصيب، وفي قوى أنفسهم فضلٌ على قوى أبدانهم، وهم أصحاب توقد وحرارة، واشتغال وفطنة، كثيرةٌ خواطرهم، سريع لحظهم، وكان يرون الكفاية معجزة، وطول المقام بلادة، والراحة عقلة، والقناعة من قصر الهمة؛ وأن ترك الغزو يورث الزلة.

وقد قالت العرب في مثل ذلك: قال عبد الله بن وهبٍ الراسبيَّ: " حب الهوينا يكسب النصب ". والعرب تقول: " من غلا دماغه في الصيف غلت قدره في الشتاء ". وقال أكثم بن صيفيَّ: " ما أحب أني مكفيٌ كل أمر الدنيا ". قيل: ولم؟ قال: " أخاف العجز ". فهذه كانت علل الترك في حب الرجوع والحنين إلى الوطن. ومن أعظم ما كان يدعوهم إلى الشرود ويبعثهم على الرجوع، ويكره عندهم المقام، ما كانوا فيه من جهل قوادهم بأقدارهم، وقلة معرفتهم بأخطارهم، وإغفالهم موضع الرد عليهم والانتفاع بهم، حتى جعلوهم أسوة أجنادهم، ولم يقنعوا أن يكونوا في الحاشية والحشوة، وفي غمار العامة ومن عرض العساكر، وأنفوا من ذلك لأنفسهم، وذكروا ما يجب لهم، ورأوا أن الضيم لا يليق بهم؛ وأن الخمول لا يجوز عليهم، وأنهم في المقام على من لا يعرف حقهم ألوم ممن منعهم حقهم، فلما صادفوا ملكاً حكيماً، وبأقدار الناس عليماً، لايميل إلى سوءعادةٍ ولايجنح إلى هوى، ولايتعصب لبلد على بلد؛ يدور مع التدبير حيثما دار، ويقيم مع الحق حيثما أقام، أقاموا إقامة من قد فهم الحظ، ودان بالحق ونبذ العادة، وآثر

الحقيقة، ورحل نفسه لقطيعة وطنه، وآثر الإمام على ملك الجبرية، واختار الصواب على الإلف. ثم اعلم بعد هذا كله أن كل أمةٍ وقرنٍ، وكل جيلٍ وبني أبٍ وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب؛ فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن يكون الله قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان متقسم الهوى، مشترك الرأي، ومتشعب النفس، غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيَّأٍ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئاً بأسره، ولم يبلغ في غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن فيه ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً بأكفهم، ولا أصحاب زرعٍ ولا فلاحة وبناءٍ وغرسٍ، ولاأصحاب جمعٍ ومنعٍ، وحرصٍ وكدٍّ، وكانت الملوك تفرغهم، وتجري عليهم كفايتهم،

فنظروا حين نظروا بأنفسٍ مجتمعة، وقوةٍ وافرة، وأذهانٍ فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون جماماً للنفس، وراحةً بعد الكد، وسروراً يداوي قرح الهموم، فصنعوا من المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرصوطونات، والقبانات، والأسطرلابات، وآلة الساعات، وكالكونيا، وكالشيزان، والبركار، وكأصناف المزامير والمعازف، وكالطب والحساب والهندسة واللحون، وآلات الحرب كالمجانيق،

والعرادات، والرتيلات، والدبابات، وآلة النفاط، وغير ذلك مّما يطول ذكره. وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة؛ يصورون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المثل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسونها، ويرغبون في العلم ويرغبون في العمل. فأما سكان الصين فهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصوير، والنسخ والخطّ، ورفق الكف في كل شيءٍ يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه. واليونان يعرفون الفلك، لأن أولئك حكماء وهؤلاء فعلة. وكذلك العرب، لم يكونوا تجاراً ولا صناعا، ولا أطباء ولا حساباً، ولا أصحاب فلاحة فيكونون مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم من صغار

الجزية. ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغني الذي يورث البلدة، والثروة التي تحدث الفرَّة، ولم يحتملوا ذُلاً قط فيميت قلوبهم ويصغر عندهم أنفسهم. وكانوا سكان فيافٍ وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق، ولا البخار ولا الغلط ولا العفن، ولا التخم. أذهان حداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قواهم لقول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرُّف الأنوار، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر. وكذلك الترك أصحاب عمد وسكان فيافٍ وأرباب مواشٍ، وهم أعراب

العجم كما أن هذيلاً أكراد العرب. فحين لم تشغلهم الصناعات والتجارات، والطب والفلاحة والهندسة؛ ولا غرسٌ ولا بيانٌ، ولا شقٌّ أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن هممهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفةً وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخرةً ومقصورةً، عليها، وموصولة بها أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، ولذتهم وفخرهم، وحديثهم وسمرهم. فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة. ومما يستدل به على أنهم قد استقصوا هذا الباب واستغرقوا، وبلغوا أقصى غايته وتعرفوه، أن السيف إلى أن يتقلده متقلد، أو يضرب به ضارب، قد مرَّ على أيدٍ كثيرة، وعلى طبقات من الصناع، كل واحدٍ منهم لا يعمل عمل صاحبه، ولا يحسنه ولا يدعيه ولا يتكلفه، لأن الذي يذيب حديد السيف ويميعه، ويصفيه ويهذبه، غير الذي يمده ويمطله؛ والذي يمده ويمطله

غير الذي يطبعه ويسوي متنه، ويقيم خشيبته؛ والذي يطبعه ويسوي متنه غير الذي يسقيه ويرهفه، والذي يرهفه غير الذي يركب قبيعته ويستوثق من سيلانه، والذي يعمل مسامير السيلان وشاربي القبيعة ونصل السيف غير الذي ينحت خشب غمده، والذي ينحت خشب غمده غير الذي يدبغ جلده، والذي يدبغ جلده غير الذي يحليه، والذي يحليه ويركب نعله غير الذي يخرز حمائله. وكذلك السرج، وحالات السهم والجعبة والرمح وجميع السلاح، مما هو جارحٌ أو جُنَّة. والتركي يعمل هذا كله لنفسه من ابتدائه إلى غايته، فلا يستعين برفيق، ولا يفزع فيه إلى صديق، ولا يختلف إلى صانع، ولا يشغل قلبه بمطاله وتسويفه، وأكاذيب مواعيده، وبعزم كرائه. وحين بلغ أوس بن حجر صفة القانص، وبلغ له الغاية في جمعه لأبواب الكفاية بنفسه، قال:

قصيٌّ مبيت الليل للصيد مطعم ... لأسهمه غارٍ، وبارٍ وراصفُ وليس أنه ليس في الأرض تركيٌّ إلا وهو كما وصفنا، كما أنه ليس كل يونانيٌّ حكيماً ولا كل صينيٍّ غايةً في الحذق، ولا كل أعرابيٍّ شاعراً قائفا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وهي فيهم أظهر وأكثر. قد قلنا في السبب الذي تكاملت به النجدة والفروسية في الترك دون جميع الأمم، وفي العلل التي من أجلها انتظموا جميع معاني الحرب، وهي معانٍ تشتمل على مذاهب غربية، وخصالٍ عجمية. فمنها: ما يقضي لأهله بالكرم وببعد الهمة وطلب الغاية. ومنها: ما يدل على الأدب السديد والرأي الأصيل، والفطنة الثاقبة والبصيرة النافذة. ألا ترى أنه ليس بدٌّ لصاحب الحرب من الحلم والعلم، والحزم والعزم، والصبر والكتمان، ومن الثقافة، وقلة الغفلة وكثرة التجربة. ولا بد من البصر بالخيل والسلاح، والخبرة بالرجال وبالبلاد، والعلم بالمكان والزمان والمكايد، وبما فيه صلاح هذه الأمور كلها.

والملك يحتاج إلى أواخٍ شداد وأسباب متان، ومن أتمها سبباً وأعمقها نفعاً ما ثبته في نصابه، وأقره وسكنه في قراره، وزاد في تمكنه وبهائه، وقطع أسباب المطعمة فيه، ومنع أيدي البغاة من الإشارة إليه فضلاً عن البسط عليه. قال: ثم إن الترك عطفت على العرب بالمحاجّة والمقايسة، وقالوا: قلتم إن تكن القرابة مما يستحق بالكفاية فنحن أقدم في الطاعة والود والمناصحة، وإن تكن تستحقّ بالقربة فنحن أقرب قرابةً. قالوا: والعرب بعد هذا صنفان: عدنان وقحطان. فأما القحطانيّ فنسبتنا إلى الخلفاء أقرب من نسبتهم، ونحن أمس بهم رحماً؛ لأن الخليفة من ولد إسماعيل بن ابراهيم، دون قحطان وعابر. وولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل، وأمه هاجر، وهي قبطية. وإسحاق وأمه سريانية. والستة الباقون أمهم قطورا بنت مفطون عربية، من العرب العاربة. وفي قول القحطانية: إنّ أمّنا أشرف في الحسب إذ كانت عربية. وأربعة من الستة هم الذين وقعوا بخرسان، فأولدوا ترك خرسان. فهذا قولنا للقحطانيّ.

وأما قولنا للعدنانيّ، فإبراهيم أبونا، وإسماعيل عمّنا، وقرابتنا من إسماعيل كقرابتكم. قال الهيثم بن عدىّ: قيل لمبارك التركي، وعنده حمّادٌ التركي: إنّكم من مذحج. قال: ومذحج هذا من هو ذاك؟ وما نعرف إلاّ إبراهيم خليل الله وأمير المؤمنين. قال الهيثم: وقد كان سقط إلى بلاد الترك رجلٌ من مذحجٍ فأنسل نسلاً كثيراً، ولذلك قال شاعر الشعوبية للعرب في قصيدة طويلة: زعمتم بأنّ الترك أبناء مذحجٍ ... وبينكم قربى وبين البرابر وذالكم نسل ابن ضبة باسلٍ ... وصوفان أنسال كثير الجرائر وقال آخر: متى كانت الأتراك أبناء مذبحٍ ... ألا إن في الدنيا عجيباً لمن عجب وقد سمعتم ما جاء في سد بني قطورا وشأن خيولهم بنخل السود، وإنما كان الحديث على وجه التهويل والتخويف بهم لجميع الناس، فصاروا للإسلام مادةً وجنداً كثيفاً، وللخلفاء وقايةً وموئلاً وجنةً حصينة، وشعاراً دون الدثار.

وفي المأثور من الخبر: " تاركوا الترك ما تاركوكم ". وهذه وصيةٌ لجميع العرب؛ فإن الرأي متاركتنا ومسالمتنا. وما ظنكم بقومٍ لم يعرض لهم ذو القرنين. وبقوله " اتركوهم " سمُّوا الترك. هذا بعد أن غلب على جميع الأرض غلبةً وقسراً، وعنوةً وقهراً. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " هذا عدوٌّ شديدٌ كلبه، قليل سلبه ". فنهى كما ترى عن التعرض لهم، بأحسن كناية. والعرب إذا ضربت المثل في العداوة الشديدة قالوا: ما هم إلا الترك والديلم. قال عملس بن عقيل بن علفة: تبدلت منه بعد ما شاب مفرقي ... عداوة تركي وبغض أبي حسل وأبو حسل هو الضَّبّ. والعرب تقول: " هو أعقُّ من ضبّ "؛ لأنه يأكل أولاده. ولم يرعب قلوب أجناد العرب مثل الترك. وقال خلفٌ الأحمر: كأني حين أرهنهم بنيَّ ... دفعتهم إلى صهب السبال قال: وإياهم عني أوسٌ بن حجر: تكّبتها ماءهم لما رأيتهم ... صهب السبال بأيديهم بيازير

وحدثني إبراهيم بن السندي مولى أمير المؤمنين، وكان عالماً بالدولة، شديد الحب لأبناء الدعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيامهم، ويدعو الناس إلى طاعتهم، ويدرسهم مناقبهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان أردَّ على هذا الملك من عشرة آلاف سيفٍ شهير، وسنانٍ طريرٍ، لكان ذلك قولاً ومذهباً. قال: حدثني عبد الملك بن صالح، عن أبيه صالح بن علي أن خاقان ملك الترك واقف مرةالجنيد بن عبد الرحمن أمير خراسان، وقد كان الجنيد هاله أمره، وأفزعه شأنه، وتعاظمه جموعه وجمعه، وبعل به، وفطن به خاقان وعرف ما قد وقع فيه، فأرسل إليه: " إني لم أقف هذا الموقف وأمسك هذا الإمساك وأنا أريد مكروهاً، فلا ترع. ولو كنت أريد غلبةً أو مكروهاً لقد كنت انتسفت عسكرك انتسافاً

أعجلك فيه عن الروية وقد أبصرت موقع العورة. ولولا أن تعرف هذه المكيدة فتعود بها على غيري من الأتراك، لعرَّفتك موضع الانتشار والخلل والخطأ في عسكرك وتعبيتك. وقد بلغني أنك رجلٌ عاقل، وأن لك شرفاً في بيتك وفضلاً في نفسك، وعلماً بدينك، وقد أحببت أن أسأل عن شيءٍ من أحكامهم لأعرف به مذهبكم، فاخرج إليَّ في خاصتك لأخرج إليك وحدي، وأسائلك عما أحتاج إليه بنفسي. ولا تحتفل ولا تحترس؛ فليس مثلي من غدر، وليس مثلي يؤمن من نفسه، ومن مكره وكيده، ثم ينكث بوعده. ونحن قومٌ لا نخدع بالعمل، ولا نستحسن الخديعة إلا في الحرب، ولو استقام أمر الحرب بغير خديعة لما جوَّزنا ذلك بأنفسنا ". فأبى الجنيد أن يخرج إليه إلا وحده، ففصلا من الصفوف. وقال: سل عما أحببت، فإن كان عندي جوابٌ أرضاه أجبتك وإلا أشرت عليك بمن هو أبصر بذلك مني. قال: ما حكمكم في الزاني؟ قال الجنيد: الزاني عندنا رجلان: رجلٌ دفعنا إليه امرأةً تغنيه عن حرم الناس، وتكفه عن حرم الجيران؛ ورجلٌ لم نعطه ذلك، ولم نحل بينه وبين أن يفعل ذلك لنفسه. فأما الذي لا زوجة له فإن نجلده مائة جلدة ونحضر ذلك الجماعة من الناس لنشهره ونحذره به، ونغربه في البلدان لنزيد من شهرته وفي التحذير منه، ولينزجر بذلك كل من كان يهم بمثل عمله. فاما الذي قد أغنيناه فإنا نرجمه بالجندل حتى نقتله.

قال: حسن جميلٌ، وتدبيرٌ كبير، فما قولكم في الذي يقذف عفيفاً بالزنى؟ قال: يجلد ثمانين جلدة، ولا نقبل له شهادةً، ولا نصدق له حديثاً. قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير، فما حكمكم في السارق؟ قال: السارق عندنا رجلان: رجلٌ يحتال لما قد أحرزه الناس من أموالهم حتى يأخذها بنقب حيطانهم وبالتسلق من أعالي دورهم؛ فهذا نقطع يده التي سرق بها، ونقب بها واعتمد عليها. ورجلٌ آخر يخيف السبيل، ويقطع الطريق، ويكايد على الأموال، ويشهر السلاح فإن منعه صاحب المتاع قتله، فهذا نقتله ونصلبه على المناهج والطرق. قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما حكمكم في الغاصب والمستلب؟ قال: كلُّ ما فيه الشبهة ويجوز فيه الغلط والوجوه، كالغصب والاستلاب، والجناية، والسرقة لما يؤكل أو يشرب فإنا لا نقطع فيما فيه شبهة ونتمحَّل لذلك وجهاً غير السرقة. قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما حكمكم في القاتل وقاطع الأذن والأنف؟

قال: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف. وإن قتل رجلاً عشرةٌ قتلناهم. ونقتل القويَّ البدن بالضعيف البدن، وكذلك اليد والرِّجل. قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما تقولون في الكذاب والنمام والضراط. قال: عندنا فيهم الإقصاء لهم وإبعادهم وإهانتهم، ولا نقبل شهادتهم، ولا نصدق أحكامهم. قال: وليس إلا هذا؟ قال: هذا جوابنا على ديننا. قال له: أما النمام عندي هو الذي يُضرِّب بين الناس، فإني أحبسه في مكانٍ لا يرى فيه أحداً. وأما الضراط فإني أكوي أسته، وأعاقب ذلك المكان فيه. وأما الكذاب فإني أقطع الجارح التي بها يكذب، كما قطعتم اليد التي بها يسرق، وأما الذي يضحك الناس ويعودهم السخف فإني أخرجه من سلطانه، وأصلح بإخراجه عقول رعيتي. قال: فقال الجنيد بن عبد الرحمن: أنتم قومٌ تردون أحكامكم إلى جواز العقول، وإلى ما يحسن في ظاهر الرأي؛ ونحن قومٌ نتبع الأنبياء، ونرى أنْ لم نصلح على تدبير العباد. وذلك أن الله تعالى أعلم بغيب المصالح وسر الأمر

وحقائقه، ومحصوله وعواقبه، والناس لا يعلمون ولا يرون الحزم إلا على ظاهر الأمور. وكم من مضيع يسلم، وحازمٍ يعطب. قال: ما قلت كلاماً أشرف من هذا، ولقد ألقيت لي في فكراً طويلاً. قال إبراهيم: قال عبد الملك: قال صالح: قال الجنيد: فلم أرى أوفى ولا أنصف ولا أفهم ولا أذكى منه. ولقد واقفته ثلاث ساعاتٍ من النهار وما تحرك منه شيءٌ إلا لسانه، وما مني شيء لم أحركه. وهكذا يصفون ملوك الترك، يزعمون أن ساسان وخاقان الأكبر، تواقفا ببعض الكسور، وفصلاً من الصفين، وطالت المناجاة، فلما انفتلا قالوا: كان خاقان أركن وأدب، وكان مركب كِسرى أركن وأدب، ولم يتحرك من خاقان إلا لسانه، وكان برذونه يرفع قائمةً ويضع أخرى، وكان مركب كسرى كأنما صبّ صبا، وكان كسرى يحرك رأسه ويشير بيده. قالوا: ومن الأعاجيب أن الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب.

قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أنّ العرب لا تقوم للترك، والترك لا تقوم للروم، والروم لا تقوم للعرب. قال جهم بن صفوان الترمذي: قد عرفنا ما كان بين فارس والترك من الحرب، حتى تزوج كسرى أبرويز، خانتون بنت خاقان، يستميله بذلك الصهر، ويدفع بأسه عنه. وقد عرفنا الحروب التي كانت بين فارس والروم، وكيف تساجلوا الظفر، وبأي سببٍ غرس الزيتون بالمدائن وسوسا، وبأي سببٍ بنيت الرومية ولم سميت بذلك، ولم بنى كسرى على الخليج قبالة قسطنطينية النواويس وبيوت النار. ولكن متى ظهرت الروم على ترك خرسان ظهوراً موالياً، ضربوا بها المثل إلى آخر دارمسه، ومن الأشباه، ومن يتخلل هذا النسب. وكانت خانتون بنت خاقان عند أبرويز فولدت له شيرويه. وقد ملك شيرويه بعد أبرويز، فتزوج شيرويه مريم بنت قيصر، فولدت له

فيروزاشاهى أم يزيد الناقص والوليد. وكان يقول: ولدني أربعة أملاك: كسرى، وخاقان، وقيصر، ومروان. وكان يرتجز في حروبه التي قتل فيها الوليد بن يزيد بن عاتكة: أنا ابن كسرى وأبي خاقان ... وقيصرٌ جدي وجدي مروان فلما صار إلى الافتخار في شعره بالنجدة والثقافة بالحرب، لم يفخر إلا بخاقان فقط فقال: فإن كنت أرمى مقبلاً ثم مدبرا ... وأطلع من طودٍ زليق على مهر فخاقان جدى فاعرفى ذاك واذكرى ... أخابيره فى السهل والجبل الوعر قوله " وأطلع " يريد: وأنزل، وهى لغة أهل الشام وأخذوها من نازلة العرب في أول الدهر. وجعل دابته مهراً، لأن ذلك أشد وأشق.

وقال الفضل بن العباس بن رزين: أتانا ذات يوم فرسانٌ من الترك، فلم يبق أحد ممن كان خارجاً إلا دخل حصنه وأغلق بابه، وأحاطوا بحصن من ذلك الحصون، وأبصر فارسٌ منهم شيخاً يطلع إليهم من فوق، فقال له التركي: لئن لم تنزل إلي لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا! قال: فنزل إليه وفتح له الباب، ودخلوا الحصن، واكتسحوا كل شيء فيه، فضحك من نزوله إليه وفتحه له وهو في أحصن موضع وأمنع مكان، ثم أقبل به إلى حصن أنا فيه فقال: اشتروه مني. قلنا: لا حاجة لنا في ذلك. قال: فإني أبيعه بدرهم واحد. فرمينا إليه بدرهم فخلى سبيله، ثم أدبر عنا ومضى مع أصحابه، فما لبث إلا قليلاً حتى عاد إلينا فوقف حيث نسمع كلامه، فراعنا ذلك، فأخرج الدرهم من فمه وكسره بنصفين. وقال: لا يسوى درهما، وهذا غبن فاحش، فخذوا هذا النصف، وهو على كل حال غالٍ جداً بالنصف الآخر. قال: فإذا هو أظرف الخلق. قال: وكنا نعرف ذلك الرجل بالجبن، وقد كان سمع باحتيال الترك في دخول المدن وعبور الأنهار في الحروب، فتوهم أنه لم يتوعد بفتح الباب. وقال ثمامة: ما شبهت الذر إلا بالترك؛ لأن كل ذرة على حدتها معها من المعرفة بادخار الطعم، ومن الشم والاسترواح، ونجب المدّخر حتى

لا ينبت في جحره، ثم الاحتيال للناس في الاحتيال لها بالصمامة والعفاص والمزدجر، وتعليق الطعام على الأوتاد والبرادات، مثل الذرّ مع صاحبتها. وقال أبو موسى الأشعرىّ: كل جنسٍ يحتاج إلى أمير ورئيس ومدبر، حتى الذّرّ. وروى أبو عمر الضرير، أن رئيس الذّرّ الرائد الذي يخرج أولاً لشيءٍ قد شمه دون أصحابه، لخصوصيةٍ خصه الله تعالى بها، ولطافة الحس، فإذا حاول حمله وتعاطى نقله، وأعجزه ذلك بعد أن يبلى عذرا، أتاهن فأخبرهنَّ فرجع، وخرجت بعده كأنها خيطٌ أسود ممدود. وليست ذرةٌ أبداً تستقبل ذرةً أخرى إلا واقفتها وسارتها بشىءٍ ثم انصرفت عنها. وكذلك الأتراك كل واحدٍ منهم غير عاجزٍ عن معرفة مصلحة أمره، إلا أنّ التفاضل واجبٌ في جميع أصناف الأشياء والنبات والموات. وقد تختلف الجواهر وكلها كريم، وتتفاضل العتاق وكلها جواد.

وقد قلنا في مناقب جميع الأصناف بجمل ما انتهى إلينا وبلغه علمنا؛ فإن وقع ذلك بالموافقة فبتوفيق الله وصنعه، وإن قصر دون ذلك فالذي قصر بنا نقصان علمنا، وقلة حفظنا وسماعنا. فأما حسن النِّيَّة، والذي نضمر من المحبة والاجتهاد في القربة، فإنا لا نرجع في ذلك إلى أنفسنا بلائمة. وبين التقصير من جهة التفريط والتضييع، وبين التقصير من جهة العجز وضعف العزم، فرقٌ. ولو كان هذا الكتاب من كتب المناقضات، وكتب المسائل والجوابات، وكان كل صنفٍ من الأصناف يريد الاستقصاء على صاحبه، ويكون غايته إظهار فضل نفسه وإن لم يصل إلى ذلك إلا بإظهار نقص أخيه ووليه، لكان كتاباً كبيراً، كثير الورق عظيماً، ولكان العدد الذي يقضون لمؤلفه بالعلم والاتساع في المعرفة أكثر وأظهر، ولكنا رأينا أن القليل الذي يُجمع خيرٌ من الكثير الذي يفرِّق. ونحن نعوذ بالله من هذا المذهب، ونسأله العون والتسديد، إنه سميعٌ قريبٌ، فعال لما يريد. تم الكتاب ولله المنة، وبيده الحول والقوة والله الموفق للصواب. والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الرسالة الثانية المعاش والمعاد أو الأخلاق المحمودة والمذمومة

الرسالة الثانية المعاش والمعاد أو الأخلاق المحمودة والمذمومة

بسم الله الرحمن الرحيم حفظك الله وأمتع بك أما بعد فإن جماعات أهل الحكمة قالوا: واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها. فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ماتجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون. وإني عرفتك - أكرمك الله - في أيام الحداثة، وحيث سلطان اللهو المخلق للأعراض أغلب على نظرائك، وسكر الشباب والجدة المتحيِّفين للدين والمروءة مستولٍ على لداتك فاختبرت أنت وهم ففقتهم ببسطة المقدرة وحميَّا الحداثة، وطول الجدة، مع ما تقدمتهم فيه من الوسامة في الصورة والجمال في الهيئة. وهذه كلها أسباب تكاد أن توجب

الانقياد للهوى، ولججٌ من المهالك لا يسلم منها إلا المنقطع القرين في صحة الفطرة، وكمال العقل. فاستبعدتهم الشهوات حتى أعطوها أزمة أدياتهم، وسلطوها على مروءاتهم وأباحوها أعراضهم، فآلت بأكثرهم الحال إلى ذل العدم وفقد عز الغنى في العاجل، والندامة الطويلة والحسرة في الآجل. وخرجت نسيج وحدك، أوحدياً في عصرك، حكمت وكيل الله عندك - وهو عقلك - على هواك، وألقيت إليه أزمة أمرك، فسلك بك طريق السلامة، وأسلمك إلى العاقبة المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذات أكثر مما بلغوا، ونال بك من الشهوات أكثر مما نالوا، وصرفك من صنوف النعم أكثر مما تصرفوا، وربط عليك من نعم الله التي خولك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو وتسليطهم الهوى على أنفسهم؛ فخاض بهم سبل تلك اللجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدين، وافر المروءة، نقى العرض، كثير الثراء، بيِّن الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى اللَّه تعالى أكثر من ميله إلى هواه.

فلم أزل أبقاك اللَّه في أحوالك تلك كلُّها بفضيلتك عارفاً، ولك بنعم اللَّه عندك غابطاً، أرى ظواهر أمورك المحمودة فتدعوني إلى الانقطاع إليك، وأسأل عن بواطن أحوالك فتزيدني رغبةً في الاتصال بك، ارتياداً مني لموضع الخيرة في الأخوَّة، والتماساً لإصابة الاصطفاء في المودة، وتخيُّراً لمستودع الرجاء في النائبة. فلما محضتك الخبرة، وكشفك الابتلاء عن المحمدة، وقضت لك التجارب بالتقدمة، وشهدت لك قلوب العامة بالقبول والمحبة، وقطع اللَّه عذر كل من كان يطلب الاتصال بك، طلبت الوسيلة إليك والاتصال بحبلك، ومتتُّ بحرمة الأدب وذمام كرمك. وكان من نعمة اللَّه عندي أن جعل أبا عبد اللَّه - حفظه اللَّه - وسيلتي إليك، فوجدت المطلب سهلاً والمراد محموداً، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنيَّة ويفوت الأمل، فوصلت إخاي بمودتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني في مراعي ذوي الخاصة بك، تفضلاً لا مجازاة، وتطولاً لا مكافاة، فأمنت الخطوب، واعتليت على الزمان، واتخذتك للأحداث عدةً، ومن نوائب الدهر حصناً منيعاً. فلما حزت المؤانسة، وتقلبت من فضلك في صنوف النعمة، وزاد بصرى من مواهبك في السرور والحبرة، أردت خبرة المشاهدة، فبلوت

أخلاقك، وامتحنت شيمك، وعجمت مذاهبك على حين غفلاتك، وفي الأوقات التي يقل فيها تحفظك، أراعي حركاتك، وأراقب مخارج أثرك ونهيك، فأرى من استصغارك لعظيم النعم التي تنعم بها، واستكثارك لقليل الشكر من شاكريك، ما أعرف به وبما قد بلوت من غيرك، وما قد شهدت لي به التجارب، أن ذلك منك طبعٌ غير تكلُّف. هيهات! ما يكاد ذو التكلف أن يخفي على أهل الغباوة، فكيف على مثلي من المتصفحين. فزادتني المؤانسة فيك رغبةً، وطول العشرة لك محبة، وامتحاني أفاعيلك لك تفضيلاً، وبطاعتك دينونةً. وكان من تمام شكري لربي ولي كل نعمة، والمبتدئ بكل إحسان، الشكر لك والقيام بمكافأتك بما أمكن من قولٍ وفعل؛ لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه، وأبي أن يقبلهما إلا معاً؛ لأن أحدهما دليلٌ على الآخر، وموصولٌ به. فمن ضيع شكر ذي نعمةٍ من الخلق فأمر الله ضيَّع، وبشاهده استخف. ولقد جاء بذلك الخبر عن الطاهر الصادق صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يشكر للناس لم يشكر الله ".

ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة، قائم في العقل: أن من كفرنعم الخلق كان لنعم الله أكفر؛ لأن الخلق يعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه. فلما وجبت على الحجة بشكرك، وقطع عذري في مكافأتك، اعترفت بالتقصير عن تقصي ذلك، إلا أني بسطت لساني بتقريظك ونشر محاسنك. موصولٌ ذلك مني عند السامعين بالاعتراف بالعجز عن إحصائها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أودع عرفاً فليشكره، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإذا كتمه فقد كفره ". ثم رأيت أن قد بقي علي أمرٌ من الأمور يمكنني فيه برك، وهو عندي عتيد، وأنت عنه غير مستغنٍ، والمنفعة لك فيه عظيمة عاجلة وآجلة إن شاء الله. ولم أزل أبقاك الله بالموضع الذي قد عرفت، من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها، ومعلومٌ أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيين، وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل. فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً لعلم كثيرٍ من المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها وما اتفقت عليه محاسن الأمم.

وعلمت أن ذلك من أعظم ما أبرك به، وارجح ما أتقرب به إليك. وكان الذي حداني على ذلك ما رأيت الله قسم لك من الفهم والعقل، وركب فيك من الطبع الكريم. وقد أجمعت الحكماء أن العقل المطبوع والكرم الغريزي لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب. ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن. وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك. ورأيت كثيراً من واضعي الآداب قبلي قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهوداً قاربوا فيها الحق، وأحسنوا فيها الدلالة، إلا أنى رأيت أكثر ما رسموا من ذلك فروعاً لم يبينوا عللها، وصفاتٍ حسنةٍ لم يكشفوا أسبابها، وأموراً محمودة لم يدلوا علىأصولها. فإن كان ما فعلوا من ذلك رواياتٍ رووها عن أسلافهم، ووراثات ورثوها عن أكابرهم، فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من استنبط. وغن كانوا تركوا الدلالة على علل الأمور التي بمعرفة عللها يوصل إلى

مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظن بها. ولن تجدوا وصايا أنبياء الله أبداً إلا مبينة الأسباب، مكشوفة العلل، مضروبةً معها الأمثال. فألفت لك كتابي هذا إليك، وأنا واصفٌ لك فيه الطبائع التي ركب عليها الخلق، وفطرت عليها البرايا كلهم، فهم فيها مستوون، وإلى وجودها في أنفسهم مضطرون، وفي المعرفة بما يتولد عنها متفقون. ثم مبين لك كيف تفترق بهم الحالات، وتفاوت بهم المنازل، وما العلل التي يوجب بعضها بعضا، وما الشيء الذي يكون سبباً لغيره، متى كان الأول كان ما بعده، وما السبب الذي لا يكون الثاني فيه إلا بالأول، وربما كان الأول ولم يكن الثاني. وفرق ما بين الطبع الأول وبين الاكتساب والعادة التي تصير طبعاً ثانيا. ولم اختلف ذلك؟ وكيف دواعي قلوب الناس، وما منها يمتنعون عنه، وما منها لا يمتنعون منه. وما أسباب نوازع شهواتهم؟ وما الشيء الذي يحتال لقلوبهم به حتى تستمال، وحتى تؤنس بعد الوحشة، وتسكن بعد النفار؟ وكيف يتأتى لينقض ما فيهم من الطبائع المذمومة حتى تصرف إلى الشيم المحمودة؟ وراسمٌ لك في ذلك أصولاً، ومبين لك مع كل أصل منها عليه وسببه.

وقد علمت أن في كثير من الحق مشبهات لا تستبان إلا بعد النظر، وهناك يختل الشيطان أهل الغفلة، وذاك أنه لا يجد سبيلاً إلى اختداعهم عن الأمور الظاهرة. فلم أدع من تلك المواضع الخفية موضعاً إلا أقمت لك بإزاء كل شبهة منه دليلاً، ومع كل خفيًّ من الحق حجةً ظاهرة تستنبط بها غوامض البرهان وتستبين بها دقائق الصواب، وتستشف بها سرائر القلوب، فتاتى ما تأتى عن بينة، وتدع ما تدع عن خبرة، ولا يكون بك وحشةٌ إلى معرفةِ كثيرٍ مما يغيب عنك، إذا عرفت العلل والأسباب، حتى كأنك مشاهدٌ لضمير كل امرئٍ، لمعرفتك بطبعه وماركب عليه، وعوارض الأمور الداخلة عليه مم؛ غير راضٍ لك بالأصول حتى أتقصى لك ما بلغه علمي من الفروع. ثم لا أرسم لك من ذلك إلا الأمر المعقول في كل طبيعة، والموجود في فطر البرايا كلها. فإن أحسنت رعاية ذلك وأقمته على حدوده، ونزلته منازله، كان عمرك - وإن قصرت أيامه - طويلاً، وفارقت ما لابدّ لك من فراقه محموداً، إن شاء الله.

واعلم أن الآداب إنّما هى آلاتٌ تصلح أن تستعمل في الدّين وتستعمل في الدنيا، وإنما وضعت الآداب على أصول الطبائع. وإنما أصول أمور التدبير في الدّين والدنيا واحدة، فما فسدت فيه المعاملة في الدّين فسدت فيه المعاملة في الدنيا، وكل أمرٍ لم يصح في معاملات الدنيا لم يصح في الدّين. وإنما الفرق بين الدين والدنيا اختلاف الدارين من الدنيا والآخرة فقط، والحكم ها هنا الحكم هناك، ولولا ذلك ما قامت مملكة، ولا ثبتت دولة، ولا استقامة سياسة. ولذلك قال اللَّه عزَّ وجل: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً "، قال ابن عباس في تفسيرها: من كان ليس له من العقل ما يعرف به كيف دبِّرت أمور الدنيا، فكذلك هو إذا انتقل إلى الدين، فإنما ينتقل بذلك العقل. فبقدر جهله بالدنيا يكون جهله بالآخرة أكثر؛ لأن هذه شاهدةٌ وتلك غيب؛ فإذا جهل ما شاهد فهو بما غاب عنه أجهل. فأوّل ما أوصيك به ونفسي تقوى اللَّه؛ فإنها جماع كل خير، وسبب كل نجاة، ولقاح كل رشد. هي أحرز حرزٍ، وأقوى معين، وأمنع جُنَّة. هي الجامعة محبة قلوب العباد، والمستقبلة بك محبة قلوب من لا تجري عليهم

نعمك. فاجعلها عدتك وسلاحك، واجعل أمر الله ونهيه نصب عينيك. وأحذرك ونفسي الله والاغترار به، والإدهان في أمره، والاستهانة بعزائمه، والأمن لمكره؛ فقد رأيت آثاره في أهل ولايته وعداوته، كيف جعلهم للماضين عبرةً، وللغابرين مثلاً. واعلم أن خلقه كلهم بريته، لا وصلة بينه وبين أحدٍ منهم إلا بالطاعة، فأولاهم به أكثرهم تزايداً في طاعته، وما خالف هذا فإنه أمانيٌّ وغرور. وقد مكن الله لك من أسباب المقدرة، ومهد لك في تمكين الغنى والبسطة ما لم تنحله بحيلة، ولا بلغته بقوة، لولا فضله وطوله. ولكنه مكنك ليبلوا خبرك، ويختبر شكرك، ويحصى سعيك، ويكتب أثرك، ثم يوفيك أجرك، ويأخذك بما اجترحت يدك أو يعفو؛ فأهل العفو هو. ولله ابتلاءان في خلقه - والابتلاء هو الاختبار - ابتلاء بنعمة، وابتلاء بمصيبة. وبقدر عظمها يجب التكليف من الله عليها؛ فبقدر ما خولك من النعمة يستأديك الشكر.

ولو تقصَّى الله على خلقه لعذبهم، ولذلك قال: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابةٍ ". ولكنه قبل التوبة، وأقال العثرة، وجعل بالحسنة أضعافها. واعلم أن الحكم في الآخرة هو الحكم في الدنيا: ميزانٌ قسط، وحكمٌ عدل. وقد قال الله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ". وهذا مثلٌ ضربه الله؛ لأن الناس يعلمون أن لو وضع في إحدى كفتي الميزان شيءٌ ولم يك في الأخرى قليلٌ ولا كثير، لم يكن للوزن معنىً يعقل. وذلك أن أحداً من الخلق لا يخلو من هفوةٍ أو زلة أو غفلة؛ فأخبر أن من كان حسناته الراجحة على سيئاته، مع الندم على السيئات، كان على سبيل النجاة، وطريق الفوز بالإفلاح. ومن مالت سيئاته كان العطب والعذاب أولى به. وكذلك حكمه في الدنيا؛ لأنه قد تولى أولياء من خلقه وشهد لهم بالعدالة، وقد عاتبهم في بعض الأمور لغلبة الصلاح في أفعالهم وإن هفوا، وتبرأ من آخرين وعاداهم لغلبة الجور على أفاعيلهم، وإن أحسنوا في بعض الأمور.

وكذلك جرت معاملات الخلق بينهم، يعدلون العادل بالغالب من فعله وربما أساء، ويفسقون الفاسق وربما أحسن. وإنما الأمور بعواقبها، وإنما يُقضى على كل امرئ بما شاكل أحواله. فهذه الأمور قائمة في العقول، جرت عليها المعاملة، واستقامت بها السياسة، لا اختلاف بين الأمة فيها. فلا تغبننَّ حظك من دينك، وإن استطعت أن تبلغ من الطاعة غايتها فلنفسك تُمهِّد، وإلا فاجهد أن يكون أغلب أفعالك عليك الطاعة، مع الندامة عند الإساءة، ويكون ميلك عند الإساءة، إلى الله أكثر. والله يوفقك. اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع، ودفع المضار، وبغض ما كان بخلاف ذلك. هذا فيهم طبعٌ مركب، وجبلة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه؛ موجودٌ في الإنس والحيوان، لم يدع غيره مدعٍ من الأولين والآخرين. وبقدر زيادة ذلك ونقصانه تزيد المحبة والبغضاء؛ فنقصانه كزيادته تميل الطبيعة معهما كميل كفتي الميزان، قل ذلك أو أكثر.

وهاتان جملتان داخلٌ فيهما جميع محابِّ العباد ومكارههم. والنفس في طبعها حب الراحة والدعة، والازدياد والعلوّ، والعز والغلبة، والاستطراف والتَّنُّوق، وجميع ما تستلذ الحواس من المناظر الحسنة، والروائح العبقة، والطعوم الطيبة، والأصوات المونقة، والملامس اللذيذة. ومما كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفت لك وخلافه. فهذه الخلال التي تجمعها خلتان غرائز في الفطر، وكوامن في الطبع؛ جبلةٌ ثابتة، وشيمة مخلوقة. على أنها في بعضٍ أكثر منها في بعضٍ، ولا يعلم قدر القلة فيه والكثرة إلا الذي دبَّرهم. فلما كانت هذه طبائعهم، أنشأ لهم من الأرض أرزاقهم، وجعل في ذلك ملاذَّ لجميع حواسهم، فتعلقت به قلوبهم، وتطلعت إليه أنفسهم. فلو تركهم وأصل الطبيعة، مع ما مكن لهم من الأرزاق المشتهاة في طبائعهم، صاروا إلى طاعة الهوى، وذهب التعاطف والتبارُّ. وإذا ذهبا كان ذلك سبباً للفساد، وانقطاع التناسل، وفناء الدنيا وأهلها؛ لأن طبع النفس لا يسلس بعطية قليل ولا كثير مما حوته، حتى تعوَّض أكثر مما تعطى، إما عاجلاً وإما آجلاً مما تستلذه حواسها.

فعلم الله أنهم لا يتعاطفون ولا يتواصلون ولا ينقادون إلا بالتأديب، وأن التأديب ليس إلا بالأمر والنهي غير ناجعين فيهم إلا بالترغيب والترهيب الذين في طباعهم. فدعاهم بالترغيب إلى جنته، وجعلها عوضاً مما تركوا في جنب طاعته، وزجرهم بالترهيب بالنار عن معصيته، وخوفهم بعقابها على ترك أمره. ولو تركهم جل ثناؤه والطباع الأول جروا على سنن الفطرة، وعادة الشيمة. ثم أقام الرغبة والرهبة على حدود العدل، وموازين النَّصفة، وعدَّلهم تعديلاً متفقا، فقال: " فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره ". ثم أخبر الله تبارك وتعالى أنه غير داخلٍ في تدبيره الخلل، ولا جائزٌ عنده المحاباة؛ ليعمل كل عاملٍ على ثقةٍ مما وعده وواعده، فتعلقت قلوب

العباد بالرغبة والرهبة، فاطرَّد التدبير، واستقامت السياسة، لموافقتهما ما في الفطرة، وأخذهما بمجامع المصلحة، ثم جعل أكثر طاعته فيما تستثقل النفوس، وأكثر معصيته فيما تلذ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات ". يخبر أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، والطريق إلى النار اتباع الشهوات، فإذا كانوا لم يصلحوا لخالقهم ولم ينقادوا لأمره إلا بما وصفت لك كم الرغبة والرهبة، فأعجز الناس رأياً وأخطؤهم تدبيراً، وأجهلهم بموارد الأمور ومصادرها، من أمل أو ظن أو رجا أن أن أحداً من الخلق فوقه أو دونه أو من نظرائه يصلح له ضميره، وصح له أو بخلاف ماد برهم الله عليه، فيما بينه وبينهم. فالرغبة والرهبة أصلا كل تدبير، وعليها مدار كلَ سياسة، عظمت أو صغرت. فاجعلها مثالك الذي تحتذي عليه، وركنك الذي تستند إليه. واعلم أنك إن أهملت ما وصفت لك عرضت تدبيرك للاختلاط.

وإن آثرت الهوينا واتكلت على الكفاة في الأمر الذي لا يجوز فيه إلا نظرك، وزجَّيت أمورك على رأي مدخول، وأصلٍ غير محكم، رجع ذلك عليك بما لو حكم فيك عدوك كان ذلك غاية أمنيته، وشفاء غيظه. واعلم أن إجراءك الأمور مجاريها، واستعمالك الأشياء على وجودها، يجمع لك ألفة القلوب، فيعاملك كل من عاملك بمودةٍ، أو أخذ أو إعطاءٍ، وهو على ثقةٍ من بصرك بمواضع الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور. واعلم أن أثرتك على غير النصيحة والشفقة، والحرمة والكفاية، يوجب لك المباعدة وقلة الثقة ممن آثرته أو آثرت عليه. فاعرف لأهل البلاء - ممن جرت بينك وبينه مودةٌ أو حرمة، ممن فوقك أو دونك أو نظرائك - أقدارهم ومنازلهم. ثم لتكن أمورك معهم على قدر البلاء والاستحقاق، ولا تؤثر في ذلك أحداً لهوى؛ فإن الأثرة على الهوى توجب السُّخطة، وتوجب استصغار عظيم النعمة، ويمحق بها الإفضال، وتفسد عليها الطائفتان: من آثرت ومن آثرت عليه. أما من آثرت فإنه يعلم أنك لم تؤثره باستحقاقٍ بل لهوى، فهو

مترقِّبٌ أن ينتقل هواك إلى غيره، فتحول أثرتك حيث مال هواك. فهو مدخول القلب في مودتك، غير آمنٍ لتغيرك. وأما من آثرت عليه بعد الاستحقاق منه، فقد جعلت له السبيل إلى الطعن عليك، وأعطيته الحجة على نفسك. فكل من يعمل على غير ثقةٍ عاد ما أراد به النفع ضرراً، والإصلاح فيه فساداً. وربما آثر الرجل المرء من إخوانه بالعطية السنية على بلاء أبلاه، فيعظم قدرها عنده حتى لعله تطيب نفسه ببذل ماله ودمه دونه. فإن أعطى من أبلى كبلائه وكانت له مثل دالته، أكثر مما أعطاه، انتقل كل محمودٍ من ذلك مذموماً، وكل مستحسنٍ مستقبحاً. وكذلك الأمر في العقوبة، يجريان مجرى واحداً. فاجعل العدل والنَّصفة في الثواب والعقاب حاكماً بينك وبين إخوانك، فمن قدمت منهم فقدمه على الاستحقاق، وبصحة النية في مودته، وخلوص نصيحته لك مما قد بلوت من أخلاقه وشيمه، وعلمت بتجربتك له، أنه يعلم أن صلاحه موصولٌ بصلاحك، وعطبه كائن مع عطبك، ففوض

الأمر إليه، وأشركه في خواص أمورك وخفي أسرارك، ثم اعرف له قدره في مجلسك ومحاورتك ومعاملتك، في كل حالاتك ومزاولاتك في خلواتك معه، وبحضرة جلسائك؛ فإن ذلك زيادة في نيته، وداعيةٌ لمن دونه إلى التقرب إليك بمثل نصيحته. فإن ابتليت في بعض الأوقات بمن يضرب بحرمة ويمتُّ بدالة، يطلب المكافأة بأكثر مما يستوجب، فدعاك الكرم والحياء إلى تفضيله على من هو أحق منه، إما تخوفاً من لسانه، أو مداراةً لغيره، فلا تدع الاعتذار إلى من فوقه من أهل البلاء والنصيحة وإظهار ما أردت من ذلك لهم؛ فإن أهل خاصتك والمؤتمنين على أسرارك، هم شركاؤك في العيش، فلا تستهينن بشيءٍ من أمورهم؛ فإن الرجل قد يترك الشيء من ذلك اتكالاً على حسن رأي أخيه، فلا يزال ذلك يجرح في القلب وينمو، حتى يولد ضِغناً ويحول عداوة. فتحفظ من هذا الباب، واحمل إخوانك عليه بجهدك.

وستجد في من يتصل بك من يغلبه إفراط الحرص وحمياً الشره، ولين جانبك له، على أن ينقم العافية، ويطلب الُّلحوق بمنازل من ليس هو مثله، ولا له مثل دالته، فتلقاه لما تصنع به مستقلاً، ولمعرفتك مستصغراً. وصلاح من كانت هذه حاله بخلاف ما فسد عليه أمره. فاعرف طرائقهم وشيمهم، وداو كل من لا بد لك من معاشرته بالدواء الذي هو أنجع فيه، إن ليناً فليناً، وإن شدةً فشدة؛ فقد قيل في المثل: من لا يؤدبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه وقد قال بعض الحكماء: " ليس بحكيمٍ من لم يعاشر من لا يجد من معاشرته بداً، بالعدل والنَّصفة، حتى يجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً. فاحفظ هذه الأبواب التي يوجب بعضها بعضاً، وقد ضمنت لك أوائلها كون أواخرها. فاعرفها واقتبسها، واعلم أنه متى كان الأول منها وجب ما بعده لا بد منه. فاحذر المقدمات اللاتي يعقبها المكروه، واحرص على توطيد الأمور التي على أثرها السلامة، وألقح في البديِّ الأمور التي نتاجها العافية.

فمن الأمور التي يوجب بعضها بعضاً: المنفعة توجب المحبة، والمضرة توجب البغضاء، والمضادة توجب العداوة، وخلاف الهوى يوجب الاستثقال، ومتابعته توجب الألفة، والصدق يوجب الثقة، والكذب يورث التهمة، والأمانة توجب الطمأنينة، والعدل يوجب اجتماع القلوب، والجور يوجب الفرقة، وحسن الخلق يوجب المودة، وسوء الخلق يوجب المباعدة، والانبساط يوجب المؤانسة، والانقباض يوجب الوحشة، والتكبر يوجب المقت، والتواضع يوجب المقة، والجود بالقصد يوجب الحمد، والبخل يوجب المذمة، والتواني يوجب التضييع، والجد يوجب رخاء الأعمال، والهوينا تورث الحسرة، والحزم يورث السرور، والتغرير يوجب الندامة، والحذر يوجب العذر، وإصابة التدبير توجب بقاء النعمة، والاستهانة توجب التباغي، والتباغي مقدمة الشر وسبب البوار. ولكل شيء من هذا إفراط وتقصير، وإنما تصح نتائجها إذا أقيمت على حدودها، وبقدر ما يدخل من الخلل فيها يدخل فيما يتولد منها، لا بد منه

ولا مزحل عنه، عليه عادة الخلق، وبه جرت طبائعهم، وتمام المنفعة بها إصابة مواضعها: فالإفراط في الجود يوجب التبذير، والإفراط في التواضع يوجب المذلة، والإفراط في الكبر يدعو إلى مقت الخاصة، والإفراط في المؤانسة يدعو خلطاء السوء، والإفراط في الانقباض يوحش ذا النصيحة. وآفة الأمانة ائتمان الخانة، وآفة الصدق تصديق الكذبة، والإفراط في الحذر يدعو إلى ألا يوثق بأحد؛ وذاك ما لا سبيل إليه. والإفراط في المضرة مبعثةٌ على حربك، والإفراط في جر المنفعة غناءٌ لمن أفرطت في نفعه عنك. واحذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويسلبك الحذر، ويورثك الهوينا بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار، بذلك انزل كتابه، وأمضى سنته فقال: " خذوا حذركم "، "

ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ". وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل ". وسُئل ما الحزم؟ فقال: الحذر. فتحفظ من هذا الباب وأحكم معرفته إن شاء الله تعالى. واعلم أن أكثر الأمور إنما هو على العادة وما تضرى عليه النفوس، ولذلك قالت الحكماء: " العادة أملك بالأدب ". فرض نفسك على كل أمرٍ محمود العاقبة، وضرِّها بكل ما لا يذمّ من الأخلاق يصر ذلك طباعاً، وينسب إليك منه أكثر مما أنت عليه. واعلم أن الذي يوجب لك اسم الجود القيام بواجب الحقوق عند النوائب، مع بعض التفضل على الراغبين. وإذا أوجب لك اسم الجود زال عنك اسم البخل. واعلم أن تثمير المال آلةٌ للمكارم، وعونٌ على الدِّين، ومتألَّفٌ للإخوان؛ وأن من فقد المال قلت الرغبة إليه، والرهبة منه؛ ومن لم يكن بموضع رغبةٍ ولا رهبة استهان الناس بقدره.

فاجهد الجهد كله ألا تزال القلوب معلقةً منك برغبة أو رهبةٍ، في دينٍ أو دنيا. واعلم أن السَّرف لا بقاء معه لكثير، ولا تثمير معه لقليل، ولا تصلح عليه دنيا ولا دين. وتأديب بما أدب الله تعالى به نبيه فقال: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ". وقالت الحكماء: " القصد أبقى للجمام ". فداوم حالك وبقاء النعمة عليك، بتقديرك أمورك على قدر الزمان، وبقدر الإمكان؛ فقد قال الشاعر: من سابق الدهر كبا كبوةً ... لم يستقلها من خطى الدهر فاخط مع الدهر على ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري واعلم أن الصمت في موضعه ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أنك لم تصمت عنه عياً ولا رهبة. فليزدك في الصمت رغبةً ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين في غير الفرص، وهذر من أطلق لسانه بغير حاجة.

واعلم أن الجبن جبنان، والشجاعة شجاعتان، وليست تكون الشجاعة إلا في كل أمر لا يدرى ما عاقبته، يخاطر فيه بالأنفس والأموال. فإذا أردت الحزم في ذلك فلا تشجِّعنَّ نفسك على أمرٍ أبداً إلا والذي ترجو من نفعه في العاقبة أعظم مما تبذل فيه في المستقبل، ثم يكون الرجاء في ذلك أغلب عليك من الخوف. وها هنا موضعٌ يحتاج فيه إلى النظر: فإن كان ذلك أمراً واجباً في الدِّين، أو خوفاً لعارٍ تسبُّ به الأعقاب فأنت معذورٌ بالمخاطرة فيه بنفسك ومالك. وإن كان أمراً تعظم منفعته في الدنيا إلا أنك لا تناله إلا بالخطار بمهجة نفسك أو بتعريض كل مالك للتلف، فالإقدام على مثل هذا ليس بشجاعة، ولكن حماقةً بينةً عند الحكماء. وقد قالت علماء أوائل الناس: لا يرسل السَّاق إلا ممسكاً ساقا.

وقالوا: " لا تخرج الأمر كله من يدك وخذ بأحد جانبيه ". ثم الشجاعة والجبن في ذلك بقدر الحالات والأوقات. واعلم أن أصل ما أنت مستظهر به على عدوك ثلاث خلال: أشرفها: أن تأخذ عليه بالفضل وتبتدئه بالحسنى، فتكون عليه رحمةً ولنفسك ناظراً؛ فإن كثرة الأعداء تنغيصٌ للسرور، وقد قال الله تبارك وتعالى: " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم ". فإن كان عدوك مما لا يصلح على ذلك فحصن عنه أسرارك، وعم عليه آثار تدبيرك، ولا يطلعن على شيءٍ من مكايدتك له بقولٍ ولا فعل، فيأخذ حذره، ويعرف مواضع عوارك، فإنَّ تحصين الأسرار أخذٌ بأزمة التدبير، والإكثار من الوعيد للأعداء فشل. ولكن داج عدوك ما داجاك، وأحص معايبه ما لا حاك. وقال الشاعر: كلٌّ يداجى على البغضاء صاحبه ... زكنت منهم على مثل الذي زكنوا

واعلم أن أعظم أعوانك عليه الحجج ثم الفرصة، ثم لا تظهرن عليه حجةً، ولا تهتبل منه غرة، ولا تطلبن له عثرة، ولا تهتكنَّ له ستراً إلا عند الفرصة في ذلك كله، وفي المواضع التي يجب لك فيها العذر ويعظم فيها ضرره، إن كان العفو عنه شراً له. وإن كان ممن يظهر لك العداوة ويكشف لك قناع المحاربة، وكان ممن أعياك استصلاحه بالحلم والأناة، فلتكن في أمره بين حالين: استبطان الحذر منه، والاستعداد له وإظهار الاستهانة به. ولست مستظهراً عليه بمثل طهارتك من الأدناس، وبراءتك من المعايب. فلتكن هذه سيرتك في أعدائك. واعلم أن إشاعة الأسرار فسادٌ في كل وجهٍ من الوجوه، من العدو والصديق. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استعينوا على الحوائج بسترها؛ فإن كل ذي نعمة محسود ". وإذا أفشيت سرك فجاءت الأمور على غير ما تقدر كان ذلك منك فضلاً من قولك على فعلك. وقد قيل في الأمثال: " من أفشى سره كثر المتآمرون

عليه ". فلا تضع سرك إلا عند من يضره نشره كما يضرك، وينفعه ستره بحسب ما ينفعك. واعلم أنك ستصحب من الناس أجناساً متفرقةً حالاتهم، متفاوتةً منازلهم، وكلهم بك إليه حاجة، وكل طائفة تسد عنك كثيراً من المنافع لا يقوم به من فوقها، ولعلهم مجتمعون على نصيحتك والشفقة عليك. فمنهم من تريد منه الرأي والمشورة، ومنهم من تريده للحفظ والأمانة، ومنهم من تريده للشدة والغلظة، ومنهم من تريده للمهنة. وكلٌّ يسد مسده على حياله. وقد قيل في الحكمة: " إن الخلال تنفع حيث لا ينفع السيف ". ولا تُخلينَّ أحداً منهم - عظم قدره أو صغرت منزلته - من عنايتك وتعهدك بالجزاء على الحسنة، والمعاتبة عند العثرة؛ ليعلموا أنهم منك بمرأى ومسمع. ثم لا تجوزنَّ بأحدٍ منهم حده، ولا تدخله فيما لا يصلح له، تستقم لك حاله، ويتسق لك أمره. واعلم أنه سيمر بك في معاملات الناس حالاتٌ تحتاج فيها إلى مداراة أصناف الناس وطبقاتهم، يبلغ بك غاية الفضيلة فيها، وكمال العقل والأدب منها، أن تسالم أهلها وتملك نفسك عن هواها، وتكف من جماحها، بالأمر الذي لا يحرجك في دينك ولا عرضك ولا بدنك، بل يفيدك عزَّ الحلم، وهيبة الوقار. وهي أمور مختلفة، تجمعها حالٌ واحدة.

منها: أن تأتي محفلاً فيه جمعٌ من الناس، فتجلس منه دون للوضع الذي تستحقه حتى يكون أهله الذين يرفعونك، فتظهر جلالتك وعظم قدرك. ومنها: أن يفيض القوم في حديثٍ، عندك منه مثل ما عندهم أو أفضل، فيتنافسون في إظهار ما عندهم، فإن نافستهم كنت واحداً منهم، وإن أمسكت اقتضوك ذلك، فصرت كأنك ممتنٌّ عليهم بحديثك، وأنصتوا لك ما لم ينصتوا لغيرك. ومنها: أن يتمارى جلساؤك - والمراء نتاج اللجاجة وثمرةٌ أصلها الحمية - فإن ضبطت نفسك كان تحاكمهم إليك، ومعولهم عليك. واعلم أن طبع النفوس - إذ كان على حسب العلو والغلبة - أن في تركيبها بغض من استطال عليها. فاستدع محبة العامة بالتواضع، ومودة الأخلاء بالمؤانسة والاستشارة، والثقة والطمأنينة. واعلم أن الذي تُعامل به صديقك هو ضد ما تعامل به عدوك. فالصديق وجه معاملته المسالمة، والعدو وجه معاملته المداراة والمواربة، هما ضدان يتنافيان، يفسد هذا ما أصلح هذا، وكلما نقصت من أحد البابين زاد في صاحبه، إنْ قليلٌ فقليل، وإن كثيرٌ فكثير.

فلا تسلم بالمواربة صداقةٌ، ولا تظفر بالعدو مع الاستسلام إليه. فضع الثقة موضعها، وأقم الحذر مقامه، وأسرع إلى التفهم بالثقة، ولا تبادر إلى التصديق، ولا سيَّما بالمحال من الأمور. واعلم أن كل علمٍ بغائبٍ، كائناً ما كان، إنما يصاب من وجوهٍ ثلاثة لا رابع لها، ولا سبيل لك ولا لغيرك إلى غاية الإحاطات؛ لاستئثار الله بها. ولن تهنأ بعيشٍ مع شدة التحرز، ولن يتسق لك أمرٌ مع التضييع. فاعرف أقدار ذلك. فما غاب عنك مما قد رآه غيرك مما يدرك بالعيان، فسبيل العلم به الأخبار المتواترة، التي يحملها الوليُّ والعدوُّ، والصالح والطالح، المستفيضة في الناس، فتلك لا كلفة على سامعها من العلم بتصديقها. فهذا الوجه يستوي فيه العالم والجاهل. وقد يجيء خبرٌ أخصُّ من هذا إلا أنه لا يُعرف إلا بالسؤال عنه، والمفاجأة لأهله، كقوم نقلوا خبراً، ومثلك يحيط علمه أن مثلهم في تفاوت أحوالهم، وتباعدهم من التعارف، لا يمكن في مثله التواطؤ وإن جهل ذلك أكثر الناس. وفي مثل هذا الخبر يمتنع الكذب، ولا يتهيأ الاتفاق فيه على الباطل.

وقد يجيء خبرٌ أخصُّ من هذا، يحمله الرجل والرجلان ممن يجوز أن يَصدق ويجوز أن يكذب، فصدق هذا الخبر في قلبك إنما هو بحسن الظن بالمخبر، والثقة بعدالته. ولن يقوم هذا الخبر من قلبك ولا قلب غيرك مقام الخبرين الأولين أبداً. ولو كان ذلك كذلك بطل التصنع بالدِّين واستوى الظاهر والباطن من العالمين. ولما أن كان موجوداً في العقول أنه قد يفتش بعض الأمناء عن خيانةٍ، وبعض الصادقين عن كذبٍ، وأن مثل الخبرين الأولين لم يتعقب الناس في مثلهما كذباً قطُّ، علم أن الخبر إذا جاء من مثلهما جاء مجيء اليقين، وأن ما علم من خبر الواحد فإنما هو بحسن الظن والإئتمان. فهذه الأخبار عن الأمور التي تدركها الأبصار. فأما العلم بما غاب مما لا يدركه أحدٌ بعيان، مثل سرائر القلوب

وما أشبهما، فإنما يدرك علمها بآثار أفاعيلها وبالغالب من أمورها، على غير إحاطة كإحاطة الله بها. وأول العلم بكل غائبٍ الظنون، والظنون إنما تقع في القلوب بالدلائل، فكلما زاد الدليل قوي الظنُّ حتى ينتهي إلى غاية تزول معها الشكوك عن القلوب؛ وذلك لكثرة الدلائل، ولترادفها. فهذا غاية علم العباد بالأمور الغائبة. فمن عرف ما طبع عليه الخلق وجرت به عاداتهم، وعرف أسباب اتصالهم واتصاله بهم، وتقصى علل ذلك، كان خليقاً - إن لم يحط بعلم ما في قلوبهم - أن يقع من الإحاطة قريباً. واعلم أن المقادير ربما جرت بخلاف ما تقدِّر الحكماء، فنال بها الجاهل في نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا ينال الحازم الأريب الحذر. فلا يدعونك ما ترى من ذلك إلى التضييع والاتكال على مثل تلك الحال؛ فإن الحكماء قد أجمعت أن من أخذ بالحزم وقدم الحذر، فجاءت المقادير بخلاف ما قدر، كان عندهم أحمد رأياً وأوجب عذراً، ممن عمل بالتفريط وإن اتفقت له الأمور على ما أراد.

ولعمري ما يكاد ذلك يجيء إلا في أقل الأمور، وما كثر مجيءٌ السلامات إلا لمن أتى الأمور من وجوهها وإنما الأشياء بعوامها. فلا تكونن لشيءٍ مما في يدك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء، فعرفت مذاهبه وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناحيته؛ فإنما هو شقيق روحك وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك. ولست منتفعاً بعيشٍ مع الوحدة. ولا بد من المؤانسة، وكثرة الاستبدال تهجم بصاحبه على المكروه. فإذا صفا لك أخٌ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك! وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره، وقد قالت الحكماء: " من لك بأخيك كله "، و " أي الرجال المهذب ". ثم لا يمنعك ذلك من الاستكثار من الأصدقاء فإنهم جندٌ معدُّون

لك ينشرون محاسنك، ويحاجون عنك. ولا يحملنك استطراف صديق ثانٍ على ملالةٍ للصديق الأول؛ فأن ذلك سبيل أهل الجهالة، مع ما فيها من الدناءة وسوء التدبير، وزهد الأصدقاء جميعاً في إخائك. والله يوفقك. وستجد في الناس من قد جربته الرجال قبلك، ومحضه اختبارهم لك. فمن كان معروفاً بالوفاء في أوقات الشدة وحالات الضرورة، فنافس فيه واسبق إليه؛ فإن اعتقاده أنفس العقد. ومن بلاه غيرك فكشف عن كفر النعمة، والغدر عند الشدة، فقد حذرك نفسه وإن آنسك وكما غدر بغيرك يغدر بك؛ فإن من شيمته الوفاء يفي للصديق والعدو، ومن طبيعته الغدر لا يفي لأحد، وإنما يميل مع الرجحان: يذل عند الحاجة ويشمخ مع الاستغناء. فاحذر ذلك أشد الحذر. واعلم أن الحكماء لم تذم شيئاً ذمها أربع خلال:

الكذب فإنه جماع كل شر. وقد قالوا: لم يكذب أحدٌ قطُّ إلا لصغر قدر نفسه عنده. والغضب فإنه لؤمٌ وسوءُ مقدرة؛ وذاك أن الغضب ثمرةٌ لخلاف ما تهوى النفس، فإن جاء الإنسان خلاف ما يهوى ممن فوقه أغضى وسمى ذلك حزناً، وإن جاءه ذلك ممن دونه حمله لؤم النفس وسوء الطباع على الاستطالة بالغضب، والمقدرة والبسطة على البطش. والجزع عند المصيبة التي لا ارتجاع لها؛ فإنهم لم يجعلوا لصاحب الجزع في مثل هذا عذراً، لما يتعجل من غم الجزع مع علمه بفوت المجزوع عليه. وزعموا أن ذلك من إفراط الشره، وأن أصل الشره والحسد واحدٌ وإن افترق فرعاهما. وذموا الحسد كذمهم الجزع، لما يتعجل صاحبه من ثقل الاغتمام، وكلفة مقاساة الاهتمام، من غير أن يجدي عليه شيئاً. فالحسد اغتمام، والغدر لؤم. وقال بعض الحكماء: " الحسد خلقٌ دنيء، ومن دناءته أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب ". وزعموا أنه لم يغدر غادرٌ قط إلا لصغر همته عن الوفاء، وخمول قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.

وبقدر ما ذمت الحكماء هذه الأخلاق الأربعة، فكذلك حمدت أضدادها من الأخلاق، فأكثرت في تفضيلها الأقاويل، وضربت فيها الأمثال، وزعمت أنها أصلٌ لكل كرم، وجماعٌ لكل خير، وأن بها تنال جسام الأمور في الدنيا والدين. فاجعل هذه الأخلاق إماماً لك، ومثلاً بين عينيك، ورُضْ عليها نفسك، وحكمها في أمرك، تفز بالراحة في العاجل، والكرامة في الآجل. والصبر صبران: فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغنم في العاقبة. والحلم حلمان: فأشرفهما حلمك عمن هو دونك. والصدق صدقان: أعظمهما صدقك فيما يضرُّك. والوفاء وفاءان: أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه. فإن من عرف بالصدق صار الناس له أتباعاً، ومن نسب إلى الحلم ألبس ثوب الوقار والهيبة وأبهة الجلالة، ومن عرف بالوفاء استنامت بالثقة به الجماعات ومن استعز بالصبر نال جسيمات الأمور. ولعمري ما غلطت الحكماء حين سمتها أركان الدين والدنيا. فالصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان، فهن تمام كل

دين، وصلاح كل دنيا. وأضدادهن سبب كل فرقة، وأصل كل فساد. واحذر خصلة رأيت الناس قد استهانوا بها، وضيعوا النظر فيها، مع اشتمالها على الفساد، وقدحها البغضاء في القلوب، والعداوة بين الأوداء: المفاخرة بالأنساب؛ فإنه لم يغلط فيها عاقلٌ قط، مع اجتماع الإنس جميعاً على الصورة وإقرارهم جميعاً بتفرق الأمور المحمودة والمذمومة من الجمال والدمامة، واللؤم والكرم، والجبن والشجاعة، في كل حين، وانتقالهما من أمةٍ إلى أمة، ووجود كل محمود ومذموم في أهل كل جنسٍ من الآدميين. وهذا غير مدفوع عند الجميع. فلا تجعلن له من عقلك نصيباً، ولا من لسانك حظاً، تسلم بذلك على الناس أجمعين، مع السلامة في الدين. واعلم أنك موسومٌ بسيما من قارنت، ومنسوبٌ إليك أفاعيل من صاحبت. فتحرز من دخلاء السوء، ومجالسة أهل الريب، وقد جرت لك في ذلك الأمثال، وسطرت لك فيه الأقاويل، فقالوا: " المرء حيث يجعل نفسه "، وقالوا: " يظن المرء ما ظن بقرينه "، وقالوا: " بالمرء بشكله، والمرء بأليفه ". ولن تقدر على التحرز من جماعة الناس، ولكن أقل المؤانسة

إلا بأهل البراءة من كل دنس. واعلم أن المرء بقدر ما يسبق إليه يعرف، وبالمستفيض من أفعاله يوصف، وإن كان بين ذلك كثيرٌ من أفعاله ألغاه الناس وحكموا عليه بالغالب من أمره. فاجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفاعيلك كل ما تحمده العوام ولا تذمه الجماعات، فإن ذلك يعفى على كل خلل إن كان. فبادر ألسنة الناس فاشغلها بمحاسنك، فإنهم إلى كل سيءٍ سراع، واستظهر على من دونك بالتفضل، وعلى نظرائك بالإنصاف، وعلى من فوقك بالإجلال. تأخذ بوثائق الأمور، وأزمة التدبير. واعلم أن كثرة العتاب سببٌ للقطيعة، واطراحه كله دليلٌ على قلة الاكتراث لأمر الصديق. فكن فيه بين أمرين: عاتبه فيما تشتركان في نفعه وضره وذلك في الهينات، وتجاف له عن بعض غفلاته تسلم لك ناحيته. وبحسب ذلك فكن في زيارته، فإن الإلحاح في الزيارة يذهب بالبهاء، وربما أورث الملالة؛ وطول الهجران يعقب الجفوة، ويحلُّ عقدة

الإخاء، ويجعل صاحبه مدرجة للقطيعة وقد قال الشاعر: إذا ما شئت أن تسلى حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي فما يسلي حبيبك مثل نأيٍ ... ولا يبلى جديدك كابتذال وزر غِبّاً إذا أحببت خلا ... فتحظى بالوداد مع اتصال واقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجري عليك أهل الدناءة. وإن التقصير فيه يقبض عنك المؤانسين. فإن مزحت فلا تمزح بالذي يسوء معاشريك. وأنا أوصيك بخلقٍ قلّ من رأيته يتخلق به، وذاك أنّ محمله شديد، ومرتقاه صعب، وبسبب ذلك يورث الشرف وحميد الذكر: ألا يحدث لك انحطاط من حطت الدنيا من إخوانك استهانةً به، ولا لحقه إضاعة، ولما كنت تعلم من قدره استصغاراً؛ بل إن زرته قليلاً كان أشرف لك، وأعطف للقلوب عليك. ولا يحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذللاً وإيثاراً له على نظرائه في الحفظ والإكرام؛ بل لو انقبضت عنه كان مادحك أكثر من ذامك، وكان هو أولى بالتعطّف عليك، إلا أن يكون مسلطاً تخاف شذاه ومعرته، وترجو عنده جرّ منفعةٍ لصديق، أو دفع مضرةٍ

عنه، أو كبتاً لعدو وإنزال هوانٍ به، فإن السلطان وخيلاءه وزهوه يحتمل فيه ما لا يجوز في غيره، ويعذر فيه ما لا يعذر في سواه. واعلم أن نشر محاسنك لا يليق بك، ولا يقبل منك، إلا إذا كان القول لها على ألسن أهل المروءات، وذوي الصدق والوفاء، ومن ينجع قوله في القلوب ممن يستنام إلى قوله، ويصدق خبره، وممن إن قال صدق، أو مدح اقتصد، يثنى بقدر البلاء، فإن إشراف الثناء على قدر النعمة يولّد في القلوب التكذيب، ويدل على طلب المزايد. فأما ثناء المادحين لك في وجهك، فإنما تلك أسواقٌ أقاموها للأرباح، وساهلوك في المبايعة، ولم يكن في الثناء عليهم كلفة، لكساد أقاويلهم عند الناس. أولئك الصادقون عن طرق المكارم، والمثبطون عن ابتناء المعالى. فارتد لنعمك مغرساً تنمو فيه فروعها، وتزكو ثمرتها، لا تذهب نفقتك ضياعاً، إما لعاجلٍ تقدمه، أو لآجلِ ثناء تنتفع به. ولن تعدم أن يفجأك في بعض أحوالك حقوقٌ تبهظك، وأحوالٌ تفدحك، وأمورٌ كلها تتقسم عنايتك، وفي التثبت في مثلها تُعرف فضيلتك،

فلا تستقبلها بالتضجع وتفتير الرأى، وابدأ منها بأعظمها منفعةً، وأشدها خوف ضرر. وكل ما أعجزك إلى الكفاة، واعتذر من تقصيرٍ إن كان؛ فإن الاعتذار يكسر حُمياً اللائمة، ويردع شذاة الشرة. ثم تلاف بعد انكشاف ذلك عنك ما فاتك، واجهد الجهد كله أن تكون مخارج الحقوق اللازمة لك من عندك سهلةً، موصولةً لأصحابها ببشرك وطلاقة وجهك؛ فقد زعمت الحكماء أن القليل مع طلاقة الوجه أوقع بقلوب ذوى المروءات من الكثير مع العبوس والانقباض. وقد قال بعض الحكماء: " غاية الأحرار أن يلقوا ما يحبون ويحرموا، أحب إليهم من أن يلقوا ما يكرهون ويعطوا ". وما أبعدوا عن الحق. ولا يدعونك كفر كافرٍ لبعض نعمك ممن آثر هواه على دينه

ومروءته، أو غدرة غادرٍ تصنع لك وختلك عن مالك، أن تزهد في الإنعام، وتسيء بثقاتك الظنون؛ فإن هذا موضع يجد الشيطان في مثله الذريعة إلى استفساد الصنائع، وتعطيل المكارم. واعلم أن استصغارك نعمك يكبرها عند ذوى العقول، وسترك لها نشرٌ لها عندهم؛ فانشرها بسترها، وكبرها باستصغارها. واعلم أن من الفعل أفاعيل وإن عظمت منافعها، ومنافع أضدادها فلإيثارها فضيلة على كل حال. فاجعل صمتك أكثر من كلامك؛ فإنه أدل على حكمتك. واجعل عفوك أكثر من عقوبتك؛ فإن ذلك أدل على كرمك. ولا تفرطن فيه كل الإفراط حتى تطرح الكلام في موضعه، والتأديب في أوانه. واعلم أن لكل امرئ سيداً من عمله، قد ساهلته فيه نفسه وسلس له فيه هواه، فتحفظ ذلك من نفسك، وتقاضها الزيادة فيه، ورضها على تثميره والمواظبة عليه. واحذر الحذر كله الاغترار بأمور ثلاثة؛ فإن من عطب بها كثير، وتلافيها صعب شديد:

أحدها: ألا تولى جسائم تصرفك وتقلدمهم أمورك ووثائق تدبيرك إلا امرأً صلاحه موصول بصلاحك، وباء النعمة عليك هو بقاء النعمة عليه. أو أن تأنس أو تغتر بمن تعلم أن بصلاحك فساده، وبارتفاعك انحطاطه، وبسلامتك عطبه؛ فإن من كان هكذا فأنت ملك موته. فبحسب ذلك فليكن عندك. أو أن تجعل مالك كله في عقدة واحدة، أو حيز واحد، أو وجه منفرد، إن اجتاحته جائحةٌ أو نابته نائبة بقيت حسيراً. وقد قال بعض الحكماء: " فرقوا المنية "، و " اطلبوا الأرباح بكل شعب ". واعلم أنه ليس من الأخلاق التي ذمتها الحكماء خلق إلا وقد ينفع في بعض الحالات، ويرد به شكله، ويقام بإزاء مثله، ويدافع به نظيره. إنك ستمنى بصحبة السلطان الحازم العادل، وبصحبة السلطان الأخرق الجهول الغشوم. فالحازم العادل يسوسه لك الأدب والنصح، والأخرق تسوسه لك الحلة والرفق. العادل يعضدك منه ثلاث، وتصبر نفسه لك على ثلاث:

فاللواتي يعضدنك: تسليط العدل وإنفاذ الحكومة - وفي ذلك صلاح الرعية - وإثابة المحسنين الذين إثابتهم تحصين البيضة والسبل، والعفو ما بلغ به الاستصلاح، واكتفى به من البسط. واللواتي تصبر نفسه لك عليهن: الهوى إلى ما وافق الرأي، وأمضى الرأي إلا بعد التثبت حتى تعاونه عليه النصحاء. ولكني أوصيك برياضة نفسك حتى تذللها على الأمور المحمودة؛ فإن كل أمر ممدوح هو مما تستثقل النفوس. ومما تسر به وتنقلب إليه الأخلاق المذمومة. فإن أهملتها وإياها غلبت عليك، لأنها فيها طبيعة مركبة، وجبلة مفطورة. فلتكن المساهلة في أخلاقك أغلب عليك من المعاسرة، والحلم أولى بك من العجلة، والصبر الحاكم عليك دون الجزع، والعفو أسبق إليك من المجازاة بالذنوب، والمكافأة بالسوء. وكذلك سائر الأخلاق المحمودة والمذمومة، فلتكن محموداتها غالبة على أفعالك، محكمة في أمورك فإنك إن ضبطت ذلك، وقومت عليه نفسك، عشت رخي البال، قليل الهموم، كثير الصديق قليل

العدو، سليم الدين، نقي العرض، محمود الفعال، جميل الأحدوثة في حياتك وبعد وفاتك، وكنت بموضع الرجاء أن يصل الله لك السلامة الآجلة بالنعمة العاجلة، إن شاء الله عز وجل. أسأل الله المبتدئ بكل نعمة، والمتولى لكل إحسان، أن يصلي على محمد خيرته من خلقه، وصفوته من بريته، وأن يتم عليك نعمته، ويشفع لك ما خوَّلك من نعمته بالنعمة التي يؤمن معها الزوال، في جواره ومرافقة أنبيائه. والسلام عليك ورحمة الله.

الرسالة الثالثة كتاب كتمان السر وحفظ اللسان

الرسالة الثالثة كتاب كتمان السر وحفظ اللسان

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني قد تصفحت أخلاقك، وتدبرت أعراقك، وتأملت شيمك، ووزنتك فعرفت مقدارك، وقومتك فعلمت قيمتك، فوجدتك قد ناهزت الكمال، وأوفيت على التمام، وتوقلت في درج الفضائل، وكدت تكون منقطع القرين، وقاربت أن تلفى عديم النظير، لا يطمع فاضلٌ أن يفوتك، ولا يأنف شريفٌ أن يقصر دونك، ولا يخشع عالمٌ أن يأخذ عنك. ووجدتك في خلال ذلك على سبيل تضييعٍ وإهمال لأمرين هما القطب الذي عليه مدار الفضائل، فكنت أحق بالعذل، وأقمن بالتأنيب ممن لم يسبق شأوك، ولم يتسنم رتبتك؛ لأنه ليس ملوماً على تضييع القليل من قد أضاع الكثير، ولا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره، ولا يحاسب على الزلة الواحدة من لا يعدم منه الزلل والعثار، ولا ينكر المنكر على من ليس من أهل المعروف؛ لأن المنكر إذا كثر صار معروفاً، وإذا صار معروفاً صار المنكر المعروف منكرا. وكيف يعجب ممن أمره كله عجب، وإنما الإنكار والتعجب ممن خرج عن مجرى العادة، وفارق السنة والسجية، كما قال الأول: " خالف تُذكر ".

وقيل: " الكامل من عدت سقطاته "، وقيل: " من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه خيراً من غده فهو مفتون، ومن كان غده خيراً من يومه فذلك السعيد المغبوط ". وفي هذا المعنى قال الشاعر: رأيتك أمس خير بني معدٍّ ... وأنت اليوم خيرٌ منك أمس وأنت غداً تزيد الضعف خيراً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس وقال آخر في معن: أنت امرؤٌ همك المعالي ... ودلو معروفك الربيع وأنت من وائلٍ صميمٌ ... كالقلب تُحنى له الضلوع في كل عام تزيد خيراً ... يشيعه عنك من يشيع والأمران اللذان نقمتهما عليك: وضع القول في غير موضعه، وإضاعة السر بإذاعته. وليس الخطر فيما أسومك وأحاول حملك عليه بسهلٍ ولا يسير. وكيف وأنا لا أعرف في دهري - على كثير عدد أهله - رجلاً واحداً ممن ينتحل الخاصة، وينسب إلى العلية، ويطلب الرياسة ويخطب السيادة، ويتحلى

بالأدب ويديم الثخانة والزماتة، والحلم والفخامة، أرضى ضبطه للسانه، وأحمد حياطته لسره. وذلك أنه لا شيء أصعب من مكابدة الطبائع، ومغالبة الأهواء؛ فإن الدولة لم تزل للهوى على الرأي طول الدهر. والهوى هو الداعية إلى إذاعة السر، وإطلاق اللسان بفضل القول. وإنما سُمِّي العقل عقلاً وحجراً، قال تعالى - " هل في ذلك قسمٌ لذي حجر " - لأنه يزم اللسان ويخطمه، ويشكله ويربثه، ويقيد الفضل ويعقله عن أن يمضي فُرطاً في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يُعقل البعير، ويحجر على اليتيم. وإنما اللسان ترجمان القلب، والقلب خزانة مستحفظة للخواطر والأسرار، وكل ما يعيه من ذلك عن الحواس من خير وشر، وما تولده الشهوات والأهواء، وتنتجه الحكمة والعلم. ومن شأن الصدر - على أنه ليس وعاء للأجرام، وإنما يعي بقدرةٍ من الله لا يعرف العباد كيف هي - أن يضيق بما فيه، ويستثقل ما حمل

منه، فيستريح إلى نبذه، ويلذ إلقاءه على اللسان. ثم لا يكاد أن يشفيه أن يخاطب به نفسه في خلواته حتى يفضي به إلى غيره ممن لا يرعاه ولا يحوطه. كل ذلك ما دام الهوى مستولياً على اللسان، واستعمل فضول النظر فدعت إلى فضول القول. فإذا قهر الرأي الهوى فاستولى على اللسان، منعه من تلك العادة، ورده عن تلك الدربة، وجشمه مؤونة الصبر على ستر الحلم والحكمة. ولا شيء أعجب من أن المنطق أحد مواهب الله العظام، ونعمه الجسام، وأن صاحبها مسؤولٌ عنها، ومحاسب على ما خوِّل منها، أوجب الله عليه استعمالها في ذكره وطاعته، والقيام بقسطه وحجته، ووضعها مواضع النفع في الدين والدنيا، والإنفاق منها بالمعروف لفظةً ولفظة، وصرفها عن أضدادها. فلم يرض الإنسان أن عطلها عما خُلقت له مما ينفعه حتى استعملها في ضد ذلك مما يضرُّه، فاجتمع عليه الإثمان اللذان اجتمعا على صاحب المال الذي كنزه ومنعه من حقه، فوجب عليه إثم المنع وإن كان لم يصرفه في معصية، ثم صرفه في أبواب الباطل والفسق فوجب عليه إثم الإنفاق فيها. وهذه غاية الغبن والخسران. نعوذ بالله منها. فاللسان أداةٌ مستعملة، لا حمد له ولا ذمَّ عليه، وإنما الحمد للحلم واللوم على الجهل. فالحلم هو الاسم الجامع لكل فضل، وهو سلطان العقل القامع للهوى. فليس قمع الغضب وتسكين قوة الشَّرَّة، وإسقاط طائر الخرق بأحق بهذا الاسم، ولا أولى بهذا الرسم، من قمع فرط الرضا وغلبة الشهوات،

والمنع من سوء الفرح والبطر، ومن سوء الجزع والهلع، وسرعة الحمد والذم، وسوء الطبع والجشع، وسوء مناهزة الفرصة، وفرط الحرص على الطلبة، وشدة الحنين والرقة، وكثرة الشكوى والأسف، وقرب وقت الرضا من وقت السخط، ووقت السخط من وقت الرضا؛ ومن اتفاق حركات اللسان والبدن على غير وزن معلوم ولا تقدير موصوف، وفي غير نفع ولا جدىً. واعلم يقينأً أن الصمت سرمداً أبداً، أسهل مراراً - على ما فيه من المشقة - من إطلاق اللسان بالقول على جهة التحصيل والتمييز، والقصد للصواب، لما قدمنا ذكره من علة مجاذبة الطباع؛ ولأن من طبع الإنسان محبة الإخبار والاستخبار. وبهذه الجبلة التي جبل عليها الناس نُقلت الأخبار عن الماضين إلى الباقين، عن الغائب إلى الشاهد، وأحب الناس أن ينقل عنهم، ونقشوا خواطرهم في الصخور، واحتالوا لنشر كلامهم بصنوف الحيل. وبذلك ثبتت حجة الله على من لم يشاهد مخارج الأنبياء، ولم يحضر آيات الرسل، وقام مجيء الأخبار عن غير تشاعر ولا تواطؤ مقام العيان؛ وعرفت البلدان والأقطار والأمم والتجارات والتدبيرات والعلامات؛

وصار ما ينقله الناس بعضهم عن بعض ذريعة إلى قبول الإخبار عن الرسل، وسلماً إلى التصديق، وعوناً على الرضا بالتقليد. ولولا حلاوة الإخبار والاستخبار عند الناس لما انتقلت الأخبار وحلت هذا المحل. ولكن الله عز وجل حببها إليهم لهذا السبب، كما جعل عشق النساء داعيةً للجماع، ولذة الجماع سبيلاً للنسل، والرقة على الولد عوناً على التربية والحضانة - وبهما كان النشوّ والنماء - وحب الطعام والشراب سبباً للغذاء، والغذاء سبباً للبقاء وعمارة الدنيا. فعسر على الإنسان الكتمان لإيثار هذه الشهوة، والانقياد لهذه الطبيعة؛ وكانت مزاولة الجبال الراسيات عن قواعدها أسهل من مجاذبة الطباع. فاعتراه الكرب لكتمان السر، وغشيه لذلك سقم وكمد يحسُّ به في سويداء قلبه بمثل دبيب النمل، وحكة الجرب، ومثل لسع الدبر ووخز الأشافي، على قدر اختلاف مقادير الحلوم والرزانة والخفة. فإذا باح بسره فكأنه أنشط من عقال. ولذلك قيل: " الصدر إذا نفث برأ " مثلاً مضروباً لهذه الحال. وقيل: " ولا بدَّ من شكوى إذا لم يكن صبرُ ".

وليس قولنا " طبع الإنسان على حب الإخبار والاستخبار " حجةً له على الله، لأنه طبع على حب النساء ومُنع الزنى، وحبب إليه الطعام ومُنع من الحرام. وكذلك حُبِّب إليه أن يخبر بالحق النافع ويستخبر عنه، وجعلت فيه استطاعة هذا وذاك، فاختار الهوى على الرأْي. ومما يؤكد هذا المعنى في كرب الكتمان وصعوبته على العقلاء فضلاً عن غيرهم، ما رووه عن بعض فقهائهم أنه كان يحمل أخباراً مستورة لا يحتملها العوامّ، فضاق صدره بها، فكان يبرز إلى العراء فيحتفر بها حفيرةً يودعها دنّاً، ثم ينكب على ذلك الدّنّ فيحدثه بما سمع، فيروح عن قلبه، ويرى أن قد نقل سره من وعاء إلى وعاء. وكان الأعمش سيئ الخلق غلقاً، وكان أصحاب الحديث يضجرونه ويسومونه نشر ما يحب طيَّه عنهم، وتكرار ما يحدثهم به، ويتعنتونه، فيحلف لا يحدثهم الشهر والأكثر والأقلَّ، فإذا فعل ذلك ضاق صدره بما فيه، وتطلعت الأخبار إلى الخروج منه، فيقبل على شاةٍ كانت له فيحدثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول: " ليت أني كنت شاة الأعمش ".

وشكا هشام بن عبد الملك ما يجد من فقد الأنيس المأمون على سره فقال: أكلت الحامض والحلو حتى ما أجد لهما طعماً، وأتيت النساء حتى ما أبالي أمرأةً لقيت أم حائطاً، فما بقيت لي لذة إلا وجود أخٍ أضع بيني وبينه مؤونة التحفظ. وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما اللذة؟ قال: تأمر شباب قريش أن يخرجوا عنا. ففعل، فقال: اللذة طرح المروءة. وقد صدق عمرو، ما تكون الزماتة والوقار إلا بحملٍ على النفس شديد، ورياضةٍ متعبة. وقال بعض الشعراء: ألم تر أن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيحٍ نصيحا والسر - أبقاك الله - إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذنٍ واحدةٍ فليس حينئذ بسرٍّ، بل ذاك أولى بالإذاعة، ومفتاح النشر والشهرة. وإنما بينه وبين أن يشيع ويستطير أن يدفع إلى أذنٍ ثانية. وهو مع قلة المأمونين عليه، وكرب الكتمان، حريٌّ بالانتقال إليها في طرفة عين.

وصدر صاحب الأذن الثانية أضيق، وهو إلى إفشائه أسرع، وبه أسخى وفي الحديث به أعذر، والحجة عنه أدحض. ثم هكذا منزلة الثالث من الثاني، والرابع من الثالث أبداً إلى حيث انتهى. هذا أيضاً إذا استعهد المحدَّث واستكتم، وكان عاقلاً حليماً، وناصحاً وإذاً، فكيف إذا أخبر ولم يؤمر بالكتمان، وكان ممن يمشي بالنمائم ويحبُّ إفشاء المعايب، وكان ممن ينطوي على غشٍّ أو شحناء، أو كان له في إظهاره اجتلاب نفعٍ أو دفع ضرر. فاللوم إذ ذاك على صاحب السر أوجب، وعمن أفضى به إليه أنزل؛ لأنه كان مالكاً لسره فأطلق عقاله، وفتح أقفاله، وسرحه فأفلت من قيده ووثاقه، وصار هو العبد القنَّ المملوك لمن ائتمنه على سرِّه، وملَّكه رقّ رقبته؛ فإن شاء أحسن ملكته لحفظ ذلك السر فجزّ ناصيته، وجعله رهينةً ليوم عتبه عليه. وقل من يحسن الملكة، ويحرس الحرِّيَّة أو يضبط نفسه؛ فإنه ربما لم يخرجه غِشّاً فأخرجه سخفاً وضعفا. وإن أساء الملكة وختر الأمانة فأطلق السر واسترعاه من هو أشد له إضاعة، فسفك الدم وأنال النعم وكشف العورة وفرق بين الجميع، وإن كان المضيع لسره ألوم. قال الشاعر:

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق فمن أسوء حالً، وأخسر مكاناً، وأبعد من الحزم، ممن كان حرّاً مالكاً لنفسه فصيَّر نفسه عبداً مملوكاً لغيره، مختاراً للرق، من غير أسرٍ ولا قسر! والعبيد لم يصبروا على الرق إلا بذلّ الأسر والسِّباء. ومن كان سره مصونأً في قلبه يطلب إليه في الحديث به فأخرجه عن يده، صار هو الطالب الراغب إلى من لا يوجب له طاعة، ولا يفكر له في عاقبة، ولا يتحرز له من مصيبة. وكلما كانت إذاعته لأسراره أكثر كان عدد مواليه أكثر، وشقاؤه بخدمتهم أدوم. فإذا كان أصل السر معلوماً عند عدةٍ أو أقل من العدّة، فما أعسر استتاره. غير أنه لا لوم على صاحب الخيانة فيه إذا كان ليس هو الذي أفشاه، ولا من قبله علم. ولو أن أوزن الناس حلماً ملك لسانه وحصَّن سره وقلَّل لفظه، ما قدر على أن يملك لحظ عينيه، وسحنة وجهه، وتغير لونه، وتبسُّمه أو قطوبه، عند ما يجري بلبه من ذكر ذلك السر، أو يخطر بباله منه، فيبدو في وجهه

ومخالبه إذا عرّض بذكره، أو سنح له نظيرٌ أو مثيل، أو حضر من له فيه سببٌ إلا بعد التصنُّع الشديد، والتحفظ المفرط. فإذا كان يعرف من هذه الجهات وماأشبهها، ويطلع عليها بتظنُّن المرجِّمين، والمتعقِّبين للأفعال والأقوال، والنظر في مصادر التدبير ومخايل الأمور، فيفشو من هذه الجهات أكثر مما تفشيه ألسن المذاييع البذر. فكيف إذا أطلق به اللسان، وعوِّد إذاعته القلب، والعادة أملك بالأدب. وربما أدركه الحدس، وقيضه الظنّ، فنالت صاحبه فيه خدعة، بأن يذكر له طرفٌ منه، ويوهم أنه قد فشا وشاع، فيصدِّق الظنَّ فيجعله يقيناً، ويفسِّر الجملة فيصيِّرها تفصيلا، فيهلك نفسه ويوبقها. وربَّ كلامٍ قد ملأ بطون الطوامير قد عُرف جملته وما فيه الضَّرر

منه، بسحاءة أو طابع، أو لحظة مطلعٍ في الكتاب، أو حرفٍ تبيَّن من ظهره. فاستيقظ عند هذه الأحوال، واستعمل سوء الظَّنّ بجميع الأنام؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحزم سوء الظَّنّ ". وقيل لثقيف: بم بلغتم من الشَّرف والسؤدد؟ قالوا: بسوء الظَّنّ. فلا تعتمد على رجل في سرِّك تحمد عقله دون أن تحمد ودَّه ونصحه؛ فإنَّ الأمر في ذلك كما قال الشاعر: وما كلُّ ذي لبٍّ بمؤتيك نُصحَه ... ولا كلُّ مؤتٍ نصحه بلبيبِ ولقد استحسن الناس من بعض رجال العراق أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأوقع بالحجَّاج عنده وسبَّه، فلما خرج من عنده خبَّر بما كان منه لبعض أصحابه، فلامه وأنَّبه وقال: ما يؤمنك أن يخبر أمير المؤمنين عبد الملك الحجاج بما قلت فيه - ومرجعك إلى العراق - فيضغنه عليك؟ قال: كلا، والله إني ما رطلت يدي قط أحداً أرزن منه. هذا والله - أبقاك الله - الغلط البين، والعذر الملفق، وتحسين فارط

الخطأ؛ لأنه ليس كل راجحٍ وعاقلٍ بناصحٍ لصاحب السر، ولو كان أخوه كذلك كان أمره إليه أهمّ، وشأنه أولى. والأعلى من الناس لا يكلف الأدنى هذه المؤونة، وإنما يفعلها الأدنون بالأعلين رغبةً ورهباً، وتحسناً عندهم بحاجتهم إليهم. وأكثر ما يذيع أسرار الناس أهلوهم وعبيدهم، وحاشيتهم وصبيانهم، ومن لهم عليهم اليد والسلطان. فالسر الذي يودعه خليفةٌ في عاملٍ له يلحقه زينه وشينه، أخرى ألا يكتمه. وهذا سبيل كل سرٍ يستودعه الجلة والعظماء، ومن لا تبلغه العقوبة ولا تلحقه اللائمة. وقال سليمان بن داود في حكمته: ليكن أصدقاؤك كثيراً، وصاحب سرك واحداً من ألف. وليس معنى الحديث أن تعد ممن تعرف ألفاً وتقضي إلى واحد بسرك إنْ لم يكن ذلك الواحد موضعاً للأمانة في السر. لكنه قيل: رجلٌ يساوي ألف رجل، ورجلٌ لا يساوي رجلاً. وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبلٍ مائةٍ لا يوجد فيها راحلةٌ ". فكل ذلك يراد به أنَّ الفضل قليل والنقص قليل لا على نسب ما يتلقاه الاجتماع من هذه الأعداد؛ لأنَّا قد نجد الرجل يوزن بالأمة، ونجد الأمة لا تساوي قلامة ظفر الرجل.

فإذا كان من تقع عليه الشَّريطة معدوماً - سيما من يوثق بحلمه وعقله، وأمانته ونصحه، ومن لا ضرر عليه ولا نفع له في السر الذي يضمر ولا يحرَّم عليه كتمانه، ومن قد وأى على نفسه بالسِّرِّ والحفظ؛ فإنه ليس كلُّ من ضمِّن فلم يضمن ضامناً، ولا من استودع فلم يقبل مستحفظاً، ولا من استخلف فلم يخلف خائناً، وإنما يلحقه الحمد والذم؛ والأجر والإثم إذا ضمن الأمانة ثم خترها - فكأن القوم قالوا: لا تودعن سرك أحداً. وإلا فمتى تجد رجلاً فيه الصفة التي وصف بها مسكينٌ الدارمى نفسه حيث يقول: إني امرؤ منِّي الحياء الذي ترى ... أنوء بأخلاقٍ قليل خداعها أواخى رجالاً لست أُطلِع بعضهم ... على سرِّ بعضٍ غير أنِّي جماعها يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرةٍ أعيا الرجال انصداعها وقيل لرجلٍ: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجعل قلبي له قبراً أدفنه فيه إلى يوم النشور.

وقال الآخر: وأكتم السِّرَّ فيه ضربة العنق. وهذه صفاتٌ موجودةٌ بالأقوال، معدومة بالأفعال. والمغرور من اغتر بما يعده الواعد منها دون أن يبلو الخبر. والذي جربناه ووجدناه: أن من يفضى إليه بالشيء، يبلغ من إذاعته ونشره ما لا يبلغه الرسول المستحفظ المعنيّ بتبليغ الرسالة، المحمود المجازى على أدائها؛ حتى ربما كان يبلغ في الإذاعة لمن أرادها أن يقصد للبلاغة من الرجال، المعروف بالنميمة والتقتيت، فيوهمه أنه قد استحفظه السرَّ، فيشيع على لسانه كما يشيع الضوء في الظلمة. وهذا فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أحبَّ أن يشيع إسلامه فقال: من أنمُّ أهل مكة؟ قيل له: جميل بن النحيت. فأتاه فأخبره بإسلامه وسأله أن يكتمه عليه، فلم يُمسِ وبمكة أحدٌ لم يعلم بإسلام عمر، رضي الله عنه.

ثم يكون من أكثر الأعوان على إظهار السرِّ الاستعهاد له، والتحذير من نشره؛ فإن النهي أغرى؛ لأنه تكليف مشقة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظرٌ، والنفس طيَّارة متقلِّبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق. ولعل رجلاً لو قيل له: لا تمسح يدك بهذا الجدار - وهو لم يمسحها به قطُّ - غرى بأن يفعل. وكذلك ما حُدَّث به من السر فلم يؤمر بستره، لعله ألا يخطر بباله؛ لأنه موجود في طبائع الناس الولوع بكلِّ ممنوع، والضجر بكل محصول. فنريد أن نعلم: لم صار الإنسان على ما منع - وإن كان لا ينفعه - أحرص منه على ما أبيح من غير علة ولا سبب إلا امتهان ما كثر عليه، واستطراف ما قلَّ عنده؟ ولم أقبل على من ولّى عنه وولَّى عمن أقبل عليه؟ ولم. قالوا: إذا جدَّت المسألة جدَّ المنع؟ وقال الشاعر: الحر يُلحى والعصا للعبد ... وليس للمُلْحِف مثل الرَّدِّ ولم صار يتمنَّى الشيء وينذر فيه النذور، ويتقطع إليه شوقاً، فإذا ظفر به صد عنه وأخلق عنه؟ ولم زهد الملوك فيما في أيديهم ورغبوا فيما في أيدي الناس؟ فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل لكل نفسٍ مبلغاً من الوسع لا يمكنها تجاوزه، ولا تتسع لأكثر منه. فكان معها فيما دون الوسع الفقر

وخوف الإخوان، وفيما تجاوزه عز الغنى وأمن العدم. وبهذا وبمثله من ومن البخل والحرص استخفت من احتاج إليها، وأعظمت من استغنى عنها. وجعلها تواقة مشتاقة، متطرفة ملالة، كثيرة النزاع والتقلب، تستحكم عليها الفتنة، ويبلى خيرها من شرها وصبرها من جزعها. ولولا هذه الخلال سقطت المحن، فهي تعظم القليل بالضرورة إليه إن كان من أقواتها، أو لشدة النزاع والشوق إن كان من طرف شهواتها؛ فإن صنوف الشهوات كثيرة، ولكل صنفٍ منها أهل لا يحلفون بما سواه. وتتعجب من الغريب النادر، ويضحكها البديع الطارئ. إلا أنه إذا كثر الغريب صار قريباً، وإذا تجاوز المطلوب مقدار وسعها وحاجاتها فصار ظهرياً وفضلاً استخفت به وقل في أعينها كثيره. وأعظم الأشياء عندها قدراً ما اشتد إليه الفقر والحاجة وإن قل قدره، وأهونها عليها ما استغنى عنه وإن عظم خطره. وجعل لما تتوق إليه وتشتاقه مكاناً من قواها، له. فإذا امتلأ ذلك المكان سروراً، وقضى ذلك الأرب وطراً مما كان طمح إليه، وروى مما كان ظامئاً إليه، انصرف عنه وقلاه، وحال عشقه بغضاً، وشوقه ملالاً. والعلة في ذلك أن الدنيا دار زوالٍ وملال، ليس في كيانها أن تثبت

هي ولا شيءٌ مما فيها على حالٍ واحدة، وإنما الثبوت الدائم لدار القرار. فالسآمة تلحقها في محبوبها، كما يصيب المنتهي من الطعام والشراب والباه، فإنه ليس شيء أبغض إلى من يتناهى فيه إلى غايته، من النظر إلى ناحيته، فضلاً عن ملابسته، إلى وقت عودة السبب الأول. فإذا كانت الطبائع تتشابه، ولكل حاسة قوة، فإذا امتلأت تلك القوة من محسوسها لم تجد لها وراءه طعماً ولا ريحاً، وعاد عليها الضرر. فبعض النظر يعمى، والصوت الشديد يصمّ، والرائحة المنتنة تبطل المشم، والأطعمة الحارة المحرقة تبطل حاسة اللسان. وتتطرف كل واحدةٍ منها؛ فبين الطيب عند من بعد عهده به، والجماع والسماع، وبين من هو مغموسٌ فيه بونٌ بعيدٌ جدا، ً في الحلاوة وحسن الموقع. كل ذلك ما لم يأت المال والعلم؛ فإنه كلما كثر كان أشهى وأعجب؛ لأن قصد الناس له ليس لطلب مقدار الحاجة وسد الخلية كما يريده أهل القناعة والزهادة، وإنما يراد لقمع الحرص، والحرص لا حد له ولا نهاية؛ لأنه سعى لا لحاجة، وإيضاعٌ لا لبغية. وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن لابن آدم واديين من ذهبٍ لابتغى إليهما ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ". وقال بعض الحكماء: من كان لا يغنى بما يغنيه ... فكل ما في الأرض لا يغنيه

قال الله عز وجل: " وتحبون المال حباً جماً ". وقال: " وإنه لحب الخير لشديد ". وقال الشاعر: والناس إن شبعت بطونهم ... فعيونهم في ذاك لا تشبع فأما الحديث الذي جاء: " لا يشبع أربعٌ من أربعة: أرضٌ من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وعالمٌ من علم ". فإن العين لا تشبع في الجملة كما لا يشبع الخيشوم من الاستنشاق. فأما من صنفٍ مما يراه دون صنفٍ، فإنه يشبع ويروى، ويصدف إلى غيره. وأما العلم فإنه أوسع من أن يحاط به، فمن طلبه لشرفه وفخره فإنه لا حد له ولا نهاية، ولم يزدد له طلناٍ إلا ازداد فيه رغبة. ومن طلب منه مقدار كفايته وحاجته كفاه منه اليسير. على أنه لا يملك من كثر علمه أن يرى فيه الغنى والكبرياء أيضاً. وقد يمل كما يمل كل شيء. وتمل العين أيضاً منه ومن المال. وقيل: اثنان منهومان: طالب علم وطالب دنيا. وهذه القضية تدل على الخروج عن العقل؛ لأن النهم تجاوز القدر.

وأما الحرص على الممنوع الذي لا ينتفع به، والعجب مما يتعجب من مثله، فليس من أخلاق العقلاء. وما لم يكن في أخلاقهم فلا نظر فيه ولا قياس عليه، وإنما ذلك فعل من استوحش من الحجة، وشرد عن علم العلل والأسباب. وإفشاء السر إنما يوكل بالخبر الرائع، والخطب الجليل، والدفين المغمور، والأشنع الأبلق، مثل سر الأديان لغلبة الهوى عليها، وتضاغن أهلها بالاختلاف والتضاد، والولاية والعداوة. ومثل سر الملوك في كيد أعدائهم ومكنون شهواتهم ومستور تدبيراتهم، ثم من يليهم من العظماء والجلة؛ لنفاسة العوام على الملوك، وأنهم سماءٌ مظلة عليهم، أعينهم إليها سامية، وقلوبهم بها معلقة، ورغباتهم ورهباتهم إليها مصروفة. ثم عداوات الإخوان؛ فإنما صارت العداوة بعد المودة أشد لاطلاع الصديق على سر صديقه، وإحصائه معايبه، وربما كان في حال الصداقة يجمع عليه السقطات ويحصي العيوب، ويحتفظ بالرقاع؛ إرصاداً ليوم النبوة، وإعاداً لحال الصريمة. وقد شكا بعض الملوك تنقيب العوام عن أسرار الملوك فقال: ما يريد الناس منا ... ما ينام الناس عنا

لو سكنَّا باطن الأر ... ض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ... ينشروا ما قد دفنا ولم نرى حب الطعن على الملوك، والتجسس على أخبارهم، وعشق نشر المعايب، واستحلال الغيبة، ظاهراً في طباع الناس لا يكاد ينجو منه أحدٌ منهم إلا من رجح حلمه وعظمت مروءته، وظهر سودده، واشتد ورعه، حتى قال بعضهم: " الغيبة فاكهةُ النساك ". ورووا عن بعضهم أنه قال: " الفاسق لا غيبة له ". وقال آخر: " أترعون من ذكر الفاسق؟ اذكروه يعرفه الناس ". ولم نر الله جل ثناؤه رخص في اغتياب مؤمن، بل ضرب المثل فيالغيبةبأكره ما تكرهه النفوس، وما تختار منه الموت على الحياة، فقال: " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ". واغتياب الناس جميعاً خطة جورٍ في الحكم، وسقوطٌ في الهمة، وسخافة في الرأي، ودناءةٌ في القيمة، وكلفة عريضة، وحسد ونفاسة، قد

استحوذت على هذا العالم وغلبت على طبائعهم، وتوكدت لسوء العادة عندهم، ولعلو الشر على الخير، وكثرة الدغل والنغل والحسد في القلوب. فلست ترى منها ناجياً. إما ناظرٌ بعين عدلٍ وإنصاف، فهو يرى ما ينكر فيبدو في وجهه ولسانه. وإما ناظرٌ بعين البغضاء والعداوة فهو كثيراً ما يجد من العيوب في عدوه ما يعينه على التخرُّص عليه فيقويها ويزيد فيها. وإن عدم الحق تقول وقبح الحسن، وزاد في قبح القبيح. والحديث كله - إلا ما بال به - ذكر الناس، ولغوٌ وخطل، وهجر وهذاع، وغيبةٌ وهمزٌ ولمزٌ. وقال بعض الحكماء لابنه: يا بنى، إنما الإنسان حديث، فإن استطعت أن تكون حديثاً حسناً فافعل. وكل سرٍّ في الأرض إنما هو خبرٌ عن إنسان، أو طى عن إنسان، فله في الغيبة أكثر الحظ، وجُلُّها كلفةٌ لا ضرورة، يرى صاحبها أنه قد أهمل محاسبة نفسه، وغفر ذنوبها وألغى عيوبها، وقصد قصد غيره، فتشاغل عما يعنيه بما لا يعنيه، فأنكر أقواله وأفعاله، وهجر تدبيره، وتعجب من مقابحه، وجهد نفسه في تفقد أموره. ليس ذلك عن عنايةٍ بصلاحه، ولا محبة لتقويمه وتهذيبه، ولا أنه مسيطرٌ عليه ولا محمودٌ عنده على ما عنى به من شأنه، بل هو عنده عين المذموم. وهذا جُلّ حديث البشر وشغلهم في الليل والنهار.

قال بعض الحكماء: فضول النظر تدعو إلى فضل القول، وفضول الخواطر تبعث على اللهو والخطل. ولو كان الرجل لا يتكلم إلا بما يعنيه، ولا يتكلف ما قد كُفيه، قل كلامه. ولو حكَّم العدل في أموره، وفيما بينه وبين خالقه، وبينه وبين إخوانه ومعامليه، لطاب عيشه وخفت مؤونته والمؤونة عليه؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق مذاقاً أحلى من العدل، ولا أروح على القلوب من الإنصاف، ولا أمرَّ من الظلم، ولا أبشع من الجور. وقال بعض المتقدمين: " إنما يعرف الظُّلم من حُكم به عليه ". ومن استعمل العدل دله على أن الناس يجدون من طعمه وطعم الظلم إذا فعله بهم مثل الذي يجد إذا ظُلم، فكره لهم ما لنفسه، فأنصف ولم يظلم. ويتظالم الناس فيما بينهم بالشَّره والحرص المركَّب في أخلاقهم، فذلك احتاجوا إلى الحكَّام - وقد أطلق لهم تصريف أخلاقهم وأماناتهم - التي ردت إليهم بالأحكام فيها، ما جنايته عليهم أكثر مما يطالبهم به الخصوم.

وقال بعض الحكماء: إن من أصعب الأعمال إنصافك في نفسك، ومواساتك أخاك في مالك، وذكر الله. أما إني لا أعنى قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله - وإن ذلك لم ذكر الله - ولكن ذكره عند ما يعرض من الأمور، فإن كان طاعةً لله فعلته، وإن كان معصيةً لله اجتنبته. وروي عن بعضهم أنه قال: " ثلاثة في ظل عرش الله يوم لا ظِّل إلا ظله: رجلٌ لم يعب أخاه بعيبٍ فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه؛ فإنه لا يصلحه حتى يهجم عاى آخر، فتشغله عيوبه عن عيوب الناس. ورجلٌ لم يقدِّم يداً ولا رِجْلاً حتى يعلم: أفي طاعة الله هو أم في معصيته؟ ورجلٌ لم يلتمس من الناس إلا مثل ما يعطيهم من نفسه. أما تحبُّون أن تُنصِفوا ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله عبداً أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، وشغله عيبه عن عيوب الناس ". وقال عيسى بن مريم: " يا بني إسرائيل أيرى أحدكم القذاة في عين أخيه ويغبى عن الجذع المعترض في عينه ". وقيل لعيسى بن مريم: ما أفضل أعمالك؟ قال: تركي ما لا يعنينى. وقال عمرو بن عبيد: أعيتنى ثلاث خلال: تركي ما لا يعنينى، ودرهمٌ من حِلِّه، وأخ إذا احتجت إلى ما في يديه بذله لي.

وما أحق من أحصيت ألفاظه وليس من قولٍ يبدر منه إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ، ومن أحصيت عليه مثاقيل الذَّرّ واستشهد عليه جلده وجوارحه أن يضبط لسانه. وقد جاء في بعض الآثار: من عدَّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما لا يعنيه. وكل امرئٍ فحسيب نفسه، غير مأخوذ بغيره، وهو الوحيد دون الأهل والولد والقرابة. وقال الله جّل ثناؤه - وقوله الحق - " كل امرئٍ بما كسب رهينٌ ". وقال: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرُّكم من ضل إذا اهتديتم ". وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مع السيف والسوط. وقال بعض الحكماء: شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بالآخر: اللسان والسيف. وأنت إذا تأملت أكثر ما يتناجى به المتحدثون وجدت أكثر السائلين يسأل عما لا يعنيه، ويكترث لما لا يكرثه، ويعنى بما لا ينفعه ولا يضره؛ وأكثر المجيبين يجيب ولم يُسأل، ويتكلَّف ما لا يعلم، ولو قال له قائل: من سألك لافتضح، ولو حاجَّه فيما ادعى ووقفه لانقطع. قال الله عز وجلّ: " قلْ ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين ".

ومر هشام بن عبد الملك ببعض أهل الكُلفة والفضول، وعليه حُلَّة ذيالة يسحبها في التُّراب، فقال له المتكلف: يا هذا، إنك قد أفسدت ثوبك. قال: وما يضرُّك من ذلك؟ قال: ليتك ألقيته في النار. قال: وما ينفعك من ذلك؟ فأفحمه غاية الإفحام. ولو تهيأ للمتكلِّفين في كل وقتٍ مثل صرامة هشام لازدجر من به حياءٌ منهم، ولقلت الفضول والكُلف والغيبة. قالوا: وليس من أحد أذلَّ من مغتاب؛ لأنه يخفي شخصه، ويطامن حسَّه، ويغّض من صوته؛ ولا يزيد بما يناله من ذلك إلا بأن يرفع من قدر خصمه ويعظم من شأنه. قال معاوية: أتدرى من النبيل؟ هو الذي إذا رأيته هبته، وإذا غاب عنك اغتبته. وهي لعمري سبيل العظماء عند العوام، والملوك عند الرعية، والسادة عند العبيد. فلم يأخذ المغتاب ممن اغتابه شيئاً بعضيهته إياه إلا والذي أعطى من الهيبة عند حضوره أكثر منه. ولو كان المغتاب لا يستتر من الغيبة إلا ممن يخاف سطوته، كان أعذر. ولكن اللؤم المتمكن منه يحمله على اغتياب عبده وأمته، فضلاً عن كفئه ونظيره.

ويغتاب الرجل عند عدوّه والمشاحن له، مساعدةً له بالسخف، وتقرباً إليه بالمهانة والضعف، من غير أن يكون له عليه طول، أو يلتمس منه ما تقرَّب به إليه جزاءً أو شكورا. ثم لعله ينكفي إلى الذي اغتابه وقصبه من ساعته ويومه، فيعطيه في عدوه الذي اغتابه عنده أيضاً مثل ذلك وأكثر منه، لا لعلةٍ أيضاً ولا مرفق ولا ربحٍ أكثر من الذِّلَّة التي يجدها في نفسه، والضعف في منَّته، كما يعظِّم الغنيَّ بغير ثمن، ويحتقر الفقير بغير سبب، فمتى كوشف أو عوتب لبسته ذلّةٌ أُخرى من الكظَّة بالمعاذر الكاذبة، والاعتصام بالأيمان الفاجرة. ومن كانت هذه دربته فهو حرى أن يُطَّلع على دخلة أمره، فلا يُقبَل منه عذر، ولا يُصَّق في قولٍ ولا حلف، وقد تسربل الذِّلّة، وتدرع الخضوع. وليس من سوس النفس الكريمة الشهمة، أن تلقى الناس بخلاف ما يتخلَّقون به مل لم تأت ضرورة يحتاج فيها إلى كيد وغيلة، أو مكر وحيلة، ويثار بالغيبة فيها الرأي الأصيل من مكانه، فيفعل ذلك العاقل فيما يحل له ويحسن به، بعد أن تعييه الحيلة في استصلاح ذلك العدو بالرفق والملاينة. وإنما قيل: " قل من اعتذر إلا كذب "، لكثرة النَّطف في الناس،

وضعف أنفسهم على الإقرار بالذنب، فلا ذلَّة الضعف الثاني في الاعتذار نهت عن كلفة الضعف الأول في الاغتياب، ولا كلفة الضعف الأول صانت عن ذلَّة الضعف الثاني. وعلى أن أكثر من يُعتذر إليه ليس بقابلٍ للعذر على حقيقةٍ وإن أظهر القبول، لما جرَّب من سخاء الناس بالأيمان، وبعدهم من الإقرار بالذنب ما لم تأت حجة واضحة، ودليلٌ شاهد عدل. وإذا كانت هذه سبيل المعتذَر إليه فيحق على المعتذِر - إن كانت في نفسه قيمة - أن لا يعتذر إلا إلى من يحبُّ أن يجد له عذراً، ولا يعجل إلى المَيْن وهو لا يجد للحجة مكانا. وأكثر من يُعتذر إليه إنما يُفعل ذلك به خوفاً من سقطته، وإبقاءً لسلطانه. والمتفقِّهون يتأولون في الأيمان السلطانية ما يُلحق بها عند السلطان التهمة، ويلزمهم الظّنّة، سيما في الأمور التي في الإقرار بها إباحة الدم والمال، وهتك الستر. ولا حسم لهذا الداء إلا باطراح الفضول، وسلامة اللسان من أن يلغ في الأعراض، ويستسر بالعضيهة والبهت.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ". ومن لم يسلم الناس منه فليس سالماً من نفسه. وقال القائل: احرس أخاك إلا من نفسه. وقالوا: مقتل المرء بين فكَّيه. وكتب على بعض أبواب المدن بالسند: احفظ رأسك. وقال الأول: قد تصل النِّصال إلى الإخوان فتُستخرج، وأمثال النِّصال من القول إذا وصلت إلى القلب لم تُستخرج أبداً. وقال بهرام، وسمع في الليل صوت طائر فتحدَّاه بسهم وهو لا يراه، إلا أنه تتبع الصوت فصرعه، فلما صار بين يديه قال: والطير أيضاً لو سكت كان خيراً له! وقيل: ما شيء أحق بطول سجنٍ من لسان. وقيل: يسأل اللسان الأعضاء في كل يوم فيقول: كيف أنتن؟ فيقلن: بخيرٍ إن تركتنا!

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: " وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ". وقال عيسى عليه السلام: " أعمال البر ثلاثة: المنطق، والنظر، والصمت. فمن كان منطقه في غير ذكر الله فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبارٍ فقدسها، ومن كان صمته في غير تفكّر فقد لها ". فانظر بأي الأمرين قطعت عمرك؟ أبالحكمة أم باللغو؟ وانظر كيف وصف الله تعالى من أثنى عليه بخير من عباده فقال: " والذين هم عن اللَّغو مُعْرِضون "، وقال: " وإذا سمعوا اللَّغو أعرضوا عنه "، وقال: " وإذا مرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً ". وصان عنه أسماع أهل الجَّنة وألسنتهم فقال: " لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً. إلا قيلاً سلاماً سلاما ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العبادة عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في الصمت ". وقال علي بن أبي طالب: " أفضل العبادة الصبر وانتظار الفرج ".

وقال بعض الحكماء: لو لم يكن للصامت في صمته إلا الكفاية لأن يتكلَّم بكلام ويُحكى عنه محرَّفا فيُضطرَّ إلى أن يقول: ليس هكذا قلت، إنما قلتُ كذا وكذا. فيكون إنكاره إقراراً، واعترافه بما حُكى عنه شاهداً لمن وشى به، وادعاءً لتحريفٍ غير مقبول منه إلا أن يأتي ببينة له لكان ذلك من أكثر فضائل الصَّمت. وربما ذكر رجلٌ الله تبارك وتعالى، فكان ذلك الذكر إثماً له، لأنه قد يُدخله في باب تفخيم الذنب الحقير والإغراء والتحريض، فيسفك الدم الحرام، أو يعظِّم الجرح الصغير. بل ربما ضحك وتبسَّم، فأغْرَى وحرَّض، وأثم وأوبق. قال بعض الشعراء: فإن شئت أدلى فيكما غير واحدٍ ... مجاهرةً أو قال عندي في سرِّ فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجَّ ويستشرى وقالت العرب: " من كُفِيَ شرَّ لقلقه وذبذبه وقبقبه فقد كُفِيَ الشرّ ". وهذا بابٌ لولا أن نشغل القارئ لهذا الكتاب بغير ما قصدنا إليه وعزمنا عليه لأتينا عليه. وهو كثير موجودٌ لمن طلبه، وجملةٌ واحدة فيها

كفاية؛ فإنما تختلف الألفاظ التي تُجعل كسوةً لتلك المعاني. وإلا فإنّك إذا نظرت إلى جميع شرور الدنيا وجدت أولها كلمة عارت فجنت حرباً عوناً. كحرب بكر وتغلب ابنى وائل، وعبسٍ وذبيان ابنى بغيض، والأوس والخزرج ابنى قَيْلة، والفِجار الأول والثاني، وعامة حروب العرب والعجم. وإذا تأملت أخبار الماضين لم تُحص عدد من قتله لسانه وكان هلاكه في كلمةٍ بدرت منه. وليس العجب ممن أفضى بسرِّه إلى من ليس له بموضعٍ، ممَّن تقدَّمت معرفته وزالت الشكوك عنه في أمره؛ ولكنَّ العجب عين العجب ممن استنام بسرِّه إلى من لم تقدم معرفته ومن أنس إليه عن اللِّقاءة واللِّقاءتين، دون معرفة العين والاسم، والسبب والنسب، فانخدع في أوّل وهلة وغُبِن عقله قبل أن يُغبَن دينه وماله، وتضاعفت عليه البليّة بطول الحسرة؛ فإنَّ البلاء عارضٌ ومكتسب، فكان العارض السَّماوى وما خوَّلته الأقدار سرّاً بعد اجتهاد صاحبه رأيه، وحيلته في طلب الخير. وصواب تدبيره فيه أسهل وأيسر على العاقل المعتاد للصواب، وإن كان كل مكروه مرّاً بشعاً. وإنما الكرب اللازم والداء العياء ما اجتمع على صاحبه مع الفجيعة والحاجة، والنَّقص والذِّلّة، غمُّ النَّدامة والأسف على ما فرط منه؛ إذ كان الجانى على نفسه بيده.

ولهذا الكلام نظرُ نكره التطويل به، والمعنى واحدُ، وإنما نحتاج من هذا ومثله - مما قدمنا ذكره في الكتاب - إلى حفظ السرّ ووزن القول. وإلى هذا أجرينا، وله قصدنا. ولو اقتصرنا في هذا الكتاب على حرفٍ مما فيه، لكان بإذن الله كافياً لمن له لُبٌ وعقل، لكن الاحتجاج أوكد، والإيضاح أبلغ، والحظَّ في هذا القول كله لمن عقله والآخذ به، أوفر منه لمن قاله ولم يعمل بقوله؛ لأنه إنما يجتنى ثمرة الصواب، ويختلف برفقه من صدَّق قوله بفعله؛ فإن الحكمة قول وعمل، وإنما حظُّ القائل ما لم يستعمل علمه وقوله حظُّ الواصفين؛ وحسن الصِّفة يزول بزوالها، وينقطع بانقطاعها؛ ومدتها - إلى أن يملها القائل والسامع - يسيرة. والأفعال المحمودة متصلة النفع والشرف والفضيلة في الحياة وبعد الوفاة، ومذخورٌ للأعقاب، وحديثٌ جميلٌ، ونشرٌ باقٍ على مرِّ الجديدين. وأكثر من ذلك كله توفيق الله وتسديده؛ فإن القلوب في يده، والخيرات مقسوماتٌ من عنده. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تم كتاب كتمان السر من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، بعون الله وتأييده، ومشيئته وتوفيقه. والله الموفق للصواب برحمته. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه.

الرسالة الرابعة كتاب فخر السودان على البيضان

الرسالة الرابعة كتاب فخر السودان على البيضان

بسم الله الرحمن الرحيم تولاك الله وحفظك، وأسعدك بطاعته، وجعلك من الفائزين برحمته. ذكرت - أعاذك الله من الغشِّ - أنك قرأت كتابي في محاجة الصرحاء للهجناء، وردِّ الهجناء، وجواب أخوال الهجناء، وأني لم أذكر فيه شيئاً من مفاخر السودان. فاعلم حفظك الله أني إنما أخرت ذلك متعمداً. وذكرت أنك أحببت أن أكتب لك مفاخر السودان، فقد كتبت لك ما حضرني من مفاخرهم. قال الأصمعى: قال الفرز عبد فزارة وكانت في أذنه خُربة: إن الوئام يتترع في جميع الطَّمْش: لا يقرب العنز الضَّأن ما وجدت

الماعز، وتنفر الشاة من المخلب ولا تأنس بالخف. وأنشد أبو زيد النحوي: " لولا الوئام هلك الإنسان ". وقال شدادٌ الحارثيُّ - وكان خطيباً عالماً -: قلت لأمةٍ سوداء بالبادية: لمن أنت يا سوداء؟ قالت: لسيد الحضر يا أصلع. قال: قلت أو لستِ سوداء؟ قالت: أو لست أصلع؟ قلت: ما أغضبك من الحق. قالت: الحق أغضبك، لا تشتُمْ حتى تُرهب، ولأن تتركه أمثل. وقال شداد: لقد كلَّمتها وأنا أظنُّ أنِّي أفي بأهل نجد، وما نزعت عنِّي إلا وأنا عند نفسي لا أفي بأمَتِي. وقال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: قال ذو الرُّمَّة: قاتل الله أمةَ آل فلانٍ السوداء، ما كان أفصحها وأبلغها! سألتها كيف كان المطر عندكم؟ قالت: غٍثْنا ما شئنا.

مناقب السودان أن لقمان الحكيم منهم، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك. وقال لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلاً فأغضِبْه ذلك، فإنْ، أنصفك وإلا فاحذره. ولم يرووا ذلك عنه إلا وله أشياء كثيرة. وأكثر من هذا مَدْحُ الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه. ومنهم: سعيد بن جبير، قتله الحجَّاج قبل موته بستة أشهر وهو ابن تسعٍ وأربعين سنة، ومات الحجّاج وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. وكان سعيدٌ أورع الخَلْق وأتقاهم، وكان أعظم أصحاب ابن عباس. وأصحاب الحديث يطعنون في الذي يجيء من قبل أصحاب ابن عباس حتى يجيء من سعيد بن جبير. وأبوه مولى بني أسد، وهو مولى بني أميّة، وقُتِل يوم قُتِل والناس يقولون: كلُّنا محتاجٌ إليه. ومنهم: بلالٌ الحبشيُّ رضي الله عنه، الذي يقول فيه عمر بن الخطاب

رضي الله عنه: إن أبا بكرٍ سيدنا وأعتق سيدنا، وهو ثلث الإسلام. ومنهم: مهجع، وهو أول قتيلٍ قُتِل بين الصِّفَّين في سبيل الله. ومنهم: المقداد، وهو أول من عدا به فرسه في سبيل الله. ومنهم وحشيٌّ قاتل مُسيلمة الكذاب. وكان يقول: قتلت خير الناس - يعني حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه - وقتلت شر الناس - يعني مُسيلمة الكذاب -. ومنهم: مكحولٌ الفقيه. ومنهم: الحَيقُطان الشاعر، الذي كان يَفضُل في رأيه وعقله وهمَّته. وهو الذي يقول في الإخوان: لا تعرفُ الأخ حتَّى ترافقه في الحضر، وتزامله في السفر.

ومنهم: جُليبِيب الذي تحدثت الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزاةٍ فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً. ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً. ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا في الثالثة: لا. قال: لكني أفقد جُليبيباً، اطلبوه. فطلبوه بين سبعةٍ قد قتلهم ثم قُتِل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قتل سبعةً ثم قتلوه. هذا منِّي وأنا منه ". قال: ثم حمله على ساعديه حتى حفروا له، ما له سريرٌ غير ساعدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ولم يذكروا غُسْلاً. ومنهم: فرجٌ الحجَّام وكان من أهل العدالة، والمقدَّمين في الشَّهادة. أعتقه جعفر بن سليمان؛ وذلك أنه خدمه دهراً يصلح شاربه ولحيته ويهيئه، فلم يره أخطأ في قولٍ ولا عمل، فقال: والله لأمتحنَّنه، فإن كان ما أرى منه عن تدبيرٍ وقصدٍ لأعتقنه ولأزوَّجتَّه ولأغنينَّه. وإن كان على غير ذلك عرفتُ الصنع فيه. فقال له ذات يوم وهو يحجمه: يا غلامُ، أتحتجم؟ قال: نعم. قال: ومتى؟ قال: عند الحاجة. قال: وتعرفُ ذلك؟ قال: أعرفُ أكثره وربما غلِطت. قال: فأيَّ شيء تأكل؟ قال: أمَّا الشتاء

فداكبراه خائرة حلوة. وأما في الصيف فسكباجةٌ حامضة عذبة. فبلغ به جعفر بن سليمان ما قال. وهو الذي يقول فيه أبو فرعون: خلُّوا الطَّريق زوجتي أمامي ... أنا حميمُ فرجِ الحجّام قال: وبلغ من عدالته ونبله في نفسه وتوقِّيه وورعه، أن مواليه من ولد جعفرٍ وكبار أهل المربد، كانوا لا يطعمون أن يُشْهده إلا على أمرٍ صحيح لا اختلاف فيه. وأما الحَيقُطان فقال قصيدةً تحتجُّ بها اليمانية على قُريشٍ ومضر، ويحتجُّ بها العجم والحبشُ على العرب، وكان جريرٌ رآه يوم عيدٍ في قميص أبيض وهو أسود، فقال:

كأنه لما بدا للناس ... أير حمارٍ لُفَّ في قرطاس فلما سمع بذلك الحيقطان وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال هذا الشعر: لئن كنتُ جعد الرَّأسِ والجلدُ فاحمٌ ... فإنَّي لَسَبْطُ الكفِّ والعرضُ أزهر وإنَّ سواد اللَّون ليس بضائِري ... إذا كنتُ يوم الروع بالسَّيف أخطرُ فإن كنت تبغي الفخر في غير كنهه ... فرهُط النَّجاشي منك في الناس أفخر تأبَّى الجُلَنْدَي وابن كسرى وحارثٌ ... وهوذة والقبطي والشيخُ قيصرُ وفاز بها دون الملوك سعادةً ... فدام له الملك المنيع الموفّرُ ولقمان منهم وابنه وابنُ أمِّه ... وأبرهةُ الملك الذي ليس يُنكَرُ غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم ... وأنتم كقبْصِ الرمل أو هو أكثر

وأنتم كطير الماء لما هوى لها ... ببلقعةٍ، حُجن المخالبِ أكدرُ فلو كان غير الله رامَ دفاعه ... علمت وذو التَّجريب بالناس أخبرُ وما الفجرُ إلا أن تبيتوا إزاءه ... وأنتم قريبٌ ناركم تتسعَّرُ ويدلُف منكم قائد ذو حفيظة ... نُكافحه طوراً وطورا يدبَّرُ فأما التي قُلتم فتلكم نُبوَّة ... وليس بكم صُون الحرام المستَّرُ وقلتم لقاحٌ لا نؤدي إتاوة ... فإعطاء أريانٍ من الفَرِّ أيسر ولو كان فيها رغبةٌ لمتوَّجٍ ... إذاً لأتتها بالمقاول حميرُ وليس بها مشتىً ولا متصيَّف ... ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّر

ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ... ولكن تجراً، والتجارة تُحقَر ألست كُليبيّا وأمك نعجةً ... لكم في سمان الضّان عارٌ ومفخر أما قوله: تأبى الجلندى وابن كسرى وحارثٌ ... وهوذة والقبطى والشيخ قيصرُ فإنه يقول: كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بني الجُلندي فلم يُؤمنوا وكذلك كسرى، وكذلك الحارث بن أبي شَمِر، وكذلك هوذة بن علي الحنفي، وكذلك المقوقس عظيم القبطِ صاحبُ الإسكندرية، وكذلك قيصر ملك الرُّوم. على أن بني الجُلندي قد أسموا من بعد ذلك الكتاب، ولكنَّ النَّجاشيَّ أسلم قبل الفتح، فدام له ملكه ونزع الله من هؤلاء النِّعمة. وقيصر إنْ كان قد بقي من ملكه شيءٌ فقد أخرجوه من كلِّ مكانٍ يبلغُه ظِلفٌ أو حافر، وصار لا يتمنَّع إلا بالخليج وبالعقاب والحصون وبالشتاء والثلوج والأمطار. وفخر بلقمان وابنه. وأما قوله: غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم ... وأنتم كقِبْص الرَّمل أو هو أكثر

فإنه يعنى صاحب الفيل حين أتى ليهدم الكعبة. يقول: كنتم في عدد الرَّمل، فلم فررتمْ منه ولم يلقه أحدٌ منكم حتَّى أفضى إلى مكة، ومكة أمُّ القرى، ودار العرب، هي جزيرة العرب ومكة قريةٌ من قراها، ولكن لما كانت أقدمها قدما، وأعظمها خطراً، جُعلِت لها أمّاً. ولذلك قيل لفتح مكة: فتح الفتوح. وعلى مثل ذلك سميت فاتحة الكتاب: أمَّ الكتاب والعرب قد تجعل الشىء أمَّ ما لم يَلِدْ. من ذلك قولهم: ضربه على أمِّ رأسه، وكذلك أمّ الهاوية. والضَّيف يسمى ربّة منزله أمَّ مثواي. وقال أعرابيٌّ وقد أصابته براغيثُ عند امرأةٍ كان نزل بها: يا أمَّ مثواى عدِمت وجهك ... أنقذنى ربُّ العُلا من مصرك ولذع بُرغوثٍ أراه مُهلكى ... أبيت ليلي دائب التحكّك تحكّك الأجراب عند المبرك وقد أبان الله تعالى مكة والبيت حين قال: " إن أوَّلَ بيتٍ وضع للناس لَلَّذِي بِبَكَّة مُباركاً وهدىً للعالمين ".

يقول: فإذا غُزِيت - وهي أمُّ القرى وفيها البيتُ الحرام الذي هو شرفُكم - فقد غُزِي جميعكم. وأما قوله: وأما التي قُلتم فتلكم نبوّةٌ ... وليس بكم صُون الحرام المستَّرُ وقلتم لقاحٌ لا نؤدّى إتاوةً ... فإعطاء أريانٍ من الفرِّ أيسر فاللقاح: البلد الذي لا يُؤدِّى إلى الملوك الأريان. والأريان: هو الخراج، وهو الإتاوة. وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص: أبوا دِين الملوك فهم لَقاحٌ ... إذا نُدِبوا إلى حربٍ أجابوا قال: فقلتم إنَّا لقاحٌ ولسنا نؤدّي الخراج والأريان. قال: فإعطاء الخراج أهون من الفرار وإسلام الدار وأنتم مثل عدد مَنْ جاءكم المرار الكثيرة. وأما قوله: وليس بها مَشْتىً ولا متصيَّف ... ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّرُ قال: ليس في الغلبة على مكة رغبة، ولولا ذلك لغزاها أهل اليمن وغيرهم. وليس بها مشتىً ولا متصيَّف؛ لأنهم يتبرَّدون بالطائف ويتدفَّوْن بجدَّة. وجؤاثا: عينٌ بالبحرين. وليس بمكة شيءٌ يدانى ذلك.

وقال: ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ... ولكنَّ تجراً والتجارة تُحقرُ يقول: ليس بها متنزَّهات، وصيدها حرام، وإنما بها تُجَّار والتُجَّار يُحقرون. يقول: هم عند الناس في حدِّ الضعف ولا يستجيز ملكٌ أخذ الذي به يتعيَّشون، ولا يكون ما يُؤخذ منهم يقوم بنوائب الملوك، وهم قومٌ ليس عندهم امتناعٌ. ولذلك يقول الشاعر معاوية بن أوس، وهو جاهليٌّ: وزِقٍّ سبأتُ لدى مَتجرٍ ... أُسيوِدَ كالرَّجل الأسحم ضربتُ بفيهِ على نحره ... وقائمه كيد الأجذَم إلى التاجر العربي الشحي ... ح أو خمر ذي النَّطف الطمطم أراد بهذا كلِّه قريشاً. يقول: هم تجّار وقد اعتصموا بالبيت، وإذا خرجوا علَّقوا عليهم المُقْل ولحاء الشَّجر حتى يُعرفوا فلا يقتلهم أحد.

وأما قوله: ألست كليبيّاً وأمُّك نعجةٌ ... لكم في سمان الضَّأن عارٌ ومفخرُ فإن بنى كُليبٍ يُرمون بإتيان الضَّأن، وكذلك بنو الأعرج، وسُليم. وأشجع تُرمى بإتيان المَعْز. وقال النَّجاشي: ولو شتمتنى من قريشٍ قبيلةٌ ... سوى ناكة المعزى سُليمٌ وأشجعُ وقال الفرزدق: ولستُ مضحِّياً ما دمت حيّاً ... بشاةٍ من حَلوبةِ أعرجى فما أدري إذا أنفقتُ مالي ... لعلَّ الشاة تُبقر عن صبيِّ وقال الآخر: إذا أحببت أن تغْلى أتاناً ... فدُلَّ الدراميَّ على شراها ويُقبِّل ظهرها ويكاد لولا ... قحول الظَّهر يدنو من قفاها وودَّ الدرامى لو أنَّ فاه ... إذا نال الحمارة نال فاها وقال عبد بن رشيد: قبيلةُ سوءٍ خيرهم مثل شرِّهم ... ترى منهم للضأن فحلاً وراعيا إذا جُليتْ فيهم عروسٌ لبعلها ... ترى النَّعجة البقعاء أبكى البواكيا

ولذلك قال الأخطل: فانعقْ بضأنك يا جرير فإنما ... منَّتك نفسك في الخلاء ضلالا ولذلك قال الحيقطان: ألست كليبيّاً وأمك نعجةٌ ... لها في سمان الضَّأن عارٌ ومفخرُ أما العار فالذي شاع عليهم من ذكر النِّعاج. وأما المفْخر يقول: إذا فخروا فخروا بالشَّاء، ولا يبلغون إلى حدِّ الإبل. ومن مفاخر السُّودان والزِّنج والحبش مع ما ذكرنا من قصيدة الحيقطان، أنَّ جرير بن الخطفى لما هجا بنى تغلب وقال: لا تطلُبَنَّ خؤولةً في تغلبٍ ... فالزِّنج أكرم منهم أخوالا غضب سنيح بن رباح شار، فهجا جريراً، وفخر عليه بالزِّنج فقال: ما بال كلبٍ من كليبٍ سبَّنا ... أن لم يوازن حاجباً وعقالا

إن امأً جعل المراغة وابنها ... مثل الفرزدق جائر قد فالا والزِّنج لو لاقيتهم في صفِّهم ... لاقيت ثمَّ جحاجحاً أبطالا فسل لبن عمرو حين رام رماحهم ... أرأى رماح الزِّنج ثمَّ طوالا فجعوا زياداً بابنه وتنازلوا ... لكما دُعُوا لنزال ثمَّ نزالا ومربِّطين خيولهم بفنائهم ... وربطت حولك شيِّها وسخالا كان ابن ندبة فيكم من نجلنا ... وخفافٌ المحمَّل الأثقالا وابنا زُبيبة: عنترٌ وهراسةٌ ... ما إن نرى فيكم لهم أمثالا سل ابن جيفر حين رام بلادنا ... فرأى بغزوتهم عليه خبالا وسليكٌ اللَّيث الهزبر إذا عدا ... والقرمُ عبّاسٌ علوك فعالا هذا ابن خازمٍ ابن عجلى منهم ... غلب القبائل نجدةً ونوالا أبناء كلِّ نجيبةٍ لنجيبةٍ ... أسدٌ تربِّب عندها الإشبالا فلنحن أنجب من كليب خؤولةً ... ولأنت ألأم منهم أخوالا وبنو الحباب مطاعن ومطاعم ... عند الشِّتاء إذا تهبُّ شمالا

أما ابن عمرٍو الذي ذكر، فهو حفص بن زياد بن عمرٍو العتكى، كان خليفة أبيه على شرطة الحجاج، فغلب رباح شار الزِّنجى على الفرات، فتوجَّه إليه حفص بن زيادٍ فقتله رباحٌ وقتل أصحابه واستباح عسكره. وأما ابن جيفر فهو النعمان بن جيفر بن عباد بن جيفر بن الجلندى. كان غزا بلاد الزِّنج فقتلوه وغنموا عسكره. ثم ذكر أبناء الزِّنجيات حين نزعوا إلى الزِّنج في البسالة والأنفة. فذكر خفاف بن ندبة، وعباس بن مرداس، وابنى شدادٍ: عنترة الفوارس وأخاه هراسة، وسليك بن السُّلكة. فهؤلاء أسد الرجال، وأشدُّهم قلوباً وأشجعهم بأساً، وبهم يضرب المثل. ومنهم: عبد الله بن خازمٍ السُّلمى، وبنو الحباب: عمير بن الحباب وإخواته. وكان أيضاً منهم: الجحَّاف بن حكيم. وهم أيضاً يفخرون برباحٍ أخى بلال وحاله وصلاحه. ويفخرون بعامر بن فهيرة، بدرى استشهد يوم بئر معونة، فرآه الناس قد رفعه الله بين السماء والأرض، فليس له في الأرض قبر.

ومنهم: آل ياسر. قالوا: ومنَّا الغداف صاحب عبيد الله بن الحرّ. لم يكن في الأرض أشد منه؛ كان يقطع على القافلة وحده بما فيها من الحماة والخفراء. وكعبويه صاحب المغيرة بن الفزْر، كان مثلاً في الشجاعة. ويقولون: ومنَّا مرْبح الأشرم، غلام أبى بحرٍ القائد، الذي كان قدم من الشام أيام قتيبة بن مسلم، وكان لا يرام لقاؤه، وأمره مشهور. قالوا: ومنا المغلول وبنوه، وهم من الخول، ليس في الأرض أعرف ولا أثقف ولا أعلم بالبادية منهم. قالوا: ومنَّا أفلح، الذي قطع على القوافل بخراسان وحده عشرين سنة. قالوا: وإنما قتله مالك بن الرَّيب، لأنه وطئه في جوف الليل وهو سكران خائر. والشاهد على قولنا قول ابنه: أمالك لولا السُّكر أيقنت أنَّه ... أخو الورد أو يُربى على الأسد الورد قالوا: ونحن قد ملكنا بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة،

وجرت أحكامنا في ذلك أجمع. وهزمْنا ذا نواسٍ، وقتلنا أقيال حمير. وأنتم لم تملكوا بلادنا. وقد قال شاعركم: وخرب غُمداناً وهدَّم سقفه ... رياطٌ بأجنادٍ وصولته هصر أطافت به الأحبوش ليلاً فقوضوا ... بناً شدَّه الأقيال في سالف الدَّهر بجمعٍ من اليكسوم سودٍ كأنهم ... أسودُ الشرى اجتابت جلوداً من النُّمْر قالوا: ومنا كباجلا، لم يصعد نهر سليمان ولا قاتل في المخارجات أحدٌ قطُّ يشبهه.

قالوا: ومنا الأربعون الذين خرجوا بالفرات أيام سوَّار بن عبد الله القاضي، فأجلوا أهل الفرات عن منازلهم، وقتلوا من أهل الأبُلَّة مقتلةً عظيمة. قالوا: ومنَّا الذي ضرب عنق عيسى بن جعفر بعُمان، بمنجلٍ بحرانيّ، بعد أن لم يجسر عليه أحد. قالوا: والناس مجمعون على أنه ليس في الأرض أمّةٌ السخاء فيها أعمُّ، وعليها أغلب من الزِّنج. وهاتان الخلَّتان لم توجدا قطُّ إلا في كريم. وهي أطبع الخلق على الرقص الموقَّع الموزون، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديبٍ ولا تعليم. وليس في الأرض أحسن حلوقاً منهم. وليس في الأرض لغةٌ أخفُّ على اللسان من لغتهم، ولا في الأرض قومٌ أذْربُ ألسنةً، ولا أقلُّ تمطيطاً منهم. وليس في الأرض قومٌ إلا وأنت تصيب فيهم الأرتَّ والفأفاء والعيى، ومن في لسانه حبسة، غيرهم. والرجل منهم يخطب عند الملك بالزِّنج من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فلا يستعين بالتفاتةٍ ولا بسكتةٍ حتى يفرغ من كلامه. وليس في الأرض أمةٌ في شدة الأبدان وقوة الأسر أعمُّ منهم فيهما. وإن الرجل ليرفع الحجر الثقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم. وهم شجعاءٌ أشداء الأبدان أسخياء. وهذه هي خصال الشرف.

والزنجي مع حسن الخلق وقلة الأذى، لا تراه أبداً إلا طيب النفس، ضحوك السّنّ، حسن الظّنّ. وهذا هو الشرف. وقد قال ناسٌ: إنهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ولقصر رويَّاتهم، ولجهلهم بالعواقب. فقلنا لهم: بئس ما أثنيتم على السخاء والأثرة، وينبغى في هذا القياس أن يكون أوفر الناس عقلاً وأكثر الناس علماً أبخل الناس بخلاً وأقلهم خيرا. وقد رأينا الصَّقالبة أبخل من الرُّوم، والروم أبعد رويةً وأشدُّ عقولا. وعلى قياس قولكم أن قد كان ينبغى أن تكون الصَّقالبة أسخى أنفساً وأسمح أكُفّاً منهم. وقد رأينا النساء أضعف من الرجال عُقولاً، والصِّبيان أضعف عقولا منهم، وهم أبخل من النساء، والنِّساء أضعف عقولاً من الرجال. ولو كان العقل كلَّما أشدَّ كان صاحبه أبخل، كان ينبغي أن يكون الصبيُّ أكرم الناس خصالاً. ولا نعلم في الأرض شرّاً من صبيّ: هو أكذب الناس وأنم الناس، وأشره الناس وأبخل الناس، وأقل الناس خيراً وأقسى الناس قسوة. وإنما يخرج الصبيُّ من هذه الخلال أولاً فأولاً، على قدر ما يزداد من العقل فيزداد من الأفعال الجميلة.

فكيف صار قلّةُ العقل هو سبب سخاء الزِّنج، وقد أقررتم لهم بالسِّخاء ثم ادَّعيتم ما لا يُعرف. وقد وقفناكم على إدحاض حجتكم في ذلك بالقياس الصحيح. وهذا القول يوجب أن يكون الجبان أعقل من الشُّجاع، والغادر أعقل من الوفى. وينبغى أن يكون الجزوع أعقل من الصَّبور. فهذا ما لا حجة فيه لكم، بل ذلك هبةٌ في الناس منالله. والعقلهبةٌ، وحسن الخلق هبة، والسَّخاء والشجاعة كذلك. وقد قالت الزِّنج للعرب: من جهلكم أنَّكم رأيتمونا لكم أكفاءً في الجاهلية في نسائكم، فلمَّا جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسداً، وما بنا الرغبة عنكم. مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوَّج ورأس وساد، ومنع الذِّمار، وكنفكم من العدوّ. قال: وقد ضربتم بنا الأمثال وعظَّمتم أمر ملوكنا، وقدَّمتموهم في كثيرٍ من المواضع على ملوككم. ولو لم تروا الفضل لنا في ذلك عليكم لما فعلتم. وقال النَّمْر بن تولب: أتى ملكه ما أتى تُبّعاً ... وأبرهة الملك الأعظما فرفعه على ملوك قومه.

وقال لبيد بن ربيعة: لو كان حيٌّ في الحياة مخلِّداً ... في الدهر أدركه أبو يكسوم وهذا شيءٌ من وصف الفضل لم يوصف أحدٌ بمثله. قالوا: ومما قدَّمتم به ملوكنا على ملوككم قوله: غلب الليالى خلف آل مُحرِّق ... وكما فعلن بتُبّع وبهرْقل وغلبن أبرهة الذي ألفيته ... قد كان خُلِّد فوق غُرفة موْكل فقدم أبرهة وأراد التَّسوية. قالوا: ومن الحبشة عكيمٌ الحبشى، وكان أفصح من العجَّاج. وكان علماء أهل الشام يأخذون عنه كما أخذ علماء أهل العراق من المنتجع بن نبهان. وكان المنتجع سنديّاً في أذنه خُرْبة، وقع إلى البادية وهو صبيٌّ، فخرج أفصح من رؤبة.

ولما قال حكيم بن عيّاشٍ الكلبى: لا تفخرنَّ بخالٍ من بنى أسد ... فإنَّ أكرم منها الزِّنج والنُّوب اعترض عليه عُكيمٌ الحبشى، فقال: ويوم غُمدان كنَّا الأُسد قد علموا ... ويوم يثرب كنَّا فِحْلة العرب وليلة الفيل إذ طارت قلوبهم ... وكلُّهم هاربٌ موفٍ على قتب منّا النَّجاشى وذو العقصين صهركم ... وجدُّ أبرهة الحامى أبي طلب هبْنى غفرت لعدنانٍ تهكُّمهمْ ... فما لحمير والمقوال في النسب حمَّارة جُمعت من كلِّ محربةٍ ... جمع الشُّبيكة نون الزَّاخر اللَّجب

غمدان: حصنٌ كان ينزله الملك الذي يكون على اليمن، وكان عجميّاً، فلما ملكت الحبشة اليمن أخربته إلا بقايا هدمها عثمان بن عفان رضي الله عنه في الإسلام. وقال: " ينبغى لمآثر الجاهليَّة أن تُمحى ". وكان في الحصن مصنعةٌ عليها قُبّةٌ من طلق، وفيها يقول خلفٌ الأحمر: ومصنعة الطِّلْق أودى بها ... عوادى الأحابيش بالصَّيدن وفيها يقول قدامة حكيم المشرق، وكان صاحب كيمياء: فأوقد فيها ناره ولو أنَّها ... أقامت كعمر الدهر لم تتصرَّم لأن الطلق لو أوقد عليه ألف عامٍ لم يسخن. وبه يتطلَّى النّفَّاطون إذا أرادوا الدخول في النار. وقال لبيد: أصاحِ ترى بُريقاً هبَّ وهناً ... كمصباح الشَّعيلة في الذُّبال أرقت له وأنجد بعد هدءٍ ... وأصحابى على شعب الرِّحال يُضىء ربابه في المزن حُبشاً ... قياماً بالحرب وبالإلال

وقال ذلك لبيدٌ لأنهم إذا أقبلوا بحرابهم ورماحهم وقسيِّهم وسيوفهم، وراياتهم، وخيولهم وفيولهم، مع سواد ألوانهم وضخم أبدانهم رأيت هوْلاً لم تر مثله ولم تسمع به، ولم تتوهَّمه. وأما قوله: ويوم يثرب كنَّا فحلة العرب. فإن مسرف بن عقبة المرّيَّ، حين كان أباح المدينة، زعموا أنه قد كان هناك أمرٌ قبيحٌ من السودان والجند، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء مضر: فسائلْ مسرف المُرِّىَّ عنكم ... غداة أباح للجند العذارى فمازجكم على حنق زنوجٌ ... وفزَّ الشام كالأسد الضواري ودافع وهرزٌ والرس عنكم ... ورأس الحبش يحكم في ذمار فأفسد نسلكم بسواد لونٍ ... وأيرٍ مثل غرمول الحمار

فذكر إباحة الحبش لليمن كما ذكر إباحة مسرفٍ للمدينة. وأما قوله: حمارة جمعت من كل محزوة ... جمع الشُّبيكة نون الزاحر اللَّجب فإنه ذهب إلى ما تقوله الرواة أن حمير كانت حَمَّارة. وأما الشُّبيكة فأراد الشبكة. وقال السودان: فهذا الفضل فينا، ولم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا على جنازةٍ أو قبر، إلا النجاشىّ فإنه صلّى عليه وهو بالمدينة وقبر النَّجاشيّ بالحبشة. قالوا: والنجاسي هو كان زوَّج أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا خالد بن سعيدٍ فجعله وليَّها، وأصدق عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينلر. قالوا: وثلاثة أشياء جاءتكم منْ قبلنا. منها الغالية، وهي أطيب الطيب وأفخره وأكرمه. ومنها النَّعْش وهو أستر للنساء وأصون للحرم. ومنها المصحف، وهو أوقى لما فيه وأحصن له، وأبهى وأهيأ.

قالوا: ونحن أهول في الصدور وأملأ للعيون، كما أن المسوِّدة أهول في العيون وأملأ للصدور من المبيِّضة، وكما أن الليل أهول من النهار. قالوا: والسَّواد أبداً أهول. وإن العرب لتصف الإبل فتقول: الصُّهب سرع، والحُمْر غزْر، والسُّود بهْي. فهذا في الإبل. قالوا: ودهم الخيل أبهى وأقوى، والبقر السود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى. والحمر السُّود أثمن وأحسن وأقوى. وسود الشَّاء أدسم ألباناً وأكثر زبداَ، والدبس أغزر من الحمر. وكل جبلٍ وكل حجرٍ إذا كان أسود كان أصلب صلابةً وأشد يبوسةً. والأسد الأسود لا يقوم له شيء. وليس من التمر أحلى حلاوةً من الأسود، ولا أعم منفعةً ولا أبقى على الدهر. والنخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود الجذوع.

وجاء: " عليكم بالسواد الأعظم ". وقال الأنصاري: أدين وما ديني عليَّ بمغرمٍ ... ولكن على الشُّمِّ الطوال القراوح على كل خوارٍ كأن جذوعها ... طلين بقارٍ أو بدمِّ ذبائح قالوا: وأحسن الخضرة ما ضارع السَّواد. قال الله جلّ وعلا: " ومن دونهما جنتان "، ثم قال لما وصفهما وشوَّق إليهما: " مدهمتان " قال ابن عباس: خضراوان من الرّيّ سوداوان. وليس في الأرض عودٌ أحسن خشباً ولا أغلى ثمناً، ولا أثقل وزناً ولا أسلم من القوادح، ولا أجدر أن ينشب فيه الخطُّ من الآبنوس. ولقد بلغ من اكتنازه والتئامه وملوسته وشدة تداخله، أنه يرسب في الماء

دون جميع العيدان والخشب. ولقد غلب بذلك بعض الحجارة؛ إذ صار يرسب وذلك الحجر لا يرسب. والإنسان أحسن ما يكون في العين ما دام أسود الشعر. وكذلك شعورهم في الجنة. وأكرم ما في الإنسان حدقتاه؛ وهما سوداوان. وأكرم الأكحال الإثمد، وهو أسود. ولذلك جاء أن الله يُدخل جميع المؤمنين الجنة جُرداً مُرداً مكحَّلين. وأنفع ما في الإنسان له كبده التي بها تصلح معدته، وينهضم طعامه، وبصلاح ذلك قام بدنه؛ والكبد سوداء. وأنفس ما في الإنسان وأعزُّه سويداء قلبه، وهي علقةٌ سوداء تكون في جوف فؤاده، تقوم في القلب مقام الدماغ من الرأس. ومن أطيب ما في المرأة وأشهاه شفتاها للتقبيل، وأحسن ما يكونان إذا ضارعتا السَّواد. وقال ذو الرُّمَّة: لمياء في شفتيها حُوَّةٌ لمس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب وأطيب الظِّلِّ وأبرده ما كان أسود. وقال الراجز: " سود غرابيب كأظلال الحجر ".

وقال حميد بن ثور: ظللنا إلى كهفٍ وظلَّت ركابنا ... إلى مستكفاتٍ لهنَّ غروب إلى شجرٍ ألمى الظلال كأنه ... رواهب أحرمن الشراب عذوب وجعل الله الليل سكناً وجماما، والنهار للكسب والكدّ. والذي يدلُّ على أن السواد في وجه آخر مقرونٌ بالشدة والصرامة، والهيج والحركة، انتشار الحيَّات والعقارب وشدة سمومها بالليل، وهيج السباع واستكلابُها بالليل. وتحرك الأوجاع وظهور الغيلان، هذه كلها بالليل. قال: وأشبهنا الليل من هذا الوجه. قالوا: وأبلغ ما تكون القائلة وأشفاها للنفس، وأسرع لمجيئها إذا أردتها، وأبطأ لذهابها إذا كرهتها، ما كان منها في الظلمة، عند إسبال الستور وإغلاق الأبواب. قالوا: وليس لونٌ أرسخ في جوهره وأثبت في حسنه من سواد. وقد جرى المثل في تبعيد الشيء: " لا ترى ذلك حتى يبيضَّ القار، وحتى يشيب الغراب ".

وهو العرض الملاَّء عند الحكماء. وأكرم العطر المسك والعنبر، وهما أسودان. وأصلب الأحجار سُودها. وقال أبو دهبلٍ الجمحيُّ يمدح الأزرق المخزوميَّ، وهو عبد الله بن عبد شمس بن المغيرة: فإنَّ شكرك عندي لا انقضاء له ... ما دام بالجزع من لبنان جلمودُ أنت الممدَّح والمُغلى به ثمناً ... إذ لا يعاتب صخر الجندل السُّود والعرب تفخر بسواد اللون. فإن قال: فعلام ذلك وهي تقول: فلانٌ هجانٌ، وأزهر وأبيض، وأغرُّ؟ قلنا: ليس تريد بهذا بياض الجلد، إنما تريد به كرم الجوهر ونقاءه. وقد فخرت خضر محاربٍ بأنها سود، والسود عند العرب الخضر. وقال الشَّماخ بن ضرار: وراحت رواحاً من زرود فنازعت ... زبالة جلباباً من الليل أخضرا

وقال الراجز: حتى انتضاني الصبح من ليلٍ خضرْ ... مثل انتضاء البطل السيف الذّكرْ وهم يسمُّن الحديد أخضر لأنه صُلب؛ لأن الأخضر أسود. وقال الحارث بن حِلِّزة: إذ رفعنا الجمال من سعف البح ... رين سيراً حتى نهاها الحساء فهزمنا جمع ابن أمِّ قطام ... وله فارسةٌ خضراء وقال المحاربيّ وهو يفخر بأنه من الخضر: في خضر قيسٍ نماني كل ذي فخرٍ ... صعب المقادة آبي الضَّيم شعشاع وبنو المغيرة خضر بني مخزوم. قال عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ويقال إنها للفضل بن العبّاس اللِّهبي: وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب من يساجلني يساجلْ ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب

وخضر غسّان بنو جفنة الملوك؛ قال الغسّانيّ: إن الخضارمة الخضر الذين ودوا ... أهل البريص نماني منهم الحكم وقد ذكر حسانٌ أو غيره الخضر من بني عكيم حين قال: ولست من بني هاشمٍ في بيت مكرمةٍ ... ولا بني جمح الخضر الجلاعيد قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة السَّادة دُلْماً ضخما، نظر إليهم عامر بن الطُّفيل يطوفون كأنهم جمالٌ جونٌ، فقال: بهؤلاء تُمنع السَّدانة. وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخما. وآل أبي طالبٍ أشرف الخلق، وهم سودٌ وأدمٌ ودلْم.

قالوا: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بُعثت إلى الأحمر والأسود ". وقد علمت أنه لا يُقال للزِّنج والحبشة والنُّبة بيضٌ ولا حمر، وليس لهم اسمٌ إلا السُّود. وقد علمنا أن الله عزّ وجل بعث نبيه إلى الناس كافة، وإلى العرب والعجم جميعاً. فإذا قال: " بُعثت إلى الأحمر والأسود " ولسنا عنده حُمرٌ ولا بيض، فقد بُعث إلينا؛ فإنما عنانا بقوله " الأسود ". ولا يخرج الناس من هذين الاسمين، فإن كانت العرب من الأحمر، فقد دخلت في عداد الروم والصَّقالبة، وفارس وخراسان. وإن كانت من السُّود، فقد اشتَّق لها هذا الاسم من اسمنا. وإنما قيل لهم وهم أدم وسمرٌ سودٌ، حين دخلوا معنا في جُملتنا، كما يجعل العرب الإناث من الذكور ذكورا. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمأن الزِّنج والحبشة والنوبة ليسوا بحمرٍ ولا بيض، وأنهم سود، وقد بعثه الله تعالى إلى الأسود والأحمر، فقد جعلنا والعرب سواء، ونكون نحن السُّود دونهم. فإن كان اسم أسود وقع علينا فنحن السُّودان الخُلَّص، والعرب أشباه الخُلَّص. فنحن المتقدِّمون في الدَّعوة. وإذا كان اسمهم محمولاً على اسمنا؛ إذ كنَّا وحدنا يقال لنا سودٌ، ولا يقال لهم سودٌ إلا أن يكونوا معنا. قالوا: وأنتم ترون كثرة العدد مجداً، ونحن أكثر الناس عدداً وولدا.

قالوا: ونحن صنفان: النَّمل والكلاب. قالوا: ولو عدلْتم بالنَّمل العرب كلها لأربتْ عليها. فكيف إذا قُرنت إليها الكلاب؟ ثم كيف إذا ضممتم إليها الحبشة والنُّوبة وفزَّان ومرو وزغاوة وغير ذلك من أنواع السُّودان؟ وليست قحطان من عدنان في شيء. ونحن بالحبشة أشبه، وأرحامنا بهم أمسُّ من عدنان بقحطان. وإن ذكرتم اختلاف اللُّغات؛ فإن لغة عجز هوازن، وقد تختلف اللغات والأصل واحد، وقد تتَّفق والنَّجْر مختلف. ومن دخل أوائل خراسان وأواخرها، وأوائل الجبال وفارس وأواخها، علم أن اللغات قد تختلف لاختلاف طبائع البلدان والأصل واحد. قالوا: وأنتم لم تروا الزِّنج الذين هم الزنج قطُّ، وغنما رأيتم السَّبْي يجيء من سواحل قنبلة وغياضها وأوديتها، ومن مهنتنا وسفلتنا وعبيدنا، وليس لأهل قنبلة جمالٌ ولا عقول. وقنبلة: اسم الموضع الذي ترفون منه سفنكم إلى ساحله. لأن الزِّنج ضربان: قنبلة ولنجوية، كما أن العرب ضربان:

قحطان وعدنان. وأنتم لم تروا من أهل لنجوية أحداً قطُّ، لا من السواحل ولا من أهل الجوف، ولو رأيتموهم نسيتم الجمال والكمال. فإن قلتم: وكيف ونحن لم نر زنجياً قط له عقل صبيٍّ أو امرأة؟ قلنا لكم: ومتى رأيتم من سَبْي السند والهند قوماً لهم عقول وعلم وأدب وأخلاق حتى تطلبوا ذلك فيما سقط إليكم من الزنج. وقد تعلمون ما في الهند من الحساب وعلم النجوم وأسرار الطب، والخرط والنجر، والتصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة، فكيف لم يتَّفق لكم مع كثرة ما سبيتم منهم واحدٌ على هذه الصفة، أو بعشْر هذه الصِّفة؟ فإن قلتم: أهل الشرف والعقل والعلم إنما ينزلون الواسطة، وبقرب دار الملك، وهؤلاء حاشيةٌ وأعلاجٌ وأكرة، ونُزَّال السواحل والآجام والفيوض والجزائر، من أكارٍ ومن صياد. قلنا: وذلك من رأيتم ومن لم تروا منا. وجوابنا هو جوابكم لنا. قالوا: ولو أن الزِّنجيَّ والزنجيَّة إذا تناكحا بقيت أولادهما بعد الحيض والاحتلام ببلاد العراق، كانوا قد غلبوا على الدَّار بالعدد والجلد، والعلم والتدبير، ولكن ولد الهنديِّ والهنديّة، والروميِّ والروميّة، والخراسانيّ والخراسانيّة، يبقون فيكم وفي بلادكم كبقاء آبائهم وأمهاتهم، ولا يبقى ولد

الزِّنجيَّين بعد الحيض والاحتلام. على أنّا لا نصيب في عشرة آلافٍ، واحدٌ يبلغ ما ذكرنا، إلا أن يضرب الزّنجيُّ في غير الزِّنجيات، والزنجيّة في غير الزِّنج. ولولا أن الزّنجي والزّنحيّة قليلاً ما يريدان من الغرائب والغرباء، لكْنَّا على حالٍ سنرى لرجال الزِّنج نسلاً كثيراً. ولكنَّ الزّنجيّة لا تكاد تنشط لغير الزّنجيّ. قالوا: وكذلك البيضان منكم، لا يكادون ينشطون لطلب النَّسل من الزِّنجيات. والزِّنجية أيضاً من الزِّنجي أسرع لقاحاً منها من الأبيض. قالوا: وأنتم لا تكادون تعدُّن ممن ولد له من صلبه مائة ولدٍ إلا أن يكون خليفةً، فيكون ذلك لكثرة الطَّروقة، ولا تجدون ذلك في سائركم. والزِّنج لا تستكثر هذا ولا تستعظمه؛ لكثرته في بلادهم، لأن الزّنجية تلد نحواً من خمسين بطناً في نحو خمسين عاما، في كل بطنٍ اثنين، فيكون ذلك أكثر من تسعين. لأنه يقال إن النساء لا يلدن إذا بلغن الستين إلا ما يحكى عن نساء قريشٍ خاصة. والزّنج أحرص من خلق الله على نسائهم، ونساؤهم لهم كذلك، وهنَّ أطيب من غيرهنّ. قالوا: فتأملوا قولنا واحتجاجنا؛ فإنا قد روينا الأخبار وقلنا الأشعار، وعرفناكم وعرفنا الأمم.

وقد كان الفرزدق أعلم الناس بالنساء، وكان جرب الأجناس كلها فلم يجد مثلهنّ، ولذلك تزوج أم مكّيّة الزنجية وأقام عليها، وترك النساء، للذي وجد عندها. وفي ذلك قال: يا رُبَّ خوْدٍ من بنات الزِّنج ... تمشي بتنُّورٍ شديد الوهج أختم مثل القدح الخلْنج وكانت دنانير بنت كعبوية الزِّنجي عند أعشى سليم، وكانت شديدة السواد، فرآها يوماً وقد خضبت يديها بالحناء، واكتحلت بالإثمد، فقال: تخضب كفّاً بتكْتْ من زندها ... فتخضب الحناء من مسودِّها كأنها والكحل في مرودِّها ... تكحل عينيها ببعض جلدها فلما سمعت ذلك قالت: وأقبح من لوني سواد عجانه ... على بشرٍ كالقلب أو هو أنصع فسمَّوه أسود، وصاح به الصبيان فطلقها. وقد كان صبيحة عرسها قال: إن الدنانير تكون سودا.

فقالت: بياض الرأس أقبح من سوادي ... وشيب الحاجبين هو الفضوح فأمسك عنها حيناً ثم عاودها، فلما فضحته طلقها. قالوا: وإن نظر البضان إلى نساء السودان بغير عين الشهوة فكذلك السودان في نساء البضان. على ان الشهوات عاداتٌ وأكثرها تقليد. من ذلك أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم الهنديات وبنات الهنديات والأغوار. واليمن أشهى النساء عندهم الحبشيات وبنات الحبشيات. وأهل الشام أشهى النساء عندهم الروميات وبنات الروميات. وكل قومٍ فإنما يشتهون جلبهم وسبيهم. إلا الشاذ، وليس الشاذ قياس. قالوا: وأطيب الأفواه نكهةً، وأشدها عذوبةً، وأكثرها ريقاً، أفواه الزنج. والكلاب من بين السِّباع أطيب أفواهاً منها. قالوا: والسود ملاومٌ للعين، وإذا اعتلت فخيف عليها لم يكن لها دواءٌ خيرٌ من القعود في الظلمة وفي يد صاحبها خرقةٌ سوداء. فالسواد للإبصار، وخير ما في الإنسان البصر. وقالوا: والسودان أكثر من البيضان، لأن أكثر ما يعد البيضان فارس والجبال وخراسان، والروم والصقالبة وفرنجة والأبر، وشيئاً

بعد ذلك قليلاً غير كثير. والسودان يعدون الزنج والحبشة، وفزان وبربر، والقبط والنوبة، وزغاوة ومرو، والسند والهند، والقمار والدبيلا، والصين وماصين. والبحر أكثر من البر، وجزائر البحر ما بين الصين والزنج مملوءةٌ سوداناً، كسرنديب، وكله، وأمل، وزابج وجزائرها إلى الهند إلى الصين إلى كابل وتلك السواحل. قالوا: وكان الأعمى الاشتيام يقول: السودان أكثر من البيضان، والصخر أكثر من الوحل، والرمل أكثر من التراب، والماء المالح أكثر من العذب. قالوا: ومنا العرب لا من البيضان؛ لقرب ألوانهم من ألواننا. والهند أسفر ألواناً من العرب، وهم من السودان. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود ". وقد علم الناس أن العرب ليست بحمر كما ذكرنا قبل هذا.

قال: فهذا المفخر لنا وللعرب على جميع البيضان إن أحبَّتْ ذلك العرب؛ وإن كرهته فإن المفخر لنا بالذي ذكرنا على الجميع. قالوا: ولو لم نكثركم إلا بالزابج وحدها لفضلناكم بهم فضلاً مبيناً؛ وذلك أن ملك الزابج إن غضب على أهل مملكة ولم يتقوه بالخراج بعث ألف سنبوقة في كل سنبوقة ألف رجل على أن لا يجلدونهم ولا يقاتلونهم، ولكن يأمرهم أن يقيموا أبداً فيهم حتى يتَّقوهم بالخراج، فيكون ما يأكلون ويشربون ويغذون ويلبسون، أضر عليهم من مقدار الخراج المرار الكثيرة. فإن اتقوهم بالخراج وإلا أرسل إليهم ألف سنبوقة أخرى، فلا يجد ذلك الملك بداً من أن يتقيه بكل ما طلب، ولا يأمن أن يغضب فيأتي عليه وعلى أهل مملكته. قالوا: ولقد نزل ملك الزابج على خليجٍ مرةً والخليج فراسخ في فراسخ، فبينما هو على مائدته وفي سرادقه على شواطئ الخليج، إذ سمع صارخةً فقال: ما هذا؟ وقطع الأكل. قالوا: امرأةٌ سقط ابنها في هذا الخليج فأكله التمساح. قال: وفي مكانٍ أنا فيه شيءٌ يشاركني في قتل الناس! ثم وثب فإذا هو في الخليج. فلما رأوه الناس سقطوا عن آخرهم، فخضخضوه وهو فراسخ في فراسخ، حتى أخذوا تمساحٍ فيه أخذ يدٍ.

فقال: إن أهل الزابج وأغبابها أكثر من شطر أهل الأرض. قالوا: وآخر العمران كله سودانٌ، وما استدار من أقاصي العمران أكثر من أهل الواسطة، كطوق الرحى الذي يلي الهواء، الذي هو أوسع وأكثر ذرعاً مما قصر عنه من فلك الرحى ولنعتبر ذلك بالجناح المطيف، لا يرى أحد ذرعه مع قلة عرضه، ونجده أكثر ذرعاً من نفس الدار. وليس خلف الزابج بيضانٌ، وكذلك جميع بلاد السودان الساكنة في الأطراف وفي آخر أطواق العمران. قالوا: فهذا دليل على أنّا أكثر، وإذا كنّا أكثر كنَّا أفخر. وقد قال شاعركم: ولست بالأكثر منه حصىً ... وإنما العزّة للكاثر قالوا: والقبط جنسٌ من السودان وقد طلب منهم خليل الرحمن الولد فولد له منهم نبيٌّ عظيم الشأن، وهو أبو العرب إسماعيل عليه السلام. وطلب النبيُّ صلى الله عليه وسلم منهم الولد، وولد له إبراهيم، وكنَّاه به جبريل.

قالوا: والحجر الأسود من الجنَّة. والنُّحاس إذا اشتد سواده كان أثمن وأجود. فمن استنكر لون السواد فما في فرنجة والرُّوم والصقالبة من إفراط سبوطة الشعر والرّقّة والصهوبة، والحمرة في شعر الرأس واللِّحية، وبياض الحواجب والأشفار، أقبح وأسمج. وليس في السودان مُغْرَب، ليس المغرب إلا فيكم. ولا سواءٌ من لم تنضجه الأرحام وما جازت به حد التمام. قالوا: ولنا بعد معرفةٌ بالتفلسف والنظر، ونحن أثقف الناس. ولنا في الأسرار حجة. ونحن نقول: إن الله تعالى لم يجعلنا سوداً تشويهاً بخلقنا، ولكن البلد فعل ذلك بنا. والحجة في ذلك أن في العرب قبائل سوداً كبني سليم بن منصور. وكلُّ من نزل الحَّرة من غير بني سليمٍ كلهم سود. وإنهم ليتخذون المماليك للرعي والسقاء، والمهنة والخدمة، من الأشبانيِّين ومن الروم نسائهم، فما يتوالدون ثلاثة أبطن حتى تنقلهم الحرّة إلى ألوان بني سليم. ولقد بلغ من أمر تلك الحرة أن ظباءها ونعمها، وهوامها وذبابه، وثعالبها وشاءها وحميرها، وخيلها، وطيرها كلها سودٌ. والسواد والبياض إنما من قبل خلقة البلدة، وما طبع الله عليه الماء

والتربة، ومن قبل قرب الشمس وبعدها، وشدة حرها ولينها. وليس ذلك منقبل مسخٍ ولا عقوبة، ولا تشويه ولا تقصير. على أن بلاد بني سليم تجري مجرى بلاد الترك. ومن رأى إبلهم ودوابهم وكل شيءٍ لهم تركيٍّ رآه شيئاً واحداً. وكل شيءٍ لهم تركيُّ المنظر. وربما رأى الغزاة دون العواصم أخلاط غنم الروم فلا يخفى عليهم غنم الروم من غنم الشام، للرُّوميَّة التي يرونها فيها. وقد نرى الناس أبناء الأعراب والأعرابيات الذين وقعوا إلى خراسان فلا نشك ُّ أنهم علوج القرى. وهذا موجودٌ في كل شيء. وقد نرى جراد البقل والرِّيحان وديدانهما خضراً، ونرى قمل رأس الشاب سوداً، ونراها إذا ابيض رأسه بيضاً، ونراها إذا خُضِبت حمراً. فليس سوادنا، معشر الزنج، إلا كسواد بني سليم ومن عددنا عليكم من قبائل العرب في صدر هذا الكلام. وما إفراط سواد من اسودَّ من الناس إلا كإفراط بياض من ابيض من الناس. وكذلك السمرة المتولدة من بينهما، وكذلك الزِّيّ والهيئات، وكذلك الصناعات، وكذلك المطاعم والشهوات.

وقد ذكر الشاعر، حين مدح أسيلم بن الأحنف الأسديَّ، سواد اليمانية فقال: أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين تداحى أو لأذنٍ تسمَّع من النَّفر الشُّمِّ الذين إذا انتموا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا جلاً الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدِّهان رأسه وهو أنزع إذا النَّفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقوا وأوسعوا وقد عاب بعض البيضان عبد بني جعدة بلونه، فقال: قد عاب لوني أقوامٌ فقلت لهم ... ما عاب لوني إلا مفرط الحمق إن كان لوني فيه دعجةٌ كلفٌ ... حزن الإهاب فإني أبيض الخلق

أرضي الصديق وأحمي الظعن معترضاً ... صدر القناة وأكنى كنه السَّرق وكانت امرأة عمرو بن شأسٍ تجفو عرار بن عمرو، وكان ابن سوداء، فقال عمرو بن شأسٍ في ذلك، وفي صفة أبناء الحبشيات والزنجيات: ألم يأتيها أني صحوت وأنني ... تخشعت حتى ما أعارم من عرم وأطرق إطراق الشُّجاع، ولو يرى ... مساغاً لنابيه الشجاع لقد أزم أرادت عراراً بالهون ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم وإن عراراً إن يكن غير واضحٍ ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم فإن كنت منِّي أو تحبين شيمتي ... فكوني له كالسمن ربت له الأدم

وإلا فبيني مثل ما بان راكبٌ ... تزود خمساً ليس في سيره أتم وأما الهند فوجدناهم يقدمون في النجوم والحساب، ولهم الخطُّ الهندي خاصة، ويقدمون في الطبِّ، ولهم أسرار الب وعلاج فاحش الأدواء خاصة. ولهم خرط التماثيل ونحت الصور بالأصباغ تتخذ في المحاريب وأشباه ذلك. ولهم الشطرنج، وهي أشرف لعبةٍ وأكثرها تدبيراً وفطنة. ولهم السيوف القلعية، وهم ألعب الناس بها وأحذقهم ضرباً بها. ولهم الرُّقى النافذة في السموم وفي الأوجاع. ولهم غناءٌ معجب. ولهم الكنكلة، وهي وترٌ واحدٌ يمد على قرعةٍ فيقوم مقام أوتاد العود والصنج. ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة عند الثقاف خاصة، ولهم مغرفة المناصفة، ولهم السحر والتدخين والدمازكية. ولهم خطُّ جامعٌ لحروف اللغات، وخطوطٌ أيضاً كثيرة، ولهم شعرٌ كثير وخطب طوال، وطبٌّ في الفلسفة

والأدب. وعنهم أُخذ كتاب كليلة ودمنة. ولهم رأيٌ ونجدةٌ، وليس لأحدٍ من أهل الصبر ما لهم. ولهم من الزِّيّ الحسن والأخلاق المحمودة مثل الأخلَّة والقرن والسواك، والاحتباء، والفرق والخضاب. وفيهم جمال وملحٌ واعتدال وطيب عرق. وإلى نسائهم يضرب الأمثال. ومن عندهم جاءوا الملوك بالعود الهندي الذي لا يعدله عود. ومن عندهم خرج علم الفكر، وما إذا تكلم به على السم لم يضر. وأصل حساب النجوم من عندهم أخذه الناس خاصةً. وآدم عليه السلام إنما هبط من الجنة فصار ببلادهم. قالوا: ومن مفاخر الزنج حسن الخلق، وجودة الصوت. وإنك لتجد ذلك في القيان إذا كنَّ من بنات السنْد. وخصلةٌ أخرى: أنه لا يوجد في العبيد أطبخ من السندي، هو أطبع على طيب الطبخ كله. ومن مفاخرهم أن الصيارفة لا يولون أكيستهم وبيوت صروفهم إلا السند وأولاد السند؛ لأنهم أنفذ في أمور الصرف، وأحفظ وآمن. ولا يكاد أحدٌ أن يجد صاحب كيس صيرفيٍّ ومفاتيحه ابن روميٍّ ولا ابن خراساني.

ولقد بلغ من تبرك التجار بهم أن صيارفة البصرة وبنادرة البربهارات، لما رأوا ما كسب فرجٌ أبو روحٍ السندي لمولاه من المال والأرضين اشترى كل امرئٍ منهم غلاماً سندياً، طمعاً فيما كسب أبو روحٍ لمولاه. قال: وكان عبد الملك بن مروان يقول: " الأدغم سيد أهل المشرق " يعني عبيد الله بن أبي بكرة. وكان أشد السودان سواداً. وإياه يعني عبد الله بن حازم حيث يقول: حبشيٌّ حبشته حبشة. فهذا جملة ما حضرنا من مفاخر السودان. وقد قلنا قبل هذا في مفاخر قحطان، وسنقول في فخر عدنان على قحطان في كثير مما قالوا إن شاء الله.

تم كتاب فخر السودان على البيضان. من تأليف أبي عثمان عمرو بن الجاحظ، بعون الله تعالى وتوفيقه، ومشيئته وتأييده. يتلو إن شاء تعالى رسالة له أيضاً إلى محمد بن عبد الملك في الجد والهزل. والله الموفق للصواب. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا مجمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلامه.

الرسالة الخامسة رسالة في الجد والهزل

الرسالة الخامسة رسالة في الجد والهزل

بسم الله الرحمن الرحيم جُعلت فداك. ليس من أجل اختياري النخل على الزرع أقصيتني، ولا على ميل إلى الصداقة دون إعطائي الخراج عاقبتني، ولا لبغضي دفع الإتاوة والرضا بالجزية حرمتني. ولست أدري لم كرهت قربي وهويت بعدي، واستثقلت روحي ونفسي واستطلت عمري وايام مقامي. ولم سرتك سيئتي ومصيبتي وساءتك حسنتي وسلامتي، حتى ساءك تجملي بقدر ما سرَّك جزعي وتضجُّري، وحتى تميت أن أخطئ عليك فتجعل خطئي حجة لك في إبعادي، وكرهت صوابي فيك خوفاً من أن تجعله ذريعةً لك إلى تقربي. فإن كان ذلك هو الذي أغضبك، وكان هو السبب لموجدتك فليس - جُعلت فداك - هذا الحقد في طبقة هذا الذنب، ولا هذه المطالبة من شكل هذه الجريمة.

ولو كان إذ لم يكن في وزنه وقع قريباً، وإذْ لم يكن عدله وقع مُشبها كان أهون في موضع الضرر، وأسهل في مخرج السماع. فأي شيءٍ بقيت للعدو المكاشف والمنافق الملاطف، وللمعتمد المصر وللقادر المدل. ومن عاقب على الصغير بعقوبة الكبير، وعلى الهفوة بعقوبة الإصرار، وعلى الخطأ بعقوبة العمد، وعلى معصية المتستر بعقوبة معصية المعلن، ومن لم يفرق بين الأعالي والأسافل، وبين الأقاصي والأداني، عاقب على الزنى بعقوبة السرق، وعلى القتل بعقوبة القذف. ومن خرج إلى ذلك في باب العقاب خرج إلى مثله في باب الثواب. ومن خرج من جميع الأوزان وخالف جميع التعديل، كان بغاية العقاب أحق، وبه اولى. والدليل على شدة غيظك وغليان صدرك قوة حركتك وإبطاء فترتك وبعد الغاية في احتيالك. ومن البرهان على ثبات الغضب، وعلى كظم الذنب تمكن الحقد ورسوخ الغيظ، وبعد الوثبة وشدة الصولة. وهذا البرهان صحيحٌ ما صح النظم، وقام التعديل، واستوت الأسباب ولا أعلم ناراً أبلغ في إحراق أهلها من نار الغيظ، ولا حركةً أنقض

لقوة الأبدان من طلب الطوائل مع قلة الهدوء والجهل بمنافع الجمام، وإعطاء الحالات أقسامها من التدبير. ولا أعلم تجارة أكثر خسراناً ولا أخف ميزاناً من عداوة العاقل العالم، وإطلاق لسان الجليس المداخل، والشعار دون الدثار، والخاص دون العام. والطالب - جُعلت فداك - بعرض ظفرٍ ما لم يخرج المطلوب، وإليه الخيار ما لم تقع المنازلة. ومن الحزم ألا تخرج إلى العدو إلا ومعك من القوى ما يغمر الفضلة التي ينتجها له الإخراج. ولا بد أيضاً من حزمٍ يحذرك مصارع البغي، ويخوفك ناصر المطلوب. وبعد - أبقاك الله - فأنت على يقينٍ من موضع ألم الغيظ من نفسك، والغيظ عذاب. ولربما زاد التشفي في الغيظ ولم ينقص منه. ولست على يقين من نفوذ سهمك في صيدك كما أيقنت بموضع الغيظ من صدرك.

والحازم لا يلتمس شفاء غيظه باجتلاب ضعفه، ولا يطفئ نار غضبه تأخر عقوبة من أغضبه، ولا يسدد سهمه إلا والغرض ممكن، والغاية قريبة، ولا يهرب إلا والمهرب معجزة. إن سلطان الغيظ غشوم، وإن حكم الغضب جائر، وأضعف ما يكون العزم عن التصرف أضعف ما يكون الحزم. والغضب في طباع الشيطان، والهوى يتصور في صورة امرأة، فلا يبصر مساقط العيب ومواقع الشرف إلا كلُّ معتدل الطباع، ومعتدل الأخلاط مستوي الأسباب. والله لقد كنت أكره لك سرف الرضا مخافة جواذبه إلى سرف الهوى. فما ظنك بسرف الغضب، وبغلبة الغيظ، ولا سيما ممن قد تعود إهمال النفس ولم يعودها الصبر، ولم يعرِّفها موضع الحظ في تجرع مرارة العفو، وأن المراد من الأمور عواقبها لا عواجلها. ولقد كنت أشفق عليك من إفراط السرور فما ظنك بإفراط الغيظ. وقد قال بعض الناس: لا خير في طول الراحة إذا كان يورث الغفلة، ولا في الكفاية إذا كان يؤدي إلى المعجزة، ولا في كثرة الغنى إذا كان يخرج إلى البلدة. جُعلت فداك. إن داء الحزن وإن كان قاتلاً فإنه داءٌ مماطل، وسقمه سقم مطاول، ومعه من التمهُّل بقدر قسطه من أناة المرة السوداء. وداء

الغيظ سفيهٌ طيَّاش، وعجولٌ فحَّاش، يُعجل عن التوبة، ويقطع دون الوصية، ومعه من الخرق بقدر قسطه من التهاب المرة الحمراء. والعجول يخطئ وإن ظفر، فكيف به إذا أخفق. على أن إخفاقه يزيد في حقيقة خطئه كما أن ظفره لا ينتقص من مقدار زلله. وأنت روحٌ كما أنت وحشيّ من قرنك إلى قدمك. وعمل الآفة في الدِّقاق والعتاق أسرع، وحدها عن الغلاظ الجفاة أكلُّ؛ فلذلك اشتد جزعي لك من سلطان الغيظ وغلبته. والله لو كنت ابتلعت مزار بابك، وأبطلت بمر الباطل، ووردت الفظائع كلها، ونقضت الشروط بأسرها، وأفسدت نتاجك، وقتلت كل شطر نجيٍّ لك، ورفعت من الدنيا فراهة الخيل، وجعلت المروج كلها حمىً، وكنت صداق المرادين، وبرسام الأولاد، ومسخت جميع الجواري في صورة أبي رملة ورددت شطاط خلقك إلى جُعودة أبي حثَّة وكنت أول من سنَّ بيع الرجال في النخاسين، وفتح باب الظلم لأصحاب المظالم، وحولت إليك عقل أبى دينار، وطبعت على بيان ما نويه، وأعنت على موت المعتصم، وغضبت لمصرع الأفشين، واستجبت للديك الأبيض

الأفرق وأحببت صالح بن حنين، وأحوجتك إلى حاتم الريش، وكان أبو الشماخ صديقي، والفارسيّ من شيعتي لكان ما تركبني به سرقا، ولكنت في هذا العتاب متعديا. جعلت فداك، لا تتعرض لعداوة عقلاء الرواة، ولضغينة حفاظ المثالب، وللسان من قد عرف بالصدق والتوخي، وبقلّه الخطل والتنكب، ما وجدت عن ذلك مندوحة، ووجدت المذهب عنه واسعاً. ولا تعاقب واداً وإن اضطرك الواد، ولا تجعل طول الصحبة سبباً للضجر، واصبر على خلقه خيرٌ من جديد غيره. وصداقة المتطرف غرور،

وملالة الصديق أفن، والعلم بأقدار الذنوب غامض، وحدود الذنوب في العقاب خفيّة. ولن يعرف العقاب من يجهل قدر الذّنب. والأجرام كثيرة الأشكال، ومتفاوتة في الأقدار. وإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك من مقدار عقابك عليه فانظر في علته وسببه، وإلى معدنه الذي منه نجم، وعشه الذي منه درج، ومغرسه الذي منه نبت، وإلى جهة صاحبه في التتايع والتترع، وفي النزوع والثبات، وإلى قحته عند التقريع، وإلى حيائه عند التعريض، وإلى فطنته عند الرشق والتورية؛ فإنّ فضل الفطنة ربما دلّ على فرط الاكتراث، وعلى قدر الاكتراث يكون الإقدام والإحجام. فكلُ ذنبٍ كان سببه الدالّة وضيق صدرٍ وغلظ طباعٍ وحدة مرارٍ، من جهة تأويل أو من جهة غلط في المقادير، أو من طريق فرط الأنفة وغلبة طباع الحميّة من بعض الجفوة أو لبعض الأثرة، أو من جهة استحقاقه عند نفسه وفيما زين له من عمله، وأنّه مقصّر به مؤخّر عن مرتبته، أو كان مبلّغاً عنه أو مكذوباً عليه، وكان ذلك جائزاً عليه غير ممتنع فيه

فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل وعلى هذه الأسباب، وفي هذه المجاري، فليس يقف عليها كريم، ولا يلتفت لها حليم. ولست أسميه بكثرة معروفة كريماً حتى يكون عقله غامراً لعلمه، وعلمه غالباً لطبعه، وحتى يكون عالماً بما ترك، وعارفاً بما أخذ. واسم الحليم جامع للكظم، والقدرة، والفهم. فإذا وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلاّ البغضة فلو لم ترض لصاحبه بعقابٍ دون قعر جهنم لعذرك كثيرٌ من العقلاء، ولصوّب رأيك عالمٌ من الأشراف. ومتى كانت علته طبيعة البذاء، وخلقه الشرارة والتسرع، فاقتله قتل العقارب، وادمغه دمغ رءوس الحيات. وإذا كان ممن لا يسيء فيك القول، ولا يرصدك بالمكروه إلاّ لتعطيّه على الخوف، وتمنع عرضك من جهة التقيّة فامنعه جميلَ رفدك، واحتل في منعه من قِبَل غيرك؛ فإنك إن أعطيته على هذه الشريطة، وأعظمته من هذه الحكومة فقد شاركته في سبّ نفسك، واستدعيت الألسنة البذيّة إلى عرضك، وكنت عوناً لهم عليك. وإذا كان ممن لا يسيء فيك القول، ولا يرصدك بالمكروه إلا لتعطيه على الخوف، وتمنع عرضك من جهة التقيَّة فامنعه جميل رفدك، واحتل في منعه من قبل غيرك؛ فإنك إن أعطيته على هذه الشريطة، وأعظمته من هذه الحكومة فقد شاركته في سبِّ نفسك، واستدعيت الألسنة البذية إلى عرضك، وكنت عوناً لهم عليك. وكيف تعاقبه على ذنبٍ لك شطره، وأنت فيه قسيمه، إلا أن عليك غرمه ولك غنمه.

ومن العدل المحض والإنصاف الصحيح أن تحطَّ عن الحسود نصف عقابه، وأن تقتصر على بعض مقداره، لأن ألم حسده لك قد كفاك مؤونة شطر غيظك عليه. وأما المواد فلا تعرض له البتة، ولا تلتفت لفته، ولو أتى على الحرث والنسل، وحتى على الروح والقلب. ولا تغتر بقوله إنيّ وادٌّ، ولا تحكم له بدعواه بأني جدّ وامق. وانظر أنت في حديثه وإلى مخارج لفظه، وإلى لحن قوله، وإلى طريقته وطبيعته، وإلى خلقه وخليقته، وإلى تصرُّفه وتصميمه وإلى توقُّفه وتهوُّره. وتأمل مقدار جزعه من قلة اكتراثه، وانظر إلى غضبه فيك ولك، وإلى انصرافه عمن انصرف عنك وميله إلى من مال إليك، وإلى تسلمه من الشر وتعُّضه له، وإلى مداهنته وكشف قناعه. بل لا تقضِ له بجماع ذلك ما كان ذلك في أيام دولتك ومع إقبالٍ من أمرك، وإن طالت الأيام وكثرت الشهور، حتى تنتظم احالات، وتستوي فيه الأزمان. نعم، ثم لا تحكم له بذلك حتى تكون حاله مقصورة على محَّبتك، ومحنوة على نصيحتك، بالعلل التي توجب الأفعال. والأسباب التي تسخر القلوب للمودات، كالعلل الثابتة في الصنيعة، والأسباب الموجودة مع مولى

العتاقة؛ فإن عللهما خلاف علل مولى الكلالة، وخلاف علل الصديق الذي لم يزل يرى أنه مثلك، وأنه يستوجب منك استيجابك، ولا سيما إذا كانت الصنيعة أنت ابتدأتها، وأنت أبو عذرتها. فإن أنت لم تحكم له بالغاية مع اجتماع هذه العلل فيه، ومع توافيها إليه، ولم تقضِ له بأقصى الغاية مع ترادف هذه الأسباب وتكامل هذه الدلائل، وتعاون هذه البرهانات، فكل خبرٍ بيَّنة زور، وكل دلالةٍ فاسدة. وقد قال الأول: " دلائل الأمور أشد تثبيتاً من شهادات الرجال ". إلا أن يكون في الخبر دليل، ومع الشهادة برهان؛ لأن الدليل لا يكذب ولا ينافق ولا يزيد ولا يبدِّل، وشهادة الإنسان لا تمتنع من ذلك، وليس معها أمانٌ من فسادٍ ما كان الإمكان قائماً. وبعد متى صار اختيار النَّخل على الزرع يحقد الإخوان، ومتى صار تفضيل الحبّ وتقريظ الثمر يورث الهجران، ومتى تميزوا هذا التميُّز وتهالكوا هذا التهالك؟ ومتى صار تقديم النخلة ملة، وتفضيل السنبلة نخلة؟ ومتى صار الحكم للنعجة نسباً وللكرْمة صهراً، ومتى تكون فيها ديانة وتستحكم فيها بصيرة، ويحدث عنها حميَّة.

وقد كنا نعجب من حرب البسوس في ضرع نابٍ، ومن حرب بعاثٍ في مخرفٍ تمر، ومن حرب غطفان في سبق دابة. فجئتنا أنت بنوع من العجب أبطل كل عجب، وآنسنا بكل غريب، وحسن عندنا كل قبيح، وقرب عندنا كل بعيد. فأن جهلت - أعزك الله - غضبك فمثلي جهل ما لا علة له، وإن عجزت عن احتمال عقابك فمثلي ضجَّ مما لا يطيق حمله. ولا عار على جازعٍ إلا فيما يمكن في مثله الصبر، ولا لوم على جاهل فيما لا ينجح في مثله الفكر. وليس هذا أول شركٍ نصبته، ولا أول كيد أرغته، ولا هي بأول زبية غطيتها وسترتها، وحيلةٍ أكمنتها وربصتها. وقد كانت التقيَّة والاقتصاد أسلم، بل كان العفو أرحم، والتغافل أكرم.

ولا خير في عقوبة تشمت العدو المتقادم، وينادي بها العدو الحادث. والأناة أبلغ في الحزم، وأبعد من الذم، وأحمد مغبةً وأبعد من خرق العجلة. وقد قال الأول: " عليك بالأناة؛ فإنك على إيقاع ما أنت موقعه أقدر منك على رد ما قد أوقعته ". فقد أخطأ من قال: وقد يدرك المتانيِّ بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل بل لو قال: والمتأني بدرك حاجاته أحق، والمستعجل بفوت حاجاته أخلق، لكان قد وفى المعنى حقه، وإن كان القول الأول موزوناً والثاني منثوراً. ولولا أنه اشتق المستعجل من العجلة لما قرنه بالمتأني. وينبغي أن يكون الذي غلطه قولهم: " ربَّ عجلة تهب ريثاً ". فجعل الكلام الذي خرج جواباً عند ما يعرض من السبب، كالكلام الذي خرج ارتجالاً، وجعله صاحبه مثلاً عاماً. فإذا سميت العمل عجلةً وريثاً فاقض على الريث بكثرة الفوت، وبقدر ذلك من العجز، وعلى العجلة بقلة النجح، وبقدر ذلك من الخرق. والريث والأناة في بلوغ الأمل وإدراك النعمة كانتهاز الفرصة واهتبال

الغرّة. والأناة وإن طالت فليست من جنس الريث، وانتهاز الفرصة وإن كان في غاية السرعة فليس من جنس العجلة. وربت كلمة لا توضع إلا على معناها الذي جُعلت حظَّه، وصارت هي حقه والدالَّة عليه دون غيره، كالحزم والعلم، والحلم والرفق، والأناة والمداراة، والقصد والعدل وكالانتهاز والاهتبال، وكاليأس والأمل، وكالخرق والعجلة، والمداهنة والتسرع، والغلو والتقصير. وربت كلمةٍ تدور مع خُلتَّها، وتتقلب مع جارتها، وعلى قدر ما تقابل من الحالات، وتلاقي من الأسباب، كالحب والبغض، والغضب والرضا، والعزم والإرادة، والإقبال والإدبار، والجدّ والفتور؛ لأن هذا الباب الأخير يكون في الخير والشر، ويكون محموداً ويكون مذموماً. وصاحب العجلة - أعزك الله - صاحب تغريرٍ ومخاطرة، إن ظفر لم يحمده عالمٌ، وإن لم يظفر قطعته الملاوم. والريث أخو المعجزة، ومقرون بالحسرة، وعلى مدرجة اللائمة. وصاحب الأناة إن ظفر نغع غيره بالغنم، ونفع نفسه بثمرة العلم، وأطاب ذكره دوام شكره، وحفظ فيه ولده. وإن حُرِم

فمبسوطٌ عذره، ومصوب رأيه مع انتفاعه بعلمه وما يجد من عزِّ حزمه ونبل صوابه، ومع علمه بالذي له عند العقلاء، وبعذره عند الأولياء والأعداء. وما عندي لك إلا ما قال الدِّهقان لأسد بن عبد الله وهو على خراسان، حين مر به وهو يدهق في حبسه: إن كنت تعطى من ترحم فارحم من تظلم. إن السموات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا جُنَّةٌ إلا الثقة بنزول الغير، ولا سلاحٌ إلا الابتهال إلى المولى لا يعجزه شيء. يا أسد، إن البغي يصرع أهله، وإن الظلم مرتعه وخيم، فلا تغترّ بإبطاء العقاب من ناصرٍ متى شاء أن يغيث أغاث. وقد أملى لقومٍ كي يزدادوا

إثماً. وجميع أهل السعادة إما سالمٌ من ذنب، وإما تاركٌ إصرار. ومن رغب عن التمادي فقد نال أحد المغنمين، ومن خرج من السعادة فلا غاية له إلا دار الندوة. وسواءٌ - جُعلت فداك - ظلمت بالبطش والغشم، أو ظلمت بالدَّحس والدَّسّ. فشاور لبك، وناظر حزمك، وقف قبل الوثبة، واحذر زلة العالم. وقد قال صاحبكم: من استشار الملالة وقلد طبيعته الاستطراف، وجعل الخطوة ذنبا، والذنب ذنوباً، ومقدار الطَّرفة إصراراً، والصَّغير كبيرا، والقليل كثيرا، عاقب على المتروك الذي لا يُعبأ به، وبلغ بالبطش إلى حيث لا بقيَّة معه، ورأى أن القطيعة التي لا صلة معها، والتخليج الذي لا تجمُّل معه، الحزم المحمود؛ وأن الاعتزام في كل موضعٍ هو الرأي الأصيل. وقال أيضاً: من كانت طبيعته مأمونة عليه عند نفسه، وكان هواه رائده الذي لا يكذبه، والمتأمِّر عليه دون عقله، ولم يتوكل لما لا يهواه على

ما يهواه، ولم ينصر تالد الإخوان على الطارف، ولم ينصف المملول المبعد من المستطرف المقرِّب، ولم يخف أن تجتذبه العادة، وتتحكم عليه الطبيعة، فليرسم حججهما، ويصور صورهما، في كتابٍ مفرد أو لفظ مسموع، ثم يعرضهما على جهابذة المعاني وأطباء أدواء العقول، على ألا يختار إلا من لا يدري أيَّ النوعين يبغي، وعلى أيهما يحامي، وأيهما دواؤه وأيهما داؤه. فإن لم يستعمل ذلك بما فضل له من سكر سوء العادة، لم يزل متورِّطاً في الخطاء مغموراً بالذمّ. سمعتك وأنت تريدني وكأنك تريد غيري، وكأنك تشير على من غير أن تنصَّني. وتقول: إني لأعجب ممن ترك دفاتر علمه متفرقة مبثوثة، وكراريس درسه غير مجموعة ولا منظومة، كيف يعرضها للتجرُّم، وكيف لا يمنعها من التفرُّق. وعلى أن الدفاتر إذا انقطعت حزامته، وانحل شداده، وتخرَّمت ربطه، ولم يكن دونه وقاية ولا جُنَّة، تفرق ورقه؛ وإذا تفرق ورقه اشتد جمعه، وعسر نظمه، وامتنع تأليفه، وربما ضاع أكثره. والدَّفّتان أجمع وضمُّ الجلود إليها أصون، والحزم لها أصلح. وينبغي للأشكال أن تُنظم وللأشباه أن تؤلَّف؛ فإن التأليف يزيد الأجزاء الحسنة حسنا، والاجتماع

يحدث للمتساوي في الضعف قوة. فإذا فعلت ذلك صرت متى وجدت بعضها فقد وجدت كلها، ومتى رأيت أدناها فقد رأيت أقصاها؛ فإن نشطت لقراءة جميعها مضيت فيها. وإذا كانت منظومةً، ومعروفة المواضع معلومة، لم تحتج إلى تقليب القماطر على كثرتها، ولا تفتيش الصناديق مع تفاوت مواضعها، وخفت عليك مؤونتها وقلت فكرتك فيها، وصرفت تلك العناية إلى بعض أمرك، وادخرت تلك القوة لنوائب غدك. وعلى أن ذلك أدل على حبّك للعلم، واصطناعك للكتب، وعلى حسن السياسة، والتقدم في إحكام الصناعة. وقلت: لأمرٍ ما جمعوا أسباع القرآن وسوره في مصحف، ولم يدعوا ما فيه مفرَّقاً في الصدور، ولا مبدّداً في الدفاتر، ومفرَّقاً في القماطر. على ذلك أجمع المسلمون، والسابقون الأولون، والأئمة الرشيدة، والجماعة المحمودة، فتوارثه خلفٌ عن سلف، وتابعٌ عن سابق، وصغير عن كبير، وحديثٌ عن قديم. ولم أشك في أنها نصيحة حازم، ومشورة وامق، أو رأيٌ حضر أو حكمة

نبغت، أو صدرٌ جاش فلم يُملك، أو علمٌ فاض فلم يُرد، استعمله من استعمله، وتركه من تركه. فلما أخذت بقولك، وصرت إلى مشورتك وأكثرت حمد الله على إفادتك من العلم وحظِّ عنايتك من النَّقْل، وجمعت البعض إلى البعض، والشكل إلى الشكل، وتقدمت في استجادة الجلود، وفي تمييز الصناع، وفي تخيُّر البياعات، وغرمت المال، وشغلت البال، وجعلتها مصحفاً مصحفا، وأجملتها صنفاً صنفا؛ ورأيت أنيِّ قد أحكمت شأني، وجمعت إلى أقطاري، ورأيت أن أنظر فيها وأنا متسلقٍ ولا أنظر فيها وأنا منتصبٌ، استظهاراً على تعب البدن؛ إذ كانت الأسافل مثقلة بالأعالي، وإذ كان الانتصاب يسرع في إدخال الوهن على الأصلاب؛ ولأن ذلك أبقى على نور البصر، وأصلح لقوة الناظر؛ إذ كل واحدٍ من هذه المصاحف قد أعجز يدي بثقل جرمه، وضيق صدري بجفاء حجمه. وإذا ثقل أنكأ الصدر، وأوهن العظم.

وإذا أنا نظرت فيها وانا جالسٌ سدرت عيني، وتقوس ظهري، واجتمع الدم في وجهي، وأكرهت بصري على غير جهته، وأجريت شعاع ناظري في غير مجراه. وقد علمت - أبقاك الله - مع خبرتك بمقابح الأمور، ومواقع المنافع والمضار، ثم بمصالح العباد والبلاد، أنّ من كان على مقطع جبل، أو على شرفات قصر، فأراد رؤية السماء على بعدها، وجد ذلك على العين سهلا خفيفاً، وإن أراد أن يرى الأرض على قربها، وجد ذلك على العين عبئاً ثقيلاً. فإن بدا لي أن يقابل عيني به العبد، أو تواجهني به الأمة، كلفت أخرق الناس كفّاً، وأقلهم وفقاً، وأكثرهم التفاتا، واحضرهم نعاسا، وأقلهم على حالٍ واحدة ثباتاً، وأجهلهم بمقدار الموافقة، ولمقادير المقابلة، وبحطِّ اليد ورفعها، وإمالتها ونصبها. ثم رأيت في تضجُّرهم وتكرههم وفرارهم منه، ما صيَّر تجشُّمي لثقل وزنه، ومقاساتي لجفاء حجمه، أهون على يدي، وأخف على قلبي. فإن تعاطيته عند ذلك بنفسي فشقاءٌ حاضر، وإن ألزمته غيري فغيظٌ قاتل. وحتى صارت الحال فيها داعيةً إلى ترك درسها والمعاودة لقراءتها، مع ما كان فيها من الفائدة الحسنة، والمنافع الجامعة، ومن شحذ الطبيعة، وتمكين حسن العادة. ولو لم يكن في ذلك إلا الشغل عن خوض الخائضين، والبعد عن لهو اللاهين، ومن الغيبة للناس والتمنِّي لما في أيديهم، لقد كان نفع ذلك كثيراً، وموقعه من الدِّين والفرض عظيما.

ومتى ثقل الدرس تثاقلت النفس، وتقاعست الطبيعة. ومتى دام الاستثقال أحدث الهجران. وإذا تطاول الكدّ رسخ الزُّهد. وفي ترك النَّظر عمي البصر، وفي إهمال الطبيعة كلال حد الطبيعة. وعلى قدر الحاجات تكون الخواطر، كما أنه على قدر غريزة العقل تصحُّ الحوائج وتسقم، وعلى قدر كثرة الحاجة تتحرك الجارحة ويتصرف اللسان، ومع قلة الحركة وبعد العهد بالتصرُّف يحدث العي ويظهر العجز ويبطئ الخاطر. ومع ذهاب البيان يفسد البرهان، وفي فساد البرهان هلاك الدنيا وفساد الدِّين. فقد بلغت ما أردت، ونلت ما حاولت. فحسبك الآن من شج من يأسوك، ومن قتْل من يُقتل فيك. جُعلت فداك. إنه ليس يومي منك بواحد، وأنا على عقابك أوجد. وليس ينجيني منك معقل وعل، ولا مفازة سبع، ولا قعر بحر، ولا رأس طود، ولا دغل ولادحل، ولانفقٌ ولا مغارة ولا مطمورة. وليس ينجيني منك إلا مفازة المهلَّب. فإن أعرتني قلبه وعلمتني حيلته، وأمكنتني من سكينه. وإلا فأنا أول من ابتلعته تلك الحيّة. ولا والله إن بي

قوةٌ على الثعبان، فكيف التِّنِّين. أعفني من حيّة المهلب ثم اقتلني أي قتلةٍ شئت. إن احترست منك ألفيت لنفسي كدّاً شديداً، وغمّاً طويلاً، وطال اغترابي وافتراق ألافي، وتعرَّضت للعدو، وتحرَّشت بالسباع. فإن استرسلت إليك لم تر أن تقتلني إلا شرَّ قتلةٍ وآلمها، ولم تعذِّبني إلا بأشد النقم وأطولها. ولو أردت ذبحي لاخترت الكليل على المرهف، والتطويل على التذفيف، حتى كأني علمت عليك: " شاه مات "، أو أكلت سبعةً وأطعمتك واحدة. ولقد تقدمت في المكر واستظهرت عليَّ في الكيد، حتى توليت ذلك في صغار كتبي وفيما لا تحفل به من دوام أمري، وعلمت أن الدَّرس لليل وأن الا......للنهار، وأن الكتاب لايقرأ إلا ليلاً والنيران زاهرة، والمصابيح مُقرَّبة. وعلمت أن كل من ضعف بصره وكلَّ نظره، فإنه أبداً أقرب مصباحاً واعظم ناراً. وأن المحرور المحترق، والممرور الملتهب، والبائس المتهافت، إذا كان صاحب كتب ودرس، أنه لا يجد

بدّاً من الصبر على ما يُحرقه ويعميه، أو الترك للقراءة فيها والتعرُّض لها. فخيّرتني بين العمي والجهل. وما فيهما حظٌّ لمختار. وقلت: إذا سخن بدنه سُجِن بوله، وإذا سُجِن بوله جرح مثانته وأحرق كليته، وطبخ فضول غذائه، وجفف ما فضل عن استمرائه فأحاله حصىً قاتلاً وصخراً جامداً، وهو دقيق القضيب ضيق الإحليل، فإذا حصاه يورثه الأسر، وفي ذلك الأسر تلف النفس أو غاية التعذيب. وقلت: فإن ابتليت بطول عمره أقام فينا مشغولاً بنفسه، وإن ذهب عنّا فقد كفانا مؤونة الحيلة في أمره. جعلت فداك، ما هذا الاستقصاء وما هذا البلاء؟! وما هذا التتبّع لغوامض المسألة، والتعرّض لدقائق المكروه؟! وما هذا التغلغل في كل شيءٍ يخمل ذكرى؟! وما هذا الترقّي إلى كلِّ ما يحطُّ من قدريّ؟! وما عليك أن تكون كتبي كلها من الورق الصينيّ، ومن الكاغد الخرسانيّ؟! قل لي: لمَ زينت النسخ في الجلود، ولمَ حثثتني على الأدم، وأنت تعلم أنَّ الجلود جافية الحجم، ثقيلة الوزن، إن أصابها الماء بطلت، وإن كان يوم لثقٍ استرخت. ولو لم يكن فيها إلاَّ أنها تبغّض إلى أربابها نزول الغيث، وتكرَّه إلى مالكيها الحيا، لكان في ذلك ما كفى ومنع منها.

قد علمت أن الورّاق لا يخطُّ في تلك الأيام سطرا، ولا يقطع فيها جلدا. وإن نديت - فضلاً على أن تمطر، وفضلاً على أن تغرق - استرسلت فامتدت. ومتى جفت لم تعد إلى حالها إلاّ مع تقبُّض شديد، وتشنج قبيح. وهي أنتن ريحاً وأكثر ثمناً، وأحمل للغش: يغش الكوفيّ بالواسطيّ، والواسطيّ بالبصريّ، وتعتق لكي يذهب ريحها وينجاب شعرها. وهي أكثر عقداً وعجراً، وأكثر خباطاً وأسقاطاً، والصفرة إليها أسرع، وسرعة انسحاق الخطِّ فيها أعمّ. ولو أراد صاحب علم أن يحمل منها قدر ما يكفيه في سفره لما كفاه حمل بعير. ولو أراد مثل ذلك من القطنىّ لكفاه ما يحمل مع زاده. وقلت لي: عليك بها فإنها أحمل للحكِّ والتغيير، وأبقى على تعامر العارية وعلى تقليب الأيدي، ولريدها ثمن، ولطرسها مرجوع، والمعاد منها ينوب عن الجدد. وليس لدفاتر القطنيّ أثمانٌ في السوق وإن كان فيها كلًّ حديث طريف، ولطفٍ مليح، وعلم نفيس. ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلوداً ثم كان فيها كلُّ شعر بارد وكلُّ حديث غثّ، لكانت أثمن، ولكانوا عليها أسرع. وقات: وعلى الجلود يعتمد في حساب الدواوين، وفي الصّكاك والعهود، وفي الشروط وصور العقارات. وفيها تكون نموذجات النقوش،

ومنها تكون خرائط البرد. وهنَّ أصلح للجرب ولعفاص الجرَّة وسداد القارورة. وزعمَّت أنَّ الأرضة إلى الكاغد أسرع، وأنكرت أن تكون الفأرة إلى الجلود أسرع، بل زعمت أنها إلى الكاغد أسرع وله أفسد، فكنت سبب المضرة في اتخاذ الجلود والاستبدال بالكاغد، وكنت سبب البليّة في تحويل الدفاتر الخفاف في المحمل، إلى المصاحف التي تثقل الأيدي وتحطّم الصدور، زتقوّس الظهور، وتعمي الأبصار. وقد كان في الواجب أن يدع الناس اسم المصحف للشيء الذي جمع القرآن دون كل مجلّد، وألاَّ يرموا جمع شيءٍ من أبواب التعلّم بين الدّفَّتين، فيلحقوا بما جعله السلف للقرآن غير ذلك من العلوم. دع عنك كلَّ شيء. ما كان عليك أن يكون لي ولدٌ يحيي ذكرى ويحوى ميراثي، ولا أخرج من الدنيا بحسرتي، ولا يأكله مراءٍ يرصدني، وابن عمٍّ يحسدني، ولا يرتع فيه المعدلون في زمان السوء، ولا تصطنع فيه الرجال، ويقضي به الذِّمام. فقد رأيت صنيعهم في مال المفقود والمناسخة والوارث الضعيف، ومن مات بغير وصية.

جُعلت فداك، إن النفوس لا تجود لمولى الكلالة بما تجود به لأولاد الأصلاب وما مسَّ تلك الأصلاب؛ لأن الرحم الماسَّة والقرابة الملتصقة، واللُّحمة الملتحمة، وإن أمَّلت التركة ونازعت إلى المورِّث، فمعها ما يأطرها ويثنيها، ويحزنها ويبكيها، ويحرِّك دمها ويستغرز دمعها. وقد يشفع للولد إلى أبيه حالٌ أبية كانت من أبيه. وابن العم الذي ليس بالبعيد فيحُتَّك من جسده، وليس بالقريب المحنوّ على رحمه، وسببه الجاذب له إلى تمِّي مماتي أمتن من سببه إلى تمنِّي بقائي، وهو إلى الحال الموجبة للقسوة والغلظة أقرب منه إلى الحال الموجبة للرقة والعطف. وليس ينصرك إذا نصرك ولا يحامي عليك لقرابته منك، ولكن لعلمه بأنه متى خذلك حلَّ به ضعفك، واجترأ بعد ضعفك عليه عدوُّه. فهو يريد بنصره من لا يجب عليه شكره، ويقوي ضعف غيره بدفع الضعف عن نفسه. جُعلت فداك. ما كان عليك من بُنيِّ صغير يكون لي، ولا سيما ولست عندك ممن يدرك كسبه أو تبلغ نصرته، أو يعاين بره أو يؤمل إمتناعه. وما كان عليك مع كبر سني وضعف ركني، أن يكون لي ريحانةً أشمُّها وثمرةً أضمُّها، وأن أجد إلى الأماني به سبباً، وإلى التلهي سلما، وأن تكثر لي من جنس سرور الحالم، وبقدر مايمتَّع به راجيالسَّراب اللامع، حتَّى حببت قصر عمري إلى وليِّي، وشوقته إلى ابن عمِّي؛ وحتى ذدت فيما عنده

مع كثرة ما عنده، وحتى صيّرني حبُّه لموتي إلى حبِّ موته، وتأميل مالي إلى تأميل فقره؛ وحتى شغلتني عمن كان يشغل عدوي عني. وسواءٌ أعبت على ألا يكون لي ولدٌ قبل أن يكون، أو عبت على ألا يكون بعد أن كان. وإنما يعذب الله على النيّة والقصد، وعلى التوخي والعمد. وكما أنه سواء أن تحتال في ألا يكون لي مالٌ قبل أن أملكه. أو احتلت في ألا يكون بعد أن ملكته. وكنت لا أدري ما كان وجه حبك لإعناتي، والتشييد بذكر تراثي، والتنويه باسمي، ولا لم زهدتني في طلب الولد، ورغّبتني في سيرة الرهبان. فإذا أنت لم ترفع ذكري في الأغنياء إلا لتعرض ذنبي للفقراء، ولم تكثر مالي إلا لتقوِّي العلة في قتلي، فيالها مكيدة ما أبعد غورها، ويالها حفرةً ما أبعد قعرها. لقد جمع هذا التدبير لطافة الشخص ودقة المسلك، وبُعد الغاية. والله لو دبّرها الإسكندر على دارا بن دارا، أو استخرجها المهلَّب على سفيان بن الأبرد، وفتحت على هرثمة في مكيدة خازم بن خزيمة، ولو دبَّرها لقيم بن لقمان على لقمان بن عاد، ولو أراغها قيس بن زهير على حصن بن حذيقة، ولو توجهت لكهَّان بني أسد على دُهاة قريش لقد كان ذلك

من تدبيرهم نادراً بديعاً، ولكان في مكايدهم شاذّاً غريباً. وإنها لترتفع عن قصيرٍ في كيد الزباء، وعن جذيمة في مشاورة قصير. وما إخالها إلا ستدقُّ على ابن العاص، وتغمض على ابن هند، ويكل عنها أخو ثقيف، ويستسلم لها ابن سمية. هذا والله التدبير لا مخاريق العرَّاف، وتزاويق الكاهن، وتهاويل الحاوي، ولا ما ينتحلها صاحب الرَّئيّ؛ بل تضلُّ فيها رُقي الهند، وتقرُّ بها سحرة بابل. فلو كنت إذ أردت ما أردت، وحاولت ما حاولت، رفعت قبل كل شيءٍ المؤانسة، ثم أبيت المؤاكلة، ثم قطعت البر، ثم أذنت مع العامة، ثم أعملت الحرمان، ثم صرحت بالجفوة، ثم أمرت بالحجاب، ثم صرمت الحبل، ثم عاديت واقتصدت، ثم من بعد ذلك كله أسرفت واعتديت، لكنت

واحداً ممن يصبر أو يجزع، فلعلي كنت أعيش بالرفق، وأتبلغ بحشاشة النفس، وأعلل نفسي بالطمع الكاذب. ولكن فجاءات الحوادث وبغتات البلاء لا يقوم لها الحجر القاسي، ولا الجبل الراسي. فلم تدع غايةً في صرف ما بين طبقات التعذيب إلا أتيت عليها، ولا فضول ما بين قواصم الظهر إلا بلغتها. فقد متُّ الآن فمع من تعيش؟ بل قد قتلتني فمن الآن تعاشر!، كما قال ديوست المغنِّي لكسرى حين أمر بقتله لقتله تلميذه بلهبذ: قتلت أنا بلهبذ، وتقتلني، فمن يطربك؟ قال: خلُّوا سبيله؛ فإن الذي بقي من عمره هو الذي أنطقه بهذه الحجة. ولكني أقول: قد قتلتني فمع من تعيش؟ أمع الشطر نجيِّين؟! فقد قال جالينوس: إياك والاستمتاع بشيء لا يعمُّ نفعه. إن الكلام إنما صار أفضل من الصمت؛ لأن نفع الصمت لا يكاد يعدو الصَّامت، ونفع الكلام يعمُّ القائل والسامع، والغائب والشاهد، والراهن والغابر. وقالوا: ومما يدل من فضل الكلام على الصمت، أنك بالكلام تخبر عن الصمت وفضله، ولا تخبر بالصمت عن فضل الكلام. ولو كان

الصمت أفضل لكانت الرسالة صمتاً، ولكان عدم القرآن أفضل من القرآن. وقد فرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضَّل وميَّز وحصَّل، حيث قال: " رحم الله امرأً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم ". فجعل حظَّ السكوت السلامة وحدها، وجعل حظَّ القول الجمع بين الغنيمة والسلامة. وقد يسلم من لا يغنم، ولا يغنم إلا من سلم. فأما الدواب فمن يضع المركب الكريم إلى الصاحب الكريم؟ ومن يعدل إمتناع بهيمة بإمتناع أديب. قالت ابنة النعمان: لم نر فيما جربنا من جميع الأصناف أبلغ في خير وشرٍّ من صاحب. ولما عزم ابن زياد على الحُقنة بعد أن كان تفحشها قال له حارثة بن بدر: ما أجد أولى بتولي ذلك من الطبيب. قال عبيد الله: كلا، فأين الصاحب. والله أن لو نتجت في كل عام ألف شبديز، وأحبلت في كل ليلة أربعة آلاف ربرب، وصار لك كل نهر المبارك بدلاً من بعض بابك.

وأكلت رأس الجنيد بن حاق الأشيم، وأحبلت ابن ألغز من إفراط الشبق، لما كان ينبغي لك أن تعاملنا بهذه المعاملة، ولا كان ينبغي أن تقتلنا هذه القتلة، ولو اقتصرت من العقوبة على شيء دون شيء لكان أعدل، ولو عفوت البتة لكان أمثل. إنَّ الاعتزام على قليل العقاب يدعو إلى كثيره، ومبتدئ العقاب بعرض لجاج. وليس يعاقب إلا غضبان. والغضب يغلب العزم على قدر ما مكن، ويحيّر اللب بقدر ما سُلِّط. والغضب يصوّر لصاحبه مثل ما يصوّر السكر لأهله. والغضبان يشعله الغضب، ويغلي به الغيظ، وتستفرغه الحركة، ويمتلئ بدنه رعدة، وتتزايل أخلاطه، وتنحل عقده، ولا يعتريه من الخواطر إلا ما يزيده في دائه، ولا يسمع من جليسه إلا ما يكون مادةً لفساده. وعلى أنَّه ربَّما استفرغ حتى لا يسمع، واحترق حتى لا يفهم. ولولا أنَّ الشيطان يريد ألا يخلو من عمله، ولا يقصِّر في عادته، لما وسوس إلى غضبان ولا زيَّن له، ولما فتح عليه؛ إذ كان قد كفاه، وبلغ أقصى مناه. وليس يصارع الغضب أيام شبابه وغرب نابه شيءٌ إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيءٌ إلا قهره. وإنما يحتال له قبل هيجه،

ويتوثق منه قبل حركته، ويتقدم في حسم أسبابه وفي قطع علله. فإمَّا إذا تمكن واستفحل، وأذكى ناره واشعل، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعاً وطاعة، فلو سعطته بالتوراة، ووجرته بالإنجيل، ولددته بالزبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم عليه السلام شفيعاً لما قصَّر دون أقصى قوَّته، ولتمنى أن يعار أضعاف قدرته. وقد جاء في الأثر: أن أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب. قال قتادة: ليس يُسكن الغضب إلا ذكر غضب الرحمن عز وجلّ. وقال عمرو بن عبيد: ذكر غضب الرب يمنع من الغضب. إلا أن يريد الذكر باللسان. ويسمىالمتوجِّد غضبان، والذكور حقودا. فلا تقف - حفظك الله - بعد مضيِّك في عقابي التماساً للعفو عني، ولا تقصِّر عن إفراطك من طريق الرحمة لي؛ ولكن قف وقفة من يتَّهم الغضب على عقله، والشيطان على دينه، ويعلم أن للعقل خصوماً، وللكرم أعداء. وإنَّ من النِّصف أن تنتصف لعقللك من خصومه، وتنتصف لكرنك من عدوه، وتمسك إمساك من لا يبرئ نفسه من الهوى، ولا يبرئ الهوى من الخطأ.

ولا تنكر لنفسك أن تزلّ، ولعقلك أن يهفو؛ فقد زلّ آدم عليه اللام وهفا، وعصى ربَّه وغوى، وغرّهُ عدوُّه وخدعه خصمه، وعيب باختلال عزمه وسكون قلبه إلى خلاف ثقته. هذا وقد خلقه الله بيده، وأسكنه في دار أمنه، وأسجد له ملائكته، ورفع فوق العالمين درجته، وعلَّمه جميع الأسماء بجميع المعاني. ولا يجوز أن يعلِّمه الاسم ويدع المعنى، ويعلِّمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه. والاسم بلا معنىً لغوٌ، كالظَّرف الخالي. والأسماء في معنى الأبدان والمعاني في معنى الأرواح. اللفظ للمعنى بدنٌ، والمعنى للَّفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معانٍ كمن وهب شيئاً جامداً لا حركة له، وشيئاً لا حس فيه، وشيئاً لا منفعة عنده. ولا يكون اللفظ اسماً إلا وهو مضمَّن بمعنى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسمٌ إلا وله معنىً. في قوله جلّ ذكره: " وعَلَّمَ آدم الأسماء كلها " إخبارٌ أنه قد علَّمه المعاني كلها. ولسنا نعني معاني تراكيب الألوان والطُّعوم والأراييح، وتضاعيف الأعداء التي لا تنتهي ولا تتناهى. وليس لما فضل عن مقدار المصلحة ونهاية الرسم اسمٌ إلا أن تدخله في باب العلم فتقول: شيء، ومعنىً. الأسماء التي تدور بين الناس إنما وُضعتْ علاماتٍ لخصائص الحالات،

لا لنتائج التركيبات. وكذلك خاصّ الخاصّ لا اسم له إلا أن تجعل الإشارة المقرونة باللفظ اسماً. وإنما تقع الأسماء على العلوم المقصورة، ولعمري إنها لتُحيط بها وتشتمل. فأما العلوم المبسوطة فإنها تبلغ مبالغ الحاجات ثم تنتهي. فإذا زعمت أن الله تبارك وتعالى علم آدم الأسماء كلها بمعانيها، فإنما تعني نهاية المصلحة لا غير ذلك. هذا وآدم هو الشجرة وأنت ثمرة، وهو سماويٌّ وأنت أرضيّ، وهو الأصل وأنت الفرع، والأصل أحقُّ بالقوة والفرع أولى بالضَّعف. فلست أسألك أن تمسك إلا ريثما تسكن إليك نفسك، ويرتدُّ إليك ذهنك، وحتى توازن بين شفاء الغيظ والانتفاع بثواب العفو، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة، وترى تضرُّم الغضب وما يفضي لأهله من فضل القوة. على أن العقل إذا تخلَّص من سُكر الغضب أصابه ما يُصيب المخمور إذا خرج من سكر شرابه، والنهزم إذا عاد إلى أهله، والمبرسم إذا أفاق من برسامه. وما أشك أن العقل حين يُطلق من إساره كالمقيَّد حين يفكُّ من قيوده؛ يمشي كالنزَّيف، ويحجل كالغراب. فإذا وجب عليك أن تحذر على عقلك مُخامَرة داء الغضب بعد تخلُّصه، وأن تتعمَّده بالعلاج بعد مباينته له وتخلُّصه

من يده، فما ظنك به وهو أسيرٌ في مُلكه، وصريع تحت كلكله، وقد غطَّه في بحره، وغمره بفضل قوته. وقد زعموا أن الحسن حضر أميراً قد أفرط في عقوبة بعض المذْنبين، فكلَّمه فلم يحفل بكلامه، وخوّفه فلم يتّعظ بزجره، فقال: إنك إنما تضرب نفسك، فإن شءت الآن فأقلَّ، وإن شئت فأكثر. ومعاذ الله أن أقول لك كما قال الحسن لذلك الظالم المعتدي، والمصمِّم القاسي، ولكني أقول: اعلم أنك تضرب من قد جعلك من قتله في حِلٍّ. وإن كان القتل يحلّ بإحلال المقتول، ويسقط عنه عقابه بهبة المظلوم؛ ولو أمكن في الدين تواهب قصاص الآخرة في الدُّنيا؛ وإن كان ذلك مما تجود به النفس يوم الحاجة إلى الثواب وإلى رفع العقاب، وكان الوفاء مضموناً لكنت أول من أسمحتْ بذلك نفسه، وانشرح به صدره. جُعلت فداك، إنِّي قد أحصيت جميع أسباب التعادي، وحصَّلت جميع علل التضاغن، إلا علَّة عداوة الشيطان للإنسان؛ فإني لا أعرف إلا مجازّها في الجملة ولا أحقُّ خاصتها على التحصيل. وعلى حالٍ فقد عرفتها من طريق الجملة وإن جهلتها من طريق التفصيل. فأما هذا التجنِّي فلم أعرفه في خاصٍّ ولا عامّ. فمن أسباب العداوات تنافس الجيران والقرابات، وتحاسد الأشكال في الصناعات. ومن أمتن أسبابهم إلى الشر وأسرعها إلى المروءة والعقل،

وأقدحها في العرض وأحبطها على الدين، التشاحُّ على المواريث، والتنازع في تخوم الأرضين. فإن اتفَّق أن يكون بين المتشاكلين في القرابة كان السبب أقوى، والداء أدوى. وعلى حساب ذلك إن جمعت هذه الخصومة مع الجوار والقرابة واستواء الحظّ في الصناعة. ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى قضاته: أن ردوا القرابات عن حرا القضاء فإن ذلك يورث التضاغن. ولم أعجب من دوام ظلمك، وثباتك على غضبك، وغلظ قلبك، ودورنا بالعسكر متجاورة، ومنازلنا بمدينة السلام متقابلة، ونحن ننظر في علمٍ واحد، ونرجع في النحلة إلى مذهب واحد؛ ولكن اشتدَّ عجبي منك اليوم وأنا بفرْغانة وأنت بالأندلس، وأنا صاحب كلام وأنت صاحب نتاج، وصناعتك جودة الخطّ وصناعتي جودة المحو، وأنت كاتبٌ وأنا أمّيّ، وأنت خراجيٌّ وأنا عُشريّ، وأنت زرعيٌّ وأنا نخليّ. فلو كنت إذ كنت من بكر كنت من تميم، كان ذلك إلى العداوة سبباً، وإلى المنافسة سُلَّماً. أنت أبقاك الله شاعر وأنا راوية، وأنت طويلٌ وأنا قصير، وأنت أصلع وأنا أنزع، وأنت صاحب براذين وأنا صاحب حمير، وأنت ركبنٌ وأنا عجول، وأنت تدبّر لنفسك وتُقيم أود غيرك، وتتسع لجميع الرعية، وتبلغ

بتدبيرك أقصى الأمة، وأنا أعجز عن نفسي وعن تدبير أمتي وعبدي. وأنت منعم وأنا شاكر، وأنت ملك وأنا سُوقة، وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت تفّعل وأنا أصف، وأنت مقدَّم وأنا تابع، وأنت إذا نازعت الرجال وناهضت الأكفاء لم تقل بعد فراغك وانقطاع كلامك: لو كنت قلت كذا كان أجود، ولو تركت قول كذا لكان أحسن؛ وأمضيت الأمور على حقائقها، وسلمت إليها أقساطها على مقادير حقوقها؛ فلم تندم بعد قول، ولم تأسف بعد سكوت. وأنا إن تكلمت ندمت، وإن جاريت أبدعت ورأيي كله دبري. وأنت تُعدُّ في الشطرنج زبرب، وأنا في الشطرنج لا أحد. وما أعرف هاهنا اجتماعاً على مشاكلة إلا في الإيثار بخبر الخُشْكار على الحُوَّاري، والباقلَّي على الجوزينج، وأنا جميعاً ندَّعي الهندسة.

فقد بلغ الآن من جُرمي في مساواتك في خبز الخُشكار، وإيثاري الباقلَّي، والمعرفة بتقدير المدن وإجراء القُنى، أن أُنفى من جميع الأرض، وأن تجعل في دمي الجعائل؛ فإني قد هجرت الخُبز البتَّة إلى مواصلة التَّمر، ونزلت الوبر بدلاً من المدر. دعنا الآن فإنك فارغ. إن الله يعلم - وكفى به عليماً، وكفى به شهيداً، وكفى به حفيظاً ووكيلاً، وكفى بجرأة من يعلِّمه ما لا يعلم جُرأةً وترُّضاً، وكفى بحاله عند الله بُعداً ومقتاً - لقد أردت أن أفديك بنفسي في بعض كتبي، وكنت عند نفسي في عداد الموتى وفي حيِّز الهلكى، فرأيت أنّ من الخيانة لك ومن اللؤم في معاملتك، أن أفديك بنفسي ميتة، وأن أُريك أنّي قد جُدت لك بأنفس عِلْق والعلق معدوم. ليس أنّ من فداك فقد جُعل فِداك، ولكنَّها نهايةٌ من نهايات التعظيم، ودليل من دلائل الاجتهاد. ومن أعلن الاجتهاد لك واستسرَّ خلاف ذلك فقد نافق وخان، وغشَّ وألام. وأخلقْ بمن أخلَّ بهذه ألا يرعى حقّاً، ولا يرجع إلى صحَّة ولا إلى حقيقة. ثم أنت لا يشفيك منّي السمُّ المجْهز، ولا السمُّ الساري؛ فإنه أبعد غايةً في التطويل وأبلغ في التعذيب. لا ولا لعاب الأفاعي وداهية الدواهي، فإنه يُعجز الرُّقى ويفوت ذرع الأطباء. لا ولا نار الدُّنيا، بل لا يشفيك من نار الآخرة إلا الجحيم، ولا يشفيك من الجحيم إلا أن أُرى في سوائه وفي

أصطمَّة ناره، وفي معظم حريقه، وفي موضع الصَّميم من لهيبه. بل لا تكتفي بذلك دون الدَّرك الأسفل، بل لا يرضيك شيء سوى الهاوية، بل لا ترضى إلا بعذاب آل فرعون، أشد العذاب، بل لا يرضيك إلا عذاب إبليس الذي زيَّن الختْر للعباد، وبثه في البلاد، والذي خطّأ الربّ وعائده وردَّ قوله، وغيَّر عليه تدبيره، ولم يزده إلا شكّاً ولجاجة، وتمادياً وإصراراً. ثم لم يرض من الجدّ في مخالفة أمره، وخلع العذار في شدة الخلاف عليه إلا بأن يحلف على شدة اجتهاده في ذلك بعزّته، فجعل العزّة المانعة من إسخاطه سبيلاً إلى إسخاطه، والقسم الحاجز دون إغضابه وسيلةً إلى إغضابه، حيث قال: " فبعزَّتك لأغوينَّهم أجمعين ". فعليك عافاك الله بإبليس إن كنت للع تغضب، أو عليك بالأكفاء إنْ كنت لنفسك تتشفَّى. لا ولكنك استغمرتني واستضعفتني، وجعلتني فرُّوج الرفّاء، وتريد أن تتعلَّم فيَّ معاقبة الأعداء. فإن كنت إلى هذا تذهب فجعفر بن معروف أضعف مني، وعبد الله بن عيسى أسوأ خبراً مني. سبحان الله، يسلم عليك حيدر الأفشين، ويهلك عليك عمرٌو الجاحظ،

ويسعد بك أبعد البعداء ويشقى بك أقرب القرباء. وتتغافل عن مثل الجبال التماساً وحبَّاً للسلامة، وتغلغل إلى المحَّرات طلباً للتعرض وحبَّاً للشر. ومتى قدرت على عدوّك فلم تجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه، ومتى لم تتغافل عنه تكرُّماً أو تدعه احتقاراً، ومتى اكترثت لكبير وضاق صدرك عن شيء عظيم فهأنذا بين يديك، فكُلْني بخلّ وخردل؛ فوالله إنك لتأكله غثَّاً غير مريء، وخبيثاً غير شهي. لا والله، لكأنك وقعت على مطمورة، وظفرت برأس خاقان. كنت أظن أن الرشاقة والحلم لا يجتمعان، وأن ظرْف الإنسان وأصالة الرأي لا يفترقان، وأن النَّزق والخفة مقرونان بخفّة البدن، وأن الرَّكانة والأناة مجموعان لصاحب السِّمن، حتى رأيتك فاعتقدت بك خلاف ذلك الرأي، واستبدلت فيك ضدَّ ذلك الظَّنّ. فتركتني حتى إذا نازعت الرجال، وتعرّضت للشَّجي، وشغلت نفسي بثلب الخصام، وانقطعت إلى أصحاب القدود، وجعلت عُدوائي في تقديم القضاف، وطال لساني، وأظهرت الاستبصار في فضلك، وجعلت مزاج أخلاطك هو الحجة، واعتدالك هو النهاية، وطبيعتك

هي المشكلة؛ وزعمت ان منظرك يغني عن مخبرك، وأن أوَّلك يُجلّي عن آخرك شددت على شدة المهر الأرن، وتسرعت إلي تسرُّع الغرِّ النَّزق، وألححت عليَّ إلحاح اللَّجوج الحنق. كأنك لم تحفل بما يشيع لك من اسم المتسرع، وبما تضاف إليه من سخف المتترِّع، بعد أن تكذِّب قولي وتفنِّد خبري. وقد تقدمت التجربة أن الحديد لا يكون حقوداً، وأن المصطنع لا يكون للصنيعة حاسداً، فقصدت على رأسٍ إلى القياس الممتحن فأفسدته، وإلى الطبائع المعتدلة فنقضْتها، وإلى القضايا الصحيحة فرددتها. وقالوا بأجمعهم: حالان لا تقبلان الحسد، ولا يخلوان من الرَّشد: حال الصَّنيعة لمصطنعه، وحال المولى لمعتقه. فكيف إذا كان الصَّنيعة صديقاً، وكان للخاصّة محتملا. وإنما صارت - أبقاك الله - أجزاء النفس وأعضاء الجسد مع كثرة عددها، واختلاف أخلاطها، وتباعد أماكنها، نفساً واحدة وجسداً واحدا،

لاستواء الخواطر، ولاتّفاقها على الإرادة. فأنت وصديقك الموافق، وخليلك ذو الشكل المطابق، مستويان في المحابّ، متفقان في الهوى، متشاكلان في الشَّهوة؛ وتعاونكما كتعاون جوارح أحدكما، وتسالمكما كتسالم المتَّفق من طبائعكما. فإذا بان منك صديقك فقد بان منك شطرك، وإذا اعتل خليلك فقد اعتلَّ نصفك، بل النفوس المضمّنة كالمعاني المضمَّنة، فذهاب بعضها هو ذهاب جميعها. فموتي هو موت صديقي، وحياتي هي حياة صديقي. فلا تبعدنَّه من قلبك بعد بدنه من بدنك؛ فقد يقرُب البغيض وينأى الحبيب. ولعلَّ بعض طبائعك المخالط لروحك، أن يكون أعدى من كل عدو، وأقطع من كل سيف، وأخوف عليك من الأسد الضاري، ومن المّ الساري. ثم اعلم أنَّ الموثق بمودته قليل، وقد صار اليوم المعتمد عليه في صحَّة العقدة، وفي كرم الغيب والعشرة، عنقاء مُغْرِبٍ. ولا أعلم الكبريت الأحمر إلا أوجد منه. وإني لأظنُّ القناعة أكثر منه. وما أكثر من جعل انقطاع سببه وضعف طمعه لانقطاع سببه قناعةً. وقيل ليحيى بن خالد: أي شيء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمّة البعيدة بالعيش الدُّون، وصديقٌ قليل الآفات كثير الإمتناع، شكور النفس، يصيب مواضع المدح.

لا والله إنْ تعرف على ظهرها موضعاً للسرّ، ولا مكاناً للشكوى، ولا روحاً تأنس بها، ولا نفساً تسكن إليها. ولو أردت أن تعرّفني من جميع العالمين رجلاً لما قدرت على أحدٍ يحتمل الغنى. ومحتمل الفقر قليل، ومحتمل الغنى عديم. إن الخير - أبقاك الله - في ايام كثرته كان قليلاً فما ظنُّك به في ايام قلَّته، وإن الشرَّ في أيام قلّته كان كثيراً فما ظنك به في أيام كثرته، وأنت غريبٌ في المصطنعين. وأنا غريبٌ في الصنائع، والغريب للغريب نسيب، ونسب المشاكلة وقرابة الطبيعة الموافقة، أقرب من نسب الرحم؛ لأن الأرحام مولعةٌ بالتحاسد، لهجة بالتقاطع، وأن التحابَّ على طبع المشاكلة. والتلاقي على وفاقٍ من الطبيعة، أبعد من التفاسد، وأبعد من التعادي. وسبب التعادي عرض في طبائع الغرباء، وجوهرٌ في طبائع الأقرباء. واعلم أنك لا تزال في وحشة إلى وحشة، وفي غربة إلى غربة، وفي تنكُّر العيش وتسخُّط الحال، حتى تجد من تشكو إليه بثَّك، وتُفضي إليه بذات نفسك. ومتى رأيت عجباً لم تضحك رؤيتك له بقدر ما يضحك إخبارك إياه. فمن أغلب عليك ممن كانت هذه حاله منك، وموقعه من نفسك. ولو أن شيبتي التي بها استعطفتك، وكبرة سنيّ التي بها استرحمتك، اللتان لم يحدثا عليَّ وأنا في ذراك، ولم يُحلاَّ بي إلا وأنا في ظلِّك، لكان في شفاعة الكبرة، واسترحام الضَّعف والوهْنة، ما يردعك عني أشدَّ الردع،

ويؤثر في طباعك أبين الأثر. فكيف وقد أكرمتني جديداً، ثم تريد أن تهينني خلقاً، وقوَّيت عظمي أغلظ ما كان، ثم تريد أن توهنه أرقَّ ما كان. وهل هرمت إلا في طاعتك، وهل أخلقني إلا معاناة خدمتك!. قال علي بن أبي طالب: رأي الشَّيخ الضَّعيف أحبُّ إلينا من جلد الشاب القوي. وانا أقول كما قال أخو ثقيف: مودة الأخ التالد وإن أخلق خيرٌ من مودَّة الطارف وإن ظهرتْ بشاشته، وراعتْك جدّته. وقال عبد الملك بن مروان: رأي الشَّيخ أحبُّ إلينا من مشهد الغلام. وقال بعضهم: ليس بغائب من شهد رأيه، وليس بفانٍ من بقي أثره. وما كمَّل العقل ولا وفّر التجربة شيءٌ كنقصان البدن، وكأخْذ الأيام من قوي الأعضاء. وقال آخر: ما قبّح الرجال شيءٌ كالوكال، ولا أفسد الكريم شيءٌ كحبّ الاستطراف. وخير الناس من أتْبع الغضب مواقع الذنوب، وأتْبع العقاب مواقع الغضب، ولم يُتبع الغضب مواقع الهوى.

ولقد منحتك جلد شبابي كملا، وغرْب نشاطي مقتبلا، وكان لك مهناه، وثمرة قواه، واحتملت دونك عرامه وغربه، وكان لك غنمه وعليَّ غُرمه، وأعطيتك عند إدبار بدني قوّة رأيي، وعند تكامل معرفتي نتيجة تجربتي، واحتملت دونك وهْن الكبر وإسقام الهرم. وخير شركائك من أعطاك ما صفا، وأخذ لنفسه ما كدر. وأفضل خلطائك من كفاك مؤونته، وأحضرك معونته، وكان كلاله عليه، ونشاطه لك. وأكرم دخلائك وأشكر مؤمِّليك من لا يظن انك تسمِّي جزيل مل تحتمل في بذْلك ومواساتك مؤونة، ولا تتابع إحسانك إليه نعمة، بل يرى أن نعمة الشاكر فوق نعمة الواهب، ونعمة الوادّ المخلص فوق نعمةالجواد المُغْني؛ وأنه لا يبلغ في إعطاء المجهود من نفسه في خلع جميع ماله إلى مؤمليه والمتحرِّمين به، حسن نيّة الشاكر الوامق، وحقَّ تمنّي الواد العارف. ولو اقتضيت جميع حقوقك عليّ، وأنكرت جميع حقوقي عليك، أو جعلت حقِّي عليك حقّاً لك، ثم زعمت أن حقَّك لا يؤدّى إلى شكره، وأن حقّي لا يلزم حكمه، وأن إحساني إساءة، وأن الصغير من ذنوبي كبير، وأنّ اللَّمم مني إصرار، وأن خطائي عمد، وأنَّ عمدي كلَّه كفر، وأن

كفري يوجب القمع ويمنع من النُّزوع لما كان عندك. وما اتَّسع قولي لأكثر من هذا العقاب، ولا أشد من هذا الغضب. وما ينبغي أن يكون هذا المقدار من النِّقم إلالباري النَّسم في دار البقاء، لا في دار الفناء. والذي يجوز بين العباد إنما هو تعزير أو حدٌّ، أو قود أو قصاص، أو حبسٌ أو تغريب، أو إغرام أو إسقاط عدالة، أو إلزام اسم العداوة، أو عقاب يجمع الألم والتقويم والتنكيك، فيكون مضض الألم جزاءً له ومعدلاً أسبابه. وربما قصر الإيقاع على السُّخط وجاوز حدَّ الغضب. وربما كان مقصوراً على مقدارها، ومحبوساً على نهاية حالهما. وليس كلُّ عقابٍ نتيجة سخط، وقد لا يسمَّى ذلك الموقع والمعاقب واجداً كما يسمَّى ساخطاً، ولا يسمَّى عاتباً كما يسمَّى غضبان، فيخرج كما ترى من أن يسمَّى سُخطاً أو موجودةً وغضباً، كما خرج عقاب آدم عليه السلام من هاتين الصفتين، ومن جميع القسمين. وعلى أنه كان إخراجاً من دار الخلد والكرامة إلى دار الابتلاء والمحنة؛ ومع كا في ذلك من إعراء الجلد، والتَّسمية بالظلم، مع الوصف له بضعف العزْم، والاغترار بيمين الخصم. والعجب أنك تضجر من طول مسألتنا لعفوك مع حاجتنا إلى عاجل عفوك، ولا تضجر بطول تشاغلك بظلم صديقك مع استغنائك عن ظلم صديقك. فلو كنت إنما تفعل ذلك لأنك تلذُّ ضرب السياط ورضَّ العظام،

فجنْب " دندن " أحمل، والسوط في ظهر قاسمٍ أحسن، وأبدانهما تحت السياط أثبت، وإن أرواحهما أبقى، وهي بأرواح الكلاب أشبه، وإلى طبائع الضباب أقرب، وأرحامهم بالحمير أمسُّ، ومن يُشير فيهم بذلك أكثر، والأجر في ضربهم أعظم. فاستدم اللذَّة بطريق اللَّذّة، وضع الأمور في مواضعها يطُلْ سرورك بها. إن عتاق الخيل وأحرار الطير أدق حسّاً، وأشدُّ اكتراثاً. والكوادن الغلاظ والمحامر الثقال، أكلُّ حسّاً وأقلُّ اكتراثاً. وليس الصَّبر بالصمت والسكوت، ولا بقلة الصِّياح والضُّموز. وقد يصيح تحت السوط من لا يقرُّ على صاحبه، ولا يدل على عورة نفسه. والكلب المضروب يجمع الصِّياح والهرب، والفرس العتيق يعدو ولا يصيح، والحافر كلَّه كظومٌ ضامز، والمخلب كلُّه ضجورٌ صيَّاح، والضَّجر في الخُفّ عامٌّ، والبخاتيُّ أضجر. فسمن الظّلف عامّ، وهو في الضأن أخفى، وكلّ مضروب هارب صيَّاح، ومنها ما يجمع الخصال كالكلب والبعير. والهرب من المكروه محمود، والمقام عليه مذموم؛ كالذي يعتري العير السقيم وتجده في الفرس الكريم، من قلة الاكتراث وشدته.

وصبر البدن غير صبر النفس. وليس بقاء الأرواح المنعقدة تحت الضرب الشديد من اعتزام النفس، ولا يدلّ على الكرم. وفي المثل: " ما رُوح فلانٍ إلآ رُوح كلب ". وتقول العرب: " الضَّبُّ أطول شيءٍ ذماء ". والكلب لئيم، والضبُّ غير كريم. والبازي أكرم من الصقر وأشدُّ وأكثر ثمنا، وأجمل جمالاً، وأعفى صيداً، وأنبل نبلا؛ إن قبض عليه قتله، وإن لم ينحِّ كندرته عن قربه أوهن نفسه. ثم بلغ من رقة طبع البازي وعتقه أنه ينقطع بردِّ البازيار له إلى مسقطه من يده. والصقر يتعلق بسباقيه من رجل حمل بدرع فيضطرب منكَّساً إلى الصبح، ثم تجده وكأنه لم يزل على كندرته وعلى مسقطه الذي يؤتّى له.

فليس بدني من أبدان الاحتمال فأمتعك بطول ثباته لك، ولا أثبت لك ثبات العير الكليل الحسّ، ولا أجعل الصياح دليلا على الإقرار، فيكون ذلك أحد ما تتمتَّع به، وتدرك به حاجات نفسك. وقد دللتك على ناسٍ يجمعون لك الخصال التي فيها دوام لذّتك، وتمام شهوتك؛ فإن زعمت أن الذي يثبت روح دندن في بدنه، وروح القاسم في جسمه، سرورهما بما قد احتجنا من كنوز الخلافة وأموال الرعيَّة، وليس ذلك من رسوخ أرواحهما في أبدانهما، ومن شدة الاحتجان وقوة الاكتناز، ففرَّق بينهما وبين تلك الأموال التي تمسك أرواحهما بالحيل اللطيفة، والتدبير النافذ، وبأن تمضي فيهما حكم الكتاب والسنّة؛ فإنه سيحلُّ عقدة أرواحهما عقداً عقداً، فيعظم أجرك، ويطيب ذكرك، وتطيع الخليفة وتتحبَّب به إلى الأمة؛ فتكون قد أحسنت في صرف الضَّرب إلى أهله، وأرحت منه غير أهله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

الرسالة السادسة رسالة في نفي التشبيه

الرسالة السادسة رسالة في نفي التشبيه

إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي داود بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاءك وحفظك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك. قد عرفت - أكرمك الله - ما كان الناس فيه من القول بالتشبيه والتعاون عليه والمعاداة فيه، وما كان في ذلك من الإثم الكبير والفرْية الفاحشة، وما كان لأهله من الجماعات الكثيرة والقوة الظاهرة، والسلطان المكين، مع تقليد العوامِّ وميل السَّفلة والطَّغام. وليست للخاصة قوّة بالعامة، ولا للعيلة قوة على الأراذل؛ فقد قالت الأوائل فيهم، وفي الاستعاذة بالله منهم: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعوذ بالله من قومٍ إذا اجتمعوا لم يُملكوا، وإذا تفرقوا لم يُعرفوا. وقال واصل بن عطاء: " ما اجتمعوا إلا ضَرُّوا، ولا تفرَّقوا إلا نفعوا " فقيل له: قد عرفنا مضرّة الاجتماع، فما منفعة الافتراق؟ قال: يرجع الطَّيَّان إلى تطيينه، والحائك إلى حياكته، والملاح إلى ملاحته، والصَّائغ إلى صياغته، وكلُّ إنسانٍ إلى صناعته. وكلُّ ذلك مرفقٌ للمسلمين، ومعونة للمحتاجين. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا نظر إلى الطَّغام والحَشْو قال: " قبح الله هذه الوجوه، لا تُعرف إلا عند الشرّ ".

وقال الخُرَيميّ عند ذكره إياهم، في شعره، بالتَّعاوي مع المخلوع: من البواري تراسُها ومن ال ... خُوص إذا استلأمتْ مغافرها لا الرِّزق تبغي ولا العطاء ولا ... يحشرها بالفناء حاشرُها وقال شبيب بن شبيبة: قاربوا هذه السَّفلة وباعدوها، وكونوا معها وفارقوها، واعلموا أنَّ الغلبة لمن كانت معه، وأنَّ المقهور من صارت عليه. وقد وصفهم بعض العلماء فقال: يجتمعون من حيث يفترقون، ويفترقون من حيث يجتمعون، لا يُفلُّ غربهم إذا صالوا، ولا تنجع فيهم الحيلة إذا هاجموا. والعوامُّ - أبقاك الله - إذا كانت نشراً فأمْرُها أيسر، ومُدّة هيجها أقصر. فإذا كان لها رئيسٌ حاذق ومُطاع مدبِّر، وإمام مقلَّد، فعند ذلك

ينقطع الطَّمع، ويموت الحقّ ويُقتل المُحقّ. فلولا أنَّ لهم متكلِّمين، وقُصّاصاً متفقِّهين، وقوماً قد باينوهم في المعرفة بعض المباينة، لم يلحقوا بالخاصّة، ولا بأهل المعرفة التَّامَّة. ولكنا كما نخالفهم نرجوهم، وكما نُشفق منهم نطمع فيهم. ثم قد علمت ما كنا فيه من إسقاط شهادات الموحِّدين وإخافة علماء المتكلِّمين. ولولا الكلام لم يَقُم لله دين، ولم نبنْ من الملحدين، ولم يكن بين الباطل والحقّ فرق، ولا بين النبي والمتنبِّي فصل، ولا بانت الحُجة من الحيلة، والدليل من الشُّبهة. ثم لصناعة الكلام مع ذلك فضيلةٌ على كلِّ صناعة، ومزيّةٌ على كل أدب. ولذلك جعلوا الكلام عياراً على كلِّ نظر، وزماماً على كلِّ قياس. وإنما جعلوا له الأمور وخصُّوه بالفضيلة لحاجة كلِّ عالم إليه، وعدم استغنائه عنه. فلم يزل - أكرمك الله - كذلك حتَّى وضع الله من عزِّهم، ونقص من قوَّتهم. وليس لأمر الله مردٌّ، ولا لقضائه مدفع. وحتَّى تحوَّل إلينا رجالٌ من قادتهم ومن أعلامهم، والمُطاعين فيهم، وارتاب قومٌ ونافق آخرون. وحتَّى تحوَّلت المحنة عليهم، والتَّقيَّة فيهم. وذلك كلُّه على يد شيخك وشيخنا بعدك - أعزه الله - بما بذل من جُهده، وعرَّض من نفسه، وتفرَّد بمكروهه، وغرغر مراره، صابراً على جسيمه؛ يرى الكثير في ذلك قليلا، والإغراق

تقصيرا، وبذل النَّفس يسيرا. على حين خار كلُّ بطل، وحاد كل مُقْدم، وعرَّد كلُّ رئيس، وأضاف كلُّ مستبصر، وطاح كلُّ نفّاج، واستخفى كل مُراءٍ. وحتى صاروا هم الذين يُشيرون عليه بالملاينة، ويحسِّنون عنده المقاربة، ويخوِّفونه العاقبة، ويزعمون أنَّ لكلِّ زمانٍ تدبيراً ومصلحة، وأنَّ إبعادهم أتقر لطبائعهم، وإن إطلاقها أنجع فيما يراد منهم. وحتَّى سَّموا المداهنة مداراة، وإعطاء الرِّضا تقيّة، والشَّدَّة عند الفرصة خُرقا، والانحياز مع صواب الإقدام رفقا، وموالاة المخالف مخالفة، والمصافاة معاشرة، والمهانة حلما، والضَّعف في الدِّين احتمالا. كما سمَّى قومٌ الفرار انحيازا، والبُخْل اقتصادا، والجائر مستقصيا، والبلاء عارضا، والخطل بلاغة. فكذلك كانوا وكان. وعلى هذا افترق أمرهم؛ وذلك مشهور عنهم. ثم يصُول أحدهم على منْ شتمه، ويسالم من شتم ربَّه، ويغضب على من شبَّه أباه بعبده، ولا يغضب على من شبَّه الله بخلقه، ويزعم أنَّ في أحاديث المشبَّهة تأويلاً ومجازاً ومخارج، وأنَّها حقٌّ وصدق. فإذا قيس...... طلب لهذا المجاز ظلم، وقال ما يليق بلفظ الحديث،

فيكون بشهادته لصحة أحاديثهم مُقرّاً، فيصير فيما يدَّعي من خلاف تأويلهم مدَّعياً. ولو كانت هذه الأحاديث كلُّها حقّاً كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: " سيفشو الكذبُ بعدي، فما جاءكم من الحديث فاعرضوه على كتاب الله " باطلاً. وهذا المذهب لمنْ ينتحل طريقتنا، زعمه سبيلنا، جورٌ شديد، ومذاهب قبيحة، وتقرب فاحش. وليس ينبغي لديَّان أن يوادَّ من حادَّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. فمتى إذن تزول التَّقيّة، ويجب إظهار الحقّ والنُّصرة للدِّين، والمباينة للمُخالفين؟! أحين يموت الخصم ويبيد أثره ويهلك عقبه ويقلُّ ناصره، ويزول جميع الخوف ويكون على يقين من السلامة. وكيف يكون القائم حينئذ بالحقِّ مطيعاً، ولله معظماً؟! فقد سقطت المحنة وزالت البلوى والمشقَّة. وهل المعصية إلا ما مازجه الهوى والشهوة، وهل الطاعة إلا ما شابه المكروه والكلفة، وكيف يُتكلَّف مالا مؤونة فيه، وكيف يُحمد مالا مرزئة عليه. وكيف يكون شجاعاً من أقدم في الأمن، وتكمَّن في الخوف. أو ليست النار محفوفةً بالشهوات، أو ليست الجنّة محفوفةً بالمكاره. وكيف صاروا في باطلهم أيام قدرتهم أقوى منا في حقنا أيام قُدرتنا.

وقد علمت - أرشد الله أمرك - أنَّ التشبيه وإن كان أهله مقموعين ومُهانين وممتحنين، فإنَّ عدد الجماجم على حاله، وضمير أكثرهم على ما كان عليه، والذين ماتوا قليلٌ من كثير. ونحن لا ننتفع بالمنافق، ولا نستعين بالمرتاب، ولا نثق بالجانح، وإن كانت المبادأة قد نقصت فإنّ القلوب أفسدُ ما كانت. وقد كانوا يتَّكلمون على السُلطان والقدرة، وعلى العدد والثَّروة، وعلى طاعة الرَّعاع والسِّفلة؛ فقد صاروا اليوم إلى المنازعة أمْيل، وبها أكلف؛ لأنهم حينما يئسوا من القهر بالحشوة والسِّفلة، وبالباعة، وبالولاة الفسقة، وقلوبهم ممتلئة ونفوسهم هائجة. ولا بدَّ لمن كانت هذه صفته، وهذا نعْته، من أن يستعمل الحيلة والحجّة، إذْ أعجزه البطش والصَّولة. وكلُّ من كان غيظه يفضل عن حلمه، وحاجته تفضل عن قناعته، فواجبٌ أن ينكشف قناعه، ويظهر سرُّه، ويبدو مكنونه. وقد أطمعني فيهم مناظرتهم لنا، ومقايستهم لأصحابنا. وقد صاروا بعد السّبّ يَحُفُّون، وبعد تحريم الكلام يجالسون، وبعد التصامِّ يستمعون، وبعد التجليح يدارون؛ والعامة لا تفطن لتأويل كفِّها، ولا تعرف مقاربتها. فقد مالت إلينا على قدر ما ظهر من ميلها، وأصغت لما ترى من استماعها.

وقد كتبت - مدَّ الله في عُمرك - في الردِّ على المشبِّهة كتاباً لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، ولا يرتفع عن الريِّض المبتدئ. وأكثر ما يعتمد عليه العامة ودهماء أهل التشبيه من هذه الأمور ويشتمل عليه الفضْل من حُشْوة الناس، ويُختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم، تحريف آيٍ كثيرةٍ إلى غير تأويلها، ورواياتٍ كثيرة إلى غير معانيها. وقد بيَّنت ذلك بالوجوه القريبة، والدلالات المختصرة، وبالأشعار الصحيحة والأمثال السائرة، واستشهدت الكلام المعروف، والقياس على الموجود. وهو مع ذلك كلِّه كتابٌ قَصْدٌ، ومقدار عدلٌ، لم يفضلْ عن الحاجة، ولم يقصِّر عن مقدار البُغية. على أنَّ الكلام لا ينبغي أن يكثر وإن كان حسناً كلُّه، إذا كان السامع لا ينْشَط له، وجاز قدر احتماله؛ لأنَّ غاية المتكلِّم انتفاع المستمع. وقد قال الأولون: " قليل الموعظة مع نشاط الموعوظ، خيرٌ من كثيرٍ وافق من الأسماع نبوةً، ومن القلوب ملالةً ". وقال بكر بن عبد الله المزنّي: ليس الواعظ من جهل أقدار السامعين، وإنابة المرتدِّين، وملالة المستطرفين. وقال علي بن أبي طالبٍ، رضوان الله عليه: " إن هذه القلوب تمُّل كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طُرف الحكمة ".

وقد كان يقال: إنَّ للقلوب شهوةً وإقبالا، وفترة وإدباراً؛ فأْتوها من حيث شهوتها وإقبالها. وكان يقال: إذا أُكره القلب عمي. وقال واصل بن عطاء: طول التحديق يكلُّ الناظر، وناظر القلب أضعف منه. وزعم عمران بن حُدير قال: قال قسامة بن زهير: روِّحوا هذه القلوب تع الذِّكر. وقال عبد الملك بن قُريب: قال أبو الدَّرداء: إنِّي لأستجمُّ نفسي ببعض الباطل كراهة أنْ أحمل عليها من الحقِّ فأُكلَّها. وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاصٍ، رضي الله عنهما، وهو بالقادسيّة: أنْ جنِّبْهم حديث الجاهلية؛ فإنه يذكِّر الأحقاد. وعِظْهم بأيام الله ما نشطوا لاستماعها. وقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة. ولذلك أمروا بالجمام وزيارة الغِبّ.

ورووا أنَّ شرَّ السَّيرْ الحقحقة. ولأن ينقص الكتاب عن مقدار الحاجة أحبُّ إليَّ من أن يفضل عن مقدار القوّة؛ لأنَّ الملالة تبغِّض في الجميع، وتزهِّد في الكُلّ. فأنا أسألك - أكرمك الله - أن ترى هذا الكتاب وتقرأ ما خفَّ عليك منه. فإن يصلح الكلام وكان كما وصفت وكما ضمنت، حثثت على قراءته وعلى اتِّخاذه، وعلى تخليده وعلى تدوينه، وأمرت من يحتاج إلى المادَّة، وإلى حُسن المعونة من الموافقين والإخوان الصَّالحين، أن ينظروا فيه، وأن يبثّوه ويشيعوه. وقد كنت أنا على ذلك قادراً، وبه مستوصيا؛ ولكنَّ الرجل الرفيع إذا رفع الشيء ارتفع، كما أنَّه إذا وضع الشيء اتَّضع. وإن كنت فيه غلقاً أو لعلَّته مستكثرا، كان لك بحُسن نيتك وصلاح مذهبك، والذي رجوت عنده من المنفعة وصلاح قلوب العامَّة، الأجر الكبير، والثواب العظيم، مع ما تقضي بذلك من ذمام المتحرِّم بك، والمتحلِّي من بيتك؛ ومع اليد البيضاء والصَّنيع المشكور. وحرامٌ على كلِّ متكلِّمٍ عالم، وفقيه مطاوعٍ، وخطيب مفوَّه إن كان

عنده من الأمر شيء، إلا أن يأتيكم به، ويذكِّركم بما عنده، قلَّ ذلك أو كثر، وصادفمنكم شُغلاً أو فراغا، لأنَّ ذلك من عندكم أنفق، والناس إليه أسرع، والقلوب إليه أسكن، وهو في العيون أعظم، لما جعل الله عندكم من حُسن الاختيار، والعلم بمنافع العباد، ومصالح البلاد؛ إذْ كنتم المفْزع والمقنع، والأئمة والمنزع. ولولا ما قُلِّدتم من أمر الجماعة، والقيام بشأن الخاصّة والعامة، وأنَّ الشّغل برعاية حقِّها والدِّفاع عنها، لم يُبقِ في قُواكم فضلاً للدُّعاء والمنازعة، ولوضْع الكتب بالجواب والمسألة لبدأ بكم الفرْض، ولكنتم أحقَّ بهذا الأمر. على أنَّنا لم ننطق إلاَّ بألسنتكم، ولم نحتذ إلا على مثالكم، ولم نقْوَ إلا بما أعرتمونا من فضْل قوَّتكم. وعلى الرُّواة من الأدباء، وعلى أهل اللَّسن من الخطباء، معاونتكم ومكاتفتكم، والجلوس بين أيديكم والاستماع منكم، وعلى أن يطيعوا أمركم، وأن ينفذوا لطاعتكم، وأن يخلصوا في الدُّعاء، وأن يمحضوا النصيحة، وأن يضمروا غاية المحبَّة، وأن يعملوا في كفّ الغلِّ والحسد، وأن لا يرضوا من أنفسهم بالنِّفاق، وأن يعلموا أنَّ الحسد لا يقع إلا بين الأشكال، وأنَّ التنافس لا يكون إلا مع تقارب الحال. وقد كان يقال: لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا. وكان يقال: ثلاثةٌ توجب الضِّغْن وتُكثر من الغِلّ: المجاورة في المنزل، والاستواء في النَّسب، والمشاكلة في الصِّناعة. ولذلك قال شبيب بن شيبة لرجلٍ ادَّعى محبَّته ونصيحته: " وكيف

لا يكون كما وصفت وكما ذكرت، ولست بخطيبٍ، ولا جارٍ قريبٍ، ولا ابن عمٍّ نسيب ". وقال بعض الحكماء: لو لم تعرفوا من لؤم الحسد إلا أنَّه موكَّل بالأدنى فالأدنى. وليس يقع ذلك بين المتباينين، ولا يجوز في المتقاربين. ولا يكون الطَّلب إلا بالطمع، ولا يكون الطمع إلا بالسَّبب. فإذا انقطع السَّبب انقطع الطَّمع، وفي عدم الطَّمع عدم الطلب. وكيف يتكلَّف الطيران من لا جناح له، وكيف يرجو صلاح أمر العامّة وترتيب الخاصَّة من عجز عن تدبير بيته، وقصَّر عن تدبير عبْده؟! وإنصاف اللِّسان قليل، وإنصاف القلب أقلُّ منه. ونحن نرغب إلى الله في صلاحهم؛ فإنَّ في صلاحهم صلاح قلوبنا لهم. وقد جعل الله الشكر موصولاً بالمزيد، ومن الشُّكر على نعمة الله علينا بكم أن نعظِّم ما عظَّم الله من أمركم. ومن صغّر ما عظَّم الله فقد عظَّم ما صغَّر الله. ولا يفعل ذلك إلا الصَّغير القدْر، والخامل الذّكر، والجاهل بالأمر. وكيف لا تكونون على ما خبَّرت وكما وصفت، وقد أغنيتم من العيلة، وآنستم من الوحشة، وجمعتم الشَّمل، وأعدتم الألفة، ورددتم الظُّلامة، وأحييتم السُّنَّة، وأبرزتم التوحيد بعد اكتتامه، وأظهرتموه بعد استخفائه، واحتملتم عداوة الجميع، ووترتم المطاعنين في تقويتنا. ونحن لا نُطالب ما كنتم قياماً، ولا نُذكر ما كنتم شهوداً. ونحن مع قلَّة علمنا لا نجد أبداً عملنا إلا مقصِّراً عن علمنا. وأنتم مع اتِّساع قلوبكم،

أعمالكم وفق علومكم؛ لأنَّ كلَّ من بذل كلَّ مجهوده، وخاطر بجميع نعمته، وكانت الواحدة من نعمه كالجميع من نِعم غيره، مع خذلان الموافق ونكوص المؤازر، ثم لم تزدْه الشدائد إلاَّ شدَّة، والوحدة إلا أنسة حقيقٌ بالتَّفضيل والتعظيم، والإنابة له بالتقديم. ولعل قائلاً أن يقول: أدخله في جملة صفات أبيه، وجلَّة مشيخته وأقربيه، حيث خصَّهم بالتقديم، وأبانهم بالتعظيم. بل كيف يقدَّم من صغرت سنُّه وقلَّت تجربته على من تقاربت سنُّه وكثرت تجربته. وكيف تمكن الطاعة الكثيرة في الأيام القصيرة والشهور اليسيرة؟ وهل يقول ذلك صاحب تحصيلٍ ومقايسة، والبعيد من الملق والمخادعة. وما قلت ذلك - حفظك الله - ولا انتحلته، إلا وبرهاني حاضر، وشاهدي شاهد. وذلك أنَّ للشَّباب سكرة وطماحاً، وقراعاً وصولة. والهرم داخلٌ على جميع الأعضاء، وآخذ بقسطه من جميع الأجزاء. ألا ترى كيف يكلُّ ناظره وسامعه، وذائقه وشامُّه، وهاشمه وعامله؛ وكيف تُنقص على مرور الأيام قوّته، وكذلك قلبه وكلُّ ما بطن من أمره، على قدر ما نقص من قُوى جسمه وتُنُقِّص من قوى شهوته. ويخفُّ عليه مخالفة هواه، ومحاربة نوازعه. ومن حمل على نفسه في كمال شبابه وأيَّام سكرته، وفي سلطان حدَّته وكمال قوَّته، فظلفها مرّةً وكبحها

أخرى، وعاين تلك التكاليف، وغلب تلك الرِّيح كان أبرز طاعةً؛ إذْ كان أحمل للمشقة. وعلى قدر المشقّة تكون المثوبة، وتعظُم عند الله المنزلة، وتقع له في قلوب الناس المحبّة. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقّاص، حين وجَّهه إلى العراق: " يا سعد بني وهيب، إن الله إذا أحبَّ عبداً حبَّبه إلى خلقْه. فاعتبر منزلتك من النَّاس، واعلمْ أنَّ مالك عند الله مثل ما لله عندك. ونحن نعتبر حالك عند الله بالذي نجد لك في قلوب عباده. وقد ملَّك الله بعض الناس أبدان بعض، ولم يملَّك القلوب أحداً غيره ". وأمّا قولهم: إن الغرارة مقرونة بالحداثة، والحنكة موصولةٌ بطول التجربة، فإنَّ الذِّهن الحديد والطّبع الصحيح، والإرادة الوافرة، ينال في الأيام اليسيرة، ويُدرك في الدُّهور القصيرة، ما لا تدركه العقول المخدوجة، ولا الطبائع المدخولة، والإرادة الناقصة، في الأيام الكثيرة، والدُّهور الطويلة.

وربما صادف القائل مع ذكائه وكثرة قراءته وجودة اعتباره، زماناً أكثر عجباً، وأكثر معتبراً، وإنْ كانت شهوره أقلَّ، وأيامه أقصر، فينال مع قلَّة الأيام ما لا ينال سواه مع كثرتها، ولا سيَّما إذا أُعين بحفظٍ، وأحسَّ من نفسه بفضل بيان. وليس من نظر في العلم على الرَّغبة والشهوة له كمن نظر فيه على المكسبة به والهرب إليه؛ لأن النفس لا تُسمح بكلِّ قواها إلا مع النشاط والشَّهوة، وهي في ذلك لنفسها مستكرهة ولها مكابدة. والسآمة إلى من كانت هذه صفته أقرب، وله ألزم. ولولا ذلك لما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعاذ بن جبلٍ اليمن، وجعل إليه قبض الصَّدقات، ومحاسبة العمّال، وقلَّده الأحكام وتعليم الناس الإسلام، وهو ابن ثماني عشرة سنة. ولا يدفع ذلك صاحب خبرٍ ولا حامل أثر. وعلى مثل ذلك عقد لأُسامة بن زيدٍ الإمرة، وأبانه بالتَّقدمة على جِلَّة الأنصار وكبار المهاجرين، وخيار السَّلف المتقدِّمين. وعلى مثل ذلك ولّى عتَّاب بن أسيدٍ مكة، وبها عظماء قريش وكبراء العرب وذوو الأخطار من كلِّ قبيلة، وذوو الأسنان من كلِّ جيل.

ومكة فتح الفتوح، وأمُّ القرى، وخاتمة الهجرة وقبلة العرب، وموضع الحرم والموسم الأعظم والحجِّ الأكبر، والأصل والمفخر. وقد رأيتم ما بلغ بخالد بن يزيد في السودد والمحبَّة، وقود الجيوش والهيبة، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقد ذكر ذلك الكميت بن زيد فقال: قاد الجيوش لخمس عشرة حجّةً ... ولداته عن ذلك في أشغال قعدت بهم همّاتهم وسما به ... همم الملوك وسورة الأبطال فأما ابن بيضٍ فقال: بلغت لعشرٍ مضت من سني ... ك ما يبلغ السيِّد الأشيب فهمُّك فيها جسام الأمور ... وهمُّ لداتك أن يلعبوا

وعلى مثل ذلك قال الفرزدق في يزيد بن المهلَّب: ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... ودنا وكان لخمسة الأشبار وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار وعلى خذا المجرى مدح الشاعر فقال: ما زلت في عقل الكبي ... ر وأنت في سنِّ الصغير وقد رأيتم ما بلغ محمد بن القاسم من الفتوح العظام والأيام الجسام، والقهر للأعداء، وبلوغ المحبَّة في الأولياء، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقد ذكر ذلك زيادٌ الأعجم فقال: ما إن سمعت ولا رأيت عجيبةً ... كمحمد بن القاسم بن محمد قاد الجيوش لخمس عشرة حِجَّةً ... يا قرب ذلك سودداً من مولد

وقال الآخر: إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه عسير وقال آخر: إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فليس يقال له من هوه إذا لم يسد قبل شدِّ الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه ولي صاحبٌ من بني الشيصبان ... فطوراً أقول وطوراً هوه وزعموا أن عمرو بن سعيد قال له معاوية - وذلك قبل أن يبلغ ويحتلم - إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إنَّ أبي أوصى إليَّ ولم يوصِ بي. وقال: فيم أوصاك؟ قال: أوصاني ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.

ولو لم يعرف ذلك إلا بعبد الله بن العباس وحْده كان ذلك كافياً، وبرهاناً شافياً، فإن الأعجوبة فيه أربتْ على كلِّ عجب، وقطعتْ كلَّ سبب. وقد رأيتم حاجة عُمر إليه، واستشارته إياه، وتقويمه لعثمان رضي الله عنهما وتغييره عليه. ولو لم يكن للفضيلة من بين أقرانه مستحقّاً، وبها مخصوصاً، ما خصَّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة المستجابة، ولما خصَّه بعلم الكتاب والسُّنَّة وهما أرفع العلم، وأشرف الفكر. ويدُلُّك على تقديمه للغاية، وإيثاره للتعليم والاستبانة، قوله حين قيل له في حداثته وقبل البلوغ في سنّه: ما الذي آتاك هذا العلم وهذا البيان والفهم؟ قال: " قلبٌ عقولٌ، ولسانٌ سؤول ". وقد عرفتم تحاكم العرب في الجاهلية في النُّفورة، وفي غير ذلك من المخايرة والمشاورة، إلى أبي جهل بن هشام في أيَّام حداثته وفتائه؛ ولذلك أدخلوه دار الندوة، ودفع مع ذوي الأسنان والحنكة من بين جميع الشُّبَّان، ومن بين جميع الفتيان. ولذلك قال قُطبة بن سيَّار حكيم فزارة حين تنافر إليه عامر بن الطُّفيل وعلقمة بن عُلاثة: عليكم بالحديد الذِّهن، الحديث السِّنّ. يعني أبا جهل.

فهذا كلُّه دليلٌ واضح، وبرهان بيِّن. ولعل قائلاً أن يقول: إنما الفضل في خشونة الملبس؛ وليس ذلك لمن مدحت، ولا هذه صفة من وصفت. وهذا بابٌ - أبقاك الله - قد يغلظ فيه العاقل ما لم يكن بارعاً، والفطن ما لم يكن ثاقباً، والأريب ما لم يكن كاملاً. ولو كان الفضل والرِّياسة والقدر والنَّباهة على قدر قشف الجلدة وبذاذة الهيئة، وكثرة الصَّوم، وإيثار الوحْشة والسياحة لكان عثمان بن مظعونٍ متقدِّماً لأبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ولكان بلال بن رباحٍ غامراً لعثمان بن عفان رضي الله عنهما. وقد قال ابن شهابٍ الزُّهري: ليس الناسك إلا من غلب الحرام صبره، والحلال شكره. فهذا ما حضرنا من القول، وأمكننا من الاحتجاج. وما أشكُّ أنَّ من خبر أمرك أكثر من اختباري كان عنده أكثر من علمي. وعلى أنَّ منظرك - أسعدك الله - يُغني عن المخبر، والفراسة فيك تكفي مؤونة التجربة لك. وقد تقيَّلت بحمد الله أخلاق شيخك، واحتذيت على مثالهكما احتذى على مثال من كان قبله. ولو لم يتعقَّبوا أمرك، ويتصفَّحوا سيرتك في نفسك ثم في خاصَّتك وعامَّتك، لكان في صدق الفراسة وظهور المحبّة ما تقضي به النفوس، ويستدلُّ به المجرِّب. وظنُّ العاقل كيقين غيره.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنك لن تنتفع بعقله حتَّى تنتفع بظنِّه. وقال أوس بن حجر: الألمعي الذي يظن لك الظَّ ... ن كأنْ قد رأى وقد سمعا وقال وهو يمدح ابن كلدة بصدق الحسِّ، وصواب الحدْس، وجودة الظن: أريبٌ أديب أخو مأزقٍ ... نقاباً يخبٍّر بالغائب وقال آخر يمدح بمثل ذلك عبد الملك بن مروان: رأيت أبا الوليد غداة جمعٍ ... به شيبٌ وما فقد الشَّبابا ولكن تحت ذاك الشَّيب حزمٌ ... إذا ما ظنَّ أمرض أو أصابا وقال الله تبارك وتعالى: " ولقد صَدَّق عليهم إبليس ظنَّه ". وقال: " إنَّ بعض الظّنَّ إثم ". وفي ذكره البعض دليلٌ على أنَّ سائر ذلك صواب وطاعة.

وكان من أسباب دفْعي إليك هذا الكتاب - أبقاك الله - دون أبي عبد الله أكرمه الله، أنكما قد تجريان في بعض الأمور مجرىً واحداً، ولأنك وإنْ كنت كثير الشُّغل فهو أقلُّ فراغاً منك على كثرة شُغلك، وفرط عنايتك بما استكفاك واسرعاك. وإنْ جعلت لي قسماً من وقت فراغك، ونصيباً من ساعة نشاطك. رجوت أن يصير إلى ما أمَّلناه عندك من الإنعام عليّ، والاسترهان لشكري؛ فإنَّ العرب لم تعظِّم شيئاً قطُّ كتعظيمها موقع الإنعام والشكر والأحدوثة الحسنة، والذكر والتمييز، والاستمداد للنعم، والكفر حائل بين العّوْد والبدْء. قال عنترة: نِّبيت بشراً غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم وقال السِّنديُّ: فلم أُجز بُالحسنى وعادت مشاربي ... بلاقع يقروها الحمام المُقرقرُ تبدَّلت بالإحسان سوءاً وربما ... تنكَّر للمعروف من كان يكفر

ويدل على حبِّهم للثناء وجميل الذكر قول الأسديّ: فإني أحبُّ الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم وقال: فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بمسعاتنا إنَّ الثناء هو الخلد وقال الغنويّ: فإذابلغتم أهلكم فتحدَّثوا ... إنَّ الحديث مهالكٌ وخلود فجعلوا الذكر بالجميل مثل الخلود في النعيم. وعلى هذا المعنى قال في درك الثأر: فقتلاً بتقتيل وعقراً كعقركم ... جزاء العطاس لا يموت من اثّأر وقال حكيم الفرس حين بلغه موت الإسكندر، وهو قاتل دارا بن دارا: ما ظننت أنَّ قاتل دارا يموت! وهذا القول هو أمدح منه لقاتله. ولم أسمع للعجم كلمةً قطُّ أمدح منها. فأما العرب فقد أصبت لهم من هذا الضرب كلاماً كثيراً.

ومما يدلُّ على قدر عظم الشكر عند الشاكر والمشكور له من العرب، قول أوس بن حجرٍ في حليمة: سنجزيك أو يجزيك عنَّا مثوِّبٌ ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي وقال بعض الشعراء: فلم أجزه إلا التشكّر جاهداً ... وحسبك منِّي أن أقول فأحمد وكانوا يرون للذنب مالا يراه غيرهم. وقال امرؤ القيس بن حجر: " وجرح اللسان كجرح اليد ".

وقال جرير: " وللسيف أشوى وقعةً من لسانيا " في أشعار كثيرة. ولست أمتُّ إليك - أكرمك الله - بعد التوحيد ونفى التشبيه، ونصرتي للدِّين، بأمرٍ أنا به أوثق من رغبتك في شكر الكرام والأحدوثة الحسنة. قال الله عز وجل: " ورفعنا لك ذكرك " وقال: " وإنَّه لذكرٌ لك ولقومك ". فلو كان حبُّ الذكر خطيئةً لما رغَّبهم فيه، ولا عدَّ في نعمه. ولعل قائلاً أن يقول: وكيف لم تذكر أمير المؤمنين، والمعتصم برب العالمين، الذي حقق الله به الدِّين وسدّد به الثغور، وردَّ به المظالم، وحسمبه عرق البغي ونواجم الفتنة؛ الذي لم يزل الله يزيده في كلِّ طرفةٍ محبة، ومع كلِّ محبة هيبة، ومع كلِّ نعمةٍ شكراً، ومع كل شكرٍ فضلا. وهو المبتدئ بهذا الأمر والقائم به، والقطب الذي عليه تدور الرحى، وعلى مثاله احتذى من احتذى، وبلسانه نطق، وعن رأيه صدر. وبيمن نقيبته ظهر، وبفضل قوَّته نهض. وهو أول هذا الأمر ووسطه، به يتمَّ إن شاء الله تعالى.

قلنا: إنَّ عقل الرسول يدلُّ على مرسله، واعتدال القناة يدلُّ على حذق المثقف، ومديحك الوزير راجعٌ إلى وزيره والمحتذي على مثاله، بل قد علم الناس أنَّ الحظَّ الأكبر للآمر دون المطيع، وللمعلم دون القائل، ولأن المسبب في عداله وعند النظر والتحصيل، أفضل من المسبب، والمتبوع خير من التابع. ألا ترى أنَّ من مدح الأنصار فهو للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين أمدح، وإن لم يظهر ذكرهم في الوصف. قال جرير: " تلكم قريش والأنصار أنصاري " وقال رؤبة: " ومن على المنبر لي والمنبر " وربما كانت الكناية أبلغ في التعظيم، وأدعى إلى التقديم، من الإفصاح والشرح. وربما أتى من السكوت بما يعجز القول عنه وقد بلغ أقصى حاجته وغاية أمنيته بالإيماء ة الإشارة، حتى يكون تكلُّف القول فضلاً، والكلام خطلا. وما عيى أن أقول فيمن قد قوى عقله بطبيعته، وانتصف عزمه من شهوته، وكان عمله وفق علمه، وعمله غامراً لخصمه.

وقد يجري الملك على عرق صالح ومنشأ سوء، فيقدح ذلك في عرقه وإن لم يستأصله، وقد يكون له عرقٌ صالحٌ ومنشأ صدقٍ، وتكون أداته تامةً ويكون مؤثراً لهواه، فيكون في الاسم وفي ظاهر الحكم كمن فسد عرقه وخبث منشؤه. وقد جمع الله لأمير المؤمنين مع كرم العروق وصلاح المنشأ، البعد من إيثار الهوى. وهل رأيت أفعالاً أشبه بأخلاقٍ، ولا أخلاقاً أشبه بأعراقٍ، من أفعاله بأخلاقه، وأخلاقه بأعراقه. فنسأل الله الذي أسندنا بخلافته، أن يمنَّ علينا بطول بقائه، وأن يخصّنا بحسن نظره كما خصَّنا بمعرفة حقِّه، والاحتجاج لملكه، والذبّ عن سلطانه. ولربما كان اللسان أنفذ من السنان، وأقطع من السيفِ اليمان. أطال الله بقائك وحفظك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك.

الرسالة السابعة رسالة إلى عبد الله أحمد بن أبي دواد يخبره فيها بكتاب الفتيا

الرسالة السابعة رسالة إلى عبد الله أحمد بن أبي دواد يخبره فيها بكتاب الفتيا

بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقائك وأعزك، وأصلح على يديك. كان يقال: السلطان سوق، وإنما يجلب إلى كلِّ سوق ما ينفق فيها. وأنت أيها العالم معلم الخير وطالبه، والداعي إليه، وحامل الناس عليه من موضع السلطان بأرفع المكان؛ لأن من جعل اللَّه إليه مظالم العباد، ومصالح البلاد، وجعله متصفحاً على القضاة، وعتاداً على الولاة، ثم جعله الله منزع العلماء، ومفزع الضعفاء، ومستراح الحكماء، فقد وضعه بأرفع المنازل، وأسنى المراتب. وقد قال أهل العلم، وأهل التجربة والفهم: " لما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن ". وقد كان يقال: شيئان متباينان، إن صلح أحدهما صلح الآخر: السلطان والرعية. فقد صلح السلطان، وعلى الله تمام النعمة في صلاح الرعية، حتى يحقق الأثر، وتصدق الشهادة في الخبر.

فنسأل الذي منحك حسن الرعاية أن يمنحنا حسن الطاعة. وقد نظرت في التجارة التي اخترتها، والسوق التي أقمتها، فلم أر فيها شيئاً ينفق إلا العلم والبيان عنه، وإلا العمل الصالح والدعاء إليه، وإلا التعاون على مصلحة العباد، ونفي الفساد عن البلاد. وأنا - مدَّ الله في عمرك - رجلٌ من أهل النظر، ومن جمال الأثر، ولا أكمل لكل ذلك ولا أفي؛ إلا أني في سبيل أهله وعلى منهاج أصحابه. والمرء مع من أحبَّ، وله ما اكتسب. وعندي - أبقاك الله - كتابٌ جامعٌ لاختلاف الناس في أصول الفتيا، التي عليها اختلفت الفروع وتضادّت الأحكام، وقد جمعت فيه جميع الدعاوي مع جميع العلل. وليس يكون الكتاب تاماً، ولحاجة الناس إليه جامعاً، حتى تحتجّ لكلِّ قولٍ بما لا يصاب عند صاحبه، ولا يبلغه أهله؛ وحتى لا نرضى بكشف قناع الباطل دون تجريده، ولا بتوهينه دون إبطاله. وقد قال رسول ربِّ العالمين وخاتم النبيّين، محمد صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تحابوا ". فحث على الهدية وإن كان كراعاً وشيئاً يسيرا. وإذا دعا إلى اليسير الحقير فهو إلى الثمين الخطير أدعى، وبه أرضى. ولا أعلم شيئاً أدعى إلى التحابِّ، وأوجب في التهادي، وأعلى منزلةً وأشرف مرتبة، من العلم الذي جعل اللَّه العمل له تبعاً، والجنة له ثواباً. ولا عذر لمن كتب كتاباً وقد غاب عنه خصمه، وقد تكفل بالإخبار عنه، في ترك الحيطة له، والقيام بكل ما احتمله قوله. كما أنه لا عذر له في التقصير عن فساد كل قول خالف عليه، وضادَّ مذهبه، عند من قرأ كتابه

وتفهَّم أدخاله، لأنَّ أقل ما يُزيل عذره ويزيح علَّته، أنَّ قول خصمه قد استهدف لخصمه، وأصحر للسانه ومكَّنه من نفسه، وسلَّطه على إظهار عورته. فإذا استراح واضع الكتاب من شغب خصمه ومداراة جليسه، فلم يبق إلا أن يقوى على كسر الباطل أو يعجز عنه. ومن شُكر المعرفة بمغاوي الناس ومراشدهم، ومضارِّهم ومنافعهم، أنْ تحتمل ثقل مؤونتهم في تعريفهم، وأن تتوخَّى إرشادهم، وإن جهلوا فضْل ما يُسدي إليهم. ولم يُصنِ العلم بمثل بذله، ولم يُسْتبْق بمثل نشره. على أنَّ قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم، إذْ كان مع التلاقي يكثر التَّظالم، وتُفرط النُّصرة، وتشتدُّ الحميَّة. وعند المواجهة يُفرط حبُّ الغلبة، وشهوة المباهاة والرِّياسة، مع الاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع. وعن جميع ذلك تحدث الضَّغائن، ويَظْهر التّباين. وإذا كانت القلوب على هذه الصِّفة وهذه الحلْية، امتنعت من المعرفة، وعميت عن الدَّلالة.

وليست في الكتب عِلَّةٌ تمنع من درْك البُغية، وإصابة الحُجّة؛ لأنَّ المتوحِّد بقراءتها، والمتفرِّد بفهم معانيها، لايُباهي نفسه، ولا يغالب عقْله. والكتاب قد يفضل صاحبه، ويرجح على واضعه بأمور: منها أنَّه يوجد مع كل زمانٍ على تفاوت الأعصار، وبُعد ما بين الأمصار. وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسألة والجواب. وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويَفْنى المعقِّب ويبقى أثره. ولولا ما رسمتْ لنا الأوائل في كتبها، وخلَّدت من عجيب حكمها، ودوّنتْ من أنواع سيرها؛ حتَّى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغْلق علينا، فجمعْنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركُه إلاَّ بهم لقد خسَّ حظُّنا في الحكمة، وانقطع سببنا من المعرفة، وقصُرت الهمّة، وضعفت النيَّة، فاعتقم الرّأي وماتت الخواطر، ونبا العقل. وأكثر من كتبهم نفعاً، وأحسن ما تكلّموا به موقعاً، كتب الله التي فيها الهُدى والرحمة، والإخبار عن كلّ عبرة، وتعريف كلِّ سيِّئة وحسنة. فينبغي أن يكون سبيلُنا فيمن بعدنا كسبيل من قبلنا فينا. على أنّا قد وجدنا من العبرة أكثر ممَّا وجدوا، كما أنَّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا. فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده، والنَّاشر للحقِّ من القيام بما يلزمه.

فقد أمكن القول وصلح الدهر، وخوى نجم التَّقيَّة، وهبَّت ريح العلماء، وكسد الجهل والعيّ وقلعت سوق العلم والبيان. وهذا الكتاب - أرشك الله - وإن حسن في عيني، وحلا في صدري، فلست آمن أن يعتريني فيه من الغلط ما يعتري الأب في ابنه، والشاعر في قريضه. والذي دعاني إلى وضعه مع إشفاقي منه، وهيبتي لتصفُّحك له، أنِّي حين علمت أنَّ الغالب على إرادتك، والمستولي على مذهبك، تقريب العالم وإقصاء الجاهل، وأنَّك متى قرأت كتاباً أو سمعت كلاما، كنت من وراء ما فيه من نقصٍ أو فضل، باتِّساع الفهم، وصحة العلم؛ وأنك متى رأيت زللاً غفرته وقوَّمت صاحبه، ولم تُقرِّعْه به، ولم تخْرمه له. ومتى رأيت صواباً أعلنته ورعيته، فدعوت إليه وأثبْت عليه. ولأنِّي حين أمنت عقاب الإساءة، ووثقت بثواب الإحسان، كان ذلك موجباً لنظْمه وموحياً للتقرُّب به. والسَّبب أحقُّ بالتَّفضيل من المسبَّب؛ لأنَّ الفعل محمول على سببه، ومضافٌ إليه، وعيالٌ عليه، ومضمَّن به. وإحساني - مد الله في عمرك - في كتابي هذا إن كنت محسناً، صغيرٌ

في جنب إحسانك، إذْ كنت المثير له من مراقبه، والباعث له من مراقده. فلذلك صار أوفر النصيبين لك، وأمتن السببين مضافاً إليك. وإنْ كنت قد قصَّرت عن الغاية، فأنا المضيَّع دونك. وإن كنت قد بلغتها ففضلك أظهر وحظُّك أوفر. لأنِّي لم أنشط له إلاَّ بك، ولا اعتمدت فيه إلاَّ عليك. ولولا سوقك التي لا ينفق فيها إلاَّ إقامة السنّة، وإماتة البدعة، ودفع الظُّلامة، والنظر في صلاح الأمَّة لكانت هذه السِّلعة بائرة، وهذا الجلب مدفوعاً، وهذا العلْق خسيسا. فالحمد لله الذي عمر الدُّنيا بك، وأخذ لمظلومها على يديك، وأيَّد هذا المُلْك بيمنك، وصدَّق فراسة الإمام فيك. وأيَّة منزلةٍ أرفع وأيّة حالةٍ أحمد، ممَّن ليس على ظهرها عالمٌ إلاَّ وهو يحنُّ إليه، أو قد صار إلى كنفه وتحت جناحه. وليس على ظهرها ظالمٌ إلاَّ وهو يتَّقيه، ولا مظلوم إلاَّ وهو يستعديه. ومن يقف على قدر ثواب من هذا قدره، وهذه حاله؟! وعندي - مدَّ الله في عمرك - كتبٌ سوى هذا الكتاب، وليس يمنعني من أن أهديها إليك معاً إلاَّ ما أعرفه من كثرة شُغْلك، وكثرة ما يلزمك من التَّدبير في ليلك ونهارك. والعلم وإن كان حياة العقل، كما أنَّ العقل حياة الروح، والرُّوح حياة البدن، فإنَّ حكمه حكم الماء وجميع الغذاء، الذي إذا فضل عن مقدار الحاجة عاد ذلك ضرراً. وإنَّما يسوغ الشَّراب ويستمرأ الطَّعام الأوّل فالأوّل. فكذلك العلم يجري مجراه، ويذهب مذهبه. ومن شأن النُّفوس الملالة لما طال عليها، وكثر عندها. فليس لنا أن نكون من الأعوان على ذلك، ومن الجاهلين بما عليه طبائع البشر؛

فإنَّ أقواهم ضعيفٌ، وأنشطهم سؤوم؛ وإن كانت حالاتهم متفاوتةً فإنَّ الضَّعف لهم شامل، وعليهم غالب. فإذا قُرأ عليك - أيدك الله - هذا الكتاب التمسنا أوقات الجمام وساعات الفراغ، بقدر ما يمكن من ذلك ويتهيَّأ. والله الموفِّق لذلك، والمهيِّأ له. ثمَّ أتبعْنا كلَّ كتاب بما يليه إنْ شاء الله. وليست بحمد الله من باب الطَّفرة والمداخلة، ولا من باب الجوهر والعرض، بل كلُّها في الكتاب والسُّنَّة، وبجميع الأمة إليها أعظم الحاجة. ثم نسأل الذي عرَّفنا فضلك، أن يصل حبلنا بحبلك، وأن يجعلنا من صالحي أعوانك، المستمعين منك، والناظرين معك؛ وأن يُحسِّن في عينك ويُزيِّن في سمعك، ما تقرَّبْنا به إليك، والتمسنا الدنوَّ منك، إنَّه قريب مجيب، فعالٌ لما يريد. أطال الله بقاءك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك في الدُّنيا والآخرة.

الرسالة الثامنة رسالة إلى أبي الفرج بن نجاح الكاتب

الرسالة الثامنة رسالة إلى أبي الفرج بن نجاح الكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم جُعلت فداك، وأطال الله بقاك، وأعزَّك وأكرمك، وأتمَّ نعمته عليك وأيّدك. قد نسخت لك - أعزَّك الله - في صدر هذا الكتاب قصيدةً قيلت في أبي الفرج أدام الله عزّه، ذكروا أن قائلها رجلٌ يكنى أبا عثمان، ولا أدري أهو أبو عثمان هشام بن المغيرة، أم أبو عثمان عفّان بن أبي العاص. ولا أدري أهو أبو عثمان عنبسة بن أبي سفيان، أم أبو عثمان سعيد بن عثمان، ولا أدري أهو عثمان النَّهدي عبد الرحمن بن مُلّ، أم أبو عثمان ربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن.

ولا أدري أهو أبو عثمان سعيد بن خالد بن أسيد، أم أبو عثمان إسحاق بن الأشعث بن قيس. ولا أدري أهو أبو عثمان المنذر بن الزُّبير بن العوَّام، أم أبو عثمان عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك. ولا أدري أهو أبو عثمان عبد الله بن خالد بن أسيد، أم أبو عثمان أبو العاص بن بشر بن عبد دُهْمان، وهو اسمه. ولا أدري أهو أبو عثمان عبد الله بن عبد الرحمن بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس، أمْ أبو عثمان عبد الله بن عامر بن كُريز. ولا أدري أهو أبو عثمان سعيد بن أسعد بن إمام المسجد الجامع الأعظم، أم أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب.

ولا أدري أهو أبو عثمان فيروز حُصينٍ العنبريّ، أمْ أبو عثمان بن عُمر بن أبي عثمان الشَّمَّريّ. ولا أدري أهو أبو عثمان خالد بن الحارث بن سليمان الهُجيْميّ، أم أبو عثمان أبو العاص بن عبد الوهاب الثقفيّ.

ولا أدري أهو أبو عثمان سعيد بن وهب الشاعر، أم أبو عثمان عمرٌو الأعور الخاركي. ولا أدري أهو أبو عثمان الحكم بن صخر الثّقفي، أم أبو عثمان عمرو بن بكر المازنيّ. ولا أدري أهو أبو عثمان الأعور النحويّ، أم أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. والذي لا أشك فيه أنّه لم يقرضها أبو عثمان عمرو بن حزْرة، ولا أبو عثمان عمرو المخلخل، ولا أبو عثمان إبراهيم بن يزيد المتطبِّب، ولا أبو عثمان سعيد بن حيان البزاز. وقد بلغني عن أبي عثمان هذا المجهول موضعه، المغمور نسبه، أنه قال: ما راكب الأسد الأسود، والبحر الأخضر، والمصبور على السَّيف الحسام،

بأحق بجهد البلاء وشماتة الأعداء، ممّن تعرَّض للمتصفِّحين، وتحكَّك بالعيّابين، وحكَّم في عرض الحسدة المغتابين. فإن سلم فبحُسْن النيّة، ولأنه مدح كريماً، ووصف حليماً. والكريم صفوح، والحليم متغافل. وإن ابتلى فبذنبٍ، وما عفا الله عنه أكبر. وقال: اللهم اجعلْ هذا القول حسناً في عينه، خفيفاً على سمعه، وألْهمْه حُسن الظزِّ به، وبسط العُذْر له، إنك سميع الدعاء، رحيمٌ بالضعفاء. والقصيدة هي قوله: أقام بدار الخفض راضٍ بحظِّه ... وذو الحرص يسري حين لا أحدٌ يسري يظنُّ الرِّضا بالقسْم شيئاً مهوَّناً ... ودون الرضا كأسٌ أمرُّ من الصَّبر جزعت فلم أعتبْ فلو كنت ذا حجاً ... لقنَّعت نفسي بالقليل من الوفْر أظنُّ غبيَّ القوم أرغد عيشةً ... وأجذل في حال اليسارة والعُسْر تمرُّ به الأحداث تُرعد مرّةً ... وتُبرق أخرى بالخطوب وما يدري سواءٌ على الأيام صاحب حُنْكةٍ ... وآخرُ كابٍ لا يريش ولا يبري

فلو شاء ربيِّ لم أكن ذا حفيظةٍ ... طلوباً لغايات المكارم والفخر خضعت لبعض القوم أرجو نواله ... وقد كنت لا أعطي الدنيَّة بالقسْرِ فلما رأيت المرء يبذل بشره ... ويجعل حُسن البشر واقية التِّبْر ربعت على ظلْعي وراجعت منزلي ... فصرْت حليفاً للدراسة والفكر وشاورت إخواني فقال حكيمهم عليك الفتى المُرِّيَّ ذا الخلق الغَمْر فتىً لم يقف في الدهر موقف ظنّةٍ ... فيحتاج فيه للتَّنصُّل والعُذْرِ أعيذك بالرحمن من قول شامتٍ ... أبو الفرج المأمول يزهد في عمرو ولو كان فيه راغباً لرأيته ... كما كان دهراً في الرَّخاء وفي اليُسْرِ أترضى فدتك اليوم نفسي وأسرتي ... بتأخير أرزاقي وأنت تلي أمري

ألا يا فتى الكتاب والعسكر الذي ... تأزّر بالحسنى وأُيِّد بالنَّصرِ أخاف عليك العين أو نفس وامقٍ ... وذو الوُدِّ منخوب الفؤاد من الذُّعرِ وعهدي به والله يُرشد أمره ... ويحفظه في القاطنين وفي السَّفْرِ مُطلاًّ على التدبير ما يستفزُّه ... مكايد محتالٍ عقاربه تسري برأيٍ يُزيل الطَّودمن مستقرِّه ... وأوضح عند الخصم من وضح الفجرِ وعزمٍ كغرب المشرفيّ مصمَّمٍ ... وقلبٍ ربيط الجأش منثلج الصدرِ فيا ابن نجاحٍ أنجح اللهُ سعيكم ... وأيّدكم بالنَّصر والعدد الدَّثْرِ قعدت فلم أطلب وجُلت فلم أُصب ... خليلاً يواسيني ويرغب في شكري وإن أخفقتْ كفِّي وقد علَقتْكمُ ... فقد قال رأيي واستنمت إلى شعري أعيذك بالرحمن أن تُشمت العدى ... فللفقرُ خيرٌ من شماتة ذي الغمْرِ فإن ترع وُدَّي بالقبول فأهلُه ... ولا يعرف الأقدار غير ذوي القدر وحسبك بي إن شئت ودّاً وخُلَّةً ... وحسبك بي يوم النَّزاهة والصَّبر ألا ربَّ شكر دائر الرسم دارسٍ ... وشكر كنقش الحميريّة في الصَّخر قال أبو عثمان المجهول: إذا كان الممدوح ظاهر المحاسن كثير المناقب فلم يُجد الشاعر كان ألوم.

ونعوذ بالله أن يكون فيكم ما يستدعي الألفاظ الشريفة والمعاني النفيسة، ويكون التقصير منيّ. وكيفما تصرَّفت بي الحال فإنِّي لم أخرج من جهد المجتهدين الراغبين المخلصين. فإن وقعت هذه القصيدة والتي قدّمنا قبلها بالموافقة فالحمد لله. وإن خالفت فنستغفر الله. وإن شيّعتم ضعفها بقوّة كرمكم، وقوّمتم أودها بفضل حلمكم، كان في ذلك بلاغٌ لما أمَّلنا. والله الموّفق.

الرسالة التاسعة كتاب فصل ما بين العداوة والحسد

الرسالة التاسعة كتاب فصل ما بين العداوة والحسد

بسم الله الرحمن الرحيم أصحب الله مدّتك السعادة والسلامة، وقرنها بالعافية والسرور، ووصلها بالنعمة التي لا تزول، والكرامة التي لا تحول. هذا كتابٌ - أطال الله بقاءك - نبيلٌ بارع، فُصل فيه بين الحسد والعداوة، ولم يسبقْني إليه أحد ولا إلى كتاب فضل الوعد الذي تقدَّم هذا الكتاب، ولا إلى كتاب أخلاق الوزراء الذي تقدَّم كتاب فضْل الوعد. وإنما نُبلتْ هذه الكتبوحسنت وبرعت، وبذَّت غيرها؛ لمشاكلتها شرف الأشراف، بما فيها من الأخبار الأنيقة الغريبة، والآثار الحسنة اللطيفة، والأحاديث الباعثة على الأخلاق المحمودة، والمكارم الباقية المأثورة، مع ما تضمَّنتْه من سير الملوك والخلفاء ووزرائهم وأتباعهم، وما جرت عليه أحوالهم. فأنا أسألك بساطع كرمك وناصع فضلك، لما امتننت عليَّ بصرف عنايتك إلى قراءتها. فإنْ لم يمكنك تبحُّرها والتقصِّي لجميعها، للأشغال التي

تعروك، فبحسبك أن تقف على حدودها، وتتعرَّف معاني أبوابها بتصفُّح أوائلها؛ فإن معك قلباً به من اليقظة والذكاء، والتوقد والحفظ، ما يكفي معه النظر الخاطف. إنه لم يخلُ زمنٌ من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه علماء محِقُّون، قد قرءوا كتب من تقدمهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا الموافقين لهم، وعانوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا ما بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس، ووصلوا بين المتجاور والمتوازي، واستنبطوا الغامض الباطن بالظاهر البيِّن، واستظهروا على الخفيِّ المشكل بالمكشوف المعروف، وعُرفوا بالفهم الثاقب والعلم الناصع، وقضت لهم المحنة بالذكاء والفطنة، فوضعوا الكتب في ضروب العلوم وفنون الآداب لأهل زمانهم، والأخلاف من بعدهم. يزدلفون بذلك إلى الممتنّ عليهم بفضل المعرفة التي ركَّبها الله فيهم، وأبانهم من غيرهم، وفضَّلهم عليهم، ويباهون به الأمم المخالفة لهم، ويتبارون بذلك فيما بينهم. ولهم حُسادٌ معارضون من أهل زمانهم في تلك العلوم والكتب،

منتحلةٌ يدعون مثل دعاويهم، قد وسموا أنفسهم بسمات الباطل، وتسمَّوْا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزُّور متزخرفين متشبِّعين بما لا محصول له. يحتذون أمثلة المحقِّين في زيِّهم وهديهم، ويقتفون آثارهم في ألفاظهم وألحاظهم، وحركاتهم وإشاراتهم، لينسبوا إليهم ويُحلُّوا محلهم، فاستمالوا بهذه الحيلة قلوب ضعفاء العامة، وجهلاء الملوك، واتخذهم المعادون للعلماء المحقِّين عُدةً يستظهرون بهم عند العامة. وحمل المدعية للعلم المزور الحسد على بهْت العلماء المحقِّين، وعضْههم والطعن عليهم، وجرّأهم على ذلك ما رأوا من صَغْو ضعفة القلوب وإذلة الناس إليهم، وميل جهلاء الملوك معهم عليهم، وأملوا أن ينالوا بذلك بشاشة العامة، وتستوي لهم الرياسة على طغام الناس ورعاعهم، ويستخولوا رعاتهم وقومهم، فهمروا وهدروا وتوردوا

على أهل العلم بغباوتهم، وكشفوا أغطية الجهل عن أنفسهم، وهتكوا ستراً كان مسدلا عليهم بالصمت. فقد قيل: " الصمت زين العالم، وستر الجاهل "؛ طمعاً في الرياسة وحباً لها. وقد قيل: حبُّ الرياسة داءٌ لا دواء له ... وقلَّما تجد الراضين بالقسم ولم يخل زمنٌ من الأزمنة من هذه الطبقة ولا يخلو. وهلاك من هلك من الأمم فيما سلف بحبِّ الرياسة. وكذلك من يهلك إلى انقضاء الدهر فبحبِّ الرياسة. وقد قيل: هلاك الناس منذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحبِّ الأمر والنَّهي، وحبِّ السَّمع والطاعة. فأشكل على العامة أمر العالم الحقيقيّ والمدعي المجاري المنتحل للزُّور والباطل؛ ثم ترادف عليهم من هذه العلل التي يعمى لها السبيل الواضح والطريق المنشأ، على الجاهل المستضعف؛ وذي الغباء المسترهف. ولست آمن - جعلني الله فداك - أن تكون هذه الكتب التي أُعنى بتأليفها، وأتأنق في ترصيفها، يتولى عرضها عليك من قد لبس لباس الزور في انتحال وضع مثلها، ونسب نفسه إلى القوة على نظائرها، والمعرفة بما يقاربها، إن لم يكن أخاها فابن عمِّها، وتشبع بما لم يُطعمْه الله منها.

ولعل بعض من حوله، أو بعض من يهزل به، ويرتع في عقله ويلهو بلبه، ويضعه على طبطابة اللعب، وفي أرجوحة العبث، يوهمه. الحسد له على ما يدَّعي من ذلك، ويتقدم إلى آخرين في إيهامهم إياه ذلك، فيزيده فعلهم ضراوةً بادعاء ما ليس معه وهو منه عارٍ. فإذا رجع إلى الحقائق علم أن مثله كما قد قيل: ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبطْ بما في البطن والبطن جائع وقد قيل: " الذئب يغبط وهو جائع ". فيلتوي في قراءتها، ويقبض لسانه عن بسط ما يحتاج أن ينشره منها، ويقصِّر في تفخيم حروفها ولا يملأ فمه منها. بل لا آمن أن يتجاوز ذلك إلى الطعن عليها بقولٍ أو إشارة، فيوهم فساد معانيها ويُومي إلى سقوط ألفاظها، من غير أن يُظهر المعاداة لها، والحسد لمؤلفها، والحمل عليها بقولٍ يكون دليلاً على ما يضمر، وهو أبلغ ما يكون من قلب المستمع وأنجعه فيه، فيقع ذلك بخلده. وقد قيل: " من يسمع يخلْ ".

وليس يقابله أحدٌ بردٍ، ولا يوازيه بنزاع، فيزداد نشاطاً عندما يرى من خلاء الأمر. وقد قيل: " كلُّ مُجْرٍ في الخلاء يُسرُّ " وكلُّ مناظر متفردٍ بالنظر مسرور، وإنما يُعرف جري الخيل عند المسابقة، وبراعة النظر عند المخاصمة. وقال لي بشرٌ المريسي: عُرض كتابي على المأمون في تحليل النبيذ، وبحضرته محمد بن أبي العباس الطوسي، فانبرى للطعن عليه والمعارضة للحجج التي فيه، وأسهب في ذلك وخطب، وأكثر وأطنب، فقلق المأمون واحتدم، وهاج واضطرم؛ لاستحقار الطُّوسي وخلاء المجلس له، وكان

يحب أن يزعه وازعٌ يكفُّه بحجةٍ تسكنه، فلما لم ير أحداً بحضرته يذبُّ عن كتابي قال متمثلاً: يا لك من قُبّرةٍ بمعمر ... خلا لك الجوُّ فبيضى واصفرى ونقِّرى ما شئت أن تنقِّري فما كان إلا ريث فراغه من التمثل بهذه الأبيات حتى استؤذن لي فدخلت عليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في النبيذ؟ فقلت: حلٌّ طلقٌ يا أمير المؤمنين. فقال: فما تقول فيما أسكر كثيره؟ قلت: لعن الله قليله إذا لم يسكر إلا كثيره. ثم قال: إن محمداً يخالفك. فأقبلت على ابن أبي العباس فقلت له: ما تقول فيما قال أمير المؤمنين؟ قال: لا خلاف بيني وبينك. كلاماً يوهم به أهل المجلس، حبّاً للتسلُّم مني والتخلُّص من مناظرتي، لا على حقيقة التحليل له. فاستغنمت ذلك منه وقلت له: فما لي لا أرى أثر قواه في عقلك؟ فضحك المأمون، فلما رأيت ضحكه أطنبت في معاني تحليل النبيذ، وابن أبي العباس ساكتٌ لا ينطق، وكان قبل دخولي ناطقاً لا يسكت. فلما رأى المأمون سكوته عند حضوري مع كثرة كلامه في ثَلْب كتابي وعيبه كان قبل دخولي، قال متمثِّلاً: ما لك لا تنبح يا كلب الدَّومْ ... قد كنت نباحاً فما لك اليومْ

ثم نظر إليَّ فقال: إنَّ الكتب عقول قومٍ وراءها عندهم حججٌ لها، فما ينبغي أن يُقضى على كتابٍ إلا إذا كان له دافع عنه، وخصمٌ يبين عما فيه؛ فإن أبناء النِّعم وأولاد الأسْد محسودون. ثم قال: يا أبا عبد الرحمن، بإزاء كل حاسد راهن. وقد قيل في مثلٍ من الأمثال: " الحسن محسود ". وفي مثل آخر: " لن تعدم الحسناء ذاماً ". وقال الأحنف بن قيس: ولن تصادف مرعىً ممرعاً أبداً ... إلا وجدت به آثار مأكول يقول: يُعاث في كل مرعىً حسنٍ ويؤكل منه، فيعيبه ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أحدث الله بعبدٍ نعمةً إلا وجدت له عليها حاسداً. ولو أن امرأً كان أقوم من القدْح لوجدت له غامزاً ".

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الحاسد لا يملك إلا عنان حسده؛ لآنه مغلوبٌ على نفسه. وقال الخطاب بن نُمير السعدي: الحاسد مجنون؛ لأنه يحسد الحسن والقبيح. وقال المهلب بن أبي صفرة: الحسد شهابٌ لا يبالي من أصاب، وعلى من وقع. والعداوة لها عقل تسوس به نفسها فينجم قرنها، وتُبدى صفحتها في أوقات الهتْر. وإلا فإنها كامنةٌ تنتهز أزمنة الفرص. والحسد مسلوب المعقول بإزاء الضَّمير في كل حينٍ وزمانٍ ووقت. ومن لؤم الحسد أنه موكل بالأدنى فالأدنى، والأخصِّ فالأخص. والعداوة وإن كانت تقبَّح الحسن فهي دون الحسد؛ لأن العدو المباين قد يحول وليّاً منافقاً، كما يحول المولى المنافق عدوّاً مبايناً. والحاسد لا يزول عن طريقته إلا بزوال المحسود عليه عنده. والعداوة تحدث لعلةٍ، فإذا زالت العلة زالت معها. والحسد تركيب لعله يحسد عليه فهو لا يزول إلا بزواله. ومن هذا قال معاوية رحمه الله: يمكنني أن أرضي الناس كلهم إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه منها إلا زوالها. وأعداء النعمة إذا شوركوا فيها ونالوا منها تزحزحوا عن عداوتها، وكانوا من أهلها المحامين عنها، والدافعين عن حماها.

ومن هذا قال المغيرة بن شعبة: النعمة التي يعاش فيها نعمةٌ محروسة ليس عليها ثائر يغتالها، ولا ذو حسد يحتال في غيرها. وقال قتيبة بن مسلم: خير الخير وأحصنه خيرٌ عيش فيه. وكلُّ خيرٍ كان يرضخ بذلاً كان من المتالف ممنوعاً، ومن الغير آمناً. وحسَّاد النعمة إن أعطوا منها وتبحبحوا فيها، ازدادوا عليها غيظاً وبها إغراء. والعداوة تُخلِقُ وتُمَلُّ، والحسد غضٌّ جديد، حرم أو أعطي، لا يبيد. فكلُّ حاسد عدو بحاسد. وإنما حمل اليهود على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أنه نبيٌّ صادق ورسول محق، يقرءون بعثه في توراتهم، ويتدارسونه في بيت مدْراسهم - الحسد، وحجز بين علمائهم والإيمان به، ثم نتج لهم الحسد عداوته. ومن الدليل على أن الحسد آلم وآذى وأوجع وأوضع من العداوة، أنه مُغرىً بفعل الله عزّ وجلّ، والعداوة عارية من ذلك لا تتصل إذا اتصلت إلا بأفعال العباد. ولا يُعادى على فعل الله تباركت أسماؤه. ألا ترى أنك لم تسمع أحداً عادى أحداً لأنه حسن الصورة جميل المحاسن، فصيح

اللسان حسن البيان. وقد رأيت حاسد هذه الطبقة وسمعت به، وهم كثير تعرفهم بالخبر والمشاهدة. فهذا دليلٌ على أن الحسد لا يكون إلا عن فساد الطبع، واعوجاج التركيب، واضطراب السُّوس. والحسد أخو الكذب، يجريان في مضمار واحد؛ فهما أليفان لا يفترقان، وضجيعان لا يتباينان. والعداوة قد تخلو من الكذب؛ ألا ترى أن أولياء الله قد عادوا أعداء الله إذ لم يستحلُّوا أن يكذبوا عليهم؟! والحسد لا يبرأ من البُهت، وكيف يبرأ منه وهو عموده الذي عليه يعتمد، وأساسه به البناء يُعقد. وأنشد: كضرائر الحسْناء قُلن لوجهها ... كذباً وزوراً إنه لدميم والحسد نارٌ وقوده الرُّوح، لا تبوخ أبداً أو يَفْنى الوقود. والحسد لا يبلى المحسود أو الحاسد. والعداوة جمر يُوقده الغضب، ويطفئه الرِّضا، فهو مؤمَّلالرُّجوع مرجو الإنابة. والحسد جوهرٌ والعداوة اكتساب. وقال بعضهم: الحسد أنثى، لأنه ذليل؛ والعداوة ذكرٌ فحْل، لأنها عزيزة.

والحسد وإن كان موكلا بالأدنى فالأدنى فإنه لم يعر منه الأبعد فالأبعد. فقد رأينا وشاهدنا من كان يسكن العراق وينتحل العلم والأدب، انتهى إليه خبر مشاركٍ له في الصناعة من أهل خراسان وجنْبة بلْخ من اتساق الرياسة في بلده، وجميل حاله ونبيل محلِّه عند أهل مصره، وطاعة العامة له، وترادف الناس عليه، فطار قلبه فرقاً، وأخذتْه الأرْباء، وتنفس الصعداء وانتفض انتفاض المفلس الممطور، فقال لي رجلٌ من إخواني كان عن يميني، حين رأى ما رأى منه: بحقٍّ قال من قال: " لم يُر ظالم أشبه بمظلوم من حاسد نعمة؛ فإن نفسه متّصل، وكربه دائم، وفكرته لا تنام ". وهو في أهل العلم أكثر، وعليهم أغلب، وبهم أشدُّ لصوقاً منه بغيرهم من الملوك والسُّوقة. وكأن من ناله التقصير في صناعة العلم عن غايته القصوى قد استشعر حسد كل ما يرد عليه من طريف أدبٍ، أو أنيق كلام، أو بديع معنىً. بل قد وقع بخلده لضعفه، وقرَّ في روعه لخساسته، أنه لا ينال أحدٌ منهم رياسةً في صناعة، ولا يتهيأ له سياسة أهلها، إلا بالطَّعن

على نواصيهم، والعيب لجِلَّتهم، والتحيُّف لحقوقهم. قال لي مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر، الذي يُعرف بصريع الغواني: خُيِّل إلى نوكي الشعراء أنهم لا يُقضى لهم بجودة الشعر إلا بهجائي والطعن في شعري، ولسانٍ يُهجى به عرضي، لا أنفكُّ متهما من غير جرم، إلا ما سبق إلى قلوبهم من وساوس الظنون والخواطر التي أوهمتهم أنه لا يسجل لهم بجودة الشعر إلا إذا استعملوا فيَّ ما خُيل إليهم. وأخبرني أشياخنا من أهل خراسان أن أبا الصَّلت الهرويّ كان عند الفضل بن سهل ذي الرياستين بمرو، فقرأ عليه كتاباً ألفه النَّضضر بن شُميل، فطعن أبو الصلت فيه، وكان الفضل عارفاً بالنضر الشُّميليّ، واثقاً بعلمه، مائلاً إليه، فأقبل على أبي الصلت وقال له: إن يحيى بن خالدٍ قال يوماً: إن كتبي لتُعرض على من يغلظ فهْمه عن معرفتها، ويجسو ذهنه عنها، ولا يبلغ أقصى علمه ما فيها - يُعرِّض بإسماعيل بن صُبيح - فيطعن فيها ولا يدري ما يقرأ عليه منها. إلا أن نار الحسد تُلهبه فيهذي

هذيان المريض، ويهمز همزات الغيْري، ثم لا يرضى أن يقف عند أول الطعن ويميل عنه حتى يستقصي على نفسه إظهار جهله عند أهل المعرفة، باستيعابه الطعن على ما لم يبلغ درايته، ولم يُحط به علمه، ثم يُنسيه جهله الطعن الذي تقدم منه فيها، ويحمله نوكُه على استعمال معانيها وألفاظها، في كتبه إلى إخوانه وأعوانه الذين شهدوه في أوان طعنه عليها، وحين ثلْبه لها. وقد عرفت حقيقة ما قال يحيى بن خالدٍ بالتجربة والابتلاء. وإني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدِّين والفقه، والرسائل والسيرة، والخطب والخراج والأحكام، وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعةٌ من أهل العلم، بالحسد المركب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته. وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملكٍ معه المقدرة على التقديم والتأخير، والحطِّ والرَّفع، والترغيب والترهيب، فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة، فإن أمكنتْهم حيلةٌ في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي أُلِّف له فهو الذي قصدوه وأرادوه، وإنْ كان السيد المؤلَّف فيه الكتاب نحريراً نقاباً، ونقريساً بليغاً، وحاذقاً فطناً، وأعجزتْهم الحيلة، سرقوا معاني ذلك الكتاب وألّفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً، وأهدوه إلىملك آخر، ومتُّوا إليه به، وهم قد ذمّوه وثلبوه لما رأوه منسوباً إليّ، وموسوماً بي.

وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فأترجمه باسم غيري، وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل، وسلْم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتّابيّ، ومن أشبه هؤلاء من مؤلِّفي الكتب، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب، لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيِّرونه إماماً يقتدون به، ويتدارسونه بينهم، ويتأدّبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عنيِّ لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رياسة، ويأتمُّ بهم قومٌ فيه؛ لأنه لم يترجم باسمي، ولم يُنسب إلى تأليفي. ولربما خرج الكتاب من تحت يدي مُحصفاً كأنه متن حجرٍ أملس، بمعانٍ لطيفةٍ محكمةٍ، وألفاظ شريفة فصيحة، فأخاف عليه طعن الحاسدين إنْ أنا نسبته إلى نفسي، وأحسد عليه من أهمُّ بنسبته إليه لجودة نظامه وحسن كلامه، فأُظهره مُبْهماً غُفلاً في أعراض أصول الكتب التي لا يُعرف وُضّاعها، فينهالون عليه انهيال الرَّمْل، ويستبقون إلى قراءته سباق الخيل يوم الحلْبة إلى غايتها. وحسد الجاهل أهون شوكةً وأذلُّ محنا، من حسد العارف الفطن؛ لأن الحاسد الجاهل يبتدر إلى الطعن على الكتاب في أوّل وهلة يُقرأ عليه، من

قبل استتمام قراءته ورقةً واحدة؛ ثم لا يرضى بأيسر الطعن وأخفه حتى يبلغ منه إلى أشده وأغلظه، من قبل أن يقف على فصوله وحدوده. وليس ثلْبه مفسَّرَّاً مفصَّلا، ولكنه يُجمل ذلك ويقول: هذا خطأ من أوله إلى آخره، وباطل من ابتدائه إلى انقضائه، ويحسب أنه كلما ازداد إغراقاً وطعناً وإطناباً في الحمْل على واضع الكتاب، كان ذلك أقرب إلى القبول منه. وهو لا يعلم أن المستمع إليه إذا ظهر منه على هذه المنزلة استخف به، وبكتّه بالجهل، وعلم أنه قد حكم من غير استبراء، وقضى بغير روية، فسقط عنه وبطل. والحاسد العارف الذي فيه تقيَّة ومعه مُسكة، وبه طَعْمٌ أو حياة، إذا أراد أن يغتال الكتاب ويحتال في إسقاطه، تصفح أوراقه ووقف على حدوده ومفاصله، وردد فيه بصره وراجع فكره، وأظهر عند السيد الذي هو بحضرته وجلسائه، من التثبُّت والتأني حِبالةً يقتنص بها قلوبهم، وسبباً يسترعي به ألبابهم، وسُلماً يرتقي به إلى مراده منهم، وبساطاً يفرش عليه مصارع الخُدع. فيوهم به القصد إلى الحق والاجتباء له. فربما استرعى بهذه المخاتل والخدع قلب السيد الحازم. فمن أعظم البلايا وأكبر المصائب على مؤلِّفي الكتب إذا كان العارض

لها على السيد الذي منه تُرجى أثمانها، وعنده تنفق بضائع أهلها، على هذه الصِّفة التي وصفتُها من الحسد والحذق بأسبابه، والمعرفة بالوجوه التي تثلم المحسود وتهدُّه، وتضع منه ومن كتبه. لا سيما إنْ كان مع استبطان الحسد واستعمال الدهاء والذكاء جليساً لازماً، وتابعاً لا يفارق، ومحدِّثاً لا يريم، وليست له رعةٌ تحجره عن الباطل، ولا معه حذرٌ يبعثه على الفكر في العواقب؛ فإن هذا ربما وافق فترة السيد ترداد الكلام، وكثرة تكراره عليه، من تأكيد خطائه، ونصرته قوله، وذياده عنه، واحتجاجه فيه، فيؤثر في قلبه، ويضجِّع رأيه. فليس للسيد الذي يحبُّ أن تصير إليه الأمور على حقائقها، وتُصوَّر له الأشياء على هيئاتها، حيلةٌ في ذلك إلا حسم مادة هذا من أهل الحسد، بالإعراض عنهم، والاحتجاز دونهم. وربما بلغ من الحاسد جهد الحسد إذا لم يُعمل بشهوته، ولم تنفذ سهام لطائفه، أن يقرَّ على نفسه بالخطأ، ويعترف أن الطَّعن الذي كان منه في الكتاب عن سهوٍ وغفلة، وأنه لم يكن بلغ منه في الاستقصاء ما أراد، وكان مشغول الفكر مقسم الذهن، فلما فرغ له ذهنه وانفرد له همُّه راجع ما كان بدر منه، لتُظنَّ به الرِّعة، ويقال إنه لم يرجع عن قوله واعترف بالخطأ إلا من عقل وازع، ودينٍ خالص. وإنما ذلك حيلةٌ منه ودهاءٌ

قدَّمه أمام ما يريد أن يوكِّد لنفسه ويوطِّد لها، من قبول القول في سائر ما يرد عليه من الكتب عن غير موافقةٍ على مواضع، ويجعل ما قد تقدم له من الرجوع عن قوله عند ما تبيَّن له خلاف ما قال، أوثق أسباب عدالته، وأحكم عُرى نصفته. وكان يقال: من لطيف ما يستدعى به الصدق إظهار الشك في الخبر الذي لا يُشكُّ فيه. وكان يقال: من غامض الرياء أن تُرى بأنك لا ترائي. ومن أبلغ الطَّعن على ما تريد الطَّعن عليه أن تطعن ثم تستغفر الله، ثم تتمهل فترةً، ثم تعود لطعنٍ هو أعظم منه وأطمُّ من الأول؛ ليوثق بك فيه، ويقال: إن هذا لو كان عن حسد ما رجع عن الطعن الأول. وقد قيل: ذو الغيبة المشهور بها المنسوب إليها يقلُّ ضرره، ويضعف كيده، لما شاع له في الناس وانتشر منه، فكان عندهم ظنيناً متَّهماً، ومطبوعاً عليها، يستمعون منه على قضاء ذمام المجالسة والتلذذ به، من غير قبول ولا اصطفاء. وإنما البلية في غيبة حُذاق المغتابين الذين يسمعون، فيضحكون ولا يتكلمون. وأحذق منهم الذين يستمعون ويسكتون القائل ويدعون الله

بالصلاح للمقول فيه، فهم قد أسكتوا القائل المغتاب ودعوا للمقول فيه، وأوكدوا قول القائل؛ لأنه لو حل عندهم محل البراءة مما قيل لجبِّه القائل وردع عن قوله. ومظهر التَّوقّي قليله عند العامة كثير. والمتورد المتقحِّم لا تكاد العامة تقبل منه. وقد قال بعض العلماء: إن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كان من نبلاء المغتابين وحُذَّاقهم حيث يقول: مُسَّا تُراب الأرض، منه خُلقتُما ... وفيها المعاد والمصير إلى الحشر ولا تعجبا أن تؤتيا وتعظَّما ... فما حُشى الإنسان شرّاً من الكبر فلو شئت أدلى فيكما غير واحد ... كلانيةً أو قال ذلك في سرِّ فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجَّ فيستشري ومن هذا سرق العتابيُّ المعنى حيث يقول: إنْ كنت لا تحذر شتْمي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل

فاخش سكوتي سامعاً ضاحكاً ... فيك لمشنوعٍ من القائل مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرٍ سائل ومن دعا الناس إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحق وبالباطل وسئل القاسم بن معن عن ابن أبي ليلى، فقلَّب كفَّيه وقال: من الناس من يخفي أبوه وجدُّه ... وجدُّ أبي ليلى لكالبدر ظاهر فلم تثبت عليه به حجةٌ في ذمٍّ له ولا مدح. وقد بلغ ما أراد. وسئل يوماً عن علمه فقال: أوعوه وطْباً، فإن كان محضاً أو مشوباً أظهره الوطب وما خضوه. فإنْ قدح - جعلني الله فداك - بالحسد قادحٌ فيما أؤلفه من كتابي لك، وسبق إلى وهمك شكٌّ فيه، أعلمتني النكتة التي قدح فيها، ثم قابله بجوابي، فإني أرجو ألا تحتاج إلى حاكمٍ عند تجاثي القولين بين يديك، لعلو الحقعلى الباطل، ودموغه إياه. والحسد أذلُّ نفساً من أن يُجاثي أحداً، والعداوة إنما قدِّمت عليه لأنها عزيزةٌ منيعة. ويقال: الحسد لا يبدو إلا في العين وعلى اللسان المقصور عند أهله المؤتلفين على ... والعداوة تبدو وتنجم قرونها وينبسط لسانها عند الموافقين له والمخالفين عليه.

وسئل خالد بن صفوان عن شبيب بن شيبة فقال: ذاك امرؤ سيط بالحسد وجُبِل عليه، فليس له أخٌ في السر ولا عدوٌّ في العلانية. وسئل العتَّابي عن أهل بغداد فقال: حسادٌ، إخوان العلانية، وأعداء السريرة، يعطونك الكلّ ويمنعونك القُلّ. ومما يدلُّك على أن الحسد أخسُّ وأغبن من العداوة، أنّ الملل كلها ذمَّتْه وعابته. ولا نعلم أنّ شاذّاً من الشواذِّ، وشارداً من الشُّرَّاد، فضْلاً عن جيل من الأجيال، أمر بالحسد؛ كما قيل: " عاد من عاداك، وقارعْ بالعداوة أهلها ". ثم عظم شأن العداوة عندهم، وجلَّ قدرها لديهم، حتى اختلفوا في وجوه العمل فيها؛ فمنهم من أمر بها على الحزم والعقل. وقال الشَّعبيُّ لبشر بن مروان: لو وجَّهت إلى عمرو بن محمد بن عقيل مولى آل الزُّبير - وكان شتمه - من يأتيك به سحباً وجرّاً! فقال بشر: إنِّي مستعملٌ في عدوِّي قول القائل: وعاد إذا عاديت بالحزم والنُّهي ... تنلْ ظفراً ممن تريد وتغلب فكان بهذا ممن يرى المعاداة بالحزم، ويغتالها بالعقل والتأني. وكان عروة بن المغيرة يقول: شرُّ العداوة ما سُتر بالمداراة، وأشقاها للأنفس ما قُرع بمثلها بادياً. وكان ينشد:

لا أتّقي حسك الضَّغائن بالرُّقي ... فعل الذليل ولو بقيت وحيدا لكن أُعدُّ لها ضغائن مثلها ... حتى أداوي بالحقود حقودا كالخمْر خير دوائها منها بها ... تشفي السَّقيم وتُبرئُ المنجودا فانتهى قوله إلى ابن شُبرمة فقال: " لله درُّ عُروة، هذه أنفس العرب! ". فهؤلاء رأوا كشف المعاداة ولم يروا التأنِّي. ومنهم من رأى المعاداة بعد الفرار منها والإعذار فيها، فإن هي أبت إلا المقارنة قارنوها بمثلها. قال شبيب بن شيبة: إذا رأيت الشرَّ قد أقبل إليك فتطامنْ له حتى يتخطَّاك، ولا تهجْه ولا تبحثْ عنه؛ فإن أبى إلا أن يبرك عليك فكن من الأرض ناراً ساطعة تتلظَّى. وأنشد: إذا عاداك محتنكٌ لبيبٌ ... فعاد النَّوم واحترس البياتا ولا تُثر الرَّبوض وخلِّ عنها ... وإن ثارت فكن شبحاً مواتا

تَجُزْك إلى سواك ونحِّ عنها ... فخير الشرِّ أسرعه فواتا وإن مالت عليك وخفت منها ... فواجهها مجاهرةً صلاتا ومنهم من أمر بقبول الإنصاف وترك المحاسبة. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: إن الملامات والذمّات كلها قبيحة، وأقبح الملامة والمذمَّة ما كانتا في ترك نصفة أو شدّة منافسةٍ في تعداد الذُّنوب. وأنشد: منافسة العدوِّ أو الصديق ... تجرُّ إلى المذمّة والملامة إذا أعطاك نصفاً ذو ودادٍ ... وبعض النِّصف فانتهز السلامة ومنهم من قال: لا ترض من عدوِّك إلا بالظُّلم، ولا إنصافه ونافسه في ذلك. قال العباس بن عبد المطلب: أبا طالب لا تقبل النِّصف منهم ... ولو أنصفوا حتى تعقَّ وتظلما ومنهم من أمر بمعونة الدهر على العدو إذا حمل عليه. قال: حدثني إبراهيم بن شُعبة المخزومي قال: سمعت من حكى لي عن مصعب بن الزبير قال: إذا رأيت يد الدهر قد لطمتْ عدوك فبادره برجلك، فإنْ سلم من الدهر لم يسلم منك. وأنشد: إذا برك الزمان على عدوٍّ ... بنكبته أعنت له الزَّمانا

قال العتابي: قلت لطوق بن مالك: إن من شرط الدهر ومن صناعة الزمان السَّلب، فإذا حملت الأيام على عدوك ثقلاً وأمكنتك منه فزده ثقْلاً إلى ثقله. قال: فقال لي طوْق: من لم ينتهز من عدوه انتهز منه، وحالت الأيام التي كانت بيضاً عليه سوداً. وانشد: لله درُّك ما ظننت بثائرٍ ... حرّان ليس على التُّراب براقدِ أحقدته ثم اضطجعت ولم ينم ... أسفاً عليك وكيف نوم الحاقد إن تُمكن الأيام منك، وعلَّها، ... يوماً نوفِّك بالُّصواع الزائد ولئن سلمت لأتركنك عارضا ... بعدي لكل مُسالمٍ ومعاند ومنهم من كان يرى جبر كسر العدو وإقالة عثرته، ونصرته عند وثوب الدهر عليه. قال: حدثني ابن عبد الحميد قال ابن شبرمة: كانت الحرب يوم

صفِّين بين العرب محضةً لا شوب فيها، فكانت محاربتهم كداماً واعتناقاً، وكانوا إذا مرُّوا برجل جريحٍ كانوا يقولون: خذله قومه فانصروه، وألقاه دهره بمضْيعةٍ فردُّوه إلى أهله. وقال ابن شُبرمة: مازلنا نسمع أن المصيبات تنزع السجيّات. قال: وأنشدني بعض أهل العلم في هذا المعنى: فلوْ بي بدأتم قبل من قد دعوتهم ... لفرّجتها وحدي ولو بلغتْ جهدي إذا المرء ذو القربى وذو الحقد أجحفت ... به سنةٌ سلَّتْ مصيبته حقدي ومنهم من رأى الإفضال على عدوّه وترك مجازاته. وهذا كثير لا يحتاج فيه إلى استقصاء شواهده. قال غيْلان بن خرشة الضّبيّ - وقال بعضهم: بل الأحنف بن قيس - لا تزال العرب بخيرٍ ما لبست العمائم وتقلَّدت السيوف وركبت الخيل، ولم تأخذها حميّة الأوغاد. قيل: وما حميّة الأوغاد؟ قال:

أن يروا الحِلْم ذُلاًّ، والتواهب ضيما. وقال الشَّعبيّ لرجل قال له: ألا تنتقم من فلانٍ فقد عاداك ونصب لك؟ فقال: ليست الأحلام في حال الرِّضا ... إنما الأحلام في حال الغضبْ وأنشدني بعض العلماء بيتين وقال: إن الزُّنبيري كان كثيراً ما يتمثل بهما: وإني لأعدائي على المقت والقلى ... بني العم منهم كاشح وحسود أذُبُّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود وكان عبد الملك بن مروان إذا أُنشد: إني وإن كان ابن عمي كاشحاً ... لمُراجمٌ من دونه وورائه ومُعيرُه نصري وإن كان امرأً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه وإن اكتسى ثوباً نفيساً لم أقل ... يا ليت أنَّ عليَّ حسن ردائه

وإذا تخرَّق في غناه وفرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه قال: هذا والله من شعر الأشراف. نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان، والمسألة عند الحاجة. ومنهم من أمر بالسَّفه في العداوة واستعمال الخُرق فيها. حدّثني نوح بن احمد عن أبيه عن ابن عبَّاس قال: جاء النابغة الجعديّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل معك من الشِّعر ما عفا الله عنه؟ قال: نعم. قال: أنشدْني منه. فأنشده: وإنّا لقومٌ ما نعوِّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيدا وتنفرا وتنكر يوم الرَّوع ألوان خيلنا ... من الطَّعن حتى تحسب الجون أشقرا وليس بمعروفٍ لنا أن نردَّها ... صحاحاً ولا مستنكراً أن تعقَّرا بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنَّا لنبغي فوق ذلك مظْهرا

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنّة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلى الجنّة إن شاء الله ". ثم رجع في قصيدته فقال: ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدَّرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا فضَّ الله فاك ". قال: فأتتْ عليه عشرون ومائة سنة، كلما سقطت له سنٌّ اثَّغرت أخرى مكانها؛ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا أحسن ما رُوي في البادرة التي يُصان بها الحلم. وقال الشاعر الجاهلي: صفحنا عن بني ذُهلٍ ... وقلنا: القوم إخوانُ عسى الأيام أن يرجع ... ن حيّاً كالذي كانوا فلما صرَّح الشَّرُّ ... وأمسى وهو عُريانُ

مشينا مشية الليث ... بدا واللَّيث غضبانُ بضربٍ فيه توهين ... وتضجيعٌ وإذعانُ وطعنٍ كفم الزِّق ... وهي والزِّقُّ ملآنُ وفي الشر نجاةٌ حي ... ن لا ينجيك إحسانُ حدثنا أبو مسهر عن أبيه عن خالد بن عمرو الكلبيّ قال: كنا مع أبي برْزة الأسلمشِّ في غزاة، فكان منا رجل يمتار لنا الميرة ويقوم بحوائجنا، فإذا أقبل قلنا: جزاك الله خيرا. فغضب لدعائنا، فشكونا ذلك إلى أبي برزة، فقال أبو برزة: كنا نسمع أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، فاقلبوا له. فكنا نقول له إذا أتانا بالحوائج: جزاك الله شرّاً وعرّاً، فيضحك لذلك. وأنشدني رجلٌ عن بعض الأعراب: أرى الحلم في بعض المواطن ذلّةً ... وفي بعضها عزّاً يُشرَّف فاعله إذا أنت لم تدفع بحلمك جاهلاً ... سفيهاً ولم تقرنْ به من يُجاهله لبست له ثوب المذلّة صاغراً ... فأصبح قد أودى بحقِّك باطله

فأبق على جُهال قومك إنه ... لكلِّ حليمٍ موطنٌ هو جاهله وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " استوصوا بالغوغاء خيراً، فإنهم يطفئون الحريق، ويسُدُّون البثوق ". وقال أبو سلمى في الجاهلية: لا بدَّ للسُّودد من رماح ... ومن عديد يُتَّقى بالراح ومن كلابٍ جمّة النُّباح وقال مسلم بن الوليد: حلفتُ لئن لم تلقني سفهاؤها ... خُزاعة والحيَّان عوفٌ وأسلمُ لأرتجعنَّ الودَّ بيني وبينها ... بقافيةٍ تفري العروق فتحسمُ من اللاء لا يرجعن إلا شوارداً ... لهنَّ بأفواه الرجال تهمْهمُ أصابوا حليماً فاستعدُّوا بجاهل ... إذا الحلم لم يمنعك فالجهل أحزمُ ولم نستقص الأبواب كلها بالمعارضة في هذا الكتاب، ولو استقصينا

لطالت بنا الأيام وتراخت الليالي إلى بلوغ الغاية في تمام الكتاب. وإنما ذكرنا من كل باب عرض فيه ما دلّ على معناه الذي إليه قُصد. ولم نر الحسد أمر به أحدٌ من العرب والعجم في حالٍ من الأحوال، ولا ندب إليه ونبَّه عليه. وقد نُبِّه على العداوة وفُصِّل بين أحوالها بما قد بيَّنَّاه، فظهر فضلها على الحسد بذلك. وكنت امرأً قليل الحساد حتى اعتصمتُ بعروتك، واستمسكت بحبلك واستذريت في ظلّك، فتراكم على الحساد وازدحموا، ورموني بسهامهم من كل أوبٍ وأفق، وتتايعوا عليَّ تتايع الدَّثْر على مشتار العسل. ولئن كثروا لقد كثر بهبوب ريحك إخواني، وبنضرة أيامك وزهرة دولتك خُلاَّني. وأنا كما قلت: فأكثرت حُسَّادي وأكثرت خُلَّتي ... وكنت وحُسَّادي قليلٌ وخُلاَّني فلما بلغت هذا الفصل من تأليف هذا الكتاب دخل عليَّ عشرة نفرٍ من الكتاب قد شملهم معروفك، ورفع مراتبهم جميلُ نظرك، فهم من طاعتك والمحبّة لك على حسب ما أوليتهم من إحسانك وجزيل فوائدك، فأفاضوا في حديثٍ من أحاديث الحسد، فشعَّب لهم ذلك الحديث شعوباً

افتنُّوا فيها - والحديث ذو شجون - فما برحوا حتَّى أتتني رقعة أناسيةٍ من الحساد فيها سهام الوعيد، ومقدمات التهديد والتحذير والتخويف، للطَّعن على ما ألَّفت من الكتب إن أنا لم أضمن لهم الشركة فيما يُجرى عليّ، فدفعت رُقعتهم إلى من قرب إليَّ منهم، فقرأها ثم قال: " قاتلهم الله! أبظلمٍ يرمون النيل ويلتمسون الشركة في المعروف! لنزع الرُّوح بالكلاليب أهون من بذل معروفٍ بترهيب ". وأنشأ يقول: أبقي الحوادث من خلي ... لك مثل جندلة المراجمْ قد رامني الأعداء قب ... لك فامتنعت من المظالم ودفعها إلى من قُرب منه فقرأها. وقال الثاني: " صكَّة جُلمود، لكل مُرعدٍ حسود، يمستطر العرف بالتهديد. خلِّ الوعيد، يذهب في البيد ". وأنشأ يقول: أبرقْ وأرعدْ يا يزي ... د فما وعيدُك لي بضائرْ ودفعها إلى الثالث فقرأها وقال: " سألوا ظلما، وخوَّفوا هضماً، لقوا حرباً ولقيت سلما ". وأنشأ يقول:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشرْ بطول سلامة يا مربعُ ودفعها إلى الرابع فقرأها وقال: " قول الذَّليل وبوله سيَّان ". وأنشأ يقول: ماضرَّ تغلب وائلٍ أهجوتها ... أم بُلت حيث تناطح البحران ودفعها إلى الخامس فقرأها وقال: " نهيق الحمار، ودمُ الأعيار جُبارٌ جُبار ". وأنشأ يقول: ما أُبالي أنبَّ بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم ودفعها إلى السادس فقرأها وقال: " إذا عَلِقتك الأمجاد، فليهُنْ عليك الحساد ". وانشأ يقول: إذا أهل الكرامة أكرموني ... فلا أخشى الهوان من اللئام ودفعها إلى السابع فقرأها وقال: " كيف يخاف الصُّرعة، من هو في ذي المنعة ". وأنشأ يقول:

كم تنبحون وما يغني نباحكم ... ما يملك الكلب غير النَّبح من ضرر ودفعها إلى العاشر فقرأها وقال: " نوكى هلكى، لم يعرفوا خبرك، ولا دروْا أمرك ". وأنشأ يقول: فلو علم الكلاب بنو الكلاب ... بحالك عند سِّيدنا لذلُّوا وعندي صديقٌ لي من السُّوقة له أدبٌ، فقال لي بعقب فراغهم مُسرّاً: إن هؤلاء الكتاب قد أظهروا الاستخفاف بقول الحُسّاد، وضربوا الأمثال في هوانهم عليك، وعرفوا أنَّك في منعة من عزِّ أبي الحسن أطال الله بقاءه، ومعقلٍ لا يُسامى ولا يُنال. وأنا أقول بالشُّفعة: توقَّ قوماً من الحُسَّاد قد قصدوا ... لحطِّ قدرك في سرٍّ وفي علنِ فقلت له: إنّي أقول بيتين هما جوابك وجواب الحُسَّاد: إنَّ ابن يحيى عبيد الله أمّنني ... من الحوادث بعد الخوف من زمني فلست أحذر حُسَّادي وإن كثروا ... ما دمت مُمسك حبلٍ من أبي الحسن فلما رأى صديقي اقتفائي آثار الكتاب، باستهانتي للحساد عند اعتلاقي

حبائلك أعزك الله، أنشأ متمثِّلاً بقول نصر بن سيار: إنِّي نشأت وحُسَّادي ذوو عددٍ ... ياذا المعارج لا تنقض لهم أحداً إنْ يحسدوني على ما قد بنيت لهم ... فمثل حُسن بلائي جرَّ لي الحسدا وليس العجب أن يكثروا وأنا أنعق بمحاسنك، وأهتف بشكرك، ولكن العجب كيف لا تتفتَّت أكبادهم كمدا. وكان بعضهم يقول: اللهم كثِّر حُسَّاد ولدي؛ فإنهم لا يكثرون إلا بكثرة النعمة. فإنْ كان والدي سبق منه هذا الدعاء، فإنَّ الإجابة كانت مخبوءة إلى زمان عزِّك؛ فقد رأينا تباشيرها، وبدت لنا عند عنايتك غايتها. وكان بعض الصالحين يقول: اللهم اجعلْ ولدي محسودين، ولا تجعلهم مرحومين؛ فإنّ يوم المحسود يومُ عِزَّة، ويوم الحاسد يومُ ذلَّة.

ويقال: إنه لما مات الحجاج سمعوا جاريةً خلف جنازته وهي تقول: اليوم يرحمنا من كان يحسدُنا ... واليوم نتْبع من كانوا لنا تبعا ويقال: إنّ زياد بن أبيه قال لحرقة ابنة النعمان: أخبريني بحالكم. قالت: إن شئت أجملت وإن شئت فسَّرت. فقال لها: أجملي. فقالت: " بتنا نُحسد، وأصبحنا نُرحم ". فخطبها زيادٌ وكانت في ديرٍ لها فكشفتْ عن رأسها، فإذا رأسٌ محلوق، فقالت: أرأس عروس كما ترى يا زياد؟ وأعطاها دنانير فأخذتْها وقالت: جزتْك يدٌ افتقرتْ بعد غنىً، ولا جزتك يدٌ استغنتْ بعد فقر! ولا نعلم الحسد جاء فيه شيء أكثر من حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله حفظ القرآن فهو يقوم به

آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في وجوه البرّ آناء الليل وآناء النهار ". فهذا الحسد إنما هو في طاعة الله عزّ وجلّ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض الأشراف: احسدْ على نيل المكارم والعلى ... إذْ لم تكن في حاله المحسودٍ حسد الفتى بالمكرمات لغيره ... كرمٌ ولكن ليس بالمعدود فهذا ما انتهى إلينا من أخبار الحسد، وزادك الله شرفاً وفضلاً، وعلماً ومعرفة، ولا زلت بالمكان الذي يُهدى إليك فيه الكتب، وتتحف بنوادر العلوم وفرائد الآداب، إنَّه قريب مجيب.

الرسالة العاشرة رسالة في صناعات القواد

الرسالة العاشرة رسالة في صناعات القواد

بسم الله الرحمن الرحيم أرشدك الله للصواب، وعرَّفك فضل أولي الألباب، ووهب لك جميل الآداب، وجعلك ممن يعرف عزّ الأدب كما تعرف زوائد الغنى. قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: دخلت على أمير المؤمنين المعتصم بالله فقلت له: يا أمير المؤمنين، في اللسان عشر خصال: أداة يظهر بها البيان، وشاهد يُخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يُرَدُّ به الجواب، وشافع تُدرك به الحاجة، وواصف تُعرف به الأشياء، وواعظ يُعرف به القبيح، ومُعزٍّ يُردُّ به الأحزان، وخاصَّةٌ يُزهى بالصَّنيعة، ومُلْةٍ يونق الأسماع. وقال الحسن البصري: إنّ الله تعالى رفع درجة اللسان، فليس من الأعضاء شيء ينطق بذكره غيره. وقال بعض العلماء: أفضل شيء للرجل عقلٌ يولد معه، فإنْ فاته ذلك

فمالٌ يُعظَّم به، فإنْ فاته ذلك فعلمٌ يعيش به، فإن فاته ذلك فموتٌ يجتثُّ أصله. وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللِّسان إلا ضالّة، أو بهيمةٌ مرسلة، أو صورة ممثَّلة. وذُكر الصَّمت والنطق عند الأحنف فقال رجلٌ: الصَّمت أفضل وأحمد. فقال: صاحب الصمت لا يتعداه نفعه، وصاحب المنطق ينتفع به غيره. والمنطق الصَّواب أفضل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رحم الله امرأً أصلح من لسانه ". قال: وسمع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه رجلاً يتكلَّم فأبلغ في حاجته، فقال عمر: هذا والله السِّحر الحلال. وقال مسلمة بن عبد الملك: إنّ الرجل ليسألني الحاجة فتستجيب نفسي له بها، فإذا لحن انصرفت نفسي عنها. وتقدم رجلٌ إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، إنَّ أبينا هلك، وإن أخونا غصبنا ميراثه. فقال زياد: الذي ضيعت من لسانك أكثر مما ضيَّعت من مالك.

وقال بعض الحكماء لأولاده: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فإنَّ الرجل لتنوبه النائبة فيستعير الدابة والثياب، ولا يقدر أن يستعير اللِّسان. وقال شبيب بن شيبة ورأى رجلاً يتكلم فأساء القول، فقال: يا ابن أخي، الأدب الصالح خيرٌ من المال المضاعف. وقال الشاعر: وكائن ترى من صامتٍ لك مُعجبٍ ... زيادته أو نقصُه في التكلُّم لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدَّم فخذْ يا أمير المؤمنين أولادك بأن يتعلموا من كلِّ الأدب؛ فإنَّك إن أفردتهم بشيءٍ واحد ثم سئلوا عن غيره لم يحسنوه. وذلك أنيّ لقيت حِزاماً حين قدم أمير المؤمنين من بلاد الرُّوم، فسألته عن الحرب كيف كانت هناك؟ فقال: لقيناهم في مقدار صحْن الإصطبل، فما كان بقدر ما يُحسُّ الرجل دابته حتى تركناهم في أضيق من ممْرغة. وقتلناهم فجعلناهم كأنهم أنابير سرجين،

فلو طُرحتْ روثةٌ ما سقطتْ إلا على ذنب دابّة. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: إن يهدم الصدُّ من جسمي معالفه ... فإن قلبي بقتِّ الوجد معمور إنيّ امرؤ في وثاق الحبّ يكبحه ... لجام هجرٍ على الأسقام معذور علِّلْ بِجُلٍّ نبيلٍ من وصالك أو ... حُسْنِ الرُّقاد فإنَّ النَّوم مأسور أصاب حبل شكال الوَصْل حين بدا ... ومبضع الصدِّ في كفيه مشهور لبست برقع هجر بعد ذلك في ... إصطبل وُدٍّ فروث الحُبِّ منثور

قال: وسألت بَخْتِيَشُوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار صحْن البيمارستان، فما كان بقدر ما يختلف الرجل مقعدين حتى تركناهم في أضيق من مِحْقَنة، فقتلناهم فلو طرحت مبضعاً ما سقط إلا على أكحل رجل. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: شرب الوصل دَسْتَج الهجر فاسْتَط ... لق بطن الوصال بالإسهال ورماني حبِّي بقُولَنجِ بينٍ ... مُذهلٍ عن ملامة العُذَّال ففؤاد الحبيب ينحله السُّ ... لُّ وقلبي معذَّبٌ بالملال وفؤادي مُبرسم ذو سقامٍ ... يا بن ما سُوه ضلَّ عنِّي احتيالي لو ببقراط كان مابي وجالي ... نوس باتا منه بأكسفِ بال

قال: وسألت جعفراً الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار سُوق الخُلقان، فما كان بقدر ما يخيط الرجل درْزاً حتى قتلناهم وتركناهم في أضيق من جربَّانٍ، فلو طرحتْ إبرةً ما سقطت إلا على رأس رجل. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: فتقت بالهجر دُروز الهوى ... إذْ وخزتني إبرةُ الصّدِّ فالقلب من ضيق سراويله ... يعثر في بايكة الجهد جشَّمتني يا طيلسان النوى ... منك على شوزكتي وجدي أزرار عيني فيك موصولة ... بُعروة الدمع على خدِّي يا كستبان القلب يا زيقه ... عذَّبني التَّذكار بالوعد قد قصَّ ما يعهد من وصله ... مقراضُ بينٍ مُرهفُ الحدِّ

يا حُجزة النَّفس ويا ذيلها ... مالي من وصلك من بُدِّ ويا جربَّان سُروري ويا ... جيب حياتي حُلْت عن عهدي قال: وسألت إسحاق بن إبراهيم عن مثل ذلك - وكان زارّاعاً - فقال: لقيناهم في مقدار جريبين من الأرض، فما كان بقدر ما يسقى الرجل مشارةً حتى قتلناهم، فتركناهم في أضيق من باب، وكأنهم أنابير سنبل، فلو طرح فدّانٌ ما سقط إلا على ظهر رجل. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: زرعت هواه في كراب من الصفا ... وأسقيته ماء الدوام على العهد

وسرجنته بالوصل لم آل جاهداً ... ليحرزه السرجين من آفة الصدِّ فلمَّا تعالى النبت واخضرَّ يانعاً ... جرى يرقان البين في سنبل الودِّ وقال: وسألت فرجاً الرخَّجيَّ عن مثل ذلك - وكان خبَّازاً - فقال: لقيناهم في مقدار بيت التنور، فما كان بقدر ما يخبز الرجل خمسة أرغفة حتى تركناهم في أضيق من حجر تنّور، فلو سقطت جمرة ما وقعت إلا في جفنة خبَّاز. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: قد عجن الهجر دقيق الهوى ... في جفنةٍ من خشب الصدِّ واختمر البين فنار الهوى ... تذكى بسرجينٍ من البعد وأقبل الهجر بمحراكه ... يفحص عن أرغفة الوجد

جرداق الموعد مسومة ... مثرودة في قصعة الجهد قال: وسألت عبد الله بن عبد الصمد بن أبي داود عن مثل ذلك - وكان مؤدَّبا - فقال: لقيناهم في مقدار صحن الكتَّاب، فما كان بقدر ما يقرأ الصبيُّ إمامه حتى ألجأناهم إلى أضيق من رقم فقتلناهم، فلو سقطت دواةٌ ما وقعت إلا في حجر صبيّ. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: قد أمات الهجران صبيان قلبي ... ففؤادي معذَّب في خبال كسر البين لوح كبدي فما أط ... مع ممن هويته في وصال رفع الرقم من حياتي وقد أط ... لق مولاي حبلهمن حبالي مشق الحبُّ في فؤادي لوحي ... ن فأغرى جوانحي بالسلال

لاق قلبي بنانه فمداد ال ... عين من هجر مالكي في انهمال كرسف البين سوَّد الوجه من وص ... لي فقلبي بالبين في إشعال وقال: وسألت عليّ بن الجهم بن يزيد - وكان صاحب حمام - عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مثل بيت الأنبار، فما كان إلا بقدر ما يغسل الرجل رأسه حتى تركناهم في أضيق من باب الأتّون، فلو طرحت ليفةً ما وقعت إلا على رأس رجل. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: يا نورة الهجر حلقت الصَّفا ... لما بدت لي ليفة الصَّدِّ يا مئزر الأسقام حتَّى متى ... تُنفع في حوض من الجهْد أوقدْ أتون الوصل لي مرّةً ... منك بزنبيلٍ من الودِّ

فالبينُ مُذْ أوقد حمامه ... قد هاج قلبي مسلخ الوجد أفسد خِطميَّ الصفا والهوى ... نُخالة النَّاقض للعهد قال: وسألت الحسن بن أبي قماشة عن مثل ذلك - وكان كنَّاساً - فقال: لقيناهم في مقدار سطح الإيران، فما كان إلا بقدر ما يكنس الرجل زبيلاً حتَّى تركناهم في أضيق من جُحر المخرج، ثم قتلناهم بقدر ما يشارط الرجل على كنْس كنيف، فلو رميت بابنة وردانةٍ ما سقطت إلا على فم بالوعة. وعمل أبياتاً فكانت: أصبح قلبي بَرْبخاً للهوى ... تسلح فيه فقحة الهجر بنات وردان الهوى للبلى ... أصبرُ من ذا الوجد في صدري

خنافس الهجران أثكلنني ... يوم تولَّى مُعرِضاً صبري أسقم ديدان الهوى مُهجتي ... إذْ سلح البين على عُمري قال: وسألت أحمد الشَّرابيَّ عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار صحن بيت الشَّراب، فما كان بقدر ما يصفِّي الرجل دنّاً حتى تركناهم في أضيق من رطليّة فقتلناهم، فلو رميت تفاحةً ما وقعت إلا على أنف سكران. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: شربت بكأس للهوى نبذة معاً ... ورقرقت خمر الوصل في قدح الهجْر فمالت دنان البين يدفعها الصِّبا ... فكسَّرن قرَّابات حُزني على صدري وكان مزاج الكأس غُلَّة لوعةٍ ... ودورق هجرانٍ وقنِّينتيْ غدرٍ قال: وسألت عبد الله بن طاهر عن مثل ذلك - وكان طبّاخا - فقال: لقيناهم في مقدار صَحْن المطبخ، فما كان بقدر ما يشوي الرجل حملاً حتى

تركناهم في أضيق من موقد نار، فقتلناهم فلو سقطت مغرفةٌ ما وقعت إلا في قدر. وعمل أبياتاً في الغزل فكانت: يا شبيه الفالوذ في حمرة الخ ... دِّ ولوزينج النُّفوس الظِّماء أنت جوزينج القلوب وفي اللّي ... ن كلين الخبيصة البيضاء عُدْت مُستهتراً بسكباج ودٍّ ... بعد جوذابةٍ بجنب شواء يا نسيم القدور في يوم عُرسٍ ... وشبيهاً بشهدةٍ صفراء أنت أشهى إلى القلوب من الزُّبْ ... د مع النِّرسيان بعد الغذاء أُطعم الحاسدون ألوان غمٍ ... في قصاع الأحزان والأدواء

قد غلا القلب مذ نأتْ عنك داري ... غليان القدور عند الصِّلاءِ هام قلبي لَّما كسرن غضارا ... ت سروري مغارفُ الشَّحناء فتفضل على العميد بيومٍ ... جُد بوصلٍ يُكبتْ به أعدائي وتفضَّلْ على الكئيب ببزْما ... ورد وصلٍ يشفي من الأدواء قال: وسألت - أطال الله بقاءك - محمد بن داود الطوسيَّ عن مثل ذلك - وكان فرّاشا - فقال: لقيناهم في مقدار صحن بساط، فما كان إلا بقدر ما يفرش الرجل بيتاً حتى تركناهم في أضيق من منصة فقتلناهم، فلو سقطت مخدَّة ما وقعتْ إلا على رأس رجل. ثم عمل أبياتاً في الغزل فكانت: كسح الهجر ساحة الوصل لمَّا ... غبَّر البين في وجوه الصَّفاءِ وجرى البين في مرافق ريشٍ ... هي مذخورةٌ ليوم اللقاءِ

فرش الهجر في بيوت همومٍ ... تحت رأسي وسادة البُرحاءِ حين هيأت بيت خيشٍ من الوص ... ل لأبوابه ستور البهاءِ فرش البحر لي بيوت مُسموحٍ ... مُتَّكاها مطارح الحصباءِ رِقَّ للصبِّ من براغيث وجدٍ ... تعتري جلده صباح مساء قال: فضحك المعتصم حتى استلقى، ثم دعا مؤدِّب ولده فأمره أن يأخذهم بتعليم جميع العلوم.

الرسالة الحادية عشرة رسالة في النابتة إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دواد

الجزء الثاني الرسالة الحادية عشرة رسالة في النابتة إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دُواد

بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاءك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك. اعلمْ، أرشد الله أمرك، أنَّ هذه الأمة قد صارت بعد إسلامها والخروج من جاهليَّتها إلى طبقاتٍ متفاوتة، ومنازل مختلفة: فالطبقة الأولى: عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعُمر رضي الله عنهما، وستُّ سنين من خلافة عثمان رضي الله عنه؛ كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المخلص، مع الألفة واجتماع الكلمة على الكتاب والسنة. وليس هناك عملٌ قبيحٌ ولا بدعةٌ فاحشة، ولا نزْع يدٍ من طاعةٍ، ولا حسدٌ ولا غلٌّ ولا تأوُّل، حتى كان الذي كان من قتل عثمان رضي الله عنه وما انْتُهك منه، ومن خبْطهم إيَّاه بالسلاح، وبعْج بطنه بالحراب، وفرى أوداجه بالمشاقص، وشدْخ هامته بالعمد، مع كفِّه عن البسْط، ونهيه عن الامتناع، مع تعريفه لهم قبل ذلك من كم وحهٍ يجوز قتْل من شهد الشهادة، وصلَّى القبلة، وأكل الذَّبيحة؛ ومع ضرب نسائه بحضْرته، وإقحام الرِّجال على حرمته، مع اتِّقاء نائلة بنت الفرافصة عنه بيدها، حتى

أطنُّوا إصبعين من أصابعها، وقد كشفت عن قناعها، ورفعت عن ذيلها؛ ليكون ذلك ردْعاً لهم، وكاسراً من عزمهم؛ مع وطْئهم في أضلاعه بعد موته، وإلقائهم على المزبلة جسده مجرداً بعد سحبه، وهي الجزرة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفواً لبناته وأياماه وعقائله؛ بعد السَّبِّ والتعطيش، والحصْر الشديد، والمنع من القوت؛ مع احتجاجه عليهم، وإفحامه لهم، ومع اجتماعهم على أنَّ دم الفاسق حرامٌ كدم المؤمن، إلا من ارتد بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل مؤمناً على عمدٍ، أو رجلٌ عدا على الناس بسيفه فكان في امتناعهم منه عطبُه؛ ومع إجماعهم على ألا يُقتل من هذه الأمة مُولٍّ، ولا يجهز منها على جريح. ثم مع ذلك كلِّه دمروا عليه وعلى أزواجه وحُرمه، وهو جالسٌ في محرابه، ومصحفه يلوح في حجره، لن يرى أنَّ موحداً يقدم على قتل من كان في مثل صفته وحاله.

لا جرم لقد احتلبوا به دماً لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكلّ طالبه. وكيف يضيع دمٌ الله وليُّه والمنتقم له؟! وما سمعنا بدمٍ بعد دم يحيى بن زكريا عليه السلام غلا غليانه، وقتل سافحه، وأدرك بطائلته، وبلغ كلّ محْنته، كدمه الله عليه. ولقد كان لهم في أخْذه وفي إقامته للناس والاقتصاص منه، وفي بيع ما ظهر من رباعه وحدائقه وسائر أمواله، وفي حَبْسه بما بقي عليه، وفي طمْره حتَّى لا يُحسَّ بذكره، ما يُغنيهم عن قتله إنْ كان قد ركب كُلَّ ما قّفوه به، وادَّعوه عليه. وهذا كلُّه بحضرة جلَّة المهاجرين، والسَّلف المقدَّمين، والأنصار والتابعين. ولكن الناس كانوا على طبقاتٍ مختلفة، ومراتب متباينة: من قاتلٍ، ومن شادٍّ على عضده، ومن خاذلٍ عن نصرته. والعاجز ناصرٌ بإرادته، ومطيعٌ بحسن نَّيته. وإنَّما الشّكُّ منَّا فيه وفي خاذله، ومن أراد عزله والاستبدال به. فأمَّا قاتله والمعين على دمه والمريد لذلك منه، فضُلاَّلٌ لا شكَّ

فيهم، ومُرّاقٌ لا امتراء في حكمهم. على أنَّ هذا لم يَعُدْ منهم الفجور، إمَّا على سوء تأويل، وإما على تعمُّد للشَّقاء. ثمَّ مازالت الفتن متَّصلة، والحروب مترادفة، كحرب الجمل، وكوقائع صفّين، وكيوم النَّهْروان، وقبل ذلك يوم الزَّابوقة وفيه أُسر ابن حُنيف وقتل حكيم بن جبلة. إلى أن قتل أشقاها عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللَّعنة. إلى أنْ كان من اعتزال الحسن عليه السلام الحروب وتخليته الأمور، عند انتشار أصحابه، وما رأى من الخلل في عسكره، وما عرف من اختلافهم على أبيه، وكثرة تلوُّنهم عليه. فعندها استوى معاوية على الملك، واستبدَّ على بقيّة الشُّورى، وعلى

جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سَمَّوْه عام الجماعة وما كان عام جماعةٍ، بل كان عام فُرْقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحَّلت فيه الإمامة مُلكاً كسرويّاً، والخلافة غصْباً وقيصريّاً، ولم يَعْد ذلك أجمع الضَّلال والفسق. ثمَّ مازالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتَّبنا، حتَّى ردَّ قضيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّاً مكشوفاً، وجحد حُكمه جحداً ظاهرا، في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع إجماع الأمّة أنَّ سُميَّة لم تكن لأبي سُفيان فراشاً، وأنَّه إنَّما كان بها عاهراً؛ فخرج بذلك من حُكم الفُجَّار إلى حكم الكفَّار. وليس قتل حُجْر بن عديّ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعته يزيد الخليع، والاستئثار بالفئء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشَّفاعة والقرابة، من جنْس جَحْد الأحكام المنصوصة، والشرائع المشهورة، والسُّنن المنصوبة. وسواءٌ في باب ما يستحقُّ من الإكفار جحد الكتاب وردُّ السنة؛ إذْ كانت السنَّة في شُهرة الكتاب وظهوره، إلاَّ أنَّ أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليه أشدّ.

فهذه أوَّلُ كفرةٍ كانت في الأمة. ثم لم تكن إلاَّ فيمنْ يدَّعي إمامتها، والخلافة عليها. على أن كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره. وقد أربتْ عليهم نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا فقالت: لا تسبُّوه فإنَّ له صُحبة؛ وسبُّ معاوية بدعة، ومن يبغضْه فقد خالف السُّنَّة. فزعمت أنَّ من السُنّة ترك البراءة ممن جحد السُنَّة. ثم الذي كان من يزيد ابنه ومن عُمَّاله وأهل نُصرته، ثم غزو مكّة، ورمي الكعبة، واستباحة المدينة، وقتل الحسين عليه السلام في أكثر أهل بيته مصابيح الظلام، وأوتاد الإسلام؛ بعد الذي أعطى من نفسه من تفريق أتْباعه، والرجوع إلى داره وحرمه، أو الذَّهاب في الأرض حتى لا يُحسَّ به، أو المقام حيث أمر به، فأبوا إلاَّ قَتْله والنُّزول على حكمهم. وسواء قتل نفسه بيده، أو أسلمها إلى عدوِّه وخيَّر فيها من لا يبرد غليله إلاَّ بُشرْب دمه. فاحسبوا قتله ليس بكفر، وإباحة المدينة وهتك الحُرمة ليس بحجَّة، كيف تقولون في رمْي الكعبة، وهدم البيت الحرام، وقبْلة المسلمين؟ فإنْ قلتم: ليس ذلك أرادوا، بل إنما أرادوا المتحرِّز به والمتحصِّن بحيطانه. أفما كان من حقِّ البيت وحريمه أن يحصروه فيه إلى أن

يُعطى بيده، وأيُّ شيءٍ بقي من رجلٍ قد أُخذت عليه الأرض إلاَّ موضع قدمه. واحسُبْ ما رووا عليه من الأشعار التي قولُها شِرك، والتمثُّل بها كفر، شيئاً مصنوعاً، كيف يُصنع بنَقْر القضيب بين ثَنيَّتي الحسين عليه السلام، وحمل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم حواسر على الأقتاب العارية والإبل الصِّعاب، والكشف عن عورة عليِّ بن الحسين عند الشَّكِّ في بلوغه على أنَّهم إنْ وجدوه وقد أنبت قتلوه، وإن لم يكن أنبت حملوه، كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين؟ وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصَّته: دعوني أقتلْه فإنَّه بقيّة هذا النَّسل، فأحسم به هذا القرْن، وأُميت به هذا الدَّاء، وأقطع به هذه المادَّة. خبِّرونا على ما تدلُّ هذه القسوة وهذه الغلطة، بعد أن شفوا

أنفسهم بقتلهم، ونالوا ما أحبُّوا فيهم. أتدلُّ على نصبٍ وسوء رأي وحقدٍ وبغْضاء ونفاق، وعلى يقينٍ مدخول وإيمان ممزوج، أم تدلُّ على الإخلاص وعلى حبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحفظ له، وعلى براءة السَّاحة وصحّة السَّريرة؟ فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضَّلال - وذلك أدنى منازله - فالفاسق معلونٌ، ومن نهى عن لَعْن الملعون فملعون. وزعمت نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا، أنَّ سبَّ ولاة السُّوء فتنة، ولعن الجورة بدعة، وإنْ كانوا يأخذون السَّميَّ بالسَّميِّ، والوليَّ بالوليِّ، والقريب بالقريب، وأخافوا الأولياء، وآمنوا الأعداء، وحكموا بالشفاعة والهوى، وإظهار القدرة، والتهاون بالأمَّة، والقمع للرعيّة، وأنهم في غير مداراة ولا تقيّة، وإنْ عدا ذلك إلى الكفر، وجاوز الضَّلال إلى الجحد، فذاك أضلُّ لمن كفَّ عن شتْمهم والبراءة منهم. على أنَّه ليس من استحقَّ اسم الكفر بالقتل كمن استحقَّه بردِّ السنَّة وهدم الكعبة. وليس من استحقَّ الكفر بالتشبيه كمن استحقَّه بالتجوير. والنَّابتة في هذا الوجه أكفر من يزيد وأبيه، وابن زيادٍ وأبيه. ولو ثبت أيضاً على يزيد أنَّه تمثَّل بقوله ابن الزِّبعْري:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسلْ لاستطاروا واستهلُّوا فرحاً ... ثم قالوا يا يزيدا لا تسلْ قد قتلنا الغرَّ من ساداتهم ... وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل كان تجوير النَّابتيِّ لربِّه، وتشبيهه بخلقه، أعظم من ذلك وأفْظع. على أنَّهم مجمعون على أنَّه ملعونٌ من قتل مؤمناً متعمِّداً أو متأوِّلا. فإذا كان القاتل سُلطاناً جائرا، أو أمير عاصياً، لم يستحلُّوا سبَّه ولا خَلْعه، ولا نفيه ولا عيبه، وإنْ أخاف الصُّلحاء وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير وظلم الضعيف، وعطَّل الحدود والثُّغور، وشرب الخمور وأظهر الفجور. ثم مازال الناس يتسكعون مرّةً ويداهنونهم مرّة، ويقاربونهم مرة ويشاركونهم مرّة، إلاّ بقيّةً ممن عصى الله تعالى ذكره، حتَّى قام عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، وعاملهما الحجّاج بن يوسف،

ومولاه يزيد بن أبي مُسْلم، فأعادوا على البيت بالهدْم، وعلى حرم المدينة بالغزْو، فهدموا الكعبة، واستباحوا الحُرْمة، وحوَّلوا قبلة واسط، وأخرّوا صلاة الجمعة إلى مُغيربان الشَّمس. فإن قال رجلٌ لأحدٍ منهم: اتّق الله فقد أخَّرت الصلاة عن وقتها، قتله على هذا القول جهاراً غير ختْل، وعلانيةً غير سرّ. ولا يُعلم القتل على ذلك إلاّ أقبح من إنكاره، فكيف يكفر العبد بشيءٍ ولا يكفر بأعظم منه؟ وقد كان بعض الصَّالحين ربَّما وعظ بعض الجبابرة، وخوَّفه العواقب، وأراه أنَّ في الناس بقيّةً ينهون عن الفساد في الأرض، حتَّى قام عبد الملك بن مرْوان والحجاج بن يوسف، فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه، وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه. فاحسبْ أنَّ تحويل القبلة كان غلطاً، وهدم البيت كان تأويلا، واحسب ما رووا من كلِّ وجه أنَّهم كانوا يزعمون أنَّ خليفة المرء في أهله أرفع عنده

من رسوله إليهم، باطلاً ومصنوعاً مولَّداً. واحسبْ وسْم أيدي المسلمين ونقْش أيدي المسلمات، وردّهم بعد الهجرة إلى القُرى، وقتل الفقهاء، وسبَّ أئمَّة الهدى، والنَّصْب لعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يكون كفراً، كيف نقول في جمع ثلاث صلواتٍ فيهنَّ الجمعة ولا يصلُّون أولاهنَّ حتَّى تصير الشمس على أعالي الجدران كالملاء المعصفر. فأن نطق مسلمٌ خبط السَّيف، وأخذته العمد، وشكَّ بالرِّماح. وإن قال قائلٌ: اتَّق الله، أخذته العزَّة بالآثم، ثمّ لم يرض إلاَّ بنثر دماغه على صدره، وبصلبه حيث تراه عياله. ومما يدلُّ على أنَّ القوم لم يكونوا إلاَّ في طريق التمرُّد على الله عزَّ وجلَّ، والاستخفاف بالدِّين، والتَّهاون بالمسلمين، والابتذال لآهل الحقّ، أكْلُ أمرائهم الطَّعام، وشُربُهم الشَّراب، على منابرهم أيّلم جُمعهم وجموعهم. فعل ذلك حُبيش بن دُلْجة، وطارقٌ مولى عثمان، والحجَّاج بن يوسف

وغيرهم. وذلك إنْ كان كفراً كلُّه فلم يبلغ كفر نابتة عصرنا، وروافض دهرنا؛ لأنَّ جنس كفر هؤلاء غير كفر أولئك. كان اختلاف الناس في القدر على أنَّ طائفةً تقول: كلُّ شيءٍ بقضاء وقدر، وتقول الطائفة الأخرى: كل شيءٍ بقضاءٍ وقدر إلاَّ المعاصي. ولم يكن أحدٌ يقول إنَّ الله يعذِّب الأبناء ليغيظ الآباء، وإنَّ الكفر والإيمان مخلوقان في الإنسان مثل العمى والبصر. وكانت طائفةٌ منهم تقول إنَّ الله لا يرى، لا تزيد على ذلك، فإنْ خافت أنْ يُظنَّ بها التشبيه قالت يُرى بلا كيفٍ، تعرِّياً من التَّجسيم والتَّصوير، حتَّى نبتت هذه النابتة، وتكلَّمت هذه الرَّافضة، فثبَّتتْ له جسماً، وجعلت له صورة وحدّاً، وأكفرتْ من قال بالرُّؤية على غير الكيفية. ثم زعم أكثرهم أنَّ كلام الله حسن وبيِّن، وحُجَّةٌ وبرهان، وأنَّ التَّوراة غير الزَّبور، والزَّبور غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمْران، وأنَّ الله تولَّى تأليفه، وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنَّه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص، ولو شاء أن يبدِّله بدَّله، ولو شاء أن ينسخه كلَّه بغيره نسخه، وأنَّه أنزله تنزيلا، وأنَّه فصَّله تفصيلا، وأنَّه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو، غير أنَّ الله مع ذلك كلَّه لم يخلقْه. فأعطوا جميع صفات الخلْق ومنعوا اسم الخلق. والعجب أنَّ الخَلْلق عند العرب إنما هو التقدير نفسه؛ فإذا قالوا خلق

كذا وكذا، وكذلك قال " أحسن الخالقين " وقال " تَخْلُقُون إفْكاً " وقال: " وإذْ تخلُقُ من الطِّين كهيئة الطَّيْر " فقالوا: صنعه وجعله وقدَّره وأنزله، وفصَّله وأحدثه، ومنعوا خَلَقه. وليس تأويل خلقه أكثر من قدَّره. ولو قالوا بدل قولهم قدَّره ولم يخلُقْه: خلقه ولم يقدِّره، ما كانت المسألة عليهم إلاَّ من وجهٍ واحد. والعجب أنَّ الذي منعه بزعمه أنْ يزعم أنَّه مخلوقٌ أنَّه لم يسمع ذلك من سلفه وهو يعلم أنَّه لم يسمع أيضاً عن سلفه أنّه ليس بمخلوق. وليس ذلك بهم، ولكن لما كان الكلام من الله يقال عندهم على مثل خروج الصَّوت من الجوف، وعلى جهة تقطيع الحروف وإعمال اللِّسان والشَّفتين، وما كان على غير هذه الصُّورة والصِّفة فليس بكلام. ولما كنّا عندهم على غير هذه الصفة، وكنا لكلامنا غير خالقين، وجب أنَّ الله عز وجلَّ لكلامه غير خالق، إذ كنَّا خالقين لكلامنا. فإنَّما

قالوا ذلك لأنَّهم لم يجدوا بين كلامنا وكلامه فرقا، وإن لم يقرُّوا بذلك بألسنتهم. فذاك معناهم وقصدهم. وقد كانت هذه الأمّة لا تجاوز معاصيها الإثم والضَّلال، إلاَّ ما حكيت لك عن بني أميّة وبني مرْوان وعمَّالها، ومن لم يدِنْ بإكفارهم، حتَّى نجمت النَّوابت، وتابعتْها هذه العوامُّ، فصار الغالب على هذا القرْن الكفر، وهو التَّشبيه والجبر، فصار كفرهم أعظم من كُفر من مضى في الأعمال التي هي الفسق، وصاروا شركاء من كفر منهم، بتولِّيهم وترك إكفارهم. قال الله عزّ من قائل: " ومن يتولَّهُمْ مِنْكُمْ فإنَّهُ منْهم ". وأرجو أن يكون الله قد أغاث المحقِّين ورحمهم، وقوَّى ضعفهم وكثَّر قلتهم، حتّى صار ولاة أمرنا في هذا الدَّهر الصَّعب، والزَّمن الفاسد، أشدَّ استبصاراً في التشبيه من عِلْيتنا، وأعلم بما يلزم فيه منَّا، وأكشف للقناع من رؤسائنا، وصادفوا النَّاس وقد انتظموا معاني الفساد أجمع، وبلغوا غايات البدع، ثم قرنوا بذلك العصبيَّة التي هلك بها عالمٌ بعد عالم، والحميَّة التي لا تُبقي ديناً إلاَّ أفسدته، ولا دُنيا إلاَّ أهلكتها، وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشُّعوبيَّة، وما قد صار إليه الموالي من الفخْر على العجم والعرب.

وقد نجمت من الموالي ناجمةٌ، ونبتت منهم نابتةٌ، تزعم أنَّ المولى بولايةٍ قد صار عربيّاً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مولى القوم منهم "، ولقوله: " الولاء لُحمةٌ كلُحمة النَّسب، لا يُباع ولا يُوهب ". قال: فنحن معاشر الموالي بقديمنا في العجم أشرف من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العرب أشرف من العجم. وللعرب القديم دون الحديث. ولنا خصلتان جميعاً وافرتان فينا، وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة. وقد جعل الله المولى بعد أن كان عجميَّاً عربيا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيَّاً بحلفه، وجعل إسماعيل، بعد أن كان أعجميّاً، عربيّاً. ولولا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن إسماعيل كان عربيّاً ما كان عندنا إلاَّ أعجميّاً؛ لأنَّ الأعجم لا يصير عربيّاً، كما أنَّ العربيَّ لا يصير أعجميّاً.

فإنما علمْنا أنَّ إسماعيل صيَّره الله عربيّاً بعد أن كان أعجميّاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك حكمُ قوله: " مولى القوم منهم "، وقوله: " الولاء لُحمةٌ ". قالوا: وقد جعل الله إبراهيم عليه السلام أباً لمن لم يلدْ كما جعله أباً لمن ولد، وجعل أزواج النبيِّ أمَّهات المؤمنين ولم يلدن منهم أحداً، وجعل الجار والد من لم يلدْ، في قولٍ غير هذا كثيرٍ قد أتينا عليه في موضعه. وليس أدعى إلى الفساد ولا أجلب للشَّرِّ من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فخورٌ، إلاَّ قليل. وأيُّ شيء أغْيَظُ من أن يكون عبدك يزعم أنَّه أشرف منك وهو مقرٌّ أنه صار شريفاً بعتْقك إيَّاه. وقد كتبت - مدَّ الله في عمرك - كتباً في مفاخرة قحطان، وفي تفضيل عدنان، وفي ردِّ الموالي إلى مكانهم من الفَضْل والنَّقص، وإلى قدْر ما جعل الله تعالى لهم بالعرب من الشَّرف. وأرجو أن يكون عدلاً بينهم، وداعيةً إلى صلاحهم، ومنْبهةً لما عليهم ولهم. وقد أردت أن أرسل بالجزء الأوَّل إليك، ثم رأيت ألاَّ يكون إلاَّ بعد استئذانك واستئمارك، والانتهاء في ذلك إلى رغبتك. فرأيك فيك موفّقاً، إن شاء الله عزَّ وجل. وبه الثِّقة.

الرسالة الثانية عشرة كتاب الحجاب

الرسالة الثانية عشرة كتاب الحجاب بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاءك، وجعلني من كل سوء فداءك، وأسعدك بطاعته وتولاّك بكرامته، ووالى إليك مزيده. إنه يقال - أكرمك الله - " إن السَّعيد من وُعظ بغيره، وأن الحكيم من أحكمتْه تجاربه ". وقد قيل: " كفاك أدباً لنفسك ما كرهت من غيرك " وقيل: " كفاك من سوءٍ سماعه "، وقيل: " إنَّ يقظة الفهم للواعظ ممَّا يدعو النَّفس إلى الحذر من الخطاء، والعقل إلى تصفيته من القذى ". وكانت الملوك إذا أتت ما يجلُّ عن المعاتبة عليه ضُربت لها الأمثال، وعُرِّض لها بالحديث. وقال الشاعر: العبد يُقرع بالعصا ... والحُرُّ تكفيه الملامةْ وقال آخر: ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها

وقال عبد المسيح المتلمِّسُ: لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا ... وما عُلِّم الإنسان إلاَّ ليعلما وقال بعضهم: " في خفيِّ التعريض ما أغنى عن شنيع التَّصريح ". وقد جمعت في كتابي هذا ما جاء في الحجاب من خبرٍ وشعرٍ، ومعاتبة وعُذر، وتصريح وتعريض، وفيه ما كفى. وبالله التوفيق. وقد قلت: كفى أدباً لنفسك ما تراه ... لغيرك شائناً بين الأنام ما جاء في الحجاب والنَّهي عنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاثٌ من كُنَّ فيه من الولاء اضطلع بأمانته وأمره: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد ". وروي عنه عليه السلام أنّه وجّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بعض الوجوه، فقال له فيما أوصاه به: " إنِّي قد بعثتك وأنا بك ضنين فابرزْ للناس، وقدِّم الوضيع على الشَّريف، والضَّعيف على القويّ، والنّساء قبل الرجال، ولا تُدخلنَّ أحداً يغلبك على أمرك، وشاور القرآن فإنّه إمامك ".

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً شرط عليه أربعا: لا يركب برذوناً، ولا يتّخذ حاجباً، ولا يلبس كَتَّاناً، ولا يأكل درْمكاً. ويوصي عمّاله فيقول: إيّاكم والحجاب، وأظهروا أمْركم بالبراز، وخذوا الذي لكم وأعطُوا الذي عليكم، فإنَّ امرأً ظلم حقَّه مضطرٌّ حتى يَغْدُو به مع الغادين. وكتب عمر رضوان الله عليه إلى معاوية وهو عامله على الشام: " أما بعد فإنّي لم آلُكَ في كتابي إليك ونفسي خيْراً. إيّاك والاحتجاب دون الناس، وأْذن للضعيف وأدنه حتى ينبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعهَّد الغريب فإنَّه إذا طال حبسه وضاق إذنه ترك حقَّه، وضعف قلبه، وإنما أتْوى حقَّه منْ حبسه. واحرص على الصُّلح بين الناس ما لم يستبنْ لك القضاء. وإذا حضرك الخصمان بالبيِّنة العادلة والأيمان القاطعة فأمض الحكم. والسلام ". وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: " آسِ بين الناس في نظرك وحجابك وإذنك، حتى لا يطمع شريفٌ

في حيْفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. وأعلم أن أسعد الناس عند الله تعالى يوم القيامة من سعد به الناس، وأشقاهم من شقوا به ". وروى الهيثم بن عديٍّ عن ابن عباس قال: قال لي عبيد الله بن أبي المخارق القينيّ: استعملني الحجاج على الفلُّوجة العليا، فقلت: أما ها هنا دهقانٌ يعاش بعقله ورأيه؟ فقيل لي: بلى، ها هنا جميل بن بَصْبَهَرَّي. فقلت: عليَّ به. فأتاني فقلت: إن الحجّاج استعملني على غير قرابة ولا دالَّة ولا وسيلة، فأشرْ عليَّ. قال: لا يكون لك بوابٌ حتى إذا تذكّر الرجل من أهل عملك بابك لم يخف حجّابك، وإذا حضرك شريفٌ لم يتأخر عن لقائك ولم يحكم على شرفك حاجبك. وليطل جلوسك لأهل عملك يهبك عمَّالك، ويبقى مكانك. ولا يختلف لك حكم على شريف ولا وضيع، ليكن حكمك واحداً على الجميع، يثق الناس بعقلك. ولا تقبل من أحدٍ هديّةً فإنَّ صاحبها لا يرضى بأضعافها مع ما فيها من الشُّهرة.

من عهد إلى حاجبه قال موسى الهادي لحاجبه: لا تحجُب الناس عنّي؛ فإنّ ذلك يزيل التزكية، ولا تُلقِ إليّ أمراً إذا كشفته وجدته باطلاً، فإنَّ ذلك يُوتغ المملكة. وقال بعض الخلفاء لحاجبه: إذا جلستُ فإْذنْ للناس جميعاً عليّ، وأبرز لهم وجهي، وسكِّن عنهم الأحراس، واخفض لهم الجناح، وأطبْ لهم بشرك، وألن لهم في المسألة والمنطق، وارفعْ لهم الحوائج، وسوِّ بينهم في المراتب، وقدِّمهم على الكفاية والغناء، لا على الميل والهوى. وقال آخر لحاجبه: إنَّك عيني التي أنظرُ بها، وجُنَّةٌ أستنيم إليها، وقد ولَّيتك بابي فما تُراك صانعاً برعيّتي؟ قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم، وأرتِّبهم حيث وضعهم ترتيبك، وأُحسن إبلاغك عنهم وإبلاغهم عنك. قال: قد وفيت بما عليك ولك قولاً، إن وفيت به فعلاً. والله وليُّ كفايتك ومعونتك.

وعهد أميرٌ إلى حاجبه فقال: إنَّ أداء الأمانة في الأعراض أوجب منها في الأموال؛ وذلك أنَّ الأموال وقايةٌ للأعراض، وليست الأعراض بوقاية للأموال. وقد ائتمنتك على أعراض الغاشين لبابي، وإنما أعراضهم أقدارهم، فصُنْها لهم، ووفِّرها عليهم. وصُنْ بذلك عرضي، فلعمري إنَّ صيانتك أعراضهم صيانةٌ لعرضي، ووقايتك أقدارهم وقايةٌ لقدري؛ إذ كنت الحظيَّ بزين إنصافهم إن أُنصفوا، والمبتلى بشين ظلمهم إن ظُلموا في غشيانهم بابي، وحضورهم فنائي. أوف كلّ امرئٍ قدره، ولا تُجاوزْ به حدَّه، وتوقَّ الجور في ذلك التوقّيَ كلَّه. أقبلْ على من تحجب بإبداء البشر وحلاوة العُذر، وطلاقة الوجه ولين القول، وإظهار الودّ، حتّى يكون رضاه عنك لما يرى من بشاشتك به وطلاقتك له، كرضا من تأذن له عنك لما يُمنحه من التكريم، ويحويه من التعظيم؛ فإنّ المنع عند الممنوع في لين المقالة يكاد يكون كالنَّيل عند العظماء في نفع المنالة. أنْهِ إليَّ حالات كلِّ من يغشى بابي من وجيهٍ وخامل، وذي هيئة وأخي رثاثة، فيما يحضُرون له بابي، ويتعلّقون به من إتياني. لا تحتقرنَّ من تقتحمه العيون لرثاثة ثوبٍ أو لدمامة وجه، احتقاراً يخفي عليّ أثره، فربَّما بذَّ مثله بمخبره من يروق العيون منظره.

إنك إن نقصت الكريم ما يستحقُّه من مال لم يغضب بعد أن تستوهبه منه، وإن نقصته من قدره أسخطته أشدَّ الإسخاط، إذ كان يريد دنياه ليصون بها قدره، ولا يريد قدره ليبقي به دنياه. فكن لتحيُّف عرضه أشدَّ توقِّياً منك لتحيُّف ماله. إن المحجوب وإنْ كان عدْلُنا في حجابه كعدلنا على المأذون له في إذنه، يتداخله انكسارٌ إذا حُجب ورأى غيره قد أُذن له. فاختصَّه لذلك من بشاشتك به، وطلاقتك له، بما يتحلَّل به عنه انكساره. فلعمري لو عرف أنّ صوابنا في حجابه كصوابنا في الإذن لمن نأذن له، ما احتجنا إلى ما أوصيناك به من اختصاصه بالبشر دون المأذون له. إن اجتمع الأعلون والأوسطون والأدنون، فدعوت بواحدٍ منهم دون من يعلوه في القدر، لأمرٍ لابد من الدعاء به له، فأظهر العُذر في ذلك لئلا تخبث نفس من علاه؛ فإنّ الناس يتغالب لمثل ذلك عليهم سوء الظُّنون. والواجب على من ساسهم التوقِّي على نفسه من سوء ظنونهم، وعليهم تقويم نفوسهم؛ إذْ هو كالرأس يألم لألم الأعضاء، وهم كالأعضاء يألمون لألم الرأس. المدائني قال: قال زياد بن أبيه لحاجبه:

يا عجلان: قد ولّيتك بابي، وعزلتك عن أربعة: طارق ليلٍ؛ فشرٌّ ما جاء به أو خيْر. ورسول صاحب الثَّغر؛ فإنّه إن تأخّر ساعةً بطل به عمل سنة. وهذا المنادي بالصلاة. وصاحب الطَّعام؛ فإنّ الطعام إذا تُرك برد، وإذا أعيد عليه التسخين فسد. الهيثم بن عديٍّ قال: قال خالد بن عبد الله القسريّ لحاجبه: لا تحجبنَّ عنّي أحداً إذا أخذت مجلسي؛ فإن الوالي لا يحتجب إلا عن ثلاث: إمّا رجلٌ عييٌّ يكره أن يُطَّلع على عيّه، وإمّا رجلٌ مشتمل على سوءة، أو رجلٌ بخيل يكره أن يدخل عليه إنسانٌ يسأله شيئاً. أنشدني محمودٌ الورّاق لنفسه في هذا المعنى: إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردَّ ذوي الحاجات دون حجابه ظننت به إحدى ثلاثٍ، وربّما ... نزعت بظنٍّ واقع بصوابه فقلت: به مسٌّ من العيّ ظاهر ... ففي إذْنه للناس إظهار ما به

فإن لم يكن عيّ اللسان فغالبٌ ... من البُخل يحمي ماله عن طلابه فإن لم يكن هذا ولاذا فريبةٌ ... يصرّ عليها عند إغلاق بابه وأنشدني بعض المحدثين في ابن المدبِّر: لولا مقارفة الرِّيبْ ... ما كنت ممّن يحتجبْ أوْلا فعيٌّ منك أو ... بخلٌ على أهل الطَّلَبْ فاكشف لنا وجه الحجا ... ب ولا تُبالي من عتبْ من ينبغي أن يُتّخذ للحجابة قال المصور للمهديّ: لا ينبغي أن يكون الحاجب جهولاً، ولا غبيّاً، ولاعييّاً، ولا ذهولاً ولا متشاغلاً، ولا خاملاً ولا محتقراً، ولا جهماً ولا عبوساً. فإنّه إن كان جهولاً أدخل على صاحبه الضَّرر من حيث يقدِّر المنفعة، وإن كان عييّاً لم يؤدِّ إلى صاحبه ولم يؤدِّ عنه، وإن كان غبيّاً جهل مكان الشريف فأحلَّه غير منزلته، وحطَّه عن مرتبته، وقدَّم الوضيع عليه،

وجهل ما عليه وماله. وإن كان ذهولاً متشاغلاً أخلَّ بما يحتاج إليه صاحبه في وقته، وأضاع حقوق الغاشين لبابه، واستدعى الذَّمَّ من الناس له، وأذن عليه لمن لا يحتاج إلى لقائه ولا ينتفع بمكانه. وإذا كان خاملاً محتقراً أحلَّ الناس صاحبه في محلِّه وقضوْا عليه به. وإذا كان جهماً عبوساً تلَّقى كل طبقةٍ من الناس بالمكروه، فترك أهل النصائح نصائحهم، وأخلَّ بذوي الحاجات في حوائجهم، وقلَّت الغاشية لباب صاحبه، فراراً من لقائه. الهيثم بن عديّ عن مجالد عن الشَّعبيّ، أن عبد الملك بن مروان قال لأخيه عبد العزيز بن مروان، حين ولاَّه مصر: إن الناس قد أكثروا عليك، ولعلك لا تحفظ. فاحفظْ عنّي ثلاثا. قال: قل يا أمير المؤمنين. قال: انظر من تجعل حاجبك، ولا تجعلْه إلا عاقلاً فهماً مُفْهماً، صدوقاً لا يورد عليك كذباً، يُحسن الأداء إليك والأداء عنك. ومُرْه ألا َّ يقف ببابك أحدٌ من الأحرار إلاّ أخبرك، حتّى تكون أنت الآذن له أو المانع؛ فإنه إن لم يفعل كان هو الأمير وأنت الحاجب. وإذا خرجت إلى أصحابك فسلِّم عليهم يأنسوا بك. وإذا هممت بعقوبةٍ فتأنَّ فيها؛ فإنّك على استدراكها قبل فوتها أقدر منك على انتزاعها بعد فوتها. وقال سهل بن هارون للفَضْل بن سَهْل: إنّ الحاجب أحد وجهي الملك، يُعتبر عليه برأفته، ويلحقه ما كان في غلظته وفظاظته. فاتخذْ حاجبك سهل الطبيعة، معروفاً بالرأفة، مألوفاً منه

البرُّ والرَّحمة. وليكن جميل الهيئة حسن البسطة، ذا قصدٍ في نيَّته لهم في تفاضُل منازلهم، وليُعط كلاًّ بقسطه من وجهه، ويستعطف قلوب الجميع إليه، حتّى لا يغشى الباب أحدٌ وهو يخاف أن يقصَّر به عن مرتبته، ولا أن يُمنع في مدخل أو مجلسٍ أو موضع إذنٍ شيئاً يستحقُّه، ولا أن يمْنع أحداً مرتبته. وليضع كلاًّ عندك على منزلته. وتعهَّدْه فإن قصَّر مقصِّر قام بحسن خلافته وتزيين أمره. وقال كسرى أنوشروان في كتابه المسمى " شاهيني ": ينبغي أن يكون صاحب إذن الخاصّة رجلاً شريف البيت، بعيد الهمّة، بارع الكرم، متواضعاً طلقاً، معتدل الجسم بهيَّ المنظر، ليِّن الجانب، ليس ببذخ ولا بطرٍ ولا مرح، ليِّن الكلام، طالباً للذِّكر الحسن، مشتاقاً إلى محادثة العلماء ومجالسة الصُّلحاء، محبّاً لكلِّ مازيَّن عمله، معانداً للسُّعاة، مجانباً للكذَّابين، صدوقاً إذا حدَّث، وفيَّاً إذا وعد، متفهماً إذا خوطب، مجيباً بالصواب إذا روجع، منصفاً إذا عامل، آنساً وؤنساً، محبَّاً للأخيار، شديد الحنوّ على المملكة، أديباً له لطافةٌ في الخدمة، وذكاءٌ في الفهم، وبسطةٌ في المنطق، ورفقٌ في المحاورة، وعلمٌ بأقدار الرجال وأخطارها.

وقال في حاجب العامة: ينبغي أن يكون حاجب العامة رجلاً عبد الطاعة، دائم الحراسة للملك، مخوف اليد، خشن الكلام مروّعا، غير باطشٍ إلا بالحقّ، لا أنيساً ولا مأنوساً، دائم العبوس، شديداً على المريب، غير مستخفٍّ بخاصّة الملك ومن يهوى ويقرِّب، من بطانته. محلُّ الحاجب وموضعه ممن يحجبه قال عبد الملك لأخيه عبد العزيز حين وجَّهه إلى مصر: اعرف حاجبك، وجليسك، وكاتبك. فإنَّ الغائب يخبره عنك كاتبك، والمتوسِّم يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك. وقال يزيد بن المهلب لابنه مخلد حين ولاه جرجان: استظرف كاتبك، واستعقل حاجبك. وقال الحجّاج: حاجب الرجل وجهه، وكاتبه كلُّه. وقال ابن أبي زرعة: قال رجلٌ من أهل الشام، لأبي الخطاب الحسن بن محمد الطائي يعاتبه في حجابه: هذا أبو الخطاب بدرٌ طالعٌ ... من دون مطلعه حجابٌ مظلم ويقال وجه المرء حاجبه كما ... بلسان كاتبه الفتى يتكلم

أدنيت من قبل اللقاء، وبعده ... أقصيت، هل يرضى بذا من يفهم وإذا رأيت من الكريم فظاظةً ... فإليه من أخلاقه أتظلم وقال الفضل بن يحيى: إنَّ حاجب الرجل عامله على عرضه، وإنه لا عوض لحرٍ من نفسه، ولا قيمة عنده لحريته وقدره. وأنشدني ابن أبي كامل في هذا المعنى: واعلمن إن كنت تجهله ... أنّ عرض المرء حاجبه فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه من عوتب على حجابه أو هجيَ به إسحاق الموصليّ عن ابن كناسة قال: خبِّرت أنّ هانئ بن قبيصة وفد على يزيد بن معاوية، فاحتجب عنه أياماً، ثم إن يزيد ركب يوماً يتصيد فتلقاه هانئ فقال: يا يزيد، إن الخليفة ليس بالمحتجب المتخلِّي، ولا المتطرِّف المتنحِّي، ولا الذي ينزل على الغدران والفلوت، ويخلو للذات والشهوات. وقد وليت أمرنا فأقم بين أظهرنا، وسهّل إذننا، واعمل بكتاب الله فينا. فإن كنت قد عجزت عمّا هنا

فاردد علينا بيعتنا نبايع من يعمل بذلك فينا، ويقيمه لنا. ثم عليك بخلواتك وصيدك وكلابك. قال: فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسنَّ بالشام سنّة العراق لأقمت أودك. ثم انصرف وما هاجه بشيء، وأذن له، ولم تتغير منزلته عنده، وترك كثيراً مما كان عليه. الموصليّ قال: كان سعيد بن سلم والياً على أرمينية، فورد عليه أبو دهمان الغلابي، فلم يصل إليه إلا بعد حين، فلما وصل قال - وقد مثل بين السماطين -: والله إني لأعرف أقواماً لو علموا أنَّ سفَّ التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكةً لأرماقهم، إيثاراً للتنزه عن العيش الرقيق الحواشي. والله

إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفني عنك، ولأن أكون مملقاً مقرباً أحبُّ إليّ من أن أكون مكثراً مبعدا. والله ما نسأل عملا لا نضبطه ولا مالاً إلا ونحن أكثر منه، وإنَّ الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيراً فخيرا، وإن شراً فشرا. فتحبّب إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الحجاب؛ فإن حبّ عباد الله موصولٌ بحبّ الله، وهم شهداء الله على خلقه، وأمناؤه على من اعوجَّ عن سبيله. إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: استبطأني جعفر بن يحيى، وشكا ذلك إلى أبي، فدخلت عليه - وكان شديد الحجاب - فاعتذرت إليه وأعلمته أني أتيته مراراً للسلام فحجبني نافذٌ غلامه.

فقال لي وهو مازحٌ: متى حجبك فنكه. فأتيته بعد ذلك للسلام فحجبني، فكتبت إليه رقعةً فيها: جعلت فداءك من كلّ سوء ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا يحولون بيني وبين السلام ... فما إن أسلم إلا اختلاسا وأنفذت رأيك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلا شماسا وسألت نافذاً أن يوصلها ففعل، فلما قرأها ضحك حتى فحص برجليه وقال: لا تحجبه أيَّ وقتٍ جاء. فصرت لا أُحجب. وحجب أحمد بن أبي طاهر بباب بعض الكتاب فكتب إليه: ليس لحرٍ من نفسه عوض، ولا من قدره خطر، ولا لبذل حريته ثمن. وكلُّ ممنوع فمستغنىً عنه بغيره، وكلُّ مانعٍ ما عنده ففي الأرض عوضٌ منه، ومندوحةٌ عنه. وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عنده غلائه. وقال بشار: " والدرُّ يُترك من غلائه ". ونحن نعوذ بالله من المطامع الدنيّة، والهمّة القصيرة، ومن ابتذال الحرية، ولا استرقّها طمع، ولا طبعت على طبع. وقد رأيتك ولّيت عرضك

من لا يصونه، ووكلت ببابك من يشينه، وجعلت ترجمان كرمك من يكثر من أعدائك، وينقص من أوليائك، ويسيء العبارة عن معروفك، ويوجه وفود الذمّ إليك، ويضغن قلوب إخوانك عليه؛ إذ كان لا يعرف لشريفٍ قدرا، ولا لصديقٍ منزلة، ويزيل المراتب عن جهاتها ودرجاتها، فيحُطُّ العليّ إلى مرتبة الوضيع، ويرفع الدنيَّ إلى مرتبة الرفيع، ويقبل الرُّشى، ويقدِّّم على الهوى. وذلك إليك منسوبٌ، وبرأسك معصوب، يلزمك ذنبه، ويحلُّ عليك تقصيره. وقد أنشدني أبو عليٍّ البصير: كم من فتىً تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار في ذمته قد كثَّر الحاجب أعداءه ... وأحقد الناس على نعمته

وأنشدت لبعضهم: يدلّّ على سروِ الفتى واحتماله ... إذا كان سهلاً دونه إذن حاجبه وقد قيل ما البوَّاب إلا كربِّه ... إذا كان سهلاً كان سهلاً كصاحبه وقال الطائي: حشم الصَّديق عيونهم بحاثةٌ ... لصديقه عن صدقه ونفاقه فليُنظرنَّ المرء من غلمانه ... فهم خلائفه على أخلاقه وقال آخر: اعرف مكانك من أخي ... ك ومن صديقك بالحشمْ وقال ابن أبي عُيينة: إنَّ وجه الغلام يخبر عمّا ... في ضمير المولى من الكتمان فإذا ما جهلت ودَّ صديقٍ ... فامتحنْ ما أردت بالغلمان وقال آخر: ومحنة الزائرين بيِّنة ... تُعرف قبل اللقاء بالحشم وأنشدني عبد الله بن أحمد المهْزميّ في عليّ بن الجهم: أعليَّ دونك يا عليُّ حجاب ... يُدني لبعيد وتحجب الأصحاب

هذا بإذنك أمْ برأيك أم رأى ... هذا عليك العبد والبَّوابُ إنَّ الشريف إذا أمور عبيده ... غلبت عليه فأمره مرتابُ وأخذه من قول الطائي: أبا جعفرٍ وأصول الفتى ... تدلُّ عليه بأغصانه أليس عجيباً بأنّ امرأً ... رجاك لحادث أزمانه فتأمر أنت بإعطائه ... ويأمر فتْحٌ بحرمانه ولست أحبُّ الشريف الظريف ... يكون غلاماً لغلمانه وحُجب ابن أبي طاهرٍ بباب بعض الكتاب، فكتب إليه: " إنه من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب، وأنا أرفعك عن هذه المنزلة، وأربأ يعدوِّك عن هذه الخليقة، وما أحد أقام في منزله - عظُم أو صغُر قدره - إلاّ ولو حاول حجاب الخليفة عنه لأمكنه. فتأمّلْ هذه الحال وانظرْ إليه بعين النَّصفة، ترها في أقبح صورة، وأدنا منزلة. وقد قلت: إذا كنت تأتي المرء تُعْظم حقَّه ... ويجهل منك الحقَّ فالهجر أوسع ففي الناس أبدالٌ وفي العزِّ راحةٌ ... وفي اليأس عمّن لا يواتيك مقنع وإنّ امرأً يرضى الهوان لنفسهحريٌّ بجدع الأنف والجدع أشنع

فدع عنك أفعالاً يشينك فعلهاوسهِّل حجاباً إذنُه ليس ينفع وحدّثني عبد الله بن أبي مروان الفارسي قال: ركبت مع ثمامة بن أشرس إلى أبي عبّادٍ الكاتب، في حوائج كتب إليَّّ فيها أهل إرمينيّة من المعتزلة والشيعة، فأتيناه فأعظم ثمامة وأقعده في صدر المجلس وجلس قُبالته، وعنده جماعةٌ من الوجوه، فتحدثْنا ساعة ثم كلَّمة ثمامة في حاجتي، وأخرجت كتب القوم فقرأها، وقد كانوا كتبوا إلى أبي عبّادٍ كتبا، وكانوا أصدقاءه أيّام كونه بإرمينية، فقال لي: بكِّر إليّ غداً حتّى أكتب جواباتها إنْ شاء الله. فقلت: جعلني الله فداك، تأمر الحاجب إذا جئت أن يأذن لي. فغضب من قولي واستشاط وقال: متى حُجبت أنا، أولى حاجبٌ، أو لأحد عليَّ حجاب!. قال عبد الله: وقد كنت أتيته فحجبني بعض غلمانه، فحلف بالأيمان المغلَّظة أن يقلع عينا من حجبني، ثم قال: يا غلام، لا يبق في الدار غلامٌ ولا منقطعٌ إلينا إلاَّ أحضرتمونيه! قال: فأتى بغلمانه وهم نحوٌ من ثلثمائة، فقال: أشرْ إلى من شئت فيهم. فغمزني ثمامة فقلت: جُعلت فداك لا أعرفُ الغلام بعينه. فقال: ما كان لي حاجبٌ قطٌّ، ولا احتجبت، وذلك لأنَّه سبق منّي قول، لأنّي كنت وأنا بالريّ وقد مات أبي وخلَّف لي بها ضياعاً فاحتجت إلى ملاقاة الرجال والسُّلطان فيما كان لنا، فكنت أنظر إلى الناس يدخلون ويصلون وأُحجب أنا وأُقصى، فتتقاصر إليّ نفسي،

ويضيق صدري، فآليت على نفسي إن صرت إلى أمرٍ من السُّلطان ألاَّ أحتجب أبداً. وحدثني الزُّبير بن بكّار قال: استأذن نافع بن جُبير بن مُطعم على معاوية، فمنعه الحاجب فدقَّ أنفه، فغضب معاوية وكان جُبيرٌ عنده، فقال معاوية: يا نافع، أتفعل هذا بحاجبي؟ قال: وما يمنعنيمنه وقد أساء أدبه وأسأت اختياره؟! ثم أنا بالمكان الذي أنا به منك. فقال جُبير: فضَّ الله فاك، ألاَّ تقول: وأنا بالمكان الذي أنا به من عبد مناف؟! قال: فتبسَّم معاوية وأعرض عنه. قال: وفد رجلٌ من الأكاسرة على بعض ملوكهم، فأقام ببابه حولاً لا يصل إليه، فكلَّم الحاجب فأوصل له رقعةً فيها أربعة أسطر: السطر الأول فيه: الأمل والضرورة أقدماني إليك. وفي الثاني: ليس على العديم صبرٌ على المطالبة. وفي الثالث: الرجوع بلا فائدةٍ شماتة العدوِّ والقريب. وفي الرابع: إمّا " نعمْ " مُثمرة، وإمّا " لا " مؤيسة، ولا معنى للحجاب بينهما.

فوقع تحت كل سطرٍ منها: " زِهْ ". وأنشد الوليد بن عُبيد البحتريّ في ابن المدبِّر يهجو غلامه بشراً: وكم جئت مشتاقاً على بُعد غايةٍ ... إلى غير مشتاقٍ وكم ردَّني بشرُ وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجي من أبوابه ويدي صفرُ وأنشدت لبعضهم: لعمري لئن حجبتني العبيد ... ببابك ما يحجبوا القافية سأرمي بها وراء الحجاب ... جزاء قروضٍ لكم وافية تُصمُّ السَّميع وتُعمي البصير ... ويُسأل من أجلها العافية وأنشدني أحمد بن أبي فنن، في محمد بن حمدون بن إسماعيل: ولقد رأيت بباب دارك جفوةً ... فيها لحسن صنيعةٍ تكدير

ما بال دارك حين تُدخل جنّةً ... وبباب دارك منكر ونكيرُ وأنشدني أبو علي الدِّرهمي اليماميُّ في أبي الحسن علي بن يحيى: لا يُشبه الرجل الكريم نجاره ... ذا اللُّبِّ غير بشاشة الحجّاب وبباب دارك من إذا حيَّيته ... جعل التبرُّم والعبوس ثوابي أوصيته بالإذن لي فكأنّما ... أوصيته متعمِّداً لحجابي وأنشدني أبو علي البصير في أبي الحسن علي بن يحيى: في كلِّ يوم لي ببابك وقفةٌ ... أطوي إليها سائر الأبواب فإذا حضرتُ وغبتُ عنك فإنّه ... ذنبٌ عقوبته على البوّاب وأنشدني أبو علي اليمامي، وعاتب بعض أهل العسكر في حاجبه، فلم يأذنْ له الحاجب بعد ذلك، فكتب إليه: صار العتاب يزيدني بُعدا ... ويزيد من عاتبته صدّا وإذا شكوت إليه حاجبه ... أغْراه ذاك فزادني ردّا وأنشدني العجينيّ في بعض أهل العسكر، يعاتبه في حاجبه ويهجو حاجبه: إنما يحسن المديح إذا ما ... أنشد المادح الفتى الممدوحا وأراني بباب دارك عمِّر ... تُ طويلاً مُقصىً مُهاناً طريحا

إنّ بالباب حاجباً لك أمسى ... مُنْكرٌ عنده ظريفاً مليحا ما سألناه عنك قطُّ وإلاّ ... ردّ من بُغضه مردّاً قبيحا وأنشدت لبعضهم في هجاء حاجب: سأترك باباً أنت تملك إذنه ... ولو كنت أعمى عن جميع المسالكِ فلو كنت بواب الجنان تركتها ... وحوّلت رحْلي مسرعاً نحو مالكِ وكتب بعض الكتّاب إلى الحسن بن وهبٍ، في بوّابه: قد كنت أحسب أنّ طرفك ملَّني ... ورُميت منك بجفوةٍ وعذابِ فإذا هواك على الذي قد كان لي ... وإذا بليّتنا من البوّاب فاعلم جعلت فداك غير معلَّمٍأنّ الأديب مؤدَّب الحجاب وقال رزينٌ العروضيّ لجعفر بن محمد بن الأشعث:

إن كنت تحجبني للذئب مزدهياً ... فقد لعمري أبوكم كلَّم الذيبا فكيف لو كلَّم الليث الهصُور إذاً ... تركتم الناس مأكولاً ومشروبا هذا السُّنيديُّ ما ساوى إتاوته ... يكلِّم الفيل تصعيداً وتصويبا اذهب إليك فما آسي عليك وما ... ألقي ببابك طلاَّباً ومطلوبا المدائني قال: كان يزيد بن عمر الأسِّيديّ على شرطة البصرة، فأتاه الفرزدق في جماعةٍ فوقف ببابه، فأبطأ عليه إذنه، فقال - وكان ابن عُمر يلقَّب الوقاح -: ألم يكُ من نكْس الزَّمان على استه ... وقوفي على باب الوقاح أسائله فإن تك شُرْطيّاً فإني لغالبٍ ... إذا نزلت أركان فخٍّ منازله وقال أبو عليٍّ البصير، وحجبه محمد بن غسّان، بعد أُنسٍ كان بينهما: قد أتينا للوعد صدر النَّهار ... فدُفِعْنا من دون باب الدار

وسمعنا، من غير قصدٍ لأن نس ... مع، صوت الغناء والأوتار فأحْطنا بكل ما غاب من شأ ... نك عنَّا خُبْراً بلا استخبار فإذا أنت قد وصلت صبوحاً ... بغبوقٍ ودُلجةً بابتكار وإذا نحن لا تخاطبنا الغل ... مان إلاّ بالجحْد والإنكار فانصرفنا وطالما قد تلقَّو ... نا بأُنسٍ منهم وباستبشار ذاك إذ كان مرّةً لك فينا ... وطرٌ فانقضى من الأوطار حين كُنَّا المقدِّمين على الن ... س وكنّا الشَّعار دون الدِّثار كم تأنيت وانتظرت فأفني ... ت تأنِّيَّ كُلَّه وانتظاري فعليك السلام كُنّا من الأه ... ل فصرنا كسائر الزُّوّار وله إليه أيضاً: قد أطلْنا بالباب أمس القعودا ... وجُفينا به جفاءً شديدا وذممنا العبيد حتى إذا نح ... ن بلونا الوْلى عذرنا العبيد وعلى موعدٍ أتيناك معلو ... مٍ وأمرٍ مُؤكَّد تأكيدا فأقمنا لا الإذن جاء ولا جا ... ء رسولٌ قال انصرفْ مطرودا وصبرنا حتّى رأينا قُبيل ال ... ظُّهر برذون بعضهم مردودا

واستقرَّ المكان بالقوم والغل ... مان في ذاك يمنحونا صدودا ويُشيرون بالمضيّ فلمّا ... أُحرجوا جرّدوا لنا تجريدا فانصرفنا في ساعةٍ لو طرحت ال ... لَّحم فيها نيّاً كُفيت الوقودا فلعمري لو كنت تعتدّ لي ذن ... باً عظيما وكنت فظّاً حقودا وطلبت المزيد لي في عذابٍ ... فوق هذا لما وجدت مزيدا كان ظنِّي بك الجميل فألفي ... تك من كلِّ ما ظننت بعيدا فعليك السلام تسليم من لا ... يضمن الدهر بعدها أن يعودا وله في أحمد بن داود السِّيبي وقصد إليه بكتاب إسحاق بن سعدٍ الكاتب: يا ابن سعدٍ إن العقوبة لا تل ... زم إلاَّ من ناله الإعذارُ وابن داود مستخفٌّ وقد وا ... فَتْه مشحوذةً عليه الشَّفارُ فاهده للتي يكون له من ... ها مفرٌّ ما دام يُنجي الفرارُ سامني أحمد بن داود أمراً ... ما على مثله لديَّ اصطبارُ لي إليه في كلِّ يومٍ جديدٍ ... روحةٌ ما أُغبُّها وابتكار ووقوفٌ ببابه أُمنع الإذ ... ن عليه ويدخل الزُّوَّارُ خُطَّةٌ من يُقم عليها من النا ... س ففيها ذُلٌّ له وصغارُ لو ينال الغنى لما كان في ذ ... لك حظٌّ يناله مختارُ

عزب الرأي فيّ عته وعزَّتْ ... هـ أناةٌ طويلةٌ وانتظار وحجب بباب بعض الكُتَّاب فكتب إليه: أقمت ببابك في جفوةٍ ... يُلوِّن لي قوله الحاجب فيطمعني تارةً في الوصول ... وربَّتما قال لي: راكب فأعلم عند اختلاف الكلام ... وتخليطه أنّه كاذب وأعزم عزماً فيأبى عل ... يَّ إمضاءه رأيي الثاقب وأءنّي أراقب حتى يثو ... ب للحرِّ من رأيه ثائب فإن تعتذر تُلفني عاذراً ... صفوحاً وذاك هو الواجب وإلا فإني إذا ما الحبا ... ل رثَّتْ قواها، لها قاضب وقال لعليِّ بن يعقوب الكاتب وحجب ببابه: قد أتيناك للسَّلام فصادفْ ... نا على غير ما عهدنا الغلاما وسألناه عنك فاعتلَّ بالنَّ ... م وما كان مُنكراً أن تناما غير أنّ الجواب كان جواباً ... سيئاً يُعقب الصَّديق احتشاما فانصرفنا نوجِّه العُذر إلاّ ... أنَّ في مضمر القلوب اضطراما يا ابن يعقوب لا يلومنَّ إلا ... نفسه بعد هذه من ألاما وقال لعلي بن المنجِّم، وحجبه غلامه:

ليس يرضى الحُرُّ الكريم ولو أق ... طعته الأرض أن يذلَّ لعبد فعليك السلام إلا على الطر ... ق وحبِّي كما علمت وودِّي وقال أبو هفّان لعلي بن يحيى، يعاتبه في حجابه: أبا حسنٍ وفِّنا حقَّنا ... بحقِّ مكارمك الوافية أأُحجب دونك شرَّ الحجاب ... ويدخل دوني بنو العافية أعوذ بفضلك من أن أُساء ... وأسأل ربيِّ لك العافية فإني امرؤٌ تتَّقيني الملوك ... وتدخل في حلقي الضَّافية كتبت على نفسِ من رامني ... ببعض الأذى للرَّدى صافية وأُنشدت لبرقوق الأخطل وحُجب بباب بعض الكتّاب: قد حُجبنا وكان خطباً جليلاً ... وقليل الجفاءِ ليس قليلا لم أكن قبلها ثقيلا وهل يث ... قُل من خاف أن يكون ثقيلا غير أني أظنُّ لازال ذاك ال ... ظَّنُّ ينقاد أن يكون ملولا

وأخذه من قول الآخر: لمَّا تحاجبت وقد خفت أن ... تدنو من ودِّك بالمقبل أقللت إتيانكم إنَّه ... من خاف أن يُثقل لم يثقل وأنشدني أبو عبد الرحمن العطويّ: لأبي بكرٍ خليلي ... حُسن رأيٍ في الحجابِ يا أبا بكر سقاك ال ... له من صوب السَّحاب لن تراني بعدها من ... بعدها قارع باب إن يَنُبْ خطْبٌ ففي الرُّسْ ... ل بلاغٌ والكتاب ولخالدٍ الكاتب في جعفر بن محمود: احتجب الكاتب في دهرنا ... وكان لا يحتجب الكاتب القوم يخلون لحجابهم ... فيُنكح المحجوب والحاجب ولأبي سعْدٍ المخزومي في الحسن بن سهل: ترهَّب بعدك الحسن بن سهلٍ ... فأغلق بابه دون المديح

كذبتُ له ولم أكذبْ عليه ... كما كذب النَّصاري للمسيح وأنشدني البلاذُريّ في بعض كتاب أهل العسكر: أيحجُبني من ليس من دون عرسه ... حجابٌ ولا من دون وجْعائه سترُ ومن لو أمات الله أهون خلقه ... عليه لأضحي قد تضمَّنه قبرُ وأنشدني حبيب بن أوسٍ، في موسى بن إبراهيم، أبي المغيث: أمُويس لا يُغني اعتذارك طالباً ... ودَّي فما بعد الهجاء عتاب هب من له شيءٌ يريد حجابه ... ما بال لا شيء عليه حجاب ما إن سمعت ولا أراني سامعاً ... يوماً بصخراءٍ عليها باب من كان مفقود الحياء فوجهه ... من غير بوّابٍ له بوّاب ولآخر: بخل الأمير بإذنه ... فجلست في بيتي أميرا وتركت إمرته له ... والله محمودٌ كثيراً

وأنشدني الزبير بن بكارٍ لبعض الشعراء: سأترك هذا الباب مادام إذنه ... على ما أرى حتى يلين قليلا إذا لم نجد للإذن عندك سلَّما ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا الزبير بن بكارٍ قال: وقدَ ابن عمٍّ لداود بن يزيد المهلَّبيّ عليه فحجبه، وجعل يمطله بحاجته، فكتب إليه: أبا سليمان وعداً غير مكذوب ... اليأس أروح من آمال عرقوب أرى حمامة مطلٍ غير طائرة ... حتى تنقَّب عن بعض الأعاجيب لا تركبنَّ بشعرى غير مركبه ... فيركب الشعر ظهراً غير مركوب لئن حجبت فلم تأذن عليك فما ... شعري إذا سار عن أذنٍ بحجوب إن ضاق بابك عن إذن شددت غداً ... رحلي إلى المطريِّين المناجيب قومٌ إذا سئلوا رقت وجوههم ... لا يستقيدون إلا للمواهيب

ولأحوص بن محمد الأنصاريّ في أبي بكر بن حزم: أعجبت أن ركب ابن حزمٍ بغلة ... فركوبه فوق المنابر أعجب وعجبت أن جعل ابن حزمٍ حاجباً ... سبحان من جعل ابن حزمٍ بحجب وأنشدت لابن حازمٍ يعاتب رجلاً في حجابه: صحبتك إذ أنت لا تصحب ... وإذ أنت لا غيرك الموكب وإذ أنت تفرح بالزائرين ... ونفسك نفسك تستحجب وإذ أنت تكثر ذمَّ الزمان ... ومشيك أضعاف ما تركب فقلت: كريمٌ له همّةٌ ... تنال فأدرك ما أطلب فنلت فأقصيتني عامداً ... كأني ذو عرّة أجرب وأصبحت عنك إذا ما أتي ... ت دون الورى كاّهم احجب وأنشدني أبو تمَّامٍ الطائي: ومحجّبٍ حاولته فوجدته ... نجماً عن الركب العفاة شسوعا لما عدمت نواله أعدمته ... شكري فرحنا معدمين جميعاً

ووقف العتبيّ بباب إسماعيل بن جعفرٍ يطلب إذنه، فأعلمه الحاجب أنه في الحمّام، فقال: وأميرٍ إذا أردنا طعاماً ... قال حجّابه أتى الحمّاما فيكون الجواب مني للحا ... جب ما إن أردت إلا السلاما لست آتيكم من الدهر إلا ... كلّ يومٍ نويت فبه الصيَّاما إنني قد جعلت كلّ طعامٍ ... كان حِلاً لكم عليّ حراما وأنشدني إسحاق بن خلفٍ البصريّ له: أيحجبني أبو الحسن ... وهذا ليس بالحسن وليس حجابه إلا ... عن الزيتون والجبن وأنشدني بعضهم: لا تتَّخذ باباً ولا حاجباً ... علسك من وجهك بوّاب أنت ولو كنت بدوّيةٍ ... عليك أبوابٌ وحجاب ولعلي بن جبلة في الحسن بن سهل: اليأس عزٌّ والذلّة الطمع ... يضيق أمرٌ يوماً ويتسع لا تستريثنَّ إذن محتجبٍ ... إن لم تكن بالدخول تنتفع أحقُّ شيءٍ بطول مهجرةٍ ... من ليس فيه ريٌّ ولا شبع

قل لابن سهل فإنني رجلٌ ... إن لم تدعني فإنني أدع اليأس مالي وجنّتي كرمٌ ... والصبر والٍ عليّ لا الجزع ولأبي تمام الطائي في أبي المغيث: لا تكلفنَّ وأرض وجهك وجهه ... في غير منفعةٍ، مؤونة حاجب لا تمتهنِّي بالحجاب فإنني ... فطن البديهة عالم بمواربي ولبعض الشعراء في العباس بن خالد، وخبرت إنه لابن الأعمش: أتحجبني فليس لديك نيلٌ ... وقد ضيّعت مكرمةً ومجدا وفي الآفاق أبدالٌ ورزقٌ ... وفي الدنيا مراحٌ لي ومغدى وأنشدني أبو الخطاب، لدعبل، في غسان بن عباد: لقطع الرمال ونقل الجبال ... وشرب البحار التي تصطخب وكشف الغطاء عن الجنِّ أو ... صعود السماء لمن يرتقب وإحصاء لؤم سعيدٍ لنا ... أو الثكل في ولدٍ منتجب

أخفُّ على المرء من حاجةٍ ... تكلِّف غشيانها مرتقب له حاجبٌ دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب ولمرداس بن حزام الأسدي، في بشير بن جرير بن عبد الله: أتيت بشيراً زائراً فوجدته ... أخا كبرياءٍ عالماً بالمعاذر فصدَّ وأبدى غلظةً وتهجماّ ... وأغلق باب العرف عن كلّ زائر حجاباً لحرٍّ لا جواداً بماله ... ولا صابراً عند اختلاف البواتر وحجب أبو العتاهية بباب أحمد بن يوسف الكاتب، فكتب إليه: ألم تر أنَّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنَّ الغنى يخشى عليه الفقر فإن نلت تيهاً بالذي نلت من غنىً ... فإنَّ غناي بالتكرّم والصبر وله أيضاً فيه: إني أتيتك للسلا ... م تكلفّاً مني وحمقا فصددت عني نخوةً ... وتجبراً ولويت شدقا فلو أن رزقي في يدي ... ك لما طلبت الدهر رزقا

ولأحمد بن أبي طاهر: ليس العجيب بأن أرى لك حاجباً ... ولأنت عندي من حجابك أعجب فلئن حجبت لقد حجبت معاشراً ... ما كان مثلهم ببابك يحجب وله في بعض الكتاب: ردّني بالذلِّ صاحبه ... إذا رأى أطالبه ليس كشخاناً فأشتمه ... إنما الكشخان صاحبه وله أيضاً في علي بن يحيى يعاتبه في بعض قصائده: أصواباً تراه أصلحك الله فما إن رأيته بصواب صرت أدعوك من وراء حجاب ... ولقد كنت حاجب الحجّاب أتى أبو العتاهية باب أحمد بن يوسف الكاتب في حاجةٍ فلم يؤذن له، فقال: لئن عدت بعد اليوم إني لظالمٌ ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم متى ينجح الغادي إليك بحاجةٍ ... ونصفك محجوبٌ ونصفك نائم ولآخر: رأيتك تطردنا بالحجا ... ب عنك برفقك طرداً جميلا

ولكنَّ في طمع الطامعي ... ن والحرّ من ذا يفكُّ العقولا فهل لك في الإذن لي بالرحي ... ل فقد أبت النفس إلا الرحيلا وحدثني أبو عليٍّ البصير قال: حدثني محمد بن غسان بن عباد قال: كنت بالرقة، وكان بها موسوسٌ يقول الشعر المحال والمنكر، فغدّيته يوماً معي احتساباً للثواب، فأتاني من غدً وعندي جماعةٌ من العمال، فحجبه الغلام، فلما كان من غدٍ وقف على الباب وصاح: عليك إذنٌ فإنّا قد تغدّينا ... لسنا نعود لأككلٍ قد تغدَّينا يا أكلةً سلفت أبقت حرارتها ... داءً بقلبك ما صُمنا وصَّلينا قال: وما علمتُه قال شعراً على استواءٍ غيره، ولكنِّي وُعظت به فوقع مكروهي على لساني. وأُنشدت لحمَّاد عجردٍ يعاتب بعض الملوك: إذا كنت مكتفياً بالكتا ... ب دون اللِّمام تركت اللِّماما وإلاّ فأوص هداك الملي ... ك بوّابكمْ بي وأوصِ الغلاما فإن كنت أُدخلت في الزائري ... ن، إمّا قعوداً وإما قياما وإنْ لم أكن منك أهلاً لذاك ... فلا لوم لست أحبُّ الملاما فإنِّي أذمُّ إليك الأنا ... م أخزاهم الله ربِّي أناما فإنِّي وجدتهم كلَّهمْ ... يُميتون مجداً ويُحيون ذاما

ولأبي الأسد الشَّيبانيّ، يعاتب أبا دُلف في حجابه: ليت شعري أضاقت الأرض عنيّ ... أم نفيٌّ من البلاد طريدُ أم قدارٌ أم الحبابة أم أح ... مر لاقت به البلاء ثمودُ أم أنا قانعٌ بأدنى معاشٍ ... همَّتي القوت والقليل الزهيدُ مقولي قاطعٌ وسيفي حسامٌ ... ويدي حُرَّةٌ وقلبي شديدُ رُبَّ باب أعزّ من بابك اليو ... م عليه عساكرٌ وجنودُ قد ولجناه داخلين غدُوّاً ... ورواحاً وأنت عنه مذودُ فاكفف اليوم من حجابك إذ لسْ ... ت أميراً، ولا خميساً تقودُ لن يقيم العزيز في البلد الهو ... ن ولا يكسد الأديب الجليدُ كل من فرَّ من هوانٍ فإن ال ... رُّحب يلقاه والفضاء العتيدُ

ولعليّ بن جبلة في بعض الملوك: حجابك ضيّقٌ ونداك نزرُ ... وإذنك قد يُراد عليه أجرُ وذلٌّ أن يقوم إليك حُرُّ ... وطُلاب الثواب لديك نقْرُ وأنشدني اليماميّ في أبي الصَّقر إسماعيل بن بلبل، يعاتبه في حجابه: لكلِّ مؤمّلٍ جدوى كريمٍ ... على تأميله يوماً ثوابُ وأنت الحرُّ ما خانتك نفسٌ ... ولا أصلٌ إذا وقع انتسابُ وشكري ظاهر ورجاي جزلٌ ... ففيم جزاي من ذلٍّ حجاب وحقّي أن تكافئني مزيداً ... بشكري إذْ به نزل الكتاب وأنشدت لأبي مالك الأعرج: علَّقت عيني بباب الدار منتظراً ... منك الرسول فخلِّصْها من الباب صانعت فيك بمثَليْ ما أُمِّله ... فيما لديك وهذا سعى خيَّاب ولبشَّار بن برد، في عُبيد الله بن قزعة: إذا سُئل المعروف أغلق بابه ... فلم تلقه إلاّ وأنت كمين كأنَّ عُبيد الله لم ير ماجداً ... ولم يدرِ أنَّ المكرمات تكون فقل لأبي يحيى متى تدركُ العلا ... وفي كلِّ معروف عليك يمينُ

وأنشد لأبي زُرعة - رجلٍ من أهل الشام - في أبي الجهم بن سيف: ولكنْ أبو الجهم إن جئته ... لهيفاً حُجبت عن الحاجبِ وليس بذي موعدٍ صادق ... ويبخلُ بالموعد الكاذب وحُجب سعيد بن حُميد بباب الحسن بن مَخْلَد، فكتب إليه: ربّ بشرٍ يصيِّر الحرَّ عبداً ... لك غالتْه جفوةٌ في الحجاب وفتىً ذي خلائقٍ مُعجباتٍ ... أفسدتْها خلائقُ البوّابِ وكريم قد قصَّرت بأيادي ... هـ عبيدٌ تسيءُ للآداب لا أرى للكريم أن يشتري الدن ... يا جميعاً بوقْفةٍ بالباب إنْ تركت العبيد والحُكم فينا ... صار فضلُ الرءوس للأذناب فأحلُّوا أشكالهم رُتب الفضْ ... ل، وحظُّ الأحرار عَفْر التّراب وأنشدت لعبد الله بن العباس: أنا بالباب واقفٌ منذ أصبحْ ... ت على السِّرج ممسك بعناني وبعين البوّاب كلُّ الذي بي ... ويراني كأنَّه لا يراني

وأنشدت لأبي عيينة المُهلَّبي - واسمه عبد الله بن محمد - يعاتب رجلاًمن قومه: أتيتُك زائراً لقضاء حقٍّ ... فحال السِّتْرُ دونك والحجاب ولستُ بساقطٍ في قدر قومٍ ... وإن كرهوا كما يقع الذبابُ ورائي مذهبٌ عن كلِّ ناءٍ ... بجانبه إذا عزَّ الذَّهابُ وأنشدني ابن أبي فنن: ما ضاقت الأرضُ على راغبِ ... يَّطلب الرزق ولا ذاهبِ بل ضاقت الأرض على صابرٍ ... أصبح يشكو جفوة الصَّاحبِ من شتم الحاجب في ذَنْبِهِ ... فإنّما يقصد للصَّاحبِ فارغبْ إلى الله وإحسانه ... لا تطلب الرزق من الطالبِ

قال المدائني: أتى عُويفُ القوافي باب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فحُجب أيّاماً، ثم استأذن له حُبيش صاحب إذن عمر، فلمّا قام بين يديه قال: أجبني أبا حفص، لقيت مُحمَّداً ... على حوْضه مستبشراً بدُعاكا فقال عمر: أقول لبيَّك وسعديك! فقال: وأنت امرؤٌ كلتا يديك طليقةٌ ... شمالُك خيرٌ من يمين سواكا علام حجابي، زادك الله رفعةً ... وفضلاً، وماذا للحجاب دعاكا فقال: ليس ذاك إلاَّ لخير! وأمر له بصلة. المدائني قال: أقام عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ، بباب معاوية حيناً لا يُؤذن له، ثم دخل فقال:

دخلت على معاوية بن حربٍ ... وكنت وقد يئست من الدخول رأيت الحظَّ يستر عيب قومٍ ... وأيهات الحظوظ من العقول قيل لحُبَّي المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم لا يجدي عليه. قيل لها: فما الذُّل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيِّء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشَّرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الرجال، تبقى للأعقاب في الأعقاب. وقيل لعُروة بن عديِّ بن حاتم وهو صبيٌّ، في وليمة كانت لهم: قفْ بالباب فاحجُبْ من لا تعرف وائذنْ لمن تعرف. فقال: لا يكون - والله - أوَّل شيءٍ استُكفيته منع الناس من الطَّعام. وأُنْشدت لأبي عُيينة المهلَّبيّ: بُلغةٌ تحجُب الفتى عن دُناةٍ ... وعتاب يخاف أو لا يخاف

هو خيرٌ من الرُّكوب إلى با ... ب حجابٍ عنوانه الانصراف بئس للدولة التي تُرفع السِّف ... لة فيها وتسقط الأشراف وأُنشدت لموسى بن جابرٍ الحنفي: لا أشتهي يا قوم إلاَّ مُكرها ... باب الأمير ولا دفاع الحاجبِ ومن الرِّجال أسنّةٌ مذروبة ... ومزنَّدون شهودهم كالغائبِ ومنهم أُسودٌ لا تُرام، ومنهم ... مما قمشْت وضمّ حبل الحاطبِ وأنشدني بعض أصحابنا: إني امرؤ لا أُرى بالباب أقرعُه ... إذا تنمَّر دوني حاجب الباب ولا ألوم امرأً في ودِّ شرفٍ ... ولا أُطالبُ ودَّ الكاره الآبي وأنشدني ابن أبي فنن: الموت أهون من طول الوقوف على ... بابٍ، عليّ لبوابٍ عليه يدُ

ما لي أقيمُ على ذلِّ الحجاب كأنْ ... قد ملَّني وطنٌ أو ضاق بي بلدُ وأنشدني الزبير بن بكّار لجعفر بن الزُّبير: إنَّ وقُفي من وراء البابْ ... يعدلُ عندي قلع بعض أنيابْ وأنشد لمحمود الورَّاق: شاد الملوكُ حصونهم وتحصَّنوا ... من كل طالب حاجةٍ أو راغبِ عالوا بأبواب الحديد لعزِّها ... وتنوَّقوا في قُبْح وجه الحاجب فإذا تلطَّف للدخول إليهم ... راجٍ تلقَّوْه بوعدٍ كاذبِ فاضرعْ إلى ملك الملوك ولا تكنْ ... بادي الضَّراعة طالباً من طالب وأنشدني أبو موسى المكفوف: لن تراني لك العيون ببابِ ... ليس مثلي يُطيق ذُلَّ الحجابِ يا أميراً على جريبٍ من الأر ... ضِ له تسعةٌ من الحجّابِ

قاعداً في الخرب تُحجبُ عنّا ... ما سمعنا إمارةً في خرابِ " الأبيات رواها ابن خلكان في ترجنته 229:2 مع خلاف في الرواية والترتيب. وأولها هنا هو آخرها عنده ". وأنشدني أبو قنْبر الكوفيُّ: ولست بمتّخذٍ صاحباً ... يُقيم على بابه حاجبا إذا جئتُه قيل لي نائمٌ ... وإن غبت ألفيتُه عاتبا ويلزم إخوانه حقَّه ... وليس يرى حقَّهمْ واجبا فلست بلاقيه حتَّى الممات ... إذا أنا لم ألقه راكبا وأنشدني أبو بكر محمد بن أحمد، من أهل رأس العَيْن لنفسه في بعض بني عمران بن محمدٍ الموصليّ: يا أبا الفوارس أنت أنت فتى النَّدى ... شهدتْ بذاك ولم تزلْ قحطانُ فلأيِّ شيءٍ دون بابك حاجبٌ ... من بُغضه يتخبَّطُ الشَّيطانُ فإذا رآني مال عنِّي مُعرضاً ... فكأنَّني من خوفه سرطانُ

من عاتب على حجابه والإذن لغيره قال الأشهب بن رُميلة: أبلغ أبا داود أنِّي ابنُ عمِّه ... وأنَّ البعيث من بني عمِّ سالم أتُولج باب الملك من ليس أهله ... وريشُ الذُّنابي تابعٌ للقوادم وقال عاصمٌ الزِّمانيُّ، من بني زمَّان: أبلغ أبا مسمعٍ عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوامِ أدخلت قبلي رجالاً لم يكن لهم ... في الحقِّ أن يلجوا الأبواب قُدامى فقد جعلت إذا ما حاجةٌ عرضَتْ ... بباب دارك أدلُوها بأقدامِ وقال هشام بن أبيض، من بني عبد شمس: وليس يزيدني حسبي هواناً ... عليَّ ولا تراني مستكينا فإنْ قدّمتمُ قبلي رجالاً ... أُراني فوقهم حسباً ودينا ألسنا عائدين إذا رجعنا ... إلى ما كان قدَّم أوّلونا فأرجع في أرومة عَبْشَميٍّ ... ترى لي المجد والحسب السَّمينا وقال دينار بنُ نُعيمٍ الكلبيّ: أبلغْ أمير المؤمنين ودونه ... فراسخ تطوي الطَّرف وهو حديد

بأنّي لدى عبد العزيز مدفَّعٌ ... يقدَّم قبلي راسبٌ وسعيدُ وإنّي لأدنى في القرابة منهما ... وأشرف إن كنت الشريف تُريدُ المدائني قال: أتى ابن فضالة بن عبد الله الغنويُّ باب قُتيبة بن مسلمٍ، فأساء إذنه فقال: كيف المُقام أبا حفصٍ بساحتكم ... وأنت تُكرمُ أصحابي وتجفوني أراهم حين أغشى باب حجرتكمْ ... تُدعوهم النَّقري دوني ويقصوني كم من أميرٍ كفاني الله سخْطته ... مذْ ذاك أوليته ما كان يوليني إني أبي أن أرضى ممنقصةٍ ... عمٌّ كريمٌ وخالٌ غير مأفونِ خالي كريمٌ وعمِّي غير مؤتشبٍ ... ضخم الحمالة أبَّاءٌ على الهونِ المدائني قال: كان مَسْلمة بن عبد الملك تزوّج ابنة زُفر بن الحارث الكلابيّ، وكان ببابه عاصم بن يزيد الهلاليّ، والهُذيل وكوثرٌ ابنا زفر، فكان يأذن لهما قبل عاصم، فقال: أمَسْلمُ قد منَّيتني ووعدتني ... مواعدَ صدقٍ إن رجعت مؤمَّرا أيُدعى هُذيلٌ ثمّ أُدعى وراءه ... فيا لك مَدْعي ما أذلَّ وأحقرا وكيف ولم يشفع لي اللَّيل كلَّه ... شفيعٌ وقد ألقى قناعاً ومئزرا فلست براضٍ عنك حتّى تحبَّني ... كحبِّك صهريك الهُذيل وكوثرا

وقال الأصحم، أحدُ بني سعد بن مالك بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، يذكر خالد بن عبد الله القسريَّ، وأبان بن الوليد البَجَليّ، وحجبه خالد: ومنزلةٍ ليست بدار تئيّةٍ ... أطال بها حبسي أبانٌ وخالدُه فإنْ أنا لم أنزلْ بلاداً هُما بها ... فلا ساغ لي من أعذب الماء باردُه إذا ما أتيتُ الباب صادفت عنده ... بجيلة، أمثال الكلاب، تُراصده عليهم ثياب الخزِّ تبكي كما بكت ... كراسيُّه، من لُؤمه، ووسائده ويدعون قُدامى ويجعل دوننا ... من السَّاج مسموراً تئطُّ حدائده المدائني قال: كان تميم بن راشدٍ مولى باهلة، حاجباً لقُتيبة بن مسلم بخراسان، فكان يأذن لسُويد بن هوبرٍ النَّهشليّ، ومُجفر بن جزيّ الكلابي، قبل الحُضين بن المنذر الرقاشي، فقال الحُضين: إنيّ لألقى من تميم وبابه ... عناءً ويدعو مُجفرا وابن هوبرا نزيعين من حيَّين شتَّى كأنما ... يرى بهما البوّاب كسرى وقيصرا

وقال عبيد الله بن الحُرّ الفاتك، لعبد الله بن الزُّبير، وشكا إليه مُصعباً وحجّابه: أبلغ أمير المؤمنين نصيحتي ... فلست على رأيٍ قبيحٍ أواربه أفي الحقِّ أن أُجفى ويجعل مصعب ... وزيريه منْ قد كنت فيه أحاربه وما لامرئٍ إلاّ الذي الله سائقٌ ... إليه وما قد خطَّ في الزُّبر كاتبه إذا ما أتيت الباب يُدخل مسلمٌ ... ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه لقد رابني من مُصعبٍ أنَّ مصعباً ... لدى كلِّ ذي غشٍّ لنا هو صاحبه وقال ابن نوفل لخالد بن عبد الله القسريّ، وحجبه: فلو كنتُ غوْثيّاً لأدنيت مجلسي ... إليك، أخا قسْرٍ، ولكنني فحلُ رأيتك تُدني ناشئاً ذا عجيزةٍ ... بمحجر عينيه وحاجبه كُحل فو الله ما أدري إذا ما خلوتُما ... وأُرْخيت الأستار أيُّكما الفحل

وقال عمرو بن الوليد، في عُقبة بن أبي مُعيط: أفي الحق أن نُدني إذا ما فزعتم ... ونقصي إذا ما تأمنون ونحجبُ ويجعل فوقي من يودُّ لو أنَّكم ... شهابٌ بكفِّيْ قابسٍ يتلهَّبُ فها أنتم داويتم الكلْم ظاهراً ... فمن لكلومٍ في الصُّدور تحوَّبُ فقلت وقد أغضبتموني بفعلكم ... وكنت امرأً ذا مرّةٍ حين أغضبُ أما لي في أعداد قومي راحةٌ ... ولا عند قومي إنْ تعتَّبتُ معتبُ المدائنيُّ قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن يستعمل مسمع بن مالك على سجستان، فولاَّه إياها، فأتاه الضَّحّاك بن هشام فلم يُنله خيراً وأقصاه، فقال: وما كنت يا بن كبشة أن أرى ... لبابك بوّاباً ولاستك منبرا

وما شجر الوادي دعوت ولا الحصى ... ولكن دعوت الحُرقتين وجحدرا أخذْنا بآفاق السماء فلم ندعْ ... لعينك في آفاقها الخُضرِ منظرا من مْدح برفع الحجاب قال أيمن بن خُريم في بشْر بن مروان: ولو شاء بشرٌ كان من دون بابه ... طماطم سودٌ أو صقالبةٌ حُمْرُ ولكنَّ بشراً أسهل الباب للتي ... يكون له من دونها الحمدُ والشُّكرُ بعيدُ مراد الطَّرف ما ردَّ طرفه ... حذار الغواشي بابُ دار ولا سترُ وله أيضاً في عبد العزيز: لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم منَنٌ ظاهره

ففبا بك ألين أبوابهم ... ودارُك مأهولةٌ عامره وكلبك أرأف بالمعتفين ... من الأمِّ بابنتها الزّائرة وكفُّك حين ترى السائلي ... ن أندى من اللَّيلة الماطرة فمنك العطاء ومنّا الثناءُ ... بكل مُحبَّرةٍ سائرة ولآخر أيضاً: ما لي أرى أبوابهم مهجورةً ... وكأنَّ بابك مجمع الأسواقِ إنّي رأيتك للمكارم عاشقاً ... والمكرمات قليلة العشَّاقِ وللتيميّ: يزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزِّحامْ ولأشجع بن عمرٍو السُّلميّ: على باب ابن منصورٍ ... علاماتٌ من البذْلِ جماعاتٌ وحسْبُ الب ... ب جوداً كثرة الأهلِ وأُنشدت لعمارة بن عقيل، في خالد بن يزيد: تأبى خلائق خالد وفعاله ... إلاَّ تجنُّب كلِّ أمرٍ عائبِ وإذا حضرْنا الباب عند غدائه ... أذن الغذاءُ برغم أنف الحاجبِ وأنشدتُ لبعضهم: أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغذَّى رُفعت سُتوره

ولثابت قُطنة، في يزيد بن المهلّب: أبا خالدٍ زدت الحياة محبّةً ... إلى الناس أنْ كنت الأمير المتوَّجا وحُقَّ لهم أن يرغبوا في حياتهم ... وبابك مفتوحٌ لمن خاف أو رجا تزيد الذي يرجو نداك تفضُّلا ... وتُؤمن ذا الإجرام إنْ كان مُحرجا من أُمِّل حجابُه ولم يُذمَّ عليه المدائني قال: حضر أبو سفيان بن حربٍ باب عثمان بن عفان رضي الله عنه، فحُجب عنه، فقال له رجلٌ يُغْريه به: حجبك أمير المؤمنين يا أبا سفيان؟ فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء أن يحجبني حجبني. وأنشدني الطائيُّ في إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: يا أيُّها الملك المأمول نائله ... وجوده لمُراعي جُوده كثبُ ليس الحجاب بمقُصٍ عنك لي أملاً ... إنَّ السماء تُرجَّى حين تحتجب

وله أيضاً في مالك بن طوق: قل لابن طوقٍ رحى سعدٍ، إذا خبطتْ ... حوادث الدهر أعلاها وأسفلها أصبحت حاتمها جوداً، وأحنفها ... حلماً، وكيِّسها علما ودغفلها ما لي أرى الحجرة الفيحاء مقفلةً ... عنِّي وقد طال ما استفتحت مقفلها كأنها جنّة الفردوس معرضةً ... وليس لي عملٌ زاكٍ فأدخلها ولأبي عبد الرحمن العطويّ في ابن المدبِّر: إذا أنت لم ترسل وجئتُ فلم أصلْ ... ملأت بعذرٍ منك سمع لبيبِ قصدتك مشتاقاً فلم أرَ حاجباً ... ولا ناظراً إلاَّ بعين غضوبِ كأني غريمٌ مقتضٍ أو كأنّني ... طُلوعُ رقيبٍ أو نُهوضُ حبيبِ فقمت وقد فكَّ الحجابُ عزيمتي ... على شكر بُسط الراحتين وهوبِ عليَّ له الإخلاص ما ردع الهوى ... أصالةُ رأيٍ أو وقارُ مَشيبِ وأنشدني الخثمعيّ: كيفما شئتَ فاحتجب يا أبا اللَّيْ ... ثِ ومن شئت فاتخِذْ يوّابا

أنت لو كنت دون أعراضِ قحطا ... نَ وأسبلْتَ دونها الأحسابا لرأيناك في مرايا أيادي ... كَ يقيناً ولو أطلت الحجابا وأنشدني البلاذُريّ في عُبيد الله بن يحيى بن خاقان: قالوا اصطبارُك للحجابِ وذُلِّه ... عارٌ عليك يد الزَّمان وعابُ فأجبتُهم ولكلِّ قولٍ صادقٍ ... أو كاذبٍ عند الكريم جوابُ إنيّ لأغتفرُ الحجاب لما جد ... ليست له مننٌ عليَّ رغابُ قد يرفع المرء اللئيمُ حجابه ... ضعةً، ودون العرف منه حجابُ والحرُّ مبتذل النَّوال وإن بدا ... من دونه سترٌ وأُغلق بابُ تم كتاب الحجاب، ولله الحمد والمنّة، وبيده الحول والقوّة، والل سبحانه الموفّق للصواب برحمته. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب " مفاخرة الغلمان والجواري " من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أيضاً، والله المستعان وعليه التُّكلان، إنّه سميعٌ مجيب الدعاء. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الرسالة الثالثة عشرة كتاب مفاخرة الجواري والغلمان

الرسالة الثالثة عشرة كتاب مُفاخرة الجواري والغلمان بسم الله الرحمن الرحيم بالله نستعين، وإياه نستهدي، وعليه نتوكل. إنّ لكل نوعٍ من العلم أهلاً يقصدونه ويُؤْثرونه، وأصناف العلم لا تُحصى، منها الجزلُ ومنها السَّخيف. وإذا كان موضع الحديث على أنّه مُضحكٌ ومُلهٍ، وداخلٌ في باب حدّ المزج، فأُبدلت السَّخافة بالجزالة انقلب عن جهته، وصار الحديث الذي وُضع على أن يَسُرَّ النفوس يكرُبُها ويغُمّها. ومن كان صاحب علم ممرَّناً موقَّحا، إلف تفكير وتنقيب ودراسة، وحلف تبيُّن، وكان ذلك عادةً له، لم يضره النَّظرُ في كلِّ فنٍّ من الجدّ والهزل؛ ليخرج بذلك من شكل إلى شكل. فإنَّ الأسماع قد تملُّ الأصوات المطربة، والأوتار الفصيحة، والأغانيَّ الحسنة، إذا طال ذلك عليها. وقد رُوي عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: " إنِّي لأستجمُّ نفسي ببعض الباطل مخافة أن أحمل عليها من الحقّ ما يُملُّها ". وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كلِّ شيءٍ أحسنه ".

ورُوي عن الشَّعبي أنه قال: " إنّ القلوب تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة ". وبعض من يُظهر النسك والتقشُّفإذاذُكر الحر والأير والنَّيك تقزَّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلٌ ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلاَّ بقدر هذا التصنُّع. ولو علم أنَّ عبد الله بن عباسٍ أنشد في المسجد الحرام وهو مُحرمٌ: وهُنَّ يمشين بنا هميسا ... إنْ تصدُقِ الطَّيْرُ ننكْ لميسا فقيل له: إنَّ هذا من الرَّفث! فقال: إنما الرَّفث ما كان عند النساء. وقول عليٍّ رضوان الله عليه ودخل على بعض أهل البصرة، ولم يكن في حسبه بذاك، فقال: من في هذه البيوت؟ فقال: عقائل من عقائل العرب. فقال: " من يَطُلْ أيرُ أبيه ينتطْق به ". فعلى عليٍّ في التَّنزُّه يُعَوَّل.

وقول أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه لبُديل بن ورقاء يوم الحُديبية، وقد تهدَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عضضت ببظْر اللات، أنحنُ نخذُله؟! ". وقول حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه: " وأنت يا ابن مقطِّعة البُظور ممن يكثِّر علينا! ". وحديثٌ مرفوع: " من عذيري من ابن أمِّ سباع مقطَّعة البُظور ". ولو تتبَّعت هذا وشبهه وجدته كثيرا. وإنما وُُضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألاّ يُلفظ بها ما كان لأوّلِ كونها معنىً، ولكان في التَّحريم والصَّون للُغة العرب أن تُرفع هذه الأسماء والألفاظ منها. وقد أصاب كلَّ الصَّواب من قال: " لكلِّ مقامٍ مقال ". ولو كان ممّن يتصوَّف ويتقشَّف، علم قول امرأة رفاعة القّرظيّ تَجْبَهه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير محتشمة: إنّي تزوّجت عبد الرحمن

بن الزبير، وإنّما معه مثل هُدبة الثَّواب، وكنت عند رفاعة فطلَّقني - ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على التبسُّم حتى قضتْ كلامها - فقال: " تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتَّى تذوقي من عُسيلته ويذوق من عُسيلتك ". ورواه ابن المبارك عن معمر عن الزُّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها لعلم أنّه على سبيل التَّصنُّع والرِّياء. ولو سمعوا حديث ابن حازمٍ حين زعم أنَّه يُقيم ذكره ويصعد السُّلَّم وامرأته متعلقة بذكره حتَّى يصعد. وحديث ابن أخي أبي الزِّناد إذْ يقول لعمِّه: أنْخَرُ عند الجماع؟ قال: يا بُنيَّ إذا خلوت فاصنع ما أحببت. قال: يا عمِّ، أتنخرُ أنت؟ قال: يا بنيّ، لو رأيت عمَّك يجامع لظننت أنّه لا يؤمن بالله العظيم!.

وهذان من ألفاظ المُجان. ورُوي عن بعض الصَّالحين من التابعين رحمه الله، أنه كان يقول في دعائه: اللهمَّ قوِّ ذكري على نكاح ما أحللت لي. ونحن لم نقصد في ذكرنا هذه الأخبار الردَّ على من أنكر هذهذ الأمور، ولكنَّا لما ذكرنا اختصام الشِّتاء والصيف، واحتجاج أحدهما على صاحبه، واحتجاج صاحب المعز والضَّأن بمثل ذلك، أحببنا أن نذكر ما جرى بين اللاَّطة والزُّناة، وذكرنا ما نقل حُمَّال الآثار وروتْه الرُّواة، من الأشعار والأمثال، وإن كان في بعض البطالات، فأردنا أن نقدِّم الحُجَّة لمذهبنا في صدر كتابنا هذا. ونعوذ بالله أن نقول ما يُوتغ ويُردي، وإليه نرغب في التأييد والعصمة، ونسأله السلامة في الدِّين والدُّنيا برحمته. قال (صاحب الغلمان) : إن من فضل الغلام على الجارية أن الجارية إذا وُصفت بكمال الحسن قيل: كأنَّها غلام، ووصيفةٌ غلامية. قال الشاعر يصف جارية: لها قدُّ الغلام وعارضاه ... وتفتير المبتَّلة اللَّعوبِ

وقال: فطِبْ لحديثٍ من نديم موافقٍ ... وساقيةٍ بَيْنَ المُراهقِ والحُلْمِ إذا هي قامت والسُّداسيَّ طالها ... وبين النَّحيف الجسم والحسن الجسم وقال والبة بن الحُباب: وميراثيَّة تمشي اختيالاً ... من التكريه قاتلة الكلام لها زيُّ الغلام ولم أقسْها ... إليه ولم أُقصِّر بالغلامِ وقال عُكاشة: مطمومة الشَّعْر في قُمصٍ مزرَّرةٍ ... في زيّ ذي ذكرٍ سيماهُ سيماها وأكثر من قول الشاعر قول الله عزّ وجلّ: " يطوف عليهمْ غلمانٌ لهمْ كأنهم لؤلؤ مكنونٌ " وقال تبارك وتعالى: " يطوف عليهم ولْدانٌٌ مُخلَّدون. بأكوابٍ وأباريق ". فوصفهم في غير موضعٍ من كتابه، وشوَّق إليهم أوْلياءه. قال (صاحب الجواري) : قد ذكر الله جلَّ اسمه الحور العين أكثر مما ذكر الولدان، فما حجَّتك في هذا إلا كحجَّتنا عليك.

ومما صان الله به النِّساء أنَّه جعل في جميع الأحكام شاهدين: منها الإشراك بالله، وقتل النَّفْس التي حرم الله تعالى؛ وجعل الشهادة على المرأة إذا رُميت بالزِّنى أربعةً مجتمعين غير مفترقين في موضعٍ، يشهدون أنَّهم رأوه مثل الميل في المُكحُلة. وهذا شيءٌ عسير؛ لما إراد الله من إغماض هذا الحد إذ جعل فيه الشَّدخ بالحجارة. وإنما خلق الله الرِّجال بالنساء. وريح الجارية أطيب، وثيابها أعطر، ومشيتها أحسن، ونغْمتها أرق، والقلوب إليها أمْيل. ومتى أردتها من قُدَّامٍ أو خَلْفٍ من حيث يحسن ويحلّ وجدت ذلك كما قال الشاعر: وصيفةٌ كالغلامِ تصلح لل ... أمرين كالغُصن في تثنِّيها أكملها اللهُ ثم قال لها ... لما استتمَّت في حُسنها: إيها قال: ونظر بعض الحاجِّ إلى جاريةٍ كأنها دمية في محراب، قد أبْدت عن ذراعٍ كأنه جُمارة، وهي تكلَّمُ بالرَّفث، فقال: يا هذه، تكلَّمين بمثل هذا وأنت حاجَّة! قالت: لست حاجّة، وإنما يحجُّ الجمل، ألست تراني

جالسةً وهو يمشي! قال: ويحك، لم أر مثلك فمن أنت؟ قالت: أنا من اللواتي وصفهنَّ الشَّاعر فقال: ودَقّت وجَلَّت واسبكرّت وأُكملتْ ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنَّتِ قال (صاحب الغلمان) : إنّ أحداً لا يدخل الجنّة إلا أمرد، كما جاء في الحديث: " إن أهل الجنّة يدخلونها جُرْداً مكحَّلين ". والنِّساء إلى المُرْدِ أمْيل، وله أشهى، كما قال الأعشى: وأرى الغواني لا يواصلن امرأً ... فقد الشَّباب وقد يصلْن الأمردا وقال امرؤ القيس: فيا رُبَّ يومٍ قد أروحُ مرجَّلاً ... حبيباً إلى البيض الأوانسِ أملسا أراهن لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا

وقال عَلْقمة بن عبدة: فإنْ تسألوني بالنِّساء فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النِّساء طبيبُ إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ يُردْن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخُ الشَّباب عندهنَّ عجيبُ قال (صاحب الجواري) : فإن الحديث قد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " حُبِّبت إليَّ النِّساء والطِّيب، وجعل قُرَّة عيني في الصلاة ". ولم يأت للغلمان مثل هذه الفضيلة. وقد فُتن بالنساء الأنبياء عليهم السلام، منهم داود، ويُوسف، عليهما السلام. قال (صاحب الغلمان) : لو لم يكن من بليّة النساء إلاّ أنّ الزِّنى لا يكون إلاّ بهنّ، وقد جاء في ذلك من التغليظ ما لم يأتِ في غيره في الكتاب نصّاً، وفي الروايات الصحيحة. قال الله تبارك وتعالى: " ولا تقْربوا الزِّنى إنَّه كان فاحشةً وساء سبيلاً "، وقال: " ولا يزْنون ومنْ يفعلْ ذلك

يًلْقَ أثاماً. يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخْلُدْ فيه مُهاناً "، وقال: " الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ ". وقد جعل بينهما إذا لم يكن شهودٌ التلاعن والفرقة في عاجل الدُّنيا، إلى ما أعدَّ للكاذب منهما من اللَّعن والغضب في الآخرة. قال (صاحب الجواري) : ما جعل الله من الحدّ على الزَّاني إلاّ ما جعل على اللَّوطيّ مثله. وقد رُوي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه؟، أنّه أُتي بلُطيٍّ، فأُصعد المئذنة ثم رُمي منكِّساً على رأسه، وقال: " هكذا يُرمى به في نار جهنَّم ". وحُدِّث عن أبي بكر، رضي الله عنه، أنّه أُتي بلوطيٍّ فعرقب عليه حائطاً. وحديث أبي بكر أيضاً رضي الله عنه، أنَّ خالد بن الوليد كتب إليه في قومٍ لاطُوا فأمر بإحراقهم. وأحرقهم هشام بن عبد الملك، وأحرقهم خالد بن عبد الله بأمر هشام. وفي الحديث مجاهد أنَّ الذي يعمل عمل قوم لُوطٍ لو اغتسل بكلِّ قطرةٍ من السَّماء وكلِّ قطرة في الأرض لم يزلْ نجساً.

وحديث الزُّهريّ: " اللُّوطيّ يُرجم، أُحصن أو لم يُحصنْ؛ سُنّةٌ ماضيةٌ ". ورُوي عن الحكم بن عُتَيْبَة أن عليّاً رحمه الله رجم لوطيّاً وقال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذَّكرين يلعب أحدهما بالآخر ". وحديث أنسٍ قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤنَّثين من الرجال، والمذكَّرات من النساء ". وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنَّثاً من المدينة يقال له " هيتٌ " وسمعه يقول لأمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا فتحتم الطَّائف فعليك بادية بنت غيْلان، فإنها هيفاءُ شموع، إذا

قامت تثنَّت، وإذا تكلَّمت تغنَّتْ، تُقبل بأربعٍ وتُدبرُ بثمانٍ، وبين رجليها كالإناء المكفوء، فزوِّجيها عُمر ابنك ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تغلغلت في النظر يا عدوَّ الله، وما ظننتك من ذوي الإربة! ". فنفاه عن المدينة. قال (صاحب الغلمان) : من عيوب المرأة أنّ الرجل إذا صاحبها شيَّبتْ رأسه، وسهَّكت ريحه، وسوَّدت لونه، وكثر بوله. وهنَّ مصايد إبليس وحبائل الشيطان، يُتعبن الغنيَّ، ويكلِّفن الفقير ما لا يجد. وكم من رجلٍ تاجرٍ مستورٍ قد فلَّسته امرأته حتَّى هام على وجهه، أو جلس في بيته، أو أقامته من سوقه ومعاشه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النِّساء ". قال (صاحب الجواري) : قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تزوَّجوا فإنِّي مُكاثرٌ بكم الأمم ". وجاء عنه: " إذا قضيتُم غزوكم فالكيْس الكيْس ". يعني النكاح.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مسكينٌ رجلٌ لا زوجة له. مسكينةٌ مسكينةٌ امرأةٌ لا بعل لها ". وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: " تزوّجوا والتمسوا الولد؛ فإنَّهم ثمراتُ القلوب. وإيّاكم والعُجُز العُقر ". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل عصره نساء، وكذلك كانت الأنبياء عليهم السلام قبله. وقد أنبأك الله عزّ وجلّ بخير داود عليه السلام في القرآن، وما روي أنه كان لسليمان عليه السلام. وقد تزوج ابن مسعودٍ في مرضه الذي مات فيه. وقال مُعاذ: زوِّجوني لا ألقى الله تعالى وأنا عزب. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأُجْهد نفسي في النِّكاح حتّى يُخرج الله منيّ نسمةً تسبِّحه. وروي أنه قال: عليكم بالأبكار الشَّواب؛ فإنهنَّ أطيب أفواهاً، وأنتق أرحاماً. والحديث في هذا أكثر من أن نأتي عليه.

قال (صاحب الغلمان) : إن من عيوب الجواري أنَّ الرجل إذا اشترى الوصيفة إلى أن يستبرئها محرَّمٌ عليه أن يستمتع بشيءٍ منها قبل ذلك والوصيف لا يحتاج إلى ذلك. وقد قال الشاعر: فديتك إنمّا اخترناك عَمْداً ... لأنك لا تحيض ولا تبيض وقد جاء في الحديث أنَّ الزِّنى فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرِّزق من السماء. وأمّا اللواتي في الآخرة فالحساب، والعذاب، ودخول النار. وروي عن مجاهدٍ، قال: إنَّ لأهل النار صرخةً من ريح الزُّناة. وقالوا: إن أهل النار ليتأذَّون بريح الزُّناة. قال (صاحب الجواري) : لم نسمع بعاشقٍ قتله حبُّ غلام. ونحن نعدُّ من الشعراء خاصةً الإسلاميِّين جماعةً، منهم جميل بن مَعمَر قتله حبُّ بُثينة، وكثيِّر قتله حبُّ عزّة، وعروة قتله حبُّ عفراء، ومجنون بني عامر هيَّمته ليلى، وقيس بن ذريح قتلتْه لُبْنى، وعبد الله بن عجلان

قتلته هند، والغمر بن ضرار قتلتْه جُمْل. هؤلاء من أحصينا، ومن لم نذكر أكثر. قال (صاحب الغلمان) : لو نظر كثيِّر وجميلٌ وعروة، ومن سميِّت من نظرائهم، إلى بعض خدم أهل عصرنا ممن قد اشتُرى بالمال العظيم فراهة وشطاطاً ونقاء لون، وحُسن اعتدالٍ، وجودة قدٍّ وقوام، لنبذوا بُثينة وعزّة وعفْراء من حالقٍ، وتركوهُنَّ بمزجر الكلاب. ولكنك احتججت علينا بأعرابٍ أجلافٍ جُفاة، غُذُوا بالبؤس والشَّقاء ونشؤوا فيه، لا يعرفون من رفاعة العيش ولذَّات الدنيا شيئاً، إنّما يسكنون القفار، وينفرون من الناس كنفور الوحش، ويقتاتون القنافذ والضِّباب، وينقُفُون الحنظل، وإذا بلغ أحدهم جُهده بكى على الدِّمنة ونعت المرأة، ويشبّهها بالبقرة والظَّبية، والمرأة أحسن منهما. نعم حتَّى يشبِّهها بالحيّة، ويسِّميها شوهاء وجرباء، مخافة العين عليها بزعمه. فأمّا الأدباء والظرفاء فقد قالوا في الغلمان فأحسنوا، ووصفوهم فأجادوا، وقدّموهم على الجواري، في الجدّ منهم والهزل.

وقال الشاعر يصف الغلام: شبيهٌ بالقضيب وبالكثيب ... غريبُ الحسن في قدٍّ غريبِ براه الله بدراً فوق غصنٍ ... ونيط بحقوه دعص الكثيبِ أغنُّ تولَّدُ الشَّهوات منه ... فما تعدوه أهواء القلوبِ وما اكتحلت به عينٌ ففاتت ... مسلَّمة الضَّمير من الذُّنوبِ شغلت به الهوى ونزعْت عنه ... ولم أدنس به دنس المُريبِ وقال آخر: كلفتُ بظبيٍ له ... سوالفُ أُدمانْه قضيبٌ على رَمْلةٍ ... على شُعبتيْ بانه له لحظ وحشيّةٍ ... وألفاظُ إنسانه وقال أبو نواس: سَقْيا لغير العلياء والسَّند ... وغير أطلال ميَّ بالجردِ ويا صبيب السَّحاب إن كنت قد ... جُدت اللِّوى مرةً فلا تعدِ لا تسقينْ بلدةً إذا عُدَّت ال ... بلدان كانت زيادة الكبدِ

إنْ أتحرزْ من الغراب بها ... يكن مفرِّى منه إلى الصُّردِ بحيثث لا تجلب الفجاجُ إلى ... أذنيك إلاَّ تصايح النَّقدِ أحسن عندي من انكبابك بال ... فهْر مُلحّاً به على وتدِ وقوفُ ريحانةٍ على أُذْنٍ ... وسير كأس إلى فمٍ بيدِ يسقيكها من بني العباد رشاً ... منتسبٌ عيدُه إلى الأحدِ إذا بنى الماء فوقها حبباً ... صلَّب فوق الجبين بالزَّبدِ أشرب من كفِّه الشمول ومن ... فيه رُضاباً يجري على بردِ فذاك خيرٌ من البكاء على ال ... رَّبع وأنمى في الرُّوح والجسدِ قال (صاحب الجواري) : فقد قال أبو نواسٍ الحكميُّ شاعركم أيضاً: لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ ... واشربْ على الورد من حمراء كالوردِ

كأساً إذا انحدرتْ في حلْقِِ شاربها ... رأيت حمرتها في العين والخدِّ فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ ... من كفِّ لؤلؤةٍ ممشوقة القدِّ تسقيك من عينها سحراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرين من بُدِّ لي نشوتان وللنَّدمان واحدةٌ ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي وقال أيضاً: دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانتْ هي الداءُ صفراءُ لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسَّها حجرٌ مسَّته سرَّاءُ من كفِّ ذات حرٍ في ذي ذكر ... لها مُحبّان: لوطيٌّ وزنّاءُ قامت بإبريقها واللَّيل معتكرٌ ... فظلَّ من وجهها في البيت لألاءُ

فأرسلتْ من فم الإبريق صافيةً ... كأنَّما أخذها بالعين إغفاءُ في فتيةٍ زُهُرٍ ذلَّ الزمان لهم ... فما يصيبهم إلاَّ بما شاءوا لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تكون بها هندٌ وأسماءُ قال صاحب الغلمان.....وقال النظام: بان بك الشَّكل والنَّظيرُ ... وجلَّ عن وصفك الضَّميرُ فليس يُخطيك في امتحانٍ ... صغيرُ أمرٍ ولا كبيرُ خُلقت من مثل لا عيانٍ ... جسماً على أنّه منيرُ فأنت عند المجسِّ نارٌ ... وأنت عند اللِّحاظ نورُ وقال أبو هشامٍ الخرَّاز: يا من تعدَّى العباد من شبهه ... لمَّا قصُرن الصِّفات عن كُنُههِ ويا غزالاً يسبي بلحظته ... مكتحلاً راح أو على مرههِ يجعل قتل النُّفوس نزهته ... يوشك يُفني النُّفوس في نُزههِ لبَّيك داعٍ دعا فقلتُ له ... والقلب في كربه وفي ولههِ

هذا فؤادي أتاك مبتدعاً ... طوعاً ولم يأتكمْ على كُرُههِ يشرهُ منكم إلى مواصلةٍ ... يا بُوس قلبٍ يذوبُ من شرههِ فالآن قل للخيال يطرقُ منْ ... أعيا عليه وصالُ منتبههِ وقال الحكميّ: رسْمُ الكرى بين الجفون مُحيلُ ... عفَّى عليه بُكاً عليك طويلُ يا ناظراً ما أقلعتْ نظراته ... حتّى تشحَّط بينهنَّ قتيلُ أحللت من قلبي هواك محلَّة ... ما حلَّها المشروب والمأكولُ وقال أيضاً: لي حبيبٌ كلَّما زاد في ... جفوته لي كان أشْهى هو وجهٌ كلُّه في كلِّ ما ... نظرتْ عيناك منه كان وجها وكذا الدُّرّة لا يدري الفتى ... أيُّها من أيِّها في العين أبهى وقال أيضاً: أفنيت فيك معاني الشكوى ... وصفاتِ ما ألقى من البلوى قلَّبتُ آفاق الكلام فما ... أبصرتني أغفلت عن معنى وأعُدُّ ما لا أشتكي غبناً ... فأعود فيه مرّةً أخرى

فلو أنَّ ما أشكو إلى بشرٍ ... لأراحني ظنِّي من الشَّكوى لكنّني أشكو إلى حجرٍ ... تنبو المعاول عنه بل أقْسى فهذا وشبهه من الشعر كثير. وإذا جئت إلى أصحاب الهزْل كقول بعضهم ممَّن ذمَّ النساء: هذه الخمر فاشرب ... واسقني يا ابن مصعبِ اسقنيها وغنِّني: ... من لقبٍ معذَّبِ طمعتْ فيّ طَفْلةٌ ... ربَّ راج مجنَّبِ قلت لمّا رأيتها ... أسفرتْ لي: تنقَّبي لست والله مُدخلاً ... إصبعي جُحْرَ عقربِ وقال آخر: لا أبتغي بالمُرد مطمومةً ... ولا أبيع الظّبي بالأرنبِ لا أُدخل الجُحْرَ يدي طائعاً ... أخشى من الحيَّة واالعقربِ وقال آخر: ليس لي في الحرِّ حاجة ... نيكه عندي سماجة

ما ينيك الرَّ إلاّ ... كلُّ ذي فقرٍ وحاجة فإذا نكتم فنيكوا ... أمرداً في لون عاجة وقال يوسف لقْوه: ما يساوي نيكُ أنثى ... عند أيري بعرتينِ إنّما نيك الجواري ... حلُّ ديْنٍ بعد دينِ ليس للأير حياةٌ ... غير ريح الخُصيتينِ وهو الذي يقول: وعلى اللُّواط فلا تلُمنْ كاتباً ... إنّ اللِّواطِ سجيَّةٌ في الكاتبِ ولقد يتُوب من المحارم كلِّها، ... وعن الخُصى ما عاش ليس بتائبِ وقال الحكميّ: للطمةٌ يلطمني أمردٌ ... تأخذ منّي العين والفكَّا أطيب من تُفاحةٍ في يدي ... معضوضةٍ قد ملئتْ مسْكا وقال آخر: إنْ تزن محصنةٌ تُرجم علانيةً ... وإن يلُطْ عزبٌ لا يرجم العزبُ

وقال آخر: أيسر ما فيه من مفاضلةٍ ... أمْنُكَ من طمثه ومن حبلهِ وهذا قليلٌ من كثير ما قالوا، فقد قالت الشعراء في الغلام في الجدّ والهزل فأحسنوا، كما قالت الشعراء في الغزل والنَّسيب، ولا يضير المحسن منهم أقديماً كان أو محدثاً. قال (صاحب الجواري) : أمّا أنت فحيث اجتهدت واحتفلت جئت بالحكميّ، والرَّقاشيّ، ووالبة، ونظرائهم من الفُسَّاق والمرغوب عن مذهبهم، الذين نبغوا في آخر الزمان، سُقّاطٌ عند أهل المروءات، أوضاعٌ عند أهل الفضل؛ لأنّهم وإن أسهبوا في وصف الغلمان، فإنما يمدحون اللِّواط ويشيدون بذكره. وقد علمت ما قال الله تبارك وتعالى في قوم لوطٍ، وما عجَّل لهم من الخزي والقذف بالحجارة، إلى ما أعدَّ لهم من العذاب الأليم. فمن أسوأُ حالاً ممن مدح ما ذمَّه الله، وحسَّن ما قبَّح! وأين قول من سمَّيت من قول الأوائل في الغزل والنَّسيب والنساء! وهل كان البكاء والتشبيب والعويل إلا فيهنَّ وعليهنّ، ومن أجلهنّ! وهل ذمَّت العرب الشَّيب مع الخصال المحمودة التي فيه

إلا لكراهتهنَّ له. قال شاعر الشعراء من الأوّلين والآخرين، امرؤ القيس: أراهُنَّ لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا وقال علقمة بن عبدة الفحل، وكان نظير امرؤ القيس في عصره: إذا شاب رأسُ المرء أو قلَّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ يُردْن ثراء المال حيث علمْنه ... وشرخ الشَّباب عندهُنّ عجيبُ وما قالت القدماء في النسيب أكثر من أن نأتي عليه. وأين قول من ذكرت في صفات الغلمان من قول امرؤ القيس في التشبيب حيث يقول: وما ذرفتْ عيناك إلاّ لتضربي ... بسهميك في أعشارِ قلبٍ مقتَّلِ أغرَّك منّي أنَّ حُبَّكِ قاتلي ... وأنَّك مهما تأمري القلب يفعلِ وقول الأعشى: لو أسندتْ ميتاً إلى نحرها ... عاش ولم يُنقل إلى قابرِ

حتّى يقولُ الناس مما رأوا ... يا عجبّاً للقاتل الناشرِ وقال جرير: إنّ الذين غدوْا بلبِّك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزالُ معينا غيَّضْنَ من عبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا وقال جميل: خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتله قبلي وقال القُطاميّ: يقتُلننا بحديثٍ ليس يعلمُه ... من يتَّقين ولا مكنونه بادي فهنّ ينبذن من قولٍ يُصبْن به ... مواقع الماء من ذي الغُلَّة الصادي فهؤلاء القدماء في الجاهلية والإسلام، فأين قول من احتججت به من قولهم!. ولا نعلم أحداً قال في الغلام ما قال الحكميّ وهو من المحدثين. وأين يقع قوله من قول الأوائل الذين شبَّبوا بالنساء! فدعْ عنك الرَّقاشيّ ووالبة والخرَّاز ومن أشبههم؛ فليست لك علينا حجّة في الشعراء.

وأُخرى: ليس من قال الشعر بقريحته وطبعه واستغنى بنفسه، كمن احتاج إلى غيره يطردُ شعره، ويحتذي مثاله، ولا يبلُغ معشاره. قال (صاحب الغلمان) : ظلمت في المناظرة ولم تُنصف في الحجَّة؛ لأن لم ندفع فضل الأوائل من الشعراء، إنّما قلنا إنهم كانوا أعراباً أجلافاً جُفاةً، لا يعرفون رقيق العيش ولا لذَّات الدنيا؛ لأنَّ أحدهم إذا اجتهد عند نفسه شبَّه المرأة بالبقرة، والظبية، والحيّة. فإنْ وصفها بالاعتدال في الخلقة شبّهها بالقضيب، وشبَّه ساقها بالبَرْدية؛ لأنّهم مع الوحوش والأحناش نشؤوا، فلا يعرفون غيرها. وقد نعلم أنّ الجارية الفائقة الحُسن أحسنُ من البقرة، وأحسنُ من الظَّبية، وأحسن من كلِّ شيءٍ شُبِّهَتْ به. وكذلك قولهم: كأنَّها القمر؛ وكأنّها الشمس؛ فالشَّمس وإن كانت حسنةً فإنما هي شيء واحد، وفي وجه الإنسان الجميل وفي خلقه ضروبٌ من الحُسن الغريب، والتركيب العجيب. ومن يشكُّ أنّ عين الإنسان أحسن من عين الظَّبي والبقرة، وأن الأمر بينهما متفاوت!. وهذه أشياءُ يشترك فيها الغلمان والجواري، والحجَّة عليك مثلُ الحجّة لك في هذه الصفات. وأمّا احتجاجُك علينا بالقرآن والآثار والفقهاء، فقد قرأنا مثل ما قرأت، وسمعْنا من الآثار مثل ما سمعت. فإن كنت إلى سرور الدُّنيا تذهب، ولذّاتها تريد، فالقول قولنا. كما قال الشاعر:

ما العيش إلاَّ في جنون الصِّبا ... فإنْ تولَّى فزمانُ المُدامْ كأساً إذا ما الشيخُ والى بها ... خمساً تردَّى برداء الغلامْ وإن كنت إلى التقشُّف والتزهيد في اللَّذَّات تعمد فترك جميع الشَّهوات من النساء وغيرهنّ أفضل. فإنْ أنصفت فأْتنا بمثل حجّتنا. فأمّا أن تتلو علينا القرآن وتأتينا بأحاديث ألَّفتها فهذا منك انقطاع. ومثلنا ومثلك في ذلك مثل بصريٍّ وكوفيٍّ تفاخرا بعدد أشراف أهل البصرة وأشراف أهل الكوفة، فقال البصريّ للكوفيّ: هات في أربع قبائل الكوفة مثل أربعة رجالٍ بالبصرة في أربع قبائل: في تميم الكوفة مثل الأحنف، وفي بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع، وفي قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، وفي أزد الكوفة مثل المهلب. فقال الكوفيّ: مخنف بن سُليم من أزد السَّراة، وهم أشرف من أزد عُمان. فقال البصريّ: إنا لم نكن في شرف القبائل وفرق ما بينهما، فإنما ذكرنا المهلب بنفسه، وما علمت أن أحداً يبلغ من جهله أن يفخر بمخنف بن سليم فيفضّله على المهلب. وأخْمل رجل من ولد المهلّب أشهر في الولايات وفي الفرسان وفي الناس من مخنف. والمهلّب رجلٌ ليس له بالعراق نظيرٌ يقاومه، ومناقبه وأيّامه وفتُوحُه أكثر وأشهر من أن يجوز لنا أن نجعله إزاء مخْنف. وما زالوا يقولون: " بصرة المهلّب ". ولو لم يكن للمهلّب إلاَّ أنه

ولد يزيد بن المهلّب كان كافيا. ونحن إذا قلنا: ليس في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، قال قائل: فزارة أشرف من باهلة. قلنا: ليس هذه معارضة؛ فإنّما المعارضة أن تذكر أسماء بن خارجة ثم تقول ونقول، فنذكر فتوح قتيبة العظام، والشَّهامة والنفس الأبية، والشَّجاعة والحزم والرأي، والوفاء، وشرف الولاية، ونذكر سُودد أسماء، وجوده ونواله. فأمّا أن نتخطّى أنفسهما إلى قبائلهما كما تخطَّيت بدن المهلَّب وبدن مخنف إلى أزْدِ عمان وأزدِ السَّراة، فهذا ليس من معارضة العلماء. وكذلك إذا ذكرنا عُبّاد البصرة وزُهّادها ونُسَّاكها فقلنا: لنا مثل عامر بن عبد قيس، وهرم بن حيَّان، وصلة بن أشْيم. قلت: فعُبَّاد

الكوفة: أُويسٌ القرنيّ، والرَّبيع بن خُثيم، والأسود بن يزيد النَّخعي. وهذا جواب. فأمّا أن تذكر طيب الدُّنيا والتمتُّع من لذّاتها وصفات محاسنها، وتذكر ظرفاءها وأربابها، وتجيئنا بأحاديث الزهّاد والفقهاء، فقد انقطع الحجاج بيننا وبينك. وقد قلنا في صدر كتابنا: إن الكلام إذا وُضع على المزْح والهزل، ثم أخرجته عن ذلك إلى غيره من الجدّ، تغيّر معناه وبطل. وقد رُوي أنَّ معاوية سأل عمرو بن العاص يوماً - وعنده شبابٌ من قريش - فقال له: يا أبا عبد الله، ما اللذّة؟ فقال: مُر شباب قريشٍ فليقوموا. فلما قاموا قال: " إسقاط المروءة ".

قال الشاعر في مثل ذلك: من راقب الناس مات غمّاً ... وفاز باللّذةِ الجسور وقال الحكميّ: تجاسرت فكاشفةُ ... ك لمّا غُلب الصَّبرُ وما أحسن في مثل ... ك أن ينهْتك السِّتْرُ قال (صاحب الجواري) : فنحن نترك ما أنكرت علينا ونقول: لو لم يكن حلال ولا حرام، ولا ثواب ولا عقاب، لكان الذي يُحصِّله المعقول ويدركه الحسُّ والوجدان، دالاً على أنَّ الاستمتاع بالجارية أكثر وأطول مدّة؛ لأنه أقل ما يكون التمتُّع بها أربعون عاماً، وليس تجد في الغلام معنىً إلاَّ وجدته في الجارية وأضعافه. فإن أردت التفخيذ فأردافٌ وثيرة، وأعجاز بارزة لا تجدها عند الغلام. وإن أردت العناق فالثُّديُّ النواهد، وذلك معدومٌ في الغلام. وإن أردت طيب المأتى فناهيك، ولا تجد ذلك عند الغلام. فإن أتوه في محاشِّه حدث هناك من الطَّفاسة والقذر ما يكدِّر كلَّ عيش، وينغص كلَّ لذّة.

وفي الجارية من نعمة البشرة ولدونة المفاصل، ولطافة الكفَّين والقدمين، ولين الأعطاف، والتثنِّي وقلّة الحشن وطيب العرق ما ليس للغلام، مع خصالٍ لا تحصى، كما قال الشاعر: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... يصف جودة القدّ وحُسن الخرط، ويفرق بين المجدولة والسمينة. وقولهم " مجدولة " يريدون جودة العصب وقلّة الاسترخاء، ولذلك قالوا: خُمصانة وسيفانة، وكأنها جانٌّ، وكأنَّها جدْل عنان، وكأنَّها قضيب خيزران. والتثني في مشية الجارية أحسن ما فيها، وذلك في الغلام عيبٌ؛ لأنه بنسب إلى التخنيث والتأنيث وقد وصفت الشعراء المجدولة في أشعارها، فقال بعضهم: لها قسمةٌ من خوط بانٍ ومن نقاً ... ومن رشأ الأقواز جيدٌ ومَذْرِفُ

وقال آخر: مجدولة الأعلى كثيبٌ نصفها ... إذا مشت أقعدها ما خلفها وقال آخر: ومجدولةٍ جدل العنان إذا مشتْ ... ينوء بخصريها ثقالُ الرَّوادف وقال الأحوص: من المدمجات اللحم جَدْلاً كأنّها ... عنان صناعٍ أنعمت أن تخوَّدا وقالوا في ذلك أكثر من ان نأتي عليه. والغلام أكثر ما تبقي بهجته ونقاء خدّيه عشرة أعوام، إلى أن تتَّصل لحيته ويخرج من حدّ المرودة، ثم هو وقاخٌ طوراً ينتف لحيته، وتارة يهْلُبُها ليستدعي شهوة الرِّجال. وقد أغنى الله الجارية عن ذلك، لما وهب لها من الجمال الفائق، والحسن الرائق. فإن قلت: إنّ من النساء من يتحسَّن ويستر عيبه بخضاب الشعر وغيره، كما قال الشاعر: عجوزٌ ترجَّى أن تكون فتيَّةً ... وقد لحب الجنبان واحدوْدبَ الظُّهرُ

تدسُّ إلى العطّار ميرة أهلها ... ولن يصلح العطّارُ ما أفسد الدَّهرُ قلنا: قد يفعل ذلك بعض النساء إذا شُيِّبتْ وليس كالغلام، لعموم هَلْب اللِّحى في الغلمان. وذكرت الخصْيان وحُسن قدودهم، ونعمة أبشارهم، والتلذُّذ بهم، وأنَّ ذلك شيءٌ لا تعرفه الأوائل، فألجأْتنا إلى نصف ما في الخصيان وإن لم يكن لذلك معنىً في كتابنا، إذ كنّا إنمّا نقول في الجواري والغلمان. والخصيُّ - رحمك الله - في الجملة ممثَّل به، ليس برجل ولا امرأة، وأخلاقه مُقسَّمة بين أخلاق النساء وأخلاق الصِّبيان، وفيه من العيوب التي لو كانت في حوْراء كان حقيقاً أن يُزهد فيها منه؛ لأن الخصيَّ سريع التبدُّل والتنقُّل من حدّ البضاضة وملاسة الجلد، وصفاء اللَّون ورقَّته، وكثرة الماء وبريقه، إلى التكسُّر والجمود والكمود، والتقبُّض والتجمُّد والتحدُّب، وإلى الهزال وسوء الحال. لأنّك ترى الخصيَّ وكأنَّ السيوف تلمع في وجهه، وكأنه مرآةٌ صينيَّة، وكأنّه جُمارة، وكأنّه قضيب فضّةٍ قد مسَّه ذهب، وكأنّ في وجناته الورد. فإن مرض مرْضةً، أو طعن في السنِّ ذهب ذهاباً لا يعود.

وقال بعض العلماء: إنّ الخصيَّ إذا قُطع ذلك العضو منه قويتْ شهوته، وقويتْ معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته، وكثرتْ دمعته، واتَّسعت فقْحته، ويصير كالبغل الذي ليس هو جماراً ولا فرساً؛ لأنّه ليس برجلٍ ولا امرأة. فهو مذبذبٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ويعرض للخصيّ سُرعة الدَّمعة والغضب، وذلك من أخلاق النساء والصِّبيان. ويعرض له حبُّ النميمة وضيقُ الصَّدر بما أُودع من السِّرِّ. ويعرض لهم البول في الفراش ولا سيَّما إذا بات أحدهم ممتلئاً من النَّبيذ. ومما ناله من الحسرة والأسف لما فاتهم من النّكاح مع شدّة حبِّهم للنساء، أبغضوا الفحول أشدَّ من تباغض الأعداء، فأبغضوا الفحول بُغض الحاسد لذوي النِّعمة. وزعم بعض أهل التجربة من الشُّيوخ المعَّمرين أنَّهم اعتبروا أعمار ضروب الناس فوجدوا طول أعمار الخصيان أعمَّ من جميع أجناس الرجال، وأنهم لم يجدوا لذلك عِلّةً إلاَّ عدم النّكاح. وكذلك طول أعمار البغال لقلة النَّزْو. ووجدوا أقل الأعمار أعمار العصافير؛ لكثرة سفادها. ثم الخصيُّ مع الرِّجال امرأة، ومع النِّساء رجل. وهو من النمائم والتحريش والإفساد بين المرء وزوْجه، على ما ليس عليه أحد. وهذا من النَّفاسة والحسد للفحول على النساء. ويعتريه إذا طعن في السنِّ اعوجاج في أصابع اليد، والتواءٌ في أصابع الرِّجل.

ودخل بعض الملوك على أهله ومعه خصيٌّ فاستترت منه، فقال لها: تستترين منه وإنما هو بمنزلة المرأة! فقالت: ألموضع المُثْلة به يحلُّ له ما حرَّم الله عليه. مع أنَّ في الخصيِّ عيوباً يطول ذكرها. ولولا خوف الملال والسآمة على الناظر في هذا الكتاب، لقلْنا في الاحتجاج عليك بما لا يدفعه من كانت به مُسكة عقل، أوْ له معرفة. وفيما قُلنا ما أقنع وكفى. وبالله الثِّقة. وقد ذكرنا في آخر كتابنا هذا مقطَّعاتٍ من أحاديث البطَّالين والظُّرفاء، ليزيد القارئ لهذا الكتاب نشاطا، ويذهب عنه الفتور والكلال، ولا قوَّة إلا بالله. 1 - قال: مرض رجلٌ من عُتاة اللاَّطة مرضاً شديدا، فأيسوا منه، فلما أفاق وأبلَّ من مرضه، دخل عليه جيرانه فقالوا له: احمد الله الذي أقالك، ودعْ ما كنت فيه من طلب الغلمان والانهماك فيهم، مع هذه السنِّ التي قد بلغتها. قال: جزاكم الله خيراً؛ فقد علمت أنّ فرط العناية والمدَّة دعاكم إلى عظتي. ولكنّي اعتدت هذه الصناعة وأنا صغير، وقد علمتم ما قال بعض الحكماء: ما أشدَّ فطام الكبير!.

قال الشاعر: والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يُواري في ثرى رمسهِ فقاموا من عنده آيسين من فلاحه. 2 - قال: كان رجلٌ من اللاَّطة وله بنون لهم أقدارٌ ومروءات، فشانهمْ بمشيته مع الغلمان وطلبه لهم، فعاتبوه وقالوا: نحن نشتري لك من الوصائف على ما تشتهي، تشتغل بهنَّ، فقد فضحتنا في الناس. فقال: هبكم تشترون لي ما ذكرتم فكيف لشيخكم بحرارة الجُلجُلتين! فتركوا عتابه وعلموا أنّه لا حيلة فيه. 2 - وقال بعض اللُّوطيين: إنَّما خُلق الأير للفَقْحة، مدوّرٌ لمدوَّرة؛ ولو كان للحر كان على صيغة الطَّبرْزين. وقال شاعرهم: إذا وجدت صغيراً ... وجأتأصل الحمارة وإن أصبت كبيرا ... قصدت قصد الحرارة فما أبالي كبيراً ... قصدت أو ذا غرارة 4 - وقيل لامرأة من الأشراف كانت من المتزوِّجات: ما بالك مع

جمالك وشرفك لا تمكثين مع زوجك إلاّ يسيراً حتى يطلِّقك؟ قالت: يريدون الضِّيق، ضيَّق الله عليهم. 5 - قال: طلَّق رجلٌ امرأته، فمرَّ رجلٌ في بعض الطُّرقات فسمع امرأةً تسأل أخرى عنها فقالت: البائسة طلَّقها زوجها! فقالت: أحسن بارك الله عليه. فقال لها: يا أمة الله، من شأن النِّساء التعصُّب بعضهن لبعض، وأسمعك تقولين ما قلت. قالت: يا هذا، لو رأيتها لعلمت أن الله تعالى قد أحلَّ لزوجها الزِّنى، من قُبح وجهها. 6 - وقال مخنَّثٌ لامرأة: يا معشر النِّساء، مالكنَّ همَّةٌ إلاّ طلب النَّيك، لا تُؤْثرون عليه شيئاً. فقالت: إن أمْراً انتقلت من شهوته من طبْع الرِّجال إلى النساء حتَّى عقرت لحيتك له، لحقيق ألا تُلام عليه. 7 - قال إسحاق الموصلي: نظرت إلى شابٍّ مخنَّثٍ حسن الوجه جداً قد هلب لحيته فشان وجهه، فقلت له: لم تفعل هذا بلحيتك، وقد علمت أنّ جمال الرجال في اللِّحى؟ فقال: يا أبا محمد، أيسرُّك بالله أنّها في استك؟ قلت: لا والله! فقال: ما أنصفتني، أتكره أن يكون في استك شيءٌ وتأمرني أن أدعه في وجهي!.

8 - وقال: اشترى بعض ولاة العراق قينةً بمالٍ كثير، فجلس يوماً يشرب وأمرها أن تغنِّيه، فكان أوّل صوتٍ تغنَّت به: أروح إلى القصَّاص كلَّ عشيَّةٍ ... أرجِّي ثواب الله في عدد الخُطى فقال للخادم: يا غلام، خذْ بيد هذه الزَّانية فادفعْها إلى أبي حزْرة القاصّ. فمضى بها إليه فلقيه بعد ذلك، فقال: كيف رأيت تلك الجارية؟ فقال: ما شئت أصلحك الله، غير أنّ فيها خصلتين من صفات الجنة! قال: ويلك ما هما؟ قال: البرد، والسِّعة. 9 - قال: علق رجلٌ من أهل المدينة امرأةً فطال عناؤه بها حتّى ظفر بها، فصار بها إلى منزل صديقٍ له مغنٍّ، ثم خرج يشتري ما يحتاج إليه، فقالت له: لو غنَّيت لي صوتاً إلى وقت مجي صديقك!. فأخذ العود وتغنَّى: من الخفرات لم تفضحْ أخاها ... ولم ترفعْ لوالدها شنارا قال: فأخذت المرأة خُفَّها ولبستْ إزارها وقالت: ويلي ويلي، لا والله لا جلست! فجهد بها فأبتْ وصاحت، فخشي الفضيحة فأطلقها. وجاء الرجل فلم يجدْها، فسأله عنها فقال: جئتني بمجنونة؛ قال: ما لها ويلك؟ قال: سألتْني أن أغنِّيها صوتاً ففعلت، فضربت بيدها إلى خفِّها وثيابها فلبستْ وقامت تولول، فجهَدْتُ أن أحبسها فصاحت فخَّليتها. قال: وأيِّ شيء غنَّيتها؟ فأخبره، فقال: لعنك الله! حُقَّ لها أن تهرب!.

قال: تواصف قومٌ الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم مخنَّث فقال: بالله عليكم دعوا ذكر الحر لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ قال: مُذْ خرجت منه! 10 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةٌ، فمكثت عنده غير بعيد، ثم أتى الرجل بالذي زوّجه فقدَّمه إلى القاضي فقال: أصلحك الله، إنّ هذا زوّجني امرأةً مجنونة. قال: وأيَّ شيءٍ رأيت من جنونها؟ قال: إذا جامعتها غُشي عليها حتَّى أحسبها قد ماتت. فقال له القاضي: قم قبحك الله فما أنت لمثل هذه بأهل. وكانت ربوخاً. 11 - قال: كانت عائشة بنت طلحة من المتزوّجات، فتزوّجها عُمر بن عبيد الله بن مَعمر التَّيميّ، فبينا هي عنده تحدَّث مع امرأةٍ من زوَّارها إذْ دخل عُمر فدعا بها فواقعها، فسمعت المرأة من النَّخير والشَّهيق أمراً عجيباً، فلمَّا خرجت قالت لها: أنت في شرفك وقدْرك تفعلين مثل هذا! قالت: إنّ الددوابَّ لا تُجيد الشُّرب إلاَّ على الصَّفير!. 12 - قال: وكانت حُبَّي المدينيّة من المغتلمات، فدخل عليها نسوةٌ من المدينة فقلن لها: يا خالة، أتيناك نسألك عن القبْع عند الجماع يفعله النِّساء، أهو شيءٌ قديم أم شيءٌ أحدثه النِّساء؟ قالت: يا بناتي، خرجت

للعمرة مع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلمَّا رجعنا فكُنَّا بالعرْج نظر إليّ زوجي ونظرت إليه، فأعجبه منيّ ما أعجبني منه فواثبني، ومرَّت بنا عيرُ عثمان فقبعت قبعةً وأدركني ما يصيب بنات آدم، فنفرت العير - وكانت خمس مائة - فما التقى منها بعيران إلى الساعة. والقبْع: النَّخير عند الجماع. والغربلة: الرَّهز. كذاك تسمِّيه أهل المدينة. ويقال إن حُبَّي علَّمت نساء المدينة القبْع والغربلة. 13 - قال: وكانت خُليدة امرأةً سوداء ذات خَلْق عجيب، وكان لها دارٌ بمكة تكريها أيام الحاجّ، فحجَّ فتىً من أهل العراق فاكترى منزلها، فانصرف ليلةً من المسجد وقد طاف فأعيا، فلما صعد السَّطح نظر إلى خليدة نائمة في القمر، فرأى أهيأ النّاس وأحسنه خَلْقاً، فدعتْه نفسه إليها فدنا منها، فتركته حتى رفع برجليها فتابعتْه وأرتْه أنها نائمة، فناكها، فلمَّا فرغ ندم فجعل يبكي ويلطم وجهه، فتعاربت وقالت: ما شأنك؟ لسعتك حيّة؟ لدغتْك عقرب؟ ما بالك تبْكي؟ قال: لا والله ولكنِّي نكتك وأنا محرم. قال: فتنيكني وتبكي؟ أنا والله أحقُّ بالبكاء منك. قمْ يا أرعن!.

14 - وقال ابن حُبَّي لأمِّه: يا أُمَّه، أيُّ الحالات أعجب إلى النِّساء من أخْذ الرجال إيّاهنّ؟ قالت: يا بنيّ، إذا كانت مُسنَّة مثلي فأبركْها وألصقْ خدَّها بالأرض ثم أوعبْه فيها. وإذا كانت شابّةً فاجمع فخذيْها إلى صدرها فأنت تدرك بذلك ما تريد منها وتبلغ حاجتك منها. 15 - وقال: اشترى قومٌ بعيراً وكان صعباً، فأرادوا إدخاله الدار فامتنع، فجعلوا يضربونه وهو يأبى، فأشرفتْ عليهم امرأةٌ كأنّها شقَّة قمر، فبُهتوا ينظرون إليها، فقالت: ما شأنه؟ فقال لها بعضهم: نربده على الدُّخول فليس يدخل. قالت: بُلَّ رأسه حتَّى يدخل. 16 - قال: نظر رجلٌ بالمدينة إلى جاريةٍ سريّة ترتفع عن الخدمة، فقال: يا جارية، في يدك عمل؟ قالت: لا، ولكنْ في رجلي. 17 - قال بعضهم: كنا في مجلس رجلٍ من الفقهاء فقال لي رجل: عندك حُرّةٌ أو مملوكة؟ قلت: عندي أمُّ ولدٍ، ولم سألتني عن ذلك؟ قال: إنّ الحرّة لها قدرها فأردت أن أعلّمك ضرباً من النَّيك طريفاً. قلت: قل لي. قال: إذا صرت إلى منزلك فنم على قفاك، واجعل مخدّةً بين رجليك وركبك ليكون وطاءً لك، ثم ادعُ الجارية وأقم أيرك وأقعدها عليه، وتحوَّل ظهرها إلى وجهك، وارفع رجليك ومرها أن تأخذ بإبهامك كما يفعل الخطيب على المنبر، ومرها تصعد وتنزل عليه؛ فأنَّه شيء عجيب.

فلمَّا صار الرجل إلى منزله فعل ما أمره به، وجعلت الجارية تعلو وتستفل، فقالت: يا مولاي، من علَّمك هذا النَّيك؟ قال: فلانٌ المكفوف. قالت: يا مولاي، ردّ الله عليه بصره!. 18 - قال: كانت امرأة من قريش شريفةً ذات جمال رائعٍ ومال كثير، فخطبها جماعةٌ وخطبها رجلٌ شريفٌ له مالٌ كثير، فردّته وأجابت غيره، وعزموا على الغدُوِّ إلى وليّها ليخطبوها، فاغتمَّ الرجل غمّاً شديداً، فدخلت عليه عجوزٌ من الحيّ فرأتْ ما به وسألته عن حاله فأخبرها، وقالت: ما تجعل لي إنْ زوّجتُك بها؟ قال: ألف درهم. فخرجتْ من عنده ودخلت عليها، فتحدَّثتْ عندها مليّاً وجعلتْ تنظر في وجهها وتتنفَّس الصُّعداء، ففعلت ذلك غير مرَّة، فقالت الجارية: ما شأنك يا خالة، تنظرين في وجهي وتنفَّسين؟ قالت: يا بُنيّة، أرى شبابك، وما أنعم الله عليك به من هذا الجمال، وليس يتمُّ أمر المرأة إلاَّ بالزَّوْج، وأراك أيِّماً لا زوج لك. قالت: فلا يغُمَّك الله، قد خطبني غير واحدٍ وقد عزمت على تزويج بعضهم. قالت: فاذكري لي من خطبك. قالت: فلان. قالت: شريفٌ، ومن؟ قالت: فلان. قالت: شريف، فما يمنعك منه؟ قالت: وفلانٌ - لصاحبها - قالت: أُفٍّ أفّ، لا تريدينه. قالت: وماله أليس هو شريفاً كثير المال؟ قالت: بلى، ولكن فيه خصلةً أكرهها لك. قالت: وما هي؟

قالت: دعي عنك ذكرها. قالت: أخبريني على كلِّ حال. قالت: رأيته يبول يوماً فرأيت بين رجليه رجلاً ثالثة. وخرجت من عندها فأتته، فقالت: أعدْ إليها رسولك. وأتاها الرجل الذي كانت أجابته - بعد مجيء الرسول - فردّتْه وبعثت إلى صاحب المرأة: أن اغد بأصحابك. فتزوّجها فلما بنى بها إذا معه مثل الزِّرّ، فلمَّا أتتْها العجوز فقالت: بكم بعتيني يا لخناء؟ قالت: بألف درهم. قالت: لا أكلتيها إلاّفي المرض!. 19 - قال: كان هشام بن عبد الملك يقبض الثِّياب من عظم أيره، فكتب إلى عامله على المدينة: " أما بعد فاشتر لي عكاك النَّيك ". قال: وكان له كاتبٌ مدينيٌّ ظريف، فقال له: ويحك، ما عكاك النِّيك؟ قال: الوصائف. فوجَّه إلى النَّخَّاسين فسألهم عن ذلك. فقالوا: عكاك النِّيك الوصائف البيض الطوال. فاشتري منهنّ حاجته، ووجّه بهنَّ إليه. قال: وكانت بالمدينة امرأةٌ جميلةٌ وضيّة، فخطبها جماعةٌ وكانت لا ترضى أحداً، وكانت أمُّها تقول: لا أزوجها إلاَّ من ترضاه. فخطبها شابٌّ جميلُ الوجه ذو مالٍ وشرف. فذكرتْه لابنتها وذكرت حاله وقالت: يا بنيّة إن لم تزوّجي هذا فمن تزَّوَّجين؟ قالت: يا أُمَّه: هو ما تقولين، ولكنّي بلغني

عنه شيءٌ لا أقدر عليه. قالت: يا بنيّتي لا تحتشمين من أمِّك، اذكري كلَّ شيءٍ في نفسك. قالت: بلغني أنَّ معه أيراً عظيما وأخاف ألاَّ أقوى عليه. فأخبرت الأمُّ الفتى فقال: أنا أجعل الأمر إليك تُدخلين أنت منه ما تريد وتحبسين ما تريد. فأخبرت الابنة فقالت: نعمْ أرضى إن تكفَّلت لي بذلك. قالت: يا بنيّةُ والله إنّ هذا لشديدٌ عليّ، ولكنِّي أتكلَّفه لك. فتزوّجته. فلما كانت ليلة البناء قالت: يا أُمَّه، كوني قريبةً منّي لا يقتلْني بما معه. فجاءت الأمّ وأغلقت الباب وقالت له: أنت على ما أعطيتنا من نفسك؟ قال: نعم، هو بين يديك. فقبضت الأمّ عليه وأدنْته من ابنتها فدسَّت رأسه في حرها وقالت: أزيد؟ قالت: زيدي. فأخرجت إصبعاً من أصابعها فقالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: نعم. فلم تزل كذلك حتَّى لم يبقِ في يدها شيءٌ منه، وأوعبه الرجل كلَّه فيها، قالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: يا بنيّة لم يبقِ في يدي شيء. قالت بنتها: رحم الله أبي فإنّه كان أعرف الناس بك، كان يقول: إذا وقع الشيء في يديك ذهب البركةُ منه. قومي عنّي!. 20 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً وكان معه أيرٌ عظيم جداً، فلمَّا ناكها أدخله كلَّه في حرها، ولم تكن تقوى عليه امرأة، فلم تتكلَّم، فقال لها: أيُّ شيءٍ حالك خرج من خلفك بعد؟ قالت: بأبي أنت وهل أدخلته؟ - قال: نظر رجلٌ إلى امرأةٍ جميلة سريّة، ورجلٌ في دارها دميم مشوّهٌ يأمر وينهي، فظنَّ أنّه عبدها، فسألها عنه فقالت: زوجي. قال: يا سبحان الله، مثلك في نعمة الله عليك تتزوَّجين مثل هذا؟ فقالت:

لو استدبرك بما يستقبلني به لعظم في عينك. ثم كشفتْ عن فخذها فإذا فيه بُقع خُضْر، فقالت: هذا خطاؤه فكيف إصابته. 22 - قال: وكانت بالمدينة امرأة ماجنة يقال لها سلاَّمة الخضراء، فأُخذت مع مخنَّثٍ وهي تنيكه بكيرنْج، فرُفعت إلى الوالي فأوجعها ضرباً وطاف بها على جمل، فنظر إليها رجلٌ يعرفها فقال: ما هذا يا سلاَّمة؟ فقالت: بالله اسكُتْ، ما في الدُّنيا أظلمُ من الرجال، أنتم تنيكونا الدَّهر كلَّه فلمَّا نكنا كم مرَّة واحدة قتلتمونا. 23 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً فقيل له: كيف وجدتها؟ قال: كأنَّ ركبها دارة القمر، وكأنّ شُفْريها أير حمارٍ مثْنيّ. 24 - وقال بعض العجائز المغتلمات: وخضبت ما صبغ الزَّمان فلم يدم ... صبْغي ودامت صبغة الأيامِ أيّام أُمْسي والشَّباب غريرةً ... وأُناك من خلفي ومن قُدَّامي 25 - وقال سياه، وكان من مردة اللاّطة، وأسمه ميمون بن زياد بن ثرْوان، وهو مولىً لخزاعة:

أخزاعُ إنْ عدَّ القبائل فخرهم ... فضعوا أكفَّكم على الأفواهِ إلاّ إذا ذُكر اللِّواط وأهله ... والفاتقون مشارج الأستاهِ فهناك فافتخروا فإنّ لكم به ... مجداً تليداً طارفاً بسياهِ 26 - قال: وجاء سياه إلى الكميت فقال له: يا أبا عُمارة، قد قلت على عروض قصيدتك: " أبتْ هذه النَّفسُ إلاّ ادِّكارا " فقال: هات. فقال: أبتْ هذه النفسُ إلاّ خسارا ... وإلاّ ارتداداً وإلاّ ازورارا وحمل الدُّيوك وقود الكلاب ... فهذا هرشاً وهذا نقارا وشرب الخمور بماء الغمام ... تنفجر الأرض عنه انفجارا 27 - وقال: أُخذ " ديكٌ "، وكان من كبار اللاَّطة، وهو رجلٌ من أهل الحجاز، مع غلامٍ من قُريش كأنّه قديدة، فقيل له: عدوَّ الله هبك تُعذر في الغلمان الصِّباح فما أردت إلى هذا؟ فقال: بأبي أنتم وأمِّي، قد والله علمت أنّه كما تقولون، وإنَّما نكته لشرفه.

28 - وقد يُضرب المثل في اللِّواط بالحجاز فيقال: " ألْوطُ من ديك "، كما يقول أهل العراق: " ألْوط من سياه "، وهو كوفيّ. وقد اختصرت كتابي هذا لئلا يملَّه القارئ. وبالله التوفيق. تم كتاب مفاخرة الجواري والغلمان، والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا إله إلا هو. يتلوه إن شاء اللَّه تعالى كتاب القيان من كلام أبي عثمان عمرو بن بحرٍ الجاحظ أيضاً، واللَّه الموفق للصواب. والحمد للَّه أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه.

الرسالة الرابعة عشرة كتاب القيان

الرسالة الرابعة عشرة كتاب القيان

بسم الله الرحمن الرحيم من أبي موسى بن إسحاق بن موسى، ومحمد بن خالد خذار خذاه، وعبد الله بن أيوب أبي سُمير، ومحمد بن حماد كاتب راشد، والحسن بن إبراهيم بن رباح، وأبي الخيار، وأبي الرنال، وخاقان بن حامد، وعبد الله بن الهيثم بن خالد اليزيديَّ المعروف بمشرطة، وعلك بن الحسن، ومحمد بن هارون كبّة، وإخوانهم المستمتعين بالنعمة، والمؤثرين للذّة، المتمتعين بالقيان وبالإخوان، المعدين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة، والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس، أصحاب الستر والستارات، والسرور والمراوءات. إلى أهل الجهالة والجفاء، وغلظ الطبع، وفساد الحسّ. سلام من وفق لرشده، وآثر حظَّ نفسه، وعرف قدر النعمة؛ فإنّه لا يشكر النعمة من لم يعرفها ويعرف قدرها، ولا يزاد فيها من لم يشكرها، ولا بقاء لها على من أساء حملها. وقد كان يقال: حمل الغنيِّ أشد من حمل الفقير، ومؤونة الشكر أضعف من مشقة الصبر. جعلنا الله وإياكم من الشاكرين.

أمّا بعد فإنه ليس كلُّ صامتٍ عن حجته مبطلاً في اعتقاده، ولا كلُّ ناطقٍ بها لا برهان له محقّاً في انتحاله. والحاكم العادل من لم يعجلْ بفصْل القضاء دون استقصاء حُجج الخصماء، ودون أن يحوّل القول فيمن حضر من الخصماء والاستماع منه، وأن تبلغ الحجّة مداها من البيان، ويشرك القاضي الخصمين في فهم ما اختصما فيه، حتى لا يكون بظاهر ما يقع عليه من حكمه أعلم منه بباطنه، ولا بعلانية ما يُفلْج الخصام منه أطبَّ منه بسرِّه. ولذلك ما استعمل أهل الحزم والرويّة من القضاة طول الصمت، وإنعام التفهُّم والتمهُّل، ليكون الاختيار بعد الاختيار، والحكم بعد التبيُّن. وقد كُنّا ممسكين عن القول بحجّتنا فيما تضمَّنه كتابنا هذا اقتصاراً على أن الحقَّ مكتفٍ بظهوره، مُبينٌ عن نفسه، مستغنٍ عن أن يُستدلَّ عليه بغيره؛ إذْ كان إنمَّا يُستدلُّ بظاهرٍ على باطن، وعلى الجوهر بالعرض، ولا يُحتاج أن يستدلَّ بباطن على ظاهر. وعلمنا أنّ خصماءنا وإنْ موّهوا وزخرفوا، غير بالغين للفلج والغلبة

عند ذوي العدْل دون الاستماع منّا، وأنَّ كلَّ دعوى لا يفلُجُ صاحبها بمنزلة ما لم يكن، بل هي على المدَّعي كلٌّ وكربٌ حتَّى تؤدِّيه إلى مسّرة النُّجح أو راحة اليأس. إلى أنْ تفاقم الأمر وعيل الصَّبر، وانتهى إلينا عيب عصابةٍ لو أمسكْنا عن الإجابة عنها والاحتجاج فيها، علماً بأنَّ من شأن الحاسد تهجين ما يحسد عليه، ومن خُلق المحروم ذمَّ ما حُرم وتصغيره والطَّعن على أهله كان لنا في الإمساك سعة. فإنّ الحسد عقوبةٌ موجبة للحاسد بما يناله منه ويشينه، من عصيان ربّه واستصغار نعمته، والسَّخط لقدره، مع الكرب اللازم والحزن الدائم، والتنفس صُعُداً، والتشاغل بما لا يُدرك ولا يُحصى. وأنَّ الذي يشكر فعلى أمرٍ محدودٍ يكون شكره، والذي يحسد فعلى ما لا حد له يكون حسده. فحسده متَّسع بقدر تغيُّر اتّساع ما جسد عليه. لأنّا خفنا أن يظنّ جاهل أنَّ إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة، وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها.

فوضعنا في كتابنا هذا حُججاً على من عابنا بملك القيان، وسبَّنا بمنادمة الإخوان، ونقم علينا إظهار النِّعم والحديث بها. ورجونا النّصر إذ قد بدينا والبادي أظلم، وكاتب الحقّ فصيح - ويروي " ولسان الحقِّ فصيح " - ونفْس المحرج لا يُقام لها، وصولة الحليم المتأني لا بقاء بعدها. فبيَّنَّا الحجّة في اطِّراح الغيرة في غير محرَّم ولا ريبة، ثم وصفْنا فضل النعمة علينا، ونقضْنا أقوال خصمائنا بقولٍ موجزٍ جامعٍ لما قصدْنا. فمهما أطنبنا فيه فللشَّرح والإفهام، ومهما أدمجنا وطوينا فليخفَّ حمله. واعتمدنا على أنَّ المطوّل يقصَّر، والملخَّص يختصر، والمطويَّ يُنشر، والأصول تتفرع، وبالله الكفاية والعون. إنّ الفروع لا محالة راجعةٌ إلى أصولها، والأعجاز لاحقةٌ بصدورها، والموالي تبعٌ لأوليائها، وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة ومنفردة بالمضادَّة، وبعضها عِلَّةٌ لبعض، كالغيث علَّة السَّحاب والسَّحاب علَّة الماء والرُّطوبة، وكالحبّ عِلّته الزَّرع، والزَّرع علَّته الحبّ، والدَّجاجة علَّتها البيضة، والبيضة علَّتها الدجاجة، والإنسان علّته الإنسان. والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض، وكلُّ ما تُقلُّه أكنافها للإنسان خولٌ ومتاعٌ إلى حين. إلاّ أنّ أقرب ما سُخِّر له من روحه وألطفه عند نفسه " الأُنثى "؟ فإنّها خُلقت له ليسكن إليها، وجُعلت بينه وبينها مودّة ورحمة.

ووجب أن تكون كذلك وأن يكون أحقَّ وأولى بها من سائر ما خُوِّل إذْ كانت مخلوقةً منه. وكانت بعضاً له وجزءاً من أجزائه، وكان بعض الشيء أشكل ببعض وأقرب به قُرباً من بعضه ببعض غيره. فالنساء حرثٌ للرجال، كما النبات رزقٌ لما جُعل رزقاً له من الحيوان. ولولا المحنة والبلوى في تحريم ما حرَّم وتحليل ما أحلّ، وتخليص المواليد من شُبهات الاشتراك فيها، وحصول المواريث في أيدي الأعقاب، لم يكن واحدٌ أحقَّ بواحدةٍ منهن من الآخر، كما ليس بعض السَّوام أحقَّ برعْي مواقع السَّحاب من بعض، ولكان الأمر كما قالت المجوس: إن للرجل الأقرب فالأقرب إليه رحماً وسبباً منهنّ. إلا أنّ الفرض وقع بالامتحان فخصَّ المطلق، كما فعل بالزَّرع فإنّه مرعىً لولد آدم ولسائر الحيوان إلاَّ ما منع منه التحريم. وكلُّ شيءٍ لم يُوجد محرَّماً في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمباحٌ مُطلق. وليس على استقباح الناس واستحسانهم قياسٌ ما لم نخرج من التحريم دليلاً على حسنه، وداعياً إلى حلاله.

ولم نعلم للغيرة في غير الحرام وجهاً، ولولا وقوع التحريم لزالت الغيرة ولزمنا قياس من أحقُّ بالنساء؛ فإنَّه كان يقال: ليس أحدٌ أولى بهنَّ من أحد، وإنَّما هنَّ بمنزلة المشامّ والتُّفَّاح الذي يتهاداه الناس بينهم. ولذلك اقتصر من له العدَّة على الواحدة منهنَّ، وفرَّق الباقي منهنَّ على المقرّبين. غير أنّه لما عزم الفريضة بالفرق بين الحلال والحرام، اقتصر المؤمنون على الحدِّ المضروب لهم، ورخّصوه فيما تجاوزه. فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجابٌ، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة ولا لحظة الخُلْسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمَّى المولع بذلك من الرجال الزِّير، المشتَّق من الزيارة. وكلّ ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر، حتّى لقد حسك في صدر أخي بُثينة من جميل ما حسك من استعظام المؤانسة، وخروج العذر عن المخالطة، وشكا ذلك إلى زوجها وهزَّه ما حشّمه، فكمنا لجميلٍ عند إتيانه بثينة ليقتلاه، فلما دنا لحديثه وحديثها سمعاه يقول ممتحناً لها: هل لك فيما يكون بين الرِّجال

والنساء، فيما يشفي غليل العشق ويُطفئ نائرة الشوق؟ قالت: لا. قال: ولم؟ قالت: إنَّ الحبَّ إذا نكح فسد! فأخرج سيفاً قد كان أخفاه تحت ثوبه، فقال: أمّا والله لو أنْعمت لي لملأته منك! فلمَّا سمعا بذلك وثقا بغيبه وركنا إلى عفافه، وانصرفا عن قتله، وأباحاه النظر والمحادثة. فلم يزل الرِّجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتَّى ضُرب الحجاب على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة. وتلك المحادثة كانت سبب الوصلة بين جميلٍ وبثينة، وعفراء وعُروة، وكثيِّر وعزَّة، وقيسٍ ولُبنى، وأسماء ومقِّش، وعبد الله بن عجلان وهند. ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرِّجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام. وكانت ضباعة، من بني عامر بن قُرط بن عامر بن صعصعة، تحت عبد الله بن جُدعان زماناً لا تلد، فأرسل إليها هشام بن المغيرة المخزوميُّ:

ما تصنعين بهذا الشَّيخ الكبير الذي لا يولد له، قولي له حتّى يطلِّقك. فقالت لعبد الله ذلك، فقال لها: إنِّي أخاف عليك أن تتزوَّجي هشام بن المغيرة. قالت: لا أتزوّجه. قال: فإن فعلت فعليك مائة من الإبل تنحرينها في الحزورة وتنسجين لي ثوباً يقطع ما بين الأخشبيْن، والطواف بالبيت عُريانة. قالت: لا أطيقه. وأرسلتْ إلى هشامٍ فأخبرتْه الخبر فأرسل إليها: ما أيسر ما سألك، وما يكرُثك وأنا أيسر قريشٍ في المال، ونسائي أكثر نساء رجل من قريش، وأنت أجمل النِّساء فلا تأبَّيْ عليه. فقالت لابن جُدعان: طلِّقْني فإنْ تزوجت هشاماً فعليَّ ما قلت. فطلَّقها بعد استيثاقه منها، فتزوَّجها هشامٌ فنحر عنها ماءةً من الجُزُر، وجمع نساءه فنسجن ثوباً يسع ما بين الأخشبين، ثم طافت بالبيت عُريانة، فقال المطَّلب بن أبي وداعة: لقد أبصرتها وهي عُريانةٌ تطوف بالبيت وإنِّي لغلامٌ أتْبعها

إذا أدبرتْ، وأستقبلها إذا أقبلت، فما رأيت شيئاً مما خلق الله أحسن منها، واضعةً يدها على ركبها وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كلُّه ... فما بدا منه فلا أُحلُّه كم ناظرٍ فيه فما يملُّه ... أخْثم مثل القعْب بادٍ ظلُّه قال: ثم إنَّ النساء إلى اليوم من بنات الخلفاء وأمّهاتهن، فمن دونهنَّ يطفن بالبيت مكشّفات الوجوه، ونحو ذلك لا يكمل حجٌّ إلا به. وأعرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر، فمات عنها بعد أن اشترط عليها ألا تتزوَّج بعده أبداً، على أن نحلها قطعةً من ماله سوى الإرث، فخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأفتاها بأن يعطيها مثل ذلك من المال فتصدَّق به عن عبد الله بن أبي بكر، فقالت في مرثيته: فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا

فلما ابتنى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أولم، ودعا المهاجرين والأنصار، فلمَّا دخل عليُّ بن أبي طالب عليه السلام قصد لبيت حجلتها، فرفع السِّجف ونظر إليها فقال: فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أصفرا فخجلت فأطرقت، وساء عمر رضي الله عنه ما رأى من خجلها وتشوُّرها عند تعيير عليٍّ إياها بنقض ما فارقت عليه زوجها، فقال: يا أبا الحسن، رحمك الله، ما أردت إلى هذا؟ فقال: حاجةٌ في نفسي قضيتها. هذا. وأنتم تروون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أغير الناس، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: " إني رأيت قصراً في الجنة فسألت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لعمر بن الخطاب. فلم يمنعني من دخوله إلاّ لمعرفتي بغيرتك ". فقال عمر رضي الله عنه: وعليك يُغارُ يا نبيَّ الله!. فلو كان النظر والحديث والدُّعابة يُغار منها، لكان عمر المقدَّم في إنكاره؛ لتقدُّمه في شدَّة الغيرة. ولو كان حراماً لمنع منه؛ إذ لا شكَّ في زهده وورعه وعلمه وتفقُّهه. وكان الحسن بن علي عليهما السلام تزوَّج حفصة ابنة عبد الرحمن، وكان المنذر بن الزُّبير يهواها، فبلغ الحسن عنها شيء فطلَّقها، فخطبها المنذر فأبت أن تتزوَّجه وقالت: شهَّرني!. وخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب

رضي الله عنه فتزوَّجها، فرقَّى المنذر عنها شيئاً فطلَّقها، وخطبها المنذر فقيل لها: تزوَّجيه ليعلم الناس أنَّه كان يعضهك. فتزوَّجتْه فعلم الناس أنَّه كذب عليها، فقال الحسن لعاصم: لنستأذنْ عليها المنذر فندخل إليها فنتحدَّث عندها، فاستأذناه؛ فشاور أخاه عبد الله بن الزُّبير فقال: دعهما يدخلان. فدخلا فكانت إلى عاصمٍ أكثر نظراً منها إلى الحسن، وكان أبسط للحديث. فقال الحسن للمنذر: خذ بيد امرأتك. فأخذ بيدها وقام الحسن وعاصمٌ فخرجا. وكان الحسن يهواها وإنمَّا طلَّقها لما رقَّى إليه المنذر. وقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ فخرجا فعدل الحسن إلى منزل حفصة فدخل إليها فتحدَّثا طويلا ثم خرج، ثم قال لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ قال: نعم. فنزل بمنزلة حفصة ودخل، فقال له مرَّة أخرى: هل لك في العقيق؟ فقال: يا ابن أُمِّ، ألا تقول: هل لك في حفصة!!. وكان الحسن في ذلك العصر أفضل أهل دهره. فلو كان محادثة النساء

والنَّظر إليهنَّ حراماً وعاراً لم يفعله ولم يأذن فيه المنذر بن الزُّبير، ولم يُشرْ به عبد الله بن الزُّبير. وهذا الحديث وما قبله يُبطلان ما روت الحُشويّة من أنَّ النظر الأوَّل حرام والثاني حرام؛ لأنَّه لا تكون محادثةٌ إلاَّ ومعها ما لا يحصى عدده من النَّظر. إلاَّ أن يكون عني بالنظرة المحرَّمة النَّظر إلى الشعر والمجاسد، وما تخفيه الجلابيب مما يحلُّ للزّوج والوليِّ ويحرم على غيرهما. ودعا مصعب بن الزُّبير الشَّعبيَّ، وهو في قُبّةٍ له مجلَّلةٍ بوشى، معه فيها امرأته، فقال: يا شعبيُّ، من معي في هذه القبّة؟ فقال: لا أعلم أصلح الله الأمير! فرفع السِّجف، فإذا هو بعائشة ابنة طلحة. والشعبيُّ فقيه أهل العراق وعالمهم، ولم يكن يستحلُّ أن ينظر إن كان النَّظر حراماً. ورأى معاوية كاتباً له يكلِّم جاريةً لامرأته فاختة بنت قرظة، في بعض طُرق داره، ثم خطب ذلك الكاتب تلك الجارية فزوَّجها منه، فدخل معاوية إلى فاختة وهي متحشِّدة في تعبئة عطر لعرس جاريتها، فقال: هوِّني عليك يا ابنة قرظة، فإني أحسب الابتناء قد كان منذ حين!.

ومعاوية أحد الأئمّة، فلما لم يقع عنده ما رأى من الكلام موقع يقينٍ، وإنَّما حلَّ محلَّ ظنٍّ وحسبان، لم يقضِ به ولم يوجبْه، ولو أوجبه لحدَّ عليه. وكان معاوية يؤتى بالجارية فيجرِّدها من ثيابها بحضرة جلسائه، ويضع القضيب على ركبها، ثم يقول: إنَّه لمتاعٌ لو وجد متاعاً! ثم يقول لصعصعة بن صوحان: خذها لبعض ولدك، فإنّها لا تحلُّ ليزيد بعد أن فعلت بها ما فعلت. ولم يكن يُعدم من الخليفة ومن بمنزلته في القدرة والتأتِّي أن تقف على رأسه جارية تذبُّ عنه وتروِّحه، وتعاطيه أخرى في مجلسٍ عامٍّ بحضرة الرجال. فمن ذلك حديث الوصيفة التي اطلَّعت في كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج وكان يُسرُّه، فلما فشا ما فيه رجع على الحجّاج باللَّوم وتمثَّل: ألم ترَ أنَّ وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك ... فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصيحا ثم نظر فوجد الجارية كانت تقرأ فنمَّت عليه. ومن ذلك حديثه حين نعس فقال للفرزدق وجرير والأخطل: من

وصف نُعاساً بشعرٍ وبمثلٍ يُصيب فيه ويُحسن التمثيل، فهذه الوصيفة له. فقال الفرزدق: رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... أميم جلاميدٍ تركن به وقرا فقال: شدختني ويلك يا فرزدق! فقال جرير: رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... يرى في سواد الليل قُنبرة سقرا فقال: ويلك تركتني مجنوناً! ثم قال: يا أخطل فقل. قال: رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... نديمٌ تروَّى بين ندمانه خمرا قال: أحسنت، خُذْ إليك الجارية. ثم لم يزل للملوك والأشراف إماءٌ يختلفن في الحوائج، ويدخلن في الدواوين، ونساءٌ يجْلسْن للناس، مثل خالصة جارية الخيزران، وعتْبة جارية ريطة ابنة أبي العباس، وسُكَّر وتركيَّة جاريتي أمِّ جعفر، ودقاق جارية العبَّاسة، وظلوم وقسطنطينة جاريتي أم حبيب، وامرأة

هارون بن جعبويه، وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك ثم كنّ يبرزْن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ به، فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب. ولقد نظر المأمون إلى سُكَّر فقال: أحُرَّةٌ أنت أم مملوكة؟ قالت: لا أدري، إذا غضبتْ عليَّ أمُّ جعفر قالت: أنت مملوكة، وإذا رضيتْ قالت: أنت حُرَّة. قال: فاكتبي إليها السَّاعة فاسأليها عن ذلك. فكتبتْ كتاباً وصلته بجناح طائرٍ من الهُدَّى كان معها، أرسلتْه تعلم أمَّ جعفرٍ ذلك، فعلمت أمُّ جعفرٍ ما أراد فكتبتْ إليها: " أنت حُرَّة ". فتزوّجها على عشرة آلاف درهم، ثم خلا بها من ساعتها فواقعها وخلَّى سبيلها، وأمر بدفع المال إليها. والدَّليل على أنَّ النَّظر إلى النساء كلِّهنَّ ليس بحرام، أنَّ المرأة المعنَّسة تبرز للرِّجال فلا تحتشم من ذلك. فلو كان حراماً وهي شابَّةٌ لم يحلَّ إذا عُنِّستْ، ولكنَّه أمرٌ أفرط فيه المتعدُّون حدَّ الغيرة إلى سوء الخُلق وضيق العطن، فصار عندهم كالحقّ الواجب.

وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدّة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلاّ الموت ما دام الرجال يريدونها. وهم اليوم يكرهون هذا ويستسمجونه في بعض، ويعافون المرأة الحرّة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً، ويلزمون من خطبها العار ويُلحقون به اللَّوم، ويعيِّرونها بذلك، ويتحظَّون الأمة وقد تداولها من لا يُحصى عدده من الموالي. فمن حسَّن هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر! ولمَ لمْ يغاروا في الإماء وهنَّ أمّهات الأولاد وحظايا الملوك، وغاروا على الحرائر. ألا ترى أنَّ الغيرة إذا جاوزتْ ما حرّم الله فهي باطلٌ، وأنَّها بالنِّساء لضعفهنَّ أولع، حتى يغرْن على الظّنّ والحلْم في النَّوم. وتغار المرأة على أبيها، وتعادي امرأته وسرِّيته. ولم تزل القيان عند الملوك من العرب والعجم على وجه الدَّهر. وكانت فارس تعُدُّ الغناء أدباً والرُّوم فلسفةً. وكانت في الجاهليّة الجرادتان لعبد الله بن جُدعان.

وكان لعبد الله بن جعفر الطّيار جوارٍ يتغنَّيْن، وغلاكمٌ يقال له " بديع " يتغنَّى، فعابه بذلك الحكم بن مروان، فقال: وما عليَّ أن آخذ الجيِّد من أشعار العرب وأُلقيه إلى الجواري فيترنَّمن به ويشذِّرنه بحلوقهنَّ ونغمهنّ!. وسمع يزيد بن معاوية الغناء. واتَّخذ يزيد بن عبد الملك حبابة وسلاَّمة، وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع، فقال الشاعر في حبابة: إذا ما حنَّ مزهرها إليها ... وحنَّتْ دونه أُذن الكرامِ وأصغوا نحوه الآذان حتَّى ... كأنّهم وما ناموا نيامِ وقال في سلاَّمة: ألم ترها، والله يكفيك شرَّها، ... إذا طرَّبتْ في صوتها كيف تصنعُ تردُّ نظام القول حتَّى تردَّه ... إلى صُلصُلٍ من حلقها يترجَّعُ وكان يسمع فإذا طرب شقَّ برُده ثم يقول: أطير! فتقول حبابة: لا تطير؛ فإنَّ بنا إليك حاجة.

ثم كان الوليد بن يزيد المتقدِّم في اللَّهو والغزل، والملوك بعد ذلك يسلكون على هذا المنهاج وعلى هذا السبيل الأوّل. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قبل أن تناله الخلافة يتغنَّى. فممّا يعرف من غنائه: أمَّا صاحبيَّ نزُرْ سعادا ... لقرب مزارها ودعا البعادا وله: عاود القلب سعادا ... فقلا الطَّرف السُّهادا ولا نرى بالغناء بأساً إذا كان أصله شعراً مكسوّاً نغماً: فما كان منه صدقاً فحسنٌ، وما كان منه كذباً فقبيح. وقد قال النبي عليه السلام: " إنَّ من الشِّعر لحكمةً ". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الشعر كلامٌ، فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح ". ولا نرى وزن الشعر أزال الكلام عن جهته، فقد يوجد ولا يضرُّه ذلك، ولا يزيل منزلته من الحكمة. فإذا وجب أنّ الكلام غير محرَّم فإنّ وزنه وتقفيته لا يوجبان تحريماً لعلّة من العلل. وإنّ الترجيع له أيضاً لا يخرج إلى حرام. وإنّ وزن الشعر من جنس وزن الغناء، وكتاب الموسيقي، وهو من

كتاب حدّ النُّفوس، تحدُّه الألسن بحدًّ مقْنع، وقد يعرف بالهاجس كما يعرف بالإحصاء والوزن. فلا وجه لتحريمه، ولا أصل لذلك في كتاب الله تعالى ولا سنّة نبيِّه عليه السلام. فإن كان إنمّا يحرِّمه لأنه يُلهى عن ذكر الله فقد نجد كثيراً من الأحاديث والمطاعم والمشارب والنَّظر إلى الجنان والرَّياحين، واقتناص الصيد، والتشاغل بالجماع وسائر اللذات، تصدُّ وتُلهى عن ذكر الله. ونعلم أنّ قطع الدَّهر بذكر الله لمنْ أمكنه أفضل، إلاّ أنّه إذا أدَّى الرجل الفرض فهذه الأمور كلُّها له مباحة، وإذا قصَّر عنه لزمه المأثم. ولو سلم من اللَّهو عن ذكر الله أحدٌ لسلم الأنبياء عليهم السلام. هذا سليمان بن داود عليهما السلام، ألهاه عرض الخيل عن الصَّلاة حتّى غابت الشّمس، فعرقبها وقطع رقابها. وبعد فإنَّ الرقيق تجارةٌ من التجارات تقع عليه المساومات والمشاراة بالثَّمن، ويحتاج البائع والمبتاع إلى أن يستشفَّا العلق ويتأمّلاه تأمُّلاً بيّناً يجب فيه خيار الرؤية المشترط في جميع البياعات. وإن كان لا يُعرف مبلغه بكيلٍ ولا وزنٍ ولا عددٍ ولا مساحة؛ فقد يُعرف بالحسن والقبح.

ولا يقف على ذلك أيضاً إلاّ الثاقب في نظره، الماهر في بصره، الطَّبُّ بصناعته؛ فإنّ أمر الحسن أدقُّ وأرقُّ من أن يدركه كلُّ من أبصره. وكذلك الأمور الوهميّة، لا يُقضى عليها بشهادة إبصار الأعين، ولو قُضي عليها بها كان كلُّ من رآها يقضى، حتّى النَّعم والحمير، يحكم فيها لكلِّ بصير العين يكون فيها شاهداً وبصيراً للقلب، ومؤدياً إلى العقل، ثم يقع الحكم من العقل عليها. وأنا مبين لك الحسن. هو التمام والاعتدال. ولست أعني بالتمام تجاوز مقدار الاعتدال كالزيادة في طول القامة، وكدقة الجسم، أو عظم الجارحة من الجوارح، أو سعة العين أو الفم، مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخَلق؛ فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان من الحسن، وإنْ عدت زيادة في الجسم. والحدود حاصرةٌ لأمور العالم، ومحيطة بمقاديرها الموقوتة لها، فكلُّ شيءٍ خرج عن الحدِّ في خُلُق، حتّى في الدين والحكمة الذين هما أفضل الأمور، فهو قبيحٌ مذموم. وأما الاعتدال فهو وزن الشيء لا الكمية، والكون كون الأرض لا استواؤها. ووزن النفوس في أشباه أقسامها. فوزن خلقة الإنسان اعتدال محاسنه وألاّ يفوت شيء منها شيئاً، كالعين الواسعة لصاحب الأنف الصغير

الأفطس، والأنف العظيم لصاحب العين الضَّيِّقة، والذَّقن الناقص والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المدَّع النِّضو، والظَّهر الطويل لصاحب الفخذين القصيرتين، والظَّهر القصير لصاحب الفخذين الطويلتين، وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل الوجه. ثم هذا أيضاً وزن الآنية وأصناف الفُرُش والوشْي واللباس، ووزن القنوات التي تجري فيها المياه. وإنما نعني بالوزن الاستواء في الخرط والتركيب. فلا بدَّ ممّا لا يمنع الناظر من النظر إلى الزَّرع والغرس والتفسُّح في خضرته والاستنشاق من روائحه. ويسمّى ذلك كلُّه له حِلاًّ ما لم يمد له يداً. فإذا مدّ يداً إلى مثقال حبّةٍ من خردل بغير حقِّها فعل ما لا يحلُّ، وأكل ما يحرم عليه. وكذلك مكالمة القيان ومفاكهتهنَّ، ومغازلتهن ومصافحتهنَّ للسَّلام، ووضع اليد عليهنَّ للتَّقليب والنظر، حلالٌ ما لم يشبْ ذلك ما يحرم.

وقد استثنى الله تبارك وتعالى اللَّمم فقال: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللَّمم إنّ ربَّك واسع المغفرة ". قال عبد الله بن مسعود، وسُئل عن تأويل هذه الآية فقال: إذا دنا الرجل من المرأة فإنْ تقدَّم ففاحشة، وإنْ تأخَّر فلممٌ. وقال غيره من الصَّحابة: القبلة واللَّمْس. وقال آخرون: الإتيان فيما دون الفرج. وكذلك قال الأعرابيّ حين سئل عمّا نال من عشيقته، فقال: ما أقرب ما أحل الله مما حرَّم الله!. فإن قال قائل: فيما روى من الحديث: " فرِّقوا بين أنفاس الرجال والنِّساء "، وقال: " لا يخْلُ رجلٌ بامرأة في بيتٍ وإن قيل حموها، إلا إنَّ حموها الموت " وإنّ في الجمع بين الرِّجال والقيان ما دعا إلى الفسق والارتباط والعشق، مع ما ينزل بصاحبه من الغُلمة التي تضطرُّ إلى الفجور وتحميل على الفاحشة؛ وأنَّ أكثر من يحضُر إنمّا يحضُر لذلك لا لسماع ولا ابتياع. قلنا: إن الأحكام إنّما على ظاهر الأمور، ولم يكلِّف الله العباد الحكم على الباطن، والعمل على النيَّات، فيُقضى للرجل بالإسلام بما يظهر

منه ولعلّه ملحد فيه، ويُقضى أنّه لأبيه ولعلّه لم يلدْه الأب الذي ادَّعى إليه قطّ، إلاَّ أنّه مولود على فراشه، مشهورٌ بالانتماء إليه. ولو كُلِّف من يشهد لرجلٍ بواحدٍ من هذين المعنيين على الحقيقة لم تقم عليه شهادة. ومن يحضر مجالسنا لا يظهر نسباً مما ينسبونه إليه، ولو أظهر ثمَّ أغضينا له عليه لم يلحقْنا في ذلك إثم. والحسب والنَّسب الذي بلغ به القيان الأثمان الرغيبة إنما هو الهوى. ولو اشترى على مثل شرى الرَّقيق لم تجاوز الواحدة منهنَّ ثمن الرأس الساذج. فأكثر من بالغ في ثمن جاريةٍ فبالعشق ولعله كان ينوي في أمرها الرِّيبة، ويجد هذا أسهل سبيلاً إلى شفاء غليله ثم تعذَّر ذلك عليه فصار إلى الحلال وإن لم ينوه ويعرف فضله، فباع المتاع وحلَّ العقد وأثقل ظهره بالعُبِّيَّة حتى ابتاع الجارية. ولا يعمل عملاً ينتج خيراً غير إغرائه بالقيان وقيادته عليهنّ؛ فإنّه لا ينجم الأمر إلاّ وغايته فيهنّ العشق، فيعوق عن ذلك ضبط الموالي

ومراعاة الرقباء وشدَّة الحجاب، فيضطر العاشق إلى الشراء، ويحلّ به الفرج، ويكون الشيطان المدحور. والعشق داءٌ لا يملك دفعه، كما لا يستطاع دفع عوارض الأدواء إلاّ بالحمية، ولا يكاد ينتفع بالحمية مع ما تولِّد الأغذية وتزيد في الطبائع بالازدياد في الطُّعم. ولو أمكن أحداً أن يحتمي من كل ضرر ويقف عنْ كل غذاء، للزم ذلك المتطِّبب في آفات صحته، ونحل جسمه وضوي لحمه، حتَّى يؤمر بالتخليط، ويشار عليه بالعناية في الطَّيبات. ولو ملك أيضاً صرف الأغذية واحترس بالحمية، لم يملك ضرر تغيرُّ الهواء ولا اختلاف الماء. وأنا واصفٌ لك حدَّ العشق لتعرف حدَّه: هو داءٌ يصيب الرُّوح ويشتمل على الجسم بالمجاورة، كما ينال الروح الضعف في البطش والوهن في المرء ينهكه. وداء العشق وعمومه في جميع البدن بحسب منزلة القلب من أعضاء الجسم. وصعوبة دوائه تأتي من قبل اختلاف علله، وأنّه يتركب من وجوهٍ شتَّى، كالحمى التي تعرض مركَّبةً من البرد والبلغم. فمن قصد لعلاج أحد الخلطين كان ناقصاً من دائه زائداً في داء الخلط الآخر، وعلى حسب قوة أركانه يكون ثبوته وإبطاؤه

في الانحلال. فالعشق يتركب من الحبّ والهوى، والمشاكلة والإلف، وله ابتداءٌ في المصاعدة، ووقوف على غاية، وهبوطٌ في التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال. والحبّ اسمٌ واقع على المعنى الذي رسم به، لا تفسير له غيره؛ لأنه قد يقال: إن المرء يحبُّ الله، وإن الله جلّ وعزّ يحبّ المؤمن، وإن الرجل يحبُّ ولده، والولد يحبّ والده ويحبُّ صديقه وبلده وقومه، ويحبُّ على أي جهة يريد ولا يسمَّي ذلك عشقاً. فيعلم حينئذ أن اسم الحبّ لا يُكتفي به في معنى العشق حتّى تُضاف إليه العلل الأُخر إلاّ أنه ابتداء العشق، ثم يتبعه حبُّ الهوى فربّما وافق الحقّ والاختيار، وربّما عدل عنهما. وهذه سبيل الهوى في الأديان والبلدان وسائر الأمور. ولا يميل صاحبه عن حجّته واختياره فيما يهوى. ولذلك قيل: " عين الهوى لا تصدق "، وقيل: " حبُّك الشيء يعمي ويصمّ ". يتخذون أديانهم أرباباً لأهوائهم. وذلك أنَّ العاشق كثيراً ما يعشق غير النِّهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إن سئل عن حجّته في ذلك لم تقم له حجّة.

ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى ولا يسمَّيان عشقاً، فيكون ذلك في الولد والصديق والبلد، والصِّنف من اللِّباس والفرش والدوابّ. فلم نر أحداً منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحه من حبّ بلده ولا ولده، وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق. وقد رأينا وبلغنا عن كثير ممن تلف وطال جُهده وضناه بداء العشق. فعلم أنّه إذا أضيف إلى الحبّ والهوى المشاكلة، أعني مشاكلة الطبيعة، أي حبّ الرجال النساء وحبَّ النساء الرجال، المركَّب في جميع الفحول والإناث من الحيوان، صار ذلك عشقاً صحيحاً. وإن كان ذلك عشقاً من ذكر لذكرٍ فليس إلا مشتقّاً من هذه الشهوة، وإلاّ لم يسمَّ عشقاً إذا فارقت الشهوة. ثم لم نره ليكون مستحكماً عند أوَّل لُقياه حتَّى يعقد ذلك الإلف، وتغرسه المواظبة في القلب، فينبت كما تنبت الحبّة في الأرض حتَّى تستحكم وتشتد وتثمر، وربّما صار لها كالجذع السَّحوق والعمود الصُّلب الشديد. وربما انعقف فصار فيه بوار الأصل. فإذا اشتمل على هذه العلل صار عشقاً تاماً.

ثم صارت قلّة العيان تزيد فيه وتوقد ناره، والانقطاع يسعِّره حتى يذهل وينهك البدن، ويشتغل القلب عن كلِّ نافعة، ويكون خيال المعشوق نصب عين العاشق والغالب على فكرته، والخاطر في كلِّ حالة على قلبه. وإذا طال العهد واستمرَّت الأيام نقص على الفرقة، واضمحلَّ على المطاولة، وإن كانت كلومه وندوبه لا تكاد تعفو آثارها ولا ترس رسومها. فكذلك الظَّفر بالمعشوق يُسرع في حلّ عشقه. والعلة في ذلك أنّ بعض الناس أسرع إلى العشق من بعض؛ لاختلاف طبائع القلوب في الرِّقَّة والقسوة، وسرعة الإلف وإبطائه، وقلّة الشَّهوة وضعفها. وقلَّ ما يظهر المعشوق عشقاً إلاَّ عداه بدائه، ونكت في صدره وشغف فؤاده. وذلك من المشاكلة، وإجابة بعض الطبائع بعضاً، وتوقان بعض الأنفس إلى بعض، وتقارب الأرواح. كالنائم يرى آخر ينام ولا نوم به فينعس، وكالمتثائب يراه من لا تثاؤب به فيفعل مثل فعله، قسراً من الطبيعة. وقلَّ ما يكون عشقٌ بين اثنين يتساويان فيه إلاّ عن مناسبةٍ بينهما

في الشَّبه في الخَلْق والخُلُق وفي الظَّرف، أو في الهوى أو الطِّباع. ولذلك ما نرى الحسن يعشق القبيح، والقبيح يحبُّ الحسن ويختار المختار الأقبح على الأحسن، وليس يرى الاختيار في غير ذلك فيتوهّم الغلط عليه، لكنّه لتعارف الأرواح وازدواج القلوب. ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن، وسكون النفوس إليهنَّ، وأنَّهنَّ يجمعن للإنسان من اللّذَّات ما لا يجتمع في شيءٍ على وجه الأرض. واللذَّات كلُّها إنمّا تكون بالحواسّ، والمأكول والمشروب حظٌّ لحاسّة الذَّوق لا يشركها فيه غيرها. فلو أكل الإنسان المسك الذي هو حظُّ الأنف وجده بشعاً واستقذره، إذْ كان دماً جامداً. ولو تنسَّم أرواح الأطعمة الطَّيبة كالفواكه وما أشبهها عند انقطاع الشهوة، أو ألحَّ بالنَّظر إلى شيءٍ من ذلك، عاد ضرراً. ولو أدنى من سمعه كل طيِّب وطيب لم يجد له لذَّة. فإذا جاء باب القيان اشترك فيه ثلاثة من الحواسِّ، وصار القلب لها رابعاً. فللعين النَّظر إلى القينة الحسناء والمشهِّية إذْ كان الحذق والجمال

لا يكادان يجتمعان لمستمتع ومرتع، وللسَّمع منها حظُّ الذي لا مؤونة عليه، ولا تطرب آلته إلا إليه. وللَّمس فيها الشَّهوة والحنين إلى الباه. والحواسُّ كلُّها رواد للقلب، وشهودٌ عنده. وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنِّي حدَّق إليها الطَّرْف، وأصغى نحوها السَّمع، وألقى القلب إليها الملك، فاستبق السّمع والبصر أيُّهما يؤدِّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه، فيتوافيان عند حبَّة القلب فيُفرغان ما وعياه، فيتولَّد منه مع السُّرور حاسَّة اللمس، فيجتمع له في وقتٍ واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قطّ، ولم تؤدِّ إليه الحواسُّ مثلها. فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة؛ لأنه روى في الأثر: " إياكم والنَّظرة فإنّها تزْرع في القلب الشَّهوة ". وكفى بها لصاحبها فتنةً، فكيف بالنَّظر والشهوة إذا صاحبهما السَّماع، وتكانفتهما المغازلة. إنَّ القينة لا تكاد تُخالص في عشقها، ولا تُناصح في ودِّها؛ لأنها مكتسبة ومجبولةٌ على نصب الحبالة والشَّرك للمتربِّطين، ليقتحموا في أُنشوطتها، فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللَّحظ، وداعبتْه بالتبسُّم، وغازلته في أشعار الغناء، ولهجت باقتراحاته، ونشطت للشُّرب عند شربه، وأظهرت الشَّوق إلى طول مكثه، والصَّبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحسَّت بأنَّ سحرها

قد نفذ فيه، وأنّه قد تعقّل في الشَّرك، تزيّدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أنَّ الذي بها أكثر مما به منها، ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم له أنَّها مدَّت الدواة بدمْعتها، وبلَّت السِّحاءة بريقها، وأنه شجبها وشجْوها في فكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنَّها لا تريد سواه، ولا تؤْثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه؛ ثم جعلت الكتاب في سُدْسِ طومار، وختمتْه بزعفران، وشدَّته بقطعة زير، وأظهرت ستره عن مواليها، ليكون المغرور أوثق بها. وألحَّت في اقتضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادّعت أنها قد صيَّرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته، وأنشدت: وصحيفةٍ تحكي الضَّمي ... ر مليحةٍ نغماتُها جاءت وقد قرح الفؤا ... د لطول ما استبْطاتُها فضحكت حين رأيتُها ... وبكيت حين قراتُها عيني رأت ما أنكرتْ ... فتبادرت عبراتُها أظلوم، نفسي في يدي ... ك: حياتُها ووفاتُها

ثم تغنت حينئذ: باب كتاب الحبيب ندماني ... محدِّثي تارةً وريحاني أضحكني في الكتاب أوّلُه ... ثم تمادى به فأبكاني ثم تجنّتْ عليه الذُّنوب، وتغايرتْ على أهله، وحمتْه النظر إلى صواحباتها، وسقتْه أنصاف أقداحها، وجمَّشته بعضوض تفاحها، وتحيَّةٍ من ريحانها، وزوّدته عند انصرافه خُصْلةً من شعرها، وقطعةً من مرطها، وشظيَّةً من مضرابها، وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةً وسُكَّراً، وفي المهرجان خاتماً وتفّاحة، ونقشت على خاتمها اسمه، وأبدت عند العثرة اسمه، وغنَّته إذا رأته: نظر المحبِّ إلى الحبيب نعيمُ ... وصدوده خطرٌ عليك عظيمُ

ثم أخبرته أنّها لا تنام شوقاً إليه، ولا تتهنَّأ بالطعام وجداً به، ولا تملُّ - إذا غاب - الدُّموع فيه، ولا ذكرتْه إلا تنغَّصت، ولا هتفت باسمه إلاّ ارتاعت، وأنَّها قد جمعت قنِّينةً من دموعها من البكاء عليه، وتنشد عند موافاة اسمه بيت المجنون: أهوى من الأسماء ما وافق اسمها ... وأشبهه، أو كان منه مُدانيا وعند الدُّعاء به قوله: وداعٍ دعا إذْ نحن بالخيف من منىً ... فهيَّج أحزان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري وربما قادها التمويه إلى التصحيح، وربَّما شاركت صاحبها في البلوى حتَّى تأتي إلى بيته فتمكِّنه من القبلة فما فوقها، وتُفرشه نفسها إن استحلَّ ذلك منها، وربَّما جحدت الصناعة لترحض عليه، وأظهرت العلّة والتاثت على الموالي، واستباعت من السادة، وادَّعت الحريّة احتيالاً لأن يملكها، وإشفاقاً أن يجتاحه كثرة ثمنها، ولا سيمّا إذا صادفْته حلو الشمائل، رشيق الإشارة، عذب اللَّفظ، دقيق الفهم، لطيف الحسّ، خفيف الرُّوح. فإن كان يقول الشعر ويتمثَّل به أو يترنَّم كان أحظى له عندها.

وأكثر أمرها قلّة المناصحة، واستعمال الغدر والحيلة في استنطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه. وربّما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنَّهم يتحامون من الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحدٍ بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي وأحداً سرَّها والآخر علانيتها، وتوهمه أنَّها له دون الآخر، وأنَّ الذي تُظهر خلاف ضميرها. وتكتب إليهم عند الانصراف كتباً على نسخة واحدة، تذكر لكلِّ واحدٍ منهم تبرُّمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم. فلو لم يكن لإبليس شرك يقتل به، ولا علم يدعو إليه، ولا فتنةٌ يستهوي بها إلاّ القيان، لكفاه. وليس هذا بذمٍّ لهنَّ، ولكنَّه من فرط المدح. وقد جاء في الأثر: " خير نسائكم السَّواحر الخلاَّبات ". وليس يُحسن هاروت وماروت، وعصا موسى، وسحرة فرعون، إلاَّ دون ما يُحسنه القيان. ثم إذا منعهنَّ الزِّنى غلبه عليهنَّ مخارج بيوت الكشاخنة ترميهنَّ في حُجور الزُّناة. ثم هنَّ أمَّهات أولاد من قد بلغ بالحبِّ أنْ غفروا

لهنَّ كلَّ ذنب، وأغضوا منهنَّ على كلِّ عيب. وإذا كنَّ في منزل رجلٍ من السُّوقة عذرتهنَّ، وإذا انتقلن إلى منازل الملوك زال العُذْر. والسبب فيه واحد، والعلّة سواء. وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً، وإنمّا تكتسب الأهواء، وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث، وصنوف اللعب والأخانيث، وبين الخلعاء والمجَّان، ومن لا يسمع منه كلمة جدٍّ ولا يُرجع منه إلى ثقةٍ ولا دين ولا صيانة مروَّة. وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً، يكون الصَّوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، عدد ما يدخل في ذلك من الشِّعر إذا ضُرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيتٍ، ليس فيها ذكر الله عن غفلة ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيبٌ في ثواب؛ وإنما بُنيت كلُّها على ذكر الزِّنى والقيادة، والعشْق والصَّبوة، والشَّوق والغلْمة. ثم لا تنفكُّ من الدراسة لصناعتها منكبَّةً عليها، تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كلُّه تجميشٌ وإنشادهم مراودة. وهي مضطرَّةٌ إلى ذلك في صناعتها؛ لأنَّها إن جفتْها تفلَّتت، وإنْ أهملتْها نقصتْ، وإن لم تستفد

منها وقفتْ. وكلُّ واقف فإلى نقصانٍ أقرب. وإنَّما فرق بين أصحاب الصناعات وبين من لا يُحسنها التزيُّدُ فيها، والمواظبة عليها. فهي لو أرادت الهُدى لم تعرفه، ولو بغت الغفلة لم تقدر عليها، وإنْ ثبَّتت حُجّة أبي الهُذيل فيما يجب على المتفكِّر زالت عنها خاصّته؛ لأنّ فكرها وقلبها ولسانها وبدنها، مشاغيل بما هي فيه، وعلى حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها لمن يلي مجالستها عليه وعليها. ومن فضائل الرجال منّا أنّ الناس يقصدونه في رحله بالرَّغبة كما يُقصد بها للخلفاء والعظماء، فيُزار ولا يُكلَّف الزيارة، ويُوصل ولا يُحمل على الصِّلة، ويُهدى له ولا تُقتضى منه الهديَّة، وتبيت العيون ساهرةً والعيون ساجمة، والقلوب واجفة، والأكباد متصدِّعة، والأماني واقفة، على ما يحويه ملكه وتضمُّه يده، مما ليس في جميع ما يباع ويُشترى، ويستفاد ويُقتنى، بعد العُقد النَّفيسة. فمن يبلغ شيئاً من الثمن ما بلغت حبشيّة جارية عوْن، مائةُ ألف دينار وعشرون ألف دينار. ويرسلون إلى بيت مالكها بصنوف الهدايا من الأطعمة والأشربة، فإذا جاءوا حصلوا على النظر وانصرفوا بالحسرة، ويجتني مولاها ثمرة ما غرسوا ويتملَّى به دونهم، ويُكفي مؤونة جواريه.

فالذي يقاسيه الناس من عيلة العيال، ويفكِّرون فيه من كثرة عددهم وعظيم مؤونتهم، وصعوبة خدمتهم، هو عنه بمعزلٍ: لا يهتمُّ بغلاء الدقيق، ولا عوز السَّويق، ولا عزَّة الزيت، ولا فساد النبيذ؛ قد كُفي حسرته إذا نزر، والمصيبة فيه إذا حمض، والفجيعة به إذا انكسر. ثم يستقرض إذا أعسر ولا يُردُّ، ويسأل الحوائج فلا يُمنع، ويُلقي أبداً بالإعظام، ويكنَّى إذا نودي، ويُفدَّى إذا دُعي، ويُحيَّا بطرائف الأخبار، ويُطلع على مكنون الأسرار، ويتغاير الرُّبطاء عليه، ويتبادرون في برِّه، ويتشاحُّون في ودّه، ويتفاخرون بإيثاره. ولا نعلم هذه الصِّفة إلاَّ للخلفاء: يُعطَون فوق ما يأخذون، وتُحصَّل بهم الرغائب، ويدرك منهم الغنى. والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العرض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريّح الهابة بالذهب الجامد، وفلذ اللجين والعسجد. وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القداد؛ لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سأله عفةً ونزاهة، لتركه حذقاً واختياراً، وشحاً على صناعته، ودفعاً عن حريم ضيعته؛ لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار

عشقه، ونقص من برِّه ورفده بقدر ما نقص من عشقه. فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته، ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه. ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويعنى بأخبار الرقباء، ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء، ويعرض عن الغمزة، ويغفر القبلة، ويتغافل عن الإشارة، ويتعامى عن المكاتبة، ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة، ولا يُعاتبها على المبيت، ولا يفضُّ ختام سرّها، ولا يسألها عن خبرها في ليلها، ولا يعبأ بأن تُقفل الأبواب، ويُشدَّد الحجاب، ويُعدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة، ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم، كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها. ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير. فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج. ومن كان ذا مالٍ ولا جاه له استقرض منه بلا عينة. ومن كان من السُّلطان بسببٍ كُفيت به عادية الشُّرط والأعون، وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّرانيّ، مثل سلمة

الفُقَّاعي، وحَمْدون الصِّحنائي، وعليّ الفاميّ، وحجر التَّور، وفقْحة، وابن دجاجة، وحفْصويه، وأحمد شعْرة، وابن المجوسيّ، وإبراهيم الغلام. فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها!. ولو يعلم هؤلاء المسمَّون فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها؛ لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيبُ منها وهو في ذلك ثقةٌ، ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح، أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة. فهل على مزوَّجة من حرج، وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل، وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة.

هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمَّيناها في صدرها. فإن كانت صحيحةً فقد أدّينا منها حقَّ الرواية، والذين كتبوها أولى بما قد تقلَّدوا من الحجّة منها. وإن كانت منحولة فمن قبل الطُّفيليِّين؛ إذْ كانوا قد أقاموا الحجّة في اطِّراح الحشمة، والمرتبطين ليسهِّلوا على المقيِّنين ما صنعه المقترفون. فإن قال قائل: إنَّ لها في كل صنفٍ من هذه الثلاثة الأصناف حظاً وسبباً فقد صدق. وبالله سبحانه التوفيق.

الرسالة الخامسة عشرة كتاب ذم أخلاق الكتاب

الرسالة الخامسة عشرة كتاب ذمّ أخلاق الكتَّاب

بسم الله الرحمن الرحيم حفظك الله وأبقاك وأمتع بك. قد قرأت كتابك ومدحتك أخلاق الكتّاب وأفعالهم، ووصْفك فضائلهم وأيّامهم، وفهمته. ومتى وقع الوصف من القائل تقصِّياً، والنَّعت من الواصف تألُّفاً، قلَّ شهداؤه وكثر خصماؤه، وخفَّت المؤونة على مجاوبيه في دعواه، وسُهلت مناسبة الأدْنياء له في معناه. لأنَّ أغلظ المحن ما عُرض على المشهود فأزاله، وتصفَّحه المعقول فأحاله. وأضعف العلل ما التُمس بعد المعلول، ونصبت له علماً على الموجود بعد الوجود. وإذا تقدَّم المعلول علَّته والمخبر عنه خبره، استُغنى عن الحاكم، وظهر عُوار الشَّاهد. فقد رأيتك أطنبت بإحماد هذا الصِّنف من الناس، وحكمت بفضيلة هذه الطبقة من الخَلْق، فعلمت أنّ فرط الإعجاب من القائل متى وافق صناعة المادح رسخ في التركيب هواه، ورسبتْ في القلوب أوتاده، واشتدَّ على

المناظر إفهامه، وعلى المخاصم بالحقّ توقيفه، وكان حكمه في صعوبة فسْخه وتعذُّر دفعه حكم الإجماع إذا لاقى محكم التنزيل. ولست أدعُ مع ذلك توقيفك على موضع زللك في الاحتجاج، وتنبيهك على النكتة من غلطك في الاعتلال، بما لا يمكن السامع إنكاره ولا ينساغ له إبطاله. وأبيِّن مع ذلك رداءة مذاهب الكتّاب وأفعالهم، ولؤم طبائعهم وأخلاقهم بما تعلم أنت والناظر في كتابي هذا: أنِّي لم أقل إلاّ بعد الحجّة، ولم أحتجَّ إلاّ مع ظهور العلَّة، ثم أستشهد مع ذلك الأضداد تبياناً، وأجمع عليه الأعداء إنصافاً، إذ كان في ذلك من التبيان ما يبهرهم، ومن القول ما يسكتهم. ثم أقول: ما ظنُّك بقوم منهم أوّل مرتدٍّ كان في الإسلام، كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً، فهرب حتّى مات بجزيرة العرب كافراً، وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرْح.

ثم استكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده معاوية بن أبي سفيان، فكان أوّل من غدر في الإسلام بإمامه، وحاول نقض عُرى الإيمان بأثامه. وكتب عثمان بن عفّان لأبي بكر رضوان الله عليهما - مع طهارة أخلاقه وفضائل أيّامه - فلم يمتْ حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذمِّ من ذمَّه من أوليائه. ثم كتب لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياد بن أبيه، فانعكس شرَّ ناشئٍ في الإسلام، نُقضت بدعوته السُّنّة، وظهرت في أيّامه ولايته بالعراق الجبْرية. ثم كتب لعثمان بن عفان رضي الله عنه مروان بن الحكم، فخافه في خاتمه، وأشعل الرَّعيّة حرباً عليه في مُلكه. ثم أفضى الأمر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عنه، فتبيّن من البصيرة في الكتّاب ما لم ير التنويه بذكر كاتبٍ حتّى مات. ولو كانت الكتابة شريفةً والخطُّ فضيلة كان أحقَّ الخلْق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أولى الناس ببلوغ الغاية فيها ساداتهم

وذوو القدر والشرف فيهم. ولكنَّ الله منع نبيَّه صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الخطَّ فيه دنيَّة، وصدَّ العِلْم به عن النبوَّة. ثم صيَّر الملك في ملكه، والشَّريف في قومه يتبجَّج برداءة الخط، وينبل بشنج الكتاب. وإنَّ بعضهم كان يقصد لتقبيح خطَّه وإنْ ككان حلواً، ويرتفع عن الكتاب بيده - وإن كان ماهراً، وكان ذلك عليه سهلاً - فيكلِّفه تابعه، ويحتشم من تقليده الخطير من جلسائه. وكتب أحمد بن يوسف يوماً بين يدي المأمون خطّاً أعجبه فقال: وددت والله أنِّي كتبت مثله وأنِّي مُغرَّمٌ ألف ألف. فقال له أحمد بن يوسف: لا تأسَ عليه يا أمير المؤمنين، فإنَّه لو كان حظّاً ما حُرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك إنَّ سنخ الكتابة بُني على أنّه لا يتقلَّدها إلاّ تابع، ولا يتولاها إلاّ من هو في معنى الخادم. ولم نر عظيماً قطُّ تولَّى كفاية نفسه،

أو شارك كاتبه في عمله. وكلُّ كاتب فمحكومٌ عليه بالوفاء، ومطلوبٌ منه الصَّبر على اللأواء. وتلك شروطٌ متنوّعة عليه، ومحنةٌ مستكملة لديه. وليس للكاتب اشتراط شيء من ذلك، بل يناله الاستبطاء عند أول الزَّلَّة وإن أكدي، ويُدركه العذْل بأوَّل هفوةٍ وإن لم يرض. يجب للعبد استزادة السِّيد بالشكوى، والاستبدال به إذا اشتهى. وليس للكاتب تقاضي فائته إذا أبطأ، ولا التحوُّل عن صاحبه إذا التوى. فأحكامه أحكام الأرقّاء، ومحلُّه من الخدمة محل الأغبياء. ثم هو مع ذلك في الذِّروة القصوى من الصَّلف، والسَّنام الأعلى من البذخ، وفي البحر الطامي من التِّيه والسَّرف. يتوهَّم الواحد منهم إذا عرَّض جبَّته وطوّل ذيله، وعقص على خدِّه صُدغه، وتحذف الشابورتين على وجهه، أنَّه المتبوع ليس التابع، والمليك فوق المالك. ثم الناشئ فيهم إذا وطئ مقعد الرياسة، وتورَّك مشورة الخلافة، وحُجزت السَّلَّةُ دونه، وصارت الدواة أمامه، وحفظ من الكلام فتيقه، ومن العلم مُلحه، وروى لبُزرْجمهْر أمثاله، ولأردشير عَهْده،

ولعبد الحميد رسائله، ولابن المقفَّع أدبه، وصيَّر كتاب مَزْدَك معدن علمه، ودفتر كليلة ودمنة كنْز حكمته ظنَّ أنَّه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عبّاسٍ في العلم بالتأويل، ومُعاذ بن جبلٍ في العلم بالحلال والحرام، وعليُّ بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاَّف في الجُزْء والطَّفرة، وإبراهيم بن سيار النظَّام في المكامنات والمجانسات، وحسينٌ النَّجَّار في العبارات والقول بالإثبات، والأصمعيُّ وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب. فيكون أوّل بدْوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه. ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار. فإن استرجح أحدٌ عنده أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتل عند ذكرهم شدقه، ولوى عند محاسنه كشحه. وإن ذُكر عنده

شُريّح جرَّحه، وإن نُعت له الحسن استثقله، وإن وُصف له الشعبيُّ استحمقه، وإن قيل له ابن جُبير استجهله، وإن قدَّم عنده النَّخعيُّ استصغره. ثم يقطع ذلك من مجلسه سياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان.

فإنْ حذر العيونْ وتفقَّده المسلمون، رجع بذكر السُّنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبَّه بالشاهد الغائب. لا يرتضى من الكتب إلاَّ المنطق، ولا يحمد إلاَّ الواقف، ولا يستجيد منها إلاّ السَّائر. هذا هو المشهور من أفعالهم، والموصوف من أخلاقهم. ومن الدليل على ذلك، أنّه لم يُر كاتبٌ قطُّ جعل القرآن سميره، ولا علمه تفسيره، ولا التفقُّه في الدِّين شعاره، ولا الحفظ للسُّنن والآثار عماده، فإن وُجد الواحد منهم ذاكراً شيئاً من ذلك لم يكن لدوران فكَّيه به طلاقة، ولا لمجيئه منه حلاوة. وإن آثر الفرد منهم السَّعْي في طلب الحديث، والتشاغل بذكر كتب المتفقِّهين، استثقله أقرانه، واستوخمه أُلاَّفه، وقضوا عليه بالإدبار في معيشته، والحرفة في صناعته، حين حاول ما ليس من طبعه، ورام ما ليس من شكله. قال الزُّهريّ لرجل: أيُعجبك الحديث؟ قال: نعم. قال: أما إنّه لا يعجب إلاَّ الفحول من الرِّجال، ولا يبغضه إلاَّ إناثهم!. ولئن وافق هذا القول من الزُّهري فيهم مذهباً، إنَّ ذلك لَبَيِّنٌ في شمائلهم، مفهوم في إشاراتهم.

وسئل ثُمامة بن أشرس يوماً، وقد خرج من عند عمرو بن مسْعدة، فقيل له: يا أبا معن، ما رأيت من معرفة هذا الرّجل وبلوت من فهْمه؟ فقال: ما رأيت قوماً نفرتْ طبائعهم عن قبول العلوم، وصغرت هممهم عن احتمال لطائف التمييز - فصار العلم سبب جهلهم، والبيان علم ضلالتهم، والفحْص والنظر قائد غيِّهم، والحكمة معْدن شبههم - أكثر من الكتَّاب. وذكر أبو بكرٍ الأصمُّ ابن المقفَّع فقال: ما رأيت شيئاً إلاَّ وقليله أخفُّ من كثيره إلاَّ العلم، فإنّه كلَّما كثر خفَّ محمله. ولقد رأيت عبد الله بن المقفَّع هذا في غزارة علمه وكثرة روايته، كما قال الله عزّ ذكره: " كمثل الحمار يحْمل أسْفاراً ". قد أوهنه علمه، وأذهله علمه، وأذهله حلمه، وأعمته حكمته، وحيَّرتْه بصيرته.

وكنا في مجلس بشر بن المعتمر يوماً وعنده المُرْدار، وثمامة، والعلاَّف، في جماعةٍ من المعتزلة وأصحاب الكلام، فتذاكروا العوامَّ واستحواذ الفتنة عليهم في التقليد، واستغلاق قلوبهم بكثيرٍ مما ليس في طبعهم، فتعظِّمهم وتقضي لكلِّ من نُبل منهم بالصَّواب في قوله وإنْ لم يعلموا. لا يدينون بالحقيقة، ولا يحمدون إلا ظاهر الحلْية.

ومن الدليل على نذالة طبعهم، والعلم بفسالة رأيهم، تقديمهم بالفضل لمن لا يفهمونه، وقضاؤهم بالعلم لمنلا يعرفونه، حتَّى إنهم يضربون بالكاتب فيما بينهم المثل، ويحكمون له بالبصيرة في الأدب، على غير مُعاشرةٍ جرتْ بينهم، ولا محبّة ظهرت له منهم. ليس إلاّ أنَّ هممهم صغرت عنهم، وامتلأت قلوبهم منهم، فصار المحفوظ من أقوالهم، والذي يدينون به من مذاهبهم: كيف لا يأمن فلانٌ الخطأ مع جلالته، وكيف ينساغ لأحدٍ تجهيله مع نبله. فإنْ وُقفوا على تمييزه هابوه، وإن دُعوا إلى تفهُّمه أكبروه، وقالوا: لم يُنصب هذا بموضعه إلاَّ لخاصَّةٍ فيه وإن جهلناها، وفضيلةٍ موسومة وإن قصر علمنا عنهم. ولعلَّه عُمر بن فرجٍ في السَّفه والمباهتة، وإبراهيم بن العبَّاس في الشَّره والرَّقاعة، ونجاح بن سلمة في الطَّيش والسخافة، وأحمد بن الخصيب في اللُّؤم والجهالة، وآل وهب في النَّهم والنَّذالة،

ويحيى بن خاقان في الذُّلِّ والفاقة، وموسى بن عبد الملك في الوخم والبلادة، وابن المدبِّر في الخبِّ والمكابرة، والفضْل بن مروان في الفدامة مقصورة. وفي عمر بن فرج يقول الشاعر: لا تطلب الخير من بني فرج ... لا بارك الله في بني فرجِ والعنْ إذا ما لقيته عُمراً ... لعناً يقيناً بأعظم الهرجِ فلعنةٌ إنْ لعنْتها عُمراً ... تعدِل مقبولةً من الحججِ ليس على المفتري على عُمرٍ ... من ضرْب حدٍّ يُخْشى ولا حرجِ وخُبِّرْت أنَّ أبا العتاهية أتى يحيى بن خاقان يوماً ليسلِّم عليه، فلم يأذنْ له حاجبُه فانصرف، وأتاه يوماً آخر فصادفه حين نزل فسلَّم عليه، ودخل يحيى إلى منزله ولم يأذنْ له، فكتب إليه أبو العتاهية من ساعته رُقْعةً فيها:

أراك تُراعُ حين ترى خيالي ... فما هذا يروعُك من خيالي لعلك خائف منِّي سؤالاً ... ألا فلك الأمان من السُّؤال كفيتُك إنَّ حالك لم تمل بي ... لأطلب مثلها بدلاً بحالي وإنَّ العُسْر مثل اليسر عندي ... بأيِّهما مُنيت فما أُبالي فلما قرأ يحيى بن خاقان رُقْعته ووثق بأمانه من السُّؤال أذن له، فخرج الحاجب فوجده قد انصرف، ولم يَعُدْ إليه، ولا التقيا بعد ذلك. وجلس الجاحظ يوماً في بعض الدواوين، فتأمَّل الكتَّاب فقال: خلقٌ حلوة، وشمائل معشوقة، وتظرُّف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبد يذْهب جُفاءً، وكنْبتة الربيع يُحرقها الهيْف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ؛ أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون. ثم وصف أصحاب الصناعات، وذكر تعاطف أهلها على نظرائهم، وتعصُّب رجالها على غيرهم فقال:

لا أعلم أهل صناعة إلا وهم يجْرون في ذلك إلى غاية محمودة، ويأتون منه آيةً مذكورة، إلا الكُتَّاب، فإنَّ أحدهم يتحاذق عند نظرائه بالاستقصاء على مثله، ويسترجح رأيه إذا بلغ في نكاية رجلٍ من أهل صناعته. ثم ضرب لهم في ذلك مثلاً، ثم قال: هم كالهرمة من الكلاب في مرابضها، يمرُّ بها أصناف الناس فلا تحرَّكُ، وإن مرَّ كلبٌ مثلها نهضت إليه بأجمعها حتّى تقتله. وحدّثني عُمر بن سيف، أنه حضر مجلس أبي عبّاد ثابت بن يحيى يوماً في منزله، وعنده جماعة من الكتاب، فذكر ما هم عليه من ملائم الأخلاق ومدانس الأفعال، قال: ووصف تقاطعهم عند الاحتياج، وعدم تعاطفهم عند الاختلال، وزُهدهم في المواصلة فقال: معاشر الكتاب، ما أعلم أهل صناعة أملأ لقلوب العامَّة منكم، ولا النعم على قومٍ أظهر منها عليكم. ثم إنَّكم في غاية التقاطع عند الاحتياج، وفي ذروة الزُّهد في التعاطف عند الاختلال. وإنَّه ليبلغني أنَّ رجلاً من القصابين يكون

في سُوقه، فيتلف ما في يديه، فيخلَّى له القصَّابون سُوقهم يوماً، ويجعلون له أرباحهم، فيكون بربحها منفرداً، وبالبيع مُفردا، فيسدُّون بذلك خلَّته، ويجبرون منه كسره. وإنكم لتناكرون عند الاجتماع والتعارف، تناكر الضباب والسَّلاحف، ثم مع استحواذكم على صناعتكم، وقلة ملابسة أهل الصناعات لها معكم، لم أر صناعة من الصناعات إلاّ وقد يجمع أهلها غيرها إليها فيعانونها جميعاً، وينزلون لضربٍ من التجارات معاً، إلاّ صناعتكم هذه؛ فإنَّ المتعاطى لها منكم، والمتسمِّي بها من نظرائكم، لا يليق به ملابسةُ سواها، ولا ينساغ له التَّشاغل بغيرها. ثم كأنكم أولاد علاَّتٍ، وضرائر أُمهات، في عداوة بعضكم بعضا، وحنق بعضكم على بعض. أُفٍّ لكم ولأخلاقكم!. إنَّ للكتّاب طبائع لئيمة، ولولا ذلك لم يكن سائر أهل التجارات والمكاسب بنظرائهم بررةً، ومن ورائهم لهم حفظة، وأنتم لأشكالكم مُذلُّون، ولأهل صنائعكم قالون. قبح الله الذي يقول قضينا في الأمور بالأغلب. وعرفنا علل الناس في مكاسبهم وتعامُلهم، فمن كانت علَّتُه أكرم كان كرم فعاله أعمَّ. ولست أعلم علَّةً في مكتسبٍ أنبل عند الخاصَّة من مكسبكم.

ثم وصف من سلف من هذه الطَّبقة يوماً فقال: كتب سالمٌ لهشام ابن عبد الملك، وكان أشدَّ الناس غلطاً، وأضعفهم رأياً، وكان هشامٌ يُحضره فيسمع من ضعفه ويستميحه الرأي، يهزأ به. ثم كتب لهم مسْعدة وكان مؤدِّباً، وكانت ضعْفة المؤدِّبين فيه. ثم كتب لهم عبدُ الحميد وكان معلِّماً، وبتحامله على نصر بن سيار انتقضت خراسان، وزال ملك بنى مَرْوان. ثم كتب لبني العباس عبد الله بن المقفَّع، فأغرى بهم عبد الله بن علي، ففُطن له وقُتل وهدم البيت على صاحبه. ثم كتب لهم يونس بن أبي فروة، وكان زنديقاً، فطلب فاختفى

بالكوفة والنِّيل حتَّى هلك. واستكتب الرشيد أزدانقاذار على ديوان الخراج، وكان ثنويّاً. ثم لم ينوِّهوا بذكر كاتبٍ حتّى ولى المأمون، فقدم معه ابن أبى العباس الطُّوسى، فبه انتشرت السِّعاية بالعراق. واستكتب أبا عبّاد، وكان بالرَّى مؤدِّباً، وكان سخيفاً حديداً، ولم يزل بمكانه في ديوانه قيمّا لابن أبي خالد الأحول والاسم له. ثم كتب له رجاء بن أبي الضحَّاك، وكان أظلمهم وأغشمهم، واستخلف حفصويه على ديوان الخراج، وكان ركيكاً لسعايته.

ثم كتب لهم ابن يزداد، وكان أشقاهم، حتّى هلك. وكتب لهم عمرو بن مسعدة، وكان رسائلياً فقط. واسترجح المأمون وهو بخراسان قبل مقدمه من كتاب العراق على غير بلوى إبراهيم بن إسماعيل بن داود، وأحمد بن يوسف، فلما قدم امتحنهما فتعنَّتا، فاستنهضهما في الأعمال ففشلا، فلم يعملا على شيء حتّى هلكا. وكان إبراهيم شُعوبيا، وكان يتهم بالثَّنويَّة. فإن كان ذلك صحيحاً فقد كانت صبابته بها على جهة التقليد فيها، لا على جهة التفتيش والاحتجاج فيها. وهذه علة المرتدّ من سائر الكتّاب. وقد قال أهل الفطن: إنَّ محض العمى التقليد في الزندقة؛ لأنَّها إذا رسخت في قلب امرئ تقليداً أطالت جرأته، واستغلق على أهل الجدل إفهامه. وكان أحمد بن يوسف مأفونا، وهو أول من قُرف بالآفة المخالفة لطبع الكتَّاب. واستقضى على ديوان الخراج والجند إبراهيم الحاسب، والحسن بن أبى المشرف. فلقن إبراهيم من سائر الآداب والعلوم علم الحساب فقط، ولم يُفزع إليه في قضيةٍ ولا رأى حتّى هلك، فكان الذي وضعه وأدناه شرهُه، وهي علَّةٌ قائمة في كتّاب الجند خاصة.

واستضعف ولاة الدواوين الحسن بن أبى المشرف عند قول الفضل مروان له وهو على الوزارة: " يا حسن، احتجنا إلى رجلٍ جزلٍ في رأيه، متوفّر لأمانته، متصرِّف في الأمور بتجربته، مستقدرٍ على الأعمال بعلمه، تصف لنا مكانه، وتشير علينا به، فنقلِّده جسيماً من عملنا ". فأجابه سريعاً قال: وجدته لك - أصلحك الله - كذلك. قال: من هو؟ قال: أنا. وألح في قوله، فتبسم الفضل وقال: هذا من غيرك فيك أحسن منك بلسانك لك، نعود وننظر إن شاء الله! وحسبك بقومٍ أنبلهم أخسُّهم في الرِّزق مرتبة، وأعظمهم غناءً أقلُّهم عند السُّلطان عقلاً. يُرزق صاحب ديوان الرسائل - وبلسانه يخاطب الخلق - العشر من رزق صاحب الخراج. ويرزق المحرِّر - وبخطِّه يكون جمال كتب الخليفة - الجُزء من رزق صاحب النَّسخ في ديوان الخراج. لا يحضر كاتب الرسائل لنائبةٍ، ولا يُفزع إليه في حادثة. فإذا أبرم الوزراء التدبير، ووقفوا منها على التقدير، طرحت إليه رقعةٌ بمعانى الأمر لينسِّق فيه القول، فإذا فرغ من نظامه واستوى له كلامه، أحضر له محرِّره فجلس في أقرب المواطن من الخليفة، وأمنع المنازل من المختلفة، فإذا تقضَّى ذلك فهُما والعوّام سواء.

هذا وليست صناعتهما بفاشيةٍ في الكتَّاب، ولا بموجودة في العوامّ؛ فأغزرهم علماً أمهنهم، وأقربهم من الخليفة أهونهم. فكيف بكاتب الخراج الذي علمه ليس بمحظور، وإشراك الناس فيه ليس بممنوع، يصلح لموضعه كلُّ من عمل وعُمل عليه، أحمد أحواله عند نفسه التعقُّد على الخصوم، وأسعد أموره التي يرجو بها البلوغ الشَّره ومنع الحقوق. وأحذق ما يكون بصناعته عند نفسه حين يأخذ بإبطال السُّنن، ويعمل بفلتات الدفوع. ولذلك ما ذكر أنَّ بعض رجال الشَّعبيِّ قال له: يا أبا عمرو، الكتَّاب شرار خلق الله! فقال: لا تفعل. ولكنَّ الشعبيَّ كان لسلطانه مُدارياً. ومن كتاب الجند: محمود بن عبد الكريم، كان حُميد بن عبد الحميد عند دخول المأمون مدينة السلام وبعد سكون الهيْج وخمود النَّائرة، رفع إلى المأمون يذكر أن في الجند دغلا كثيراً ممن دخل فيهم بسبب تلك الحروب في أيام الأجناد وهم قومٌ من غير أهل خراسان ممَّن تشبَّه بهم وادّعى إليهم من الأعراب والدُّعّار، وممن لا يستحقُّ الدِّيوان،

وقومٌ من أهل خراسان صارت لهم الخواصُّ السَّنيَّة، ولم يكن لهم من الغناء ما يستحقُّون به مثلها وذكر أنَّ بيت المال لا يحتمل ذلك، وسأل المأمون أن يولِّيه تصنيف الجند. ولم يكن مذهب حُميدٍ في ذلك التوفير على المأمون، ولا الشفقة على بيت مال المسلمين، ولكنه تعصَّب على أبناء أهل خراسان، واضطغن عليهم محاربتهم إياه أيَّام الحسن بن سهل مع ولد محمد بن أبي خالد وغيرهم، وما كانوا قد انتحوْه به من تلك الوقائع والهزائم، وما ذهب له من الأموال بذلك السَّبب. فولاه المأمون التصنيف، وأمر للجند برزق شهرين، فولّى حميدٌ العطاء والتصنيف محمود ابن عبد الكريم الكاتب، وعرف محمود ما غزا حميد، فتحامل على الناس واستعمل فيهم الأحقاد والدمن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواصَّ، وبعث في الكور وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسداً لهم وإشفاءً لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنّت،

فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشرٌ كثير. ثم إنّ المأمون أمر للناس بتمام عطاياهم؛ واكتسب محمود بن عبد الكريم المذمَّة، وصار ملعنةً في محالِّ بغداد وفي مجالسها وطرقها. ومنهم: زيد بن أيوب الكاتب، عمل في ديوان الجند أربعين سنة، ثم صار في آخر عمره قواداً ليحيى بن أكثم القاضى. وذلك أن المأمون أمر له بفرض، فصّير يحيى بن أكثم أمر ذلك الفرض إلى زيد بن أيوب، وأمره ألا يفرض إلا لأمرد بارع الجمال، حسن القد والصورة. فكان آمر ذلك الفرض مشهوراً متعالماً. ففي ذلك يقول الحسن بن علي الحرمازيّ لزيد بن أيوب: يا زيد يا كاتب فرض الفراش ... أكلُّ هذا طلبٌ للمعاش مالي أرى فرضك حملانهم ... يثبت في القرنين قبل الكباش

وعلى ذلك فإنه لم يبلغني أنه كان في ولاة ديوان الجند ولا في كتابهم مثل المعلّى بن أيوب في نبله وارتفاع همته، وكرم صحبته، وعفافه، وجميل مذهبه، وشدة محاماته عمن صحبه وتحرَّم به. فكان المأمون يعرف له ذلك ومن بعده من الخلفاء، فثبتت وطأته، ودامت ولايته، وحمد أثره. قد أتينا على بعض ما أردنا فيما له قصدنا، ولم نستعمل الانتزاعات فيما ذكرنا، وأعرضنا عن التأويلات فيما وصفنا، وقصدنا إلى المأثور فحكيناه، وإلى المذكور في الأزمنة فأجريناه، لئلا يجد الطاعن فيما وصفنا مقالا، والمنكر لذمّ ما ذممنا مساغا، وعلمنا أن من عاند مع ذلك فقد دفع عيانا وأنكر كائنا مذكوراً. وفي ذلك دليلٌ باهر على اضمحلاله، وشاهدٌ عدلٌ لأضداده. ولو حكينا كلّ ما في هذا الجنس من الأقوال، وما يدخله من المقايسات والأشكال، لطال الكتاب، ولمله الناظر المعجاب، فاكتفينا بالجزء من الكتاب، والبعض دون التمام، وعلمنا أنَّ الناظر فيه إن كان فطناً أقنعه القليل فقضى، وإن كان بليداً جهولا لم يزده الإكثار إلا عيّاً، ومن العلم بما له قصدنا إلا بعدا. وبالله الكفاية والتوفيق. تمَّ كتاب " ذم أخلاق الكتاب " بعون الله ومنِّه ومشيئته وتوفيقه، والله تعالى الموفق للصواب. والحمد لله أولا وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وأصحابه الطيبين الطاهرين وسلامه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الرسالة السادسة عشرة كتاب البغال

الرسالة السادسة عشرة كتاب البغال

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وعلى اسم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد خاصة، وعلى أنبيائه عامة. كان وجه التدبير في جملة القول في البغال، أن يكون مضموما إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفاً تاما، كسائر مصاحف " كتاب الحيوان ". والله المقدر والكافى. وقد منع من ذلك ما حدث من الهم الشاغل، وعرض من الزماتة، ومن تخاذل الأعضاء، وفساد الأخلاط، وما خالط اللسان من سوء التبيان، والعجز عن الإفصاح، ولن تجتمع هذه العلل في إنسانٍ واحد، فيسلم معها العقل سلامةً تامةً. وإذا اجتمع على الناسخ سوء إفهام المملى، مع سوء تفهم المستملى، كان ترك التكلف لتأليف ذلك الكتاب أسلم لصاحبه من تكلف نظمه على جمع كلِّ البال، واستفراغ كلِّ القوى. فأما الهمّة وتشعب الخواطر المانعة من صحة الفكر، واجتماع البال، فهذا ما لابدَّ من وقوعه. فليكن العذر منك على حسب الحال، والخيرة فيما صنع الله. وقد علمنا أن الخيرة مقرونة بالكره، وبالله التوفيق.

عناية الأشراف بالبغال نبدأ إن شاء الله، بما وصف الأشراف من شأن البغلة، في حُسن سيرتها، وتمام خلقها، والأمور الدالَّة على السرّ الذي في جوهرها، وعلى وجوه الارتفاق بها، وعلى تصرُّفها في منافعها، وعلى خفّة مئونتها في التنقّل في أمكنتها وأزمنتها، ولم كلف الأشراف بارتباطها، مع كثرة ما يزعمون من عيوبها؟ ولم آثروها على ما هو أدوم طهارة خُلُقٍ منها؟ وكيف ظهر فضلها مع النقص الذي هو فيها؟ وكيف اغتفروا مكروه ما فيها، لما وجدوا من خصال المحبوب فيها؟ حتى صار الرجل منهم يُنشد العُذّال فيها كقول السَّعديّ: أخٌ لي كأيَّام الحياة إخاؤه ... تلوَّن ألْواناً عليَّ خُطوبُها إذا عبْت منه خصلةً فهجرْتُهُ ... دعتْني إليه خصْلةٌ لا أعيبُها ولقد كلف بارتباطها الأشراف، حتى لُقِّب بعضهم من أجل استهتاره بها ب " روَّاض البغال "، ولقَّبوا آخر: ب " عاشق البغل "؛ هذا مع طيب مغارسهم، وكرم نصابهم، ولذلك قال الشاعر: وتثعْلب الرَّوَّاضُ بعْد مراحه ... وانْسلَّ بيْن غرارتيْه الأعْورُ وهجاه أيضاً الفرزْدق بأمر الحجَّاج، ففحُش عليه، حتى قال: وأفْلت روَّاض البغال ولمْ تدعْ ... له الخْيْلُ منْ أحْراح زوجيْه معْشرا

وقال لشريف آخر: ما زلْت في الحْلبات أسْبق ثانياً ... حتَّى رُميت بعاشق البغلِ لو كان شاور ما عبأْت به ... يوم الرِّهانِ وساعة الحفْلِ وشاور هذا: رائضٌ كان ببغداد، والشاعر رجلٌ من بني هاشم؛ ولم يعْنِ بقوله " ما زلت في الحلبات أسبق ثانيا ": أنه جاء ثانى اثنين، وإنما ذهب إلى أنه جاء متمهِّلاً، وقد ثنى من عنانه. وكتب روْح بن عبد الملك بن مروان إلى وكيلٍ له: " أبغنى بغلةً حصَّاء الذَّنب، عظيمة المحْزم، طويلة العُنق، سوْطُها عنانها، وهواها أمامها ". وكان مَسْلمة بن عبد الملك يقول: " ما ركب الناس مثل بغلةٍ قصيرة العذار، طويلة العنان ".

وقال صفوان بن عبد الله بن الأهْتم، لعبد الرحمن بن عبّاس بن ربيعة بن الحارث بن المُطَّلب، وكان ركَّاباً للبغلة: " مالك وهذا المركب الذي لا تُدْرك عليه الثار، ولا يُنجيك يوم الفرار؟ " قال: " إنها نزلت عن خُيلاء الخيل، وارتفعت عن ذِلّة العَيْر، وخير الأمور أوساطها ". فقال صفوان: " إنّا نُعلِّمكم، فإذا علمتم تعلَّمنا منكم! وهو الذي كان يُلقَّب: " روَّاض البغال "؛ لحذقه بركوبها، ولشغفه بها، وحُسن قيامه عليها. وكان يقول: " أريدها واسعة الجُفرة، مُنْدحَّة السُّرَّة، شديدة العكْوة، بعيدة الخطوة، ليِّنة الظهر، مُكْرَبَة الرُّسْغ، سفْواء جرْداء عنقْاء، طويلة الأنقاء ". وقال ابن كُناسة: سمعت رجلاً يقول: " إذا اشتريت بغلة فاشترها

طويلة العُنق، نجْدةً في نجائها مُشرفة الهادى، نجْدةً في طباعها، ضخمة الجوْف، نجدةً في صبرها ". والعرب تصف الفرس بسعة الجوف. قال الراجز: غشمْشمٌ يَعْلو الشَّجرْ ... ببطْنه يعْدو الذَّكرْ قال الأصمعيّ: لم يسبق الحْلبة قطُّ أهضم. وقال يونس: كان نابعة الجعْديُّ أوصف النَّاس لفرس، قال: فأنشدت رُؤبة قوله:

فإن صدقوا قالوا: جوادٌ مُجرَّبٌ ضليعٌ، ومنْ خير الجياد ضليعها فقال: ما كنت أظنُّ المرْهف منها إلا أسرع. قالوا: ولم يكن رؤبة وأبوه صاحبيْ خيل. وقال سليمان بن عليّ لخالد بن صفوان، ورآه على حمار: ما هذا يا أبا صفوان؟ قال: أصلح الله الأمير، ألا أُخبرك عن المطايا؟ قال: بلى. قال: " الإبل للحمل والزَّمْل، والبغال للأسفار والأثقال، والخيل للطَّلب والهرب، والبراذين للجمال والوطاءة، وأما الحمير فللدَّبيب والمرْفق ". قالوا: وكانت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بغلة تسمَّى " دُلْدُل "، وحمار يُسمَّى " يعفْور "، وفرس يُسمَّى " السَّكْب "، وله ناقتان: " العضْباء "، " والقصْواء ".

قالوا: وكان عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، يُكثر ركوب بغلة عبد الله بن وهْب الشهباء، التي غنمها يوم النَّهْروان. هذا في قول الشيعة، وأما غيرهم فينكرون أن يكون عليّ، كرم الله وجهه، يرى أن يغنم شيئاً من أموال أهل الصلاة، كما لم يغنم من أموال أصحاب الجْمل. قال البُقْطُريّ، ويُكنى أبا عثمان، واسمه فهدان: لقى رجلٌ بكر بن عبد الله المُزنيّ، فقال له: رأيتك على فرس كريم، ثم رأيتك على عيْرٍ لئيم، ثم رأيتك قد أدْمنت ركوب هذه البغلة! قال: البغال أعدل، وسيرُها أقصد. عليّ بن المدينيّ قال: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم قال:

حدَّثني أبي إسحاق، قال: حدثني حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم، عن أُمه، قالت: كأني أنظر إلى عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، في شعْب الأنصار ". وبروى عن عبد الرحمن بن سعْد، قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه، على بغلة بيضاء، يضفْر لحيته. ومن حديث الزُّهْري وغيره، عن كثير بن العبَّاس، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنيْن على بغلته الشَّهْباء " في حديث طويل في المغازي. وفي هذا الحديث: فخضَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " الآن حمى الوطيس ". وهذه كلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسبقْه

إليها أحد، وكذلك قوله: " مات حتْف أنفْه "، وكذلك قوله: " كلّ الصيد في جوْف الفرا "، وكذلك قوله: " هُدْنةٌ على دخن "، وكذلك قوله: " لا يُلسع المؤمن من جُحرٍ مرَّتين ". فصارت كلها أمثالاً. قالوا: وكان ابن أبي عتيق يركب البغال، وكذلك ابن أبي ربيعة. وكان هشام بن عبد الملك أكثر الناس ركوباً لها. وعن أبي الأشهب، عن الحسن قال: قال قوم وعثمان رضي الله عنه محصور: " لو بعثتم إلى أمّ المؤمنين رضي الله عنها فركبت، فلعلّهم أن يكفّوا ". فأرسلوا إلى أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رمْلة، فجاءت على بغلة شهباء في محفَّة. قالوا: من هذه؟ قالوا: أمّ المؤمنين، أمّ حبيبة. قالوا: لا - والله - لا تدخل، فردُّوها. وقالوا: وقع بين حيَّيْن من قريش منازعة، فخرجت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على بغلة، فلقيها ابن أبي عتيق، فقال: إلى أين جُعلْت فداك؟ قالت: أُصلح بين هذين الحييَّن. قال: والله ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل، فكيف إذا قيل: يوم البغل! فضحكتْ وانصرفت. هذا - حفظك الله - حديثٌ مصنوع، ومن توليد الرَّوافض، فظنَّ الذي ولّد هذا الحديث، أنه إذا أضافه إلى ابن أبي عتيق، وجعله نادرةً

ومُلحة، أنه سيشيع، ويجري عند الناس مجْرى الخبر عن أمّ حبيبة وصفيّة. ولو عرف الذي اخترع هذا الحديث طاعة الناس لعائشة - رضي الله عنها - لما طمع في جواز هذا عنه. وقال عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: " مُنيتُ بأربعة: مُنيت بأشجع الناس، يعني الزُّبيْر؛ وأجود الناس، يعني طلْحة؛ وأنضّ الناس، يعني يعْلى بن مُنْية؛ وأطوع الناس في الناس، يعني عائشة ". ومن بعد هذا، فأيُّ رئيس قبيلٍ من قبائل قريش كانت تبعث إليه عائشة - رضي الله عنها - رسولاً فلا يُسارع، أو تأمره فلا يُطيع، حتى احتاجت أن تركب بنفسها؟ وأيّ شيء كان قبل الركوب من المراسلة والمراوضة والمُدافعة والتقديم والتأخير، حتى اضطرَّها الأمر إلى الرُّكوب بنفسها؟ وإنّ شرّاً يكون بين حيَّيْن من أحياء قريش، تفاقم فيه الأمر، حتى احتاجت عائشة - رضي الله عنها - إلى الركوب فيه، لعظيم الخطر، مُستفيض الذِّكر؛ فمن هذا القبيلان؟ ومن أيّ ضرْبٍ كان هذا الشرّ؟ وفي أيّ شيءٍ كان؟ وما سببه؟ ومن نطق من جميع رجالات قريش فعصوه وردُّوا قوله، حتى احتاجت عائشة فيه إلى الركوب؟ ولقد ضربوا قواديم الجمل، فلما برك ومال الهودج صاح الفريقان: " أُمَّكم! أُمَّكم ".

فأمر عائشة أعظم، وشأنها أجلّ، عند من يعرف أقدار الرجال والنساء، من أن يُجَوِّز مثل هذا الحديث المولَّد، والشرّ المجهول، والقبيلتين اللتين لا تُعرفان. والحديث ليس له إسناد؛ وكيف وابن أبي عتيق شاهدٌ بالمدينة، ولم يعلم بركوبها، ولا بهذا الشرّ المتفاقم بين هذين القبيلين؟ ثم ركبت وحدها، ولو ركبت عاثشة لما بقي مُهاجريّ ولا أنصاريّ، ولا أمير ولا قاضٍ إلاّ ركب؟ فما ظنُّك بالسُّوقة والحُشْوة، وبالدَّهْماء والعامّة. رواة الأخبار وما هو إلاّ أن ولّد أبو مخْنف حديثاً، أو الشَّرْقيُّ بن القُطاميّ، أو الكلبيّ، أو ابن الكلبيّ، أو لقيط المُحاربيّ، أو شوْكرٌ

أو عطاءٌ الملط، أو ابن دأْب، أو أبو الحسن المدائنيّ ثم صوَّره في كتابٍ، وألقاه في الورَّاقين، إلاّ رواه من لا يحصِّل ولا يثبِّت ولا يتوقف. وهؤلاء كلّهم يتشيَّعون. وكان يونس بن حبيب يقول: " يا عجبا للناس، كيف يكتبون عن حمّاد وهو يصحِّف ويكذب ويلحن ويكسر "!. ومن أراد الأخبار فليأخذْها عن مثل قتادة، وأبي عمرو بن العلاء

وابنجُعْدبة، ويونس بن حبيب، وأبي عُبيْدة، ومسْلمة بن مُحارب، وأبي عاصم النَّبيل، وأبي عُمر الضَّرير، وخلاَّد بن يزيد الأرقط، ومحمد بن حفص - وهو ابن عائشة الأكبر، وعُبيْد الله بن محمد - وهو ابن عائشة الأصغر، ويأخذها عن أبي اليقْظان سُحيْم بن قادم. فإنَّ

هؤلاء وأشباههم مأمونون، وأصحاب توقٍّ وخوْف من الزوائد، وصوْن لما في أيديهم، وإشفاق على عدالتهم. الحاجة إلى البغال ولما خرج قطر قطريّ بن الفُجاءة، أحبَّ أن يجمع إلى رأيه رأي غيره، فدسَّ إلى الأحْنف بن قيْس رجُلاً، ليُجرى ذكره في مجلسه، ويحفظ عنه ما يقول. فلما فعل قال الأحنف: " أما إنّهم إنْ جنبوا بنات الصَّهَّال، وركبوا بنات النَّهَّاق، وأمسوْا بأرضٍ وأصبحوا بأرضٍ، طال أمرهم ". قالوا: فلا نرى صاحب الحرب يستغني عن البغال، كما لا نرى صاحب السِّلْم يستغني عنها، ونرى صاحب السَّفر فيها كصاحب الحضر. قال الأصمعيّ عن جرير بن حازم عن الزُّبير بن الخرِّيت، عن أبي لبيد - واسمه لمازة بن زبَّار - قال: مرّ بنا زياد في سكَّتنا هذه، وهو على بغلةٍ قد لوى رسنها على عُنقها تحت اللِّجام، ومعه رجُل أو رجلان.

هذا وزياد على العراق أجمع. قال: وتهيَّأ الناس لخالد بن عبد الله مقْدمه من الشام، وركب ابن هُبيْرة بغلته، ووقف له في المضيق. فلما طلع خالد غمز ابن هُبيْرة بغلته غمزةً فإذا ابن هبيرة بينه وبين الذي كان يُسايره، فقال: كيف أنت يا أبا الهيثم؟ وليت منَّا أمراً تولَّى الله أحسنه، ولك منا المكافأة! فقال له خالد: فررْت منيّ فرار العبد! فقال عمر: حين نمْت عن نوم الأمة! فانتهى الخبر إلى هشام، فقال: " قاتله الله "!. حمل البغال للهدايا قالوا: والهدايا النفيسة، والطُّرف العجيبة، والكرامات الثمينة، التي أهدتْها بلْقيس بنت ذي شرْح إلى سليمان بن داود، هي الهدايا التي أخبر

الله عن سليمان بن داود - عليهما السلام - أنه قال: " بل أنتم بهديَّتكم تفرحون ". ولم تكن الملكة تبتهج بتلك الهدايا - وهي إلى سليمان، وسليمان هو الذي أعطاه الله مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده إلاَّ وهي هدايا شريفة. قالوا: فهذه الهدايا الشريفة إنّما كانت على البغال الشُّهْب. إيثار البغال في الركوب وكان ممن يركبها كثيراً إسماعيل بن الأشْعث، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. قال: وقال حوْشب بن يزيد بن رُويْم لعبد الرحمن بن محمد

بن الأشعث: دعْني أهيَّج عليك عمَّك أبا الفضل إسماعيل بن الأشعث. قال: لا تعرِّضْني له، فإنه ضعيف، فأشفقْ عليه. فقال: يا أبا الفضل، إنّ ابن أخيك زعم أنّ بغلتك جلاَّلة. قال: لكنّ بغلته لو أفلتت ما تركتْ بيت زانية ولا بيت خمّار، إلاّ وقفتْ عليه! قال عبد الرحمن: ما كان أغنانا عمَّا أظهرت لنا من ضعْف شيخنا! ولمَّا وفدت عائشة بنت طلْحة على عبد الملك بن مروان، وأرادت الحجّ، حملها وأحشامها على ستِّين بغلاً من بغال الملوك؛ فقال عُروة بن الزُّبيْر: يا عَيْش يا ذات البغال السِّتِّينْ ... أكلَّ عامٍ هكذا تحجِّينْ

وكان مروان أبو السِّمط يركب بغلةً له بالبصرة، لا يكاد يُفارقها. فقال الجمَّاز وهو يهجوه: اجْتمع النَّاس وصاحوا: الحريق ... بباب عُثمان وسوق الرَّقيقْ فجاء مروان على بغْلةٍ ... فأنشد الشِّعْر فأطْفأ الحريق يرمي شعره بالبرْد. وكان حسده حين سمع قائلاً يقول: لم يُصبْ شاعرٌ قطُّ ما أصاب أبو السِّمْط، ولا أصاب حجَّامٌ ما أصاب أبو حرملة. وقد هجاه أيضاً فقال: يا أبا السِّمْط، حزيرا ... ن وتموز وآبُ كنْ لنا منها مُجيراً ... لك في ذاك ثوابُ بشُعيْرٍ يذْهب الحرَّ ويهنْينا الشَّرابُ

وقال ابن سيرين لرجلٍ: ما فعلتْ بغلتُك؟ قال: بعْتُها. قال: ولم؟ قال: لمؤونتها. قال: أفتراها خلَّفت رزقها عندك؟ وذكر يوسف بن خالد السَّمْتيُّ، عن مُجالد، فيما أحسبُ، قال: بال بغلي فتنحَّيْتُ. فقال الشّعْبيّ: ما عليك لو أصابك. قال: وكانت لابن سيرين بغلتان: بغلة لخاصّة نفسه، وبغلة للعاريَّة. وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إنَّ بغلتي قد عجزت، فإن رأيت أن تأمر لي بدابة فافعل. فكتب إليه: " قد فهمت كتابك، وما ذكرت من ضعف بغلتك، وما ذاك إلاّ لقلة تعهُّدك، فتفقَّدْها، وأحْسن القيام عليها. ويرى أمير المؤمنين في ذلك رأيه ".

نوادر وأخبار في البغال ومن النوادر، قال: ادَّعى رجل على الهَيْثم بن مُطهَّر الفأفاء أنه سرق بغلا؛ فقال له الوالي: ما يقول؟ قال: ما أعرف مما يقول شيئاً: قال: أصلحك الله، إنه سكران فاستنكْهه. قال: لأيّ شيءٍ يسْتنكهني؟ آكلْت البغل؟ وقال آخر يهجو رجلاً: يا حابس الرَّوْث في أعْفاج بغْلته ... شُحّاً على الحبِّ من لقْط العصافير وهذا شبيه بقول الشاعر: رأيْت الخُبْز عزَّ لديك حتَّى ... حسبت الخبز في جوِّ السَّحابِ وما روَّحْتنا لتذُبَّ عنَّا ... ولكنْ خِفْت مرْزئة الذُّبابِ وهذا ليس من الهجاء الموجع، وإنما الهجاء ما يكون في الناس مُثْلة. قالوا لحمدان أبي سَهْل اللِّحْيانيّ: علمت أن برْذون صاحب الحبْس

نفق؟ قال: والهفاه! كنت أرجو أن يكسد فيخسر، فإذا هو قد باع وربح. فظنَّ أنَّ قوله: قد نفق، من نفاق السِّلعة. ومثل هذا وليس من ذكر البغال في شيء، ما سمع رجلٌ رجلا يُنشد قوله: وكان أخلاَّئي يقولون مرْحباً ... فلمَّا رأوْني مُعْدماً مات مَرْحبُ فقال: مَرْحبٌ لم يمت، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام! ونظر أبو الحارث جُمَّيْن إلى أتانِ وحْش يُنْزى عليها حمارٌ أهليٌّ، فأنشد: لو بأبانْين جاء يخْطُبُها ... رُمِّل ما أنْف خاطبٍ بدمِ

ونظر إلى برْذوْنٍ يُسْتقى عليه الماء، فأنشد: وما المرْء إلاَّ حيْث يجعل نفسه ... ففي صالح الأعمال نفسك فاجْعلِ هذا لو همْلج لم يصبْه ما أصابه. قالوا: وكان لأبي الحارث بغلٌ قطوف، فلما أعياه استقى عليه الماء؛ فرآه يوماً في الطريق، وعليه مزداة ثقيلة، وهو يمشي تحتها مشياً وطيئاً؛ فقال: لو مشى تحت الخفيف كما يمشي تحت الثقيل، وكان الإنسان أحبَّ إليه من الرَّاوية، ربح هو الكرامة، وربحت أنا الوطاءة! قال: ونظر أعرابيٌّ إلى بغل سقَّاءٍ، وقد تفاجَّ ليبول، فاستحثَّه بالمقْرعة، وقطع عليه البول. فقال الأعرابي: إنّها إحدى الغوائل، قطع الله منك الوتين!. قال إبراهيم بن داحة: كان في طريق الموْصل سكَّة بريد، وبقرب السكَّة مسجد ومُستراحٌ للمسافر، وفي تلك السكَّة بغل لا يُرام

ولا يمانع، وكان إذا انقلت من قيْده وسلْسلته، وقد عاين برْذوْناً أو بغلاً أو فرساً، اغتصبه نفسه، واقتسره اقتسارا، فلا ينزع عنه حتى يكومه، وربما قتله، لعظم جُرْدانه، وإن كان عليه راكبُه صرعه، وربما قتله، حتى جاء شيخٌ أعرابيّ على فرس له أعرابيّ أعجف بادي الحراقيف، حتى نزل عن فرسه على دُكّان ذلك المسجد، وعلّق المخْلاة في رأسه، وحلّ حزامه، وترك عليه سرْجه، وأخذ مِخْلاته، وجاء البغل قد أدلى، يُريد أن يركب فرس الأعرابيّ، فجمع رجليْه، فواتر على جبهة البغل، وعلى حجاج عينيه، فرمحه خمس رمحاتٍ أو ستّاً متواليات، كلَّها يقع حافرا رجليه معاً، فنكص البغل شيئاً يسيراً، ثم عاوده، فنثر على وجهه وحجاج عينيه مثل ذلك العدد، في أسرع من اللَّحظ، وفرس الأعرابيّ في ذلك كلِّه واقفٌ لا يتحلحل، والأعرابي قد ضحك حتى استلقى، فولّى البغل يريد السكَّة، فشدّ عليه فرس الأعرابي من بين يديه، فلحقه الفرس فعضَّضه، وكامه الفرس، ورجع الفرس إلى موضعه، ودخل البغل السكَّة فكبَّروا عليه، ونثروا عليه الرّوث اليابس، وشمت به جميع السّاسة، وافترّوا عليه، فترك البغل ذلك الخُلق. وقال الأعرابيّ وكأنه يخاطب البغل: ظننْت فُريْس الشّيْخ يا بغْل نهزْةً ... فجئْت مُدلاً كالهزبْر تطاولهْ

فولَّيْت مفْلولاً وطابقْت مُذْعناً ... كما طابقتْ للبغل يوماً حلائلهْ قال: وقدَّموا إلى سليمان بن عبد الملك جدْياً سميناً، فقال: لأبي السَّرايا - وكان من مجانين الأعراب - كلْ منْ شحم كليته، فإنه يزيد في الدِّماغ. قال: لو كان الأكل من كُلى الجدي يزيد في الدِّماغ، كان رأس الأمير أعظم من رأس البغل!. وإنما قال الأمير، لأن سليمان كان يومئذٍ وليّ عهد. وقد غلط من زعم أنهم كانوا وضعوا قدّام سليمان جديا، وإنما كان يأكل ملوكهم الحملان، لأنها هناك أطيب ويسمّونها: " العماريس ". ولما قدم عبد الملك بالكوفة، وضعوا بين يديه جدياً، قال: فهلا جعلتموه عمروساً؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، تلك عماريس الشام؛ فأما العراق فجداؤها أطيب وأكرم. وتفاخر ناس بكبر الأيور، وشيخٌ جالسٌ لا يخوض معهم؛ فلما أكثروا قال الشيخ: لو كان كبر الأيور مجداً كان البغل من بني هاشم!

وشهد مزبِّد المديني عند قاضي المدينة بشهادة؛ وكان ذلك القاضي مفرط الحدة، شديد البطش، سريع الطيرة، فقال له القاضي: أعليَّ تجترئ وعندي تشهد؟! جرَّا برجليه وألقياه تحت البغلة! فلما أمعنا به نحو البغلة، التفت إلى القاضي فقال: أصلحك الله، كيف خلقها؟ فضحك وخلّى سبيله. وكان نميلة بن عكاشة النميري متكايساً؛ فدخل دار بلال بن أبي بردة، فرأى ثوراً مجللاً، فقال: سبحان الله! ما أفرهها من بغلة لولا أنّ حوافرها مشقوقة! قالوا: ورأى الطائف باليل شخصاً عظيما قد اخنس عنه، فشدّ نحوه، فإذا حمدوية المخنَّث قد جلس كأنه يخرأ، ولم يكن خراء، وكان قد جلس على روث؛ فقال له: أنت أيَّ شيء تصنع ها هنا هذه الساعة؟ قال: خرجت أخرأ. فنظروا فإذا تحته روثة، قالوا: مالك، صرت بغلاً؟ قال: هذا زيادة عليكم، كل إنسان يخرأ ما يشاء! قال أبو الحسن: نظر جحا إلى رجل بين يديه يسير على بغلة،

فقال للرجل: الطريق يا حمصيّ! فقال الرجل: ما يدريك أني حمصيّ؟ قال: رأيت حر بغلتك، فإذا هو يشبه الحاء، ورأيت فقحتها فرأيتها تشبه الميم، ورأيت ذنبها فإذا هو يشبه الصاد، فقلت: إنك حمصيّ! قالوا: وابتاع عبّاديٌّ بغلاً، فمّر بالحيّ، فقالوا: بارك الله لك! قال: لا تقولوا هكذا. فكيف نقول؟ قال: قولوا: لا بارك الله لك فيه! قالوا: سبحان الله! أيقول هذا أحدٌ لأحدٍ له فيه رأي؟ قال: قولوا كما أقول لكم! قالوا: لا بارك الله لك فيه! قال: وقولوا: وأعضّك ببظر أمك! قالوا: نعم، قال: إن أنا أعرتكموه أبداً! وهذا يشبه حديث سندية الطحانة، وكانت تطحن بالنهار، وتؤدي الغلّة وتخدم أهلهاباليل، فانكسفت الشمس يوماً، فقالت لها مولاتها: اذهبي يا شهدة، أنت حرة لوجه الله! قالت: أليس قد صرت حرة! ثم عدت

من بين يديها، فقامت على باب الدار رافعةً صوتها تقول: من قال لي زانية فهي زانية، من قال لي لصة فهي لصة، من قال لي قوّادة فهي قوّادة. هاتي الآن رحى لك! وأخبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان، قال: وقف الهيثم بن مطهر الفأفاء على باب الخيزران ينتظر رجلا يخرج من عندها، فبعث إليه عمر الكلوذانيّ: قد نهينا أن نجعل ظهور دوابنا

مجالس، فانزل عن ظهر دابتك؛ فالأرض أحمل لثقلك. فقال للرسول: إني أنتظر رجلا قد حان خروجه، فبعث إليه: أن انزل عن دابتك، فإذا خرج صاحبك فاركب والحق به. فقال للرسول: أعلمه أني أعرج، وأنا مع هذا رجل مثقل باللحم، ولا آمن أن يسبقني الرجل سبقاً بعيداً، فلا ألحقه. فرد الرسول، فقال: يقول لك: إنْ أنت نزلت، وإلاّ أنزلناك صاغراً. فقال الهيْثم: قُلْ له: إن كنت إنّما تنظر للبغل، فهو حبيسٌ في سبيل الله؛ إنْ أنزلتني عنه، إنْ أقضمته حبَّة شعيرٍ شهراً، فسلْه الآن: أيُّما أحبُّ إليه: ركوبي له ساعةً، أو حرْمان الشعير شهراً! فلما جاءته الرسالة قال: ويْلكم! هذا شيطان! دعوه في لعنة الله. قال: ونظر إليه جعفر والفضل ابنا يحيى، وهو واقف في ظلّ قصر من قصور الشَّمَّاسيَّة، فنظر إلى شيخ عجيب الخلْقة، وإذا تحته بغلٌ أعجف، يكاد يسقط هُزالاً وضعفا؛ فقالا له: يا شيخ، لولا تعالج بغلك هذا حتّى يعود سميناً فارهاً في أيَّامٍ يسيرة، بأيسر مئونة؟ قال: بأيِّ شيء أُعالجه؟ قال:

تأخذ عشرة أمْناء مسْك وعنْبر، وتعجنها بعشرة أمْناءٍ من بان الغالية، وتطْليه به طليةً واحدة. فتجافي عن سرجه فولَّى وجوههما ظهره، ثم ضرط ضرطةً صُلْبة؛ قالا: ما هذا؟ قال: هذا لكما على الصِّفة، ولو قد أنجع الدَّواء خرينا عليكم!. وحدَّثونا عن هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، قال: كان رجلٌ عيّاب، فأبصر بغلةً تحت شريح، فقال: أبا أميَّة، إنَّ بغلتك لفارهة! قال: إنها إذا ربضتْ لم تقمْ حتى تُبْعث. قال: لا خير فيها إذنْ!. قال أبو الحسن: كان هشامُ بن عبد الملك يوماً على باب يزيد بن عبد الملك ينظر إلى بغالٍ تُعْرض، فنظر إلى بغلٍ منها لم يرَ الناس مثله في تمام خلْق، وطهارة خُلُق، ولين سيرة، وحُسْن صورة، فقال: ما يصنع أمير المؤمنين بهذه الدوابِّ كلِّها؟ لو أن رجلاً اجتزأ بهذا البغل وحده، لكان مكتفياً. قال: فلمّا ولى هشام، اتَّخذ البراذين البُخاريّة، والبغال الفُرْهة؛

فأذْكره رجلٌ ذلك الكلام، فقال: وأنا على الرأي الأول، ولكن تأتينا أشياء نحسد الناس عليها. ما قيل من الشعر في البغال قال: وكان عند محمد بن سليمان رجل مُغفَّل؛ فأنشد رجلٌ رجزاً قيل في عُمر بن هُبيْرة: جاءت به مُعْتجراً ببرُْده ... سفواءُ ترْدي بنسيج وحدِهِ تقْدَحُ قَيْسٌ كُلُّها بزنْدِهِ فقال الشيخ: بأبي هو وأميّ صلى الله عليه وسلم! لأنه ظزَّ حين سمع بذكر البُرْد والبغلة، أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم. وإنما هذا كقول أبي دَهْبل:

تحمِلُهُ النَّاقُة الأدْمَاءُ مُعْتجراً ... بالُرْدِ، كالبَدْر جَلَّى ليلة الظُّلَمِ ومثل قول ابن المَوْلى لجعفر بن سليمان: أوْحشت الجمّاءُ منْ جعْفرِ ... فجانبا عيْنِ أبي مشعرِ لمَّا غدا تحمْلُهُ بَغْلةٌ ... مُعْتجراً كالقمر الأزْهرِ ولمّا قال المدينيّ وهو بالحجاز، وذكر أبا البخْتريّ وهو قاضٍ

ببغداد، وإنما ضرب به المثل، ولم تكن قصيدته موجَّهة إليه، فلما سمع قوله أبو البَخْتَريّ: لو كُنْتَ تَطْلُبُ شأْوَ الكرام ... فعَلْت فعال أبي البَخْتري تتبَّع إخوانه في البلادِ ... فأغْنى المُقلَّ عن المُكْثرِ قال: يا غلام، عليَّ بأربعمائة درهم، وتخْتٍ فيه أربعون ثوباً، وبغلة ناجية. فأعطاه، أو فبعث بها إليه. وقال بعض المُحارفين الفقراء، أو الطِّياب الشعراء: أتُراني أقُولُ يوْماً من الدَّهْرِ لِبعْضِ التِّجارِ أفْسَدْتَ مالي أو تُراني أقولُ: مِنْ أيْنَ جَاءَتْ ... لدوابي بذا الشَّعيرِ جِمالي أوْ تُراني أقُولُ: يا قهْرماني ... لْ غلامي مُوفَّقاً عنْ بِغالي أو تُراني أمُرُّ فوْق رواقٍ ... لي عالٍ في مَجْلسٍ لي عالي أسْرِجوا لي، فَيُسْرجُون دوابي ... فأقُولُ: انزْعوا السُّرُوجَ، بدالي

هذياناً كما ترى وفضولاً ... دائم النُّوك مِنْ عظيم المحالِ ومن هذا الباب قول الآخر: أخيَّ قدْ أوَّب الحجيج وما ... أمْلكُ لا بَغْلةً ولا فرسا الله بيْني وبيْن كلِّ أخٍ ... يقول: اجْدَمْ وقائل: عدسا وقال رجل من بني شيبان، واقترض، فندم بعد أن ركب البغال المقصَّصة بدلاً من النجائب والخيل: بُدِّلْتُ بَعْدَ نجائبي وركائبي ... أعْواد سرج مُقصَّصٍ همْلاجِ ووقعْت في عدسٍ كأنّي لم أزلْ ... شنقاً لقوْلي للنّجائب: عاجِ والله لولا أنْ أُضيَّع غزْوتي ... لرجعْتُ مُنْقلباً لها أدْراجي

وقال الحسن بن هانئ: غنيتُ بمرْكب البرْذونِ حتَّى ... أطاح الكيس إغْلاءُ الشَّعيرِ فحُلْتُ إلى البغال فأعْوزتْني ... وحلْتُ من البغالِ إلى الحميرِ فأعْيتْني الحميرُ فصرْتُ أمْشي ... أُزجِّي المشْي كالرَّجلِ الكسيرِ وما بي، والحميد الله، كسْرٌ ... ولكنْ فقْدُ حُملانِ الأميرِ وقال ربيعة الرَّقِّيُّ: وبلائي أنَّ أُمِّي ... أثقْلتني بإزاري فإذا ما قُمت أمشي ... همَّ خصْري بانبتارِ كلَّ ذا أحملُ وحدي ... أيْن منْ أُمِّي فراري أُمَّتا هذا وربِّي ... حْمل برْذوْنٍ بُخاري أُمَّتا لسْت ببرْذو ... نٍ ولا بغٍل مُكاري

وقال الحكم بن عبْدلٍ: مررْت على بغلٍ تزُفُّك ... كأنَّك ديكٌ مائل الرَّأْسِ أعْورُ تخايلت في جنِّيَّةٍ لتروعنا ... وأنْت إلى وجْهٍ يزينك أفْقر وقال حنظلة بن عرادة: تخيّرْت الملوك فحُطَّ رحْلي ... إلى سلْمٍ ولمْ يُخْط اختياري يقولون اعْتذرْ منْ حُبِّ سلمى ... إذنْ لا يقبلُ الله اعتذاري إذا مرَّت بجسركم بغالي ... فقوموا فانظروا في شأْن داري وقوموا ظالمين فهدِّمُوها ... وألقوا منْ صحيفتكم صغاري وحمل أبو دُفافة بن سعيد بن سلْم دعْبلاً الشاعر على بغل، فوجده - زعم - ذا عيوبٍ فكتب إليه:

حُملْتُ على أعْرجٍ حارنٍ ... فلا للرُّكوبِ ولا للثَّمنْ حملت على زمنٍ شاعراً ... فسوف تُكافأ بشكْرٍ زمن وخرج أبو هرْمة الفراريّ من منزله على بغلةٍ فارهة، فشرب بكلّ ما معه واحتاج، فبادل بالبغلة حمارةً، وقال: خرجْت ببغْلةٍ من عنْد أهْلي ... فجئْت بها وقدْ صارتْ حمارةْ فمنْ يكُ سائلاً عنِّي فإنِّي ... أنا الغاوي خليعُ بني فزارة وبادل محمد بن الحارث قيْنةً ببرذون؛ فألفاه صديقٌ له صلاة الغداة وقد ركبه، فقال: عُجْتُ بالسَّاباطِ يوماً ... فإذا القيْنة تُلجمْ قيْنةٌ كانتْ تُغنِّي ... مُسختْ برْذوْناً ادهمْ وقال الآخر: يا فتْحُ لو كنْت ذاخزٍّ أُجرِّره ... تحْتي سليم الشَّظا منْ نسْل حلاّبِ

أو كنت ذا بغْلةٍ سفْواء ناجيةٍ ... وشاكريَّين لم أُحبسْ عن البابِ أزْري بنا أنَّنا قلَّتْ دراهمنا ... والفقرُ يُزْري بآدابٍ وأحسْابِ وقال أبو العتاهية في عبد الله بن معْن بن زائدة: أُخْت بني شيبْان مرَّتْ بنا ... ممْشوطةً كوْراً أبا بغْلِ تُكْنى أبا الفضْلِ فيا من رأى ... جاريةً تُكنى أبا الفضلِ وأشعار ذكروا فيها البغال بالتهجين، ولم يقصدوا إلى أعضائها بشيء، ومنها ما أرادوا بها من تحياز ركوبها، قال بعضهم في هجاء الموالي: تأمَّلتُ أسْواق العراق فلمْ أجدْ ... دكاكينها إلاّ عليها المواليا جلوساً عليها ينفضون لحاهم ... كما نفضت عُجْفُ البغالِ المخاليا وقال طارق بن أُثال الطائي: ما إنْ يزالُ ببغدادٍ يُزاحمنا ... على البراذين أمثْال البراذينِ

أعطاهم الله أموالاً ومنْزلةً ... من الملوك بلا عقْلٍ ولا دينِ ما شِئت منْ بغْلةٍ سفواء ناجيةٍ ... ومنْ ثيابٍ وقوْلٍ غيْر موزونٍ وقال بعضهم في تشبيه الشيء بالشيء، وهذا شعر ينبغي أن يُحفظ: وهيَّجَ صوْت النَّاعجات عشيَّةً ... نوائح أمثال البغالِ النَّافرِ يمخِّطْنَ أطراف الأنُوف حواسراً ... يُظاهرْن بالسَّوءات هُدل المشافرِ بكى الشَّجْو ما دون اللَّهى من حُلُوقها ... ولمْ يبْكِ شجْواً ما وراء الحناجرِ وما سمعنا في صفة النوائح المستأجرات، وفي اللواتي ينتحلن الحزن وهنَّ خليَّات بالٍ، بأحسن من هذا الشعر. وها هنا باب من الشعر حسن، وليس من هذا بعينه، ولكنه قد يُشاكله من باب. قال الشاعر: ألا لا يُبالي البُرْدُ منْ جرَّ فضْله ... كما لا تُبالي مُهْرةٌ منْ يقودها وقال آخر: لا يحفْلُ البُردُ منْ أبْلى حواشيهُ ... ولا تُبالي على من راحت الإبلُ

وقال آخر: أهينوا مطاياكمْ فإنِّي رأيْتُهُ ... يهون على البرْذوْن موْت الفتى النَّدْبِ وقال آخر: وإنِّي لأرثي للكريم إذا غدا ... إلى طمعٍ عندَ اللَّئيم يُطالبُهْ وأرْثي له منْ مجْلسٍ عند بابه ... كمرْثيتي للطِّرْفِ والعْلجُ راكبهْ وقال مُسلم بن الوليد في برذون ابن أبي أُميَّة: قلْ لابنِ أُميٍّ: لا تكن جازعاً ... لا يرْجع البرذون باللَّيتِ

طأْمن منْ جأْشك فقدانه ... وكنت فيه عالي الصَّوْتِ وكنت لا تنْزل عن ظهْره ... ولو من الحشِّ إلى البيتِ ما مات منْ سُقمٍ ولكنَّه ... مات من الشَّوق إلى الموتِ وأنشد: بكيتْ عيْني لبرْذوْني السَّمنْدي ... بُكاء أخي مُحافظةٍ ووُدِّ وكان لنا حمولة كلِّ زقٍّ ... وكان لكلِّ سكبان مؤدِّي

طبائع البغال وما قيل فيها قال: ركب صخْر بن عثمان بغلاً، ليبكِّر عليه في حاجة، فقال له عثمان بن الحكم، وهو سيِّد ثقيف في عصره: إن كنت تركبه على أنه عدوٌّ فاركبه، وإلا فدعْه. وقال أبو الحسيْن النّخَّاس - واسمه الحارث، وهو الذي يقال له مؤمن آل فرعون - إنما يجمح البرذون ليصرع راكبه فقط، ألا تراه إذا سقط عنه، أو رمى بنفسه عن ظهره، وقف البرذون؛ إلاّ برذوناً واحداً، فأتّى رأيته شدَّ عليه بعد أن ألقاه، يكدمه ويرمحه، وكان الناس يُشدُّون عليه، فيتنحّى عنه ويشُدّ عليهم، فإذا أجفلوا من بين يديه رجع إليه يكدمه ويرمحه. وقال من يذمّ البغال: البغل كثير التلوُّن، به يُضرب المثل، وهو مع هذا قتَّالٌ لصاحبه. قال ابن حازم الباهليّ:

ما لي رأيْتك لا تدو ... م على المودّة للرِّجالِ مُتبرِّماً أبداً بمنْ ... آخيْت، وُدُّك في سفالِ خُلق جديدٌ كلَّ بوْ ... مٍ مثْلُ أخلاق البغالِ وقال آخر في تلوِّن أخلاقه: ومتى سبرْت أبا العلاء وجدْته ... متلوِّناً كتلوُّن البغلِ قال آخر: يزيد تزْري به عنْدي سجيَّتُهُ ... كالبغْلِ، لا شاعرٌ فحْلٌ ولا راوي وقال عثمان بن الحكم: كان عندنا في الحيّ فتىً ولدتْهُ امرأة مذكَّرة، لرجل مؤنَّث: فما رأيت ولا سمعت بخُلق رديٍّ من أخلاق البغال، إلاّ وقد رأيته فيه. وقال آخر: الشُّؤْمُ منْها في ذوات الحجْلِ ... وغُرَّةٍ تصْدعُ جمعَ الشَّمْلِ

وهو خلافُ الفرسِ الهبلِّ ... وكلِّ طرْفٍ ذائلٍ رفلِّ قدْ حذر الناس أذاه قبْلي ... وعدّدوا كلّ قتيل بغلِ من ناشئٍ غرٍّ وكهْلٍ جزْلِ ... وسائسٍ ورائضٍ مُدلِّ وكلُّهمْ قال بقوْلٍ عدْلِ ... وليس يُحصى عيبه ذو عقلِ إلاَّ الّذي يعْلم عدَّ الرَّملِ ... منهم أبو الفضل أخي وشكلي مُجرَّحُ الوجْهِ كسير الرِّجلِ ... ومزْيدٌ وجابر المُسْتمْلي كان مَعْبد بن أخضر المازنيّ - وهو أخو عبَّاد بن أخضر قاتل أبي بلال الخارجي - عند سعيد بن عبد الرحمن بن عتَّاب، فخرج

من عنده يوماً على بغل فصرعه، وكسر سرجه، فركبه عُرْياً، وانصرف إلى أهله، فقال: أما والله يا بن أبي سعيد ... جزاك الله شرّاً منْ عميدِ فلو في دار طلْحة دُقَّ سرْجي ... لأدَّاني على سرْجٍ جديدِ فبعث إليه طلحة بسرجٍ. وأما ربيعة بن أبي الصَّلْت، فقتله بغلٌ على باب عبد الله بن عبَّاس. ومن ولده كلدة بن ربيعة، وكان شريفاً شاعراً. وممَّن قتلتْه بغلته، خالد بن عثمان بن عفّان، رضي الله عنه؛ وذاك أن

خالداً كان بالسُّقْيا، فقال: هذا يوم الجمعة، لئن لم أُجمِّع مع أمير المؤمنين إنها للسَّوْءة السُّوءى! فركب بغلةً له لا تُساير، فسار سبعين ميلاً، فأتى المدينة في وقت الصلاة: فخرَّ ميِّتاً، ونجت البغلة. وممن قتلته البغال، المُنْذر بن الزُّبير، وكان يُكنى أبا عثمان؛ حمل على أهل الشام وهو على بغلةٍ ورْدةٍ، بعد أن ألحَّ عليه عبد الله بن الزُّبير يذْمُره؛ فلما سمعت البغلة قعْقعة السِّلاح نفرت، فتوقَّلتْ به في الجبل، حتى أخرجتْه من حدود أصحابه؛ فاتَّبعه أهل الشام؛ فناداه عبد الله: انجُ أبا عثمان، فداك أبي وأمِّي! فعثرت البغلة، ولحقه أهلُ الشام، فقتلوه.

ولذلك قال يزيد بن مُفرِّغ في هجائه لعبيد الله بن زياد: لابن الزُّبير غداة يذْمُرُ منْذراً ... أولى بغاية كلِّ يوْمِ دفاعِ وأحقُّ بالصَّبْرِ الجميلِ من امْرئٍ ... كزٍّ أنامله قصير الباعِ قال: وأردف عبَّاساً المشوق الشاعر، بعض الفتيان خلفه على بغلة له، ووعده أن يهب له ويكسوه، وحرن البغل، فسقط الرجل فاندقَّت فخذاه، فقال المشوق: ليت ما أمْسى برجْليْك برجلي وبكفِّي ليس للبغْلة ذنْبٌ ... إنمَّا الذّنْبُ لحُرْفي وممن صرعته بغلته: البرْدخت الشاعر، واسمه عليّ بن خالد

وهو الذي كان هجا بن جرير بن عطيَّة، فقال جرير: من هذا الهاجي؟ قالوا: البردخت. قال: وأيّ شيءٍ البردخت؟ قالوا: الفارغ؟ قال: فلست أوّل من صيَّر لهذا شُغلاً. وكان زيْدٌ الضبّيّ هو الذي حمله على ذلك البغل الذي صرعه، فقال: أقول للبغل لمَّا كاد يقْتلني ... لا بارك الله في زيْدٍ وما وهبا أعطاني الحتْف لمّا جئْت سائله ... وأمسك الفضَّة البيضاء والذَّهبا وهو الذي كان هجا زيداً بأنه حديث الغنى، وأتاه وهو أمير في يوم حفله، فقال: ولسْتُ مُسلِّماً ما دُمْتُ حيّاً ... على زيْدٍ بتسْليمِ الأميرِ فقال زيد: لا أُبالي والله! فقال هو: أتذْكُرُ إذْ لحافُك جلْدُ شاةٍ ... وإذْ نعْلاك منْ جلْدِ البعيرِ قال: إي والله! قال: فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير قال زيد: نعم، سبحانه! فخرج وعليه فضل. قالوا: ونفر بغلٌ كان تحت محمد بن هارون، أخي سهل بن هارون

البليغ الكاتب الشاعر. قالوا: وإنما كان البغل ارتد فزعاً، فقطع من جوفه بعض العلائق، فمات على ظهره، في وسط مربعة باب عثمان نهاراً. وقد تصدم الدابة، فيموت الراكبان والمركوبان. الوقوع على البغال وخبرني سعيد بن أبي مالك أن غلاماً كان لبعض أهل القطيعة ينيك بغلةً لمولاه؛ وأنها في بعض الأيام وقد أدعم فيها، فاستزادته، فتأخرت وتأخَّر، حتى أسندتْه إلى زاوية من الإصْطبل، فضغطته حتى مات. ودخل بعض الغلمان لبعض الحوائج، فرأى الباب عليهما مُغلقاً، فنادى باسم الغلام فلم يُجبْه؛ فقلع الباب، فإذا الغلام مُسند إلى الزاوية وقد مات، وهي تضغطه، فصاح فتنحَّت وسقط الغلام ميِّتاً. ويقولون: إنها تفضح السائس الذي يكومُها، لأنها تتلمَّظ إذا عاينْته، ولا تفعل ذلك بغيره، فهي إمّا أن تقتل، وإمّا أن تفضح. وأنشدوا لقيس بن يزيد، في هجائه ابن أبي سبْرة حين رماه بنيْك بغلته، قال:

نُبِّئْتُ بغْلتك الَّتي أتْلدْتها ... لا تسْتقرُّ لديك ما لمْ تُسْفدِ تدْنو بمؤْخرها إليك إذا رأتْ ... أنْ قدْ علوْت لها جدار المذْودِ قالوا: ولما أخذ فتْيانٌ من فتيان بني كُليْبٍ الفرزدق، وأتوه بأتانٍ، وقالوا: والله لتنزُونَّ عليها، كما رميت بذلك عطيَّة بن الخطفي، أو لنقتلنَّك! قال: إن كان فهاتوا الصخرة التي كان يقوم عليها إذا ناكها، حتى أنا لها! فضحكوا جميعاً من ظرْفه، وخلَّوْا سبيله. من قتلته البغال وممن قتلته البغال: زيد بن حُلْقٍ الرَّائض، وولد حُلْق معروفون عندنا بالبصرة. وممن قتلت البغال: محمد بن سعيد بن حازم المازنيّ، وعمرو بن هدّاب أحد عمومته، قتله بغلٌ بتُسْتر. ومات المهلَّب بن أبي صُفرة على ظهر دابته بالطَّالقان.

ومات إياس بن هُبيرة العبْشميّ صاحب الحمالة، على ظهر حمار. ولم يمتْ على ظهر حمارٍ كريمٌ. صرع البغال وكانت بغلة أعْين المتطبِّب تُصْرع، وكان أعين يُصرع، فصُر عامرَّةً معاً قُبالة دور بني السَّمْهري، فقام رجالٌ منهم فأدخلوه الدار، فنوَّموه على فراش، ووكَّلوا بالبغلة من أدخلها الإصطبل، فلمَّا أفاق وفتح عينيه أنكر موضعه، فقالوا: إنما أنت في دار بني السَّمْهريّ وهم اخوتك وأهلك. فقال: كيف أشكركم وأنتم أعدُّ وأيسر؟ ولكن أُعلِّمكم بعض ما لا غنى بكم عنه: إذا أتى أحدكم الغائط فليمتسح بشقق القصب، فإنّه إن كان هناك شيء من هذه الأورام حلقه واستأصله على الأيام، وإن لم يكن هناك شيء لم تعرض له هذه العلَّة ما دام يستعمل القصب. وإن خرجتْ على أحدٍ منكم بثْرة فلا يحكَّها، وإن دغْدغته ووجد فيها أُكالاً، فإنَّ ذلك الحكَّ ربّما أنفر ذلك المكان، وجذب إلى مكانه من الفساد ما يصير به بثرة، فإنْ حكّ البثرة فربما صارت خُراجاً. وقال لي كمْ شئت من أصحاب القصب والبواري: نحن لا تعترينا البواسير؛ لطول قعودنا على القصب والبواري.

ذكر الانتفاع بالبغال في البرد في الجاهليّة والإسلام، وتعرُّف حقائق الأخبار، وأنّها آلة من آلات السلطان عظيمة، ولا بدَّ للسلطان والملوك من تعرُّف الأخبار. قيل لشيخ ذي تجربة: ما أذهب مُلك بني مروان؟ قال: ما زال ملكهم قائما حتى عميتْ عليهم الأخبار. وذلك أن نصْر بن سيّار، كان صاحب خراسان، قبل خروج أبي مُسلم وقوَّة أمره، إلى أن قوي عليه حتى هرب منه. وذلك أنه، وإن كان والياً لأربعة خلفاء، فإنه كان مأموراً بمكاتبة صاحب العراق، وإن كان صاحب العراق لا يقدر على عزله، وقد كان يزيد بن عُمر يخاف أن يُولَّى مكانه نصر بن سيّار، أو مسْور بن عمرو بن عباد، فاحتال لمسْور، ولم تمكنه الحيلة في نصر، فكان إذا كتب

إليه بالرأي الذي يحسم به من أسباب قوّة المسوِّدة، كتب بذلك إلى يزيد، فكان يزيد لا يرفع خبره ولا يمدّه بالرجال، طمعاً في أن يُهزْم أو يُقتل، ونسى يزيد أن غلبة أبي مُسلم على خراسان، سببٌ لغلبته على الجبال، وإذا استحكم له ذلك، لم يكن له همّة إلا صاحب العراق. فلما طوى أخبار نصر، سدَّ وجه الرأي والتدبير على مروان، حتى كان الذي كان. قالوا: ولما بلغ المأمون اختلاطٌ من حال البريد، وجّه ثُمامة بن أشرس، ليتعرَّف له ذلك. فلما رجع إليه وسأله، قال: يا أمير المؤمنين، تركت بغلاً على مِعْلف كذا وكذا وهو يقرأ: " وما من دابَّةٍ في الأرض إلاَّ على الله رزْقها ". ومررت بسكّة أُخرى، فإذا بغلٌ قد عدا على رجل عليه طيْلسانٌ أخضر، يظنّه حُزْمة علف، فعدا الرجل وعدا خلفه البغل، فصحْت بالرجل: اطرح الطيلسان! فلما طرحه وقف البغل يشمّه. ومررت بسكَّة أخرى، وإذا على المعْلف بغلٌ، وإذا هو يغنِّي: ولقدْ أبيت على الطَّوى وأظلُّهُ ... حتَّى أنال به كريم المأكلِ

ما قيل في البريد وبغاله ومما قالوا في شأن البريد وأصحابه، قول ابن أبي أُميَّة: إنَّ ابن شاهك قدْ ولَّيته عملاً ... أضحى وحقَّك عنه وهو مشْغولُ بسكَّةٍ أحدثت ليستْ بشارعةٍ ... من دونها غيْضةٌ في وسطها غيلُ ترى فرانقها في الرَّكض مُنْدفعا ... تجْري خريطته والبغل مشْكولُ وقال دعْبلٌ في بعض رجال العسكر، ممن كان ولي البريد: ألا أبْلغا عنِّي الإمام رسالةً ... رسالة ناءٍ عنْ جنابك شاحطِ بأنَّ ابْنَ زيْدٍ حين يشحجُ شاحجٌ ... يُمرُّ على القرْطاس أقْلام غالطِ أحبَّ بغال البُرْدِ حُبّاً مُداخلاً ... يُكلِّفُه إثْباتها في الشَّرائط ولولا أمير المؤمنين لأصْبحتْ ... أُيٌورٌ بغال البُرْدِ حشْو الخرائطِ وقال دعْبلٌ أيضاً: من مُبْلغٌ عنِّي إمام الهُدى ... قافيةً للعرْضِ هتَّاكَةْ

لهذا جناحُ المُسْلمين الَّذي ... قدْ قصَّه بولْيك الحاكَةْ أضحتْ بغالُ البرْدِ منظومةً ... إلى ابن زيدٍ تحمل النَّاكَةْ وذكر الفرزدق في مرثية وكيع بن أبي سُود البُردَ، فقال: لتبْك وكيعاً خيْلٍ مُغيرةٌ ... تساقي المنايا بالرُّ ديْنيَّةِ السُّمْر لقوا مثْلهم فاسْتهزموهم بدعوةٍ ... دعوْها وكيعاً والجياد بهم تجري وبين الَّذي يدعو وكيعاً وبينه ... مسيرة شهْرٍ للمُقصَّصة البُتْرِ وقال ابن المُعذَّل في جاريةٍ لبعض ولد سعيد بن سلْم، وقد ولى البريد:

دهتْك بعلَّةِ الحْمَّامِ فوزٌ ... ومال بها الرَّسول إلى سعيدِ أرى أخبْار دارك عنك تخْفى ... فكيْف وليت أخبار البريد ولمّا فخّم ابن غسطة عظيم الروم شأن مُلكه، ثم قال للرسول: هل عندكم بعض ما تُعارضوني به؟ قال: نعم، لملكنا أربعون ألف بغل موقوفة على إبلاغ رسائله وأخباره، من واسطة مُلكه إلى أقطار سلطانه. فأفحمه. يعني بغال البريد. قال هذا وحال البُرُد على غير هذه الحال، ولم يعرفوا توجيه الخرائط في الماء، وعلى أيدي الرجال. وابن غسطة هو الذي ذكره سلْم الخاسر في قصيدته التي مدح فيها الرَّشيد، قال:

منع ابن غسطة رأْسَهُ بخراجه ... ولقد يكون وما عليه خراجُ قالوا: ولمّا رأى نصرٌ أنّ يزيد بن عُمر يُميت أخباره، ليموت ذكره عند الخليفة كتب إليه: أبلغ يزيد وخيْرُ القوْل أصدقه ... وقد علمت بأنْ لا خيْر في الكذبِ

وكنب إليه: أرى تحت الرَّماد وميض نارٍ ... فيوشك أنْ يكون لها ضرامُ فإنّ النَّار بالعُوديْن تُذْكى ... وإنَّ الحرب أوَّلها الكلامُ فقلتُ تعجُّباً: يا ليت شعْري ... أأيقاظٌ أُميَّةُ أمْ نيامُ حدثني عليّ بن المديني، قال: كان يزيد بن زُريْع إذا سمع

أصحاب الحديث يخوضون في أبي حنيفة، وفي كيف عظُم شأنه بعد خموله، قال: هيهات! طارت بفتياه البغال الشُّهْب!. قالوا: ووجَّه معاوية لما كلّموه في يزيد بن ربيعة بن مفرِّغ رجلا مجرَّداً، لإخراجه من السجن، فخرج حتى أتى سجسْتان فأخرجه، فبلغ ذلك عبَّاد بن زياد، فأرسل إلى حمْحام، فلما رأى عهد معاوية كفَّ، وأقبل حمْحام بابن مفرِّغ على بغلةٍ من بغال البريد، وأنشأ ابن مفرِّغ يقول:

عدَسْ ما لعبَّادٍ عليْك إمارةٌ ... نجوْت وهذا تحمْلين طليقُ طليقُ الَّذي نجَّى من الكرْبِ بعد ما ... تلاحم في درْبٍ عليك مضيقُ قولهم للبغلة عدس قوله: " عدس ما لعبّاد عليك إمارة "، فزعم ناس أن " عدس " اسم لكلّ بغلة كمن، وذهبوا إلى قول الشاعر: إذا حملت بزَّتي على عدسْ ... على التي بين الحمار والفرسْ فما أُبالي من غزا ومن جلسْ قالوا: وإنما قوله " عدس " على مثل قول خالد بن صفوان حين فاخر اليمانية، وقال: " والله ما منهم إلاّ ناسجُ بُرد، أو سائس قرد، أو دابغ جلد، أو راكبُ عرد، غرَّقتْهم فأرة، وملكتهم امرأة، ودلَّ عليهم هُدْهُد "..

وقال آخرون: قولهم: " عدس " للبغلة مثل قولهم: " سأسأ " للحمار، و " حا " للجمل، و " حل " للناقة. ألا تراه حين سخر الأعرابيّ من صاحبه، وحين جهَّله قال: يقول للنَّاقة قولاً للجمل ... يقول حا ثمَّ يثنِّيه بحلْ قالوا: إلا ترون أن الفرزدق لما خلع لجام بغلته، وأشرعها في ثغاب مسجد بني أُسيِّد، قال له جرنْفشٌ المجنون: نحِّ بغلتك، جدَّ الله ساقيْك! قال الفرزدق: ولم عافاك الله؟ قال: لأنك زاني الكمرة،

كذوب اللسان. فلما سمع ذلك منه ركب بغلته، وقال: عدس، كما يقال للفرس " اجدم "، وللثور: " وحْ ". أشعار في البريد وقد ذكر امرؤ القيس البريد، فقال: ونادمت قيْصر في ملكه ... فأوْجهني وركبْت البريدا إذا ما ازْدحمنا على سكَّةٍ ... سبقت الفرانق سبْقاً بعيدا ومما قالوا في البريد، قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك: طال ليْلي وبتُّ أُسْقى المداما ... إذْ أتاني البريدُ ينعي هشاما

وأتاني بحُلَّةٍ وقضيبٍ ... وأتاني بخاتمٍ ثمَّ قاما وذكر البريد الكُميْت في مديح أسماء بن خارجة، فقال: إذا ما مات أسماء بن حصنٍ ... فلا مطرتْ على الأرض السَّماءُ ولا قام البريد بغنم جيشٍ ... ولا حملتْ على الطُّهر النِّساءُ فيومٌ منْك خيرٌمن رجالٍ ... يروح عليهم نعمٌ وشاءُ

وقال أيمن بن خُريمٍ الأسديّ: ركبت من المقطَّم في جمادى ... إلى بشرِ بن مروان البريدا فلو أعطاك بشرٌ ألف ألفٍ ... رأى حقَّاً عليه أنْ يزيدا وقال آخر: إذا ما بريد الشام أقبل نحونا ... ببعض دواهي الدهر سار فأسرعا فإن كان شرّاً سار يوماً وليلة ... وإن كان خيراً قصد السير أربعا

رؤيا البغال وتأويلها سمعت أبا شعبة الأعمى المعبر، ونحن بالنهروان، سنة قدم الحسن بن سهل، وهو يقول لمويس بن عمران: اذكر لإخوانك هؤلاء رؤياك، وتعبيري لها. قال: نعم، قلتُ لك: رأيت فيما يرى النائم كأنِّي على بغل بريدٍ، فقلت لي: تحمُّ يومين وثُلُثي يوم، فكان كما قلت؛ فسألتك عن العلّة، فقلت: لأن تشريف ذنب البغلة تشريفتان وثلثا تشريفة. وقال الأصمعيّ: أرسل الحجّاج إلى الجرْميّ المعبِّر، يسأله عن رجل رأى كأنّه على بغلة، وكأنّه على شرف، وكأنه يستفُّ تُراباً، فقال له: أما البغل فطول عُمُر، وأما الشرف فشرفٌ من شرف الدنيا، وأما التُّرابُ ففيْءٌ تأْكله. وقالوا: وسأل بعض المصريِّين الفرّاء المعبّر، فقال: رأيت كأنّ معي درهماً بغلْيّاً. قال: لست تمُسي حتى تأكل شيئاً طيّباً. فكان كذلك.

ثم أتاه بعد أيّام، فقال: رأيت فيما يرى النائم كأنَّ معي درهماً بخيّاً. قال: لست تُمسي حتى تُضرب ضرباً وجيعاً! فكان كذلك. فسأله عن العلّة، فقال: الدرهم البغليّ مكتوب عليه بالفارسيّة: " خُشْ بخُرْ " ترجمة

هذه الكلمة: " كلْ طيِّباً ". والدَّرهم البخيّ مكتوب عليه: " ضُرب هذا الدرهم ". وهما مختلفان. وأنشد الحكم بن عبْدلٍ أسماء بن خارجة شعراً ذكر فيه أنه رآه في المنام، فقال: أغْفَيْتُ قبْل الصُّبح نوم مُسهَّدٍ ... في ساعةٍ ما كُنت قبلُ أنامُها فرأيت أنَّك رُعتني بوليدةٍ ... مغنوجةٍ حسنٍ عليَّ قيامُها وببدْرةٍ حُملتْ إليَّ وبغلةٍ ... شهباء ناجيةٍ يصلُّ لجامُها فدعوت ربيِّ أنْ يثيبك جنَّةً ... عوضاً يُصيبك برْدها وسلامُها قال أسماء: كلّ ما رأيته في النوم فهو عندنا كما رأيت، إلاّ البغلة فإنَّها دهماء! قال: أعتق ما أملك إن كان رآها إلاّ دهماء، ولكنّه غلط.

استطراد لغوي يتعلق بالبغال ومما اشتقَّ من اسم البغل: " الدرهم البغليّ ". وفي بني تغْلب " رأس البغل " وهو رئيس من رؤسائهم، وهو الذي كان إبراهيم بن هانئ الخليع نُسب إليه. وإذا كان الإنسان عظيم الرأس لقَّبوه: " رأس البغل ". والبغلات: جوارٍ من رقيق مصر، نتاج ما بين الصَّقالبة وجنس آخر، والواحدة منهنَّ يقال لها: " البغلة "، ولهنَّ أبدان ووثارة وحدارة.

معنى البغلة عند المصريين ويُروى عن بعض العراقيِّين، قال: كنت عند قاضي مصر، وهو يقول لبعض جُلسائه: عندي جارية أطؤُها منذ حين، وقد اعتراني شبق، وأنا على أن أشتري بغلة. قلت: وما تصنع ببغلة؟ قال: أطؤها، وأُصيبُ منها. فقلت في نفسي: هذا أمْجن الناس وأحمقهم، يتكلم بهذا وهو قاضٍ؟! ثم حكيت ذلك عند رجل من أهل مصر، فقال: عافاك الله، ما منّا من أحدٍ إلاّ وعنده بغلات ينيكهنّ! فتعجَّبت، فلما رأى إنكاري ذلك، فسَّر لي معنى البغلة عندهم. ما قيل من الأمثال في البغال قالوا: وإذا عظمت المرأة، وعظم بطنها، قالوا: " ما هي إلاّّ بغلة "، وما رأْس فلان إلاَّ رأس بغل، وما أيره إلاَّ أير بغل، وما خُلُقه إلاَّ من أخلاق البغال. بعض ما أضيف إلى الرأس والمثل السائر: " كأنه جاء برأس خاقان "، " ورأس الجالوت "، "

ورأس الفاعوس "، " ورأس الكتيبة والقبيلة ". فلذلك قال عمرو بن كُلثوم: برأْسٍ منْ بني جشم بن بكرٍ ... ندُقُّ به السُّهُولة والحزُونا وقال أبو المهوِّش الأسديّ: تراه يطوِّف الآفاق حرْصاً ... ليأكل رأس لقْمان بن عادِ ورأس بن أبي الرأس القائد، مشهورٌ معروف. ويقولون: " هذا على رأس الثُّمام ".

وبالشَّام موضع يقال له: " بيت رأسٍ " تباع فيه الخمر؛ ولذلك قال الشاعر: مُجاجة كرمةٍ من بيت رأْسِ وبيت رأس بالشام مثل....أبيات، وبيت لهيْا. ويقال: فلان رأس من الرءوس. والرأس: رئيس السُّوَّاس. التبغيل ومن سير الإبل سيرٌ يُسمَّى: " التبغيل "، قال الراعي: وإذا ترقَّصت المفاوز غادرت ... ربذاً يبغِّل خلْفها تبغيلا

والبغيْلة: اسم ناقةٍ كانت لجميل بن معْمر، ولذلك قال: أضرَّ بأخْفافِ البغيْلة أنَّها ... حذار ابن ربْعيّ بهنَّ تحومُ ولذلك قال الرَّقاشيّ في صفة ناقةٍ له تسمّى " سرْوة ": لعمْرك ما البغيْلة حين تغْدو ... وصيْدح حين تسْرح في الرِّحابِ كسرْوة حين تذْرع عرْض خرْقٍ ... بعيدِ الآل مُشتبه الظِّرابِ

مما قالوا في البريد، قال رجل من الأنصار عند ولاية عُمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: ثمَّ جاء البريدُ يُخْبرُ أنَّ القوم طرّاً لم يُحرموا التوْفيقا من سكونٍ وأُلْفةٍ واجتماعٍ ... لم يفارقْ منهم فريقٌ فريقا قلَّدوا الأمر سيِّد النَّاس كلِّ النَّاسِ نفساً وأُسرةً وعروقا من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جدُّهُ الفاروقا وقال ابن أُذينة اللَّيثيّ:

أتانا البريد التَّغلبيُّ فراعنا ... له خبرٌ شفَّ الفؤاد فأنعما بموت أبي حفصٍ فلا آب راكبٌ ... بموت أبي حفصٍ أخبَّ وأرْسما وذكر يزيد بن معاوية البريد، فقال: جاء البريدُ بقرْطاسٍ يخُبُّ به ... فأوْجس القلبُ من قرْطاسه فزعا قلنا: لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا: الخليفةُ أمسى مُدنفاً وجعا فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنَّ أغبر من أركانها انقلعا

ضروب من البغال وقد كان أيضاً بالكوفة نتاجٌ بين الخُراسانية والهنديّات، وكان أملح وأحسن قدوداً من البغلات اللواتي بمصر؛ وكانت ألوانهنّ تجيء ذهبيّة، لها حلاوة الهندية، وروعة الخراسانية. جواري الكوفة والبصرة وكذلك مُطهِّمات جواري الكوفة، زُرقاً تجدهنَّ، إلاّ الواحدة بعد الواحدة، وإنَّما الثمينات المرتفعات، والغوالي الخطيرات بصريّاتٌ، مثل عجوز عُمير، ومتيَّم، وبذل، وعريب،

وبذْل: جارية المراكبيّ، وشارية: جارية إبراهيم بن المهْدي، وزرْياب الكبْرى، وعساليج: جارية الأحدب، وفضْل:

جارية العبديّ. وقبل هذا سلسل وأشباه سلسل. أخبار في البريد وبُرُد كُتب الملوك كانت ما بين فرْغانة القُصْيا إلى السُّوس الأقصى، وكانت البُرُد منظومة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قُتل مسروقٌ عظيم الحبشة. وكذلك كان عظيم الروم. قال امرؤ القيس:

ونادمت قيصر في ملكه ... فأوْجهني وركبْت البريدا إذا ما ازدحمنا على سكَّةٍ ... سبقت الفرانق سبقاً بعيدا وكذلك كانت بُرُد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان وإلى آبائه. وكذلك كانت بُرُده إلى البحريْن: إلى المُكعبر مرزبان الزَّارة، وإلى مشكاب، وإلى المُنْذر بن ساوى، وكذلك كانت بُرده إلى عُمان، إلى الجُلندي

ابن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببُرُده، إلاّ ما كان من ناحية الشام؛ فإنَّ تلك الناحية من مملكة خثعم وغسَّان إلى الروم، إلاّ أيّام غلبت فارس على الروم. ولذلك صرنا نرى النواويس بالشَّامات إلى قُسطنطينية. وهل كانت بُرُد كسرى إلى وهرز، وباذام، وفيروز بن الدَّيْلميّ، وإلى اليمن، وإلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى النُّعمان بالحيرة، إلاّ البغال؟ وهل وجدوا شيئاً لذلك أصلح منها؟

ما قيل من الشعر في البغال ومما ذكروا به شأن البغال في الشعر وغيره، قول الشاعر: جعل ابن حزْمٍ حاجبين لبابه ... سبحان من جعل ابن حزْمٍ يُحجبُ وعجبت أنْ ركب ابن حزْمٍ بغلةٍ ... وركوبه فوق المنابر أعجبُ وقال أعشى همدان، في خالد بن عتَّاب بن ورقاء وكنية خالد أبو سليمان، اكتنى بكنية خالد بن الوليد، فقال:

تُمنِّيني إمارتها تميمٌ ... وما أمِّي بأمِّ بني تميمِ وكان أبو سليمانٍ خليلي ... ولكنَّ الشِّراك من الأديمِ أتينا أصْبهان فهزَّلتنا ... وكُنَّا قبل ذلك في نعيمِ أتذكرنا ومرَّة إذْ غزونا ... وأنت على بُغيْلك ذي الوشومِ ويركب رأسه في كلِّ وهْدٍ ... ويعثُرُ في الطَّريق المستقيمِ وليس عليك إلاَّ طيلسانٌ ... نصيبيٌّ وإلاَّ سحقُ نيمِ

بغلة عكرمة وكان عكرمة بن ربعيّ التَّيمي، الذي يقال له " الفيّاض "، يُعجب ببغلة عنده، وكان على شُرط الحجَّاج، وكان لا يأتي الحجَّاج في موكبا مع الأشراط والوجوه إلاّ عليها، وفيها يقول عكرمة: لمْ أرَ شيْئاً بين شيْئين مثْله ... أشدَّ انتزاعاً للتَّشابه في الأصْلِ تقسَّمه أطرافُهُ فاستزالها ... بقسمة عدلٍ من يدي حكمٍ عدلِ وأنشد أبو زيدٍ النحوي: فكيف بأطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صُلُوحُ

شبه البغل بوالديه وقال أصحاب البغال: لا نعلم شيئاً من الحيوان رُكِّب بين شيئين نزع إليهما نزعاً سواءً لا يغادر شيئاً غير البغل، فإنّ شبه أبويهْ عليه بقسمة عدْل، وقد ذكر ذلك محمد بن يسير في شعره الذي طلب فيه من مُويس بن عمران بغلةً لرحلةٍ، فقال: اضمم عليَّ مآربا قد أصْبحت ... شتَّى بداد شتيتة الأوطانِ بزفوف ساعات الكلال دليقةٍ ... سفواء أبدع خلْقها أبوانِ لمْ يعتدل في المنصبين كلاهما ... عند التَّناسب منهما الجنْسانِ إلاَّ تكن لأبٍ أغرَّ فإنَّها ... تنْمي إلى خالٍ أغرَّ هجانِ

نزعتْ عن الخيْل العتاق نجاءها ... منها، وعتق سوالفٍ ولبانِ ولها من الأعيار عند مسيرها ... جدٌّ وطول صبارةٍ ومرانِ قال ذلك لأن حافر العير أوْقح الحوافر، فأعطاه أبوه من الخصْلة التي بان بها من سائر الحوافر. الخلق المركب قالوا: وليس في جميع الخلق المركَّب مثل الراعبيّ، الذي هو من نتاج ما بين الورشان والحمام: لم يأخذ من هداية أُمّه شيئاً، ولم يُعْطه أبوه من طول عمره شيئاً. ومن المركَّب: السِّمْع، والعسبار. وكما تحكي الفلاسفة والمجرِّبون عن الكوْسج، واللُّخْم.

والدَّجاج الخلاسيّ، من بين النَّبطيّ والهنْدي. وإذا كان مثل ذلك بين البيضاء والحبشيّ فهو خلاسيّ، فإذا كان بين البيضاء والسِّنْدي فهو بيْسريٌّ. وكذلك الخلاسيُّ من الكلاب الذي بين الكرْديّ وبين السَّلُوقيّ. ومثل الجمَّازات التي تجيء بين فوالج البُخْت وقلاص العراب، ومثل البرْذون الشِّهريّ من الرَّمكة والفرس العتيق. قالوا: فليس يعتدل في شيءٍ من ذلك الشَّبه، كما يعتدل في البغل. ولذلك قال الشاعر السَّوّاق، وهو إبراهيم مولى المهالبة: تساهم فيه الخالُ والعمُّ مثلما ... تساهم في البغل الحمارة والطِّرْفُ فزعم في هذا الشعر أنّ هذا البغل أبوه فرس، وأُمّه أتانٌ. وهذا خلاف ما رواه أبو عُبيْدة. وأنشد أبو عبيدة:

وشاركها في خيمها وهو راغمٌ ... كما شاركتْ في البغل عيْراً حجُورها لأنهم يقولون: إذا كانت الأم رمكةً، خرج البغل وثيجاً قوياً عريضاً، وإذا كانت الأم حجْراً خرج البغل مُسلَّكاً، طويل العنق، وفيه دقَّة. وذكر عن بعض الناس أنّه شتم بعض الأشراف، فقال: " عجبتُ لقوم إذا قيل لهم: من أبوكم؟ قالوا: أُمُّنا فرس ". رجع إلى ذكر بغلة عكرمة ثم رجع القول بنا إلى ذكر بغلة عكرمة بن ربْعيّ. قالوا: فلما ألحَّ عكْرمة في ركوب ذلك البغل إلى باب الحجَّاج، كتب إليه بعض بني عمِّه، يردُّ عليه امتداحه البغل باستواء الشَّبه فيه، ويُخوِّفه بالحجَّاج إن ارتفع إليه في الخبر أنَّ صاحب أشراطه يأتي بابه في فُرسان أهل العراق والشام ووجوههم، على بغل. وقال في كلمةٍ له: فكيْف بغرْمولٍ وعُمْرٍ سوى الَّذي ... يكون لعيْر الأهل والفرس الفحلِ

ورأْسٍ يجوزُ الخالَ والعمَّ بعد ما ... تحوَّل شحَّاجاً خلافاً على الأصلِ وليس شحيج البغل من عزف ناهقٍ ... وقد باعد الله الشَّحيج من الصَّهْلِ متى كان ذو الأشراطِ يركب بغلةً ... ويترك طرْفاً ذا تمامٍ وذا نُبْلِ عذيري من الحجَّاج إنْ ذاكرٌ نعى ... عليك رُكوب البغل في ساعة الحفلِ فما لك تجْتاب الهُويْني مُهمْلجاً ... إلى باب حجَّاجٍ على المرْكبِ الرَّذْلِ أُعيذُك بالرَّحمن من زيِّ تاجرٍ ... شقيٍّ لئيم الكسْبِ ذي خُلُقٍ نذْلِ بغيضٍ إلى جاراتهِ وبناتهِ ... وعرْسٍ له عرْجاء بارزةِ الرَّحلِ إذا زارهُ منهم شقيٌّ لحاجةٍ ... توثَّق من باب الخزانة والقفْلِ

وأنْت امرؤٌ تندى بنانك باللُّهى ... إذا ساء ظنُّ النَّاس في الزَّمن المحْلِ بقيَّة أشياخٍ كسوْك ثيابهم ... وأنت وليُّ القومِ في البأسِ والبذْلِ صفة البغال في الشعر ولمّا قال الحكم بن قنْبر في قصيدته في البغل، وفيما يصلح له، ويُرْتفق به منه، وفيها يقول: وفي الرِّداغ، فإنَّ الوحل مزْلقةٌ ... وفي الطَّحين، وفي الحاجات، والرِّحلِ وقال مُسلم بن الوليد الأنصاري والحكم بن قنبر مازنيّ، وكان الحكم قد عظُم شأنه في بني تميم، حتى كان يصلِّي على جنائزهم، فلما لجَّ في رأي الشُّعوبيَّة، وقال في ذلك الأشعار، ضربته بنو مازنٍ، وهم مواليه، فلما ألحُّوا عليه في الضرب، نادى: يا آل تميم! فقال أعرابيّ: يدعُو تميماً، وتميمٌ تضربُهْ ... تلطُمهُ طوراً، وطوراً تركبْهْ

وقال مُسلم بن الوليد: تركْت صفاتِ الخيلِ والخيلُ معقلٌ ... وأصبحت في وصف البغال الكوادنِ حننْتَ إليْها رغْبةً في أُيورها ... فدونك أير البغل يا عبْد مازنِ وبغلته ودابتَّه، قال بعض الشُّعراء يُخاطب دابتَّه: فهبيها ليْلةً أدْلجتْها ... فكلي إن شئت تبناً أو ذري قد أتى مولاك خُبزٌ يابسٌ ... فتغذَّى وتعزَّى واصْبري

وقال آخر: بتُّ ظمْآن وباتت بغلتي ... تشتكي الخلوة في بيتِ عُمرْ صُمت يا بغلة من غير تُقىً ... ابْشري بالصَّوْمِ في شهرِ صفرْ وقال آخر: وإنِّي إذا ما المرء آثر بغله ... على نفسه آثرْتُ نفسي على بغلي وأبْذُلُهُ للمُسْتعيرين لا أرى ... له علَّةً ما دام ينقاد في الحبْلِ وقال آخر: أيا مُنزلي مالي عليك كرامةٌ ... إذا أنت لم يكرمْ عليك جوادي وقال دعْبل: أتيت ابن عمران في حاجةٍ ... هُويِّنة الخطب فالتاثها تظلُّ جيادي على بابه ... تروثُ وتأكل أرْواثها غوارث تشكو إليَّ الخلا ... أطال ابن عمران إغراثها وقال ابن حازم: وخلَّيْت برْذوني يلوك شكيمه ... خليطاه نعْفٌ دارسٌ وطُلُولُ وقال سهل بن هارون: بُعثت وأنا صبيٌّ إلى جارٍ لنا أستعير منه بغلاً، فزعم أنه مبطون، فغبرْت أيَّاماً، ثم كتبت إليه:

نُبِّئت بغلك مبطوناً فزعْت له ... فهلْ تماثل أو نأتيه عُوَّادا ما قيل في طول عمر البغل قال أهل التجربة: ليس في جميع الحيوان الذي يُعايش الناس، أطول عمراً من البغل، ولا أقصر عمراً من العصفور، وظنُّوا أنّ ذلك لكثرة سفاد العصفور، وقلّة ذلك من البغل. قالوا: ولذلك وجدنا طول الأعمار في الرُّهبان وأصحاب الصَّوامع خاصَّة، وفي الخصيان عامَّة. ولذلك قال الراجز: أُحبُّ أنْ أصْطاد ضبّاً سحْبلا ... وخرباً يرعى ربيعاً أرملا فجعله أرمل، ليكون أقوى له وأسمن. قالوا: وقال معاوية: ما رأيا رجلاً قطُّ يستكثر من الجماع، إلاّ رأيت ذلك في مُنَّته.

وقال معاوية: كلّ خصال الشباب قد كان فيَّ، إلاّ أنِّي لم أكن نُكحةً، ولا صُرعة، ولا طُلعة، ولا ضُحكة، ولم أك سبّاً. قالوا: والبغل أطول عمراً من كلّ شيء من الحيوان، ممَّا يُعاش الناس في دُورهم. قالوا: وكلّ شيء يُنتج ويولد ويتربَّى في منازل الناس، من طائر وسبع وبهيمة، إذا تحوَّل صاحب الدار، لم يتحوَّل معه منها شيء، وآثرت الأوطان على صاحب الدار، إلاَّ الكلب، فإنه يؤثره على وطنه، ويموت دونه، ويصبر على جفائه وإقصائه. قصيدة لابن داحة يذكر فيها أعمار الحيوان الذي يعايش الناس وأنشد إبراهيم بن داحة، لرجل ذهب عنِّي اسمه، قصيدةً وصف فيها أعمار الحيوان التي تعايش الناس، فقال لأخيه: عزمْت على ذمِّ البعير موفِّقاً ... وأنْ ليس في المرْكوب أجمع من بغلِ

وأنَّ اقْتناء الإبل موقٌ وحُرْفةٌ ... يبيت على يُسْرٍ ويغْدو على ثكْلِ وبين المنايا والبراذين نُسبةٌ ... وكُلُّ نتاج النَّاس خيرٌ من الإبْلِ وقلت وشاهدت البغال وغيرها ... فأحمدتها في العمر والهرم المُبْلي وليس لها بذْخُ الخيول وكبْرُها ... ولا ذِلَّةُ العيْر الضَّعيف عن الرَّحْلِ ومؤْنته في الصَّيْفِ والشَّتْو واحدٌ ... ولا خيْر في المؤناتِ من حامل الكلِّ ولا تُركب الأرماك والحجْرُ دونها ... لدى المصْر والبغلات ترْكبُ كالبغلِ وقد فرَّق الرَّحمن بين شكولها ... كما بين عيْرِ الوحش والآخر الأهْلي

وفي البغْلِ في كلِّ الأمور مرافق ... ومرْكب قاضٍ أو شيوخٍ ذوي فضلِ فيرْكبها والخيلُ مُحدقةٌ به ... ويؤثرها يوم المباهاة والحفلِ وقد جاوزت في السَّومِ كلَّ مُثمَّنٍ ... من الرَّائع المنسوب والجامل البزْلِ يفوت هماليج البراذين سيْرُها ... على قحة الأعْيار من شبه النَّجْلِ ركوب البغلة والطمع في القضاء ونحن بالبصرة إذا رأينا الرجل يطلب الرأي، ويركب بغلا، ويردف خلفه غلاماً، قضينا بأنه يطمع في القضاء. قال ابن الممزَّق: إذا ركب الشَّيْخُ الشَّريفُ بُغيْلةً ... وناظر أهْلَ الرَّأي عند هلالِ

فداك الَّذي يبْغي القضاء بسمْته ... ......الذِّئْب أُمَّ غزالِ فإنْ أرْدف العبْد الصَّغير وراءه ... فويلٌ لأيتامٍ وإرْث رجالِ وإنْ ركب البرْذوْن واشتدَّ خلْفهُ ... فصاحب أشراطٍ وحمْلِ إلالِ وقال ابن مُناذر في واحدٍ من هذا الشكل: رأيت أبا موسى يغُرُّ بسمْته ... ويقسم في الجيران كُرَّ طعامِ ويخْدعهمْ والله غالب أمره ... بقدٍّ كقدِّ المشرفيِّ حُسامِ يُريد قضاء المصْر والمصْر مُنْكرٌ ... لكلِّ مُراءٍ مُهْترٍ بغلامِ ببشْرٍ وسمتٍ واكتئابٍ وخشْعةٍ ... وكثرةِ تسْبيحٍ ولين كلامِ ويرْكبُ بغلاً ثُمَّ يُرْدفُ خَلْفهُ ... غُلاماً كما أبْصرت شقَّ جلامِ

يريد هلالاً لا يُحاول غيره ... وقدْماً سما للرَّأي غير مسامِ سواءٌ لذي الرَّأي الشَّريف وغيرُهُ ... إذا كُنت ذا حفظٍ فلجْ بسلامِ يصير فقيهاً في شُهُور يسيرةٍ ... فيالك حفْظاً لم يُشبْ بغرامِ ولو كان خيْراً كدَّ ... ... كما كدَّ ذا الآثارِ بُعْدُ مرامِ وما ضرَّ سلْماناً وكعْباً وبعْدهُ ... شُريْحاً وسوَّاراً ورهط هشامِ

وياساً وياساً والغلابيَّ بعده ... أُلاك الأولى كانوا نُجُوم ظلامِ وما عرفوا النُّعْمان.... ... ولا زُفر المسْتقيَّ صوبَ غمامِ لقد تاب ممَّا أحدث القوْم توبةً ... لساعة إخْلاصٍ ووقت حمامِ تشبيه الأسد بالبغل قالوا: ويشبِّهون الأسد بالبغل، إذا كان الأسد تامَّ الخْلق. قال نهْشل بن حرِّيّ: وما سبق الحوادث ليْث غابٍ ... يجُرُّ لعرسه جزر الرِّفاقِ كميْتٌ تعْجزُ الخُلعاءُ عنْهُ ... كبغْل السَّرْج حطَّ من الوثاقِ وقال أبو زُبيْدٍ الطائيّ: من الأسْد عاديٌّ يكاد لصوته ... رءوس الجبالِ الرَّاسياتِ

تقعَّرُ كأنَّ اهتزام الرَّعْدِ خيط بجوْفه ... إذا جُرَّ فيه الخيْزرانُ المُعتِّرُ فأبصر ركباً رائحين عشيَّةً ... فقالوا: أبغْلٌ مائلُ الرِّجْل أشقرُ أم اللَّيْث؟ فاسْتنجوا وأين نجاؤكم ... فهذا وربِّ الرَّاقصاتِ المُزعْفرُ ولأبي زُبيدٍ مثلها، في قصيدته التي ذكر فيها شأن كلبه، وشأن الأسد، فقال: فجال أكْدرُ مُشتالاً كعادته ... حتَّى إذا كان بين البئر والعطنِ لاقى لدى ثُللِ الأطْواءِ داهيةً ... أسْرت وأكْدر تحت اللَّيْلِ في قرنِ

إلى مُقابل خطْو السَّاعديْن له ... فوق السَّراة كذفْرى الفالج الغضنِ رئبال غابٍ فلا قحْمٌ ولا ضرعٌ ... كالبغل حطَّ من المحلين في شطنِ الحمير الأخدرية وزعم ناسٌ من العلماء أنّ الحمير الأخْدرية، وهي أعظم حمير الوحش وأتمُّها، زعموا أنَّ أصل ذلك النِّتاج أن خيلاً لكسرى توحَّشت، وضربت في العانات، فكان نتاجها هذه الحمير التي لها هذا التمام. وقال آخرون: الأخدريّة هي الحُمرُ التي تكون بكاظمة ونواحيها، فهي كأنها بريّة بحريّة. قالوا: ولا يجيء فيما بين الخيل والحمير إلاَّ البغال، وليس للبغل نسْل يعيش، ولا نجل يبقى، فكيف لقحت هذه الأُتُن من تلك الخيل حميراً، ثم طبَّقت تلك الصحارى بالحمرُ الخالصة؟ وقالوا: وكان الملك من الأكاسرة إذا اصطاد عيْرا وسمه باسمه، وبيومه الذي اصطاده فيه، وأطلقه، فإنْ تهيَّأ أن يصطاد ذلك العير بعينه ملكٌ من بعده، وسمه مع وسم الملك الذي قبله بمثل تلك السِّمة وخلاَّه يذهب، فكان هذا الصنيع بعض ما كانوا يعرفون به حمير الوحش. فعسى أن تكون هذه الحمير أو بعضها صار في ذلك الصُّقع الذي هذا صفته، فإنَّ للماء والتربة

والهواء في هذا عملاً ليس يخفى على أهل التجربة. وكلُّ عربيّ تراه بخراسان أصهب السِّبال، أحمر اللون، مفطوح القفا، فإنّ الأعرابيّ الذي انتقل إلى ما هناك كان على ضدّ ذلك. أثر البيئة في الحيوان وقد رأينا بلاد التُّرْك، فرأينا كلَّ شيء فيها تركيّاً. ومن رأى دوابِّهم وإبلهم علم أنّها تركيّة. وحرَّة بني سُليْم التي جميع طيرها، وسباعها وهوامّها وأهلها كلّهم سُود. وهذا كثير جدّاً. وقد نرى جراد البقل وديدانه خُضْراً، ونرى قمل رأس الشابّ الأسود الشعر: أسود، ونراه في رأس الشيخ الأبيض الشعر: أبيض، ونراه في رأس الخاضب بالحمرة: أحمر. نعم حتى إنّك لترى في القملة شُكلْةً إذا كان خضاب الشيخ ناصلاً. وهكذا طبع الله الأشياء.

ضربهم المثل في أير البغل قال أبو شُراعة: أيْرُ حمارٍ في حرامِّ شعْري ... وأيْر بغْلٍ في حِرامِّ قدري لو كنت ذا مالٍ دعاني السِّدْري وقال أبو فرعون: أيْرُ حمارٍ في حِرِامِّ عدْنان ... وأيْرُ بغلٍ في حرامِّ قحْطانْ

ما النَّاس إلاَّ نبطٌ وخوزان ... ككهْمسٍ أو عُمر بن مهْرانْ ضاق جرابي عن رغيف سلْمانْ وأنشد: وعُظمُ أير البغل في رهز فرسْ ... وطول دحسِ جملٍ إذا دحسْ والمذكور بطول الكوْم: الخنزير، والورل، والذُّباب، والجمل.

وأنشد: وما الخنزير والورل المُذكِّي ... ولا كوْمُ الذُّبابِ ككومِ بشرِ والعصفور وإن كان كثير عدد السّفاد، فإن الإنسان أكثر منه إذا حُصِّلت الأمور؛ لأنَّ الإنسان إذا كان يهيج الليل والنهار، والصَّيف والشتاء، فليس ذلك لشيءٍ غيره؛ ويطأ الحبالي، ويريدها وتريده. وقيل لشيخٍ أعرابيّ: امرأتك حُبلى؟ فقال: " لا والذي في السماء بيته، ما لها ذنب تشتال به، لا أتيتها إلاّ وهي ضبعة. ومن النوادر في غير هذا، قال مسعدة: قيل لأبي القماقم بن بحرٍ السَّقَّاء: ويْحك! متى دخلت بامرأتك، ومتى حبلت؟ وإنما كان هذا أمس! قال: " كان الإناء ضارياً ".

وقيل لحفص مولى البكرات: بامرأتك حمل؟ قال: شيء ليس بشيء! وقال ابن النُّوشجاني: جئتُ من خراسان، فسرت في بعض الصحارى في غبّ مطر، فكنت قد أرى في الطين الذي قد قبَّ آثار أرجل البهائم والسبّاع الميل والميلين، وكنت لا أزال أرى أثر دابّةٍ لها ستّ أرجل، فلما طال ذلك عليّ سألت الجمّال - أو المُكاري - فقلت: ويلك، تعرف دابة لها ستُّ أرجل؟ وأشرت بيدي إلى تلك الآثار. فقال: إنَّ الخنزير طويل المكث في سفاده، وربمّا مكث على الخنزيرة طويلاً وهي ترتع، ويداه على كتفيها، ورجلاه خلف رجليها، فلا يكاد أن يقضي وطره إلاَّ بعد أن يقطع من الأرض شيئاً كثيراً، فمن هناك ترى ستَّ قوائم. وقال الفرزدق في هجائه عُمر بن يزيد الأُسيِّدي، وكان طلب منه وقْر بغلٍ رطبةً، فلم يفعل، فقال:

يا عمر بن يزيدٍ إنَّني رجُلٌ ... أكْوى من المسِّ أقْفاء المجانينِ يا ليت رطْبتك المُهْتزَّ ناضرها ... كانت أيُور بغالِ في البساتينِ حتَّى تحبَّلَ منها كُلُّ كوْسلةٍ ... قنْفاءَ خارجةٍ منْ أوسطِ الطِّينِ وقال آخر: عراد، إن كنت تُحبِّين الغزلْ ... والنَّيْك حتَّى تأْجميه والقُبلْ فإنَّ عَمْراً قد أتاك أو أظلّْ ... يحمل أيْراً مثل جرْدان الجملْ لو دُسَّ في متْن صفاةٍ لدخلْ قال: نرى أنّه إنما أراد الصلابة. وقالوا: أير الثَّور أطول وأصلب. قال صاحب البغل: ليس بأطول، ولو كان أطول كانت البقرة لا تقف للثور، وإنما يكومها وهي تعدو، وهو لا يدخل قضيبه في حياء البقرة. والبغلة تقف للبغل، وتطلب ذلك منه، لسوسٍ شديد، وإرادة تامَّة.

وقال صاحب الثور: إنَّ أصل غُرمول البغل لا ينطبق على ظبْية البغلة كانطباق أير الرجل على فرج المرأة حتَّى لا يبقى منه قليل ولا كثير، ويفضل من أير البغل نحوٌ من نصفه، وذلك أنَّ مقاديم أيور الحافر فيها الاسترخاء، وأصولها لا تصير إلى أجواف الإناث، وإنما يصل من الصُّلب المتوتِّر مقدار نصفه فقط. والثور أوَّل قضيبه وآخره عصب مُدمج، وعقب مُصمت، وأنت تُقرّ أنها لو وقفت لخرقها. والبقرة في وقت نَزْو الثَّور عليها كأنها تكرهه. قال صاحب البغل: أليس قد أقررت أنّه وإنْ كان في غاية الصَّلابة، أنه إنما يُدخل فيها بعض قضيبه، وهذا المفخر إنما هو للإنسان. قال: رأيت ثوراً نزاً على بقرة، فأخطأ قضيبه المسلك، فمرت البقرة من بين يديه، ومرّ قضيبه على ظهرها؛ فما كان بين طرفه وبين سناسنها إلاّ القليل. وفي رأسه عُجْرة، ودون ذلك تخصُّرٌ قد دقَّ جداً. قال بعض الشعراء، وهجا معلِّم كتاب: كأنَّه أيْر بغلٍ في تهكُّمه ... وفي الصَّرامة سيفٌ صارمٌ ذكرُ

قالوا: وشكت امرأة مؤرِّج الأزْدي عظم أير زوجها إلى الوالي، واسمها خوصاء، فقالت: إنِّي أعُوذ بالأمير العدْلِ ... من مُنْتن الرِّيح خبيثٍ وغْلِ يحمل أيْراً مثل أير البغلِ ويقال لأير الإنسان: ذكر، وأيْر. وجُردان الحمار والبغل وغُرْمولهما، والجميع: جرادين وغراميل. ويقال: نضيّ الفرس، ومقْلم البعير. ووعاء مِقْلمه يقال له: الثَّيْل. ووعاء الجُردان وجميع الحافر يقال له: القُنْب. ويقال: قضيب التيس، وقضيب الثور، وعُقْدة الكلب. وتقول العرب: صرفت البقرة، فهي صارف؛ وسوست البغلة. ويقال: هي امرأة هدْمى، وغلمة. وقال أكثر العلماء: ما يقال مُغْتلمة. وشاة حرْمى، وناقة ضبعة، وفرس وديق، وكلبةٌ مُجْعل. ويقال: حرُ المرأة، والفرْج، وظبية الفرس، وكذلك من الحافر.

وحياء الشَّاة، وكذلك من الخُفّ كلّه. وثفْرُ الكلبة، وكذلك من السّباع كلّها. وتستعير الشعراء بعض هذه من بعض، إذا احتاجت إلى إقامة الوزن. فإذا حملت الشاة فهي: حامل، والبقرة كذلك. والفرس عقوق، وكذلك الرَّمكة. والأتان جامعٌ، وبغلةٌ جامع. وكلبة مُجحّ، وكذلك السّباع. ويقال: إن أكبر الأيور أير الفيل، وأصغرها أير الظبي، وليس في الأرض حجم أيرٍ ظاهرٌ في كُلّ حال، إلاّ أير الإنسان والقرْد والكلب. وأما البَطُّ فقضيبه يظهر عند القمْط. وأطول أيور الناس ما كان ثلاثة عشر إصبعا. ورووا عن ابنٍ لجعفر بن يحيى كان صيْرفيّاً، وقد كان ولاَّه المأمون طساسيج عدّة، أنه خرج من الدنيا وما كام امرأة قطُّ. وخبَّروا عن أبي زيد الكتَّاف - وتأويل الكتّاف أنه كان ينظر في الأكتاف، وهو إفريقي - وكان هرْثمة قدم به على الرشيد، يُعجِّبه

من كبر خلقه وعظم بدنه؛ فرأيت ناساً زعموا أنّه قال: غبرت طول عمري لا أقدر على امرأةٍ تحتمل ما عندي، حتَّى دُللت على امرأة؛ فلما دخلت بها أدخلت من أيري قدر نصْفه، وقلت في نفسي: هي وإن احتملت نصف الطُّول فإنها لا تحتمل الغلظ! فلمّا لم أرها توجَّعت منه زدتها، ثم زدتها حتى أدخلته، ثم قلت لها: قد دخل كلّه، فتأذنين في إدخاله وإخراجه؟ قالت: وقد دخل منه شيء بعد؟! وقال أبو السَّريّ بكر بن الأشقر: بلغني أنّها قالت له: سقطت بعوضةٌ على نخلة، وقالت للنخلة: اسْتمسكي فإني أريد أن أطير! فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك، فكيف أشعر بطيرانك؟! مما جاء في ذم البغال قال: وذمّ رجل البغل، فقال: لا لحم ولا لبن، ولا أدب ولا لقن، ولا فوْت ولا طلب؛ إن كان فحلاً قتل صاحبه، وإن كانت أُنثى لم تنسل. وكلُّ مُركَّب من جميع الأجناس له نجلٌ غيره، كالبُخْت بين العراب والفوالج، وكالراعبيّ من بين الحمام والورشان، وكالإبل منها الصَّرصرانيّ والبهْونيّ، وهما اللذان أبوهما عربيّ وأمُّهما بُخْتيَّة، وهو من أقوى الإبل

على الحمل، وأشدُّها سيراً، على قُبْح خلقته، وسماجة في مقاديمه، وكالشِّهريّ والهجين. وإذا صرت إلى البغال، صرت إلى سوسٍ في الأُنثى لا يُنادى وليده وإلى غُلمة في الذَّكر لا تُوصف، ثم هي مع هذا لا تتلاقح. وزعم أهل التجربة أنّ الكوْم الذي يخلق الله تعالى منه الولد من بين الرجل والمرأة، أنّ سبب التلاقُح ما يحضرهما من إفراط الشهْوة، في ذلك الكوْم، فإذا أفرطت الشَّهوة دنت الرحم وانفتح المهبل، وهو فمُ الرَّحم، فتصير تلك النُّطفة أكثر وأحدَّ، فيصير زرْق الإحليل ومجُّه لها أبعد غاية. وقال أهل التجربة: قلّ ما تلقح منهن امرأة إلاَّ لرجَّةٍ. والبغلة والبغل يعتريهما من الشَّبق ما لا يعتري إناث السنانير، ثم هي مع ذلك لا تتلاقح، فإن لقحت في النُّدرة أخْدجت.

وقال الشاعر في سوس البغلة: وقد سوستْ حتَّى تقاصر دونها ... هياجُ سنانير القُرى في الصَّنابرِ وذلك من عيوبها. قالوا: ولم تأخذ صهيل الأخوال، ولا نهيق الأعمام، وخرجت مقادير غراميلها عن غراميل أعمامها وأخوالها. فإن زعمتم أنّ أعمارها أطول، فعيوبها أكثر، وأيام الانتفاع بها أقلّ، وباعتها أفجر، والخصومة معهم أفحش، وخسرانها يوفى على أضعاف ربحها، وشرُّها غامرٌ لخيرها. ومما تخالف أخلاق سائر المركوبات: أنك إذا سرت على الإبل والخيل والحمير والبقر، في الأسفار الطِّوال، في سواد ليلك، إلى انتصاف نهارك، ثم صارت إلى المنزل عند الإعياء والكلال، طلب جميع المركوبات المراعي والأواريّ، وأخرجت البغال بعقب ذلك التعب الطويل، أُيوراً كجعاب القسيّ، تضرب بها بطونها وصدورها، حتَّى كأنها تتعالج به من ألم السَّفر. وكلُّ دابة سواها إذا بلغت لم يكن لها همّة إلاّ المراغة والرُّبوض، والأكل والشُّرب.

وهي مع ذلك من أغلم الدوابّ، وأبعدها من العتق، ولم نجد عظم الأيور في جميع الحيوان في أشراف الحيوان إلاّ في الفرْط، وذلك عامّ في الزنوج والحبْشان، وتجده في الحمير والبغال. قالوا: وأير الفيل كبير، ولم يخرج من مقدار بدنه. ولعمري إنّ الرجال ليتمنَّون عظم الأيور كما تتمنَّى النساء ضيق الأحراح. قال محمد بن مُناذر، وأبو سعيد راوية بشَّار، قالا: ضحك بشارٌ الأعمى يوماً ونحن عنده، بعد أنْ أطال السكوت، فقلنا: ما الذي أضحكك يا أبا مُعاذ؟ قال: أضحكني أنّه ليس على ظهرها رجلٌ إلاّ وبودِّه أن أيره أكبر ممَّا هو عليه، ولا على ظهرها امرأة إلاّ وبودِّها أن حرها أضيق ممّا هو عليه. فلو أعطى الله الرجال سُولهم في العظم، وأعطى النساء سُولهنَّ في الضِّيق، لوقع العجز، وبطل التناكح، وبطل ببطلان التناكح التلاقح. وهذا لُطفٌ من ربِّك. قالا: وقال لنا يوماً ونحن جماعة: أتدرون أيُّ الرجال يتمنَّون ضيق الأحراح، وأيّهم يتمنَّى سعتها؟ قلنا: لا. قال: إنمّا يتمنَّى السَّعة كلّ رديّ النَّعْظ، مُسترخي عصب الأير، وإنمّا يتمنَّى الضِّيق كلّ متوتّر العصب، شديد النَّعْظ.

قال: وذمّ آخر البغل، فقال: عظيم الغرمول، كبير الرأس، عقيم الصُّلب، قبيح الصوت، بطيء الحُضْر، مهْياف إلى الماء، متلوِّن الأخلاق، كثير العلل، فاجر البائع، قتّال لراكبه، شديد العداوة لرائضه، حرونٌ عند الحاجة. والحران إليه أسرع، ودواؤه أعسر. إن كان أغرَّ كان سمحاً، وإن كان مُحجَّلاً كان مشوماً. ولم يتواضع الملوك والأشراف بركوبه إلاَّ لإفراط نذالته، ولا ركبه الرُّؤساء في الحرب إلاَّ لظهور عجزه. وفي الأنبياء راكب البعير، وراكب الحمار. وكلُّ ذي عزمٍ منهم فركّاب خيل ومُرتبط عتاق، وليس فيهم راكب بغل، وإنما كانت بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، هديَّة من المُقوقس، قبلها على التألُّف، وعلى مثال ما كان يُعطى المؤلَّفة قلوبهم. ولم يجعلها الله شرىً، ولا تلاداً ولا هديَّة سلم. باب في مدح البغال وذمها يُروى عن ابن عبَّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن يُنْزى حمارٌ على فرس، ونهانا أن نأكل الصَّدقة، وأمرنا أن نُسْبغ الوضوء. وعن عليّ كرّم الله وجهه قال: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن يُنْزى

الحمار على فرس. وقال الآخر في عيب البغلة: شديدة السَّوس، وذلك ممّا ينقْض قُواها، ويُوهن أمرها، وهي في ذلك أهيج من هرّة وإن كانت لا تصيح صياحها، ولا تضْغو ضُغاءها، وإنما ذلك لأنّ الحافر في هذا الخُلق خلاف البُرْثُن. ألا ترى أنّ الكلب والسِّنَّوْر إذا ضُربا صاحا، وكذلك الأسد والنِّمْر والببْر والثعلب والفهْد وابن آوى وعناق الأرض. ولو أخذْت الحافر فقمطْته، فرساً كان أو برذوناً أو بغلاً أو حماراً، ثم ضربته أنت بعصاً لم يصحْ، وإن كان يجدُ فوق ما يجد غيره من الألم. والبغلة مع ذلك تلْقح ولا تنْسل، فصار حملها بلاءً على صاحبها، لأنَّها إن وضعتْه لم يعشْ. وكلّ حامل من جميع الإناث، من شاة أو بقرة أو ناقة أو أتان أو رمكة أو حجْر، فإنّ حمْلها يكون زائداً في ثمنها، ولا تُرَدُّ تلك الحوامل بعيب الحمل؛ إلاَّ المرأة والبغلة. فأما المرأة فلشدَّة الولادة عليها، ولأنّ حدث الموت من أجل مشقَّة الولادة عليها من بين جميع الحيوان أسرع. وأمّا البغلة فلأنها إذا أقربتْ عجزت عن عملها، وإذا وضعت لم يُنتفع بولدها.

والبغلة إذا كامها البرْذون لم يصبر عنها، واشتدّ حرْصه عليها. فسألت أبا يزيد الإقْليدسيّ عن ذلك، فقال: لأنها أطيب خلْوة! فلقَّبناه: " خلْوة البغلة "!. أكل لحوم الخيل وأكْل القديد في الضرورة رديٌّ للحافر كله، وهو للبغلة أردأ. وأهل البحريْن يعلفون دوابَّهم الحشيش، وقد استمرّت على ذلك. وقال القعقاع بن خُليْدٍ العبْسي: أكلنا لُحُوم الخيْل رطْباً ويابساً ... وأكبادُنا منْ أكلنا الخيل تقرحُ ومجلسنا حوْل الطُّوانة جُوَّعاً ... وليس لنا حوْل الطُّوانة مسرحُ

وليس تُوافق لحوم الخيل أُمَّةً من الأمم كما توافق الأتراك، وكذلك اللَّحم صرْفاً. وذكر النَّمر بن توْلب سوء موافقة أكل اللَّحم للخيل، فقال: لله من آياته هذا القمرْ ... والشمْس واللَّيل وآياتٌ أُخرْ إنَّا أتيْناك على بُعد السَّفرْ ... نقودُ خيْلاً ضُمَّراً فيها ضررْ نُطْعمُها اللَّحم إذا عزَّ الشَّجرْ ... والخيلُ في إطعامها اللَّحْم عسرْ

وقال الآخر: وخيْلك بالبحْرين تعتلف النَّوى ... وللتَّمْرُ خيْرٌ من حشيشٍ وأنْفعُ معارف شتى في ألوان الدواب وقال بعض من يمدح البغل: البرذون إذا كان أسود قالوا: أدهم، وكذلك الفرس. والحمار إذا كان أسود قالوا: أسود. وألحقوا البغل بالخيل، فقالوا: بغْلٌ أدهم. وقال بعضهم: البغل يؤخَّر سرجه كما يؤخَّر سرْج الحمار، وموضع اللَّبب من الخيل يكون قُدَّام، وإن ركب الغلام البغل عُرْباً، ركب فيه على مركب الحمار، وهو مؤخّره، فإن ركب الخيل ركب المقاديم. حدَّثني بعض أهل العلم، قال: قال شيخ من الملوك لعبد الله بن المُقفَّع: إن ابني فلاناً يتكلم بكلامٍ لا نعرفه، فأُحبّ أن تجالسه، فإن كان كلامه هذا من غريب كلام العرب، فهو على حالٍ لم تخرج من هذه اللغة، وإن كان شيئاً يبتدعه عالجناه بالتقويم. فأتاه ابن المقفَّع، فسمعه يقول: يا غلامي أسرجْ لي برْذوني الأسود. فقال: قل، أصلحك الله: البرذون الأدهم، وإيَّاك أن تقول: الأسود. قال: لا أقول إلاّ الأسود؛ لم؟ لأنه ليس بأسود؟ قال: بلى هو أسود، ولكن لا يقال له أسود. قال: فمكث ساعةً، ثم قال: يا غلام أسرجْ لي حماري الأدهم. قال: قلت: لا تقل للحمار: أدهم، إنما يقال له: أسود. قال: فقال لي: لم يقال له أسود؟ قلت: لأنه أسود. قال: قد نهيتني أن أقول: برذونٌ أسود، وهو أسود. قال: قلت له: هكذا تقول العرب.

قال: إمّا أن تكون العرب أمْوق الخلْق، وإما أن تكونوا أنتم أكذب الخلق! قال: فرجعتُ إلى أبيه فقلت له: إن كان عندك علاج فداركْه، وما أظنّ، والله، أنَّ ذلك عند الجالينوس! بغلة أبي دلامة وما قال فيها من شعر قال أبو دُلامة في بغلته. والمثل في البغال بغلة أبي دُلامة. وفي الحمير حمار العباديّ، وفي الغنم شاة منيع، وفي الكلاب كلبة

حومل: فقال أبو دُلامة يصف بغلته: أبعْد الخيْل أركبُها وراداً ... وشُقْراً في الرَّعيل إلى القتالِ رُزقْتُ بُغيْلة فيها وكالٌ ... وخيْرُ خصالها فرْط الوكالِ رأيت عُيُبها كثُرت وعالتْ ... ولو أفْنيْت مُجتهداً مقالي تقوم فما تريمُ إذا اسْتحثَّتْ ... وترمحُ باليمين وبالشِّمالِ

رياضة جاهلٍ وعليج سوْءٍ ... من الأكراد أحْبن ذي سُعالِ شتيم الوجْهِ هلْباجٍ هدانٍ ... نعوسٍ يوْم حلٍّ وارْتحالِ فأدَّبها بأخلاقٍ سماجٍ ... جزاهُ الله شرّاً عنْ عيالي فلمَّا هدَّني ونفى رُقادي ... وطال لذاك همِّي واشْتغالي أتيْت بها الكُناسة مُستبيعاً ... أُفكِّرُ دائباً كيف احْتيالي لعُهْدة سلعةٍ رُدَّتْ قديماً ... أطُمُّ بها على الدَّاء العُضالِ فبيْنا فكْرتي في القوْم تسْري ... إذا ما سْمتُ أُرْخصُ أمْ أُغالي أتاني خائبٌ حمقٌ شقيٌّ ... قديمٌ في الخسارة والضَّلالِ وراوغني ليخْلو بي خداعاً ... ولا يدْري الشَّقيُّ بمنْ يُخالي فقلتُ: بأربعين، فقال: أحْسنْ ... فإنّ البيع مرتخصٌ وغالِ

فلما ابتاعها منِّي وبُتَّتْ ... له في البيع غيْر المُسْتقالِ أخذْت بثوبه وبرئْتُ ممَّا ... أعدُّ عليْك منْ شنعِ الخصالِ برئْتُ إليك من مششٍ قديمٍ ... ومنْ جرذٍ وتخريقِ الجلالِ ومنْ فرْطِ الحانِ ومنْ جماعٍ ... ومنْ ضعفِ الأسافلِ والأعالي ومن عقد اللِّسانِ ومنْ بياضٍ ... بناظرها ومنْ حلِّ الحبالِ وعُقَّالٍ يُلازمها شديدٍ ... ومنْ هدْمِ المعالفِ والرِّكالِ ومنْ شدِّ العضاضِ ومنْ شبابٍ ... إذا ما همَّ صحْبُكَ بالزِّيالِ تقطِّعُ جلْدها جرباً وحكّاً ... إذا هُزلتْ وفي غير الهُزالِ وأقطفُ من دبيب الذَّرِّمشياً ... وتنْحط من مُتابعة السُّعالِ

وتكسر سرجها أبداً شماساً ... وتسْقُطُ في الوُحولِ وفي الرِّمالِ ويُهزِلُها الجمامُ إذا خصبنا ... ويُدْيرُ ظهرها مسُّ الجلالِ تظلُّ لركْبةٍ منها وقيذاً ... يُخافُ عليك منْ ورم الطِّحالِ وتضْرطُ أرْبعين إذا وقفْنا ... على أهلِ المجالسِ للسُّؤال فتُخْرسُ منطقي وتحولُ بيني ... وبين كلامهمْ ممَّا تُوالي وقد أعيتْ سياستها المُكاري ... وبيطاراً يُعقِّلُ بالشِّكالِ حرُونٌ حين ترْكبها لُحضْرٍ ... جمُوحٌ حين تعْزمُ للنِّزالِ وذئْبٌ حين تُدنيها لسرْجٍ ... وليْثٌ عنْد خشْخشة المخالي وفسْلٌ إنْ أردْت بها بُكوراً ... خذُولٌ عنْد حاجات الرِّحالِ وألْفُ عصاً وسوْطٍ أصبحيٍّ ... ألذُّ لها من الشُّربِ الزُّلالِ

وتُصْعقُ منْ صُقاع الدِّيكِ شهْراً ... وتُذْعر للصَّفير وللْخيالِ إذا اسْتعْجلْتها عثرتْ وبالتْ ... وقامتْ ساعةً عنْد المبالِ ومثْفارٌ تُقدِّمُ كُلَّ سرْجٍ ... تُصيِّرُ دفَّتيْه على القذالِ وتحفى في الوقوف إذا أقمْنا ... كما تحْفى البغالُ من الكلالِ ولو جمَّعْت منْ هنَّا وهنَّا ... من الأتْبانِ أمْثالَ الجبالِ فإنَّك لسْت عالفها ثلاثاً ... وعنْدك منْه عُودٌ للْخلالِ وكانتْ قارحاً أيَّام كسرى ... وتذْكرُ تُبَّعاً قبل الفصالِ وقدْ قرحتْ ولُقْمانٌ فطيمٌ ... وذو الأكتافِ في الحجج الخوالي وقدْ أُبْلى بها قرْنٌ وقرْنٌ ... وأُخِّر يوْمُها لهلاك مالي

فأبِدلِني بها يا ربِّ بغلاً ... يزينُ جمالُ مرْكبه جمالي كريماً حين يُنْسبُ والدهُ ... إلى كرمِ المناسبِ في البغالِ أشعار أخرى في البغال وأنشد إبراهيم بن داحة لأبي الوزير المعلِّم في ركوب البغال، لنخّاس الحجَّاج بن يوسُف، في كلمةٍ طويلة لم أحفظ منها إلاّ هذه الأبيات: حَمدْت إلهي إذْ رأيْتُك مُغْرماً ... بكلِّ كثير العيبِ جمٍّ جرائمُهْ على كُلِّ شحَّاجٍ يُضارعُ صوْتُهُ ... شحيج غُرابٍ فاحمُ اللَّون قاتمُه يُفزَّعُ منْهُ كُلُّ غادٍ لطيَّةٍ ... ويهْرب منه في الرَّواحِ خُثارمُه وما لك منه مرْفقٌ غيْر أنّهُ ... يُقرِّب أرحام الحُجُور تفاقمه وأنَّك غلاَّبٌ لكُلِّ مُخاصمٍ ... تُجادلُهُ طوْراً وطوْراً تُلاطمُه لفرْط عُيُوب البغل صرْت مُوقَّحاً ... فهمُّك خصْمٌ أو بذيٌّ تُشاتمُه تكذِّبه في العيْب والعيْب ظاهرٌ ... ويعْلم كُلُّ النَّاس أنَّك ظالمُه

فصار لنخَّاسِ البغالِ فضيلةٌ ... على كُلِّ نخَّاسٍ وخصْمٍ يُصادمُه فلا زال فحَّاشاً وقاحاً مُلعَّناً ... وآكل سُحْتٍ لا تجفُّ ملاغِمُه يُلاطم في ظهْر الطَّريق شريكه ... وتنْشقُّ منْ فرْط الصِّياح غلاصِمُه وهذا كقوله: أكُولٌ لأرْزاق العيال إذا شتا ... صبُورٌ على سُوء الثَّناء وقاحُ ومثل قوله: إنْ يغْدرُوا أوْ يفْجُرُوا ... أو يبْخلُوا لمْ يحْفلوا وغدوْا عليْك مُرطَّلين كأنَّهمْ لمْ يفْعلوا كأبي براقش كُلَّ يوْ ... مٍ لوْنه يتبدَّلُ

ومثل قوله: ليهْنك بُغْضٌ في الصَّديق وظنَّةٌ ... وتحْديثُك الشَّيء الَّذي أنت كاذبهْ وأنَّك مشْنُوءٌ إلى كُلِّ صاحبٍ ... بلاك ومثْلُ الشَّرِّ يُكْرهُ جانبه وأنَّك مُهْدٍ للْخنا نطفُ النَّثا ... شديد السِّباب رافع الصَّوتِ غالبه أما قوله " مُغْرماً بكلّ كثير العيب "؛ فلأنّ البغال هي المثل في كثرة العيوب، وتلوُّن الأخلاق. وأما قوله " جمٍّ جرائمه "، فلصرْعاها وقتْلاها. وأما قوله " على كل شحَّاج "؛ فلأن الشحيج صوت الغُراب. وإنما عارض أبو دُلامة أبا خُنيْس ببغلته حيث قال: أُبعدْت منْ بغلةٍ مُواكلةٍ ... ترْمحني تارةً وتقْمصُ بي

تكاد عنْد المسير تقْطعني ... راكبُها راكبٌ على قتبِ إنْ قُمْتُ عنْد الإسْراج أُثفْرها ... تطْرِفُ منِّي العيْنيْنِ بالذَّنبِ وعنْد شدِّ الحزام تنهشني ... مانعةً للِّجام واللَّببِ ليس لها سيرةٌ سوى الوثبى ... كرقْص زنْجٍ ينْزون للطَّربِ وهي إذا ما علفْتُها جهدت ... لا تأْتلي في الجهاد عنْ حربِ قدْ أكلتْ كُلَّ ما اشْتريْت لها ... منْ رزْق شعْبان أمْس في رجبِ تمُرُّ فيما تما لعلْفتها ... إنْ لم تُعلَّلْ بالشَّوْك والقصبِ وإنما هجاها بكثرة الأكل، فقدَّمها على كلّ مُعتلف، بسوء الرأي فيها، وبإفراط الشعراء وزياداتهم، وإنمّا الأكل الشديد في البراذين والرَّمك، ثم التي معها أفلاؤها. وقيل لرجل من العرب: أيّ الدوابّ آكل؟ قال: بْرذونْة رغوث. لأنهم يقولون: برْذوْن وبْرذوْنة. ولا يقولون فرس وفرسة، بل يقولون:

فرس للأنثى والذَّكر، فإذا أرادوا الفرق والتفسير قالوا: حجْر وحصان. وأنشد: أريْتك إنْ جالتْ بك الخيلُ جوْلةً ... وأنت على برذونةٍ غير طائلِ وأنشدوا: تزحْزحي إليك يا برْذوْنة ... إنَّ البراذين إذا جرينْه مع الجياد ساعةً أعْيينه والنِّعاج أيضاً قد تُوصف بدوام الأكل، حتى زعم بعض الناس أنّ النِّساء في الجملة آكل من الرجال؛ لأن أكل النساء يكون متفرقا، من غُدْوة إلى الليل، والرجل أكله في الدَّفعة أكثر من هذا في الجملة. بعض ألوان الحيوان وقال بعضهم: البغال هي الشُّهْب، والإبل هي الحُمر، والخيل هي الشُّقْر، والحمير هي الخُضْر، والسنانير هي النُّمْر؛ وإن كان الناس في الحمار الأسود أرغب، وكذلك هم في ألوان الثيران، لمكان البغال.

وقال بعض العرب لبعض الملوك: " هل لكم في النساء الزُّهْر، والخيل الشُّقْر، والنُّوق الحمر؟ " وقالت بنت الخُسّ: " الحمراء غدْرى، والصَّهباء سرْعى، والدَّهْماء بهْمى ". وإنما صار الناس يتَّخذون السنانير النُّمْر؛ لأنها أصيد، فهي السَّنانير الخُلص، والألوان الأُخر داخلة على هذه الألوان، وكذلك ألوان جميع ما ذكرنا، وأصناف البهائم على ما ذكرنا؛ وأما ألوان الأُسد فمتشابهة، لا اختلاف فيها إلا بالشيء اليسير، والناس يختلفون في الألوان وكذلك الكلاب والسنانير والخيْل والبغال والحمام والحيّات والطير؛ فإما أنواع الطير ومغنياتها، والبُزاة والصُّقور والشواهين، فلا اختلاف بينها. باب ما جاء من الشعر في ذم البغل قال أبو دهْبلٍ الجُمحيّ: حجرٌ تُقلِّبُهُ وهلْ ... تُعْطى على المدْحِ الحجارة كالبغلِ يُحمدُ قائماً ... وتذُمُّ سيرتهُ المشارة

وقال سهم بن حنْظلة الغنويّ: فإما كلابٌ فمثْل الكلا ... بِ لا يُحْسن الكلْب إلاّ هريرا وأمَّا نُميْرٌ فمثْل البغا ... ل: أشْبهْن آباءهُنَّ الحميرا وقال حسّان بن ثابت: لا بأْس بالقوم منْ طولٍ ومن عرضٍ ... جسْم البغال وأحْلام العصافيرِ وقال آخر: ولئن ناكحْتمونا لبما ... ناكحتْ قبْلكُمُ الخيْل الحُمُر وقال ابن الزَّبير الأسديّ لعبد الرحمن بن أُمّ الحكم:

تثعْلبْت لمَّا أنْ أتيْت بلادهمْ ... وفي أرْضنا أنْت الهُمام القلمَّسُ ألسْت ببغْلٍ أُمُّه عربيَّةٌ ... أبوه حمارٌ أدْبر الظَّهْرِ يُنْخسُ وقال خالد بن عبَّاد يهجو أبا بكر بن يزيد بن معاوية: سمين البغْلِ منْ مال اليتامى ... رخيُّ البال مهزُولُ الصَّديق وقال سنان بن أبي حارثة: تعرّض عبْس دون بدرٍ سفاهة ... ألا عجبُ العجْباء من صهلِ البغلِ

وقال شبيب بن البرْصاء يهجو عقيل بن عُلَّفة: ألا أبْلغْ أبا الجرْباء عنِّي ... بآيات التَّباغُض والتَّقالي فلا تذْكرْ أباك العبْد وافخرْ ... بأُمٍّ لست تكْرهُها وخالِ فهبْها مُهْرةً لقحتْ لعيْرٍ ... فكان جنينها شرَّ البغالِ قال أبو عبيدة: كان الفرزدق عبث بأبي الحسناء، وكان مُكارى بغال، ينزل في مَقْبرة بني هزّان، يُكرى إلى الكوفة، أيام كانت الطريق على الظَّهْر، فقال: لبيك أبا الحسْناء بغلٌ وبغلةٌ ... ومخْلاة سوءٍ بان عنْها شعيرُها وقال الكُميْت: تمْشي بها رُبْدُ النَّعا ... مِ تماشي الآم الزَّوافرْ والأخْدريُّ بعانتيْه خليط آجالٍ وباقرْ

قال: وفد المُغيرة بن عبد الرحمن الرِّياحيّ على معاوية في وفْد، فقال: يا أمير المؤمنين، ولِّني خراسان. قال: ما هجاءُ ما لا هجاء له؟ قال: فشُرط البصرة. قال: انظر غير هذا. قال: فاحملني على بغل، ومُرْ لي بقطيفة خزّ. فلامه أصحابه، فقال: أمَّا أنا فقد أخذت شيئاً!. أخبار في البغال أخبار في البغال قالوا: ولما أقبل مسروق بن أبرهة الأشرم بالحبشة، فصافَّ جند وهْرز الفارسيّ، حين كان استجاش ابن ذي يزن بفارس، فوجَّه كسرى معه وهْرز الأسوار في ثلاث مائة كان أخرجهم من الحبس، على أنّهم إن ظفروا كان الظَّفر له، وإن قُتلوا كان قد أراح الناس من شرِّهم. وكان وهْرز شيخاً كبيراً، قد شدَّ حاجبه بعصابة، فقال: أرُوني ملكهم. قالوا: هو صاحب الفيل. قال: كفّوا عنه؛ فإنه على مركبٍ من مراكب الملوك! وقد أطال الوقوف. فنزل مسروق عن الفيل، فركب فرساً؛ فقيل له: قد نزل عن الفيل، وركب فرساً. فقال: دعوه، فإنه على مركب من مراكب الفُرسان! وأطال الوقوف حتى ملَّ ظهر الفرس، وأتوه ببغل فركبه، فقيل لوهرز: قد نزل عن الفرس، وركب البغل. قال: عن مراكب الملوك، وعن معاقل الفُرسان، ثم ركب البغل ابن الحمار! وكان على مسروق تاجُه، وياقوتةٌ معلَّقة بين عينيه، فقال وهْرز لمن حوله: إني راميه،

فإنْ رأيتموهم يجتمعون عليه، ولا ينفرجون عنه، فقد قتلته، فشُدُّوا عليهم شدَّةً واحدة، وإن تفرَّقوا فإنما هي رمْية. فرمى فأصاب نفس الياقوتة المعلقة بين حاجبيْه، ففلقتها، وغابت النُّشَّابة في رأسه، فاجتمعوا عليه، ولم يتفرَّقوا عنه، فشدُّوا عليهم شدَّةً واحدة كانت إيّاها. وبلغني عن زيد بن جُدعان، قال: شخص أبو سفيان إلى معاوية بالشام، في ولاية عُمر رضي الله عنه، ومعه ابناه عُتْبة وعنْبسة، فكتبتْ إليه هند: " قد قدم عليك أبوك وأخواك، فلا تغذمْ لهم، فيعْزلك عُمر. احمل أباك على فرس وأعْطه ثلاثة آلاف درْهم، واحمل عُتبة على بغل وأعطه ألفْي درهم، واحمل عنْبسة على حمار وأعطه ألف درهم ". فلما فعل ذلك بهم قال أبو سفيان: أشهد أنّ هذا عن رأي هنْد، بصفة جوائز ملوك الشام، وما لخلفاء الشام والدَّراهم، ما يعرفون إلاَّ الدنانير!.

باب ما قالوا من الشعر في عقم البغل قال النابغة الجعدي: وهبْنا لكمْ ما فيه نرْجو صلاحكُمْ ... وسوْف نُلاقيه إذا البغْلُ أحْبلا ومن دون أوْلاد البغال وحمْلها ... إلى ذاك ما شاب الغُرابُ ورَجَّلا وقال العُكلْيّ: قد يُلْقح البغلة غير البغلِ ... لكنَّها تعْجل قبل المهْلِ .....ة مشْغُولةٌ بالحملِ ... عنْ مرْفق الطَّحْنِ وحمل الرِّجْلِ وثقل السَّفْر ومير الأهْل ... ولا تُساوي حفنةً منْ زبْلِ ما كان فيها من كرام الفحْلِ ... دودة خلٍّ خُلقت من خلِّ وكلُّ أُنثى غيْرها في الحملِ ... تزداد في القيمة عنْد السَّحْلِ

ملْعُونةٌ بنْت لعينٍ نذْلِ ... قتَّالةٌ للفارس الأبلِّ لمْ يعتدلْ منصبُها في الأصلِ ... من غير شكْلٍ خُلقت وشكْلِ في أدب الخنزير يوم الحفْلِ ... وموقها موق رضيعٍ طفْلِ أو عقْلُ أفْعى وهجفٍّ هقْلِ ... أو حُوت بحرٍ قُذفت في سهلِ أو جيْألٍ يكْتفُها بحبلٍ ... كلُّ حُميْميقٍ وكُلُّ فسْلِ وكلُّ غرٍّ جاهلٍ وغُفْلِ ... ليس لها في الكيْسِ رفْقُ النَّملِ أو ذئبِ قفْزٍ مُجْمعٍ للختْلِ ... أو تتفْلٍ راوغ كلْب المُشْلي أو خُززٍ وثَّب خوْف القتْلِ ... أما تراها غايةً في الجهلِ والشُّؤْمُ منها في ذوات الحجلِ ... وغُرَّةٍ تصْدع جمع الشَّملِ

فهْي خلاف الفرس الهبلِّ ... وكُلُّ طرْفٍ ذائلٍ رفلِّ قد حذر النَّاس أذاها قبْلي ... وعدَّدوا كلَّ قتيل بغلِ فقال أخوه ناقضاً عليه، وهو في ذلك يُقدِّم البغلة على البغل، وهكذا هُما عند الناس في جملة القول، فقال: عليك بالبغلة دون البغلِ ... فإنَّها جامعةٌ للشَّمْلِ مرْكبُ قاضٍ وإمامٍ عدْلِ ... وتاجرٍ وسيِّدٍ وكهْلِ وهشميٍّ ذي بهاً وفضْلِ ... تصْلُحُ في الوحْلِ وغيْرِ الوحْلِ والسَّقْي والطَّحْنِ وحمْلِ الرِّجْلِ ... وهْي في المشي وتحت الرَّحْلِ أوْطا وأنجى منْ مطايا الإبْلِ ... وكُلُّ جمَّازٍ وذاتِ رحْلِ وطُول عُمرٍ غير قيل البُطْلِ ... تقْدُمُ في ذلك عيْر الأهْلِ والخيلَ والإبل وكُلُّ فحْلِ ... قدْ قتل العصْفورَ فرْط الجهلِ ولو درى كان قليل الشُّغْلِ ... بلذَّةٍ تُسْلمُهُ للقتلِ

فدعْ مديحي وهجاءً بغْلي ... فلوْ ذممت القمر المُجلِّي وجدت فيه بعض ما قد يقْلي ولما تعاور أبا الخطَّاب الأعمى أبو دُلف، وجعفر بن أبي زُهيْر، وهما يتعصَّبان لمعدان الأعمى، فقال: كما شدَّ عيْن البغْلِ طحَّانُ قرْيةٍ ... ليجْمع بال البغلِ للدَّور والطَّحْنِ ولو أنَّ عيْن البغْلِ زال عصابُها ... لحاكى شهاب القذْفِ في أثرِ الجنِّي

وقال أيضاً: وليس العمى في كُلِّ حالٍ نقيصةً ... ونقْصُ العمى أجدى عليك من البصرْ فسائل بغالِ الطَّحْنِ إنْ كُنت جاهلاً ... ولو حجبوا تلك العُيُونَ عن النَّظرْ ولولا انْطباق العيْن ما كان طاحنٌ ... ولا كان مطحونٌ بصخر ولا مدرْ لأنَّ أبا دُلف كان قال: وليس لمكْفوفٍ خواطر مُبْصرٍ ... وذو العيْن والتَّمْييز جمُّ الخواطرِ لأن أبا الخطَّاب كان فخر عليهم بجودة حفْظ العُميان، وكان جعفر بن وهْب قد قال: هل الحفْظ إلاَّ للصَّبيِّ، وذُو النُّهى ... يُمارس أشغالاً تُشرِّدُ بالذِّكر فإن كان قلْب الغُمْرِ للحفظ فارغاً ... تناول أقصاهُ وإنْ كان لا يدْري

يهُذُّ أُمُوراً ليس يعرف قدرها ... وهل يعرف الأقدار غير ذوي القدْرِ وقال أبو دُلف في بعض تلك المسابقات: وليس فراغ القلب مجْداً ورفعةً ... ولكنَّ شُغل القلب للْهمِّ دافعُ وذو المجْد محمولٌ على كُلِّ آلةٍ ... وكُلُّ قصير الهمِّ في الحيِّ وادعُ فزعم أنَّ الأعمى إنّما يحفظ لقلّة خواطره وشواغله. وعلى قدر الشواغل والخواطر تنبعث الهمة، وتصحّ الرويَّة، وتبعُد الغاية. الانتفاع بالبغل في الطحن وقالوا: طحْن الحمير والبغال والبقر والإبل، لا يجيء إلاَّ مع تغطية عيونها، ومنافع الطحن عظيمة جدّاً، وطحن البغال أطيب وأريع، وكيل ما تطحن أكثر؛ وطحين أرحاء القُرى لا يكون له طيب، لأنَّ أرحاء الماء، التي هي أرحاء القُرى، تحدقُ الدَّقيق، وتُفسد الطَّعم. فهذه المنفعة الكثيرة، للبغال فيها ما ليس لغيرها. ولو كُلِّف البرْذون الطَّحن لهرج في ليلةٍ واحدةٍ.

والبغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج كما يهرج البرذون. وفي أمثال العامّة: الحمار لا يدْفأ في السنة إلاَّ يوماً واحداً، وذلك اليوم أيضاً لا يدفأ، كأنهم قضوا بذلك إذ كان عندهم في الصَّرد ووجدان البرد، في مجرى العنز والحيَّة والجرادة، وإن كان المثل قد سبق في غيره، يقال: " أصرد من جرادة "، و " أصرد من حيَّة ". مقايسة بين الفيل والبغل وقال بعض من يحمد البغل: البغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج كما تهرج الرَّمكة في الحرّ، والبغل يطحن، وهو فوق كلّ طاحن. ولو طحن البرذون يوماً واحداً في الصَّيف لسقط. ألا ترى أن الثور يطحن والجاموس أقوى منه وهو لا يطحن، وهو أيضاً مما يهرج. وليس البغل كالفيلة: الفيلة لا تلقح إلاَّ في أماكنها، والبغلة قد تلقح في جميع البُلدان، ولكنّ أولادها لا تعيش، والفيل الشابّ لا ينبت نابه عندنا. ولما سمع أبو الربيع الغنويّ أنّ كسرى كان يعول تسعمائة فيل، وينفق عليها وعلى سُوَّاسها، ويقوم بشأنها ومئونتها، قال: يزعمون أنه كان مُصْلحاً، وسائساً مدبِّراً؛ كان - والله - عندي يحتاج

إلى أن يُحْجر عليه، انظروا كم كان يستهلك من الأموال عليها في غير ردّ، فإن كان يريد أن يباهي بها، ويهوِّل بها في الحروب، حبس منها بقدر ذلك. ولقد رأى رجل في المنام أنّه ركب فيلا، وقصّ رْؤياه على ابن سيرين، فقال: " أمرٌ جسيم، ولا منفعة فيه ". والفيلة إنما يفتخر بها السُّودان، كالحبشة والهنْد، فأمَّا ملوك العراق فإنما يتّخذون منها بقدر ما يقال إنّ عندهم من كلّ شيء شيئاً. وأيضاً لأنَّ الفيل خلْقٌ عجيب، ومعتبر لمن فكَّر. وكلّ شيء عجيبٍ فهو أبعث على التَّفكير من غيره. حديث إنزاء الحمير على الخيل ولما روى المدائنيّ والواقديّ وغيرهما، أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لمّا استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في إنزاء الحمير على الخيل، قال: " إنمّا يفعل ذلك اللَّذين لا يعْلمون ". قال قوم: جاء الحديث عامّاً في ذكر الخيل، ولم يخُصّ العتاق دون البراذين؛ لأنّ اسم الخيل واقع عليهما

جميعاً، قال الله سبحانه: " والخيْلَ والبغالَ والحْمير لترْكبُوها "، أفتظنُّون أنه ذكر إنعامه عليهم بما خوَّلهم من المراكب، فذكر البغال والحمير وترك البراذين؟ فأما أبو إسحاق فإنه قال: هذا الحديث مختلفٌ فيه، وله أسانيد طوال، ورجالٌ ليسوا بمشهورين من الفقهاء بحمل صحيح الحديث. ويجوز أن ينهى عن إنزاء الحمير على الحجور والرِّماك جميعاً، فإن جلب جالب ذلك النِّتاج جاز بيعه وابتياعه، وملْكه وعتقه. وخصاؤه في الأصل حرام. وقد أهدى المُقوقس عظيم القبْط إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خصيَّاً؛ وكان هذا الخصيّ أخا مارية أمّ إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقبل هديَّته، وأرسل إليه ببغلة من نتاج ما بين حجْر وعيْر، وليس في هذين الكلام، إنما الكلام في الإخصاء وحده، والإنزاء وحده في أصل العمل، فإما إذا ما تمّ الأمر بينهما، فإن بيعهما وابتياعهما حلال. قال: ولا نترك قولاً عامّاً قاله الله تعالى في كتابه ونصَّه، لحديثٍ لا ندري كيف هو، وقد قال الله جلّ وعزّ، وهو يريد إذْكار الناس نعمهُ السابغة، وأياديه المجلِّلة حين عدَّد عليهم، فقال: " والخيل والبغال والحمير لترْكبوها "؛ فمن أين جاز لنا أن نخصَّ شيئاً دون شيء.

باب ما جاء في الكوادن قال الشاعر: جُنادفٌ لاحقٌ بالرَّأس منْكبُهُ ... كأنَّه كوْدنٌ يُوشي بكُلاَّبِ وكلّ غليظٍ بعيد من العنق فهو كودن، قال ابن قميئة: يسرٌ يطْعمُ الأرامل إذْ قلص درُّ اللِّقاح في الصِّنَّبْرِ ورأيْت اْلإماء كالجعْثن البا ... لي عُكُوفاً على قُرارة قدْرِ ورأيْت الدُّخان كالكوْدنِ الأصْحم ينْباعُ منْ وراء السِّتْرِ

حاضرٌ شرُّكم وخيركم د ... رُّ خروسٍ من الأرانب بكرِ وفي ذمّ البغال يقول عرهم بن قيس الأسديّ: إنَّ المذرع لا تغني خئولته ... كالبغل يعجز عن شوط المضامير وقال الفرزدق: سوى أنَّ أعراف الكوادن منقراً ... قبيلة سوءٍ بار في الناس سوقها وإنما قالت حميدة بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع: وهل أنا إلا مهرةٌ عربيةٌ ... سليلةُ أفراسٍ تجلَّلها بغل فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى ... وإن يكُ إقرافٌ فمن قِبَلِ الفحلِ

فوضعت البغل في موضعه. فقال روح: رضى الأشياخ بالفطيون بعلاً ... وترغب في المناكح عن جذامِ يهوديٌّ له بضع الجواري ... فقبحاً للكهول وللغلامِ وقال الآخر: وما كثرت بنو أسدٍ فتخشى ... لكثرتهم ولا طاب القليل قبيلةٌ تذبذب في معدٍّ ... أنوفهم أذلُّ من المسيل تمنَّى أن تكون أخا قريشٍ ... شحيج البغل ملتمس الصهيل

وقال زيادٌ الأعجم: ألم ترَ أنَّ البغل يتبع إلفه ... كما عامرٌ واللؤم مؤتلفان وقال الكميت: وما حملوا الحمير على عتاقٍ ... مطهَّمةٍ فيلفوا مبغلينا وما سموا بأبرهة اغتباطاً ... بشرِّ ختونةٍ متزيِّنينا باب ذكر ركوب نساء الأشراف البغال قال: لما أهديت ابنة عبد الله بن جعفر إلى يزيد بن معاوية على بغلة، قال يزيد: جاءت بها دهم البغال وشهبها ... مسيَّرةً في جوف قرٍّ مسيَّر مقابلةٌ بين النبيِّ محمدٍ ... وبين عليٍّ والجواد ابن جعفر منافيةٌ غراءُ جادت بودها ... لعبد منافيٍّ أغرُّ مشهر

وقال ابن أبي ربيعة: هي الشمس تسري بها بغلةٌ ... وما خلت شمساً بليلٍ تسير وقال الآخر: مرت تزفُّ على بغلةٍ ... وفوق رحالتها قبَّه زبيريةٌ من بنات الذي ... أحل الحرام من الكعبه تزفُّ إلى ملكٍ ماجدٍ ... فلا بالرِّفا، وبها الوجبه ولقي عمر بن ربيعة عائشة بنت طلحة، وهي على بغلة، فاستوقفها وأنشدها: يا ربةَ البغلة الشهباء هل لكم ... في عاشقٍ دنفٍ لا ترهقي حرجا

قالت: بدائك مت أو عش تعالجه ... فما نرى لك فيما عندنا فرجا قد كنت جرعتني غيظاً أعالجه ... وإن ترحني فقد عنيتني حججا فقلت: ولا والذي حجَّ الحجيج له ... ما محَّ حبك من قلبي وما نهجا وقال الآخر: قفي يا ربةَ البغل ... أخبرك على رجل فبينا ذاك إذ نادى ... منادٍ غير ما ختل فعجنا بامرئٍ ضخمٍ ... على أهواج كالهقل وعجنا كلَّ مسودٍ ... ومميود القرا عبل وإذا لم تك ذا رأيٍ ... وذا قولٍ وذا عقل وقالت أختها الصغرى ... رددناه إلى غفل

ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل وليس الشأن في الوصل ... ولكن يعرف الفضل باب ذكر أخبار ومسائل شتى وحدث مصعبٌ الزبيريّ عن بعض أشياخه، وقال: إنّا لبالأبطح أيام الموسم، إذ أقبل شيخٌ أبيض الرأس واللحية، على بغلة شهباء، وما ندْري أهو أشدّ بياضاَ، أم بغلته، أم ثيابه، فاندفع يغنِّي: أسعديني بعبْرةٍ أسرابِ ... منْ دُمُوعٍ كثيرة التَّسْكابِ فارقُوني وقد علمْت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتةً منْ إيابِ

ثم ضرب دابته وذهب، فأدركناه، فإذا هو حُنيْنٌ النَّخعيّ، وكان نصرانيّاً مستهتراً بالغناء. ومن حديث المُغيرة بن عنْبسة عن بعض أشياخه قال: قال كعب الأحبار......فإذا هو شيخ أبيض الرأس واللحية، أبيض الثياب، على بغلة بيضاء. وحدّثني صديقٌ لي، قال: أوَّلَ يوم دخلت الرَّقة - وذلك في أيام الرشيد - استقبلني الشاعر اليماميّ المتكلم، الذي يقول: " إني تيْميّ "، فإذا هو أسود ولحيته سوداء، وثيابه سود، وعمامته سوداء، وسرجه أسود، وسمُّور سرجه أسود، وهو على برْذون أدهم، وقد ركبه غُبارٌ، فقلت: أعوذ بالله من هذا الزِّيّ! أهل خُراسان الذين هم أهل الدَّعْوة، ومخْرج الدولة، لا يتكلّفون جميع هذه الخصال كلّها لأنفسهم،

واكتفوا بسواد ثيابهم! وإذا هو يتعرّض لصاحب الأخبار، طمعاً في أن يرفع خبره، فينال بذلك مرتبةً، فقلتُ له: والله إنّ هذا الزيّ لقبيح من أهل هذه الدولة، فما ظنُّك بإنسان يماميّ مرّةً وتيميّ مرّة؟! والله أنْ لو رُفعت في الخبر، لارتفعتُ معك حتى أُخبر عنك!. وحدَّثني عمرو القصافيّ الشاعر، قال: دعانا فلان الفلانيّ، وهم قوم يُعرفون بالدَّعوة، فدعانا إلى منزله في أيام دعوتهم إلى العرب، فإذا هو قد ضرب خيمةً، وإذا حوله غُنيمات، وإذا في الدار بعير أجربُ، وريح الهناء والقطران؛ فدعا بالطَّعام، فإذا خُبزة قد ثرد نصفها في لبن، وكسر بين أيدينا النصف الآخر، ثم دعا بالنبيذ، فإذا هو في عُسِّ خشب، وإذا نبيذُ تمرْ، ثم دعا بنُقل فإذا بأقطٍ ومُقْلٍ وتنُّوم، ثم دعا بريْحان، فإذا خُزامى وعُبيْثرانٌ وشيح، وإذا عنده شادٍ وهو يغنيّ،

فتىً أمردُ أجرد أبيض، فقال صاحبي: ما اجتمع هذا الذي رأينا في بيت هذا الفتى عند عقيل بن عُلَّفة، ولا عند الزِّبْرقان بن بدْر، ولا عند عوْف بن القعْقاع؛ فإن هؤلاء كانوا مردة الأعراب. ما قيل في حب ركوب البغال وقال أبو الشَّمقْمق في حُبِّ ركوب البغال، وكان قال.......أخْبرْني عن اسمك وبلك ونسبك وشهوتك. قال: أمّا اسمي ونسبي فأنا مرْوان بن محمد، مولى مروان بن محمد، وأمّا بلدي فالبصرة، وأمّا شهوتي فالنبيذ على اللحم السمين. فقال أبو الشمقمق: مُناي منْ دُنْياي هاتي التي ... تسْلحُ بالرِّزق على عيْري

الجرْدقُ الحاضرُ معْ بضْعةٍ ... منْ ماعزٍ رخْصٍ ومن طيْرِ وجرَّةٌ تهْدر ملآنةٌ ... تحْكي قراة القسِّ في الدَّيْرِ وحُبَّةٌ دكْناءُ فضْفاضةٌ ... وطيْلسانٌ حسنُ النَّيْرِ وبغلةٌ شهباء طيَّارةٌ ... تطْوي لي البلْدان في السَّيْر وقَينةٌ حسْناء مَمْكورةٌ ... يصرعها الشَّوق إلى أيْري وبدْرةٌ ممْلوءةٌ عسْجداً ... ما بالَّذي أذْكُرُ من ضيْر ومنْزل في خيْر ما جيرةٍ ... قد عرفوا بالخيْر والميْر وصاحب يلزمني دهره ... مثل لزوم الكيس للسَّيْر مساعدٌ يعجبني فهمه ... مرتفع الهمَّة في الخيْر كم من فتىً تْبصر ذا هيْئةٍ ... أبلد في المجلس من عير وذكر أيضاً البغال، فقال: ما أُراني إلاَّ سأترك بغْدا ... د وأهْوي لكورة الأهوازِ حيث لا تنكر المعازف واللهْو وشرب الفتى من التَّقْمازِ

وجوارٍ كأنَّهنَّ نجومُ اللَّيْل زُهْرٌ مثْلُ الظِّباءِ الجوازي واضحاتُ الخدود أُدْمٌ وبيضٌ ... فاتناتٌ ميلٌ من الأعْجازِ بيْن عوَّادةٍ وأُخرى بصنْجٍ ... في بساتينها وفي الأحْوازِ ذاك خيْرٌ من التَّردُّدِ في بغْداد تنْزُو بي البغالُ النَّوازي كُلَّ يومٍ في كُمَّةٍ وقميصٍ ... ورداءٍ من الغُبار طرازي لمْ يحكْهُ النَّسَّاجُ يوماً لبيعِ ... لا ولا يُشترى من البزَّازِ أخذت أهلها الشَّياطين بالرَّكْضِ لطول الشَّقاءِ والإعْوازِ كُلُّ شيْخٍ تخاله حين يبدو ... فوق برذوْنه كشخْصٍ حجازي وجميل الفُسيْلُ أعنى ابن محْفو ... ظٍ عدُوُّ النَّدى وسلم المخازي ألفتْ اسْته الفياشل حتَّى ... ما تشكَّى للطَّعْنِ بالعُكَّازِ يأخذ الأسود الّذي يفرق الحوَّاء منْه كدسْتج المنْحازِ ليْثُ غابٍ بدبْرهِ حين يَلقى ... وجبانٌ في الحرب يوم البرازِ

بعدتْ داره فلا ردَّهُ اللهُ ولازال نائي الدَّارِ شازي ذاك شخْصٌ به عليَّ هوانٌ ... كهوان الخُصى على الخبّازِ الخلق المركب أمّا ما ذكرنا من أجناس الحيوان المركَّبات، كالبغل والشِّهْري، والمُقْرف، والهجين، وكالبُخْت والبهونيّ، والصَّرصرانيّ، والطير الورْداني، والحمام الراعبيّ، فقد عرفنا كيف تراكيب ذلك، وعرفنا اختلاف الآباء والأُمَّهات. فأمَّا السِّمْع والعسبْار

والدَّيْسم والعُدار والزّرافة، فهذا شيء لم أحُقَّه. وقد أكثر الناس في هذا وفي اللُّخْم، وفي الكوْسج، وفي الدُّلْفين، وفيما يتراكب بين الثعلب والسِّنَّوْر البرّيّ، فإنّ هذا كله إنما نسمعه في الأشعار، في البيت بعد البيت، ومن أفواه رجالٍ لا يُعرفون بالتحصيل والتثبُّت، وليسوا بأصحاب توقٍ وتوقُف. وإذا كان إياس بن معاوية القاضي يزعم أن الشَّبُّوطة إنما خُلقت من بين الزَّجر والبُنّيّ، وأنَّ من الدليل على ذلك أن الشبّوطة لا يوجد في جوْفها بيضٌ أبداً، لأنّها كالبغلة، فأنا رأيت في جوفها البيْض مراراً، ولكنّه بيضٌ سوْءٍ لا يؤكل، ليس بالعظيم، ولا يستطيل في البطْن كما يستطيل بيض جميع أناث السمك.

والشَّبُّوط جنس يكون ذُكرانه أكثر، فلا يكاد إنسانٌ يقلّ أكله للشبّوط يرى بيض الشَّبُّوط. فإذا كان إياسٌ يغلظ هذا الغلظ، فما ظنُّك بمن دونه. زواج الإنس بالجن وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحْطانيّة، ونقرأه في كتب السِّيرة، قصَّ به القصّاص، وسمروا به عند الملوك. وزعموا أنّ بلقيس بنت ذي مشرح، وهي ملكة سبأ، ذكرها الله في القرآن، فقال: " ولها عرْشٌ عظيمٌ "، زعموا أن أمَّها جنّيّة، وأن أباها إنسيّ، غير أن تلك الجنّيّة ولدت إنسيّةً خالصةً صرْفاً بحتاً، ليس فيها شوْب، ولا نزعها عرْق، ولا جذبها شبه، وأنَّها كانت كإحدى نساء الملوك. فاحسُبْ أنّ التناكح يكون بين الجنّ والإنس، من أين أوجبوا التلاقح، ونحن نجد الأعرابيّ والشابَّ الشّبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناساً كثيرة، فيُفْرغون نُطفهم في أفواه أرحامها، ولم نر ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السُّفهاء، ألقح منها شيءٌ من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النُّطف خُلقوا. وأصل الإنسان من طين، والجانّ خُلق من نار السَّموم، فشبه ما بين الجنّ والإنس، أبعد من شبه ما بين الإنسان والقرْد. وكان ينبغي للقردة أن يلقح من الإنسان.

الصرع والاستهواء ومن العجب أنَّهم يزعمون أنَّما تُصرع المرأة لأن واحداً من الجنّ عشقها، وأنه لم يأتها إلاّ على شهوة الذّكر للأُنثى، أو شهوة الأُنثى للذّكر. وقيل لعمرو بن عُبيد: أيكون أن يصرع شيطانٌ إنساناً؟ قال: لو لم يكن لما ضرب الله به المثل لآكل الرِّبا حيث يقول: " الذين يأكلون الرِّبا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبَّطُهُ الشَّيطان من المس ". فهذا شيء واضح. قال: ثم وقفنا على رجلٍ مصروع، فقلت له: أرأيت هذا الصَّرْع، تزعم أنه من شيطانه؟ قال: أمّا هذا بعينه فلا أدري أمن فساد مرَّة وبلْغمٍ، أم من شيطان؛ وما أُنكر أن يكون خبْط شيطانٍ وصرعه، وكيف لا يجوز ذلك مع ما سمعنا في القرآن؟ قال: وسمعته، وسأله سائلٌ عن رجلٍ هام على وجهه، مثل عمرو بن عديّ

صاحب جذيمة الوضاح، ومثل عمارة بن الوليد، وطالب بن أبي طالب، فقال: قد قال الله: " كالذي استهوته الشياطين في الأرض ". وأنا أعلم أنَّ في الناس من استهوته الشياطين، ولست أقضي على الجميع بمثل ذلك. وقد قالوا في الغريض المغني، وسعد بن عبادة وغيرهما، وهذا عندنا قولٌ عدل.

رجع إلى زواج الإنس بالجن وكلّ ما قالوا من أحاديثهم في الخلق المركب، فهو أيسر من قولهم في ولادة بلقيس. وهم يروون في رواياتهم في تزويج الإنسان من الجن، حتى جعلوا قول الشاعر: يا قاتل الله بني السعلاة ... عمراً وقابوساً شرار النات - يريد: الناس - أنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس. هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي، وفي الناس والنسناس.

ولم يرضَ الكميت بهذا حتى قال: " نسناسهم والنسانسا ". فقسم الأقسام على ثلاثة: على الناس، والنسناس، والنسانس. وتزعم أعراب بني مرّة أنَّ الجن إنما استهوت سناناً لتستفحله إذ كان منجباً، وسنانٌ إنما هام على وجهه. وقال رجل من العرب: " والله لقد كان سنانٌ أحزم من فرخ العقاب ". البراذين والخيل وقال محمد بن سلام الجمحيّ: قلت ليونس بن حبيب: آلبراذين من الخيل؟ فأنشدني: وإنِّي امرْؤٌ للخيْل عنْدي مزيَّةٌ ... على فارس البرْذوْنِ أو فارس البغلِ وقالوا: إنما ذهب الشاعر من اسم الخيل إلى العتاق. وإنما يُوصف الفرس العتيق بصفة الإنسان من بين جميع الحيوان، يقولون: فرس كريم، وفرس جواد، وفرس رائع.

فأما قولهم " كريم " و " عتيق "، فإنَّما يريدون أن يُبْرُوه من الهُجنة والإقراف، وكيف يجعلون البرذون لاحقاً بالعتيق، وإنْ دخل الفرس من أعراق البراذين شيءٌ هجَّنه؟ وفي القرآن: " والخيل والبغال والحمير " حين أراد أن يعدِّد أصناف نعمه؛ أفتراه ذكر نعمه في الحمار والبغل، ويدع نعْمته في البراذين، والبراذين أكثر من البغال، ولعلَّها أكثر من الحمير الأهليّة، التي هي للركوب، لأنّ الله تعالى قال: " والخيل والبغال والحمير لترْكبوها "؟ وحُمر الوحش وإن كانت حميراً فليست بمراكب. وفرسان العجم تختار في الحرب البراذين على العتاق، لأنها أحسن مُواتاة. والفحل والحصان من العتاق ربَّما شمَّ ريح الحجّر في جيش الأعداء، فتقحَّم بفارسه حتَّى يعطب، ولذلك اختاروا البراذين للصَّوالجة والطَّبْطابات والمشاولة، وإنما أرادوا بذلك كلَّه أن يكون دُربةً للحرب وتمريناً وتأسيساً. فأكثر الحمير والبغال تُتّخذ لغير الركوب، وليس في البراذين طحّانات ولا نقّالات، ولا تُكْسح عليها الأرض إلا في الفرْط. فكيف يدع ذكر ما هو أعظم في المنفعة، وأظهر في النِّعمة، مع الجمال والوطاءة إلى ذكر ما لا يدانيه؟

ركوب البغال واختيارها للحرب قال: وممّا يهجِّن شأن البغل ويُخبر عن إبطائه عند الحاجة إلى سُرعته، أنّ القائد الشُّجاع، والرئيس المُطاع، إذا أراد أن يُعلم أصحابه أنه لا يفرُّ، حتى يفتح الله عليه أو يقتل، ركب بغلاً. ولذلك قال الشاعر: إذا ركب الأُسوار بغلاً وبغلةً ... لدى الحرْبِ والهيْجاء قدْ شُبَّ نارها فذاك دليلٌ لا يُخيل، وعزْمةٌ ... على الصَّبْرِ حتَّى يُسْتبانَ بشارُها وذو الصَّبر أوْلاهُم بكُلِّ سلامةٍ ... وبالصّبْرِ يبْدو عقبها وعيارُها وذهب إلى قول أبي بكر، رضي الله عنه، لخالد بن الوليد: " احرص على الموت تُوهب لك الحياة ". يقول: إذا صبرتم ولم تفرّوا، هزمتم العدو، فصار صبركم سبباً لحياتكم. وحدَّثني نهيك بن أحمد بن نهيك، كاتب عبد الله بن ظاهر، قال: اقتتل أصحاب الأمير عبد الله بن طاهر، وأصحاب نصْر بن شبث يوماً على باب كيسوم، ونصرٌ في آخر القوم جالسٌ على مصلَّى، محتبٍ بحمائل سيفه،

وبين يديه بغل مُسْرج مجلل، والله ما أدري أكان الجُلّ تحت اللِّبْد، أم كان فوق السَّرج، وشدّ عزيز على أصحاب نصر شدَّةً كشفتْهم، حتى جاوزوا مكان نصر، وصار عزيز بحذاء نصر، ونصرٌ جالس؛ فلما رأى ذلك وثب وثبةً فإذا هو على ظهر البغل، وقال: مكانك يا عزيز! أتبلغ إلى موضعي، وتطأ حريمي؟! ثم شدَّ نحوه على بغله، وعزيز على برذونٍ، فعزف - والله - عزيزٌ عنه، وعزيز يومئذ فارس العسكر غير مدافع. نقد تشبيه البغل بالكلب وأنشدوا في البغل: أردْت مديح البغْل يا شيْخ مذْحجٍ ... فجئت بشيْءٍ صيَّر البغل كالكلبِ وحسبك لُؤماً بالكلاب ودقّةً ... وقدْ ثمَّنُوا شرواه شأْواً من التُّرْبِ لأن في الحديث: إنَّ دية الكلب زبيلٌ من تراب، حقّ على القاتل أن يفعله، وحقَّ على صاحب الكلب أن يقبله. تم الكتاب بعون الله تعالى ومنّه. يتلوه كتاب الحنين إلى الأوطان، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وسلامه.

الرسالة السابعة عشرة رسالة الحنين إلى الأوطان

الرسالة السابعة عشرة رسالة الحنين إلى الأوطان

بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ لكلِّ شيءٍ من العلم، ونوعٍ من الحكمة، وصنفٍ من الأدب، سبباً يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتاً، ومعنىً يحدو على جمع ما كان منه متفرقاً. ومتى أغفل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار واستنباط الآثار، وضمَّ كلِّ جوهرٍ نفيسٍ إلى شكله، وتأليف كلّ نادر من الحكمة إلى مثله بطلت الحكمة وضاع العلم، وأميت الأدب، ودرس مستور كلِّ نادر. ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم وضاع آخره. ولذلك قيل: " لا يزال الناس بخيرٍ ما بقي الأول يتعلم منه الأخير ". وإنَّ السبب الذي بعث على جمع نتفٍ من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها، وشوقها إلى تربها وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقَّد النار في أكبادها، أني فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع إلى الأوطان، فسمعته يذكر أنه اغترب من بلده إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه، وأخصب من جنابه. ولم يزل

عظيم الشأن جليل السلطان، تدين له من عشائر العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها وشجعانها، يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغبٌ إليه، أو راهبٌ منه؛ فكان إذا ذكر التُّربة والوطن حنَّ إليه حنين الإبل إلى أعطانها، وكان كما قال الشاعر: إذا ما ذكرت الثَّغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نُهبةً للهماهمِ حنيناً إلى أرضٍ بها اخضرَّ شاربي ... وحُلَّت بها عنِّي عقود التمائمِ وألطف قومٍ بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حقَّ التقادمِ وكما قال الآخر: يقرُّ بعيني أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاودِ وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقد ملّ السُّرى كلُّ واخدِ وألصق أحشائي بيرد ترابها ... وإن كان مخلوطاً بسم الأساودِ

فقلت: لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرُّشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توّاقة. وقالت الهند: حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما، وغذاءهما منه. وقال آخر: احفظ بلداً رشّحك غذاؤه، وارع حمىً أكنّك فناؤه. وأولى البلدان بصبابتك إليه بلدٌ رضعت ماءه، وطعمت غذاءه. وكان يقال: أرض الرجل ظئره، وداره مهده. والغريب النائي عن بلده، المتنحّي عن أهله، كالثور النادِّ عن وطنه، الذي هو لكلِّ رامٍ قنيصة.

وقال آخر: الكريم يحنُّ إلى جنابه، كما يحنُّ الأسد إلى غابه. وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه ومحلِّ رضاعه، كالعير الناشط عن بلده، الذي هو لكل سبعٍ قنيصة، ولكل رامٍ دريئة. وقال آخر: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقَّةً وحفاوة. وقال آخر: أحقُّ البلدان بنزاعك إليه بلدٌ أمصَّك حلب رضاعه. وقال آخر: إذا كان الطائر يحنُّ إلى أوكاره، فالإنسان أحقُّ بالحنين إلى أوطانه. وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرِّعاية، والرِّعاية من الرَّحمة، والرَّحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرَّشدة، وطهارة الرَّشدة من كرم المحتد. وقال آخر: ميلك إلى مولدك من كرم محتدك. وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يُسرك في غربتك.

وأنشد: لقربُ الدار في الإقتار خيرٌ ... من العيش الموسَّع في اغترابِ وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، فقد شربه، فهو ذاوٍ لا يثمر، وذابلٌ لا ينضر. وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونةٌ بحبِّ الوطن. ولذلك قال بُقراط: يُداوى كلُّ عليلٍ بعقاقير أرضه؛ فإنَّ الطبيعة تتطلَّع لهوائها، وتنزع إلى غذائها. وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها. وقال جالينُوس: يتروّح العليل بنسيم أرضه، كما تنبت الحبة ببلِّ القطْر. والقول في حبِّ الناس الوطن وافتخارهم بالمحالِّ قد سبق، فوجدنا الناس بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم.

ولذلك قال ابن الزُّبير: " لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرِّزق ". وترى الأعراب تحنُّ إلى البلد الجدْب، والمحلِّ القفر، والحجر الصَّلْد، وتستوخم الرِّيف، حتَّى قال بعضهم: أتجلين في الجالين أم تتصبَّري ... على ضيق عيشٍ والكريمُ صبورُ فبالمصر بُرغوثٌ وحُمّى وحصْبةٌ ... ومُوم وطاعونٌ وكلُّ شُرورُ وبالبيد جوعٌ لا يزالُ كأنَّه ... رُكامٌ بأطراف الإكام يمورُ وترى الخضريَّ يُولد بأرض وبقاءٍ وموتانٍ وقلَّة خِصْب، فإذا وقع ببلادٍ أريف من بلاده، وجنابٍ أخصب من جنابه، واستفاد غنىً، حنَّ إلى وطنه ومستقرِّه. ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصُه، ولكن توخَّينا تدوين أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعاهم، وبالله التوفيق. ومما يؤكِّد ما قلنا في حبِّ الأوْطان قول الله عزّ وجلّ حين ذكر الدِّيار

يُخْبر عن مواقعها من قلوب عباده فقال: " لو أنّا كتبْنا عليهمْ أن اقْتلوا أنْفُسكُمْ أو اخْرجُوا من دياركم ما فعلوه إلاَّ قليلٌ منهم "، فسوَّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم. وقال تعالى: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا ". وقال عمر رضي الله عنه: " عَمَّر الله البُلدان بحبِّ الأوطان ". وكان يقال: لولا حبُّ الناس الأوطان لخسرت البُلدان. وقال عبد الحميد الكاتب، وذكر الدُّنيا: " نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان ". وقالت الحكماء: أكرم الخيل أجزعُها من السَّوط، وأكيس الصِّبيان أبغضُهم للكُتَّاب، وأكرم الصَّفايا أشدُّها ولهاً إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدُّها حنيناً إلى أوطانها، وأكرم المهارة أشدُّها ملازمةً لأمِّها، وخير الناس آلفُهم للناس. وقال آخر: من إمارات العاقل برُّه لإخوانه، وحنينه لأوطانه، ومداراته لأهل زمانه.

واعتلَّ أعرابيٌّ في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: حسْل فلاة، وحسْو قلات. وسئل آخر فقال: محْضاً رويّاً، وضبّاً مشويّاً. وسئل آخر فقال: ضبّاً عنيناً أعور. وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك. وقيل: الغُربة كُربة، والقلّة ذلة. وقال: لا ترغبوا اخوتي في غربة أبداً ... إنّ الغريب ذليلٌ حيثما كانا وقال آخر: لا تنهض من وكرك فتنقُصك الغُربة، وتضيمك الوحدة. وقال آخر: لا تجفُ أرضاً بها قوا بلك، ولا تشكُ بلداً فيه قبائلك.

وقال أصحاب القيافة في الاسترواح: إذا أحسَّت النفس بمولدها تفتَّحتْ مسامُّها فعرفت النَّسيم. وقال آخر: يحنُّ اللبيب إلى وطنه، كما يحنُّ النَّجيبُ إلى عطنه. وقال: كما أنَّ لحاضنتك حقَّ لبنها، كذلك لأرضك حرمة وطنها. وذكر أعرابيٌّ بلدةً فقال: رملةٌ كنت جنين رُكامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها. وشبَّهت الحكماء الغريب باليتيم اللَّطيم الذي ثكل أبويه، فلا أُمَّ ترأمه، ولا أبَ يحدب عليه. وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك فلا تنسَ نصيبك من الذلّ. وقال الشاعر: لعمري لرهطُ المرء خيرٌ بقيَّةً ... عليه وإن عالوْا به كلَّ مركبِ

إذا كنت في قومٍ عدىً لست منهم ... فكُلْ ما عُلفت من خبيثٍ وطيِّبِ وفي المثل: " أوضحُ من مرآة الغريبة ". وذلك أن المرأة إذا كانت هديّاً في غير أهلها، تتفقَّد من وجهها وهيئتها ما لا تتفقَّده وهي في قومها وأقاربها، فتكون مرآتها مجلوَّةً تتعهَّد بها أمر نفسها. وقال ذو الرمّة: لها أُذنٌ حشْرٌ وذفرى أسيلةٌ ... وخدٌّ كمرآة الغريبة أسجحُ وكانت العرب إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزْلةٍ أو زكام أو صُداع. وأُنشد لبعض بني ضبَّة: نسير على علمٍ بكُنه مسيرنا ... وعُدّةِ زاد في بقايا المزاودِ ونحمل في الأسفار ماء قبيصةٍ ... من المنشأ النائي لحبِّ المراودِ وقال آخر: أرضُ الرَّجل أوضحُ نسبه، وأهله أحضر نشبه. وقيل لأعرابيٍّ: كيف تصنع في البادية إذا اشتدَّ القيظُ وانتعل كلُّ شيء ظلَّه؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحُدنا ميلاً فيرفضُّ

عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقى عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الرِّيح، فكأنَّه في إيوان كسرى!. وقيل لأعرابيٍّ: ما أصبركم على البدو؟ قال: كيف لا يصبر من وطاؤه الأرض، وغطاؤه السماء، وطعامه الشَّمس، وشرابه الريح! والله لقد خرجنا في إثر قومٍ قد تقدَّمونا بمراحل ونحن حُفاة، والشَّمس في قُلَّة السماء، حيث انتعل كلُّ شيءٍ ظلَّه، وأنَّهم لأسوأُ حالاً منّا، إنّ مهادهم للعفر، وإنَّ وسادهم للحجر، وإنّ شعارهم للهواء، وإنّ دثارهم للخواء. وحدّثني التوّزيُّ عن رجلٍ من عُرينة قال حدّثني رجلٌ من بني هاشمٍ قال: قلتُ لأعرابي من بني أسد: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية. قلت: وأين تسكن منها؟ قال: مساقط الحمى حمى ضريّة، بها لعمر الله ما نُريد بدلاً، ولا نبغي عنها حولا، أمّا الفلوات،

فلا يملوْلح ماؤها، ولا يحمى ترابها، ولا يُعمر جنابها، ليس فيها أذىً ولا قذىً، ولا أنينٌ ولا حُمَّى؛ فنحن بأرفه عيشٍ وأرفع نعمْة! قلت: فما طعامكم فيها؟ قال: بخٍ بخ! عيشُنا والله عيشٌ تعلَّل جادبه، وطعامنا أطيب طعامٍ وأهنؤه: الهبيد والضِّباب واليرابيع، والقنافذ والحيَّات، وربَّما والله أكلْنا القدّ، واشتوينا الجلْد، فلا نعلم أحداً أخصب منّا عيشاً، فالحمد لله على ما بسط من السَّعة، ورزق من الدَّعة، أو ما سمعت قول قائلنا وكان والله عالماً بلذيذ العيش: إذا ما أصبنا كلَّ يومٍ مُذيقةً ... وخمس تُميراتٍ صغارٍ كنائزِ

فنحن ملوك الأرض خصْباً ونعْمةً ... ونحن أسود الغاب عند الهزاهزِ وكم متمنٍّ عيْشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حقَّ فائزِ ولهذا خبر طويلٌ وصف فيه نُوقاً أضلَّها، واقتصرنا منه على ما وصف من قناعته بوطنه. قال الهاشميّ: فلمَّا فرغ من نعته قلت له: هل لك في الغذاء؟ قال: إنيّ والله غاوي إغباب، لاصقُ القلب بالحجاب، مالي عهدٌ بمضاغٍ إلا شلو يربوع وجد معمعمةً منِّي فانسلت، فأخذت منه بنافقائه وقاصعائه ودامَّائه وراهطائه، ثم تنفَّقتُه فأخرجته، ولا والله ما فرجتُ بشيءٍ فرحى به، فتلقَّاني رُويعٍ ببطن الخرْجاء، يُوقد نُويرةً تخبو طوراً

وتسمو أخرى، فدسسته في إرته فخمدت نُويرتُه، ولا والله ما بلغ نُضجه حتَّى اختلس الرُّويعي منه، فغلبني على رأسه وجوْشه، وصدره وبدنه، وبقي بيدي رجلاه ووركاه، وفقرتان من صُلبه، فكان ذلك ممَّا أنعم الله به عليَّ، فاغتبقتُها على نكْظٍ مُنْكظ، وبوْصٍ بائص عن عراكه إيّاي، غير أنَّ الله أعانني عليه. فلذلك والله عهدي بالطّعام، وإني لذو حاجةٍ إلى غذاء أنوِّه به فؤادي، وأشُدُّ به آدى، فقد والله بلغ مني المجهود، وأدرك منيّ المجلود. يصف هذا البؤس والجهد، ويتحَّمل هذه الفاقة، ويصبر على الفقر، قناعةً بوطنه، وحبّاً لعطنه، واعتداداً بما وصف من رفاغة عيشه.

وحدَّثنا سليمان بن معبد، أنَّ الوليد بن عبد الملك أراد أن يُرسل خيله، فجاء أعرابيٌّ له بفرسٍ أُنثى، فسأله أن يُدخلها مع خيله، فقال الوليد لقهرمانة أُسيْلم بن الأحنف: كيف تراها يا أسيلم؟ فقال يا أمير المؤمنين، حجازيّة، لو ضمَّها مضمارك ذهبت. قال الأعرابي: أنت والله منقوص الاسم، أعوج اسم الأب! فأمر الوليد بإدخال فرسه، فلمَّا أُجريت الخيلُ سبق الأعرابيُّ على فرسه، فقال الوليد: أواهبُها لي أنت يا أعرابيّ؟ فقال: لا والله، إنّها لقديمةُ الصُّحبة، ولها حقٌّ ولكن أحملك على مُهرٍ لها سبق عاماً أوّل وهو رابضٌ. فضحك الوليدُ وقال: أعرابيٌّ مجنون! فقال: وما يضحككم؟ سبقتْ أمُّه عاماً أوّل وهو في بطنها! فاستظرفه واحتبسه عنده فمرض، فبعث إليه الوليد بالأطباء، فأنشأ يقول: جاء الأطبَّاء من حمصٍ تخالهم ... من جهلهم أن أُداوى كالمجانينِ قال الأطبَّاء: ما يشْفيك؟ قلت لهم ... شمُّ الدُّخانِ من التسرير يشفيني

إنِّي أحنُّ إلى أدخان مُحتطبٍ ... من الجُنينة جزلٍ غير موزونِ فأمر الوليد أن يُحمل إليه من رمثٍ سليخة، فوافوه وقد مات. فهو عند الخليفة، وببلدٍ ليس في الأقاليم أريفُ منه، ولا أخصبُ جناباً، فحنَّ إلى سليخة رمثٍ، وحبّاً للوطن. وحكى أبو عبد الله الجعفري عن عبد الله بن إسحاق الجعفريّ قال: أمرتُ بصهريجٍ لي في بستانٍ، عليه نخلٌ مُطلٌّ أن يُملأ، فذهبت بأمِّ الحسام المرّيّة وابنتها - وهي زوجتي - فلمَّا نظرتْ أمُّ الحسام إلى الصِّهريج قعدتْ عليه وأرسلتْ رجليها في الماء، فقلت لها: ألا تطُوفين معنا على هذا النَّخل، لنجني ما طاب من ثمره؟ فقالت: ها هنا أعجبُ إليّ. فدُرنا ساعةً وتركناها، ثم انصرفنا وهي تُخضخض رجليها في الماء وتحرِّك شفتيها، فقلت: يا أمّ الحسام، لا أحسبك إلا وقد قلت شعراً. قالت: أجل. ثم أنشدتني: أقول لأدنى صاحبيَّ أُسرُّه ... وللعين دمعٌ يحدر الكُحل ساكبُه

لعمري لنهيٌ باللِّوى نازح القذى ... نقيُّ النواحي غير طرْق مشاربُه بأجرع ممراعٍ كأنَّ رياضه ... سخاب من الكافور والمسك شائبُه أحبُّ إلينا من صهاريج مُلِّئت ... للعبٍ فلم تملُح لديّ ملاعنُه فيا حبّذا نجدٌ وطيبُ ترابه ... إذا هضبته بالعشيِّ هواضبُه وريح صبا نجدٍ إذا ما تنسمَّتْ ... ضحىً أوسرت جُنح الظلام جنائبُه وأنشد أبو النصر الأسديّ: أحبُّ الأرض تسكنُها سليمى ... وإن كانت توارثها الجُدوبُ وما دهري بحبِّ تراب أرضٍ ... ولكن من يحلُّ بها حبيبُ وأنشدني حمَّاد بن إسحاق الموصلي: أحبُّ بلاد الله ما بين صارةٍ ... إلى غطفان إذ يصوب سحابُها

بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي ... وأول أرضٍ مسَّ جلدي ترابُها قال: ولمّا حُملت نائلة بنت الفرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه، كرهت فراق أهلها، فقالت لضبّ أخيها: ألست ترى بالله يا ضبُّ أنّني ... مرافقةٌ نحو المدينة أركُبا أما كان في أولاد عوف بن عامرٍ ... لك الويل ما يُغني الخباء المطَّنبا أبي الله إلاّ أن أكون غريبةً ... بيثرب لا أمّاً لديَّ ولا أبا قال: وزُوِّجت من أبان في كلبٍ امرأةٌ، فنظرتْ ذات يومٍ إلى ناقةٍ قد حنَّت فذكرتْ بلادها وأنشأتْ تقول: ألا أيُّها البكْرُ الأبانيُّ إننّي ... وإياك في كلبٍ لمغتربانِ نحنُّ وأبكى ذا الهوى لصبابةٍ ... وإنَّا على البلوى لمصطحبانِ وإنَّ زماناً أيُّها البكرُ ضمَّني ... وإيّاك في كلبٍ لشرُّ زمانِ وقال آخر: ألا يا حبّذا وطني وأهلي ... وصحْبي حين يُدَّكَرُ الصَّحابُ وما عسلٌ ببارد ماءِ مُزنٍ ... على ظمأٍ لشاربه يُشابُ بأشهى من لقائكم إلينا ... فكيف لنا به، ومتى الإيابُ

وأنشد الغنويُّ لبعض الهذليين: وأرى البلاد إذا سكنتِ بغيرها ... جدْباً وإن كانت تُطلُّ وتُجنبُ وأرى العدوَّ يحبُّكم فأحبُّه ... إن كان يُنسب منك أو يتنسَّبُ وأرى السَّميَّة باسمكم فيزيدها ... حبّاً إلى ... ... ... قال: ومن هذا أخذ الطائيُّ قوله: كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى ... وحنينُه أبداً لأوّل منزلِ وأنشد أبو عمرٍو البجلي: تمتَّعْ من شميم عرار نجدٍ ... فما بعد العشيّة من عرارِ

ألا يا حبّذا نفحاتُ نجدٍ ... ورياً روضه غبَّ القطارِ وعيشك إذْ يحُلُّ القومُ نجداً ... وأنت على زمانك غير زارِ شهورٌ ينقضين وما شعرنا ... بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ فأما ليلهنَّ فخيرُ ليلٍ ... وأقصر ما يكون من النَّهارِ وقال آخر: ألا هل إلى شمِّ الخُزامى ونظرةٍ ... إلى قرقري قبل المماتِ سبيلُ فأشرب من ماء الحجيلاء شربةً ... يُداوي بها قبل المماتِ عليلُ فيا أثلاثِ القاعِ، قلبي موكَّلٌ ... بكنَّ وجدوى خيركنَّ قليلُ ويا أثلاث القاع قد ملَّ صُحبتي ... مسيري فهل في ظلِّكنَّ مقيلُ

أُريدُ انحداراً نحوها فيردُّني ... ويمنعني دينٌ، عليَّ ثقيلُ أحدِّث نفسي عنك إذْ لستُ راجعاً ... إليك، فحزني في الفؤادِ دخيلُ وأنشد للمجنون: إلى عامرٍ أصبو، وما أرضُ عامرٍ ... هي الرَّملةُ الوعساء والبلد الرَّحبُ معاشر بيضٌ لو وردت بلادهم ... وردت بُحوراً ماؤها للنَّدى عذبُ إذا ما بدا للناطرين خيامُهم ... فثمَّ العتاقُ القُبُّ والأسل القضْبُ وأنشدنا المازني: اقرأ على الوشل السَّلام وقل له: ... كلُّ الموارد مُذ هُجرت ذميمُ جبل يُنيف على الجبال إذا بدا ... بين الغدائر والرِّمال مقيمُ

تسري الصَّبا فتبيتُ في ألواده ... ويبيت فيه من الجنوب نسيمُ سقياً لظِّلك بالعشيّ وبالضُّحى ... ولبرد مائك والمياه حميمُ لو كنت أملك برد مائك لم يذقْ ... ما في قلاتك ما حييتُ لئيمُ وقال امرأةٌ من عقيل: خليليَّ من سكان ماوان هاجني ... هبوبُ الجُنوبِ مرُّها وابتسامُها فلا تسألاني ما ورائي فإنَّني ... بمنزلةٍ أعيا الطبيب سقامُها وقال آخر: ألا ليت شعري والحوادثُ جمّةٌ ... متى تجمعُ الأيامُ يوماً لنا الشَّملا وكلُّ غريبٍ سوف يُمسي بذلَّةٍ ... إذا بان عن أوطانه وجفا الأهلا وقال آخر: ألا ليت شعري يُجمع الشَّملُ بيننا ... بصحراء من نجران ذات ثرى جعدِ وهل تنْفُضنَّ الرِّيحُ أفنان لمَّتى ... على لاحق الرِّجلين مضطمرٍ وردِ

وهل أردنَّ الدَّهر حسْي مزاحمٍ ... وقد ضربته نفحةٌ من صبا نجدِ وقال آخر: وأنزلني طولُ النَّوى دار غرْبةٍ ... إذا شئتُ لاقيت امرأً لا أشاكلُه فحامقتُه حتَّى يقالُ سجيّةٌ ... ولو كان ذا عقلٍ لكنتُ أعاقلُه ولو كنتُ في قومي وجُلِّ عشيرتي ... لألفيت فيهم كلّ خرقٍ أواصلُه وأنشد لذي الرمة: إذا هبَّت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهلُ ميٍّ هاج قلبي هبوبُها هوىً تذرف العينان منه، وإنّما ... هوى كلِّ أرض حيث حلّ حبيبُها وقال أبو عثمان: رأيت عبداً أسود حبشيّاً لبني أسيد قدم من شقِّ اليمامة فصار ناوراً، وكان وحشيّاً مجنوناً لطول الغربة مع الإبل، وكان لا يلقى

إلاّ الأكرة، فلا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلمَّا رآني سكن إليَّ، وسمعته يقول: لعن الله أرضاً ليس بها عرب، قاتل الله الشاعر حيث يقول: " حرُّ الثرى مُستعرب التُّراب ". أبا عثمان، إنَّ هذه العُريب في جميع الناس كمقدار القُرحة في جلد الفرس، فلولا أنَّ الله رقَّ عليهم فجعلهم في حشاةٍ لطمست هذه العجم آثارهم. أترى الأعيار إذا رأت العتاق لا ترى لها فضلا! والله ما أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقتلهم، إذْ لا يدينون بدينٍ، إلاّ لضنِّه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم إلاّ تنزيهاً لهم. وقيل لأعرابيٍّ: ما السُّرور؟ فقال: أوبةٌ بغير خيبة، وألفةٌ بعد غيبة. وقيل لآخر: ما السُّرور؟ قال: غيبةٌ تُفيد غنىً، وأوبةٌ تُعقب مُنىً. وأنشأ يقول: وكنت فيهم كممطورٍ ببلدته ... يُسرُّ أن جمع الأوطانَ والمطرا وأحسن ما سمعنا في حبِّ الوطن وفرحة الأوبة قوله:

وياسرتها فاستعجلت عن قناعها ... وقد يستخفُّ الطامعين المُياسرُ مشمِّرة عن ساق خدلاء حُرَّة ... تُجاري بنيها مرّةً وتُحاضرُ وخبَّرها الرُّواد أن ليس بينها ... وبين قُرى نجران والدَّربِ صافرُ فألقت عصاها واستقرَّت بها النوى ... كما قرَّ عيناً بالإياب المسافرُ وقيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان. قيل: فما الذّلّة؟ قال: التنقُّل في البلدان، والتنحِّي عن الأوطان. وقال آخر: طلب المعاشِ مفرِّقٌ ... بين الأحبَّة والوطنْ ومصيرٌ جلَّد الرجا ... ل إلى الضراعة والوهن حتى يقاد كما يقا ... د النَّضو في ثني الرَّسنْ ثم المنيَّة بعده ... فكأنه ما لم يكنْ ووجدنا من العرب: من قد كان أشرف على نفسه، وأفخر في حسبه؛ ومن العجم: من كان أطيب عنصراً وأنفس جوهراً أشد حنيناً إلى وطنه، ونزاعاً إلى تربته.

وكانت الملوك على قديم الدَّهر لا تؤثر على أوطانها شيئاً. وحكى المُوبذ أنَّه قرأ في سيرة إسْفنديار بن يستاسف بن لُهْواسف، بالفارسية، أنه لمَّا غزا بلاد الخزر ليستنقذ أخته من الأسر، اعتلَّ بها، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: شمَّةً من تُربة بلخ، وشربةً من ماء واديها. واعتلَّ سابور ذو الأكتاف بالرُّوم، وكان مأسوراً في القدّ، فقالت له بنت ملك الرُّوم وقد عشقتْه: ما تشتهي مما كان فيه غذاؤك؟ قال: شربةً من ماء دجْلة، وشمَّةً من تربة إصطخر! فغبرت عنه أيّاماً ثم أتته يوماً بماءِ الفرات، وقبضةً من تراب شاطئه، وقالت: هذا من

ماء دجلة، وهذه من تربة أرضك، فشرب واشتمَّ من تلك التُّربة فنقه من مرضه. وكان الإسكندر الرُّومي جال في البلدان وأخْرب إقليم بابل، وكنز الكنوز وأباد الخْلق، فمرض بحضْرة بابل، فلما أشفى أوصى إلى حكمائه ووزرائه أن تحمل رمَّته في تابوتٍ من ذهبٍ إلى بلده؛ حبّاً للوطن. ولمَّا افتتح وهرز بن شيرزاذ بن بهرام جور اليمن، وقتل ملك الحبشة المتغلب - كان - على اليمن، أقام بها عاملاً لأنوشروان، فبنى نجران اليمن - وهي من أحصن مدن الثغور - فلما أدركته الوفاة أوصى ابنه شير زاد أن يحمل إلى إصطخر ناوس أبيه، ففعل به ذلك. فهؤلاء الملوك الجبابرة الذين لم يفتقدوا في اغترابهم نعمة، ولا غادروا في أسفارهم شهوة، حنُّوا إلى أوطانهم، ولم يؤثروا على تُربهم ومساقط رءوسهم شيئاً من الأقاليم المستفادة بالتغازي والمدن المغتصبة من ملوك الأمم. وهؤلاء الأعراب مع فاقتهم وشدّة فقرهم يحنُّون إلى أوطانهم، ويقنعون بتُربهم ومحالِّهم.

ورأيتُ المتأدِّب من البرامكة المتفلسف منهم، إذا سافر سفراً أخذ معه من تربة مولده في جرابٍ يتداوى به. ومن أصدق الشواهد في حبِّ الوطن أن يوسف عليه السلام، لمّا أدركته الوفاة أوصى أن تُحمل رمّته إلى موضع مقابر أبيه وجدِّه يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام. وروي لنا أنَّ أهل مصر منعوا أولياء يوسف من حمله، فلمَّا بعث الله موسى عليه السلام وأهلك على يديه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمَّته إلى تربة يعقوب بالشَّام، وقبره علمٌ بأرض بيت المقدس بقرية تسمَّى حسامي. وكذلك يعقوب، مات بمصر فحملت رمّته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.

ومن حبِّ الناس للوطن، وقناعتهم بالعطن، أنّ إبراهيم لمّا أتى بهاجر أُمِّ إسماعيل مكّة فأسكنها، وليس بمكّة أنيسٌ ولا ماء، ظمئ إسماعيل فدعا إبراهيم ربَّه فقال: " ربِّ إنِّي أسْكنْتُ منْ ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عنْد بيْتِكَ المُحرَّم "، أجاب الله دعاءه إذ رضى به وطناً، وبعث جبريل عليه السلام فركض موضع زمزم برجله، فنبع منه زمزم. ومرّ بإسماعيل وأمِّه فرقةٌ من جُرهم، فقالوا: أتأْذنون لنا أن ننزل معكم؟ فقالت هاجر: نعمْ ولا حقَّ لكم في الماء، فصار إسماعيل وولده قُطَّان مكة، لدعوة إبراهيم عليهما السلام. نعم، وهي مع جدوبتها خير بقاع الأرض، إذ صارت حرماً، ولإسماعيل وولده مسكناً، وللأنبياء منسكاً ومجمعاً على غابر الدَّهر. وممَّن تمسَّك من بني إسرائيل عليه السلام بحبِّ الأوطان خاصَّةً، ولد هارون، وآل داود؛ لم يمت منهم ميِّت في إقليم بابل في أيِّ البُلدان مات، إلاَّ نبشوا قبره بعد حول، وحملت رمَّته إلى موضع يدعى الحصاصة بالشَّام فيودعُ هناك حولاً، فإذا حال الحول نُقلت إلى بيت المقدس. وقال الفرزدق: لكسرى كان أعقل من تميم ... ليالي فرَّ من بلد الضِّبابِ فأسكن أهله ببلاد ريفٍ ... وجنّاتٍ وأنهارٍ عذابِ

فصار بنُو بنيه بها مُلوكاً ... وصرْنا نحن أمثال الكلابِ فلا رحم الإله صدى تميمٍ ... فقد أزرى بنا في كلِّ بابِ وقال آخر في حبّ الوطن: سقى الله أرض العاشقين بغيثه ... وردَّ إلى الأوطان كلَّ غريبِ وأعطى ذوي الهيئات فوق مُناهم ... ومتَّع محبوباً بقرب حبيبِ

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي فصل من صدر كتابه في الحاسد والمحسود وهب الله لك السلامة. وأدام لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ورفع عنك الندامة. كتبت إلي - أيدك الله - تسألني عن الحسد ما هو؟ ومن أين هو؟ وما دليله وأفعاله؟ وكيف تعرف أموره وأحواله، وبم يعرف ظاهره ومكتومه، وكيف يعلم مجهوله ومعلومه، ولم صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء؟ ولم كثر في الأقرباء وقل في البعداء؟ وكيف دب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟ وكيف خص به الجيران من بين أهل جميع الأوطان. والحسد - أبقاك الله - داء ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه

عسر، وصاحبه ضجر. وهو باب غامض وأمر متعذر، وما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء ". وقال بعض الناس لجلسائه: أي الناس أقل غفلة؟ فقال بعضهم: صاحب ليل، إنما همه أن يصبح. فقال: إنه لكذا وليس كذا. وقال بعضهم: المسافر، إنما همه أن يقطع سفره. فقال: إنه لكذا وليس كذا. فقالوا له: فأخبرنا بأقل الناس غفلة. فقال: الحاسد، إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها، فلا يغفل أبداً. ويروى عن الحسن أنه قال: الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس. وما أتي المحسود من حاسده إلا من قبل فضل الله عنده ونعمه عليه قال الله عز وجل: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ". والحسد عقيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، وحرب البيان. فقد ذم الله أهل الكتاب به فقال: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ".

منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنتج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم بين الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدر كمون النار في الحجر. ولو لم يدخل على الحاسد بعد تراكم الغموم على قلبه، واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه ووسواس ضميره، وتنغص عمره وكدر نفسه ونكد عيشه، إلا استصغاره نعمة الله عليه، وسخطه على سيده بما أفاد غيره. وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وأن لا يرزق أحداً سواه، لكان عند ذوي العقول مرحوماً، وكان لديهم في القياس مظلوماً. وقد قال بعض الأعراب: " ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم ".

والحاسد مخذول وموزور، والمحسود محبوب ومنصور. والحاسد مغموم ومهجور، والمحسود مغشي ومزور. والحسد - رحمك الله - أول خطيئة ظهرت في السموات، وأول معصية حدثت في الأرض، خص به أفضل الملائكة فعصى ربه، وقايسه في خلقه، واستكبر عليه فقال: " خلقتني من نار وخلقته من طين "، فلعنه وجعله إبليساً، وأنزله من جواره بعد أن كان أنيساً، وشوه خلقه تشويهاً، وموه على نبيه تمويهاً نسي به عزم ربه، فواقع الخطيئة، فارتدع المحسود وتاب عليه وهدى، ومضى اللعين الحاسد في حسده فشقي وغوى. وأما في الأرض فابنا آدم حيث قتل أحدهما أخاه، فعصى ربه وأثكل أباه. وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. لقد حمله الحسد على غاية القسوة، وبلغ به أقصى حدود

العقوق، فأنساه من رحمه جميع الحقوق، إذ ألقى الحجر عليه شادخاً وأصبح عليه نادماً صارخاً. ومن شأن الحاسد إن كان المحسود غنياً أن يوبخه على المال فيقول: جمعه حراماً ومنعه أثاماً. وألب عليه محاويج أقاربه فتركهم له خصماء، وأعانهم في الباطن وحمل المحسود على قطيعتهم في الظاهر وقال له: لقد كفروا معروفك، وأظهروا في الناس ذمك، فليس أمثالهم يوصلون، فإنهم لا يشكرون. وإن وجد له خصماً أعانه عليه ظلماً، وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشه، أو تفضل عليه بمعروف كفره، أو دعاه إلى نصر خذله، وإن حضر مدحه ذمه وإن سئل عنه همزه، وإن كانت عنده شهادة كتمها، وإن كانت منه إليه زلة عظمها، وقال: إنه يحب أن يعاد ولا يعود، ويرى عليه العقود.

وإن كان المحسود عالماً قال: مبتدع، ولرأيه متبع، حاطب ليل ومبتغي نيل، لا يدري ما حمل، قد ترك العمل، وأقبل على الحيل. قد أقبل بوجوه الناس إليه، وما أحمقهم إذ انثالوا عليه. فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته، وأقل رعته، وأسوأ طعمته. وإن كان المحسود ذا دين قال: متصنع يغزو ليوصى إليه، ويحج ليثنى بشيء عليه، ويصوم لتقبل شهادته، ويظهر النسك ليودع المال بيته، ويقرأ في المسجد ليزوجه جاره ابنته، ويحضر الجنائز لتعرف شهرته. وما لقيت حاسداً قط إلا تبين لك مكنونه بتغير لونه وتخوص عينه وإخفاء سلامه، والإقبال على غيرك والإعراض

عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك. وكان عبد الله بن أبي، قبل نفاقه، نسيج وحده لجودة رأيه وبعد همته، ونبل شيمته، وانقياد العشيرة له بالسيادة، وإذعانهم له بالرياسة. وما استوجب ذلك إلا بعدما استجمع له لبه، وتبين لهم عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلاً، لما أطاق له حملاً. فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، ورأى هو عز رسول الله صلى الله عليه وسلم شمخ بأنفه فهدم إسلامه لحسده، وأظهر نفاقه. وما صار منافقاً حتى كان حسوداً، ولا صار حسوداً حتى صار حقوداً. فحمق بعد اللب، وجهل بعد العقل، وتبوأ النار بعد الجنة.

ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشكاه إلى الأنصار. فقالوا: يا رسول الله لا تلمه، فإنا كنا عقدنا له الخزر قبل قدومك لنتوجه. ولو سلم المخذول قلبه من الحسد لكان من الإسلام بمكان. ومن السؤدد في ارتفاع. فوضعه الله لحسده، وأظهر نفاقه ولذلك قال القائل: طال على الحاسد احزانه ... فاصفر من كثرة أحزانه دعه فقد أشعلت في جوفه ... ما هاج من حر نيرانه العيب أشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه

فصل في حسد الجيران وذلك أن الجيران - يرحمك الله - طلائع عليك، وعيونهم نواظر إليك، فمتى كنت بينهم معدماً فأيسرت، فبذلت وأعطيت، وكسوت وأطعمت، وكانوا في مثل حالك فاتضعوا، وسلبوا النعمة وألبستها أنت، فعظمت عليهم بلية الحسد، وصاروا منه في تنغيص آخر الأبد. ولولا أن المحسود بنصر الله إياه مستور، وهو بصنعه محجوب لم يأت عليه يوم إلا كان مقهوراً، ولم تأت ليلة إلا وكان عن منافعه مقصوراً. ولم يمس إلا وماله مسلوب، ودمه مسفوك، وعرضه بالضرب منهوك.

فصل منه وأنا أقول حقاً: ما خالط الحسد قلباً إلا لم يمكنه ضبطه، ولا قدر على تسجينه وكتمانه، حتى يتمرد عليه بظهوره وإعلانه، فيستعبده ويستميله، ويستنطقه لظهوره عليه فهو أغلب على صاحبه من السيد على عبده، ومن السلطان على رعيته، ومن الرجل على زوجته ومن الآسر على أسيره. وكان ابن الزبير بالصبر موصوفاً، وبالدهاء معروفاً، وبالعقل موسوماً، وبالمداراة منهوماً، فأظهر بلسانه حسداً كان أضب عليه أربعين سنة لبني هاشم، فما اتسع قلبه لكتمانه، ولا صبر على اكتتامه، لما طالت في قلبه طائلته أظهره وأعلنه، مع صبره على المكاره، وحمله نفسه على حتفها، وقلة اكتراثه والتفاته

لأحجار المجانيق التي كانت تمر عليه فتذهب بطائفة من قومه ما يلتفت إليها. حدثت بذلك عن علي ابن مسهر عن الأعمش، عن صالح بن حباب، عن سعيد بن جبير قال: قدت ابن عباس حتى أدخلته على ابن الزبير، قال: أنت الذي تؤنبني؟ قال: نعم، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس بمؤمن من بات شبعاناً وجاره طاو ". فقال له ابن الزبير: لمن قلت ذلك؟ إني لأكتم بغضكم أهل البيت مذ أربعين سنة. فحسر ابن عباس عن ذراعيه كأنهما عسيبا نخل، ثم قال لابن الزبير: نعم فليبلغ ذاك منك، ما عرفتك. ولقد أجلت الرأي ظهراً لبطن وفكرت في جوابه لابن عباس أن أجد معنى له سوى الحسد فلم أجده، وكانت وخزة في قلبه فلم

يبدها. وفروع بني هاشم حول الحرم باسقة، وعروق دوحاتهم بين أطباقها راسية، ومجالسهم من أعاليها عامرة، وبحورها بأرزاق العباد زاخرة، وأنجمها بالهدى زاهرة. فلما خلت البطحاء من صناديدها استقبله بما أكنه في نفسه. والحاسد لا يغفل عن فرصته إلى أن يأتي الموت على رمته، وما استقبل ابن عباس بذلك إلا لما رأى عمر قدمه على أهل القدم، ونظر إليه وقد أطاف به أهل الحرم، فأوسعهم حكماً، وثقبوا منه رأياً وفهماً، وأشبعهم علماً وحلماً.

فصل وكيف يصبر من استكن الحسد في قلبه على أمانيه. ولقد كان إخوة يوسف حلماء، وأجلة علماء، ولدهم الأنبياء، فلم يغفلوا عما قدح في قلوبهم من الحسد ليوسف، حتى أعطوا أباهم المواثيق المؤكدة، والعهود المقلدة، والأيمان المغلظة، إنهم له لحافظون، وهو شقيقهم وبضعة منهم. فخالفوا العهود ووثبوا عليه بالظلم والقوة، وألقوه في غيابة الجب، وجاءوا على قميصه بدم كذب، فبظلمهم يوسف ظلموا أباهم، طمعاً أن يخلو لهم وجه أبيهم ويتفردوا بحبه، وظنوا أن الأيام تسليه، وحبه لهم من بعد غمه يلهيه، فأسالوا عبرته وأحرقوا قلبه. وكيف لا تقر أعين المحسودين بعد يوسف وقد ملكه الله خزائن الأرض، بصبره على أذى حساده ومقابلته إياهم بالعفو والمكافأة، وحسن العشرة والمواخاة، بعد إمكانه منهم لما أتوه ممتارين، ووفدوا عليه خائفين وهم له منكرون، فأحسن رفدهم، وأكرم قراهم،

فأقروا له لما عرفوه بالإذعان، وسألوه بعد ذلك الغفران، وخروا له سجداً لما وردوا عليه وفداً. فإذا أحسست - رحمك الله - من صديقك بالحسد فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته. وحصن سرك منه تسلم من شره وعوائق ضره. وإياك والرغبة في مشاورته، ولا يغرنك خدع ملقه، وبيان ذلقه، فإن ذلك من حبائل نفاقه. فإن أردت أن تعرف آية مصداقه فأدنين إليه من يهينك عنده، ويذمك بحضرته، فإنه سيظهر من شأنه لك ما أنت به جاهل، ومن خلاف المودة ما أنت عنه غافل. وهو ألح في حسده لك من الذباب، وأسرع في تهريقك من السيل إلى الحدور.

وما أحب أن تكون عن حاسدك غبياً، وعن وهمك بما في ضميره نسياً، إلا أن تكون للذل محتملاً، وعلى الدناءة مشتملاً، ولأخلاق الكرام مجانباً، وعن محمود شيمهم ذاهباً، أو تكون بك إليه حاجة قد صيرتك لسهام الرماة هدفاً، وعرضك لمن أرادك غرضاً. وقد قيل على وجه الدهر: " الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها ". وربما كان الحسود للمصطنع إليه المعروف أكفر له وأشد احتقاداً، وأكثر تصغيراً له من أعدائه. فصل منه ومتى رأيت حاسداً يصوب إليك رأياً إن كنت مصيباً، أو يرشدك

إلى صواب إن كنت مخطئاً، أو أفصح لك بالخير في غيبته عنك، أو قصر من غيبته لك. فهو الكلب الكلب، والنمر النمر والسم القشب، والفحل القطم، والسيل العرم. إن ملك قتل وسبى، وإن ملك عصى وبغى. حياتك موته، وموتك عرسه وسروره. يصدق عليك كل شاهد زور، ويكذب فيك كل عدل مرضي. لا يحب من الناس إلا من يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك. عدوك بطانة وصديقك علانية. وقلت: إنك ربما غلطت في أمره لما يظهر لك من بره. ولو كنت تعرف الجليل من الرأي، والدقيق من المعنى، وكنت في مذاهبك فطناً نقاباً، ولم تك في عيب من ظهر لك عيبه مرتاباً،

لاستغنيت بالرمز عن الإشارة، وبالإشارة عن الكلام، وبالسر عن الجهر، وبالخفض عن الرفع، وبالاختصار عن التطويل، وبالجمل عن التفصيل، وأرحتنا من طلب التحصيل ولكني أخاف عليك أن قلبك لصديقك غير مستقيم، وأن ضمير قلبك له غير سليم، وإن رفعت القذى عن لحيته، وسويت عليه ثوبه فوق مركبه، وقبلت صبيه بحضرته، ولبست له ثوب الاستكانة عند رؤيته، واغتفرت له الزلة، واستحسنت كل ما يقبح من جهته، وصدقته على كذبه، وأعنته على فجرته. فما هذا العناء! كأنك لم تقرأ المعوذة، ولم تسمع مخاطبته نبيه صلى الله عليه وسلم، في التقدمة إليه بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد. أتطلب ويحك أثراً بعد عين، أو عطراً بعد عروس، أو تريد أن تجتني عنباً من شوك، أو تلتمس حلب لبن من حائل.

إنك إذاً أعيا من باقل، وأحمق من الضبع، وأغفل من هرم. إن كنت تجهل بعد ما أعلمناك، وتعوج بعد ما قومناك، وتبلد بعد ما ثقفناك، وتضل إذ هديناك، وتنسى إذ ذكرناك، فأنت كمن أضله الله على علم فبطلت عنده المواعظ، وعمي عن المنافع، فختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة. فنعوذ بالله من الخذلان. إنه لا يأتيك ولكن يناديك ولا يحاكيك ولكن يوازيك. أحسن ما تكون عنده حالاً أقل ما تكون مالاً، وأكثر ما تكون عيالاً، وأعظم ما تكون ضلالاً. وأفرح ما يكون بك أقرب ما تكون بالمصيبة عهداً، وأبعد ما تكون من الناس حمداً. فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى، ومخالطة الزمنى،

والاجتنان بالجدران، ومصر المصران، وأكل القردان، أهون من معاشرته، والاتصال بحبله. والغل نتيج الحسد، وهو رضيعه، وغصن من أغصانه، وعون من أعوانه، وشعبة من شعبه، وفعل من أفعاله، كما أنه ليس فرع إلا له أصل، ولا مولود إلا له مولد، ولا نبات إلا من أرض، ولا رضيع إلا من مرضع، وإن تغير اسمه؛ فإنه صفة من صفاته، ونبت من نباته، ونعت من نعوته. ورأيت الله جل جلاله ذكر الجنة في كتابه فحلاها بأحسن حلية، وزينها بأحسن زينة، وجعلها دار أوليائه ومحل أنبيائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فذكر في كتابه ما من به عليهم من السرور والكرامة عندما دخلوها وبوأها لهم فقال: " إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين. ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ".

فما أنزلهم دار كرامته إلا بعد ما نزع الغل والحسد من قلوبهم، فتهنوا بالجنة، وقابلوا إخوانهم على السرر، وتلذذوا بالنظر في مقابلة الوجوه لسلامة صدورهم، ونزع الغل من قلوبهم. ولو لم ينزع ذلك من صدورهم ويخرجه من قلوبهم، لافتقدوا لذاذة الجنة، وتدابروا وتقاطعوا وتحاسدوا، وواقعوا الخطيئة، ولمسهم فيها النصب، وأعقبوا منها الخروج، لأنه عز وجل فضل بينهم في المنازل، ورفع درجات بعضهم فوق بعض في الكرامات، وسنى العطيات. فلما نزع الغل والحسد من قلوبهم ظن أدناهم منزلة فيها، وأقربهم بدخول الجنة عهداً، أنه أفضلهم منزلة، وأكرمهم درجة، وأوسعهم داراً بسلامة قلبه، ونزع الغل من صدره، فقرت عينه وطاب أكله. ولو كان غير ذلك لصاروا إلى التنغيص في النظر بالعيون، والاهتمام بالقلوب، ولحدثت العيوب والذنوب. وما أرى السلامة إلا في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في افتقاد

وجهه، ولا الراحة إلا في صرم مداراته، ولا الربح إلا في ترك مصافاته. فإذا فعلت ذلك فكل هنياً مرياً، ونم رضياً، وعش في السرور ملياً. ونحن نسأل الله الجليل أن يصفي كدر قلوبنا، ويجنبنا وإياك دناءة الأخلاق، ويرزقنا وإياك حسن الألفة والاتفاق، ويحسن توفيقك وتسديدك. والسلام.

فصل من صدر كتابه في المعلمين

أعانك الله على سورة الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجح في قلبك إيثار الأناة. فقد استعملت في المعلمين نوك السفهاء، وخطل الجهلاء، ومفاحشة الأبذياء، ومجانبة سبل الحكماء، وتهكم المقتدرين، وأمن المغترين. ومن تعرض للعداوة وجدها حاضرة، ولا حاجة بك إلى تكلف ما كفيت. فصل منه ولولا الكتاب لاختلت أخبار الماضين، وانقطعت آثار الغائبين. وإنما اللسان للشاهد لك، والقلم للغائب عنك، وللماضي قبلك والغابر بعدك. فصار نفعه أعم، والدواوين إليه أفقر.

والملك المقيم بالواسطة لا يدرك مصالح أطرافه وسد ثغوره، وتقويم سكان مملكته، إلا بالكتاب. ولولا الكتاب ما تم تدبير، ولا استقامت الأمور. وقد رأينا عمود صلاح الدين والدنيا إنما يعتدل في نصابه، ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب. وليس علينا لأحد في ذلك من المنة بعد الله الذي اخترع ذلك لنا ودلنا عليه، وأخذ بنواصينا إليه، ما للمعلمين الذين سخرهم لنا، ووصل حاجتهم إلى ما في أيدينا. وهؤلاء هم الذين هجوتهم وشكوتهم وحاججتهم وفحشت عليهم، وألزمت الأكابر ذنب الأصاغر، وحكمت على المجتهدين بتفريط المقصرين، ورثيت لآباء الصبيان من إبطاء المعلمين عن تحذيقهم، ولم ترث للمعلمين من إبطاء الصبيان عما يراد بهم، وبعدهم عن صرف القلوب لما يحفظونه ويدرسونه. والمعلمون أشقى بالصبيان من رعاة الضأن ورواض المهارة. ولو نظرت من جهة النظر علمت أن النعمة فيهم عظيمة سابغة، والشكر عليها لازم واجب.

فصل منه وأجمعوا على أنهم لم يجدوا كلمة أقل حرفاً ولا أكثر ريعاً، ولا أعم نفعاً، ولا أحث على بيان، ولا أدعى إلى تبين، ولا أهجى لمن ترك التفهم وقصر في الإفهام، من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: " قيمة كل امرىء ما يحسن ". وقد أحسن من قال: " مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها ". وكرهت الحكماء الرؤساء، أصحاب الاستنباط والتفكير، جودة الحفظ، لمكان الاتكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتى قالوا: " الحفظ عذق الذهن ". ولأن مستعمل الحفظ لا يكون إلا مقلداً، والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين، وعز الثقة. والقضية الصحيحة والحكم المحمود: أنه متى أدام الحفظ أضر ذلك بالاستنباط، ومتى أدام الاستنباط أضر ذلك بالحفظ، وإن كان الحفظ أشرف منزلة منه. ومتى أهمل النظر لم تسرع إليه المعاني، ومتى أهمل الحفظ

لم تعلق بقلبه، وقل مكثها في صدره. وطبيعة الحفظ غير طبيعة الاستنباط. والذي يعالجان به ويستعينان متفق عليه، ألا وهو فراغ القلب للشيء، والشهوة له، وبهما يكون التمام، وتظهر الفضيلة. ولصاحب الحفظ سبب آخر يتفقان عليه، وهو الموضع والوقت. فأما الموضع فأيهما يختاران إذا أرادا ذلك الفوق دون السفل. وأما الساعات فالأسحار دون سائر الأوقات، لأن ذلك الوقت قبل وقت الاشتغال، وبعقب تمام الراحة والجمام، لأن للجمام مقداراً هو المصلحة، كما أن للكد مقداراً هو المصلحة. فصل منه ويستدل أيضاً بوصايا الملوك للمؤدبين في أبنائهم، وفي تقويم

أحداثهم، على أنهم قد قلدوهم أمورهم وضميرهم ببلوغ التمام في تأديبهم. وما قلدوهم ذلك إلا بعد أن ارتفع إليهم في الحنو حالهم في الأدب، وبعد أن كشفهم الامتحان وقاموا على الخلاص. وأنت - حفظك الله - لو استقصيت عدد النحويين والعروضيين والفرضيين، والحساب، والخطاطين، لوجدت أكثرهم مؤدب كبار ومعلم صغار، فكم تظن أنا وجدنا منهم، من الرواة والقضاة والحكماء، والولاة من المناكير والدهاة، ومن الحماة والكفاة، ومن القادة والذادة، ومن الرؤساء والسادة، ومن كبار الكتاب والشعراء، والوزراء والأدباء، ومن أصحاب الرسائل والخطابة، والمذكورين بجميع أصناف البلاغة، ومن الفرسان وأصحاب الطعان، ومن نديم كريم، وعالم حكيم، ومن مليح ظريف، ومن شاب عفيف. ولا تعجل بالقضية حتى تستوفي آخر الكتاب، وتبلغ أقصى العذر، فإنك إن كنت تعمدت تذممت، وإن كنت جهلت تعلمت، وما أظن من أحسن بك الظن إلا وقد خالف الحزم. فصل منه قال المعلم: وجدنا لكل صنف من جميع ما بالناس إلى تعلمه

حاجة، معلمين، كمعلمي الكتاب والحساب، والفرائض والقرآن، والنحو والعروض والأشعار، والأخبار والآثار، ووجدنا الأوائل كانوا يتخذون لأبنائهم من يعلمهم الكتابة والحساب، ثم لعب الصوالجة، والرمي في التنبوك، والمجثمة، والطير الخاطف، ورمي البنجكاز. وقبل ذلك الدبوق والنفخ في السبطانة. وبعد ذلك الفروسية، واللعب بالرماح والسيوف، والمشاولة والمنازلة والمطاردة، ثم النجوم واللحون، والطب والهندسة، وتعلم النرد والشطرنج، وضرب الدفوف وضرب الأوتار، والوقع والنفخ في أصناف المزامير. ويأمرون بتعليم أبناء الرعية الفلاحة والنجارة، والبنيان والصياغة والخياطة، والسرد والصبغ، وأنواع الحياكة. نعم حتى علموا البلابل وأصناف الطير الألحان.

وناساً يعلمون القرود والدببة والكلاب والظباء المكية والببغاء، والسقر وغراب البين، ويعلمون الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، والفيلة، أصناف المشي، وأجناس الحضر، ويعلمون الشواهين والصقور والبوازي، والفهود، والكلاب، وعناق الأرض، الصيد. ويعلمون الدواب الطحن، والبخاتي الجمز حتى يروضوا الهملاج والمعناق، بالتخليع وغير التخليع، وبالموضوع والأوسط والمرفوع. ووجدنا للأشياء كلها معلمين. وإنما قيل للإنسان العالم الصغير، سليل العالم الكبير، لأن في الإنسان من جميع طبائع الحيوان أشكالاً، من ختل الذئب

وروغان الثعلب، ووثوب الأسد، وحقد البعير، وهداية القطاة. وهذا كثير، وهذا بابة. ولأنه يحكي كل صوت بفيه، ويصور كل صورة بيده. ثم فضله الله تعالى بالمنطق والروية وإمكان التصرف. وعلى أنا لا نعلم أن لأحد من جميع أصناف المعلمين لجميع هذه الأصناف كفضيلة المعلم من الناس الأحداث المنطق المأثور، ككلام الاحتجاج والصفات، والمناقلات من المسائل والجوابات في جميع العلامات، بين الموزون من القصائد والأرجاز، ومن المزدوج والأسجاع، مع الكتاب والحساب، وما شاكل ذلك ووافقه واتصل به، وذهب مذهبه. وقالوا: " إنما اشتق اسم المعلم من العلم، واسم المؤدب من الأدب ". وقد علمنا أن العلم هو الأصل، والأدب هو الفرع. والأدب إما خلق وإما رواية، وقد أطلقوا له اسم المؤدب على العموم.

والعلم أصل لكل خير، وبه ينفصل الكرم من اللؤم، والحلال من الحرام. والفضل من الموازنة بين أفضل الخيرين، والمقابلة بين أنقص الشرين. فلم يعرضوا لأحد من هذه الأصناف التي اتخذ الناس لها المعلمين من جميع أنواع الحق والباطل، والسرف والاقتصاد، والجد والهزل، إلا هؤلاء الذين لا يعلمون إلا الكتاب والحساب، والشعر، والنحو، والفرائض، والعروض. وما بالسماء من نجوم الاهتداء والأنواء والسعود، وأسماء الأيام والشهور، والمناقلات. ويمنعهم العرامة، ويأخذهم بالصلاة في الجماعة، ويدرسهم القرآن، ويهدن ألسنتهم برواية القصيد والأرجاز، ويعاقب على التهاون، ويضرب على الفرار، ويأخذهم بالمناقلة، والمناقلة من أسباب المنافسة. لحقير بخلاف هذه السيرة، وبضد هذه المعاملة.

فصل منه وقد ذهب قوم إلى أن الأدب حرف، وطلبه شؤم. وأنشد قول الشاعر: ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم إن المقدم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم ولم نر شاعراً نال بشعره الرغائب، ولا أديباً بلغ بأدبه المراتب، ذكر يمن الأدب، ولا بركة قول الشعر. فإذا حرم الواحد منهم، والرجل الشاذ ذكر حرف الأدب وشؤم الشعر. وإن كان عدد من نال الرغائب أكثر من عدد من أخفق. ومهما عيرنا من كان في هذه الصفة فإنا غير معايرين لأبي يعقوب الخريمي، لأنه نال بالشعر وأدرك بالأدب.

وليس الذي يحمل أكثر الناس على هذا القول إلا وجدان المعاني والألفاظ، فإنهم يكرهون أن يضيعوا باباً من إظهار الظرف وفضل اللسان وهم عليه قادرون. فصل وقد قالوا: الصبي عن الصبي أفهم، وبه أشكل. وكذلك الغافل والغافل، والأحمق والأحمق، والغبي والغبي، والمرأة والمرأة. قال الله تبارك وتعالى: " ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ". لأن الناس عن الناس أفهم، وإليهم أسكن. فمما أعان الله تعالى به الصبيان، أن قرب طبائعهم ومقادير عقولهم من مقادير عقول المعلمين. وسمع الحجاج - وهو يسير - كلام امرأة من دار قوم، فيه تخليط وهذيان، فقال: مجنونة، أو ترقص صبياً! ألا ترى أن أبلغ الناس لساناً، وأجودهم بياناً وأدقهم فطنة، وأبعدهم روية، لو ناطق طفلاً أو ناغى صبياً، لتوخى حكاية مقادير عقول الصبيان، والشبه لمخارج كلامهم، وكان لا يجد بداً من أن ينصرف عن كل ما فضله الله به بالمعرفة الشريفة، والألفاظ الكريمة. وكذلك تكون المشاكلة بين المتفقين في الصناعات.

فصل في رياضة الصبي وأما النحو فلا تشغل قلبه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه. وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أرد عليه منه من رواية المثل والشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع. وإنما يرغب في بلوغ غايته ومجاوزة الاقتصار فيه، من لا يحتاج إلى تعرف جسيمات الأمور، والاستنباط لغوامض التدبر، ولمصالح العباد والبلاد، والعلم بالأركان والقطب الذي تدور عليه الرحى؛ ومن ليس له حظ غيره، ولا معاش سواه. وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا يضطر إلى شيء.

فمن الرأي أن يعتمد به في حساب العقد دون حساب الهند، ودون الهندسة وعويص ما يدخل في المساحة. وعليك في ذلك بما يحتاج إليه كفاة السلطان وكتاب الدواوين. وأنا أقول: إن البلوغ في معرفة الحساب الذي يدور عليه العمل، والترقي فيه والسبب إليه، أرد عليه من البلوغ في صناعة المحررين ورءوس الخطاطين؛ لأن في أدنى طبقات الخط مع صحة الهجاء بلاغاً. وليس كذلك حال الحساب. ثم خذه بتعريف حجج الكتاب وتخلصهم باللفظ السهل القريب المأخذ إلى المعنى الغامض. وأذقه حلاوة الاختصار، وراحة الكفاية، وحذره التكلف واستكراه العبارة؛ فإن أكرم ذلك كله ما كان إفهاماً للسامع، ولا يحوج إلى التأويل والتعقب، ويكون مقصوراً على معناه لا مقصراً عنه، ولا فاضلاً عليه. فاختر من المعاني ما لم يكن مستوراً باللفظ المتعقد، مغرقاً في الإكثار والتكلف. فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعنى مع

براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتسق له القول، وما زال المعنى محجوباً لم تكشف عنه العبارة. فالمعنى بعد مقيم على استخفائه، وصارت العبارة لغواً وظرفاً خالياً. وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيىء المعنى، عشقاً لذلك اللفظ، وشغفاً بذلك الاسم، حتى صار يجر إليه المعنى جراً، ويلزقه به إلزاقاً. حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسماً غيره، ومنعه الإفصاح عنه إلا به. والآفة الكبرى أن يكون رديء الطبع بطيء اللفظ، كليل الحد، شديد العجب، ويكون مع ذلك حريصاً على أن يعد في البلغاء، شديد الكلف بانتحال اسم الأدباء. فإذا كان كذلك خفي عليه فرق ما بين إجابة الألفاظ واستكراهه له. وبالجملة إن لكل معنىً شريف أو وضيع، هزل أو جد، وحزم أو إضاعة، ضرباً من اللفظ هو حقه وحظه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه. ومن قرأ كتب البلغاء، وتصفح دواوين الحكماء، ليستفيد

المعاني، فهو على سبيل صواب. ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل الخطأ. والخسران ها هنا في وزن الربح هناك؛ لأن من كانت غايته انتزاع الألفاظ حمله الحرص عليها، والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها، ويضعها في غير مكانها. ولذلك قال بعض الشعراء لصاحبه: أنا أشعر منك! قال صاحبه: ولم ذاك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه. وإنما هي رياضة وسياسة، والرفيق: مصلح وآخر مفسد. ولا بد من هدان وطبيعة مناسبة. وسماع الألفاظ ضار ونافع. فالوجه النافع: أن يدور في مسامعه، ويغب في قلبه، ويختمر في صدره، فإذا طال مكثها تناكحت ثم تلاقحت فكانت نتيجتها أكرم نتيجة، وثمرتها أطيب ثمرة؛ لأنها حينئذ تخرج غير مسترقة ولا مختلسة ولا مغتصبة، ولا دالة على فقر؛ إذ لم يكن القصد إلى شيء بعينه، والاعتماد عليه دون غيره. وبين الشيء إذا عشش في

الصدر ثم باض، ثم فرخ ثم نهض، وبين أن يكون الخاطر مختاراً، واللفظ اعتسافاً واغتصاباً، فرق بين. ومتى اتكل صاحب البلاغة على الهوينى والوكال، وعلى السرقة والاحتيال، لم ينل طائلاً، وشق عليه النزوع، واستولى عليه الهوان، واستهلكه سوء العادة. والوجه الضار: أن يتحفظ ألفاظاً بعينها من كتاب بعينه، أو من لفظ رجل، ثم يريد أن يعد لتلك الألفاظ قسمها من المعاني، فهذا لا يكون إلا بخيلاً فقيراً، وحائفاً سروقاً، ولا يكون إلا مستكرهاً لألفاظه، متكلفاً لمعانيه، مضطرب التأليف منقطع النظام. فإذا مر كلامه بنقاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفوا عقله، وبهرجوا علمه. .ثم اعلم أن الاستكراه في كل شيء سمج، وحيث ما وقع فهو مذموم، وهو في الطرف أسمج، وفي البلاغة أقبح. وما أحسن حاله ما دامت الألفاظ مسموعة من فمه، مسرودة في نفسه، ولم تكن مخلدة في كتبه. وخير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه، وأوقفك على حده.

فصل في ذم اللواط والذي يدل على أن هذه الشهوة معيبة في نفسها، قبيحة في عينها، أن الله تعالى وعز لم يعوض في الآخرة بشهوة الولدان من ترك لوجهه في الدنيا شهوة الغلمان، كما سقى في الآخرة الخمر من تركها له في الدنيا، ثم مدح خمر الجنة بأقصر الكلام، فنظم به جميع المعاني المكروهة في خمر الدنيا فقال: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون ". كأنه تبارك وتعالى قال: " لا سكر فيها ولا خمار ". وفي اكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء انقطاع النسل، وفي انقطاع النسل بطلان جميع الدين والدنيا. وغشيان الرجل الرجل والمرأة المرأة من المنكوس المعكوس، ومن المبدل المقلوب؛ لأن الله جل ذكره إنما خلق الذكر للأنثى، وجعل بينهما أسباب التحاب وعلائق الشركة، وعلل المشاكلة وجعل الذكر طبقاً للأنثى، وجعل الأنثى سكناً للرجل. فقلب هؤلاء الأمر وعكسوه، واستقبلوا من اختار الله لهم بالرد والزهد فيه.

فصل ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين: عبد الله بن المقفع، ويكنى أبا عمرو، وكان يتولى لآل الأهتم، وكان مقدماً في بلاغة اللسان والقلم والترجمة، واختراع المعاني وابتداع السير. وكان جواداً فارساً جميلاً، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله، وكان يتعاطى الكلام. ولم يكن يحسن منه لا قليلاً ولا كثيراً. وكان ضابطاً لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق. وإذا أردت أن تعتبر ذلك، إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين، فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، ردي المدخل في مواضع الطعن عليهم. وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم، فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا نفذ به فيه، كالذي اعترى الخليل بن أحمد بعد إحسانه في النحو والعروض، أن ادعى العلم بالكلام وبأوزان الأغاني، فخرج من الجهل إلى مقدار لا يبلغه أحد إلا بخذلان الله تعالى. فلا حرمنا الله تعالى عصمته، ولا ابتلانا بخذلانه. فصل وهذان الشاعران جاهليان، بعيدان من التوليد، وبنجوة من التكليف.

فصل ومن خصال العبادة وإن كانت كلها راجحة فليس فيها شيء أرد في عاجل، ولا أفضل في آجل من حسن الظن بالله تعالى وعز وجل. ثم اعلم أن أعقل الناس السلطان ومن احتاج إلى معاملته، وعلى قدر الحاجة إليه ينفتح له باب الحيلة، والاهتداء إلى مواضع الحجة. وما أقرب فضل الراعي على الرعية من فضل السائس على الدابة. ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضاً، كما أنه لولا المسيم لوثب السباع على السوام. ودعني من تدريسه كتب أبي حنيفة، ودعني من قولهم: اصرفه إلى الصيارفة؛ فإن صناعة الصرف تجمع مع الكتاب والحساب المعرفة بأصناف الأموال، ولا تجد بداً من حلة السلطان. ودعني من قول من يقول: قد كانت قريش تجاراً؛ فإن هذا باب لا ينقاس ولا يطرد. ومن قاس تجار الكرخ وباعته، وتجار الأهواز والبصرة، على تجار قريش، فقد أخطأ مواضع القياس، وجهل أقدار العلل.

قريش قوم لم يزل الله تعالى يقلبهم في الأرحام البريئة من الآفات، وينقلهم من الأصلاب السليمة من العاهات، ويعبيهم لكل جسيم، ويربيهم لكل عظيم. ولو علم هذا القائل ما كانت قريش عليه في التجارة لعرف اختلاف السبل، وتفاوت ما بين الطرق. ولو كانت علتهم في ذلك كعلة تجار الأبلة، ومحتكري أهل الحيرة، لثلمت دقة التجارة في أعراضهم ولنهك سخف التربح من مروءاتهم، ولصغر ذلك من أقدارهم في صدور العرب، ولوضع من علوهم عند أهل الشرف. وكيف وقد ارتحلت إليهم الشعراء كما ارتحلت إلى الملوك العظماء، فأسنوا لهم العطية، ولم يقصروا عن غاية، فسقوا الحجيج وأقاموا القرى لزوار الله تعالى، وهم بواد غير ذي زرع. فلو أنه كان معهم من الفضل ما يبهر العقول، ومن المجد ما تحرج فيه العيون، لما أصلح طبائعهم الشيء الذي يفسد جميع الأمة. ولقد أورث ذلك صدورهم من السعة بقدر ما أورث

غيرهم من الضيق. ولو كانت سبلهم عند الملوك إذا وفدوا عليهم، أو وردوا بلادهم بالتجارات، سبل غيرهم من التجار لما أوجهوهم وقربوهم، ولما أقاموا لهم قرى الملوك وحبوهم بكرامة الخاص. وإذا كانت قريش حمساً تنسك في دينها، وتتأله في عبادتها وكان مانعاً لهم من الغارات والسباء، ومن وطء النساء من جهة المغنم، ولذلك لم يئدوا البنات ولا ولدت منهم امرأة غيرهم من جهة السباء، ولا زوجوا أحداً من العرب حتى يتحمس ويدين بدينهم. ولذلك لما صاروا إلى بناء الكعبة لم يخرجوا في بنائها من أموالهم إلا مواريث آبائهم ونسائهم، خوفاً من أن يخالطه شيء من حرام، إذ كانت أرباح التجارات مخوفاً عليها ذلك. فلما كانوا بواد غير ذي زرع ويحتاجون إلى الأقوات، وإقامة القرى، لم يجدوا بداً من أن يتكلفوا ما يعيشهم ويصلح شأنهم، فأخذوا الإيلاف، ورحلوا إلى الملوك بالتجارات. فهذا هو السبب.

فانظر كم بين علتهم وعلة غيرهم! فيسرك بعد هذا أن يتحول ابنك في مسلاخ صالح الزرازريشي، أو في طباع ابن بادام، أو في عقل ابن سامري. فإن زعموا أن أصحاب السلطان يعرض مكروه فليعلموا أن كل مسافر فبعرض مكروه، وقد قال بعض الحكماء: " المسافر ومتاعه على قلت إلا من حفظ الله "، يعني على هلاك. وراكب البحر أشد خطراً، ومشتري طعام الأهواز أشد تهوراً، ورافع الشراع بعرض هلكة. والمتعرض للملاحة والمعرض نفسه للسباع أقل شفقة. وسكان الجزائر والسواحل أحق بالتعرض، وأولى بالخوف. والمنهوم بالطعام الردي، والمدمن للشراب أشبه بأصحاب التغرير، والمتباري في ذلك والمتزيد منه أحق بتوقع الحدثان وحوادث الأزمان، قد جرت عليه عادة الدهر وسيرة الأيام. وهذا كله أحق بالاهتمام.

وإن كنت إلى الإشفاق تذهب، وإلى إعطاء الحزم أكثر من نصيبه، وكيف دار الأمر فإن التاجر قد استشعر الذل، وتغشى ثوب المذلة. وصاحب السلطان قد تجاوز حد العز والهيبة. وإنما عيبه سكر السلطان، وإفراط التعظيم. قد استبطن بالعز، وظاهر بالبشر واستحكمت تجربته، وبعدت بصيرته حتى عرف مصلحة كل مصر، وإصلاح كل فاسد، وإقامة كل معوج، وعمارة كل خرب. ولا أعلم في الأرض أعم إفلاساً ولا أشد نكبة، ولا أكثر تحولاً من يسر إلى عسر، ولا رأينا الحوائج إلى أحد أهدى منها إلى أموال الصيارفة. فكيف يقاس شأن قوم تعمهم المعاطب بشأن قوم أهل السلامة فيهم أكثر، والنكبات فيهم أقل. وبعد هذا فإني أرى ألا تستكرهه فتبغض إليه الأدب، ولا تهمله فيعتاد اللهو. على أني لا أعلم في جميع الأرض شيئاً أجلب لجميع الفساد من قرناء السوء، والفراغ الفاضل عن الجمام.

درسه العلم ما كان فارغاً من أشغال الرجال، ومطالب ذوي الهمم. واحتل في أن تكون أحب إليه من أمه. ولا تستطيع أن يمحضك المقة، ويصفي لك المودة مع كراهته لما تحمل إليه من ثقل التأديب عند من لم يبلغ حال العارف بفضله. فاستخرج مكنون محبته ببر اللسان، وبذل المال. ولهذا مقدار من جازه أفرط. والإفراط سرف. ومن قصر عنه فرط، والمفرط مضياع. ولا تستكثرن هذا كله فإن بعض النعمة فيه تأتي على أضعاف النعامة، والذي تحاول من صلاح أمر من تؤمل فيه أن يقوم في أهلك مقامك، وإصلاح ما خلفت كقيامك، لحقيق بالحيطة عليه، وبإعطائه المجهود من نفسك. وقال زكريا عليه السلام: " رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ". فعلم الله تبارك وتعالى، فوهب له غلاماً، وقال الله

عز وجل: " وليس الذكر كالأنثى ". اعلم أنه أعطاك ولداً عبرة عين العدو، وقرة عين الصديق الولي. فاحمد الله وأخلص في الدعاء، وأكثر من الخير إن شاء الله تعالى.

فصل من كتاب التربيع والتدوير

فانظر في مسالمة النفوس مع تقارب منازلها، ولم تجاذبت عند تقارب مراتبها، ولم اختلف الكثير واتفق القليل؟ ولم كانت الكثرة علة للتخاذل، والقلة سبباً للتناصر؟ وما فرق ما بين المجاراة والتحاسد، وبين المنافسة والتغالب، فإنك متى عرفت ذلك استرحت منا ورجونا أن نستريح منك. وكيف يعرف السبب من يجهل المسبب، وكيف يعرف الوصل من يجهل الفصل، وكيف يعرف الحدود من لم يسمع الفصول. بل يعرف كيف الحجة من الشبهة، والغدر من الحيلة، والواجب

من الممكن، والغفل من الموسوم، والمحال من الصحيح، والأسرار من المجهول ومن كبار الدلائل الخفية وما يعلم مما لا يعلم، وما يعلم باللفظ دون الإشارة مما لا يعلم إلا بالإشارة دون اللفظ، وما يعلم معتمداً ولا يعلم مكيفاً ولا يعلم معتقداً. وما المستغلق الذي يجوز أن يفارقه استغلاقه، والمستبهم الذي لا يفارقه استبهامه، ومن هو طائر مع العوام حيث طارت، وساقط معها حيث سقطت، مع الزراية والرغبة عنها. قد طلبها بفضل طلبه لنفسه، وجرى معها بقدر مناسبتها لقدره. فاعرف الجنس من الصنف، والقسم من النصنف، وفرق ما بين الذم واللوم، وفصل ما بين الحمد والشكر، وحد الاختيار من الإمكان، والاضطرار من الإيجاب. وسنعرفك من جملة ما ذكرنا باباً باباً أنت إليه أحوج، وهو علينا أرد. فصل وما في الأرض إقرار أثبت، ودليل أوضح، وشاهد أصدق، من شاهدي عليك على ما ادعيت لنفسك من الرفعة مع ما ظهر من حسدك لأهل الصنعة. وهل يكون كذلك إلا فاسد الحس ظاهر العنود، أو جاهل بالمحال.

وبعد فأنت - أبقاك الله - في يدك قياس لا يكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل وغرب لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تنسب، ومذهبك الذي إليه تذهب: أن تقول: وما علي أن يراني الناس عريضاً وأكون في حكمهم غليظاً وأنا عند الله تعالى طويل جميل، وفي الحقيقة مقدود رشيق. وقد علموا - حفظك الله - أن لك مع طول الباد راكباً، طول الظهر جالساً، ولكن بينهم فيك إذا قمت اختلاف، وعليك لهم إذا اضطجعت مسائل. ومن غريب ما أعطيت، ومن بديع ما أوتيت أنا لم نر مقدوداً واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك. فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل وأنت المتقارب. فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول. بل ما يهمك من أقاويلهم، ويتعاظمك من اختلافهم، والراسخون في العلم، والناطقون بالفهم، يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت

الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضاً قد استغرق ما ذهب منك طولاً. ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك. وإن كانوا قد سلموا لك بالرغم شطراً، فقد حصلت ما سلموا وأنت على دعواك فيما لم يسلموا. ولعمري إن العيون لتخطىء، وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل؛ إذ كان زماماً على الأعضاء، وعياراً على الحواس. ومما يثبت أيضاً أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي داوود الإيادي في إبله: سمنت فاستحش أكرعها لا ال ... ني ني ولا السنام سنام ولو لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من عوده الله تعالى بالصبر على خطاء الحس وبالشكر على صواب الذهن، لقد

كنت في طولك غاية للعالمين، وفي عرضك مناراً للمضلين. وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل عمر، ومن القصير مثل عمرو إذ زعم أنه أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضاضة، لأن إفراط عرضه غمر الاعتدال من طوله، وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار، ويفتقر إلى الاعتدال. والمربوع بحمد الله تعالى قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة، كما اعتدلت في المنظر، فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار، وبحكم الظاهر عن الاعتلال. وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحداً ذم مربوعاً ولا أزرى عليه، ولا وقف عنده ولا شك فيه. ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال، ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد، ومن ينصب للصواب الظاهر إلا المعاند، ومن يماري في العيان إلا الجاهل؛ بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب،

وبسوء التنضيد مع قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ". وبعد فأي قد أردأ، وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر، أو طول مجاوز للقصد. ومتى يضرب العرض بسهمه على قدر حقه، ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه، خرج الجسم من التقدير، وجاوز التعديل. فإذا خرج من التقدير تفاسد، وإذا تفاسد وجاوز التعديل تباين. ولو جاز هذا الوصف، وحسن هذا النعت، كان لإبراهيم بن السندي من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب. وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة، واحتججت به لعرضك في الحكومة. كما أنك بإعمالك لما ينفيه

العيان، واستشهادك لما تنكره الأذهان، معترض للصدق من المتكرم، ومتحكك بالحلم من المتغافل. وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب، وأي ناطق لا يغريه هذا القول. وإذا كان هذا ناقضاً لعزم المتسلم فما ظنك بعادة المتكلف. فأنشدك الله أن تغري بك السفهاء، وتنقض عزائم الحكماء. وما أدري - حفظك الله - بأي الأمرين أنت أعظم إثماً، وفي أيهما أنت أفحش ظلماً: أبتعرضك للعوام، أم بإفسادك حكم الخواص. وبعد فما يحوجك إلى هذا، وما يدعوك إليه وأشباهك من القصار كثير، ومن ينصرك منهم غير قليل. فصل وقلت: ولولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز وجل، الجنة بالعرض دون الطول، حيث يقول: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ". فهذا برهانك الواضح.

ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم، ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى ما عند الله خيراً لك مما عند الناس، وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر، لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف، ويحكم لك بالتوفيق. وأنا - أبقاك الله - أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين. ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين، وأن تعقدك سماح رجال منصفين. وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة، ومقابلة الاختيار بالاضطرار، واليقين بالشك، واليقظة بالحلم إلا للذي خصصت به من إيثار الحق، وألهمته من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار؛ وأشد ما تكون إلى الحيلة فقراً أشد ما تكون للحجة طلباً. غير أن ذلك بطرف ساكن، وصوت خاضع، وقلب جامع، وجأش رابط، ونية جسور، وإرادة تامة، مع غفلة كريم، وفطنة عليم. إن انقطع خصمك تغافلت، وإن خرق

ترفقت، غير منخوب ولا متشعب، ولا مدخول ولا مشترك، ولا ناقص النفس، ولا واهن العزم، ولا حسود ولا منافس، ولا مغالب ولا معاقب. تفل الحز وتصيب المفصل، وتقرب البعيد وتظهر الخفي، وتميز الملتبس وتلخص المشكل، وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حظه من المعنى. وتحب المعنى إذا كان حياً يلوح، وظاهراً يصيح، وتبغضه مستهلكاً بالتعقيد، ومستوراً بالتغريب. وتزعم أن شر الألفاظ ما غرق المعاني وأخفاها، وسترها وعماها، وإن راقت سمع الغمر، واستمالت قلب الريض. أعجب الألفاظ عندك ما رق وعذب، وخف وسهل، وكان موقوفاً على معناه، ومقصوراً عليه دون ما سواه. لا فاضل ولا مقصر، ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خصال البلاغة، واستوفى خلال المعرفة.

فإذا كان الكلام على هذه الصفة، وألف على هذه الشريطة، لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل، والمتعلم كالمعلم، وخفت المؤنة واستغنى عن الفكرة، وماتت الشبهة وظهرت الحجة، واستبدلوا بالخلاف وفاقاً، وبالمجاذبة موادعة، وتهنئوا بالعلم، وتقنعوا ببرد اليقين، واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المنصف من المعاند، وتميز الناقص من الوافر وذل الخطل وعز المحصل، وبدت عورة المبطل، وظهرت براءة المحق. وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، أو خوط آس، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمان، وكأنه سيف هندواني، وكأنه جان، وكأنه جدل عنان؛ فقد قالوا: كأنه المشتري، وكأن وجهه دينار هرقلي. وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث. وكأنه الشمس، وكأنها دارة القمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة.

وقد نراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا القضيف الطويل. وقلت: ووجدنا الأفلاك وما فيها، والأرض وما عليها، على التدوير دون التطويل، كذلك الورق والحب، والثمر والشجر. وقلت: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصلاً ومفصلا، والطول لا يوجد فيه إلا موصلا ومفصلاً. وكذلك الإنسان وجميع الحيوان. وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفما أكره على تركيبه دون ما خلي وسوم طبيعته. وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور، فقد بان المدور بفضله، وشارك المطول في حصته. ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة ثم تحتج للعرض والاستدارة، وقد أضربت عما عند الله صفحاً، ولهجت بما عند الناس.

0ف - أما حور العين فقد انفردت بحسنه، وذهبت ببهجته وملحه، إلا ما أبانك الله تعالى به من الشكلة فإنها لا تكون في اللئام، ولا تفارق الكرام. وأما سواد الناظر وحسن المحاجر، وهدب الأشفار، ورقة حواشي الأجفان، فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك. وأما إدراكك الشخص البعيد، وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطابع، وفهم المشكل قبل التأمل، مع وهن الكبرة وتقادم الميلاد، ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان، فمن توتيا الهند، ولترك الجماع، ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة، فأنت يا عم عندما تصلح ما أفسده الدهر، وتسترجع ما أخذته الأيام، لكما قال الشاعر: عجوز ترجي أن تكون فتية ... وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر تدس إلى العطار سلعةأهلها ... ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر

وكيف أطمع في نزوعك عن اللجاج وقد منعتنيه قبله. وكيف أرجو إقرارك جهراً وقد أبيته سراً، وكيف تجود به صحيحاً مطمعاً وقد بخلت به مريضاً مؤيساً. وكيف يرجو خيرك من رآك تطاول أبا جعفر وتحاسنه، وتنافره وتراهنه، ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العظام، وبحضرة كبار الحكام، ثم تستغرب ضحكاً من طمعه فيك، وتعجب الناس من مجاراته لك. وأشهد لك بعد هذا أنك ستحاسن عمراً الجاحظ وتعاقله، ثم تظارفه وتطاوله، وتتغنى مع مخارق، وتنكر فضل زبزب، وتستجهل النظام، وتستغبي قيس بن زهير، وتستخف

الأحنف بن قيس وتبارز علي بن أبي طالب، ثم تخرج من حد الغلبة إلى حد المراء، ومن حد الأحياء إلى حدود الموتى. هذا وليس لك مساعد، ولا معك شاهد واحد، ولا رأيت أحداً يقف في الحكم عليك، أو ينتظر تحقيق دعواك؛ ولا رأيت منكراً يخليك من التأنيب، ولا مؤنباً يخليك من الوعيد، ولا موعداً يخليك من الإيقاع، ولا موقعاً يرثي لك، ولا شافعاً يشفع فيك. يا عم، لم تحملنا على الصدق؟ ولم تجرعنا مرارة الحق؟ ولم تعرضنا لأداء الواجب؟ ولم تستكثر من الشهود عليك؟ ولم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم فيك؟ اجعل بدل ما تجني على نفسك أن تجني على عدوك، وبدل ما يضطر الناس أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك. ولا بد - يرحمك الله - لمن فاته الطول من أن يلقي بيده، إنما يقول خلاف ما يجده في نفسه. فوالله إنك لجيد الهامة، وفي ذلك خلف لحسن القامة. وإنك لحسن الحظ، وفي ذلك عوض من حسن اللفظ. وإنك

لتجد مقالاً، وإنك لتعد خصالاً. فقل معروفاً فإنا من أعوانك، واقتصد فإنا من أنصارك. وهات فإنك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت، ولو جرت لقلنا قد اهتديت، ولكنك تجيء بشيء " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً ". لو غششناك لساعدناك، ولو نافقناك لأغريناك. فصل وقد كنت - أطال الله بقاءك - في الطول زاهداً، وعن القصر راغباً، وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال. ولا والله لن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم. فأما اليوم فياليتني كنت أقصر منك وأضوى، وأقل منك وأقما. وليس دعائي لك بطول البقاء طلباً للزيادة، لكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك فإلى هذا المعنى أذهب.

وقد زعموا، جعلت فداءك، أن كل ما طال عمره من الحيوانات زائد في شدة الأركان، وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان والضباب وحمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحله فإذا كان هذا حقاً وكان نافعاً، وكنت له مستعملاً وفيه متقدماً، وتراه رأياً، أخذنا منه بنصيب، وتعلقنا منه بسبب. وفيك أمران غريبان، وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك. وجوهرك فلكي وتركيبك أرضي. فمنك طول البقاء، ومعك دليل الفناء. وأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة، ولا يفسده التناقض. فصل جعلت فداك، قد شاهدت الإنس منذ خلقوا، ورأيت الجن قبل أن يحجبوا، ووجدت الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة، وأغفالاً وموسومة، وسالمة ومدخولة، فما يخفى عليك الحجة من الشبهة، ولا السقم من الصحة، ولا الممكن من الممتنع، ولا المستغلق من المبهم، ولا النادر من البديع، ولا شبه الدليل من الدليل. وعرفت علامة الثقة من علامة الريبة، حتى صارت الأقسام عندك محصورة، والحدود محفوظة، والطبقات معلومة، والدنيا بحذافيرها

مصورة. ووجدت السبب كما وجدت المسبب، وعرفت الاعتلال كما عرفت الاحتجاج، وشاهدت العلل وهي تولد، والأسباب وهي تصنع، فعرفت المصنوع من المخلوق، والحقيقة من التمويه. فصل إنك - جعلت فداءك - كما أنك لم تكن فكنت، فكذا لا تكون بعد أن كنت. وكما زدت في الدهر الطويل فكذا تنقص في الدهر الطويل. وكل طويل فهو قصير، وكل متناه فهو قليل. فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك؛ فإن للشيطان في مثلك أطماعاً لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللاً لا يجدها في غيرك. فصل وقد علمت أن الخبر إذا صح أصله وكان للناس علة في نشره، كان في الدلالة على الحق كالعيان، وفي الشفاء كالسماع. على أن الخبر لا يعرف به تكيف الأمور ولكن تعرف به جمل الأشياء، إلا خبرك فإنك لا تحتاج إلى إشارة ولا إلى علة، ولا إلى

تفسير حتى يقوم خبرك في الشفاء وفي كيفية الشيء مقام العيان. وقد كنت أتعجب من محمد بن عبد الملك وأقول: ما يقولون في رجل لم يقل قط بعد انقضاء خصومه وذهاب خصمه: لو كنت قلت كذا كان أفضل، أو كنت لم أقل كذا كان أمثل! فما بال عفوه أكثر من جهدكم، وبديهته أبعد من أقصى فكرتكم؟ ! فلما رأيتك علمت أنك عذاب صبه الله تعالى على كل رفيع، ورحمة أنشأها الله لكل وضيع. فخبرني عما جرى بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار بينك وبين أرسطاطاليس، وأي نوع اعتقدت وأي شيء اخترت؟ فقد أبت نفسي غيرك، وأبت أن تتشفى إلا بخبرك. ولولا أني كلف برواية الأقاويل، ومغرم بمعرفة الاختلاف وأني لا أستجيز مسألتك عن كل شيء، وابتذالك في كل أمر، لما سمعت من أحد سواك، ولما انقطعت إلى أحد غيرك.

اعلم، جعلت فداءك، أني لم أرد بمزاحك إلا أن أضحك سنك، ولا كانت غايتي فيك إلا لأنفق عندك. وقد كنت خفت أن لا أكون وقفت على حده، وأشفقت من المجاوزة لقدره. والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان. وهو باب متى فتحه فاتح، وطرق له مطرق، ولم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه، ولم يخرج بقدر ما كان قدم من نفسه، لأنه باب أصل بنائه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف. ومن شأنه التزيد، وأن يكون صاحبه قليل التحفظ. ولم نر شيئاً أبعد من شيء ولا أطول له صحبة ولا أشد خلافاً ولا أكثر له خلطة، من الجد والمزاح، والمناظرة والمراء. فإن كنت لم أقصر عن الغاية، ولم أتجاوز حد النهاية فبما أعرف من يمن مكالمتك، وبركة مكاتبتك، ومن حسن تقويمك وجودة تثقيفك. وإن كنت أخطأت الطريق، وجاوزت المقدار، فما كان ذلك عن جهل بفضلك، ولا إنكار لحقك، ولكن حدود الأشياء إذا خفيت، ومقاديرها إذا أشكلت، ولم يكن مع الناظر فيها مثل

تمامك، ولا مع التكلف لها مثل كمالك، دخل عليه من الخلل بقدر عجزه، وسلم منه بقدر نفاذه. نعم ولو كان من العلماء الموصوفين، ومن الأدباء المذكورين. ومن المزاح - جعلت فداءك - باب مكر وجنس خدع يتكل المرء في إساءته إلى جليسه، واستماعه لصديقه على أن يقول: مزحت، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عبثت، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخلق؟ ! ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيق العطن؟ ! وبعد فمتى أعدت النفس عذراً كانت إلى القبيح أسرع، ومتى لم تعده كانت عنه أبطأ. ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيراً ممن تمازحه يضحكك وإن كنت أغضبته، ولا يقطع مزاحك وإن كنت قد أوجعته. فإن حقد ففي الحقد الداء، وإن عجل فذلك البلاء. فإن قلت: فما أدخلك في شيء هذه سبيله، وهكذا جوهره وطريقه؟ قلت: لأني حين أمنت عقاب الإساءة، ووثقت بثواب

الإحسان، وعلمت أنك لا تقضي إلا على العمد، ولا تعذب إلا على القصد، صار الأمن سائقاً، والأمل قائداً. وأي عمل أرد، وأي متجر أربح مما جمع السلامة والغنيمة، والأمن والمثوبة. ولو كان هذا ذنباً كنت شريكي فيه، ولو كان تقصيراً لكنت سببي إليه، لأن دوام التغافل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يورث الإغفال، والعفو الشائع والبشر الدائم يؤمنان من المكافأة، ويذهبان بالتحفظ؛ ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان: " عمر كان خيراً لي منك، أرهبني فاتقاني، وأعطاني فأغناني ". فإن كنت اجترأت عليك فلم أجترىء عليك إلا بك؛ وإن كنت أخطأت فلم أخطىء عليك إلا لك؛ لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب إلى قلة التحفظ، وداعية إلى ترك التحرز.

وبعد فمن وهب الكبير كيف يقف عند الصغير، ومن لم يزل يعفو عن العمد كيف يعاقب على السهو؟ ! ولو كان عظم قدري هو الذي عظم ذنبي لكان عظم قدري هو الذي شفع لي. ولو استحققت عقابك بإقدامي عليك مع خوفي لك لاستوجبت عفوك عن إقدامي عليك بحسن ظني بك. على أني متى أوجبت لك العفو فقد أوجبت لك الفضل، ومتى أضفت إليك العقاب فقد وصفتك بالإنصاف. ولا أعلم حال الفضل إلا أشرف من حال العدل؛ والحال التي توجب لك الشكر إلا أرفع من الحال التي توجب لك الصبر. وإن كنت لا تهب عقابي لحرمتي فهبه لأياديك عندي؛ فإن النعمة تشفع في النعمة. فإن لم تفعل ذلك للحرمة فافعله لحسن الأحدوثة، وعد إلى حسن العادة. وإن لم تفعل ذلك لحسن العادة فائت ما أنت أهله. واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قضي لي عليك، ومتى ارتفعنا إلى عدلك حسن العفو عني عندك.

وفصل ما بيننا وبينك، وفرق ما بين أقدارنا وقدرك، أنا نسيء وتغفر، ونذنب وتستر، ونعوج وتقوم، ونجهل وتعلم؛ وأن عليك الإنعام وعليك الشكر. ومن صفاتك أن تفعل ومن صفاتنا أن نصف. وإذا فعلت ما تقدر عليه من العقاب كنت كمن فعل ما يقدر عليه من التعرض، وصرت ترغب عن الشكر كما رغبنا عن السلم، وصار التعرض لعفوك بالأمن باطلاً، والتعرض لعقابك بالخوف حقاً، ورغبت عن النبل والبهاء، وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظاً أو يداوي حقداً، أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة. ولم نجدهم - أبقاك الله - يحمدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ويذمون العجز إلا لما يفوت به من إتيان الجميل. وأنى لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله. وهل عندك إلا ما في طبعك، وكيف لك بخلاف عادتك؟ فلم تستكره نفسك على المكافأة وطباعها الصفح؟ ولم تكدها بالمناقشة ومذهبها المسامحة؟

سبحان من جعل أخلاقك وفق أعراقك، وفعلك وفق عملك، ومن جعل ظنك أكثر من يقيننا، وفراستك أثقب من عياننا، وعفوك أرجح من جهدنا، وبداهتك أجود من تفكرنا، وفعلك أرفع من وصفنا، وغيبتك أهيب من حضور السادة، وعتبك أشد من عقاب الظلمة. وسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصر، وتتغافل عن المناوي وتصفح عن المتهاون حتى إذا صرت إلى من ذنبه نسيان وتوبته خلاص، وهفوته بكر، وشفاعته الحرمة ومن لا يعرف الشكر إلا لك، والإنعام إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، ولا يقصر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك، ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك صرت تتوعده بالصرم وهو دليل كل بلية، وتستعمل الإعراض وهو قائد كل هلكة. وقد علمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من

العقوبة، وأن منعك إذا منعت في وزن إعطائك إذا أعطيت، وأن عقابك على حسب ثوابك، وأن جزعي من حرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأن شين غضبك كزين رضاك، وأن موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك. وما لي اليوم عمل أنا إليه أسكن، ولا شفيع أنا به أوثق، من شدة جزعي من عتبك، وإفراط هلعي من خوفك. ولست ممن إذا جاد بالصفح ومن بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة والنجاة من الهلكة. بل تشفع ذلك بالمراتب الرفيعة، والعطايا الجزيلة، والعز في العشيرة، والهيبة في الخاصة والعامة، مع طيب الذكر وشرف العقب، ومحبة الناس. وأما ذكرى القد والخرط، والطول والعرض، وما بيننا وبينك في ذلك من التنازع، والتشاجر والتنافر، فإن الكلام قد يكون في لفظ الجد وهو مزاح. ولو استعمل الناس الدماثة في كل حال، والجد في كل مقال، وتركوا التسمح والتسهيل وعقدوا في كل دقيق وجليل، لكان

الشر صراحاً خيراً لهم، والباطل محضاً أرد عليهم. ولكن لكل شيء قدر، ولكل حال شكل. فالضحك في موضعه كالبكاء في موضعه، والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه. وكذلك المنع والبذل، والعقاب والعفو، وجميع القبض والبسط. فإن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد. وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع، وحاله بحال السخف أشبه. فأما أن يذم حتى يكون كالظلم، وينفى حتى يصير كالغدر فلا؛ لأن المزاح مما يكون مرة حسناً ومرة قبيحاً. فإذا صرنا إلى الجد، ورغبنا عن الهزل وتركنا المزاح، وجلسنا للحكم، فقد أغناك الله تعالى عن الحجة، كما سلمك من الشبهة، ولم نكلفك الاحتجاج كما نرغب بك من الاعتلال، فأصبحت لا محتجاً ولا محجوجاً، ولا غفلاً ولا موسوماً، ولا ملوماً ولا معذوراً، ولا فيك اختلاف ولا بك حاجة إلى الائتلاف. وليس مع العيان وحشة، ولا مع الضرورة وجمة، ولا دون اليقين وقفة.

وهل في تمامك ريب حتى يعالج بالحجة؟ وهل يرد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة. وهل لك خصم في العلم أو ند في الفهم، أو مجار في الحلم، أو ضد في العزم؟ وهل يبلغك الحسد أو تضرك العين، أو تسمو إليك المنى أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك، وهل زين البليغ إلا مدحك، وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟ وهل يقدر الملهوف إلا غياثك؟ وهل للطلاب غاية سواك؟ وهل للغواني مثل غيرك؟ وهل للماتح رجز إلا فيك، وهل يحدو الحادي إلا بك؟ ولولا أن يأخذ الواصف لك بنصيبه منك، وبحصته من الصدق،

وبسهمه من الشكر لك، لكان الإطناب عندهم في وصفك لغواً، ولكان تكلفه فضلاً. ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك، أو يهجى بالتسليم، ولم نعد إقراره إحساناً، وخضوعه إنصافاً؟ وهل تقع الأبصار إلا عليك، وهل تصرف الإشارة إلا إليك؟ وأي أمرك ليس بغاية، وأي شيء منك ليس في النهاية؟ وهل فيك شيء يفوق شيئاً أو يفوقه شيء؟ أو يقال: لو لم يكن كذا لكان أحسن، أو لو كان كذا لكان أتم؟ وأين الحسن الخالص والجمال الفائق، والملح المحض والحلاوة التي لا تستحيل، والتمام الذي لا يحيل، إلا فيك، أو عندك، أو لك أو معك؟ لا بل أين الحسن المصمت والجمال المفرد، والقد العجيب، والملح المنثور والفضل المشهور، إلا لك وفيك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب أو عالم أديب إلا وظلك أكبر

من شخصه، وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من معناه، وحلمك أثبت من نجواه؟ ولربما رأيت الرجل حسناً جميلاً، وحلواً مليحاً، وعتيقاً رشيقاً، وفخماً نبيلاً، ثم لا يكون موزون الأعضاء ولا معتدل الأجزاء. وقد تكون أيضاً الأقدار متساوية غير متقاربة ولا متفاوتة ويكون قصداً، ومقداراً عدلاً، وإن كانت هناك دقائق خفية لا يراها الغبي، ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي. فأما الوزن المتحقق، والتعديل الصحيح، والتركيب الذي لا يفضحه التفرس، ولا يحصره التعنت، ولا يتعلل جادبه، ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خصصت به دون الأنام، ودام لك على الأيام. وكذا الحسن إذا كان حراً مرسلاً، وعتيقاً مطلقاً، لا يتحكم

عليه الدهر، ولا يذبله الزمان، ولا يحتاج إلى تعليق التمائم، ولا إلى الصون والكن، ولا إلى المنقاش والكحل. ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سهل في العيون تسهيلاً، وحبب إلى القلوب تحبيباً، وقرب إلى النفوس تقريباً، حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء، وجرى في العروق وتمشى في العظم بحيث لا يبلغه السمر ولا الوهم، ولا السرور الشديد، ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المزية الظاهرة، والفضيلة البينة. ولو لم يكن لك إلا أننا لا نستطيع أن نقول في الجملة، وعند الوصف والمدحة: لهو أحسن من القمر، وأضوأ من الشمس، وأبهى من الغيث، وأحسن من يوم الحلية؛ وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأن عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن وجهه ماوية، وكأن بطنه قبطية، وكأن ساقه بردية، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبه خط بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد، وكأن فاه خاتم، وكأن

جبينه هلال. ولهو أطهر من الماء، وأرق طباعاً من الهواء، ولهو أمضى من السيل، وأهدى من النجم لكان في ذلك البرهان النير، والدليل البين. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والمثل في كل شكل. وأما قول الشاعر: يزيدك وجهه حسناً ... إذا ما زدته نظرا وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا، وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل، واستخرج لنا التفرس، غرائب حسن لم نعرفها، وعجائب صنعة لم نقف عليها. وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر، أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء؟ فإن ذلك معنىً مسروق مني في وصفك، ومأخوذ من كتبي في مدحك. والجملة التي تنفي الجدال، وتقطع القيل والقال، أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة، ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك! إلا ذكرت النار! ولا تعجب أيها السامع واعلم أني مقصر. وإذا رأيته علمت أني مقصر. وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط. هو رجل طينته حرة، وعرقه كريم، ومغرسه طيب، ومنشأه

محمود، غذي في النعمة، وعاش في الغبطة، وأرهقه التأديب، ولطفه طول التفكير، وخامره الأدب، وجرى فيه ماء الحياء. فأفعاله كأخلاقه، وأخلاقه كأعراقه، وعادته كطبيعته، وآخره كأوله، تحكي اختياراته التوفيق، ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف، ويرغب عن التجوز، وينبل عن ترك الإنصاف. لا تمتنع عليه معرفة المبهم، ولا يلحج باستبانة المشكل، ولا يعرف الشك إلا في غيره، ولا العي إلا سماعاً. فمن يطمع في عيبك، بل من يطمع في قدرك. وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغنى بمدحك، ولا فتاة إلا تشكو تباريح حبك، ولا محجوبة

إلا وهي تنقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقي بك. فكم من كبد حرى منضجة، ومصدوعة مفرثة، وكم حشاً خافق وقلب هائم، وكم عين ساهرة وأخرى جامدة وأخرى باكية؟ وكم عبرى مولهة وفتاة معذبة، قد أقرح قلبها الحزن، وأجمد عينها الكمد، واستبدلت بالحلي العطلة وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المره، فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد ظرف ناصع، وسن ضاحك؛ وبعد أن كانت ناراً تتوقد وشعلة تتوهج. وليس حسنك - أبقاك الله - الحسن الذي تبقى معه توبة، أو تصح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، أو يثبت معه عزم،

أو يمهل صاحبه للتثبت، أو يتسع للتحير، أو ينهنهه زجر، أو يفيده خوف. هو - أبقاك الله - شيء ينقض العادة، ويفسخ المنة، ويعجل عن الروية، ويطوح بالعزاء، وينسى معه العواقب. ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر ابن الحجاج، ولركبك بأعظم مما ركب جعدة السلمى. بل لدعاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما، والغيظ عليك إلى الرحمة لهما.

فمن كان عيب حسنه الإفراط، والطعن عليه من جهة الزيادة، كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم. وما ندري في أي الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أو إذا جمعناك، وإذا ذكرنا كلك أم إذا تأملنا بعضك؟ فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها. وكما أصبحنا وما ندري: آلكأس التي في يدك أجمل أم القلم، أم الرمح الذي تحمله أم المخصرة، أم العنان الذي تمسكه، أم السوط الذي تعلقه؟ وكما أصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن، أم أيها أجمل وأشكل: آللمة أم مخط اللحية، أم الإكليل أم العصابة، أم العمامة أم القناع أم القلنسوة؟ وأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم، ويعلم البعيد

الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، أنها لم تخلق إلا لمنبر عظيم، أو ركاب طرف كريم. وأما فوك فهو الذي لا ندري: أي الذي تتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل: الحديث أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف؟ وعلى أننا لا ندري أي ألسنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى. أقلمك أبلغ أم خطك، أم لفظك؟ أم إشارتك أم عقدك؟ وأنت في ذلك فوقهم - والحمد لله - وواحدهم، وأعيذك بالله تعالى. وقد علمنا أن القمر، وهو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال، يبدو مع ذلك ضئيلاً ونضواً، ويظهر معوجاً شختاً وأنت أبداً قمر بدر، وفخم غمر. ثم مع ذلك يخرق في السرار، ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحساً كما يكون سعداً، ويكون ضراً كما يكون نفعاً، ويقرض

الكتان، ويشحب الألوان، ويخم فيه اللحم. وأنت دائم اليمن، ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه. وعلى أنه محق حسنه المحاق، وشانه الكلف، وليس بذي توقد واشتعال، ولا خالص ولا متلألىء، ويعلوه برد ويكسفه ظل، ثم لا يعتبر ذلك إلا عند كماله، وليلة فخره واحتفاله. وكثيراً ما يعتريه الصفار من بخار البحار. وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن بري اللون، روحاني البدن. وإن احتجوا عليك له بالجزر والمد، احتججت عليهم بالحلم والعلم، وبأن طاعتك اختيار، وطاعته طباع واضطرار، وبأن له سيرة

قد قصر عليها، ومنازل لا يجاوزها، ولا يمكنه البدوات، وليس في قواه فضل للتصرف. على أن ضياءه مستعار من الشمس، وضياؤك عارية عند جميع الخلق. وكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم وما لا خير فيه. تعير نسيم الهواء طيباً، وتراب الأرض عبقاً. إن تفتيت فالرشاقة والملح، وإن تنسكت فالرهبانية والإخلاص، وإن ترزنت فثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل. وطباعك - جعلت فداءك - طباع الخمر، إلا أنك حلال كلك. وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حويت خصال الياقوت إلا ما زادك الله، وأخذت خصال المشتري إلا ما فضلك الله به، وجمعت خلال الدر إلا ما خصصت به دونه. فلك من كل

شيء صفوته وشرفه، ولبابه وبهاؤه. وهل يضير القمر نباح الكلب، وهل يزعزع النخلة سقوط البعوضة؟ ! فأما القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقله. وقد ذهب الناس في المزاح في مذاهب متضادة، وسلكوا منه في طرق مختلفة، فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان. وسنأتي على جمل هذه الأقاويل، ثم نذكر جملة ما نقول إن شاء الله. فأما المحامي عن الهزل والمفضل للمزح فإنه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل، ومن فضائل المزح، أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلا من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل الغنى، وأن الجد نصب، والمزح جمام، والجد مبغضة والمزح محبة. وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه، وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه.

والجد مؤلم وربما عرضك لأشد منه، والمزح ملذ وربما عرضك لألذ منه. فقد شاركه في التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا، وكدوا ليستريحوا، وإن كان المزاح إنما صار معيباً، والهزل مذموماً، لأن صاحبه لا يكون إلا معرضاً لمجاوزة الحد، ومخاطراً بمودة الصديق. فالجد داعية إلى الإفراط، كما أن المزاح داعية إلى مجاوزة القدر والتجاوز للجد قاطع بين الفريقين في جميع النوعين. فقد ساواه المزح فيما هو له وباينه فيما ليس له. وإن كان المزح إنما صار قبيحاً لأن الذي يكون بعده جد، ولم يصر الجد قبيحاً لأن الذي يكون بعده مزح، وكان الجد في هذا الوزن أقبح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن، لأن ما جعل الشيء قبيحاً أقبح من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسناً أحسن من الشيء. فأما الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المزاح في موضعه، كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه.

دقال: ولكل شيء موضع، وليس شيء يصلح في كل موضع. وقد قسم الله تعالى الخيرة على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة وعلى الإعلان والتقية، وأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوز المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوغ المباح كما شدد أمر المفروض، وجعل المباح جماماً للقلوب، وراحة للأبدان، وعوناً على معاودة الأعمال، فصار الإطلاق كالحظر، والصبر كالشكر. فليس للإنسان من الخيرة في الذكر شيء إلا وله في النسيان مثله، ولا في الفطنة شيء إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء إلا وله في الضراء مثله. ولو لم يرزق الله تعالى العباد إلا بالصواب محضاً، وبالصدق بحتاً، وبمر الحق صفحاً، لهلكت العوام، ولانتقض أمر الخاص.

ولو ذكر الإنسان كل ما أنسيه لشقي، ولو جد في كل شيء لانتكث. وقد يكون الذكر إلى الهلكة سلماً كما يكون النسيان للسلامة سبباً. وسبيل المزاح والجد كسبيل المنع والبذل. وعلى ذلك يجري جميع القبض والبسط. فهذا وما قبله جمل أقاويل القوم. ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزاح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة الهزل. والحق أن ينضح عن بعض المزح، ويحتج لجمهور الجد. وكيف لنا بذم جميع المزح مع ما نحن ذاكرون. وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقال: كان فيه مزاح، ولا يقال مزاح. وكذا الأئمة ومن تبذل في بعض الحالات من أهل الحلم والوقار. وقال عمر رضوان الله تعالى عليه: " إنا إذا خلونا كنا كأحدكم ". وقد كان عمر عبوساً قطوباً.

وكان زياد مع كلوحه وقطوبه، يمازح أهله في الخلا كما يجد في الملا. وكان الحجاج مع عتوه وطغيانه، وتمرده وشدة سلطانه، يمازح أزواجه ويرقص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ قال: " والله إن تروني إلا شيطاناً؟ والله لربما رأيتني وإني لأقبل رجل إحداهن! ". فقد ذكرنا خير العالمين، وجلة من خيار المسلمين، وجباراً عنيداً، وكافراً لعيناً. وبعد فمن حرم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة، وفرع من فروع الطلاقة. وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، ولم يأتنا بالانقباض والقسوة، وأمرنا بإفشاء السلام، والبشر عند الملاقاة، وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي. فصل قد اعتذرنا في معصيتك والخلاف على محبتك مرة بالمزاح، ومرة بالنسيان، ومرة بالاتكال على عفوك وعلى ما هو أولى بك.

والجملة أنا لو تعمدنا ثم أصررنا ثم أنكرنا، لكان في فضلك ما يتغمدنا، وفي كرمك ما يوجب التغافل عنا. فكيف وإنما سهونا ثم تذكرنا، واعتذرنا ثم أطنبنا. فإن تقبل، فحظك أصبت، ولنفسك نظرت. وإن لم تقبل فاجهد جهدك، ولا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا عفا عنك إن عفوت. وأقول كما قال أخو بني منقر: فما بقيا علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال والله لئن رميتني ببجيلة لأرمينك بكنانة، ولئن نهضت بصالح بن علي لأنهضن بإسماعيل بن علي، ولئن صلت علي بسليمان بن وهب لأدمغنك بالحسن بن وهب، ولئن تهت علي بمنادمة جعفر الخياط

لأتيهن عليك بحسبة وهب الدلال. وأنا أرى لك أن تقبل العافية، وترغب إلى الله تعالى في السلامة. واحذر البغي فإن مصرعه وخيم، واتق الظلم فإن مرعاه وبيل. وإياك أن تتعرض لجرير إذا هجا، وللفرزدق إذا فخر، ولهرثمة إذا دبر، ولقيس بن زهير إذا مكر، وللأغلب إذا كر، ولطاهر إذا صال. ومن عرف قدره عرف قدر خصمه، ومن جهل نفسه لم يعرف قدر غيره. وعليك بالجادة ودع البنيات فإن ذلك أمثل لك.

وأنت - والله يا أخي - تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الأخبار، أني أظهر منك حرباً، وألطف كيداً، وأكثر علماً، وأوزن حلماً، وأخف روحاً، وأكرم عيناً، وأقل غثاً وأحسن قداً وأبعد غوراً، وأجمل وجهاً، وأنصع ظرفاً. وأكثر ملحاً، وأنطق لساناً وأحسن بياناً، وأجهر جهارة، وأحسن شارة. وأنت رجل تشدو من العلم، وتنتف من الأخبار، وتموه نفسك، وتعز من قدرك، وتتهيأ بالثياب، وتتنبل بالمراكب، وتتحبب بحسن اللقاء، ليس عندك إلا ذاك. فلم تزاحم البحر بالجداول، والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ. فأما الباد والقامة، فمن يعدل بين القناة والكرة، ومن يميل بين النخلة والدقل، وبين رحى الطحان وبين سيف يمان. وإنما يكون التمييل بين أتم الخيرين وأنقص الشرين، وبين المتقاربين

دون المتفاوتين. فأما الخل والعسل، والحصاة والجبل، والسم والغذاء، والفقر والغنى، فهذا مما لا يخطأ فيه الذهن ولا يكذب فيه الحس. والخطأ ثلاث: خطأ الحس، وخطأ الوهم، وخطأ الرأي. كل ذلك سبيله التنبيه والتذكير، والتقويم والتأنيب. والعمد نوع واحد، وسبيله القمع والحظر، والضرب والقتل. وأول ذلك أن يهجره صاحب الحكمة، ولا يطمعه في وعظ ولا مجالسة. وقد رأيت من يعاند الحق إذا كانت المعرفة عياناً. وأنت لا ترضى بجحد العيان حتى تدعو إليه، ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه، ولا ترضى بالعداوة حتى يكون لك في ذلك الرياسة، ولا ترضى بالرياسة دون السابقة، ولا بالطارف دون التالد، ولا بالتالد دون الأعراق التي تسري، والمواليد التي تنمي. ولا ترضى بأن يكون أولاً حتى تكون آخراً، ولا بالمداراة دون المباداة،

ولا بالجدال دون القتال. وحتى ترى أن التقية حرام وأن التقصير كفر. وحتى لو كنت إمام الرافضة لقتلت في طرفة ولو قتلت في طرفة لهلكت الأمة، لأنك رجل لا عقب لك. والإمامة اليوم لا تصلح في الإخوة، واو صلحت في الإخوة كانت تصلح في ابن العم، ثم دنت من الأرحام شيئاً فصارت لا تصلح إلا في الولد. وفي هذا القياس أنها بعد أعوام لا تصلح إلا ببقاء الإمام نفسه إلى آخر الأبد. وهذا هو علة أصحاب التناسخ. وأنت رافضي ولم يكن هذا عندك. فأهد إلي الآن من خالص التوتيا كما أهديت إليك باب التناسخ. وأنت ترى القتل في حق المعاندة شهادة، وترى أن مباينة

المنصفين في تعظيم العنود سعادة، وأن الرياسة في دفع الحقائق مرتبة، وأن الإقرار بما يظهر للعيون ضعة، وأن الشهرة بالمغالبة رفعة. أظهر القوم عندك حجة أرفعهم صوتاً، وأخلقهم للتوبة أصلبهم وجهاً، وأحسنهم تقية أقلهم تحرجاً، وأحسنهم إنصافاً أشدهم شغباً. تعشق المتهور، وتكلف بالجموح، وتصافي الوقاح. والأديب عندك من يعيب أحاديث الجلساء، واعترض على نوادر الإخوان، وغمز في قفا النديم، ونصب للعالم، وأبغض العاقل، واستثقل الظريف، وحسد على كل نعمة، وأنكر كل حقيقة. جعلت فداك. إنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير، واستثقال الطويل وإن كثرت محاسنه وجمت فوائده. وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي؛ ولأنك متى

كنت للشيء متوقعاً، وله منتظراً، كان أحظى لما يرد عليك، وأشهى لما يهدى إليك. وكل منتظر معظم، وكل مأمول مكرم. كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفاً بالاقتباس، وشحاً على نصيبي منك، وضناً بما أؤمله عندك، ومداراة لطباعك، واستزادة من نشاطك. ولأنك على كل حال بشر، ولأنك متناهي القوة مدبر. فصل والعقل - حفظك الله - أطول رقدة من العين، وأحوج إلى الشحذ من السيف، وأفقر إلى التعاهد، وأسرع إلى التغير، وأدواؤه أقتل، وأطباؤه أقل. فمن تداركه قبل التفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يدرك شيئاً من حاجته. ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر، ثم معرفة وجوه المطالب. ثم في الخواطر الغث والسمين، والفاسد والصحيح، والمسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يفهم، والجليل الذي لا يلقى الفهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التباين والتمييز.

وللمطالب طرق، ولدرك الحقائق أبواب؛ فمن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالاً ممن لم يخطئها ولم ينتظر. وعلى قدر صحة العقل يصح الخاطر، وعلى قدر التفرغ يكون التنبه. هذا جماع هذا الكتاب وجمهرته، وأقسامه وجملته. ثم من نفع أسبابه الحفظ لما قد حصل، والتقييد لما ورد، والانتظار لما لم يرد، وأن لا تخلي نفسك من الفكرة إلا بقدر جمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فصل ما بين طلب العلم للمنافسة والشهرة، وبين طلبه للرغبة والرهبة، وتعلم أن العلم لا يجود بمكنونه، ولا يسمح بسره ومخزونه، إلا لمن رغب فيه لكرم عنصره، وفضله لحقيقة جوهره، ورفعه عن التكسب، وصانه عن التبذل. وأنه لا يعطيك خالص الحكمة حتى تعطيه خالص المحبة. كان يقال: " من شاب شيب له ". وخصلة ينبغي أن تعرفها وتقف عندها، وهو أن تبدأ من العلم

بالمهم، وتختار من صنوفه ما أنت أنشط له، والطبيعة به أعنى؛ فإن القبول على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدر العناية. ثم من أفضل أسبابه تخليص أخلاقه، وتمييز أجناسه، والمعرفة بأقداره، حتى تعطي كل معنى حقه من التقريب والرفعة، وقسطه من الإبعاد والضعة، حتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين، وبالخطير النفيس، ولا تلقي إلا الغث الخسيس، والحقير السخيف. فإنك متى كنت كذلك لم تعتبر فضل ما بين النظرين، ولا صرف ما بين النعتين. الكيس كل الكيس، والحذق كل الحذق: أن لا تعجل ولا تبطىء، وأن تعلم أن السرعة غير العجلة، وأن الأناة خلاف الإبطاء. وأن تكون على يقين من درك الحق إذا وفيته شرطه، وعلى ثقة من ثواب النظر إذا أعطيته حقه. هذا جملة ما للعذر في هذه المسألة، وجملة الحجة فيما قدمنا من الافتنان والإطالة. فإن كنا أصبنا فالصواب أردنا، وإن كنا أخطأنا فما ذاك عن فساد من الضمير، ولا قلة احتفال بالتقصير. ولعل طبيعة

خانت، أو لعل عادة جذبت، أو لعل سهواً اعترض، أو لعل شغلاً منع. خفض عليك أيها السامع، فإن الخطأ كثير عام، وغالب مستول، والصواب قليل خاص، ومقموع مستخف. فوجه اللائمة إلى أهلها، وألزمها من هو أحق بها، فإنهم كثير ومكانهم مشهور. اعجب من الصواب لا تعجب من الخطأ. اعجب من أن العجب قد ذهب. اعجب ممن تعجب وفيه العجب أعجب. وكيف التعجب والأمور كلها عجب؟ ! كنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجباً، فبدخول كلها في باب العجب خرجت بأجملها من باب العجب. وقد ذكر الله تعالى ذكره التعجب في كتابه جل جلاله. وقد تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله في زمانه، وفي الناس

يومئذ الناقص والوافر، والمشوب والخالص، والمستقيم والمعوج. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وإن تعجب فعجب قولهم "، وقال له: " بل عجبت ويسخرون ". واعلم أنه لم يبق من المتعجب الفاتك إلا نصيب اللسان، ولا من المستمع الفاتك إلا حصة السمع. فأما القلوب فخاوية قاسية، وراكدة خامدة، لا تسمع داعياً ولا تجيب سائلاً، قد أغفلها سوء العادة، واستولى عليها سلطان السكرة. فدع عنك ما لست مثله، فإن فيما أورده عليك شغلاً شاغلاً، وهماً داخلاً. اعلم أن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها، وسلخها من جميع معانيها. ولو مسخها كما مسخ بعض المشركين قردة، أو كما مسخ بعض الأمم خنازير، لكان قد بقى بعض أمورها، وحبس عليها بعض أعراضها، كبقية ما مع القرد في ظاهره من شبه الآدمي، وبقية ما مع الخنزير

في باطنه من شبه البشري. لكنه جل ذكره مسخ الدنيا مسخاً متتبعاً، ومستقصىً مستفرغاً، فبين حاليها جميع التضاد، وبين معنييها غاية الخلاف. فالصواب اليوم غريب، وصاحبه مجهول. والعجب ممن يصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع، فإن صرت عليه عوناً مع الزمان قتلته، وإن أمسكت عنه فقد وفرته. ولسنا نريد منك النصرة ولا المعونة، ولا التأنيس ولا التعزية. وكيف أطلب منك ما قد انقطع سببه، واجتث أصله. وقد كان يقال: " من طلب عيباً وجده ". هذا في الدهر الصالح دون الفاسد. فإن أنصفت فقد أغربت، وإن جرت فلم تعد ما عليه الزمان. وهب الله لنا ولك الإنصاف، وأعاذنا وإياك من الظلم. والحمد لله كما هو أهله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد خاصة، وعلى أنبيائه عامة، وسلم.

فصل من صدر رسالته إلى الحسن بن وهب

في مدح النبيذ وصفة أصحابه أنا - أبقاك الله - الطالب المشغول، والقائل المعذور، فإن رأيت خطأً فلا تنكر فإني بصدده وبعرض منه، بل في الحال التي توجبه، والسبب الذي يؤدي إليه. وإن سمعت تسديداً فهو الغريب الذي لا نجده. اللهم إلا أن يكون من بركة مكاتبتك، ويمن مطالبتك. ولأن ذكرك يشحذ الذهن، ويصورك في الوهم، ويجلو العقل؛ وتأميلك ينفي الشغل. ولا يعجبني ما رأيت من قلة إطنابك في هذا النبيذ، وقلة تلهيك بهذا الشراب وأنت تجد من فضل القول وحسن الوصف ما لا يصاب عند خطيب، ولا يوجد عند بليغ. وأنت ولو مشيت الخيلاء، وحقرت العظماء، وأرغبت الشعراء، وأعطيت الخطباء، ليكون القول منهم موصولاً غير مقطوع، ومبسوطاً غير مقصور، لكنت بعد مقصراً في أمره، مفرطاً في واجب حقه. فلا تأديب الله قبلت، ولا قول الناصح سمعت.

قال الله تبارك وتعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث ". وقال الأول: " استدم النعمة بإظهارها، واستزد الواهب بإدامة شكره ". بل كيف أنست بالجلساء، وأرسلت إلى الأطباء ولم يكن في قربك منه ما يغنيك، وفي النظر إليه ما يشفيك؟ ولم ملكت نفسك دون أن تهذي، ولم رأيت الوقار مروءة قبل أن تستخف ولم كان الهذيان هو الهذيان، والسخف هو المروءة، والتناقض هو الصحة وإلا بأي شيء خصصت، وبأي معنىً أتيت، ولم لم تخلع فيه العذار، ولم تخرج فيه عن كل مقدار. وأي شيء أجرب جلدك وأمات حالك، وأضعف مسرتك، وأوحش منك رفيقك، إلا العقوبة المحضة، وإلا الغضب والعقاب، وحرمك الثواب إلا التهاون في أمره، وقلة الرعاية لحقه. وكيف صارت أمراضي أمراض الأغنياء وأمراضك أمراض الفقراء إلا لمعرفتي بفضله، واستخفافك بقدره. ألا ترى أني منقرس مفلوج، وأنت أجرب مبسور.

فإن تبت فما أقرب الفرج، وأسرع الإجابة. وسنفرغ لك إن شاء الله قريباً، وتفلح سريعاً. وإن أصررت وتتايعت وتماديت أتاك والله من سفلة الأدواء، وزوي عنك من علية الأمراض، ما يضعك موضعاً لا ارتفاع معه، ويلزق بعقبك عاراً لا زوال له. ثم تتبع أشياخك السبة، وتتبعهم المذمة. علم الله أنه استظرفك واستملحك، واستحسن قدك، واسترجح عقلك، وأحسن بك ظناً، ورآك لنفسه أهلاً، ولاتخاذه موضعاً، وللأنس به مكاناً، وأنت لاه عنه زار عليه، متهاون به، قد أقبلت على ديوانك تشغل بملازمته، وتدع ما يجب عليك من صفاته، والدعاء إلى تعظيمه. بل هل كنت من شيعته والذابين عن دولته، والمعروفين بالانقطاع إليه، والانبتات في حبله، إلا أن يكون عندك التقصير لحقه، والتهاون بأمره اللازم، ونهي الناس عنه. ول خرجت إلى هذا لخرجت من جميع الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية. وأحسب أنك لا تعظمه ولا ترق له. ولو لم تتعصب إلا لجماله وحسنه، ولو لم تحافظ على نقائه وعتقه لكان ذلك واجباً، وأمراً معروفاً. فكيف مع المناسبة التي بينكما، والشكل الذي يجمعكما. فإن كان بعضك لا يصون بعضاً وأنت لا تعظم شقيقاً، فأنت والله من حفظ العشيرة أبعد، ولمعرفة الصديق أنكر. ولقد نعيت إلي لبك، وأثكلتني حفاظك، وأفسدت عندي كل

صحيح. وقد كان يقال: " لا يزال الناس بخير ما تعجبوا من العجب " قال الشاعر: وهلك الفتى أن لا يراح إلى الندى ... وأن لا يرى شيئاً عجيباً فيعجب قال بكر بن عبد الله المزني: " كنا نتعجب من دهر لا يتعجب أهله من العجب فقد صرنا في دهر لا يستحسن أهله الحسن. ومن لا يستحسن الحسن لم يستقبح القبيح ". وقال بعضهم: " العجب ترك التعجب من العجب ". ولم أقل ذلك إلا لأن تكون به ضنيناً، وبما يجب له عارفاً. ولكنك لم توفر حقه ولم توف نصيبه. فإن قلت: ومن يقضي واجب حقه، وينتهض بجميع شكره؟ قلنا: فهل أعذرت في الاجتهاد حتى لا يذم إلا تعجبك، وهل استغرقت الاعتذار حتى لا تعاب إلا بما زاد على قوتك. ولولا أنك عين الجواد لم نطلبه منك. ولولا ظنك لم نحمدك عليه. ولولا معرفتك

بفضله لم نعجب من تقصيرك في حقه، ولولا أن الخطأ فيك أقبح، والقبيح منك أسمج، وهو فيك أبين والناس به أكلف، والعيون إليه أسرع لكان كتابنا كتاب مطالبة، ولم يكن كتاب معاتبة، ولشغلنا الحلم لك عن الحلم عليك، والقول لك عن القول فيك. وقد كنت أهابك بفضل هيبتي لك، وأجترىء عليك بفضل بسطك لي، فمنعني حرص الممنوع، وخوف المشفق، وأمن الواثق، وقناعة الراضي. وبعد فمن طلب ما لا يجاد به، وسأل ما لا يوهب مثله ممن يجود بكل ثمين، ويهب كل خطير، فواجب أن يكون من الرد مشفقاً، وبالنجح موقناً. وإن كان - أبقاك الله - أهلاً لأن يمنع، وكنت حفظك الله أهلاً أن تبذل، وجب أن تكون باذلاً مانعاً، وساكناً مطمئناً، إلا أن يكون الحرب سلماً سجالاً، والحالات دولاً. ولهذه الخصال ما وقع الطلب، وشاع الطمع. فإن منعت فعذرك مبسوط عند من عرف قدره، وإن بذلت فلم تعد الذي أنت أهله عند من عرف قدرك، إلا أنه لا يجود بمثله إلا غني عند جميع الناس، أو عاقل فوق جميع الناس. وكيف لا أطلب طلب الجريء المتهور، وأمسك إمساك الهائب

الموقر. وليس في الأرض خلق يغتفر في وصفه المحال ولا يستحسن الهذيان سواه؟ ! على أن من الهذيان ما يكون مفهوماً، ومن المحال ما يكون مسموعاً. فمن جهل ذلك ولم يعرفه، وقصر ولم يبلغه، فليسمع كلام اللهفان والثكلان، والغضبان والغيران، ومرقصة الصبيان، والمنعظ إذا دنا منه الحلقي. حتى إذا استوهبك لم تهب له منه حتى تقف وقفة، وتطرق ساعة، ثم تستحسن وتستشير، ثم تشفع على مستوهبه، وتعجب من شاربه، ثم تطيل الكتاب بالامتنان، وتسطر فيه بتعظيم الإنعام مع ذكر مناقبه، ونشر محاسنه بقدر الطاقة. وإن لم تبلغ الغاية فاعرف وزنه، واشهد بطيبه، وأرخ ساعته، واشهر في الناس يومه. وما ظنك بشيء لا تقدر أن تشرد في ذكره وتفرط في مدحه،

وتقصيرك واضح في لونه، مكتوب في طعمه، موجود في رائحته، إذ كان كل ممدوح يقصر عن مدحه وقدره، ويصغر في جنبه. ولو لم يستدل على سعادة جدك، وإقبال أمرك، وأن لك زي صدق في المعلوم، وحظاً في الرزق المقسوم، وأنك ممن تبقى نعمه، ويدوم شكره، ويفهم النعمة ويربها، ويدرأ عنها ويستديمها، إلا أنه وقع في قسمك، وكان في نصيبك لكان ذلك أعظم البرهان، وأوضح الدلالة. بل لا نقول: إنه وقع اتفاقاً وغرساً نادراً، حتى يكون التوفيق هو الذي قصد به، والصنع هو الذي دل عليه. ولو لم تملك غيره لكنت غنياً، ولو ملكت كل شيء سواه لكنت فقيراً. وكيف لا يكون كذلك وهو مستراح قلبك، ومجال عقلك، ومرتع عينك، وموضع أنسك، ومستنبط لذتك، وينبوع سرورك، ومصباحك في الظلام، وشعارك من جميع الأقسام. وكيف وقد جمع أهبة الجلال، ورشاقة الخلال، ووقار البهاء،

وشرف الخير، وعز المجاهرة ولذة الاختلاس، وحلاوة الدبيب. وسأصف لك شرف النبيذ في نفسه، وفضيلته على غيره، ثم أصف فضل شرابك على سائر الأشربة، كما أصف فضل النبيذ على سائر الأنبذة؛ لأن النبيذ إذا تمشى في عظامك، والتبس بأجزائك، ودب في جنانك، منحك صدق الحس، وفراغ النفس، وجعلك رخي البال، خلي الذرع، قليل الشواغل، قرير العين، واسع الصدر، فسيح الهمم حسن الظن. ثم سد عليك أبواب التهم، وحسن دونك الظن وخواطر الفهم، وكفاك مئونة الحراسة، وألم الشفقة، وخوف الحدثان، وذل الطمع وكد الطلب، وكل ما اعترض على السرور وأفسد اللذة، وقاسم الشهوة، وأخل بالنعمة. وهو الذي يرد الشيوخ في طبائع الشبان، ويرد الشبان في نشاط الصبيان، وليس يخاف شاربه إلا مجاوزة السرور إلى الأشر، ومجاوزة الأشر إلى البطر.

ولو لم يكن من أياديه ومننه، ومن جميل آلائه ونعمه، إلا أنك ما دمت تمزجه بروحك، وتزاوج بينه وبين دمك فقد أعفاك من الجد ونصبه، وحبب إليك المزاح والفكاهة، وبغض إليك الاستقصاء والمحاولة، وأزال عنك تعقد الحشمة وكد المروءة، وصار يومه جمالاً لأيام الفكرة، وتسهيلاً لمعاودة الروية، لكان في ذلك ما يوجب الشكر، ويطيب الذكر. مع أن جميع ما وصفناه وأخبرنا به عنه يقوم بأيسر الجرم، وأقل الثمن. ثم يعطيك في السفر ما يعطيك في الحضر، وسواء عليك البساتين والجنان. ويصلح بالليل كما يصلح بالنهار، ويطيب في الصحو كما يطيب بالدجن، ويلذ في الصيف كما يلذ في الشتاء، ويجري مع كل حال. وكل شيء سواه فإنما يصلح في بعض الأحوال. ويدفع مضرة الخمار، كما يجلب منفعة السرور. إن كنت جذلاً كان باراً بك، وإن كنت ذا هم نفاه عنك. وما الغيث في الحرث بأنفع منه في البدن، وما الريش السخام بأدفأ منه للمقرور.

ويستمرأ به الغذاء ويدفع به ثقل الماء، ويعالج به الأدواء، ويحمر به الوجنتان، ويعدل به قضاء الدين. إن انفردت به ألهاك، وإن نادمت به سواك. ثم هو أصنع للسرور من زلزل، وأشد إطراباً من مخارق، وقدر احتياجهما إليه كقدر استغنائه عنهما؛ لأنه أصل اللذات وهي فرعه، وأول السرور ونتاجه. ولله در أول من عمله وصنعه، وسقياً لمن استنبطه وأظهره. ماذا دبر؟ وعلى أي شيء دل؟ وبأي معنىً أنعم؟ وأي دفين أثار؟ وأي كنز استخرج. ومن استغناء النبيذ بنفسه، وقلة احتياجه إلى غيره، أن جميع ما سواه من الشراب يصلحه الثلج، ولا يطيب إلا به. وأول ما يثنى عليه به، ويذكر منه، أنه كريم الجوهر، شريف النفس، رفيع القدر، بعيد الهم. وكذلك طبيعته المعروفة وسجيته الموصوفة. وأنه يسر النفوس ويحبب إليها الجود، ويزين لها الإحسان، ويرغبها في التوسع، ويورثها الغنى، وينفي عنها الفقر،

ويملؤها عزاً، ويعدها خيراً، ويحسن المسارة، ويصير به النبت خصباً والجناب مريعاً، ومأهولاً معشباً. وليس شيء من المأكول والمشروب أجمع للظرفاء، ولا أشد تألفاً للأدباء، ولا أجلب للمؤنسين، ولا أدعى إلى خلاف الممتعين، ولا أجدر أن يستدام به حديثهم ويخرج مكنونهم، ويطول به مجلسهم، منه. وإن كل شراب وإن كان حلا ورق، وصفا ودق، وطاب وعذب، وبرد ونقخ، فإن استطابتك لأول جرعة منه أكثر، ويكون من طبائعك أوقع. ثم لا يزال في نقصان إلى أن يعود مكروهاً وبلية، إلا النبيذ، فإن القدح الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، إلى أن يسلمك إلى النوم الذي هو حياتك، أو أحد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلباً، وأخذه بالرأس تعسفاً، حتى يميت الحس

بحدته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البهر بكظته، ولا يسري في العروق لغلظه، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل الصميم. ولا والله حتى يغازل العقل ويعارضه، ويدغدغه ويخادعه، فيسره ثم يهزه، فإذا امتلأسروراً وعاد ملكاً محبوراً، خاتله السكر وراوغه، وداراه وما كره، وهازله وغانجه. وليس كما يغتصب السكر، ويعتسف الداذي، ويفترس الزبيب؛ ولكن بالتفتير والغمز، والحيلة والختل، وتحبيب النوم، وتزيين الصمت. وهذه صفة شرابك إلا ما لا نحيط به، ونعوته تتبدل إلا ما يقبح منها الجهل به. وخير الأشربة ما جمع المحمود من خصالها وخصال غيرها. وشرابك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل، وتمشيها في العظام ولونها الغريب؛ وأخذ برد الماء ورقة الهواء، وحركة النار، وحمرة

خدك إذا خجلت، وصفرة لونك إذا فزعت، وبياض عارضيك إذا ضحكت. وحسبي بصفاتك عوضاً من كل حسن، وخلفاً من كل صالح. ولا تعجب أن كانت نهاية الهمة وغاية المنية؛ فإن حسن الوجوه إذا وافق حسن القوام وشدة العقل، وجودة الرأي، وكثرة الفضل وسعة الخلق، والمغرس الطيب والنصاب الكريم، والظرف الناصع، واللسان الفخم والمخرج السهل والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة واللهجة الفصيحة، والتمهل في المحاورة والهز عند المناقلة، والبديه البديع والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز والإطناب يوم الإطناب، يفل الحز ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصرعنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحق بالكمال. والحمد لله. وإن التاج بهي وهو في رأس الملوك أبهى، والياقوت الكريم حسن وهو في جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن وهو من في

الأعرابي أحسن. فإن كان من قول المنشد وقريضه، ومن نحته وتحبيره، فقد بلغ الغاية وأقام النهاية. وهذا الشراب حسن وهو عندك أحسن، والهدية منه شريفة وهي منك أشرف. وإن كنت قدرت أني إنما طلبته منك لأشربه أو لأسقيه، أو لأهبه، أو لأتحساه في الخلا، أو أديره في الملا أو لأنافس فيه الأكفاء، وأجتر زيادة الخلطاء، أو لأبتذله لعيون الندماء، أو أعرضه لنوائب الأصدقاء فقد أسأت بي الظن، وذهبت من الإساءة بي في كل فن، وقصرت به فهو أشد عليك، ووضعت منه فهو أضر بك. وإن ظننت أني إنما أريده لأطرف به معشوقة، أو لأستميل به هوى ملك، أو لأغسل به أوضار الأفئدة، أو أداوي به خطايا الأشربة، أو لأجلو به الأبصار العليلة، وأصلح به الأبدان الفاسدة، أو لأتطوع به على شاعر مفلق أو خطيب مصقع، أو أديب مدقع، ليفتق لهم المعاني، وليخرج المذاهب، ولما في جانبهم من

الأجر، وفي أعناقهم من الشكر، ولينفضوا ما قالت الشعراء في الحمد، وليرتجعوا ما شاع لهم من الذكر؛ فإني أريد أن أضع من قدرها، وأن أكسر من بالها، فقد تاهت وتيه بها. أو لأن أتفاءل برؤيته وأتبرك بمكانه، وآنس بقربه، أو لأشفي به الظماء، أو أجعله إكسير أصحاب الكيمياء، أو لأن أذكرك كلما رأيته، وأداعبك كلما قابلته أو لأجتلب به اليسر وأنفي العسر. ولأنه والفقر لا يجتمعان في دار، ولا يقيمان في ربع. ولأتعرف به حسن اختيارك، وأتذكر به جودة اجتبائك. أو لأن أستدل به على خالص حبك، وعلى معرفتك بفضلي، وقيامك بواجب حقي فقد أحسنت بي الظن، وذكرت من الإحسان في كل فن. بل هو الذي أصونه صيانة الأعراض، وأغار عليه غيرة الأزواج.

واعلم أنك إن أكثرت لي منه خرجت إلى الفساد، وإن أقللت أقسمت على الاقتصاد. وأنا رجل من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة، فأقل ما أصنع إن اكترثت لي منه أن أطلب الملك، وأقل ما يصنعون بي أن أنفى من الأرض. فإن أقللت فإنك الولد الناصح، وإن أكثرت فإنك الغاش الكاشح. والسلام.

فصل من صدر كتابه في طبقات المغنين

ثم إنا وجدنا الفلاسفة المتقدمين في الحكمة، المحيطين بالأمور معرفة، ذكروا أن أصول الآداب التي منها يتفرع العلم لذوي الألباب أربعة: فمنها النجوم وبروجها، وحسابها الذي يعرف به الأوقات والأزمنة، وعليها مزاج الطبائع وأيام السنة. ومنها الهندسة وما اتصل بها من المساحة والوزن والتقدير، وما أشبه ذلك. ومنها الكيمياء والطب اللذان بهما صلاح المعاش وقوام الأبدان، وعلاج الأسقام، وما يتشعب من ذلك. ومنها اللحون ومعرفة أجزائها وقسمها، ومقاطعها ومخارجها ووزنها، حتى يستوي على الإيقاع ويدخل في الوتر وغير ذلك مما اقتصرنا من ذكره على أسمائه وجمله، اجتناباً للتطويل، وتوخياً للاختصار. وقصدنا للأمر الذي إليه انتهينا، وإياه أردنا. والله الموفق وهو المستعان. ولم يزل أهل كل علم فيما خلا من الأزمنة يركبون منهاجه، ويسلكون طريقه، ويعرفون غامضه، ويسهلون سبيل المعرفة بدلائله، خلا الغناء، فإنهم لم يكونوا عرفوا علله وأسبابه ووزنه وتصاريفه، وكان علمهم به على الهاجس وعلى ما يسمعون من الفارسية والهندية

إلى أن نظر الخليل البصري في الشعر ووزنه، ومخارج ألفاظه، وميز ما قالت العرب منه، وجمعه وألفه، ووضع فيه الكتاب الذي سماه العروض، وذلك أنه عرض جميع ما روي من الشعر وما كان به عالماً، على الأصول التي رسمها، والعلل التي بينها، فلم يجد أحداً من العرب خرج منها، ولا قصر دونها. فلما أحكم وبلغ منه ما بلغ، أخذ في تفسير النغم واللحون، فاستدرك منه شيئاً، ورسم له رسماً احتذى عليه من خلفه، واستتمه من عني به. وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي أول من حذا حذوه، وامتثل هديه، واجتمعت له في ذلك آلات لم تجتمع للخليل بن أحمد قبله، منها معرفته بالغناء، وكثرة استماعه إياه وعلمه بحسنه من قبيحه، وصحيحه من سقيمه. ومنها حذقه بالضرب والإيقاع، وعلمه بوزنها. وألف في ذلك كتباً معجبة، وسهل له فيها ما كان مستصعباً على غيره، فصنع الغناء بعلم فاضل، وحذق راجح، ووزن صحيح، وعلى أصل مستحكم له دلائل صحيحة وواضحة، وشواهد عادلة. ولم نر أحداً وجد سبيلاً إلى الطعن عليه والعيب له. وصنع كثير من أهل زمانه أغاني كثيرة بهاجس طبعهم والاتباع لمن سبقهم، فبعض أصاب وجه صوابه، وبعض أخطأ، وبعض قصر في بعض وأحسن في بعض.

ووجدنا لكل دهر دولة للمغنين يحملون الغناء عنهم، ويطارحون به فتيان زمانهم، وجواري عصرهم. وكان يكون في كل وقت من الأوقات قوم يتنادمون، ويستحسنون الغناء، ويميزون رديه من جيده، وصوابه من خطائه، ويجمعون إلى ذلك محاسن كثيرة في آدابهم وأخلاقهم، وروائهم وهيئاتهم، فلم نجد هذه الطبقة ذكروا. ووجدنا ذكر الغناء وأهله باقياً. وخصصنا في أيامنا وزماننا بفتية أشراف، وخلان نظاف، انتظم لهم من آلات الفتوة وأسباب المروءة ما كان محجوباً عن غيرهم، معدوماً من سواهم، فحملني الكلف والمودة لهم والسرور بتخليد فخرهم وتشييد ذكرهم والحرص على تقويم أود ذي الأود منهم حتى يلحق بأهل الكمال في صناعته، والفضل في معرفته، على تمييز طبقة طبقة منهم، وتسمية أهل كل طبقة بأوصافهم، وآلاتهم وأدواتهم، والمذاهب التي نسبوا إليها أنفسهم، واحتملهم إخوانهم عليها. وخلطنا جداً بهزل، ومزجنا تقريعاً بتعريض، ولم نرد بأحد مما سمينا سوءاً، ولا تعمدنا نقداً ولا تجاوزنا حداً. ولو استعملنا غير الصدق لفضلنا قوماً وحابينا آخرين. ولم نفعل

ذلك؛ تجنباً للحيف، وقصداً للإنصاف. وقد نعلم أن كثيراً منهم سيبالغ في الذم، ويحتفل في الشتم، ويذهب في ذلك غير مذهبنا. وما أيسر ذلك فيما يجب من حقوق الفتيان وتفكيههم، والله حسيب من ظلم، عليه نتوكل وبه نستعين، وهو رب العرش العظيم. ولم نقصد في وصف من وصفنا من الطبقات التي صنفنا منهم، إلا لمن أدركنا من أهل زماننا ممن حصل بمدينة السلام، إذ من خرج عنها ونزع إلى الفتوة بعد التوبة، وإلى أخلاق الحداثة بعد الحنكة، وذلك في سنة خمس عشرة ومائتين. فرحم الله أمراً أحسن في ذلك أمرنا، وحذا فيه حذونا، ولم يعجل إلى ذمنا، ودعا بالمغفرة والرحمة لنا. وقد تركنا في كل باب من الأبواب التي صنفنا في كتابنا، فرجاً لزيادة إن زادت، ولاحقة إن لحقت، أو نابتة إن نبتت. ومن عسى أن ينتقل به الحذق من مرتبته إلى ما هو أعلى منها، أو يعجز به القصور عما هو عليه منها إلى ما هو دونها، إلى مكانه الذي إليه نقله ارتفاع درجة أو انحطاطها، ومن لعلنا نصير إلى ذكره ممن

عزب عنا ذكره، وأنسينا اسمه، ولم يحط علمنا به، فنصيره في موضعه، ونلحقه بأصحابنا. وليس لأحد أن يثبت شيئاً من هذه الأصناف إلا بعلمنا، ولا يستبد بأمر فيه دوننا. ويورد ذلك علينا فنمتحنه، ونعرفه بما عنده، ويصير إلى ترتيبه في المرتبة التي يستحقها، والطبقة التي يحتملها. فلما استتب لنا الفراغ مما أردنا من ذلك خطر ببالنا كثرة العيابين من الجهال برب العالمين، فلم نأمن أن يسرعوا بسفه رأيهم وخفة أحلامهم إلى نقض كتابنا وتبديله، وتحريفه عن مواضعه، وإزالته عن أماكنه التي عليها رسمنا، وأن يقول كل امرىء منهم في ذلك على حاله، وبقدر هواه ورأيه، وموافقته ومخالفته، والميل في ذلك إلى بعض، والذم لطبقة والحمد لأخرى، فيهجنوا كتابنا، ويلحقوا بنا ما ليس من شأننا. وأحببنا أن نأخذ في ذلك بالحزم، وأن نحتاط فيه لأنفسنا ومن ضمه كتابنا، ونبادر إلى تفريق نسخ منها وتصييرها في أيدي الثقات والمستبصرين، الذين كانوا في هذا الشأن، ثم ختموا ذلك

بالعزلة والتوبة منه، كصالح بن أبي صالح، وكأحمد بن سلام، وصالح مولى رشيدة. ففعلنا ذلك وصيرناه أمانة في أعناقهم، ونسخة باقية في أيديهم، ووثقنا بهم أمناء ومستودعين وحفظة غير مضيعين ولا متهمين. وعلمنا أنهم لا يدعون صيانة ما استودعوا، وحفظ ما عليه ائتمنوا. فإن شيب به شوب يخالفه، وأضيف إليه ما لا يلائمه، رجعنا إلى النسخة المنصوبة، والأصول المخلدة عند ذوي الأمانة والثقة، واقتصرنا عليها، واستعلينا بها على المبطلين، ودفعنا بها إدغال المدغلين، وتحريف المحرفين، وتزيد المتزيدين، إن شاء الله. ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل من صدر كتابه في النساء

إنا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه العشق، والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمداً على فراشه. وأول ذلك إدخال الضيم على مروءته، واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته. ولم نطنب مع ذلك في ذكر ما يتشعب من أصل الحب من الرحمة والرقة، وحب الأموال النفيسة والمراتب الرفيعة، وحب الرعية للأئمة، وحب المصطنع لصاحب الصنيعة، مع اختلاف مواقع ذلك من النفوس، ومع تفاوت طبقاته في العواقب، احتجنا إلى الاعتذار من ذكر العشق المعروف بالصبابة، والمخالفة على قوة العزيمة، لنجعل ذلك القدر جنة دون من حاول الطعن على هذا الكتاب، وسخف الرأي الذي دعا إلى تأليفه، والإشادة بذكره. إذا كانت الدنيا لا تنفك من حاسد باغ، ومن قائل متكلف، ومن سامع طاعن، ومن منافس مقصر. كما أنها لا تنفك من ذي سلامة متسلم، ومن عالم متعلم، ومن عظيم الخطر حسن المحضر، شديد المحاماة على حقوق الأدباء، قليل التسرع إلى أعراض العلماء. وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب. وليس

كل حب يسمى عشقاً، وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار، كما أن السرف اسم لما زاد على المقدار الذي يسمى جوداً، والبخل اسم لما نقص عن المقدار الذي يسمى اقتصاداً، والجبن اسم لما قصر عن المقدار الذي يسمى شجاعة. وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء، مستعمل في بيان الحكماء. وقد قال عروة بن الزبير: " والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء ". وذكر بعض الناس رجلاً كان مدقعاً محروماً، ومنحوس الحظ ممنوعاً، فقال: " ما رأيت أحداً عشق الرزق عشقه، ولا أبغضه الرزق بغضه! " فذكر الأول عشق الشرف، وليس الشرف بامرأة، وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع لجميع الحاجات. وقد يستعمل الناس الكناية، وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة، يريدون أن يظهر المعنى بألين اللفظ، إما تنويهاً وإما تفضيلاً، كما سموا المعزول عن ولايته مصروفاً، والمنهزم عن عدوه منحازاً. نعم، حتى سمى بعضهم البخيل مقتصداً ومصلحاً، وسمي عامل الخراج المتعدي بحق السلطان مستقصياً.

ولما رأينا الحب من أكبر أسباب جماع الخير، ورأينا البغض من أكبر أسباب الشر، أحببنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير، ليفرق بينه وبين أبواب السبب الجالب للشر حتى نذكر أصولهما وعللهما الداعية إليهما، والموجبة لكونهما. فتأملنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكمل لذاتها، ظفر المحب بحبيبه، والعاشق بطلبته، ووجدنا شقوة الطالب المكدي وغمه، في وزن سعادة الطالب المنجح وسروره، ووجدنا العشق كلما كان أرسخ، وصاحبه به أكلف، فإن موقع لذة الظفر منه أرسخ، وسروره بذلك أبهج. فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بعدوه المرصد أحسن من موقع لذة الظفر من العاشق الهائم بعشيقته. قلنا: إنا قد رأينا الكرام والحلماء، وأهل السؤدد والعظماء، ربما جادوا بفضلهم من لذة شفاء الغيظ، ويعدون ذلك زيادة في نبل النفس، وبعد الهمة والقدر. ويجودون بالنفيس من الصامت والناطق، وبالثمين من العروض. وربما خرج من جميع ماله، وآثر طيب الذكر على الغني واليسر. ولم نر نفس العاشق تسخو بمعشوقه، ويجود بشقيقة نفسه لوالد ولا لولد بار، ولا لذي نعمة سابغة يخاف سلبها، وصرف إحسانه عنه بسببها.

ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال به، في جنب ما يهبون للنساء. حتى كأن العطر والصبغ، والخضاب والكحل، والنتف والقص، والتحذيف والحلق، وتجويد الثياب وتنظيفها، والقيام عليها وتعهدها، مما لم يتكلفوه إلا لهن، ولم يتقدموا فيه إلا من أجلهن، وحتى كأن الحيطان الرفيعة، والأبواب الوثيقة، والستور الكثيفة، والخصيان والظؤورة، والحشوة والحواضن لم تتخذ إلا للصون لهن، والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن. فصل منه وباب آخر: وهو أنا لم نجد أحداً من الناس عشق والديه ولا ولده، ولا من عشق مراكبه ومنزله، كما رأيناهم يموتون من عشق النساء الحرام. قال الله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ". فقد ذكر تبارك وتعالى جملة أصناف ما خولهم من كرامته، ومن عليهم من نعمته، ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء. ولقد قدم ذكرهن في هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم.

فإن قال قائل: فقد نجد الرجل الحليم، والشيخ الركين، يسمع الصوت المطرب من المغني المصيب، فينقله ذلك إلى طبع الصبيان، وإلى أفعال المجانين، فيشق جيبه، وينقض حبوته، ويفدي غيره، ويرقص كما يرقص الحدث الغرير، والشاب السفيه. ولم نجد أحداً فعل ذلك عند رؤية معشوقه. قلنا: أما واحدة فإنه لم يكن ليدع التشاغل بشمها وبرشفها، واحتضانها، وتقبيل قدميها، والمواضع التي وطئت عليها، ويتشاغل بالرقص المباين لها، والصراخ الشاغل عنها. فأما حل الحبوة، والشد حضراً عند رؤية الحبيبة فإن هذا مما لا يحتاج إلى ذكره، لوجوده وكثرة استعمالهم له، فكيف وهو إن خلا بمعشوقه لا يظن أن لذة الغناء تشغله بمقدار العشر من لذته، بل ربما لم يخطر له ذلك الغناء على بال. وعلى أن ذلك الطرب مجتاز غير لابث، وظاعن غير مقيم؛ ولذة المتعاشقين راكدة أبداً مقيمة غير ظاعنة. وعلى أن الغناء الحسن من الوجه الحسن والبدن الحسن، أحسن،

والغناء الشهي من الوجه الشهي والبدن الشهي أشهى. وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية الناعمة الرخيمة. وكم بين أن يفدى إذا شاع فيك الطرب مملوكك، وبين أن يفدى أمتك؟ وكم بين أن يسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله، وبين فم تشتهي أن تصرف وجهك عنه. وعلى أن الرجال دخلاء على النساء في الغناء، كما رأينا رجالاً ينوحون، فصاروا دخلاء على النوائح. وبعد، فأيما أملح وأحسن، وأشهى وأغنج، أن يغنيك فحل ملتف اللحية، كث العارضين، أو شيخ منخلع الأسنان، مغضن الوجه، ثم يغنيك إذا هو تغنى بشعر ورقاء بن زهير: رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس، أو كأنها ياسمينة، أو كأنها خرطت من ياقوتة، أو من فضة مجلوة، بشعر عكاشة بن محصن:

من كف جارية كأن بناتها ... من فضة قد طرفت عنابا وكأن يمناها إذا نطقت به ... ألقت على يدها الشمال حسابا فصل منه فأما الغناء المطرب في الشعر الغزل فإنما ذلك من حقوق النساء. وإنما ينبغي أن تغني بأشعار الغزل والتشبيب، والعشق، والصبابة بالنساء اللواتي فيهن نطقت تلك الأشعار، ويهن شبب الرجال، ومن أجلهن تكلفوا القول في النسيب. وبعد، فكل شيء وطبقه، وشكله ولفقه، حتى تخرج الأمور موزونة معدلة، ومتساوية مخلصة.

ولو ان رجلاً من أدمث الناس وأشدهم تلخيصاً لكلامهم، ومحاسبة لنفسه، ثم جلس مع امرأة لا تزن بمنطق، ولا تعرف بحسن حديث، ثم كان يعشقها، لتناتج بينهما من الأحاديث، ولتلاقح بينهما من المعاني والألفاظ، ما كان لا يجري بين دغفل بن حنظلة، وبين ابن لسان الحمرة. وإنما هذا على قدر تمكن الغزل في الرجل. فصل منه والمرأة أيضاً أرفع حالاً من الرجل في أمور. منها: أنها التي تخطب وتراد، وتعشق وتطلب، وهي التي تفدى وتحمى. قال عنبسة بن سعيد للحجاج بن يوسف: أيفدي الأمير أهله؟ قال: والله إن تعدونني إلا شيطاناً، والله لربما رأيتني أقبل رجل إحداهن!

فصل منه وإنما يملك المولى من عبده بدنه، فأما قلبه فليس له عليه سلطان. والسلطان نفسه وإن ملك رقاب الأمة، فالناس يختلفون في جهة الطاعة، فمنهم من يطيع بالرغبة، ومنهم من يطيع بالرهبة، ومنهم من يطيع بالمحبة، ومنهم من يطيع بالديانة. وهذه الأصناف، وإن كان أفضلها طاعة الديانة فإن تلك المحبة ما لم يمازجها هوىً لم تقو على صاحبها قوة العشق. وفي الأثر المستفيض والمثل السائر: " إن الهوى يعمي ويصم "؛ فالعشق يقتل. فصل منه ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم منه، وبالمشي إلى بيت الله، وبصدقة ماله، وعتق رقيقه. فيسهل ذلك عليه، ولا يأنف منه. فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه، وطار الغضب في دماغه، ويمتنع ويعصي، ويغضب ويأبى، وإن كان المحلف سلطاناً مهيباً، ولو لم يكن يحبها، ولا يستكثر منها، وكانت نفسها قبيحة المنظر، دقيقة الحسب، خفيفة الصداق، قليلة النسب. ليس ذلك إلا لما قد عظم الله من شأن الزوجات في صدور الأزواج.

فصل منه في ذكر الولد وباب آخر: وهو أنا لو خيرنا رجلاً بين الفقر أيام حياته، وبين أن يكون ممتعاً بالباه أيام حياته، لاختار الفقر الدائم مع التمتع الدائم. وليس شيء مما يحدث الله لعباده من أصناف نعمه وضروب فوائده، أبقى ذكراً، ولا أجل خطراً من أن يكون للرجل ابن يكون ولي بناته، وساتر عورة حرمه، وقاضي دينه، ومحيي ذكره، مخلصاً في الدعاء له بعد موته، وقائماً بعده في كل ما خلفه مقام نفسه. فمن أقل أسفاً على ما فارق، ممن خلف كافياً مجرباً، وحائطاً من وراء المال موفراً، ومن وراء الحرم حامياً، ولسلفه في الناس محبباً. وقال رجل لعبد الملك بن مروان، وقد ذكر ولد له: " أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى بنيك فيك ما أراك في أبيك! ". ونظر شيخ وهو عند المهلب إلى بنيه قد أقبلوا فقال: " آنس الله بكم لاحقكم، فوالله إن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم أسباط ملحمة ". وليست النعمة في الولد المحيي، والخلف الكافي، بصغيرة.

فصل منه وباب آخر: وهو أن الله تعالى خلق من المرأة ولداً من غير ذكر، ولم يخلق من الرجل ولداً من غير أنثى. فخص بالآية العجيبة والبرهان المنير المرأة دون الرجل، كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر. فصل منه في ذكر القرابات وأما أنا فإني أقول: إن تباغض الأقرباء عارض دخيل، وتحابهم واطد أصيل، والسلامة من ذلك أعم، والتناصر أظهر، والتصادق في المودة أكثر. فلذلك القبيلة تنزل معاً وترحل معاً، وتحارب من ناوأها معاً، إلا الشاذ النادر، كخروج غني وباهلة من غطفان، وكنزول عبس في بني عامر، وما أشبه ذلك. وإلا فإن القرابة يد واحدة على من ناوأهم، وسيف واحد على من عاداهم، وما صلاح شأن العشائر إلا بتقارب سادتهم في القدر، وإن تفاوتوا في الرياسة والفضل، كما قال في الأثر المستفيض: " لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا ". وحال العامة في ذلك كحال الخاصة. فصل منه وقضية واجبة: أن الناس لا يصلحهم إلا رئيس واحد، يجمع شملهم، ويكفيهم ويحميهم من عدوهم، ويمنع قويهم من ضعيفهم.

وقليل له نظام، أقوى من كثير نشر لا نظام لهم، ولا رئيس عليهم. إذ قد علم الله أن صلاح عامة البهائم في أن يجعل لكل جنس منها فحلاً يوردها الماء ويصدرها، وتتبعه إلى الكلأ، كالعير في العانة، والفحل من الإبل في الهجمة، وكذلك النحل العسالة، والكراكي، وما يحمي الفرس الحصان الحجور في المروج، فجعل منها رءوساً متبوعة، وأذناباً تابعة. ولو لم يقم الله للناس الوزعة من السلطان، والحماة من الملوك وأهل الحياطة عليهم من الأئمة لعادوا نشراً لا نظام لهم، ومستكلبين لا زاجر لهم، ولكان من عز بز، ومن قدر قهر، ولما زال اليسر راكداً، والهرج ظاهراً، حتى يكون التغابن والبوار، وحتى تنطمس

منهم الآثار؛ ولكانت الأنعام طعاماً للسباع، وكانت عاجزة عن حماية أنفسها، جاهلة بكثير من مصالح شأنها. فوصل الله تعالى عجزها بقوة من أحوجه إلى الاستمتاع بها، ووصل جهلها بمعرفة من عرف كيف وجه الحيلة في صونها والدفاع عنها. وكذلك فرض على الأئمة أن يحوطوا الدهماء بالحراسة لها، والذياد عنها، وبرد قويها عن ضعيفها، وجاهلها عن عالمها، وظالمها عن مظلومها، وسفيهها عن حليمها. فلولا السائس ضاع المسوس، ولولا قوة الراعي لهلكت الرعية. فصل منه وانفراد السيد بالسيادة كانفراد الإمام بالإمامة. وبالسلامة من تنازع الرؤساء تجتمع الكلمة، وتكون الألفة، ويصلح شأن الجماعة. وإذا كانت الجماعة انتهت الأعداء، وانقطعت الأهواء. فصل منه ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل: إن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين، أو بأكثر، ولكنارأينا ناساً يزرون عليهن أشد الزراية، ويحتقرونهن أشد الاحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن.

وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال، فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن. ولولا أن ناساً يفخرون بالجلد وقوة المنة، وانصراف النفس عن حب النساء، حتى جعلوا شدة حب الرجل لأمته، وزوجته وولده، دليلاً على الضعف، وباباً من الخور، لما تكلفنا كثيراً مما شرطناه في هذا الكتاب. فصل منه كما نحب أن يخرج هذا الكتاب تاماً، ويكون للأشكال الداخلة فيه جامعاً، وهو القول فيما للذكور والإناث في عامة أصناف الحيوان، وما أمكن من ذلك، حتى يحصل ما لكل جنس منها من الخصال المحمودة والمذمومة. ثم يجمع بين المحاسن منها والمساوىْ، حتى يستبين لقارىء الكتاب نقصان المفضول من رجحان الفاضل، بما جاء في ذلك من الكتاب الناطق، والخبر الصادق، والشاهد العدل، والمثل السائر. حتى يكون الكتاب عربياً أعرابياً، وسنياً جماعياً، وحتى يجتنب فيه العويص والطرق المتوعرة، والألفاظ المستنكرة، وتلزيق المتكلفين، وتلفيق أصحاب الهواء من المتكلمين، حتى نظرنا لمن لا يعلم مقادير ما استخزنها الله من المنافع، وغشاها من البرهانات، وألزمها من الدلالة عليه، وأنطقها به من الحجة له.

فمنع من ذلك فرط الكبرة، وإفراط العلة، وضعف المنة، وانحلال القوة. فلما وافق هذا الكتاب منا هذه الحال، وألفى قلوبنا على هذه الأشغال، اجتنبنا أن نقصد من جميع ذلك إلى فرق ما بين الرجل والمرأة. فلما اعتزمنا على ما ابتدأنا به وجدناه قد اشتمل على أبواب يكثر عددها، وتبعد غايتها، فرأينا، والله الموفق، أن نقتصر منه على ما لا يبلغ بالمستمع إلى السآمة، وبالمألوف إلى مجاوزة القدر. وليس ينبغي لكتب الآداب والرياضيات أن يحمل أصحابها على الجد الصرف، وعلى العقل المحض، وعلى الحق المر، وعلى المعاني الصعبة، التي تستكد النفوس، وتستفرغ المجهود. وللصبر غاية، وللاحتمال نهاية. ولا بأس بأن يكون الكتاب موشحاً ببعض الهزل. وعلى أن الكتاب إذا كثر هزله سخف، كما أنه إذا كثر جده ثقل. ولا بد للكتاب من أن يكون فيه بعض ما ينشط القارىء، وينفي النعاس عن المستمع. فمن وجد في كتابنا هذا بعض ما ذكرنا، فليعلم أن قصدنا في ذلك إنما كان على جهة الاستدعاء لقلبه، والاستمالة لسمعه وبصره. والله تعالى نسأل التوفيق.

فصل منه في ذكر العشق ورجلان من الناس لا يعشقان عشق الأعراب: أحدهما الفقير المدقع، فإن قلبه يشغل عن التوغل فيه وبلوغ أقصاه. والملك الضخم الشأن، لأن في الرياسة الكبرى، وفي جواز الأمر ونفاذ النهي، وفي ملك رقاب الأمم، ما يشغل شطر قوى العقل عن التوغل في الحب، والاحتراق في العشق. فصل منه كثيراً ما يعتري العشاق والمحبين غير المحترقين، كالرجل تكون له جارية وقد حلت من قلبه محلاً، وتمكنت منه تمكناً، ولا يجتث أصل ذلك الحب الغضبة تعرض، وكثرة التأذي بالخلاف يكون منها، فيجد الفترة عنها في بعض هذه الحالات التي تعرض، فيظن أنه قد سلا، أو يظن أنه في عزائه عنها على فقدها محتملاً، فيبيعها إن كانت أمة، أو يطلقها إن كانت زوجة، فلا ينشب ذلك الغضب أن يزول، وذلك الأذى أن ينسى، فتتحرك له الدفائن، ويثمر ذلك الغرس، فيتبعها قلبه، فإما أن يسترجع

الأمة من مبتاعها، بأضعاف ثمنها، أو يسترجع الزوجة بعد أن نكحت. فإن تصبر وأمكنه الصبر لم يزل معذباً، وإن أطاع هواه واحتمل المكروه فهذا هو العقابيل والنكس. فليحذر الحازم الفترة في حب حبيبه، والغضبة التي تنسيه عواقب أمره. فصل منه قال ابراهيم بن السندي: حدثني عبد الملك بن صالح قال: بينا عيسى بن موسى قد خلا بنفسه، وهو قد كان استكثر من النساء حتى انقطع، إذ مرت به جارية كأنها جان، وكأنها جدل عنان، وكأنها جمارة، وكأنها قضيب فضة، فتحركت نفسه، وخاف أن تخذله قوته، ثم طمع في القوة لطول الترك، واجتماع الماء، فلما صرعها، وجلس منها ذلك المجلس خطر على باله لو عجز كيف يكون حاله؟ فلما فكر فتر، فأقبل كالمخاطب لنفسه فقال: إنك لتجلسيني هذا المجلس، وتحمليني على هذا المركب، ثم

تخذليني هذا الخذلان وتغشيني مثل هذا الذل، ولولا حيرة الخجل لم أستعمل ما لا يقتل! وذلك أنه حين رأى أن أبلغ الحيل في توهيمها أن العجز لم يكن من قبله أن يقول لها: تعرضين لي وأنت تفلة، ثم لا ترخين باديك، ولا تستهدفين لسيدك، ولا تعينين على نفسك، حتى كأنك عند عبد يشبهك، أو سوقة لا يقدر إلا على مثلك. أما لو كنت من بنات ملوك العجم لألفاك سيدك على أجود صنعة، وعلى أحسن طاعة، إذ كل رجل ينبسط للتمتع مع التفل. فصل منه ولم أسمع ولم أقرأ في الأحاديث المولدة، في شأن العشاق، وما صنع العشق في القلوب والأكباد والأحشاء، والزفرات والحنين، وفي التدليه والتوليه، متى تستعر الدمعة، ومتى يورث العين الجمود.

فصل منه ونحن وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة، في جملة القول في الرجال والنساء، أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نقصر في حقوق المرأة. وليس ينبغي لمن عظم حقوق الآباء أن يصغر حقوق الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات، والبنون والبنات. وأنا وإن كنت أرى أن حق هذا أعظم فإن هذه أرحم. فصل من احتجاجه للإماء قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجال من أكثر المهيرات: أن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل منها كل شيء وعرفه، ما خلا حظوة الخلوة، فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة. والحرة إنما يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال وموافقتهن قليلاً ولا كثيراً. والرجال بالنساء أبصر. وإنما تعرف المرأة من المرأة ظاهر الصفة، وأما الخصائص التي تقع بموافقة الرجال فإنها لا تعرف ذلك. وقد تحسن المرأة أن تقول: كأن أنفها السيف، وكأن عينها عين غزال، وكأن عنقها إبريق فضة، وكأن ساقها جمارة، وكأن شعرها

العناقيد، وكأن أطرافها المداري، وما أشبه ذلك. وهناك أسباب أخر بها يكون الحب والبغض. فصل منه وقد علم الشاعر وعرف الواصف، أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الظبية، وأحسن من البقرة، وأحسن من كل شيء تشبه به، ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن ما يجدون. ويقول بعضهم: كأنها الشمس، وكأنها القمر! والشمس وإن كانت بهية فإنما هي شيء واحد، وفي وجه الجارية الحسناء وخلقها ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب. ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أحسن من عين البقرة، وأن جيدها أحسن من جيد الظبية، والأمر فيما بينهما متفاوت، ولكنهم لو لم يفعلوا هذا وشبهه لم تظهر بلاغتهم وفطنتهم. فصل منه ورأيت أكثر الناس من البصراء بجواهر النساء، الذين هم جهابذة هذا الأمر، يقدمون المجدولة، والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة. ولا بد من جودة القد، وحسن الخرط، واعتدال المنكبين،

واستواء الظهر، ولا بد أن تكون كاسية العظام، بين الممتلئة والقضيفة. وإنما يريدون بقولهم: مجدولة، جودة العصب، وقلة الاسترخاء، وأن تكون سليمة من الزوائد والفضول. وكذلك قالوا: خمصانة وسيفانة، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان، وكأنها قضيب خيزران. والتثني في مشيها أحسن ما فيها، ولا يمكن ذلك الضخمة والسمينة، وذات الفضول والزوائد. على أن النحافة في المجدولة أعم، وهي بهذا المعنى أعرف، تحبب على السمان الضخام، وعلى الممشوقات والقضاف، كما يحبب هذه الأصناف على المجدولات. ووصفوا المجدولة بالكلام المنثور فقالوا: " أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب ".

فصل من صدر رسالته إلى الفتح بن خاقان في مناقب الترك وعامة جند الخلافة

وفقك الله لرشدك، وأعان على شكرك، وأصلحك وأصلح على يديك، وجعلنا وإياك ممن يقول بالحق ويعمل به، ويؤثره، ويحتمل ما فيه مما قد يصد عنه، ولا يكون حظه منه الوصف له، والمعرفة به، دون الحث عليه، والانقطاع إليه، وكشف القناع فيه، وإيصاله إلى أهله، والصبر على المحافظة في أن لا يصل إلى غيرهم، والتثبت في تحقيقه لديهم؛ فإن الله تعالى لم يعلم الناس ليكونوا عالمين دون أن يكونوا عاملين، وإنما علمهم ليعملوا، وبين لهم ليتقوا التورط في وسط الخوف، والوقوع في المضار، والتوسط في المهالك. فلذلك طلب الناس التبين.

ولحب السلامة من الهلكة، والرغبة في المنفعة احتملوا ثقل التعلم، وتعجلوا مكروه ثقل المعاناة. ولقلة العاملين وكثرة الواصفين قال الأولون: العارفون أكثر من الواصفين، والواصفون أكثر من العاملين. وإنما كثرت الصفات وقلت الموصوفات لأن ثواب العمل مؤجل، واحتمال ما فيه معجل. وقد أعجبني ما رأيت من شغفك بطاعة إمامك، واحتجاجك لتدبير خليفتك، وإشفاقك من كل خلل يدخله وإن دق، ونال سلطانه وإن صغر، ومن كل أمر خالف هواه وإن خفي مكانه، وجانب رضاه وإن قل ضرره. ومن تخوفك أن يجد المتأول إليه متطرقاً، والعدو عليه متعلقاً؛ فإن السلطان لا ينفك من متأول ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معزول عن الحكم زار، ومن متعطل متصفح، ومن معجب برأيه، ذي خطل في بيانه، مولع بتهجين الصواب، وبالاعتراض على التدبير، حتى كأنه رائد لجميع الأمة، ووكيل لسكان جميع المملكة؛ يضع نفسه في مواضع الرقباء، وفي مواضع التصفح على الخلفاء والوزراء. لا يعذر وإن كان مجاز العذر ظاهراً، ولا يقف فيما يكون للشك محتملاً، ولا يصدق بأن الشاهد

يرى ما لا يرى الغائب، وأنه لا يعرف مصادر الرأي من لم يشهد موارده، ومستدبره من لم يعرف مستقبله. ومن محروم قد أضعفه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان، ومن مستبطىء قد أخذ أضعاف حقه، وهو لجهله بقدره، ولضيق ذرعه، وقلة شكره، يظن أن الذي بقي له أكثر، ولحقه أوجب. ومن مستزيد لو ارتجع السلطان سالف أياديه البيض عنده، ونعمته السالفة عليه، لكان لذلك أهلاً، وله مستحقاً. قد غره الأمل، وأبطره دوام الكفاية، وأفسده طول الفراغ. ومن صاحب فتنة خامل في الجماعة، رئيس في الفرقة نعاق في الهرج، قد أقصاه عز السلطان، وأقام صغوه ثقاف الأدب، وأذله الحكم بالحق، فهو مغيظ لا يجد غير التشنيع، ولا يتشفى بغير الإرجاف، ولا يستريح إلا إلى الأماني، ولا يأنس إلا بكل مرجف كذاب، ومفتون مرتاب، وخارص لا خير فيه، وخالف لا غناء عنده، يريد أن يسوى بالكفاة، ويرفع فوق الحماة، لأمر ما سلف له، ولإحسان كان من غيره، وليس ممن يرب قديم مجد، ولا يحفل

بدروس شرف، ولا يفصل بين ثواب المحتسبين، وبين الحفظ لأبناء المحسنين. وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله. ثم اعلم بعد ذلك أنك بنفسك بدأت في تعظيم إمامك، والحفظ لمناقب أنصار خليفتك، وإياها حطت بحياطتك لأشياعه، واحتجاجك لأوليائه، ونعم العون أنت، إن شاء الله، على ملازمة الطاعة، والموازرة على الخير، والكفاية لأهل الحق. وقد استدللت بالذي أرى من شدة عنايتك وفرط اكتراثك، وتفقدك لأجناس الأعداء، وبحثك عن مناقب الأولياء على أن ما ظهر من نصحك أمم في جنب ما بطن من إخلاصك. فأمتع

الله بك خليفته، ومنحنا وإياك محبته، وأعاذنا وإياك من قول الزور، والتقرب بالباطل، إنه حميد مجيد، فعال لما يريد. وذكرت أنك جالست أخلاطاً من جند الخلافة، وجماعات من أبناء الدعوة، وشيوخاً من جلة الشيعة، وكهولاً من أبناء رجال الدولة، المنسوبين إلى الطاعة والمناصحة، ومحبة الدينونة دون محبة الرغبة والرهبة، وأن رجلاً من عرض تلك الجماعة ارتجل الكلام ارتجال مستبد، وتفرد به تفرد معجب، وأنه تعسف المعاني وتهجم على الألفاظ فزعم أن جند الخلافة اليوم على خمسة أقسام: خراساني، وتركي، ومولىً، وعربي، وبنوي، وأنه أكثر حمد الله وشكره على إحسانه ومنته، وعلى جميع أياديه، وسبوغ نعمه، وعلى شمول عافيته، وجزيل مواهبه، حين ألف على الطاعة هذه

القلوب المختلفة، والأجناس المتباينة، والأهواء المتفرقة، وأنك اعترضت على هذا المتكلم المستبد، وعلى هذا القائل المتكلف الذي قسم هذه الأقسام، وخالف بين هذه الأركان، وفضل بين أنسابهم. وأنك أنكرت ذلك عليه أشد الإنكار، وقذعته أشد القذع. وزعمت أنهم لم يخرجوا من الاتفاق، أو من شيء يقرب من الاتفاق، وأنك نفيت التباعد في النسب، والتباين في السبب. وقلت: بل أزعم أن الخراساني والتركي أخوان، وأن الحيز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصقع متفق غير مختلف، ومتقارب غير متفاوت، وأن الأعراق في الأصل إن لا تكن كانت راسخة، فقد كانت متشابهة، وحدود البلاد المشتملة عليهم إن لا تكن متساوية فإنها متناسبة، وكلهم خراساني في الجملة، وإن تميزوا ببعض الخصائص، وافترقوا ببعض الوجوه. وزعمت أن اختلاف التركي والخراساني ليس كاختلاف ما بين الرومي والصقلبي، والزنجي والحبشي، فضلاً على ما هو أبعد جوهراً، وأشد خلافاً، بل كاختلاف ما بين المدري والوبري، والبدوي والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين من نزل البطون وبين

من نزل النجود، وبين من نزل الأغوار. وزعمت أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضاً في بعض الصورة، فقد نجد أن عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن، وفصحاء الحجاز، خلاف لغة حمير وسكان مخاليف اليمن، وكذلك الصورة والصورة، والشمائل والشمائل، والأخلاق والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص غير مشوب، ولا معلهج ولا مذرع ولا مزلج. ولم يختلفوا كاختلاف ما بين

قحطان وعدنان، من قبل ما طبع الله عليه تلك التربة من خصائص الغرائز، وما قسم لأهل كل جزيرة من الشكل والصورة، ومن الأخلاق واللغة. فإن قلت: وكيف صار أولادهما جميعاً عرباً، مع اختلاف الأبوة؟ قلنا: إن الجزيرة لما كانت واحدة فاستووا في التربة وفي اللغة، وفي الشمائل والهمة، وفي الأنف والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكاً واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط، حتى صار ذلك اشد تشابهاً في باب الأعم والأخص، وفي باب الوفاق والمباينة من بعض الأرحام، وجرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب، وصارت هذه الأسباب ولادة أخرى حتى تناكحوا عليها، وتصاهروا من أجلها. وامتنعت عدنان قاطبة من مناكحة بني اسحاق، وهو أخو إسماعيل، وجادوا بذلك في جميع الدهر لبني قحطان. ففي إجماع الفريقين على التناكح والتصاهر، ومنعهما ذلك جميع الأمم، ككسرى فمن دونه، دليل على أن النسب عندهم متفق، وأن هذه المعاني قد قامت عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة.

وزعمت أنه أراد الفرقة والتحزيب، وأنك أردت الألفة والتقريب. ثم زعمت أيضاً أن البنوي خراساني، وأن نسب الأبناء نسب آبائهم، وأن حسن صنيع الآباء، وقديم فعال الأجداد، هو حسب الأبناء، وأن الموالي بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمس؛ لأن السنة قد نقلت الموالي إلى العرب في كثير من المعاني، لأنهم عرب في المدعى، وفي العاقلة، وفي الوراثة. وهذا تأويل قوله: " مولى القوم منهم ". و " الولاء لحمة كلحمة النسب ". ثم زعمت أن الأتراك قد شاركوا القوم في هذا النسب، وصاروا من العرب بهذا السبب، مع الذي بانوا به من الخلال، وحبوا به من شرف الخصال. على أن ولاء الأتراك للباب قريش، ولمصاص عبد مناف، وهم في سر هاشم، وهاشم موضع العذار من خد الفرس، ومحل العقد

من لبة الكعاب. وهو الجوهر المكنون، والذهب المصفى، وموضع المحة من البيضة، والعين في الرأس، والروح من البدن. وهم الأنف المقدم، والسنام الأكوم، والطينة البيضاء، والدرة الزهراء، والروضة الخضراء، والذهب الأحمر. فقد شاركوا العرب في أنسابهم، وفضلوهم بهذا الفضل الخاص الذي لا يبلغه فضل وإن برع، بل لا يعشره شرف وإن عظم، ولا مجد وإن قدم. فزعمت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون الموازنة والمكانفة، والطاعة والمناصحة، والمحبة للخلفاء والأئمة. وذكرت أنه ذكر جملاً من مفاخر هذه الأجناس، وجمهرة من مناقب هذه الأصناف، وأنه جمع ذلك وفصله، وأجمله وفسره، وأنه ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحاً فلم يخبر عنهم، كما أخبر عن حجة كل جيل، وعن برهان كل صنف. فذكر أن الخراساني يقول: نحن النقباء، وأبناء النقباء، ونحن النجباء وأبناء النجباء، ومنا الدعاة قبل أن تظهر نقابة، أو تعرف

نجابة، وقبل المغالبة والمبادأة، وقبل كشف القناع وزوال التقية. وبنا زال ملك أعدائنا عن مستقره، وثبت ملك أوليائنا في نصابه، وبين ذلك ما قتلنا وشردنا، ونهكنا ضرباً وطلبا، وبضعنا بالسيوف الحداد، وعذبنا بألوان العذاب. وبنا شفى الله تعالى الصدور، وأدرك الثأر، ومنا الاثني عشر النقباء، والسبعون النجباء. ونحن الخندقية وأبناء الخندقية، ونحن الكفية وأبناء الكفية، ومنا المستجيبة، ومن بهرج النيمية، ومنا نيم خزان، وأصحاب الجوربين، ومنا الزغندية، والآزاذمردية. ونحن فتحنا البلاد، وقتلنا العدو بكل واد، ونحن أصل هذه الدولة، ومنبت هذه الشجرة، وأصحاب هذه الدعوة، ومن عندنا هبت هذه الريح والأنصار أنصاران: الأوس والخزرج، نصروا النبي صلى الله عليه وسلم في أول الزمان، وأهل خراسان نصروا ورثته في آخر الزمان، غذانا بذلك آباؤنا، وغزونا به أبناءنا، وصار لنا نسباً لا نعرف إلا به، وديناً لا نوالي إلا عليه.

ثم نحن على وتيرة واحدة، ومنهاج غير مشترك، نعرف بالشيعة، ودين بالطاعة، ونقتل فيها، ونموت عليها. سيمانا موصوف، ولباسنا معروف، ونحن أصحاب الرايات السود، والروايات الصحيحة، والأحاديث المأثورة، والذين يهدمون مدن الجبابرة، وينتزعون الملك من أيدي الظلمة. وفينا تقدم الخبر، وصح الأثر. وجاء في الحديث صفة الذين يفتحون عمورية، ويظهرون عليها، ويقتلون مقاتليها، ويسبون ذراريها، حيث قالوا في نعتهم: " شعورهم شعور النساء، وثيابهم ثياب الرهبان ". فصدق الفعل القول، وحقق الخبر العيان. ونحن الذين ذكرنا، وذكر بلاءنا إمام الأئمة، وأبو الخلائف العشرة محمد بن علي، حين أراد توجيه الدعاة إلى الآفاق، وتفريق شيعته في البلدان: "

أما البصرة وسوادها فقد غلب عليها عثمان، وصنائع عثمان، فليس بها من شيعتنا إلا القليل. وأما الكوفة وسوادها فقد غلب عليها علي وشيعة علي، فليس بها من شيعتنا إلا القليل. وأما الشام فشيعة بني مروان، وآل بني سفيان. وأما الجزيرة فخارجة، وحرورية ومارقة. ولكن عليكم بهذا الشرق فإن هناك صدوراً سليمة، وقلوباً باسلة، لم تفسدها الأهواء، ولم تخامرها الأدواء، ولم تعتقبها البدع، وهم مغيظون موتورون. وهناك العدد والعدة، والعتاد والنجدة ". ثم قال: " وأنا أتفاءل إلى حيث ما تطلع ". فكنا خير جند لخير إمام، وصدقنا ظنه، وثبتنا رأيه، وصوبنا فراسته. وقال مرة أخرى: " إن أمرنا هذا شرقي لا غربي، ومقبل غير مدبر، يطلع كطلوع الشمس، ويمتد على الآفاق امتداد النهار، حتى يبلغ حيث ما تبلغه الأخفاف، وتناله الحوافر ". دقالوا: ونحن قتلنا الصحصحية، والدالقية، والذكوانية،

والراشدية. ونحن أصحاب الخنادق، ونباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، وأصحاب ابن هبيرة. فلنا قديم هذا الأمر وحديثه، وأوله وآخره. ومنا قاتل مروان. ونحن قوم لنا أجسام وأجرام، وشعور وهام، ومناكب عظام، وجباه عراض، وقصر غلاظ، وسواعد طوال. ونحن أولد للذكورة، وأنسل بعولة، وأقل ضوىً وضئولة، وأقل إتآماً، وأنتق أرحاماً، وأشد عصباً، وأتم عظاماً. وأبداننا أحمل للسلاح، وتجفافنا أملأ للعيون.

ونحن أكثر مادة، وأكثر عدداً وعدة، ولو أن يأجوج ومأجوج كاثروا من وراء النهر منا لظهروا عليهم بالعدد. فأما الأيد وشدة الأسر فليس لأحد بعد عاد وثمود والعمالقة والكنعانيين مثل أيدنا وأسرنا. ولو أن خيول الآفاق، وفرسان جميع الأطراف جمعوا في حلبة واحدة لكنا أكثر في العيون، وأهول في الصدور. ومتى رأيت مواكبنا وفرساننا وبنودنا التي لا يحملها غيرنا علمت أنا لم نخلق إلا لقلب الدول، وطاعة الخلفاء، وتأييد السلطان. ولو أن أهل تبت، ورجال الزابج، ورجال وفرسان الهند، وحلبة الروم، هجم عليهم هاشم بن أشتاخنج لما امتنعوا من طرح السلاح، والهرب في البلاد. ونحن أصحاب اللحى، وأرباب النهى، وأهل الحلم والحجا، وأهل الثخانة في الرأي، والبعد من الطيش.

ولسنا كجند الشام المتعرضين للحرم، والمنتهكين لكل محرم. ونحن ناس لنا أمانة، وفينا عفة. ونحن نجمع بين النزاهة والقناعة، والصبر على الخدمة، وعلى التجمير وبعد الشقة. ولنا الطبول المهولة والبنود العظام. ونحن أصحاب التجافيف والأجراس، والبازفكند، واللبود الطوال، والأغماد المعقفة والقلانس الشاشية، والخيول الشهرية، ولنا الكافركوبات، والطبرزينات في الأكف، والخناجر في الأوساط.

ولنا تعليق السيوف وحسن الجلسة على ظهور الخيل، ولنا الأصوات التي تسقط الحبالى. وليس في الأرض صناعة غريبة، من أدب وحكمة وحساب وهندسة، وارتفاع بناء وصنعة، وفقه ورواية، نظرت فيها الخراسانية إلا فرعت فيها الرؤساء، وبذت فيها العلماء. ولنا صنعة السلاح، عدة للحرب، وتثقيفاً ودربة للمجاولة والمشاولة، وللكر بعد الفر، مثل الدبوق، والنزو على الخيل صغاراً، ومثل الطبطاب والصوالجة كباراً. ثم رمى المجثمة والبرجاس والطائر الخاطف. فنحن أحق بالأثرة، وأولى بشرف المنزلة. قلت: وزعم أن العربي يقول: إن تكن القربة تستحق بالأنساب

الثابتة، والأرحام الشابكة، وبالقدمة، وبطاعة الآباء والعشيرة، وبالشكر النافع، والمديح الباقي، وبالشعر الموزون الذي يبقى بقاء الدهر، ويلوح ما لاح نجم، وينشد ما أهل بالحج، وما هبت الصبا، وما كان للزيت عاصر. وبالكلام المنثور، والقول المأثور، وبصفة مخرج الدولة، والاحتجاج للدعوة، وتقييد المآثر، إذ لم يكن ذلك من عادة العجم، ولا كان يحفظ ذلك معروفاً لسوى العرب، ونحن نرتبطها بالشعر المقفي، ونقيدها بحفظ الأميين الذين لا يتكلون على الكتب المدونة، والخطوط المطرسة. ونحن أصحاب التفاخر والتنافر، والتنازع في الشرف، والتحاكم إلى كل حكم مقنع، وكاهن سجاع. ونحن أصحاب التعاير بالمثالب، والتفاخر بالمناقب. ونحن أحفظ لأنسابنا، وأرعى لحقوقنا، وتقييدها أيضاً بالمنثور المرسل، بعد الموزون المعدل، بلسان أمضى من السنان، وأرهف

من السيف الحسام، حتى نذكرهم ما قد درس رسمه، وعفا أثره. وبين القتال من جهة الرغبة والرهبة فرق. وليس المعرق في الحفاظ كمن هذا فيه حادث. وهذا باب يتقدم التالد القديم الطارف الحديث. وطلاب الطوائل رجلان: سجستاني وأعرابي. وهل أكثر النقباء إلا من صميم العرب، ومن صليبة هذا النسب، كأبي عبد الحميد قحطبة بن شبيب الطائي، وأبي محمد سليمان بن كثير الخزاعي، وأبي نصر مالك بن الهيثم الخزاعي، وأبي داود خالد بن ابراهيم الذهلي، وكأبي عمرو لاهز بن قريظ المرئي، وأبي عتيبة موسى

بن كعب المرئي، وأبي سهل القاسم بن مشاجع المرئي. ومن كان يجري مجرى النقباء ولم يدخل فيهم، مثل مالك بن الطواف المرئي. وبعد، فمن هذا الذي باشر قتل مروان، ومن هزم ابن هبيرة، ومن قتل ابن ضبارة، ومن قتل نباتة بن حنظلة، إلا عرب الدعوة، والصميم من أهل الدولة؟ ومن فتح السند إلا موسى بن كعب، ومن فتح إفريقية إلا محمد بن الأشعث؟ وقات: وقال: ويقول الموالي لنا النصيحة الخالصة، والمحبة الراسخة. ونحن موضع الثقة عند الشدة، وعلل المولى من تحت موجبة لمحبة المولى من فوق؛ لأن شرف مولاه راجع إليه، وكرمه زائد في كرمه، وخموله مسقط لقدره، وبوده أن خصال الكرم كلها اجتمعت فيه، لأن ذلك كلما كان مولاه أكبر وأشرف وأظهر، كان هو بها أشرف وأنبل، ومولاك أسلم لك صدراً، وأود ضميراً، وأقل حسداً.

وبعد، فالولاء لحمة كلحمة النسب، فقد صار لنا النسب الذي يصوبه العربي، ولنا الأصل الذي يفتخر به العجمي. قال: والصبر ضروب، فأكرمها كلها الصبر على إفشاء السر، وللمولى في هذه المكرمة ما ليس لأحد، ونحن أخص مدخلاً، وألطف في الخدمة مسلكاً. ولنا مع الطاعة والخدمة، والإخلاص وحسن النية، خدمة الأبناء للآباء، والآباء للأجداد، وهم بمواليهم آنس، وبناحيتهم أوثق، وبكفايتهم أسر. وقد كان المنصور، ومحمد بن علي، وعلي بن عبد الله، يخصون مواليهم بالمواكلة والبسط والإيناس، لا يبهرجون الأسود لسواده، ولا الدميم لدمامته، ولا ذا الصناعة الدنيئة لدناءتها. ويوصون بحفظهم أكابر أولادهم، ويجعلون لكثير من موتاهم الصلاة على جنائزهم، وذلك بحضرة من العمومة، وبني الأعمام والإخوة. ويتذاكرون إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة مولاه، حين عقد له يوم مؤتة على جنة بني هاشم، وجعله أمير كل بلدة يطؤها. ويتذاكرون حبه لأسامة بن زيد، وهو الحب ابن الحب. وعقد له على عظماء المهاجرين وأكابر الأنصار.

ويتذاكرون صنيعه بسائر مواليه كأبي أنسة وشقران، وفلان وفلان. قالوا: ولنا صاحب الدولة: أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم، وأبو سلمة حفص بن سليمان. وأبو مسلم مولى الإمام، وعليهما دارت رحى الدولة، وتم الأمر واتسق نظام الملك. قالوا: ولنا من رءوس النقباء: أبو منصور مولى خزاعة، وأبو الحكم عيسى بن أعين مولى خزاعة، وأبو حمزة عمرو بن أعين مولى خزاعة، وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى آل أبي معيط. فلنا مناقب الخراسانية، ولنا مناقب الموالي في هذه الدعوة. ونحن منهم وإليهم، ومن أنفسهم، لا يدفع ذلك مسلم. ولا ينكره مؤمن. خدمناهم كباراً، وحملناهم على عواتقنا صغاراً. هذا مع حق الرضاع والخؤولة، والنشوء في الكتاب، والتقلب في تلك العراص التي لم يبلغها إلا كل سعيد الجد، وجيه في الملوك. فقد شاركنا العربي في فخره، والخراساني في مجده، والبنوي في فضله، ثم تفردنا بما لم يشاركونا فيه، ولا سابقونا إليه.

قالوا: ونحن أشكل بالرعية، وأقرب إلى طباع الدهماء، وهم بنا آنس، وإلينا أسكن، وإلى لقائنا أحن. ونحن بهم أرحم، وعليهم أعطف، وبهم أشبه. فمن أحق بالأثرة، وأولى بحسن المنزلة ممن هذه الخصال له، وهذه الخلال فيه. وقلت: وذكرت أن البنوي قال: نحن أصل خراساني، وهو مخرج الدولة، ومطلع الدعوة، ومنها نجم هذا القرن، وصبأ هذا الناب، وتفجر هذا الينبوع، واستفاض هذا البحر، حتى ضرب الحق بجرانه، وطبق الآفاق بضيائه، فأبرأ من السقم القديم، وشفي من الداء العضال، وأغنى من العيلة، وبصر من العمى. وهذه بغداد وهي مستقر الخلافة، والقرار بعد الجولة، وفيها بقية رجال الدعوة، وأبناء أبناء الشيعة، وهي خراسان العراق، وبيت الخلافة وموضع المادة. وأنا أعرق في هذا الأمر من أبي، وأكثر ترداداً فيه من جدي، وأحق بهذا الفضل من المولى والعربي. ولنا بعد في أنفسنا ما لا ينكر من الصبر تحت ظلال السيوف

القصار، والرماح الطوال، ولنا معانقة الأبطال عند تحطم القنا، وانقطاع الصفائح، ولنا المواجأة بالسكاكين، وتلقي الخناجر بالعيون. ونحن حماة المستلحم، وأبناء المضايق، ونحن أهل الثبات عند الجولة، والمعرفة عند الحيرة، وأصحاب المشهرات، وزينة العساكر وحلى الجيوش، ومن يمشي في الرمح، ويختال بين الصفين، ونحن أصحاب الفتك والإقدام. ولنا بعد التسلق ونقب المدن، والتقحم على ظبات السيوف، وأطراف الرماح، ورضخ الجندل، وهشم العمد، والصبر تحت الجراح، وعلى جر السلاح، إذا طار قلب الأعرابي، وساء ظن الخراساني. ثم الصبر تحت العقوبة، والاحتجاج عند المسألة، واجتماع العقل، وصحة الطرف، وثبات القدمين، وقلة التكفي بجبل العقابين،

والبعد من الإقرار، وقلة الخضوع للدهر، والخضوع عند جفوة الزوار، وجفاء الأقارب والإخوان. ولنا القتال عند أبواب الخنادق ورءوس القناطر. ونحن الموت الأحمر عند أبواب النقب، ولنا المواجأة في الأزقة، والصبر على قتال السجون. فسل عن ذلك الخليدية والكتفية والبلالية، والحزبية، ونحن أصحاب المكابرات، وأرباب البيات، وقتل الناس جهاراً في الأسواق والطرقات. ونحن نجمع بين السلة والمزاحفة. ونحن أصحاب القنا الطوال ما كنا رجالة، والمطارد القصار ما كنا فرساناً. فإن صرنا كمناً فالحتف القاضي، والسم الزعاف، وإن كنا طلائع فكلنا يقوم مقام أمير الجيش. نقاتل بالليل كما نقاتل بالنهار، ونقاتل في الماء كما نقاتل في الأرض، ونقاتل في القرية كما نقاتل في المحلة.

ونحن أفتك وأخشب. ونحن أقطع للطريق، وأذكر في الثغور، مع حسن القدود، وجودة الخرط، ومقادير اللحى، وحسن العمة، والنفس المرة، وأصحاب الباطل والفتوة، ثم الخط والكتابة، والفقه والرواية. ولنا بغداد بأسرها، تسكن ما سكنا، وتتحرك ما تحركنا. والدنيا كلها معلقة بها، وصائرة إلى مغناها، فإذا كان هذا أمرها وقدرها فجميع الدنيا تبع لها، وكذلك أهلها لأهلها، وفتاكها لفتاكها، وخلاعها لخلاعها، ورؤساؤها لرؤسائها، وصلحاؤها لصلحائها. ونحن تربية الخلفاء، وجيران الوزراء، ولدنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا، فأخذنا بآدابهم، واحتذينا على مثالهم، فلسنا نعرف سواهم، ولا نتهم بغيرهم، ولم يطمع فينا أحد قط من خطاب ملكهم، وممن يترشح للاعتراض عليهم. فمن أحق بالأثرة، وأولى بالقرب في المنزلة ممن هذه الخصال فيه، وهذه الخلال له. إن ذهبنا - حفظك الله - بعقب هذه الاحتجاجات، وعند منقطع

هذه الاستدلالات نستعمل المفاوضة بمناقب الأتراك، والمقارنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أصحاب الخصومات في كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم. وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم إن كانت مختلفة، ولنزيد في الألفة إن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم، لتجتمع كلمتهم، ولتسلم صدورهم، وليعرف من كان لا يعرف منهم موضع التفاوت في النسب كم مقدار الخلاف في الحسب، لئلا يغير بعضهم مغير، ويفسده عدو بأباطيل مموهة، وشبهات مزورة، فإن المنافق العليم، والعدو ذا الكيد العظيم قد يصور لمن دونه الباطل في صورة الحق، ويلبس الإضاعة ثياب الحزم. إلا أنا على كل حال، سنذكر جملاً من أحاديث رويناها، وأمور رأيناها وشاهدناها، وقصصاً تلقفناها من أفواه الحكماء وسمعناها. وسنذكر ما حفظ لجميع الأصناف من الآلات والأدوات، ثم ننظر أيهم لها أشد استعمالا، وبها أشد استقلالا، ومن أثقب حسباً،

وأيقظ عيناً، وأزكى نفساً، وأشد غوراً، وأعم خواطر، وأكثر نفعاً في الحروب وضراً، وأدرب دربة، وأغمض مكيدة، وأشد احتراساً، وألطف احتيالاً، حتى يكون الخيار في يد الناظر في هذا الكتاب، المتصفح لمعانيه، والمقلب لوجوهه، والمفكر في أبوابه، والمقابل بين أوله وآخره. ولا نكون نحن انتحلنا شيئاً دون شيء، وتقلدنا تفضيل بعض على بعض، بل لعلنا أن لا نخبر عن خاصة ما عندنا بحرف واحد. فإذا دبرنا كتابنا هذا التدبير، وكان موضوعاً على هذه الصفة كان أبعد له من مذاهب الجدال والمراء، واستعمال الهوى. وقد ظن ناس كثير أن أسماء أصناف الأجناد لما اختلف فيالصورة والخط والهجاء، أن حقائقها ومعانيها على حسب ذلك. وليس الأمر على ما يتوهمون. ألا ترى أن اسم الشاكرية وإن خالف في الصورة والخط والهجاء اسم الجندي فإن المعنى فيهما ليس ببعيد، لأنهم يرجعون إلى معنىً واحد، وعلم واحد. والذي يرجعون إليه طاعة الخلفاء وتأييد السلطان. وإذا كان المولى منقولاً إلى العرب في أكثر المعاني، ومجعولاً

منهم في عامة الأسباب لم يكن بأعجب من جعل الخال والداً، والحليف من الصميم، وابن الأخت من القوم. وقد جعل الله ابن الملاعنة المولود على فراش البعل منسوباً إلى أمه، وقد جعل إسماعيل وهو ابن أعجميين عربياً، لأن الله تعالى لما فتق لهاته بالعربية المبينة على غير التلقين والترتيب، وفطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوء والتمرين، وسلخ طباعه من طبائع العجم، ونقل إلى بدنه تلك الأجزاء، وركبه اختراعاً على ذلك التركيب، وسواه تلك التسوية، وصاغه تلك الصيغة، ثم حماه من طبائعهم، ومنعه من أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهممهم على أكرمها وأسناها، وأشرفها وأعلاها، وجعل ذلك برهاناً على رسالته، ودليلاً على نبوته، وصار أحق بذلك النسب، وأولى بشرف ذلك الحسب. وكما جعل إبراهيم أباً لمن لم يلد، فالبنوي خراساني من جهة الولادة، والمولى عربي من جهة المدعى والعاقلة. ولو أحاط علمنا بأن زيداً لم يخلق من نجل عمرو إلا عهاراً لنفيناه عنه، وإن أيقنا أنه لم يخلق إلا من ماء صلبه. وكما جعل النبي أزواجه أمهات المؤمنين، وهن لم يلدنهم

ولا أرضعنهم. وفي بعض القراءات: " وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم " على قوله: " ملة أبيكم إبراهيم "، وجعل المرأة من جهة الرضاع أماً، وجعل امرأة البعل أم ولد البعل من غيرها، وجعل الراب والداً. وجعل العم في كتاب الله أباً. وهم عبيده لا يتقلبون إلا فيما قلبهم فيه. وله أن يجعل من عباده من شاء عربياً، ومن شاء أعجمياً، ومن شاء قرشياً، ومن شاء زنجياً. كما أن له أن يجعل من شاء ذكراً ومن شاء أنثى، ومن شاء خنثى، ومن شاء أخرجه من ذلك فجعله لا ذكراً ولا أنثى ولا خنثى. وكذلك خلق الملائكة، وهم أكرم على الله من جميع الخليقة. ولم يجعل لآدم أباً ولا أماً، وخلقه من طين ونسبه إليه، وخلق حواء من ضلع آدم، وجعلها له زوجاً وسكنا. وخلق عيسى من غير ذكر، ونسبه إلى أمه التي خلقه منها. وخلق الجان من نار السموم، وآدم من طين، وعيسى من غير

نطفة، وخلق السماء من دخان، والأرض من الماء. وخلق إسحاق من عاقر. وأنطق عيسى في المهد، وأنطق يحيى بالحكمة وهو صبي، وعلم سليمان منطق الطير، وكلام النمل. وعلم الحفظة من الملائكة جميع الألسنة حتى كتبوا بكل خط، ونطقوا بكل لسان. وأنطق ذئب أهبان بن أوس. والمؤمنون من جميع الأمم إذا دخلوا الجنة، وكذلك أطفالهم والمجانين منهم، يتكلمون ساعة يدخلون الجنة بكلام أهل الجنة، على غير الترتيب والتنزيل، والتعليم على طول الأيام والتلقين. فكيف يتعجب الجاهلون من إنطاق إسماعيل بالعربية على غير تعليم الآباء، وتأديب الحواضن؟ ! وهذه المسألة ربما سأل عنها بعض القحطانية، ممن لا علم له، بعض العدنانية، وهي على حال القحطانية أشد. فأما جواب العدناني فسلس النظام، سهل المخرج، قريب المعنى؛ لأن بني قحطان لا يدعون لقحطان نبوة فيعطيه الله تعالى مثل هذه الأعجوبة. وما الذي قسم الله بين الناس من ذلك إلا كما صنع الله في طينة

الأرض، فجعل بعضها حجراً، وبعض الحجر ياقوتاً، وبعضه ذهباً، وبعضه نحاساً، وبعضه رصاصاً، وبعضه صفراً، وبعضه حديداً، وبعضه تراباً، وبعضه فخاراً. وكذلك الزاج، والمغرة، والزرنيخ، والمرتك، والكبريت، والقار، والتوتيا، والنوشادر، والمرقشيشا، والمغناطيس. ومن يحصي عدد جواهر الأرض وأصناف الفلز؟ ! وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالبنوي خراساني. وإذا كان الخراساني مولىً والمولى عربي، فقد صار الخراساني والبنوي والمولى والعربي شيئاً واحداً. وأدنى ذلك أن يكون الذي معهم من خصال الوفاق غامراً لما معهم من خصال الخلاف، بل هم في معظم الأمر، وفي كبر الشأن وعمود النسب متفقون. فالأتراك خراسانية،

وموالي الخلفاء قصرة، فقد صار فضل الترك إلى الجميع راجعاً، وصار شرفهم زائداً في شرفهم. وإذا عرف سائر الأجناد ذلك سامحت النفوس، وذهب التعقيد، ومات الضغن، وانقطع سبب الاستثقال، فلم يبق إلا التحاسد والتنافس الذي لا يزال يكون بين المتقاربين في القرابة، وفي الصناعة، وفي المجاورة. على أن التوازر والتسالم في القرابات وفي بني الأعمام والعشائر أفشى وأعم من التخاذل والتعادي. ولحب التناصر والحاجة إلى التعاون انضم بعض القبائل في البوادي إلى بعض، ينزلون معاً، ويظعنون معاً. ومن فارق أصحابه أقل، ومن نصر ابن عمه أكثر، ومن اغتبط بنعمته وتمنى بقاءها والزيادة فيها أكثر ممن بغاها الغوائل وتمنى انقطاعها وزوالها. ولا بد في أضعاف ذلك من بعض التنافس والتخاذل، إلا أن ذلك قليل من كثير. وليس يكون أن تصفو الدنيا، وتنقى من الفساد والمكروه، حتى يموت جميع الخلاف، وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل.

بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله رضي الله عنه ونضر وجهه فلم يصل إليه لأسباب يطول ذكرها، فلذلك لم أعرض للإخبار عنها، وأحببت أن يكون كتاباً قصداً، ومذهباً عدلاً، ولا يكون كتاب إسراف في مديح قوم، وإغراق في هجاء آخرين؛ فإن الكتاب إذا كان كذلك شابه الكذب وخالطه التزيد، وبني أساسه على التكلف، وخرج كلامه مخرج الاستكراه والتغليق. وأنفع المدائح للمادح، وأجداها على الممدوح، وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً، أن يكون المديح صدقاً، ولظاهر حال الممدوح موافقاً، وبه لائقاً، حتى لا يكون من المعبر عنه والواصف له إلا الإشارة إليه، والتنبيه عليه. وأنا أقول: إن كان لا يمكن ذكر مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد، فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم.

وذكر الكثير من هذه الأصناف بالجميل لا يقوم إلا بالقليل من ذكر بعضهم بالقبيح، وهو معصية وباب من ترك الواجب. وقليل الفريضة أجدى علينا، لأن ذكر الأكثر بالجميل نافلة، وباب من التطوع؛ وذكر الأقل بالقبيح معصية، وباب من ترك الواجب. وقليل الفريضة أجدى علينا من كثير التطوع. ولكل الناس نصيب من النقص، ومقدار من الذنوب، وإنما يتفاضل بكثرة المحاسن وقلة المساوىء. فأما الاشتمال على جميع المحاسن، والسلامة من جميع المساوىء، دقيقها وجليلها، ظاهرها وخفيها، فهذا لا يعرف فيهم. فإذا كان الخلطاء من جمهور الناس وأهل المعايش من دهماء الجماعة يرون ذلك واجباً في الأخلاق، ومصلحة في المعاش، وتدبيراً في التعامل، على ما فيهم من مشاركة الخطأ للصواب، وامتزاج الضعف بالقوة، فلسنا نشك أن الإمام الأكبر، والرئيس الأعظم مع الأعراق الكريمة، والأخلاق الرفيعة، والتمام في الحلم والعلم، والكمال في العزم والحزم، مع التمكين والقدرة، والفضيلة والرياسة والسيادة، والخصائص التي معه من التوفيق والعصمة، والتأييد وحسن المعونة لم يكن الله ليجلله لباس الخلافة، ويحبوه ببهاء الأمة، وبأعظم نعمة

وأسبغها، وأفضل كرامة وأسناها، ثم وصل طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، إلا ومعه من الحلم في موضع الحلم، والعفو في موضع العفو، والتغافل في موضع التغافل، ما لا يبلغه فضل ذي فضل، ولا حلم ذي حلم. ونحن قائلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فيما انتهى إلينا من القول في الأتراك. زعم محمد بن الجهم وثمامة بن الأشرس والقاسم بن سيار في جماعة ممن يغشى دار الخلافة، وهي دار العامة، قالوا جميعاً: بينا حميد بن عبد الحميد جالساً ومعه إخشيد الصغدي، وأبو شجاع شبيب بن بخار خداي البلخي، ويحيى بن معاذ، ورجال من المعدودين المتقدمين في العلم بالحرب، من أصحاب التجارب والمراس، وطول المعالجة والمعاناة بصناعة الحرب، إذ خرج رسول المأمون فقال لهم: يقول لكم مفترقين ومجتمعين: فليثبت كل

رجل منكم دعواه وحجته، يقول لكم: أيما أحب إلى كل قائد منكم، إذا كان في مائة من نخبته وثقاته: أن يلقى بهم مائة تركي أو مائة خارجي؟ فقال القوم جميعاً: لأن نلقى مائة تركي أحب إلينا من أن نلقى مائة خارجي! وحميد ساكت، فلما فرغ القوم جميعاً من حججهم قال الرسول لحميد: قد قال القوم فقل واكتب قولك، وليكن حجة لك أو عليك. قال: بل ألقى مائة خارجي أحب إلي؛ لأني وجدت الخصال التي فضل بها التركي جميع المقاتلة غير تامة في الخارجي، ووجدتها تامة في التركي. ففضل التركي على الخارجي بقدر فضل الخارجي على سائر المقاتلة. وذلك بأن التركي بان من الخارجي بأمور ليس فيها للخارجي دعوى ولا متعلق. على أن هذه الأمور التي بان بها التركي من الخارجي أعظم خطراً وأقل نفعاً مما شاركه الخارجي في بعضه. ثم قال حميد: والخصال التي يصول بها الخارجي على سائر الناس: صدق الشدة عند أول وهلة، وهي الدفعة التي يبلغون بها ما أرادوا، وينالون بها ما أملوا. والثانية: الصبر على الخبب، وعلى طول السرى حتى يصبحوا القوم الذين مرقوا بهم غارين، فيهجموا عليهم وهم بسوء

ولحم على وضم، فيعجلوا بهم عن الروية؛ وعن رد النفس بعد الجولة والنزوة، لا يظنون أن أحداً يقطع في ذلك المقدار من الزمان ذلك المقدار من البلاد. والثالثة: أن الخارجي موصوف عند الناس بأنه إن طلب أدرك، وإن طلب فات. والرابعة: خفة الأزواد، وقلة الأمتعة، وأنها تجنب الخيل، وتركب البغال، وإن احتاجت أمست بأرض وأصبحت بأخرى، وأنهم قوم حين خرجوا لم يخلفوا الأموال الكثيرة، والجنان الملتفة، والدور المشيدة، ولا ضياعاً ولا مستغلات، ولا جواري مطهمات، وأنهم لا سلب لهم، ولا مال معهم، فيرغب الجند في لقائهم، وإنما هم كالطير لا تدخر، ولا تهتم لغد، ولها في كل أرض من المياه والبزور ما يقوتها. وإن لم تجد ذلك في بعض البلاد فأجنحتها تقرب لها البعيد، وتسهل لها الحزون. وكذلك الخوارج لا يمتنع عليهم القرى والطعم،

فإن يمتنع عليهم ففي بنات أعوج وبنات شحاج، وخفة الأثقال، والقوة على طول الخبب ما يأتيها بأرزاقها، وأكثر من أرزاقها. والخامسة: أن الملوك إذا أرسلوا إليهم أعدادهم ليكونوا في خفة أزوادهم وأثقالهم، وليقووا على التنقل كقوتهم، لم يقووا عليهم، لأن مائة من الجند لا يقومون لمائة من الخوارج. وإن كثفوا الجيش وضاعفوا العدد ثقلوا عن طلبهم، وعن الغوث إن طلبهم عدوهم. ومتى شاء الخارجي أن يقرب منهم ليتطرفهم، أو ليصيب الغرة أو ليثبتهم، فعل ذلك، ثقة بأنه يغنم عند الفرصة ورؤية العورة، ويمكنه الهرب عند الخوف، وإن شاء كبسهم ليقطع نظامهم، أو ليقتطع القطعة منهم.

قال حميد: فهذه هي مفاخرهم وخصالهم، التي بها كره القواد لقاءهم. قال القاسم بن سيار: وخصلة أخرى، وهي التي رعبت القلوب وحشتها، ونقضت العزائم وفسختها، وهو ما تسمع الأجناد ومقاتلة العوام من ضرب المثل بالخوارج، كقول الشاعر: إذا ما البخيل والمحاذر للقرى ... رأى الضيف مثل الأزرقي المجفف هذه زيادة القاسم بن سيار. فأما حميد فإنه قال: فأما الشدة فالتركي فيها أحمد أثرا، وأجمع أمراً، وأحكم شأنا؛ لأن التركي من أجل أن تصدق شدته ويتمكن عزمه، ولا يكون مشترك العزم، ومنقسم الخواطر، قد عود برذونه أن لا ينثني وإن ثناه، أن يملأ فروجه، إلا أن يديره مرة أو مرتين، وإلا فإنه لا يدع سننه، ولا يقطع ركضه، وإنما أراد التركي أن يوئس نفسه من البدوات،

ومن أن يعتريه التكذيب بعد الاعتزام، لهول اللقاء، وحب الحياة، لأنه إذا علم أنه قد صير برذونه إلى هذه الغاية حتى لا ينثني، ولا يجيبه إلى التصرف معه إلا بأن يصنع شيئاً بين الصفين فيه عطبه، لم يقدم على الشدة إلا بعد إحكام الأمر، والبصر بالعورة. وإنما يريد أن يشبه نفسه بالمحرج الذي إذا رأى أشد القتال لم يدع جهداً ولم يدخر حيلة، ولينفي عن قلبه خواطر الفرار، ودواعي الرجوع. وقال: الخارجي عند الشدة إنما يعتمد على الطعان. والأتراك تطعن طعن الخوارج، وإن شد منهم ألف فارس فرموا رشقاً واحداً صرعوا ألف فارس، فما بقاء جيش على هذا النوع من الشد؟ ! والخوارج والأعراب، ليست لهم رماية مذكورة على ظهور الخيل، والتركي يرمي الوحش، والطير، والبرجاس، والناس، والمجثمة، والمثل الموضوعة، والطير الخاطف، ويرمي وقد ملأ فروج دابته

مدبراً ومقبلاً، ويمنة ويسرة، وصعدا وسفلا، ويرمي بعشرة أسهم قبل أن يفوق الخارجي سهماً واحداً. ويركض دابته منحدراً من سهل، أو متسفلا إلى بطن واد بأكثر مما يمكن الخارجي على بسيط الأرض. والتركي له أربعة أعين: عينان في وجهه، وعينان في قفاه. وللخارجي عيب في مستدبر الحرب، وللخراساني عيب في مستقبل الحرب. فعيب الخراسانية أن لها جولة عند أول الالتقاء، فإن ركبوا أكساءهم كانت هزيمتهم، وكثيراً ما يثوبون، وذلك بعد الخطار بالعسكر، وإطماع العدو في الشدة. والخوارج إذا ولوا فقد ولوا، وليس لهم بعد الفر كر إلا ما لا يعد. والتركي ليست له جولة الخراساني، وإذا أدبر فهو السم الناقع، والحتف القاضي، لأنه يصيب بسهمه وهو مدبر، كما يصيب بسهمه وهو مقبل، ولا يؤمن وهقه.

قال: وهم علموا الفرسان حمل قوسين وثلاث قسي، ومن الأوتار على حسب ذلك. والتركي في حال شدته معه كل شيء يحتاج إليه، لنفسه، ولسلاحه، ولدابته، وأداة دابته. فأما الصبر على الخبب ومواصلة السير، وعلى طول السرى وقطع البلاد فعجيب جداً. فواحدة: أن فرس الخارجي لا يصبر صبر برذون التركي. والخارجي لا يحسن أن يعالج فرسه إلا معالجة الفرسان لخيولهم، والتركي أحذق من البيطار، وأجود تقويماً لبرذونه على ما يريد من الراضة، وهو استنتجه، وهو رباه فلواً، ويتبعه إن سماه، وإن ركض ركض خلفه، قد عوده ذلك حتى عرفه، كما يعرف الفرس: اجدم، والناقة: حلى، والجمل: جاه، والبغل: عدس، والحمار: سأسأ؛ وكما يعرف المجنون لقبه، والصبي اسمه.

ولو حصلت مدة عمر التركي وحسبت أيامه لوجدت جلوسه على ظهر الأرض نادراً. والتركي يركب فحلاً أو رمكة، ويخرج غازياً أو مسافراً، أو متباعداً في طلب صيد، أو سبب من الأسباب، فتتبعه الرمكة وأفلاكها؛ إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش، وإن أخفق منها واحتاج إلى طعام فصد دابة من دوابه، وإن عطش حلب رمكة من رماكه، وإن أراح واحدة ركب أخرى، من غير أن ينزل إلى الأرض. وليس في الأرض أحد إلا وبدنه ينتقض عن اقتيات اللحم وحده غيره، وكذلك دابته تكتفي بالعنقر والعشب والشجر، لا يظلها من شمس، ولا يكنها من برد. قال: وأما الصبر على الخبب فإن الثغريين، والفرانقيين، والخصيان، والخوارج، لو اجتمعت قواهم في شخص واحد لما وفوا بتركي واحد. والتركي لا يبقى معه مع طول الغاية إلا الصميم من دوابه، والذي يقتله التركي بإتعابه له. وينفيه عند غزاته هو الذي لا يصبر

معه فرس الخارجي، ولايبقى معه كل برذون بخاري، ولو ساير خارجياً لاستفرغ جهده قبل أن يبلغ الخارجي عفوه. والتركي هو الراعي، وهو السائس، وهو الرائض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس. فالتركي الواحد أمة على حدة. قال: وإذا سار التركي في غير عساكر الترك فسار القوم عشرة أميال سار التركي عشرين ميلاً، لأنه ينقطع عن العسكر يمنة ويسرة، ويصعد في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية، في طلب الصيد، وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع. قال: والتركي لم يسر في العسكر سير الناس قط، ولا سار مستقيماً قط. قال: وإذا طالت الدلجة، واشتد السير، وبعد المنزل، وانتصف النهار، واشتد التعب، وشغل الناس الكلال، وصمت المتسايرون فلم ينطقوا، وقطعهم ما هم فيه عن التشاغل بالحديث، وتفسخ كل شيء من شدة الحر، وجمد كل شيء من شدة البرد، وتمنى كل جليد القوى على طول السرى أن تطوى له الأرض، وكلما رأى خيالاً

أو علماً استبشر به، وظن أنه قد بلغ المنزل، وإذا بلغه الفارس نزل وهو متفحج، كأنه صبي محقون، يئن أنين المريض، ويستريح إلى التثاؤب، ويتداوى مما به بالتمطي والتضجع. وترى التركي في تلك الحال، وقد سار ضعف ما ساروا، وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى بقرب المنزل عيراً أو ظبياً، أو عرض له ثعلب أو أرنب، كيف يركض ركض مبتدىء مستأنف، حتى كأن الذي سار ذلك السير، وتعب ذلك التعب غيره. وإن بلغ الناس وادياً فازدحموا على مسلكه أو على قنطرته، بطن برذونه فأقحمه ثم طلع من الجانب الآخر كأنه كوكب. وإن انتهوا إلى عقبة صعبة ترك السنن، وذهب في الجبل صعدا، ثم تدلى من موضع يعجز عنه الوعل، وأنت تحسبه مخاطراً بنفسه، للذي ترى من مطلعه. ولو كان في كل ذلك مخاطراً لما دامت له السلامة، مع تتابع ذلك منه.

قال: ويفخر الخارجي بأنه إذا طلب أدرك، وإذا طلب فات. والتركي ليس يحوج إلى أن يفوت، لأنه لا يطلب ولا يرام. ومن يروم ما لا يطمع فيه؟ ! فهذا دليل على أنا قد علمنا أن العلة التي عمت بالخوارج بالنجدة استواء حالاتهم في أشد الديانة، واعتقادهم بأن القتال دين؛ لأننا حين وجدنا السجستاني، والجزري، واليماني، والمغربي، والعماني، والأزرقي منهم والنجدي، والإباضي، والصفري، والمولى والعربي، والعجمي والأعرابي، والعبيد والنساء، والحائك والفلاح، كلهم يقاتل مع اختلاف الأنساب، وتباين البلدان علمنا أن الديانة هي التي سوت بينهم في ذلك، كما أن كل حجام في الأرض من أي جنس كان، ومن أهل أي بلد كان، فهو يحب النبيذ. وكما أن

أصحاب الخلقان، والسماكين، والنخاسين والحاكة، في كل بلد ومن كل جنس، شرار خلق الله في المبايعة والمعاملة. فعلمنا بذلك أن ذلك خلقة في هذه الصناعات، وبنية في هذه التجارات، حتى صاروا من بين جميع الناس كذلك. قال: ورأيناه في بلاده ليس يقاتل على دين، ولا على تأويل، ولا على ملك ولا على خراج، ولا على عصبية، ولا على غيرة دون الحرمة، ولا على حمية ولا على عداوة، ولا على وطن ولا على منع دار ولا مال، وإنما يقاتل على السلب والخيار في يده. وليس يخاف الوعيد إن هرب، ولا يرجو الوعد إن أبلى عذراً. وكذلك هم في بلادهم وغاراتهم وحروبهم. وهو الطالب غير المطلوب، ومن كان كذلك فإنما يأخذ العفو من قوته، ولا يحتاج إلى مجهوده، ثم مع ذلك لا يقوم له شيء، ولا يطمع فيه أحد، فما ظنك بمن هذه صفته، أن لو اضطره إحراج أو غيرة، أو غضب أو تدين، أو عرض له بعض ما يصحب المقاتل المحامي من العلل والأسباب. قال: وقناة الخارجي طويلة صماء، وقناة التركي مطرد أجوف. والقنا الجوف القصار أشد طعنة، وأخف محملا. والعجم تجعل القنا الطوال للرجالة، وهي قنا الأبناء على أبواب الخنادق والمضايق.

والأبناء في هذا الباب لا يجرون مع الأتراك والخراسانية، لأن الغالب على الأبناء المطاعنة على أبواب الخنادق، وفي المضايق، وهؤلاء أصحاب الخيل والفرسان، وعلى أصحاب الخيل والفرسان يدور أمر الفروسية. لهم الفر والكر. والفارس هو الذي يطوي الجيش طي السجل، ويفرقهم فرق الشعر. وليس يكون الكمين ولا الطليعة ولا الساقة إلا الكبار منهم. وهم أصحاب الأيام المذكورة، والحروب الكبار، والفتوح العظام. فصل منها والشح على الوطن، والحنين إليه، والصبابة به، مذكور في القرآن، مخطوط في الصحف بين جميع الناس، غير أن التركي للعلل التي ذكرناها أشد حنيناً، وأكثر نزوعاً. وباب آخر مما كان يدعوهم إلى الرجوع قبل ثني العزم والعادة المنقوضة: وذلك أن الترك قوم يشتد عليهم الحصر والجثوم،

وطول البث والمكث، وقلة التصرف والتحرك. وأصل بنيتهم إنما وضع على الحركة، وليس للسكون فيهم نصيب، وفي قوى أرواحهم فضل على قوى أبدانهم، لأنهم أصحاب توقد وحرارة، واشتعال وفطنة، كثيرة خواطرهم، سريع لحظهم. وكانوا يرون الكفاية معجزة، وطول المقام بلدة، والراحة عقلة والقناعة من قصر الهمة، وأن ترك الغزو يورث الذلة. وقد قالت العرب في مثل ذلك: قال عبد الله بن وهب الراسبي: " حب الهوينى يكسب النصب ". والعرب تقول: " من غلا دماغه في الصيف غلت قدره في الشتاء ". وقال أكثم بن صيفي: " ما أحب أني مكفي كل أمر الدنيا "، قيل: ولم؟ قال: " أخاف عادة العجز ". فهذه كانت علل الترك في حب الرجوع، والحنين إلى الوطن. ومن أعظم ما كان يدعوهم إلى الشرود، ويبعثهم على الرجوع، ويكره عندهم المقام، ما كانوا فيه من جهل قوادهم بأقدارهم، وقلة معرفتهم بأخطارهم، وإغفالهم موضع الرد عليهم، والانتفاع

بهم، ولأنهم حين جعلوهم أسوة أجنادهم لم يقنعوا أن يكونوا في الحاشية والحشوة، وفي غمار العامة، ومن عرض العساكر، وأنفوا من ذلك لأنفسهم، وذكروا ما يجب لهم، ورأوا أن الضيم لا يليق بهم، وأن الخمول لا يجوز عليهم، وأنهم في المقام على من لم يعرف حقهم ألوم ممن منعهم حقهم. فلما صادفوا ملكاً حكيماً، وبأقدار الناس عليماً، لا يميل إلى سوء عادة، ولا يجنح إلى هوىً، ولا يتعصب لبلد على بلد، يدور مع التدبير حيثما دار، ويقيم مع الحزم حيثما أقام أقاموا إقامة من منح الحظ، ودان بالحق، ونبذ العادة، وآثر الحقيقة، ورحل نفسه لقطيعة وطنه، وآثر الإمامة على ملك الجبرية، واختار الصواب على الإلف. ثم اعلم بعد ذلك كله أن كل أمة وقرن وجيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب أو في تأسيس الملك، أو في البصر في الحرب. فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن يكون الله تعالى قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك

الأمور، وتصلح لتلك المعاني، لأن من كان متقسم الهوى، مشترك الرأي، متشعب النفس، غير موفر على ذلك الشيء، ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئاً بأسره، ولم يبلغ فيه غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن ذاكروه في موضعه، والساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً بأكفهم، ولا أصحاب زرع وفلاحة، وبناء وغرس، ولا أصحاب جمع ومنع وكد. وكانت الملوك تفرغهم، وتجري عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفس مجتمعة، وقوة وافرة، وأذهان فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون جماماً للنفس، وراحة بعد الكد، وسروراً يداوي قرح الهموم، فصنعوا من المرافق، وصاغوا من المنافع، كالقرسطونات، والقبانات،

والأسطرلابات، وآلة الساعات، وكالكونيا، والكسيران، والبركار، وكأصناف المزامير والمعازف، والطب والحساب، والهندسة، واللحون، وآلات الحرب، وكالمجانيق، والعرادات، والرتيلات، والدبابات، وآلاة النفاطين، وغير ذلك مما يطول ذكره. وكانوا أصحاب حكمة، ولم يكونوا فعلة. يصورون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المثل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسونها، يرغبون في التعليم، ويرغبون عن العمل. فأما سكان الصين فإنهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنجر والتصاوير،

والنسج والخط، ورفق الكف في كل شيء يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه. فاليونانيون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل، وسكان الصين يباشرون العمل ولا يعرفون العلل؛ لأن أولئك حكماء، وهؤلاء فعلة. وكذلك العرب لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً، ولا أطباء ولا حساباً ولا أصحاب فلاحة، فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم صغار الجزية. ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم، وطلب لما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث البلدة، والثروة التي تحدث الغرة، ولم يحتملوا ذلاً قط فيميت قلوبهم، ويصغر عندهم أنفسهم. وكانوا سكان فياف، وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق، ولا البخار ولا الغلظ،

ولا العفن، ولا التخم. أذهان حديدة، ونفوس منكرة. فحين حملوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر، ولأيامهم أذكر. وكذلك الترك، أصحاب عمد، وسكان فياف، وأرباب مواش. وهم أعراب العجم، كما أن هذيلاً أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات، ولا الطب والفلاحة والهندسة، ولا غراس ولا بنيان، ولا شق أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن همهم غير الغارة والغزو والصيد، وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم، وتدويخ البلاد. وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب المسخرة، ومقصورة عليها وموصولة بها، أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، ولذتهم في الحرب وفخرهم، وحديثهم وسمرهم. فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة،

وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكالساسان في الملك والسياسة. ومما يستدل به على أنهم قد استقصوا هذا الباب واستفرغوه، وبلغوا أقصى غايته وتعرفوه، أن السيف إلى أن يتقلده متقلد، أو يضرب به ضارب، قد مر على أيد كثيرة، وعلى طبقات من الصناع، كل واحد منهم لا يعمل عمل صاحبه ولا يحسنه، ولا يدعيه ولا يتكلفه؛ لأن الذي يذيب حديد السيف ويميعه ويصفيه ويهذبه، غير الذي يمده ويمطله، والذي يمده ويمطله غير الذي يطبعه ويسوي متنه، ويقيم خشيبته، والذي يطبعه ويسوي متنه غير الذي يسقيه ويرهفه، والذي يسقيه ويرهفه، غير الذي يركب قبيعته، ويستوثق من سيلانه، والذي يعمل مسامير السيلان، وشاربي القبيعة ونعل السيف غير الذي ينحت خشب غمده. والذي ينحت خشب غمده غير الذي يدبغ جلده، والذي يدبغ جلده غير الذي يحليه، والذي يحليه ويركب نصله غير الذي يخرز حمائله.

وكذلك السرج، وحالات السهم والجعبة والرمح، وجميع السلاح مما هو جارح أو جنة. والتركي يعمل هذا كله بنفسه، من ابتدائه إلى غايته، ولا يستعين برفيق، ولا يفزع إلى رأي صديق، ولا يختلف إلى صائغ، ولا يشغل قلبه بمطاله وتسويفه، وأكاذيب مواعيده، وبغرم كرائه. وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيماً، ولا كل صيني حاذقاً، ولا كل أعرابي شاعراً فائقاً، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وفيهم أظهر وأكثر. قد قلنا في السبب الذي تكاملت به النجدة والفروسية في الترك دون جميع الأمم، وفي العلل التي من أجلها نظموا جميع معاني الحرب، وهي معان تشتمل على مذاهب غريبة، وخصال عجيبة، فمنها ما يقضى لأهله بالكرم، وببعد الهمة، وطلب الغاية. ومنها ما يدل على الأدب السديد، والرأي الأصيل، والفطنة الثاقبة، والبصيرة النافذة. ألا ترى أنه ليس بد لصاحب الحرب من الحلم والعلم، والحزم والعزم، والصبر والكتمان، ومن الثقافة وقلة الغفلة، وكثرة التجربة؟ ولا بد من الصبر بالخيل والسلاح، والخبرة بالرجال والبلاد،

والعلم بالمكان والزمان والمكايد، وبما فيه صلاح الأمور كلها. والملك يحتاج إلى أواخ شداد، وأسباب متان، ومن أمتنها سبباً، وأعمها نفعاً، ما ثبته في نصابه، وسكنه في قراره، وزاده في تمكينه وبهائه، وقطع أسباب المطمعة فيه، ومنع أيدي البغاة من الإشارة إليه، فضلاً عن البسط عليه. قد قلنا في مناقب جميع الأصناف بجمل ما انتهى إلينا، وبلغه علمنا، فإن وقع بالموافقة فبتوفيق من الله تعالى وصنعه، عز ذكره. وإن قصر دون ذلك فالذي قصر بنا نقصان علمنا، وقلة حفظنا، وأسماعنا. فأما حسن النية، والذي نضمر من المحبة والاجتهاد في القربة، فإنا لا نرجع في ذلك إلى أنفسنا بلائمة. وبين التقصير من جهة العجز وضعف القوة فرق. ولو كان هذا الكتاب من كتب المناقضات، وكتب المسائل والجوابات، وكان كل صنف من هذه الأصناف يريد الاستقصاء على صاحبه، ويكون غايته إظهار نفسه وإن لم يصل إلى ذلك إلا بإظهار نقص أخيه ووليه، لكان كتابنا كبيراً، كثير الورق عظيماً. ولكن القليل الذي يجمع، خير من الكثير الذي يفرق. ونحن نعوذ بالله من هذا المذهب، ونسأله العون والتسديد، إنه سميع قريب، فعال لما يريد.

فصل من صدر كتابه في حجج النبوة

الحمد لله الذي عرفنا نفسه، وعلمنا دينه، وجعلنا من الدعاة إليه، والمحتجين له. فنحن نسأله تمام النعمة، والعون على أداء شكره، وأن يوفقنا للحق برحمته، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، والمرغوب إليه فيه، وصلى الله على محمد وآله وسلم. ثم إنا قائلون في الأخبار، ومخبرون عن الآثار، ومفرقون بين أسباب الشبهة، وأسباب الحجة، ثم مفرقون بين الحجة التي تلزم الخاصة دون العامة، ومخبرون عن الضرب الذي يكون الخاصة فيه حجة على العامة، وعن الموضع الذي يكون القليل فيه أحق بالحجة من الكثير، ولم شاع الخبر وأصله ضعيف؟ ولم خفي وأصله قوي؟ وما الذي يؤمن من فساده وتبديله مع تقادم عصره، وكثرة الطاعنين فيه، وعن الحاجة إلى رواية الآثار، وإلى سماع الأخبار، وعن أخلاق الناس وآبائهم، ومذاهب أسلافهم، وعن سير الملوك قبلهم، وما صنعت الأيام بهم، وعن شرائع أنبيائهم، وأعلام رسلهم، وعن أدب حكمائهم، وأقاويل أئمتهم وفقهائهم، وعن حالات من غاب عن أبصارهم في دهرهم، ولم كان الإخبار على الناس أخف من الكتمان؟ ولم

كان الصمت أثقل عليهم من الكلام؟ وما الضرب الذي يقدرون على كتمانه وطيه، والضرب الذي لا يقدرون إلا على إذاعته ونشره؟ ولم اجتمعت الأمم على الصدق في أمور، واختلفت في غيرها؟ ولم حفظت أموراً ونسيت سواها؟ ولم كان الصدق أكثر من الكذب؟ ولم كان الصمت أثقل والقول أفضل؟ والعجب من ترك الفقهاء تمييز الآثار، وترك المتكلمين القول في تصحيح الأخبار، وبالأخبار يعرف الناس النبي من المتنبي، والصادق من الكاذب، وبها يعرفون الشريعة من السنة، والفريضة من النافلة، والحظر من الإباحة، والاجتماع من الفرقة، والشذوذ من الاستفاضة، والرد من المعارضة، والنار من الجنة، وعامة المفسدة من المصلحة. فإذا نزلت الأخبار منازلها وقسمتها، ذكرت حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلائله وشرائعه وسننه، ثم جنست الآثار على أقدارها، ورتبتها في مراتبها، وقربت ذلك واختصرته، وأوضحت عنه وبينته، حتى يستوي في معرفتها من قل سماعه وساء حفظه، ومن كثر سماعه وجاد حفظه، بالوجوه الجليلة، والأدلة الاضطرارية. ولم أرد في هذا الكتاب جمع حجج الرسول عليه السلام، وتفصيلها والقول فيها، لنقض مسها، أولوهن كان في أصلها من ناقليها

والمخبرين عنها، أو لأن طعن الملحدين نهكها وفرق جماعتها، ونقض قواها. ولكن لأمور سأذكرها وأحتج. وكيف تقصر الحجة عن بلوغ الغاية، وتنقص عن التمام، والله تعالى المتوكل بها، ومسخر أصناف البرية ومهيج النفوس على إبلاغها، وقد أخبر بذلك عن نفسه في محكم كتابه عز ذكره، حين قال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ". وأدنى منازل الإظهار إظهار الحجة على من ضاره وخالف عليه. وقال عز ذكره: " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ". وأخبر أنه أمر الأحمر والأسود، ولم يكن ليأمر الأقصى إلا كما يأمر الأدنى ويأمر الغائب على الحاضر، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ". فأقول: إن كل مطيق محجوج، والحجة حجتان: عيان ظاهر،

وخبر قاهر. فإذا تكلمنا في العيان وما يفرع منه فلا بد من التعارف في أصله وفرعه منه. ولا بد من التصادق في أصله، والتعارف في فرعه. فالعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله، ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. والعقل مضمن بالدليل، والدليل مضمن بالعقل، ولا بد لكل واحد منهما من صاحبه، وليس لإبطال أحدهما وجه مع إيجاب الآخر. والعقل نوع واحد، والدليل نوعان: أحدهما شاهد عيان يدل على غائب، والآخر مجيء خبر يدل على صدق. ثم رجع الكلام إلى الإخبار عن دلائل النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه، والاحتجاج لشواهده وبرهانه، فأقول: إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف بعد أن كان متفرقاً في الصدور، والذين جمعوا الناس على قراءة زيد، بعد أن كان غيرها مطلقاً غير محظور، والذين حصنوه ومنعوه الزيادة والنقصان لو كانوا جمعوا علامات النبي صلى الله عليه وسلم، وبرهانه، ودلائله وآياته وصنوف بدائعه، وأنواع عجائبه في مقامه وظعنه، وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم، وبحضرة العدد الكثير

الذي لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل، والعدو المائل، لما استطاع اليوم أن يدفع كونها وصحة مجيئها، لا زنديق جاحد، ولا دهري معاند، ولا متطرف ماجن، ولا ضعيف مخدوع، ولا حدث مغرور؛ ولكان مشهوراً في عوامنا كشهرته في خواصنا، ولكان استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم في باطل نصاراهم ومجوسهم، ولما وجد الملحد موضع طمع في غني يستميله، وفي حدث يموه له. ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا، الذين نطقوا بألسنتنا، واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا، لما تكلفنا كشف الظاهر، وإظهار البارز، والاحتجاج الواضح. إلا أن الذي دعا سلفنا إلى ذلك، الاتكال على ظهورها واستفاضة أمرها. وإذ كان ذلك كذلك فلم يؤت من أتي من جهالنا وأحداثنا، وسفهائنا وخلعائنا إلا من قبل ضعف العناية، وقلة المبالاة، ومن قبل الحداثة والغرارة، ومن قبل أنهم حملوا على عقولهم من دقيق الكلام قبل العلم بجليله ما لم تبلغه قواهم، وتتسع له صدورهم، وتحمله أقدارهم، فذهبوا عن الحق يميناً وشمالاً، لأن من لم يلزم الجادة تخبط، ومن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سقط، ومن خرق بنفسه

وكلفها فوق طاقتها، ولم ينل ما لا يقدر عليه تفلت منه ما كان يقدر عليه. فإذا كانوا كذلك فإنما أتوا من قبل أنفسهم، ولم يؤتوا من سلفهم، أو لأن الله تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيان أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان، وليعرضهم لطاعته بالذب عن دينه، والاحتجاج لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليجري هذا الخير على أيديهم، كما أجرى أكثر منه على أيدي أسلافهم، لئلا يبخس أحد خليقته من العلماء والفقهاء، ولأن يجعل فضله مقسماً بين جميع الأولياء، وإن كان الأول أحق بالتقديم، والآخر أحق بالتأخير، للذي قدموا من الاحتمال، وأعطوا من المجهود، ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه، والأصل أحق بالقوة من الفرع. وهم السابقون ونحن التابعون، وهم الذين وطئوا لنا، وكلفونا ما لم نكن لنكلفه أنفسنا، فتجرعوا دوننا المرار، ومنحونا روح الكفاية. ولأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولأن القرآن نطق بفضيلتهم؛ والله تعالى أعلم بمن بعدهم، والذي جمع أسلافنا الذين جمعوا الناس على قراءة زيد، دون أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، والذين رأوا من قول عبد الله في المعوذتين، وقول أبي في سورتي الحفد والخلع.

ومن تعلق الناس بالاختلاف، فكانوا لا يزالون قد رأوا الرجل يروي الحرف الشاذ، ويقرأ بالحرف الذي لا يعرفونه، فرأوا أن تحصينه لا يتم إلا بحمل الناس على المقروء عندهم، المشهور فيما بينهم، وأنهم إن لم يشددوا في ذلك لم ينقطع الطمع، ولم ينزجر الطير، لأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها. ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها. وليس ذلك في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين. ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله، وإنا لله، وعلى الله توكلنا، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع؛ ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان. ورأوا بفهمهم وبتوفيق الله تعالى لهم أن يحصنوه مما يشكل، ويمكن أن يفتعل مثله من الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين،

وقد كانوا عرفوا الابتداع الكثير على البلغاء والشعراء، وخافوا إن هم لم يتقدموا في ذلك أن يتطرفوا عليه، كما تطرفوا على الرواية، لأنهم حين رأوا كثرة الرواية في غير ذوي السابقة، ورأوا كثرة اختلافها، والغرائب التي لا يعرفونها، لم يكن لهم إلا تحصين الشيء الذي عليه مدار الأمر، وإن كانوا يعلمون أن الله بالغ أمره. فعلى الأئمة أن تحوط هذه الأمة، كما حاط السلف أولها، وأن يعملوا بظاهر الحيطة، إذ كان على الناس الاجتهاد، وليس عليهم علم الغيوب. وإنما ذلك كنحو رجل أبصر نبياً يحيي الموتى فعرف صدقه، فلما انصرف سأله عنه بعض من لم ير ذلك ولا صح عنده، فعليه أن لا يكتمه، وإن كان يعلم أن الله تعالى سيعلمه ذلك من قبل غيره، وأنه عز ذكره سيسمعه صحته على حبه وكرهه. ورأوا أن قراءة زيد أحق بذلك، إذ كانت آخر العرض، ولأن الجمع الذين سمعوا آخر العرض أكثر ممن سمع أوله، فحملوا الناس على قراءة زيد، دون أبي وعبد الله، وإن كان الكل حقاً، إذ كان رب حق في بعض الزمان أقطع للقيل والقال، وأجدر أن يميت الخلاف، ويحسم الطمع. فتركوا حقاً إلى حق العمل به أحق. ولو أن فقيهاً رأى إطباق العلماء على صوم يوم عرفة، واستنكارهم الإفطار فيه، فأفطر وأظهر ذلك ليعلمهم موضع الفريضة من النافلة،

أو خاف أن يلحق الفرض على تطاول الأيام ما ليس فيه كان مصيباً، ولكان قد ترك حقاً إلى أحق منه. وللحق درجات، وللخلاف درجات، وللحرام درجات. ألا ترى أن لولي المقتول أن يقتل ويصفح، وأنه إن قتل قتل بحق، وإن صفح صفح بحق، والصفح أفضل من القتل. ولو أن رجلاً أخرج ساكناً بيتاً له، أو اقتضى ديناً له ساعة محله، أو طلق زوجته وما دخل بها لكان ذلك له، ولحق فعل. وغير ذلك الحق أولى به. وكيف لا يكون أولى به وهو أحسن، والثواب فيه أعظم، وإلى سلامة الصدور أقرب. وقد يكون الأمران حسنين، وأحدهما أحسن. وقد يكون الأمران قبيحين، وأحدهما أقبح. وبعد، فعلى الناس طاعة الأئمة في كل ما أمروا به، إلا فيما تبين أنه معصية. فأما غير ذلك فإنه واجب مفروض، ولازم غير مرفوع. وعلموا أيضاً أنهم لا يبقون إلى آخر الزمان، وأن من يجيء بعدهم لا يقوم مقامهم، ولا يفصل الأمور تفصيلهم. ولو عرفوا كمعرفتهم، وأرادوا ذلك كإرادتهم، لما أطيعوا كطاعتهم. وعلموا أن الأكاذيب والبدع ستكثر، وأن الفتن ستفتح، وأن

الفساد سيفشو، فكرهوا أن يجعلوا للمتطرفين علة، ولأهل الزيغ حجة. بل لا شك أنهم لو تركوا الناس عامة يقرءون على حرف فلان وكل ما أجاز فيه فلان عن فلان، لألحق قوم في آخر الزمان بهم ما ليس منهم، ولا يجري مجراهم، ولا يجوز مجازهم. فصل منه في الاحتجاج للجمع على قراءة زيد ولو كان زيد من آل أبي العاص، أو من عرض بني أمية، لوجد ابن مسعود متعلقاً. ولو كان بدا زيد عبد الرحمن بن عوف لوجد إلى القول سبيلاً. ولو كان ابن مسعود رجلاً من بني هاشم لوجد للطعن موضعاً. ولو كان عثمان رضي الله تعالى عنه استبد بذلك الرأي على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسعد وطلحة والزبير رحمهم الله، وجميع المهاجرين والأنصار، لوجد للتهمة مساغاً. فأما والأمر كما وصفنا ونزلنا، فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق، وعجل على صاحبه. ولكل بني آدم من الخطأ نصيب، والله عز ذكره يغفر له ويرحمه.

والذي يخطىء عثمان في ذلك فقد خطأ علياً وعبد الرحمن وسعداً، والزبير وطلحة، وعلية الصحابة. ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم يمكنه في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النجح على ثقة، بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة، وأهل القدم والقدوة. ومع أن الوجه فيما صنعوا واضح، بل لا نجد لما صنعوا وجهاً غير الإصابة والاحتياط، والإشفاق والنظر للعواقب، وحسم طعن الطاعن. ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضاً لما اجتمع عليه أول هذه أول الأمة وآخرها. وإن أمراً اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة، والخوارج والمرجئة، لظاهر الصواب، واضح البرهان، على اختلاف أهوائهم، وبغيتهم لكل ما ورد عليهم. فإن قال قائل: هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره، وتطعن فيه، وترى تغييره. قلنا: إن الروافض ليست منا بسبيل، لأن من كان أذانه غير أذاننا، وصلاته غير صلاتنا، وطلاقه غير طلاقنا، وعتقه غير عتقنا، وحجته غير حجتنا، وفقهاؤه غير فقهائنا وإمامه غير إمامنا،

وقراءته غير قراءتنا، وحلاله غير حلالنا، وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا. ولأي شيء حامت عن قراءة ابن مسعود، فوالله ما كان أحد أفرط في العمرية منه، ولا أشد على الشيعة منه، ولقد بلغ من حبه لعمر رضي الله عنه أن قال: لقد خشيت الله تعالى في حبي لعمر. فلم يحامون عنه وهو كان شجاهم لو أدركهم. فصل منه فآمن الله رجلاً فارقهم ولزم الجماعة، فإن فيها الأنسة والحجة، وترك الفرقة فإن فيها الوحشة والشبهة. والحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أئمتنا، كما جعلنا لا نفرق بين أنبيائنا. فصل منه والذي دعانا إلى تأليف حجج الرسول ونظمها، وجمع وجوهها وتدوينها أنها متى كانت مجموعة منظومة، نشط لحفظها وتفهمها من كان عسى أن لا ينشط لجمعها، ولا يقدر على نظمها، وجمع متفرقها، وعلى اللفظ المؤثر عنها، ومن كان عسى أن لا يعرف وجه مطلبها، والوقوع عليها.

ولعل بعض الناس يعرف بعضها ويجهل بعضها. ولعل بعضهم وإن كان قد عرفها بحقها وصدقها فلم يعرفها من أسهل طرقها، وأقرب وجوهها. ولعل بعضهم أن يكون قد عرف فنسي، أو تهاون بها فعمي، بل لا نشك أنها إذا كانت مجموعة محبرة، مستقصاة مفصلة، أنها ستزيد في بصيرة العالم، وتجمع الكل لمن كان لا يعرف إلا البعض، وتذكر الناسي، وتكون عدة على الطاعن. ولعل بعض من ألحد في دينه، وعمي عن رشده، وأخطأ موضع حظه أن يدعوه العجب بنفسه، والثقة بما عنده، إلى أن يلتمس قراءتها، ليتقدم في نقضها وإفسادها، فإذا قرأها فهمها، وإذا فهمها انتبه من رقدته، وأفاق من سكرته، لعز الحق، وذل الباطل، ولإشراف الحجة على الشبهة، ولأن من تفرد بكتاب فقرأه ليس كمن نازع صاحبه وجاثاه، لأن الإنسان لا يباهي بنفسه،

والحق بعد قاهر له. ومع التلاقي يحدث التباهي، وفي المحافل يقل الخضوع، ويشتد النزوع. ثم رجع الكلام إلى حاجة الناس إلى استماع الأخبار، والتفقه في تصحيح الآثار، فأقول: إن الناس لو استغنوا عن التكرير، وكفوا مئونة البحث والتنقير لقل اعتبارهم. ومن قل اعتباره قل علمه، ومن قل علمه قل فضله، ومن قل فضله كثر نقصه، ومن قل علمه وفضله وكثر نقصه لم يحمد على خير أتاه، ولم يذم على شر جناه، ولم يجد طعم العز، ولا سرور الظفر، ولا روح الرجاء، ولا برد اليقين، ولا راحة الأمن. وكيف يشكر من لا يقصد، وكيف يلام من لا يتعمد، وكيف يقصد من لا يعلم. وما عسى أن يبلغ قدر سروره من لا يحسن من السرور إلا ما سر به حواسه ومسه جلده. وكيف يأتي أربح الأفعال، وأبعد الشرين من ركب في شراسة السباع وغباوة البهائم، ثم لم يعط الآلة التي بها يستطيع التفرقة بين ما عليه وله، والعلم بمصالحه ومفاسده، فيقوى بها على عصيان طبائعه، ومخالفة شهواته، وبها يعرف عواقب الأمور، وما تأتي به

الدهور، وفضل لذة القلب على لذة البدن. وإن سرور الجاهل لا يحسن في جنب سرور العالم، وإن لذة البهائم لا تعشر لذة الحكيم العالم. وأي سرور كسرور العز والرياسة، واتساع المعرفة، وكثرة صواب الرأي، والنجح الذي لا سبب له إلا حسن النظر والتقدم في التدبير، ثم العلم بالله وحده، وأنك بعرض ولايته والجاه عنده، وأنه الذي يرعاك ويكفيك، وأنك إذا علمت اليسير أعطاك الكثير، ومتى تركت له الفاني أعطاك الباقي، ومتى أدبرت عنه دعاك، ومتى رجعت إليه اجتباك، ويحمدك على حقك، ويعطيك على نظرك، لنفسك ولا يفنيك إلا ليبقيك، ولا يميتك إلا ليحييك، ولا يمنعك إلا ليعطيك. وأنه المبتدىء بالنعمة قبل السؤال، والناظر لك في كل حال. وهذا كله لا ينال إلا بغريزة العقل. على أن الغريزة لا تنال ذلك بنفسها، بما باشرته حواسها، دون النظر والتفكر، والبحث والتصفح. ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على

الفكرة، وعلى طلب الحيلة. ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب، وطبيعة الرضا، وطبيعة البخل والسخاء، والجزع والصبر، والرياء والإخلاص، والكبر والتواضع، والسخط والقناعة، فجعلها عروقاً. ولن تفي قوة غريزة العقل بجميع قوى طبائعه وشهواته، حتى يقيم ما اعوج منها، ويسكن ما تحرك، دون النظر الطويل الذي يشدها، والبحث الشديد الذي يشحذها، والتجارب التي تحنكها، والفوائد التي تزيد فيها. ولن يكثر النظر حتى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج، ولن تبعد الرؤية إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة. ولو أن الناس تركوا وقدر قوى غرائزهم، ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكر في معاشهم، وعواقب أمورهم، وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولد مباشرة حواسهم، دون أن يسمعهم الله تعالى خواطر الأولين، وأدب السلف المتقدمين، وكتب رب العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير، ولما ميزوا من الأمور إلا القليل.

ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم وتربيته، وتسويد العاقل ورفع قدره، وأن يجعله حكيماً، وبالعواقب عليماً، لما سخر له كل شيء، ولم يسخره لشيء، ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم، وعالم حليم. كما أنه عز ذكره لو أراد أن يكون الطفل عاقلاً، والمجنون عالماً، لطبعهم طبع العاقل، ولسواهم تسوية العالم، كما أراد أن يكون السبع وثاباً، والحديد قاطعاً، والسم قاتلاً، والغذاء مقيماً؛ فكذلك أراد أن يكون المطبوع على المعرفة عالماً، والمهيأ للحكمة حكيماً، وذو الدليل مستدلاً، وذو النعمة مستنفعاً بها. فلما علم الله تبارك وتعالى أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم، ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم، دون أن يرد عليهم آداب المرسلين، وكتب الأولين، والأخبار عن القرون، والجبابرة الماضين طبع كل قرن من الناس على أخبار من يليه، ووضع القرن الثاني دليلاً يعلم به صدق خبر الأول؛ لأن كثرة السماع للأخبار العجيبة، والمعاني الغريبة، مشحذة للأذهان، ومادة للقلوب، وسبب للتفكير، وعلة للتنقير عن الأمور. وأكثر الناس سماعاً أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً، وأكثرهم تفكراً أكثرهم علماً، وأكثرهم علماً أرجحهم عملاً. كما أن أكثر البصراء رؤية للأعاجيب أكثرهم تجارب، ولذلك

صار البصير أكثر خواطر من الأعمى، وصار السميع البصير أكثر خواطر من البصير. وعلى قدر شدة الحاجة تكون الحركة، وعلى قدر ضعف الحاجة يكون السكون، كما أن الراجي والخائف دائبان، والآيس والآمن وادعان. وإذا كان الله تعالى لم يخلق عباده في طبع عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، وآدم أبي البشر، صلوات الله عليهم أجمعين، وخلقهم منقوصين، وعن درك مصالحهم عاجزين، وأراد منهم العبادة، وكلفهم الطاقة، وترك العنان للأمل البعيد، وأرسل إليهم رسله، وبعث فيهم أنبياءه، وقال: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل "، ولم يشهد أكثر عباده حجج رسله عليهم السلام، ولا أحضرهم عجائب أنبيائه، ولا أسمعهم احتجاجهم، ولا أراهم تدبيرهم لم يكن بد من أن يطلع المعاينين على أخبار الغائبين، وأن يسخر أسماع الغائبين لأخبار المعاندين، وأن يخالف بين طبائع

المخبرين، وعلل الناقلين، ليدل السامعين، ومن يجيب من الناس. على أن العدد الكثير المختلفي العلل، المتضادي الأسباب، المتفاوتي الهمم، لا يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد، وكما لا يتفقون على الخبر الواحد على غير التلاقي والتراسل إلا وهو حق. فكذلك لا يمكن مثلهم في مثل عللهم التلاقي عليه، والتراسل فيه. ولو كان تلاقيهم ممكناً، وتراسلهم جائزاً لظهر ذلك وفشا، واستفاض وبدا. ولو كان ذلك أيضاً ممكناً، وكان قولاً متوهماً لبطلت الحجة، ولنقضت العادة، ولفسدت العبرة، ولعادت النفس بعلة الأخبار جاهلة، ولكان للناس على الله أكبر الحجة. وقد قال الله جل وعز: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل "، إذ كلفهم طاعة رسله، وتصديق أنبيائه ورسله وكتبه، والإيمان بجنته وناره، ولم يضع لهم دليلاً على صدق الأخبار، وامتناع الغلط في الآثار، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم، ولم يحب أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم؛ لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة، وكانوا مجبرين في الأمور المتفقة والمختلفة، لجاز أن يختاروا بأجمعهم التجارة والصناعة، ولجاز أن يطلبوا بأجمعهم الملك والسياسة. وفي هذا ذهاب العيش، وبطلان المصلحة، والبوار والتواء. ولو لم يكونوا مسخرين بالأسباب، مرتهنين بالعلل لرغبوا عن الحجامة أجمعين، والبيطرة، والقصابة، والدباغة. ولكن لكل صنف من الناس مزين عندهم ما هم فيه، ومسهل ذلك عليهم. فالحائك إذا رأى تقصيراً من صاحبه أو سوء حذق أو خرقا قال له: يا حجام! والحجام إذا رأى تقصيراً من صاحبه قال له: يا حائك! ولذلك لم يجمعوا على إسلام أبنائهم في غير الحياكة والحجامة، والبيطرة والقصابة. ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبباً للاتفاق والائتلاف، لما جعل واحداً قصيراً والآخر طويلاً، وواحداً حسناً وآخر قبيحاً، وواحداً غنياً وآخر فقيراً، وواحداً عاقلاً وآخر مجنوناً، وواحداً ذكياً وآخر غبياً. ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختبار يطيعون، وبالطاعة يسعدون. ففرق بينهم ليجمعهم، وأحب أن يجمعهم على

الطاعة ليجمعهم على المثوبة. فسبحانه وتعالى، ما أحسن ما أبلى وأولى، وأحكم ما صنع، وأتقن ما دبر! لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار الحياكة لبقينا عراة. ولو رغبوا بأجمعهم عن كد البناء لبقينا بالعراء. ولو رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات، ولبطل أصل المعاش. فسخرهم على غير إكراه، ورغبهم من غير دعاء. ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها، ومن البلاد إلا أعدلها، ومن الأمصار إلا أوسطها. ولو كانوا كذلك لتناجزوا على طلب الأواسط، وتشاجروا على البلاد العليا، ولما وسعهم بلد، ولما تم بينهم صلح. فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة. وكيف لا يكون كذلك وأنت لو حولت ساكني الآجام إلى الفيافي، وساكني السهل إلى الجبال، وساكني الجبال إلى البحار، وساكني الوبر إلى المدر، لأذاب قلوبهم الهم، ولأتى عليهم فرط النزاع. وقد قيل: " عمر الله البلدان بحب الأوطان ". وقال عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى: " ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم ". وقال معاوية في قوم من اليمن رجعوا إلى بلادهم بعد أن أنزلهم من

الشام منزلاً خصباً، وفرض لهم في شرف العطاء: " يصلون أوطانهم بقطيعة أنفسهم ". وقال الله جل وعز: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ". فقرن الضن بالأوطان إلى الضن بمهج النفوس. وليس على ظهرها إنسان إلا وهو معجب بعقله، لا يسره أن له بجميع ما له ما لغيره، ولولا ذلك لماتوا كمداً، ولذابوا حسدا، ولكن كل إنسان وإن كان يرى أنه حاسد في شيء فهو يرى أنه محسود في شيء. ولولا اختلاف الأسباب لتنازعوا بلدة واحدة، واسماً واحداً، وكنية واحدة. فقد صاروا كما ترى مع اختيار الأشياء المختلفة إلى الأسماء القبيحة، والألقاب السمجة. والأسماء مبذولة، والصناعات مباحة، والمتاجر مطلقة، ووجوه الطرق مخلاة، ولكنها مطلقة في الظاهر، مقسمة في الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبر الحكيم من ذلك، ولا بالمصلحة فيه. فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمي ابنه محمداً، وحبب إلى آخر أن يسميه شيطاناً، وحبب إلى آخر أن يسميه عبد الله، وحبب

إلى آخر أن يسميه حماراً، لأن الناس لو لم يخالف بين عللهم في اختيار الأسماء والكنى، جاز أن يجتمعوا على شيء واحد، وكان في ذلك بطلان العلامات، وفساد المعاملات. وأنت إذا رأيت ألوانهم وشمائلهم واختلاف صورهم، وسمعت لغاتهم ونغمهم علمت أن طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة، على حسب أمورهم الظاهرة. وبعض الناس وإن كان مسخراً للحياكة فليس بمسخر للفسق والخيانة، وللإحكام والصدق والأمانة. وقد يسخر الله الملك لقوم بأسباب قديمة وأسباب حديثة، فلا يزال ذلك الملك مقصوراً عليهم، ما دامت تلك الأسباب قائمة، إذا كانوا للملك مسخرين، وكان الناس لهم مسخرين، بالجبرية والنخوة، والفظاظة والقسوة، ولطول الاحتجاب والاستتار، وسوء اللقاء والتضييع.

وقد يكون الإنسان مسخراً لأمر، ومخيراً في آخر. ولولا الأمر والنهي لجاز التسخير في دقيق الأمور وجليلها، وخفيها وظاهرها؛ لأن بني الإنسان إنما سخروا له إرادة العائدة إليهم، ولم يسخروا للمعصية، كما لم يسخروا للمفسدة. وقد تستوي الأسباب في مواضع، وتتفاوت في مواضع. كل ذلك ليجمع الله تعالى لهم مصالح الدنيا، ومراشد الدين. ألا ترى أن أمة قد اجتمعت على أن عيسى عليه السلام هو الله، وأمة قد اجتمعت على أنه ابن الله، وأمة اجتمعت على أن الآلهة ثلاثة، عيسى أحدها. ومنهم يتبدد، ومنهم من يتدهر، ومنهم من يتحول نسطورياً بعد أن كان يعقوبياً، ومنهم من أسلم بعد أن كان نصرانياً. ولست واجداً هذه الأمة مع اختلاف مذاهبها، وكثرة تنقلها، انتقلت مرة واختلفت مرة، متعمدة أو ناسية، في يوم واحد، فجعلته - وهو الجمعة - يوم السبت، ولم تخطب في يوم جمعة بخطبة يوم خميس، ولا غلطت في كانون الأول فجعلته كانون الآخر، ولا بين الصوم والإفطار؛ لأن الباب الأول في باب الإمكان

وتعديل الأسباب والامتحان، والباب الثاني داخل في باب الامتناع وتسخير النفوس وطرح الامتحان. وقد زعم ناس من الجهال، ونفر من الشكاك، ممن يزعم أن الشك واجب في كل شيء، إلا في العيان، أن أهل المنصورة وافوا مصلاهم يوم خميس على أنه يوم الجمعة، في زمن منصور بن جمهور وأن أهل البحرين جلسوا عن مصلاهم يوم الجمعة على أنه يوم خميس، في زمن أبي جعفر، فبعث إليهم وقومهم. وهذا لا يجوز ولا يمكن في أهل الأمصار، ولا في العدد الكثير من أهل القرى، لأن الناس من بين صانع لا يأخذ أجرته ولا راحة له دون الجمعة، وبين تجار قد اعتادوا الدعة في الجمع، والجلوس عن الأسواق. ومن معلم كتاب لا يصرف غلمانه إلا في الجمع. وبين معني بالجمع يتلاقى هناك مع المعارف والإخوان والجلساء. وبين معني بالجمع حرصاً على الصلاة، ورغبة في الثواب. ومن رجل عليه موعد ينتظره. ومن صيرفي يصرف ذلك اليوم سفاتجه وكتب

أصحابه. ومن جندي فهو يعرف بذلك نوبته. وبعض كالسؤال والمساكين والقصاص، الذين يمدون أعناقهم للجمعة انتظاراً للصدقة والفائدة، في أمور كثيرة، وأسباب مشهورة. ولو جاز ذلك في أهل البحرين والمنصورة لجاز ذلك على أهل البصرة والكوفة، ولو جاز ذلك في الأيام لكان في الشهور أجوز، ولو جاز ذلك في الشهور لكان في السنين أجوز. وفي ذلك فساد الحج، والصوم، والصلاة، والزكاة، والأعياد. ولو كان ذلك جائزاً لجاز أن يتفق الشعراء على قصيدة واحدة، والخطباء على خطبة واحدة، والكتاب على رسالة واحدة، بل جميع الناس على لفظة واحدة. وإنما نزلت لك حالات الناس، وخبرتك عن طبائعهم، وفسرت لك عللهم لتعلم أن العدد الكثير لا يتفقون على تخرص الخبر الواحد في المعنى الواحد في الزمن الواحد، على غير التشاعر، فيكون باطلاً. وسأوجدك موضع اختلافهم واتفاقهم، وأنه لم يخالف بينهم في بعض الوجوه إلا إرهاصاً لمصلحتهم، ولتصح أخبارهم.

ألا ترى أن أحداً لم يبع قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن ذلك الدرهم خير له من سلعته. ولم يشتر أحد قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن تلك خير له من درهمه. ولو كان صاحب السلعة يرى في سلعته ما يرى فيها صاحب الدرهم، وكان صاحب الدرهم يرى في الدرهم ما يرى فيه صاحب السلعة ما اتفق بينهم شراء أبداً. وفي هذا جميع المفسدة، وغاية الهلكة. فسبحان الذي حبب إلينا ما في أيدي غيرنا، وحبب إلى غيرنا ما في أيدينا، ليقع التبايع. وإذا وقع التبايع وقع الترابح، وإذا وقع الترابح وقع التعايش. ويدلك أيضاً على اختلاف طبائعهم وأسبابهم: أنك تجد الجماعة وبين أيديهم الفاكهة والرطب، فلا تجد يدين تلتقيان على رطبة بعينها، وكل واحد من الجميع يرى ما حواه الطبق، غير أن شهوته وقعت على واحدة غير التي آثرها صاحبه. ولربما سبق الرجل إلى الواحدة، وقد كان صاحبه يريدها في نفسه، غير أن ذلك لا يكون إلا في الفرط، ولو كانت شهواتهم ودواعيهم تتفق على واحدة بعينها لكان في ذلك التمانع والتجاذب، والمبادرة وسوء المخالطة والمؤاكلة. وكذلك هو في شهوة النساء والإماء، والمراكب والكسى. وهذا كثير، والعلم به قليل. وبأقل مما قلنا يعرف العاقل صواب مذهبنا. والله تعالى نسأل التوفيق.

وهو الذي خالف بين طبائعهم وأسبابهم، حتى لا يتفق على تخرص خبر واحد، لأن في اتفاق طبائعهم وأسبابهم في جهة الإخبار فساد أمورهم، وقلة فوائدهم واعتبارهم، وفي فساد أخبارهم فساد متاجرهم والعلم بما غاب عن أبصارهم، وبطلان المعرفة بأنبيائهم ورسلهم عليهم السلام، ووعدهم ووعيدهم، وأمرهم ونهيهم وزجرهم، ورغبتهم، وحدودهم، وقصاصهم الذي هو حياتهم، والذي يعدل طبائعهم، ويسوي أخلاقهم، ويقوي أسبابهم، والذي به يتمانعون من تواثب السباع، وقلة احتراس البهائم، وإضاعة الأعمار. وبه تكثر خواطرهم وتفكيرهم، وتحسن معرفتهم. ولم نقل أن العدد الكثير لا يجتمعون على الخبر الباطل، كالتكذيب والتصديق، ونحن قد نجد اليهود والنصارى، والمجوس والزنادقة، والدهرية وعباد البددة يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، وينكرون آياته وأعلامه، ويقولون: لم يأت بشيء، ولا بان بشيء. وإنما قلنا: إن العدد الكثير لا يتفقون على مثل إخبارهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، التهامي الأبطحي عليه السلام خرج بمكة، ودعا إلى كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وأباح كذا،

وجاء بهذا الكتاب الذي نقرؤه، فوجب العمل بما فيه، وأنه تحدى البلغاء والخطباء والشعراء، بنظمه وتأليفه، في المواضع الكثيرة، والمحافل العظيمة. فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه، ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه، ولا ادعى أنه قد فعل، فيكون ذلك الخبر باطلاً. وليس قول جمعهم إنه كان كاذباً معارضة لهذا الخبر، إلا أن يسموا الإنكار معارضة. وإنما المعارضة مثل الموازنة والمكايلة، فمتى قابلونا بأخبار في وزن أخبارنا ومخرجها ومجيئها، فقد عارضونا ووازنونا وقابلونا، وقد تكافينا وتدافعنا. فأما الإنكار فليس بحجة، كما أن الإقرار ليس بحجة، ولا تصديقنا النبي صلى الله عليه وسلم حجة على غيرنا، ولا تكذيب غيرنا له حجة علينا، وإنما الحجة في المجيء الذي لا يمكن في الباطل مثله. فإن قلت: وأي مجيء أثبت خبر الأنصاري عن عيسى بن مريم عليه السلام؟ وذلك أنك لو سألت النصارى مجتمعين ومتفرقين لخبروك عن أسلافهم أن عيسى قد قال: إني إله. قلنا: قد علمنا أن نصارى عصرنا لم يكذبوا على القرن الذي كان قبلهم، والذين كانوا يلونهم. ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه، أن عيسى عليه السلام لو قال: إني إله لما أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، والمشي على الماء. على أن في عيسى عليه السلام دلالة في نفسه، أنه ليس بإله، وأنه عبد مدبر، ومقهور ميسر، وليس

خبرهم هذا إلا كإخبار النصارى عن آبائهم والقرن الذي يليهم أن بولس قد كان جاء بالآيات والعلامات. وكإخبار المنانية عن القرن الذي كان يليهم منه أن ماني قد كان جاءهم بالآيات والعلامات. وكإخبار المجوس عن آبائهم الذين كانوا يلونهم أن زرادشت قد جاءهم بالآيات والعلامات. وقد علمنا أن هؤلاء النصارى لم يكذبوا على القرن الذي كان يليهم، ولا الزنادقة ولا المجوس. ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه أن الله جل وعز لا يعطي العلامات من لا يعرفه، لأن بولس إن كان عنده أن عيسى عليه السلام إله فهو لا يعرف الله تعالى، بل لا يعرف الربوبية من العبودية، والبشرية من الإلهية. فصل منه وللنصارى خاصة رياء عجيب، وظاهر زهد، والناس أبطأ شيء عن التصفح، وأسرع شيء إلى تقليد صاحب السن والسمت، وظاهر العمل أدعى لهم من العلم.

فصل منه على ذكرهم وكل قوم بنوا دينهم على حب الأشكال، وشبه الرجال، يشتد وجدهم به وحبهم له، حتى ينقلب الحب عشقاً، والوجد صبابة، للمشاكلة التي بين الطبائع، والمناسبة التي بين النفوس. وعلى قدر ذلك يكون البغض والحقد، لأن النصارى حين جعلوا ربهم إنساناً مثلهم بخعت نفوسهم بالهيبة له لتوهمهم الربوبية، وأسمحت بالمودة لتوهمهم البشرية، فلذلك قدروا من العبادة على ما لم يقدر عليه من سواهم. وبمثل هذا السبب صارت المشبهة منا أعبد ممن ينفي التشبيه، حتى ربما رأيته يتنفس من الشوق إليه، ويشهق عند ذكر الزيارة، ويبكي عند ذكر الرؤية، ويغشى عليه عند ذكر رفع الحجب. وما ظنك بشوق من طمع في مجالسة ربه عز وجل، ومحادثة خالقه عز ذكره. ولقد غالت القوم غول، ودعاهم أمر، فانظر ما هو؟ وإن سألتني عنه خبرتك: إنما هو نتيجة أحد أمرين: إما تقليد الرجال، وإما طلب تعظيمهم. ولذلك السبب لم ترض اليهود من إنكار حقه بتكذيبه، حتى طلبت قتله وصلبه، والمثلة به، ثم لم ترض بذلك حتى زعمت

أنه لغير رشدة، فلو كانت دون هذه المنزلة منزلة لما انتهت اليهود دون بلوغها، ولو كانت فوق ما قالت النصارى منزلة لما انتهت دون غايتها. وبذلك السبب صارت الرافضة أشد صبابة وتحرقاً، وأفرط غضباً، وأدوم حقداً. وأحسن تواصلاً من غيرهم أيضاً. ورب خبر قد كان فاشياً فدخل عليه من العلل ما منعه من الشهرة، ورب خبر ضعيف الأصل، واهن المخرج، قد تهيأ له من الأسباب ما يوجب الشهرة. فصل منه واعلم أن لأكثر الشعر ظعنا وحظوظاً، كالبيت يحظى ويسير، حتى يحظى صاحبه بحظه، وغيره من الشعر أجود منه. وكالمثل يحظى ويسير، وغيره من الأمثال أجود. وما ضاع من كلام الناس وضل أكثر مما حفظ وحكي. واعتبر ذلك من نفسك، وصديقك وجليسك. وأمر الأسباب عجيب. ومن ذلك قتل علي بن أبي طالب من السادة والقادة والحماة، ما عسى لو ذكرته لاستكبرته واستعظمته، فأضرب الناس عن ذكرهم، وجهلت العوام مواضعهم، وأخذوا في ذكر عمرو بن عبد ود فرفعوه فوق كل فارس مشهور، وقائد مذكور.

وقد قرأت على العلماء كتاب الفجار الأول، والثاني، والثالث. وأمر المطيبين والأحلاف، ومقتل أبي أزيهر، ومجيء الفيل، وكل يوم جمع كان لقريش، فما سمعت لعمرو هذا في شيء من ذلك ذكراً. فإن قلت: إن نبل القاتل زيادة في نبل المقتول، فكل من قتله على ابن أبي طالب رضوان الله عليه أنبل منه وأحق بالشهرة، ولكن أشعار ابن دأب، ومناقلة الصبيان في الكتاب هما اللتان أورثتاه ما ترى وتسمع.

فصل منه في أمر الأخبار وإنما ذكرت هذا لتعلم أن الخبر قد يكون أصله ضعيفاً ثم يعود قوياً، ويكون أصله قوياً فيعود ضعيفاً، للذي يعتريه من الأسباب، ويحل به من الأعراض، من لدن مخرجه وفصوله، إلى أن يبلغ مدته، ومنتهى أجله، وغاية التدبير فيه، والمصلحة عليه. فلما كان هذا مخوفاً، وكان غير مأمون على المتقادم منه وضع الله تعالى لنا على رأس كل فترة علامة، وعلى غاية كل مدة أمارة، ليعيد قوة الخبر، ويجدد ما قد هم بالدروس، بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام أجمعين. لأن نوحاً عليه السلام هو الذي جدد الأخبار التي كانت في الدهر الذي بينه وبين آدم عليهما السلام، حتى منعها الخلل، وحماها النقصان بالشواهد الصادقة، والأمارات القائمة. وليس أن أخبارهم وحججهم قد كانت درست واختلت، بل حين همت بذلك وكادت. بعثه الله عز وجل بآياته لئلا تخلو الأرض من حججه، ولذلك سموا آخر الدهر الفترة. وبين الفترة والقطعة فرق. فاعرف ذلك. ثم بعث الله جل وعز إبراهيم عليه السلام على رأس الفترة الثانية التي كانت بينه وبين دهر نوح، وإنما جعلها الله تعالى أطول فترة كانت في الأرض، لأن نوحاً كان لبث في قومه يحتج ويخبر، ويؤكد ويبين، ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولأن آخر آياته كانت أعظم الآيات، وهي الطوفان، الذي أغرق الله تعالى به جميع أهل الأرض

غيره وغير شيعته، وإنما أفار الماء من جوف تنور، ليكون أعجب للآية، وأشهر للقصة، وأثبت للحجة. ثم ما زالت الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، بعضهم على إثر بعض في الدهر الذي بين إبراهيم، وبين عيسى عليهما السلام. فلترادف حججهم، وتظاهر أعلامهم، وكثرة أخبارهم، واستفاضة أمورهم، ولشدة ما تأكد ذلك في القلوب، ورسخ في النفوس، وظهر على الألسنة، لم يدخلها الخطل والنقص والفساد، في الدهر الذي كان بين النبي عليه السلام وبين عيسى عليه السلام. فحين همت بالضعف، وكادت تنقص عن التمام، وانتهت قوتها، بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، فجدد أقاصيص آدم ونوح، وموسى وهارون، وعيسى ويحيى، عليهم السلام، وأموراً بين ذلك، وهو الصادق، بالشواهد الصادقة، وأن الساعة آتية، وأنه ختم الرسل عليهم السلام به، فعلمنا عند ذلك أن حجته ستتم إلى مدتها، وبلوغ أمر الله عز وجل فيها. فصل ثم رجع الكلام إلى القول في الأخبار، فأقول: إن الناس موكلون بحكاية كل عجيب، وميسرون للإخبار عن

فى جنب ثانى كل عظيم، وليسوا للحسن أحكى منهم للقبيح، ولا لما ينفع أحكى منهم لما يضر، وعلى قدر كبر الشيء تكون حكايتهم له واستماعهم. ألا ترى أن رجلاً من الخلفاء لو ضرب عنق رجل من العظماء لما أمسى وفي عسكره وبلدته جاهل ولا عالم إلا وقد استقر ذلك عنده وثبت في قلبه، لأن الناس بين حاسد فهو يحكي ذلك الذي دخل عليه من الثكل وقلة العدد، وبين واجد يعجب الناس، وبين واعظ معتبر، وبين قوم شأنهم الأراجيف بالفاسد والصالح. ولو كان ضرب عنقه في يوم عيد، أو حلبة، أو استمطار، أو موسم، لكان أشد لاستفاضته، وأسرع لظهوره. ولو جاز أن يكتم الناس هذا وشبهه على الإيثار للكتمان، وعلى جهة النسيان، لكنا لا ندري: لعله قد كان في زمن صفين والجمل والنهروان حرب مثلها أو أشد منها، ولكن الناس آثروا الكتمان، واتفقوا على النسيان. فإذا كان قتل الملك الرجل من العظماء بهذه المنزلة من قلوب الأعداء، ومن قلوب الحكماء والغوغاء، فما ظنك بمن لو أبصروا رجلاً قد أحياه بعد أن ضرب عنقه، وأبان رأسه من جسده، أليس كان يكون تعجبهم من إحيائه أشد من تعجبهم من قتله، وكان يكون إخبارهم من خلفوا في منازلهم ومن ورد عليهم عن القتل ليكون سبباً للإخبار عن الإحياء، إذ كان الأول صغيراً في جنب الثاني.

فهذا يدل على أن أعلام الرسل عليهم السلام وآياتهم أحق بالظهور والشهرة، والقهر للقلوب والأسماع، من مخارجهم وشرائعهم. بل قد نعلم أن موسى عليه السلام لم يذكر ولم يشهر إلا لأعاجيبه وآياته. وكذلك عيسى عليه السلام، ولولا ذلك لما كانا إلا كغيرهما ممن لا يشعر بموته ولا مولده. وكيف تتقدم المعرفة بهما المعرفة بأعلامهما وأعاجيبهما، وأنت لم تسمع بذكرهما قط، دون ما ذكر من أعلامهما. فإذا كان شأن الناس الإخبار عن كل عجيب، وحكاية كل عظيم، والإطراف بكل طريف، وإيراد كل غريب من أمور دنياهم، فما لا يمتنع في طبائعهم، ولا يخرج من قوى الخليقة في البطش والحيلة، أحق بالإخبار والإذاعة، وبالإظهار والإفاضة، هذا على أن يترك الطباع وما يولد عليه، والنفوس وما تنتج، والعلل وما يسخر. فكيف إن كان الله عز وجل قد خص أعلام أنبيائه وآيات رسله عليهم السلام من تهييج الناس على الإخبار عنها، ومن تسخير الأسماع لحفظها، بخاصة لم يجعلها لغيرها. فصل منه فإن قال القائل: إن الحجة لا تكون حجة حتى تعجز الخليقة

وتخرج من حد الطاقة، كإحياء الموتى، والمشي على الماء، وكفلق البحر، وكإطعام الثمار في غير أوان الثمار، وكإنطاق السباع، وإشباع الكثير من القليل، وكل ما كان جسماً مخترعاً، وجرماً مبتدعاً. وكالذي لا يجوز أن يتولاه إلا الخالق، ولا يقدر عليه إلا الله عز ذكره. فأما الأخبار التي هي أفعال العباد، وهم تولوها، وبهم كانت وبقولهم حدثت، فلا يجوز أن يكون حجة، إذ كان لا حجة إلا ما لا يقدر عليه الخليقة، وما لا يتوهم من جميع البرية. قلنا: إنا لم نزعم أن الأخبار حجة فيحتجون علينا بها، وإنما زعمنا أن مجيئها حجة، والمجيء ليس هو أمر يتكلفه الناس ويختارونه على غيره، ولو كان كذلك لكانوا متى أرادوه فعلوه وتهيئوا له، ولفعلوه في الباطل كما يجيء لهم في الحق. والمجيء أيضاً ليس هو فعلاً قائماً فيستطيعوه أو يعجزوا عنه، وإنما هو الإنسان، يعلم أنه إذا لقي البصريين فأخبروه أنهم قد عاينوا بمكة شيئاً، ثم لقي الكوفيين فأخبروه بمثل ذلك، أنهم قد صدقوا. إذ كان مثلهم لا يتواطأ على مثل خبرهم على جهلهم بالغيب، وعلى اختلاف طبائعهم وهممهم وأسبابهم. فليس بين هذا وبين إحياء الموتى والمشي على الماء فرق، إذ كان الناس لا يقدرون عليه، ولا يطمعون فيه، والمجيء إنما هو معنىً

معقول، وشيء موهوم. إذ كان كيف يكون ومعلوم أن الناس لا يمكنهم أن يقدروا، ولا يستطيعون فعله. وإنما مدار أمر الحجة على عجز الخليقة. فمتى وجدت أمراً ووجدت الخليقة عاجزة عنه فهي حجة. ثم لا عليك جوهراً كان أو عرضاً، أو موجوداً أو متوهماً معقولاً. ألا ترى أن فلق البحر ليس هو من جنس اختراع الثمار، لأن الفلق هو انفراج أجزاء، والثمار أجرام حادثة. وكذلك لو ادعى رجل أن الله عز وجل أرسله وجعل حجته علينا الإخبار بما أكلنا وادخرنا وأضمرنا، لكان قد احتج علينا. فإن قلتم: إن المنجمين ربما أخبروا بالضمير، وبالأمر المستور، وببعض ما يكون. قلنا: أما واحدة فإن خطأ المنجمين كثير، وصوابهم قليل، بل هو أقل من القليل. وأنتم لا تقدرون أن تقفونا من أخبار المرسلين عليهم السلام في كثير أخبارهم على خطاء واحد، والذي سهل قليل المنجمين طرافة ذلك منهم، لأنهم لو قالوا فأخطئوا أبداً لما كان

عجبا، لأنه ليس بعجب أن يكون الناس لا يعلمون ما يكون قبل أن يكون، ومن أعجب العجب أن يوافق قولهم بعض ما يكون. وقد نجد المنجمين يختلفون في القضية الواحدة، ويخطئون في أكثرها. وقد نجد الرسول يخبرهم عما يأكلون ويشربون ويدخرون ويضمرون، في الأمور الكثيرة المعاني، والمختلفة في الوجوه، حتى لا يخطىء في شيء من ذلك. وليس في الأرض منجم ذكر شيئاً أو وافق ضميراً إلا وأنت واجد بعض من يزجر قد يجيء بمثله وأكثر منه. فإن قلت: إن الناس يكذبون في الإخبار عن الأعراب والكهان من كل جيل؟ قلنا: فهم في إخبارهم عن المنجمين أكذب. وبعد، فالناس غير مستعظمين لكثرة كذب المنجمين وخطاياهم وخدعهم، والناس يستعظمون اليسير من المرسلين عليهم السلام. وكلما كان الرجل في عينك أعظم، وكان عن الكذب أزجر، كان كذبه عندك أعظم. وإنما المنجم عند العوام كالطبيب الذي إن قتل المريض علاجه كان عندهم أن القضاء هو الذي قتله، وإن برأ كان هو أبرأه. على أن صوابهم أكثر، ودليلهم أظهر. وقد صار الناس لا يقتصرون للمنجمين على قدر ما يسمعون منهم، دون أن يولدوا لهم، ويضعوا الأعاجيب عن ألسنتهم.

وكل ملحد في الأرض للرسول طاعن عليه، عائب له، يرى أن يصدق عليه كل كذاب يريد ذمه، وأن يكذب كل صادق يريد مدحه. وبعد، فلو كان خبر المنجمين في الصواب كخبر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، الذي هو حجة، لما كان خبر المنجمين حجة. فإن قلت: ولم ذاك؟ قلت: لأن من كثر صوابه على غير استدلال ومقايسة، وعلى غير حساب وتجربة، أو على نظر ومعاينة لم يكن الأمر من قبل الوحي؛ لأنك لو قلت قصيدة في نفسك فحدثك بها رجل، وأنت تعلم أنه ليس بمنجم، وأنشدكها كلها، لعلمت أن ذلك لا يكون إلا بوحي. ومثل ذلك رجل اشتد وجع عينه فعالجه طبيب فبرأ، فلو جعل الطبيب ذلك حجة على نبوته لوجب علينا تكذيبه، ولو قال رجل من غير أن يمسه أو يدنو إليه: اللهم إن كنت صادقاً عليك فاشفه الساعة، فبرأ من ساعته لعلمنا أنه صادق. فإن قالوا: وما علمنا أن محمداً عليه السلام لم يكن منجماً؟ قلنا: إن علمنا بذلك كعلمنا بأن العباس وحمزة وعلياً وأبا بكر وعمر، رضوان الله عليهم أجمعين، لم يكونوا منجمين، ولا أطباء متكهنين. وكيف يجوز أن يصير إنسان عالماً بالنجوم من غير أن يختلف

إلى المنجمين، أو يختلفوا إليه، أو يكون علم النجوم فاشياً في أهل بلاده، أو يكون في أهله واحد معروف به. ولو بلغ إنسان في علم النجوم، وليست معه علة من هذه العلل، وكان ذلك يخفى، لكان ذلك كبعض الآيات والعلامات. ومتى رأينا حاذقاً بالكلام، أو بالطب، أو بالحساب، أو بالغناء، أو بالنجوم، أو بالعروض، خفي على الناس موضعه وسببه؟ ! وجميع ما ذكرنا، فعناية الناس به وعداوتهم، وشهرته في نفسه، دون محمد صلى الله عليه وسلم. وهل نصب أحد قط لأحد إلا بدون ما نصب له رهطه، وأدانى أهله، ومن معه في بيته وربعه. وما أعرف - يرحمك الله - المعاند والمسترشد والمصدق والمكذب، ينكر أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن منجماً ولا طبيباً. وإذا قال الجاهل: إنه قد كان يعلم الخط فخفي له ذلك، وتعلم الأسباب والقضاء في النجوم فخفي له ذلك، وتعلم البيان وقدر منه على ما يعجز أمثاله عنه وخفي ذلك، أليس مع قوله ما يعلم خلافه، يعلم أنه قد سلم له أعجوبة كأعجوبة إبراء الأكمه والأبرص، والمشي على الماء، إذ كان ذلك لا يجوز، ولا يمكن في الطبائع والعقل والتجربة. وافهم يرحمك الله ما أنا واصفه لك: هل يجد التارك لتصديقه

أنه لا يدري بزعمه، لعله كان أعلم الخلق بالنجوم، ناظراً لنفسه، غير معاند لحجة عقله. وهو لم يجد أحداً قط برع في صناعة واحدة فخفي على الناس موضعه بكل ما حكينا وفسرنا. وأنت كيف تعلم أنه ليس في إخوانك من ليس بمنجم، وأن فيهم من ليس بطبيب، إلا بمثل ما يعرف به رهط النبي صلى الله عليه وآله منه. وكيف لم يشتهر ذلك، ولم لم يحتج به عليه؟ ولقد بلغ من إسرافهم في شتمه، وإفراطهم عليه، أن نافقوا وأحالوا، لأنهم كانوا يقولون له: أنت ساحر، وأنت مجنون! وإنما يقال للرجل: ساحر، لخلابته وحسن بيانه، ولطف مكايده، وجودة مداراته وتحببه. ويقال: مجنون، لضد ذلك كله. فصل منه وليس ينتفع الناس بالكلام في الأخبار إلا مع التصادق، ولا تصادق إلا مع كثرة السماع، والعلم بالأصول؛ لأن رجلاً لو نازع في الأخبار، وفي الوعد والعيد، والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ، والفريضة والنافلة، والسنة والشريعة، والاجتماع والفرقة، ثم حسنت نيته، وناضح عن نفسه، لما عرف حقائق باطل دون أن يكون قد عرف الوجوه، وسمع الجمل، وعرف الموازنة، وما كان في الطبائع، وما يمتنع فيها. وكيف أيضاً يقول في التأويل من لم يسمع بالتنزيل؟ وكيف يعرف صدق الخبر من لم يعرف سبب الصدق؟

واعلم أن من عود قلبه التشكك اعتراه الضعف، والنفس عروف، فما عودتها من شيء جرت عليه. والمتحير إلى تقوية قلبه ورد قوته عليه وإفهامه موضع رأيه، وتوقيفه على الأمر الذي أثقل صدره، أحوج منه إلى المنازعة في فرق ما بين المجيء الذي يكذب مثله، والمجيء الذي لا يكذب مثله. وسنتكلف من علاج دائه، وترتيب إفهامه إن أعان على نفسه، بما لا يبقي سبباً للشك، ولا علة للضعف. والله تعالى المعين على ذلك، والمحمود عليه. فصل منه ومتى سمعنا نبي الله عليه السلام اتكل على عدالته، وعلى معرفة قومه بقديم طهارته، وقلة كذبه، دون أن جاءهم بالعلامات والبرهانات؟ ولعمري لو لم نجد الحافظ ينسى، والصادق يكذب، والمؤمن يبدل، لقد كان ما ذهبوا إليه وجهاً. فصل منه في ذكر دلائل النبي عليه الصلاة والسلام وباب آخر يعرف به صدقه، وهو إخباره عما يكون، وإخباره عن

ضمائر الناس، وما يأكلون وما يدخرون، ولدعائه المستجاب الذي لا تأخير فيه، ولا خلف له. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين لقي من قريش والعرب ما لقي من شدة أذاهم له، وتكذيبهم إياه، واستعانتهم عليه بالأموال والرجال، دعا الله جل وعز أن يجدب بلادهم، وأن يدخل الفقر بيوتهم، فقال صلى الله عليه وآله: " اللهم سنين كسني يوسف. اللهم اشدد وطأتك على مضر ". فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى مات الشجر، وذهب الثمر، وقلت المزارع، وماتت المواشي، وحتى اشتووا القد والعلهز. فعند ذلك وفد حاجب بن زرارة على كسرى، يشكو إليه الجهد والأزل ويستأذنه في رعي السواد، وهو حين ضمنه عن قومه، وأرهنه قوسه. فلما أصاب مضر خاصة الجهد، ونهكهم الأزل، وبلغت الحجة مبلغها، وانتهت الموعظة منتهاها، عاد بفضله صلى الله عليه وسلم، على الذي بدأهم به، فسأل ربه الخصب وإدرار الغيث، فأتاهم منه ما هدم بيوتهم، ومنعهم حوائجهم، فكلموه في ذلك فقال: " الله حوالينا ولا علينا ". فأمطر الله عز وجل ما حولهم، وأمسك عنهم. وكتب إلى كسرى يدعوه إلى نجاته وتخليصه من كفره، فبدأ باسمه على اسمه، فأنف من ذلك كسرى لشقوته، وأمر بتمزيق الكتاب،

فلما بلغه صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم مزق ملكه كل ممزق ". فمزق الله جل وعز ملكه، وجد أصله، وقطع دابره، لأن كل ملك في الأرض، وإن كان قد أخرج من معظم ملكه، فهو مقيم على بقية منه، وذلك أن الإسلام لم يترك ملكاً بحيث تناله الحوافر والأخفاف والأقدام، إلا أزاله عنه، وأخرجه منه إلى عقاب يعتصم بها، ومعاقل يأوي إليها، أو طرده إلى خليج منيع، لا يقطعه إلا السفن، فهم من بين هارب قد دخل في وجار، أو اختفى في غيضة، أو مقيم على فم شعب، ورأس مضيق، قد سخت نفسه عن كل سهل، وأسلم كل مرج أو ملك لا قرار له، وليس بذي مدر فيؤتى، وإنما أصحابه أكراد يطلبون النجعة، أو كخوارج يطلبون الغرة. فأما أن يكون ملك يصحر لهم، ويقيم بإزائهم، ويغاديهم الحرب ويمسيهم، ويساجلهم الظفر ويناهضهم، كما كانت ملوك الطوائف، وكالذي كان بين فارس والروم فلا، وذلك لقوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " إلى قوله عز ذكره: " المشركون ". فلم يرض أن أظهر دينه حتى جعل أهله الغالبين بالقدرة، والظاهرين بالمنعة، والآخذين الإتاوة.

وكتب كسرى إلى فيروز الديلمي، وهو من بقية أصحاب سيف بن ذي يزن: أن احمل إلى هذا العبد الذي بدأ باسمه قبل اسمي، واجترأ علي، ودعاني إلى غير ديني! فأتاه فيروز فقال: إن ربي أمرني أن أحملك إليه. فقال صلى الله عليه وسلم: " إن ربي خبرني أنه قد قتل ربك البارحة، فأمسك علي ريثما يأتيك الخبر، فإن تبين لك صدقي، وإلا فأنت على أمرك ". فراع ذلك فيروز وهاله، وكره الإقدام عليه، والاستخفاف به، فإذا الخبر قد أتاه: أن شيرويه قد وثب عليه في تلك الليلة فقتله. فأسلم وأخلص، ودعا من معه من بقية الفرس إلى الله عز ذكره فأسلموا. فصل منه في ذكر النبي صلى الله عليه وآله ثم إن الذي تقدمه صلى الله عليه وآله من البشارات في الكتب المتقادمة، في الأزمان المتباعدة، والبلدان الموجودة بكل مكان، على شدة عداوة أهلها، وتعصب حامليها، ومع قوة حسدهم، وشدة بغيهم. وما ذلك ببديع منهم ومن آبائهم، على أنهم أشبه بآبائهم منهم بأزمانهم. وكل الناس أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم. وآباؤهم الذين قتلوا أنبياءهم عليهم السلام، وتعنتوا رسلهم صلى الله عليهم، حتى خلاهم الله عز وجل من يده، وأفقدهم عصمته وتوفيقه.

ولم استدل على ذكره في التوراة والإنجيل والزبور، وعلى صفته والبشارة به في الكتب إلا لأنك متى وجدت النصراني واليهودي يسلم بأرض الشام وجدته يعتل بأمور، ويحتج بأشياء مثل الأمور التي يحتج بها من أسلم بالعراق. وكذلك من أسلم بالحجاز، ومن أسلم من اليمن، من غير تلاق ولا تعارف، ولا تشاعر. وكيف يتلاقون ويتراسلون، وهم غير متعارفين ولا متشاعرين؟ ولو كانوا كذلك لظهر ذلك ولم ينكتم، كما حكينا قبل هذا. ولو قابلت بين أخبارهم واحتجاجهم مع كثرة الألفاظ واختلاف المعاني، لوجدتها متساوية. فصل منه فإن قال قائل: لم كانت أعلام موسى عليه السلام في كثرتها مع غي بني إسرائيل، ونقصان أحلام القبط، في وزن أعلام محمد صلى الله عليه وسلم وفي قدرها، مع أحلام قريش، وعقول العرب. ومتى أحببت أن تعرف غي بني إسرائيل ونقصان أحلام القبط، ورجحان عقول العرب، وأحلام كنانة، فأت بواديهم ورباعهم. وانظر إلى بنيهم وبقاياهم، كما نظرت إلى بني إسرائيل من اليهود وغي بني من مضى من القبط تعتبر ذلك وتعرف

ما أقول. ثم انظر في أشعار العرب الصحيحة، والخطب المعروفة، والأمثال المضروبة، والألفاظ المشهورة، والمعاني المذكورة، مما نقلته الجماعات عن الجماعات، وكلام العرب ومعانيهم في الجاهلية. ثم تفقد، وسل أهل العلم والخبرة عن بني إسرائيل، فإن وجدت لهم مثلاً سائراً كما تسمع للقبط والفرس، فضلاً عن العرب فقد أبطلنا فيما قلنا. وقد كان الرجل من العرب يقف المواقف، ويسير عدة أمثال، كل واحد منها ركن يبنى عليه، وأصل يتفرع منه. أو هل تسمع لهم بكلام شريف، أو معنىً يستحسنه أهل التجربة، وأصحاب التدبير والسياسة، أو حكم أو حكمة، أو حذق في صناعة، مع ترادف الملك فيهم، وتظاهر الرسالة في رجالهم. وكيف لا تقضي عليهم بالغي والجهل، ولم تسمع لهم بكلمة فاخرة، أو معنىً نبيه، لا ممن كان في المبدى، ولا ممن كان في المحضر، ولا من قاطني السواد، ولا من نازلي الشام؟ ثم انظر إلى أولادهم مع طول لبثهم فينا، وكونهم معنا، هل غير

ذلك من أخلاقهم وشمائلهم، وعقولهم، وأحلامهم، وآدابهم، وفطنهم؟ فقد صلح بنا كثير من أمور النصارى وغيرهم. وليس النصارى كاليهود، لأن اليهود كلهم من بني إسرائيل إلا القليل. وبعد، فلم يضرب فيهم غيرهم، لأن مناكحهم مقصورة فيهم، ومحبوسة عليهم، فصور أولهم مؤداة إلى آخرهم، وعقول أسلافهم مردودة على أخلافهم، ثم اعتبر بقولهم لنبيهم عليه السلام: " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " حين مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم يعبدونها. وكقولهم: " أرنا الله جهرة "، وكعكوفهم على عجل صنع من حليهم، يعبدونه من دون الله، بعد أن أراهم من الآيات ما أراهم. وكقولهم: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون "، فكان الذي جاء به موسى عليه السلام، مع نقص بني إسرائيل والقبط، مثل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مع رجحان قريش والعرب. وكذلك وعد محمد عليه السلام بنار الأبد، كوعيد موسى بني إسرائيل بإلقاء الهلاس على زروعهم، والهم على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم، وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم

عدوهم. فكان تعجيل العذاب الأدنى في استدعائهم واستمالتهم، وردعهم عما يريد بهم، وتعديل طبائعهم، كتأخير العذاب الشديد على غيرهم، لأن الشديد المؤخر لا يزجر إلا أصحاب النظر في العواقب، وأصحاب العقول التي تذهب في المذاهب. فسبحان من خالف بين طبائعهم وشرائعهم ليتفقوا على مصالحهم في دنياهم، ومراشدهم في دينهم، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم مخصوص بعلامة لها في العقل موقع، كموقع فلق البحر من العين، وذلك قوله لقريش خاصة، وللعرب عامة، مع ما فيهما من الشعراء والخطباء والبلغاء، والدهاة والحلماء، وأصحاب الرأي والمكيدة، والتجارب والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي، وصدقتم في تكذيبي. ولا يجوز أن يكون مثل العرب في كثرة عددهم واختلاف عللهم، والكلام كلامهم، وهو سيد علمهم، فقد فاض بيانهم، وجاشت به صدورهم، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم، حتى قالوا في الحيات والعقارب، والذباب والكلاب، والخنافس والجعلان، والحمير والحمام، وكل ما دب ودرج، ولاح لعين، وخطر على قلب. ولهم بعد أصناف النظم، وضروب التأليف، كالقصيد، والرجز، والمزدوج، والمجانس، والأسجاع والمنثور.

وبعد، فقد هجوه من كل جانب، وهاجى أصحابه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجوه في المواقف، وخاصموه في المواسم، وبادوه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم، وقتلوا منه، وهم أثبت الناس حقداً، وأبعدهم مطلباً، وأذكرهم لخير أو لشر، وأنفاهم له، وأهجاهم بالعجز، وأمدحهم بالقوة، ثم لا يعارضه معارض، ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر. ومحال في التعارف، ومستنكر في التصادق، أن يكون الكلام أخصر عندهم، وأيسر مئونة عليهم، وهو أبلغ في تكذيبهم وأنقض لقوله، وأجدر أن يعرف ذلك أصحابه فيجتمعوا على ترك استعماله، والاستغناء به، وهم يبذلون مهجهم وأموالهم، ويخرجون من ديارهم في إطفاء أمره، وفي توهين ما جاء به، ولا يقولون، بل لا يقول واحد من جماعتهم: لم تقتلون أنفسكم، وتستهلكون أموالكم، وتخرجون من دياركم، والحيلة في أمره يسيرة، والمأخذ في أمره قريب؟ ! ليؤلف واحد من شعرائكم وخطبائكم كلاماً في نظم كلامه، كأقصر سورة يخذلكم بها، وكأصغر آية دعاكم إلى معارضتها. بل لو نسوا، ما تركهم حتى يذكرهم، ولو تغافلوا ما ترك أن ينبههم، بل لم يرض بالتنبيه دون التوقيف.

فدل ذلك العاقل على أن أمرهم في ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكونوا عرفوا عجزهم، وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم، فرأوا أن الإضراب عن ذكره، والتغافل عنه في هذا الباب وإن قرعهم به، أمثل لهم في التدبير، وأجدر أن لا يتكشف أمرهم للجاهل والضعيف، وأجدر أن يجدوا إلى الدعوى سبيلاً، وإلى اختداع الأنبياء سبباً، فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه، وهو قوله عز ذكره: " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ". وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز، والتوقيف على النقص، ثم لا يبذلون مجهودهم، ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله عز وجل أنفة، وأفرط حمية، وأطلبه بطائلة، وقد سمعوه في كل منهل وموقف. والناس موكلون بالخطابات، مولعون بالبلاغات. فمن كان شاهداً فقد سمعه، ومن كان غائباً فقد أتاه به من لم يزوده. وإما أن يكون غير ذلك. ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة وهم يقدرون عليها،

لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة والحلماء، مع اختلاف عللهم، وبعد هممهم، وشدة عداوتهم الإطباق على بذل الكثير، وصون اليسير. وهذا من ظاهر التدبير، ومن جليل الأمور التي لا تخفى على الجهال فكيف على العقلاء، وأهل المعارف فكيف على الأعداء، لأن تحبير الكلام أهون من القتال، ومن إخراج المال. ولم يقل: إن القوم قد تركوا مساءلته في القرآن والطعن فيه، بعد أن كثرت خصومتهم في غيره. ويدلك على ذلك قوله عز وجل: " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " وقوله عز ذكره: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله "، وقوله تعالى جل ذكره: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ". ويدلك كثرة هذه المراجعة، وطول هذه المناقلة، على أن التقريع لهم بالعجز كان فاشياً، وأن عجزهم كان ظاهراً.

ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم بالنظر والتأليف، ولم يكن أيضاً أزاح علتهم، حتى قال تعالى: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات " وعارضوني بالكذب، لقد كان في تفصيله له وتركيبه، وتقديمه له واحتجاجه، ما يدعو إلى معارضته ومغالبته وطلب مساويه. ولو لم يكن تحداهم من كل ما قلنا، وقرعهم بالعجز عما وصفنا وهل هذا إلا بمديحه له، وإكثاره فيه لكان ذلك سبباً موجباً لمعارضته ومغالبته وطلب تكذيبه، إذ كان كلامهم هو سيد عملهم، والمئونة فيه أخف عليهم، وقد بذلوا النفوس والأموال. وكيف ضاع منهم، وسقط على جماعتهم نيفاً وعشرين سنة، مع كثرة عددهم، وشدة عقولهم، واجتماع كلمتهم؟ ! وهذا أمر جليل الرأي، ظاهر التدبير. فصل منه في ذكر امتناعهم من معارضة القرآن لعلمهم بعجزهم عنها والذي منعهم من ذلك هو الذي منع ابن أبي العوجاء، وإسحاق بن

طالوت، والنعمان بن المنذر، وأشباههم من الأرجاس، الذين استبدلوا بالعز ذلاً، وبالإيمان كفراً، والسعادة شقوة، وبالحجة شبهة. بل لا شبهة في الزندقة خاصة. فقد كانوا يصنعون الآثار، ويولدون الأخبار، ويبثونها في الأمصار، ويطعنون في القرآن، ويسألون عن متشابهه، وعن خاصه وعامه، ويضعون الكتب على أهله. وليس شيء مما ذكرنا يستطيع دفعه جاهل غبي، ولا معاند ذكي. فصل منه ولما كان أعجب الأمور عند قوم فرعون السحر، ولم يكن أصحابه قط في زمان أشد استحكاماً فيه منهم في زمانه، بعث الله موسى عليه السلام على إبطاله وتوهينه، وكشف ضعفه وإظهاره، ونقض أصله لردع الأغبياء من القوم، ولمن نشأ على ذلك من السفلة والطغام. لأنه لو كان أتاهم بكل شيء، ولم يأتهم بمعارضة السحر حتى يفصل بين الحجة والحيلة، لكانت نفوسهم إلى ذلك متطلعة، ولاعتل به أصحاب الأشغاب، ولشغلوا به بال الضعيف، ولكن الله تعالى جده، أراد حسم الداء، وقطع المادة، وأن لا يجد المبطلون متعلقا،

ولا إلى اختداع الضعفاء سبيلاً، مع ما أعطى الله موسى عليه السلام من سائر البرهانات، وضروب العلامات. وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله، وعلى خاصة علمائه الطب، وكانت عوامهم تعظم على ذلك خواصهم، فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى، إذ كانت غايتهم علاج المرضى. وأبرأ لهم الأكمه إذ كانت غايتهم علاج الرمد، مع ما أعطاه الله عز وجل من سائر العلامات، وضروب الآيات؛ لأن الخاصة إذا بخعت بالطاعة، وقهرتها الحجة، وعرفت موضع العجز والقوة، وفصل ما بين الآية والحيلة، كان أنجع للعامة، وأجدر أن لا يبقى في أنفسهم بقية. وكذلك دهر محمد صلى الله عليه وسلم، كان أغلب الأمور عليهم، وأحسنها عندهم، وأجلها في صدورهم، حسن البيان، ونظم ضروب الكلام، مع علمهم له، وانفرادهم به. فحين استحكمت لفهمهم وشاعت البلاغة فيهم، وكثر شعراؤهم، وفاق الناس خطباؤهم، بعثه الله عز وجل، فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه.

فلم يزل يقرعهم بعجزهم، وينتقصهم على نقصهم، حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم، كما تبين لأقويائهم وخواصهم. وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبياً قط، مع سائر ما جاء به من الآيات، ومن ضروب البرهانات. ولكل شيء باب ومأتىً، واختصار وتقريب. فمن أحكم الحكمة إرسال كل نبي بما يفحم أعجب الأمور عندهم، ويبطل أقوى الأشياء في ظنهم. فصل في ذكر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة، ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل الخاصة. وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجتمع لبشر قط قبله، ولا تجتمع لبشر بعده. وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط كصبره، ولا كحلمه، ولا كوفائه، ولا كزهده، ولا كجوده، ولا كنجدته، ولا كصدق لهجته، وكرم عشرته، ولا كتواضعه، ولا كعلمه، ولا كحفظه، ولا كصمته إذا صمت، ولا كقوله إذا قال، ولا كعجيب منشئه، ولا كقلة

تلونه، ولا كعفوه، ولا كدوام طريقته، وقلة امتنانه. ولم نجد شجاعاً قط إلا وقد جال جولة، وفر فرة، وانحاز مرة، من معدودي شجعان الإسلام، ومشهوري فرسان الجاهلية، كفلان وفلان. وبعد، فقد نصر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه قوم، ولم نر كنجدتهم نجدة، ولا كصبرهم صبراً. وقد كانت لهم الجولة والفرة، كما قد بلغك عن يوم أحد، وعن يوم حنين، وغير ذلك من الوقائع والأيام. فلا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري، أن يحدث أن محمداً عليه السلام جال جولة قط، ولا فر فرة قط، ولا خام عن غزوة، ولا هاب حرب من كاثره.

فصل من صدر كتابه في خلق القرآن

ثبتك الله بالحجة، وحصن دينك من كل شبهة، وتوفاك مسلماً، وجعلك من الشاكرين. وقد أعجبني، حفظك الله، استهداؤك العلم وفهمك له، وشغفك بالإنصاف وميلك إليه، وتعظيمك الحق وموالاتك فيه، ورغبتك عن التقليد وزرايتك عليه، ومواترة كتبك على بعد دارك، وتقطع أسبابك، وصبرك إلى أوان الإمكان، واتساعك عند تضايق العذر. وفهمت، حفظك الله، كتابك الأول، وما حثثت عليه من تبادل العلم، والتعاون على البحث، والتحاب في الدين، والنصيحة لجميع المسلمين. وقلت: اكتب إلي كتاباً تقصد فيه إلى حاجات النفوس، وإلى صلاح القلوب، وإلى معتلجات الشكوك، وخواطر الشبهات، دون الذي عليه أكثر المتكلمين من التطويل، ومن التعمق والتعقيد، ومن تكلف ما لا يجب، وإضاعة ما يجب. وقلت: كن كالمعلم الرفيق، والمعالج الشفيق، الذي يعرف الداء وسببه، والدواء وموقعه، ويصبر على طول العلاج، ولا يسأم كثرة الترداد.

وقلت: اجعل تجارتك التي إياها تؤمل، وصناعتك التي إياها تعتمد إصلاح الفساد، ورد الشارد. وقلت: ولا بد من استجماع الأصول، ومن استيفاء الفروع، ومن حسم كل خاطر، وقمع كل ناجم، وصرف كل هاجس، ودفع كل شاغل، حتى تتمكن من الحجة، وتتهنأ بالنعمة، وتجد رائحة الكفاية، وتثلج ببرد اليقين، وتفضي إلى حقيقة الأمر. إن كان لا بد من عوارض العجز، ولواحق التقصير، فالبر لها أجمل، والضرر علينا في ذلك أيسر. وقلت: ابدأ بالأقرب فالأقرب، وبكل ما كان آنق في السمع، وأحلى في الصدر، وبالباب الذي منه يؤتى الريض المتكلف، والجسور المتعجرف، وبكل ما كان أكثر علماً، وأنفذ كيدا. وسألتني بتقبيح الاستبداد، والعجلة إلى الاعتقاد، وصفة الأناة ومقدارها، ومقدمات العلوم ومنتهاها. وزعمت أن من اللفظ ما لا يفهم معناه دون الإشارة، ودون معرفة السبب والهيئة، ودون إعادته وكره وتحريره واختياره.

وقلت: فإن أنت لم تصور ذلك كله صورة تغني عن المشافهة، وتكتفي بظاهرها عن المراسلة أحوجتنا إلى لقائك، على بعد دارك، وكثرة أشغالك، وعلى ما تخاف من الضيعة وفساد المعيشة. فكتبت لك كتاباً، أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعان. فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي، ولا لحشوي، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام، ممن يزعم أن القرآن خلق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة. فلما ظننت أني قد بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك، أتاني كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن. وكانت مسألتك مبهمة، ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفاً، فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما، وأغمضهما معنىً وأطولهما. ولولا ما اعتللت به من اعتراض الرافضة، واحتجاج القوم علينا بمذهب معمر، وأبي كلدة، وعبد الحميد، وثمامة، وكل من

زعم أن أفعال الطبيعة مخلوقة على المجاز دون الحقيقة، وأن متكلمي الحشوية والنابتة قد صار لهم بمناظرة أصحابنا، وبقراءة كتبنا بعض الفطنة لما كتبت لك، رغبة بك عن أقدارهم، وضناً بالحكمة عن إعثارهم، وإنما يكتب على الخصوم والأكفاء، وللأولياء على الأعداء، ولمن يرى للنظر حقاً، وللعلم قدراً، وله في الإنصاف مذهب، وإلى المعرفة سبب. وزعمت أنك لم تر في كتب أصحابنا إلا كتاباً لا تفهمه، أو كتاباً وجدت الحجة على واضع الكتاب فيه أثبت. وقلت: وإياك أن تتكل على مقدار ما عندهم، دون أن تعتصر قوى باطلهم، وتوفيهم جميع حقوقهم، وإذا تقلدت الإخبار عن خصمك فحطه كحياطتك لنفسك، فإن ذلك أبلغ في التعليم، وآيس للخصوم.

وقلت: وزعموا أنه يلزمك أن تزعم أن القرآن ليس بمخلوق إلا على المجاز، كما ألزم ذلك نفسه معمر وأبو كلدة وعبد الحميد وثمامة، وكل من ذهب مذهبهم، وقاس قياسهم. فتفهم - فهمك الله - ما أنا واصفه لك، ومورده عليك: اعلم أن القوم يلزمهم ما ألزموه أنفسهم، وليس ذلك إلا لعجزهم عن التخلص بحقهم، وإلا لذهابهم عن قواعد قولهم، وفروع أصولهم، فليس لك أن تضيف العجز الذي كان منهم إلى أصل مقالتهم، وتحمل ذلك الخطأ على غيرهم. فلرب قول شريف الحسب، جيد المركب، وافر العرض، بريء من العيوب، سليم من الأفن، قد ضيعه أهله، وهجنه المفترون عليه، فألزموه ما لا يلزمه، وأضافوا إليه ما لا يجوز عليه. ولو زعم القوم على أصل مقالتهم أن القرآن هو الجسم دون الصوت والتقطيع، والنظم والتأليف، وأنه ليس بصوت ولا تقطيع ولا تأليف، إذ كان الصوت عندهم لا يخترع كاختراع الأجسام المصورة، ولا يحتمل التقطيع كاحتمال الأجرام المتجسدة، والصوت عرض، لا يحدث من جوهر إلا بدخول جوهر آخر عليه، ومحال أن يحدث إلا وهناك جسمان قد صك أحدهما صاحبه، ولا بد من مكانين: مكان زال عنه، ومكان آل إليه. ولا بد من هواء بين المصطكين. والجسم قد يحدث وحده ولا شيء غيره، والصوت على خلاف ذلك.

والعرض لا يقوم بنفسه، ولا بد من أن يقوم بغيره، والأعراض من أعمال الأجسام، لا تكون إلا منها، ولا توجد إلا بها وفيها. والجسم لا يكون إلا من جسم، ولا يكون إلا من مخترع الأجسام. وليست لكون الجسم من الله علة توجيه، ولا يحدث إذا حدث إلا اختياراً، وإلا ابتداعاً واختراعاً. والصوت لا يكون إلا عن علة موجبة، ولا يكون إلا تولداً ونتيجة، ولا يحدث إلا من جرمين، كاصطكاك الحجرين، وكقرع اللسان باطن الأسنان، وإلا من هواء يتضاغط، وريح تختنق، ونار تلتهب. والريح عندهم هواء تحرك، والنار عندهم ريح حارة. هكذا الأمر عندهم. فلو قالوا: لا يكون الشيء مخلوقاً في الحقيقة، دون المجاز وعلى مجازي اللغة، إلا وقد بان الله عز وجل باختراعه، وتولاه بابتداعه، وكان منه على اختيار، والابتداع: الذي يمكن تركه وإنشاء عقيبه بدلاً منه، على ما كان يوكده، ونتيجته من أجسام يستحيل أن يخلق من أفعالها، ويجلبها الله تعالى منها. والقرآن على غير ذلك، جسم وصوت، وذو تأليف وذو نظم، وتوقيع وتقطيع، وخلق قائم بنفسه، مستغن عن غيره، ومسموع في الهواء، ومرئي في الورق، ومفصل وموصل، واجتماع وافتراق،

ويحتمل الزيادة والنقصان، والفناء والبقاء، وكل ما احتملته الأجسام، ووصفت به الأجرام. وكل ما كان كذلك فمخلوق في الحقيقة دون المجاز وتوسع أهل اللغة. فلو كانوا قالوا ذلك لكانوا أصابوا في القياس، ووافقوا أهل الحق، وكانوا مع الجماعة، ولم يضاهوا أهل الخلاف والفرقة، ولم يصموا أنفسهم بقول المشبهة، إذ كان ظاهر قولهم على التشبيه أدل، وبه أشبه. ولا يجوز أن أذكر موافقتي لهم، ومخالفتي عليهم في صدر هذا الكتاب، لأن التدبير في وضع الكتاب، والسياسة في تعليم الجهال أن يبدأ بالأوضح فالأوضح، والأقرب فالأقرب، وبالأصول قبل الفروع، حتى يكون آخر الكتاب لآخر القياس. وآخر الكلام لا يفهم - أرشدك الله - ولا يتوهم إلا على ترتيب الأمور، وتقديم الأصول. فإذا رتبنا الأمور، وقدمنا الأصول صارت أواخر المعاني في الفهم كأوائلها، ودقيقها كجليلها. فصل منه وقد علمنا أن بعض ما فيه الاختلاف بين من ينتحل الإسلام أعظم فرية، وأشد بلية، وأشنع كفراً، وأكبر إثماً من كثير مما أجمعوا على أنه كفر.

وبعد، فنحن لم نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس، ولا امتحان الظنين من هتك الأسرار. ولو كان كل كشف هتكاً، وكل امتحان تجسساً، لكان القاضي أهتك الناس لستر، وأشد الناس كشفاً لعورة. والذين خالفوا في العرش إنما أرادوا نفي التشبيه فغلطوا، والذين أنكروا أمر الميزان إنما كرهوا أن تكون الأعمال أجساماً وأجراماً غلاظاً. فإن كانوا قد أصابوا فلا سبيل عليهم، وإن كان قد أخطئوا فإن خطأهم لا يتجاوز بهم إلى الكفر. وقولهم وخلافهم بعد ظهور الحجة تشبيه للخالق بالمخلوق، فبين المذهبين أبين الفرق. وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم، يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة والمخلصين، إعذاراً وإنذاراً: امتحنتني وأنت تعرف ما في المحنة، وما فيها من الفتنة، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة! قال المعتصم: أخطأت، بل كذبت، وجدت الخليفة قبلي قد حبسك وقيدك، ولو لم يكن حبسك على تهمة لأمضى الحكم فيك، ولو لم يخفك على الإسلام ما عرض لك، فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة، ولا من طريق الاعتساف، ولا من طريق كشف العورة، إذ كانت حالك هذه الحال، وسبيلك هذه السبيل. وقيل للمعتصم في ذلك المجلس: ألا تبعث إلى أصحابه حتى يشهدوا إقراره، ويعاينوا انقطاعه، فينقض ذلك استبصارهم، فلا يمكنه

جحد ما أقر به عندهم؟ فأبى أن يقبل ذلك، وأنكره عليهم، وقال: لا أريد أن أوتى بقوم إن اتهمتهم ميزت فيهم بسيرتي فيهم، وإن بان لي أمرهم أنفذت حكم الله فيهم، وهم ما لم أوت بهم كسائر الرعية، وكغيرهم من عوام الأمة، وما من شيء أحب إلي من الستر، ولا شيء أولى بي من الأناة والرفق. وما زال به رفيقاً، وعليه رقيقاً، ويقول: لأن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق! حتى رآه يعاند الحجة، ويكذب صراحاً عند الجواب. وكان آخر ما عاند فيه، وأنكر الحق وهو يراه، أن أحمد بن أبي دواد قال له: أليس لا شيء إلا قديم أو حديث؟ قال: نعم. قال: أو ليس القرآن شيئاً؟ قال: نعم. قال: أو ليس لا قديم إلا الله؟ قال: نعم. قال: فالقرآن إذاً حديث؟ قال: ليس أنا متكلم. وكذلك كان يصنع في جميع مسائله، حتى كان يجيبه في كل ما سأل عنه، حتى إذا بلغ المخنق، والموضع الذي إن قال فيه كلمة واحدة برىء منه صاحبه قال: ليس أنا متكلم!

فلا هو قال في أول الأمر: لا علم لي بالكلام، ولا هو حين تكلم فبلغ موضع ظهور الحجة، خضع للحق. فمقته الخليفة، وقال عند ذلك: أف لهذا الجاهل مرة، والمعاند مرة. وأما الموضع الذي واجه فيه الخليفة بالكذب، والجماعة بالقحة، وقلة الاكتراث وشدة التصميم، فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد: تزعم أن الله رب القرآن؟ قال: لو سمعت أحداً يقول ذلك لقلت. قال: أفما سمعت ذلك قط من حالف ولا سائل، ولا من قاص، ولا في شعر، ولا في حديث؟ ! قال: فعرف الخليفة كذبه عند المسألة، كما عرف عنوده عند الحجة. وأحمد بن أبي دواد - حفظك الله - أعلم بهذا الكلام، وبغيره من أجناس العلم، من أن يجعل هذا الاستفهام مسألة، ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة. ولكنه أراد أن يكشف لهم جرأته على الكذب، كما كشف لهم جرأته في المعاندة. فعند ذلك ضربه الخليفة. وأية حجة لكم في امتحاننا إياكم، وفي إكفارنا لكم. وزعم يومئذ أن حكم كلام الله كحكم علمه، فكما لا يجوز أن

يكون علمه محدثاً ومخلوقاً، فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقاً محدثاً. فقال له: أليس قد كان الله يقدر أن يبدل آية مكان آية، وينسخ آية بآية، وأن يذهب بهذا القرآن، ويأتي بغيره، وكل ذلك في الكتاب مسطور؟ قال: نعم. قال: فهل كان يجوز هذا في العلم، وهل كان جائزاً أن يبدل الله علمه، ويذهب به، ويأتي بغيره؟ قال: ليس. وقال له: روينا في تثبيت ما نقول الآثار، وتلونا عليك الآية من الكتاب، وأريناك الشاهد من النقول التي بها لزم الناس الفرائض، وبها يفصلون بين الحق والباطل، فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث. فلم يكن ذلك عنده، ولا استخزى من الكذب عليه في غير هذا المجلس، لأن عدة من حضره أكثر من أن يطمع أحداً أن يكون الكذب يجوز عليه. وقد كان صاحبكم هذا يقول: لا تقية إلا في دار الشرك. فلو كان ما أقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية فقد أعمل التقية في دار الإسلام، وقد أكذب نفسه. وإن كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم منه، وليس منكم. على أنه لم ير سيفاً مشهوراً، ولا ضرب ضرباً كثيراً، ولا ضرب إلا ثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار، مشعثة الأطراف، حتى أفصح بالإقرار مراراً. ولا كان في مجلس

ضيق، ولا كانت حاله حال مؤيسة، ولا كان مثقلاً بالحديد، ولا خلع قلبه بشدة الوعيد. ولقد كان ينازع بألين الكلام، ويجيب بأغلظ الجواب، ويرزنون ويخف، ويحلمون ويطيش. وعبتم علينا إكفارنا إياكم، واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث. وقلتم: تكفروننا على إنكار شيء يحتمله التأويل، ويثبت بالأحاديث، فقد ينبغي لكم أن لا تحتجوا في شيء من القدر والتوحيد بشيء من القرآن، وأن لا تكفروا أحداً خالفكم في شيء وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا، وإلى عداوتنا والنصب لنا. فصل منه وأصحابنا - حفظك الله - إذا قاسوا خطأهم، ومروا على غلطهم فإنما ينقضون به شيئاً من العرض والجوهر، وشيئاً من قولهم في المعلوم والمجهول فقط. وهم قوم يكفيهم من التنبيه أقله، ومن القول أيسره. وخطأ النابتة وقول الرافضة تشبيه مصرح، وكفر مجلح، فليس هذا الجنس من ذلك الجنس. والحمد لله. وأما إخبارهم عن عيبنا إياهم حين لم يقولوا: إن الله تعالى رب القرآن، وفينا من يقول: إن الله تبارك وتعالى رب الكفر والإيمان،

فإنا لم نسألهم عن ذلك من جهة ما يتوهمون، وإنما سألناهم عنه بجحدهم ما يرون بأبصارهم، ويسمعون بآذانهم، في الأشعار المعروفة، وفي الخطب المشهورة، وفي الابتهال عند الدعاء، وعلى ألسنة العوام والدهماء، وعند العهود والأيمان، وعند تعظيم القرآن، وبما يسمعون من السؤال في الطرقات، ومن القصاص في المساجد، لا يرون عائباً، ولا يسمعون زاريا. وليس أنا جعلنا هذا مسألة على من أنكر خلق القرآن، ولكنا أردنا أن نبين للضعفاء معاندتهم، وفرارهم من البهت، ومكابرتهم إذا سمعوا أنهم لم يسمعوا الناس يقولون: ورب القرآن، ورب ياسين، ورب طه، وأشباه ذلك. ولعمري أن لو سمعوا الناس يقولون عند أيمانهم وابتهالهم إلى ربهم، على غير قصد إلى خلاف ولا وفاق: ورب الزنى والسرق، ورب الكفر والكذب، كما سمعوهم يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه! ثم ألزمناهم خلق القرآن بمثل ما لهم علينا في خلق الزنى لقد كان ذلك معارضة صحيحة، وموازنة معروفة. وأما قولهم: إن معنا العامة، والعباد، والفقهاء، وأصحاب الحديث، وليس معهم إلا أصحاب الأهواء، ومن يأخذ دينه من أول

الرجال، فأي صاحب هو - يرحمك الله - أبعد من الجماعة من الرافضة، وهم في هذا المعنى أشقاؤهم وأولياؤهم، لأن ما خالفوهم فيه صغير في جنب ما وافقوهم عليه، والذين سموهم أصحاب أهواء هم المتكلمون، والمصلحون والمستصلحون، والمميزون. وأصحاب الحديث والعوام هم الذين يقلدون ولا يحصلون، ولا يتخيرون، والتقليد مرغوب عنه في حجة العقل، منهي عنه في القرآن، قد عكسوا الأمور كما ترى، ونقضوا العادات. وذلك أنا لا نشك أن من نظر وبحث، وقابل ووازن، أحق بالتبين، وأولى بالحجة. وأما قولهم: منا النساك والعباد، فعباد الخوارج وحدهم أكثر عدداً من عبادهم، على قلة عدد الخوارج في جنب عددهم، على أنهم أصحاب نية، وأطيب طعمة، وأبعد من التكسب، وأصدق ورعاً، وأقل رياءً، وأدوم طريقة، وأبذل للمهجة، وأقل جمعاً ومنعا، وأظهر زهداً وجهداً. ولعل عبادة عمرو بن عبيد تفي بعبادة عامة عبادهم. وأما قولهم: إن للقرآن قلباً وسناماً ولساناً وشفتين، وأنه يقدس ويشفع ويمحل، فإن هذا كله قد يجوز أن يكون مثلا، ويجوز أن

يجعله الله كذلك إذا كان جسماً، والله على ذلك قادر، وهو له غير معجز، ومنه غير مستحيل. وكل فعل لا يكون عيباً، ولا ظلماً ولا بخلاً ولا كذباً، ولا خطاءً في التدبير، فهو جائز، والتعجب منه غير جائز. فصل منه وما أكثر من يجيب في المسائل، ويؤلف الكتب على قدر ما يسنح له في وهمه، وعلى قدر ما يتصور له في حاله تلك، لا يعمل على أصل، أو لا يشعر بالذي انبنى عليه ذلك الأصل، وإن كان ممن يعمل على أصل. وإنما صار علماؤنا إلى ما صاروا إليه لأنهم لا يقفون من القول في خلق القرآن على جواب مهذب، ومذهب مصفى، وعلى قول مفروغ منه، وعلى جوابات بأعيانها. فقد رددوا فيها النظر، وامتحنوها بأغلظ المحن، وقلبوها أكثر التقليب، وتبطنوا معانيها بأبلغ التفكير، وتعرفوا كل ما فيها، واعتصروا جميع قواها، وسهلوا سبلها، وذللوا العبارة عنها، احتقاراً منهم لمن خالفهم، واتكالاً على طول السلامة منهم، وثقة بطول الظفر بهم. ومن تمام أمر صاحب الحق أن لا يتكل على عجز الخصم، وأن لا يعجب بظهوره على من لا حظ له في العلم.

وعلى العلماء أن يخافوا دول العلم، كما يخاف الملوك دول الملك. وقد رأيت البكرية، والجبرية، والفضلية، والشمرية، وإنهم لأحقر عند المعتزلة من جعل مما زالوا يستقون من علمائهم، ويستمدون من كبرائهم، ويدرسون كتبهم، ويأخذون ألفاظهم في جميع أمورهم، حتى رأيت شبيبتهم ونابتتهم، يدعون أنهم أكفاء، ويجمع بينهم في البلاء. والنابتة اليوم في التشبيه مع الرافضة، وهم دائبون في التألم من المعتزلة. غدرهم كثير، ونصبهم شديد، والعوام معهم، والحشو يطيعهم. الآن معك أمران: السلطان وميلهم إليه، وخوفهم منه. والعاقبة للمتقين.

فصل من صدر كتابه في الرد على النصارى

الحمد لله الذي من علينا بتوحيده، وجعلنا ممن ينفي شبهة خلقه وسياسة عباده، وجعلنا لا نفرق بين أحد من رسله، ولا نجحد كتاباً أوجب علينا الإقرار به، ولا نضيف إليه ما ليس منه، إنه حميد مجيد، فعال لما يريد. أما بعد فقد قرأت كتابكم، وفهمت ما ذكرتم فيه من مسائل النصارى قبلكم، وما دخل على قلوب أحداثكم وضعفائكم من اللبس، والذي خفتموه على جواباتهم من العجز، وما سألتم من إقرارهم بالمسائل، ومن حسن معونتهم بالجواب. وذكرتم أنهم قالوا: إن الدليل على أن كتابنا باطل، وأمرنا فاسد، أننا ندعي عليهم ما لا يعرفونه فيما بينهم، ولا يعرفونه من أسلافهم، لأنا نزعم أن الله جل وعز قال في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله "، وأنهم زعموا أنهم لم يدينوا قط بأن

مريم إله في سرهم، ولا ادعوا ذلك قط في علانيتهم. وأنهم زعموا أنا ادعينا عليهم ما لا يعرفون، كما ادعينا على اليهود ما لا يعرفون، حين نطق كتابنا، وشهد نبينا: أن اليهود قالوا: إن عزيراً ابن الله، وإن يد الله مغلولة، وإن الله فقير وهم أغنياء. وهذا ما لا يتكلم به إنسان، ولا يعرف في شيء من الأديان. ولو كانوا يقولون في عزير ما نحلتمون وادعيتموه، لما جحدوه من دينهم، ولما أنكروا أن يكون من قولهم، ولما كانوا بإنكار بنوة عزير أحق منا بإنكار بنوة المسيح، ولما كان علينا منكم بأس بعد عقد الذمة، وأخذ الجزية. وذكرتم أنهم قالوا: ومما يدل على غلطكم في الأخبار، وأخذكم العلم عن غير الثقات، أن كتابكم ينطق: أن فرعون قال لهامان: " ابن لي صرحاً ". وهامان لم يكن إلا في زمن الفرس، وبعد زمن فرعون بدهر طويل، وإن ذلك معروف عند أصحاب الكتب، مشهور عند أهل العلم. وإنما اتخذ صرحاً ليكون إذا علاه أشرف على الله. وفرعون لا يخلو من أن يكون جاحداً لله تعالى، أو مقراً به. فإن كان دينه عند نفسه وأهل مملكته نفي الله وجحده، فما وجه اتخاذ الصرح وطلب الإشراف، وليس هناك شيء ولا إله؟

وإن كان مقراً بالله عارفاً به، فلا يخلو من أن يكون مشبهاً أو نافياً للتشبيه. فإن كان ممن ينفي الطول والعرض والعمق والحدود والجهات، فما وجه طلبه له في مكان بعينه، وهو عنده بكل مكان؟ وإن كان مشبهاً فقد علم أنه ليس في طاقة بني آدم أن يبنوا بنياناً، أو يرفعوا صرحاً يخرق سبع سموات بأعماقهن، والأجزاء التي بينهن، حتى يحاذي العرش ثم يعلوه. وفرعون وإن كان كافراً فلم يكن مجنوناً، ولا كان إلى نقص العقل من بين الملوك منسوباً. على أن الحكم قد يقوم بعقول الملوك بالفضيلة على عقول الرعية. وذكرتم أنهم قالوا: تزعمون أن الله تعالى ذكر يحيى بن زكريا يخبر أنه " لم يجعل له من قبل سمياً "، وأنهم يجدون في كتبهم وفيما لا يختلف فيه خاصتهم وعامتهم أنه كان من قبل يحيى بن زكريا غير واحد يقال له يحيى، منهم: يوحنا بن فرح. وزعمتم أنهم قالوا لكم: إنكم ذكرتم أن الله قال في كتابه لنبيكم: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "، وإنما عنى بقوله: " أهل الذكر ":

أهل التوراة، وأصحاب الكتب يقولون: إن الله قد بعث من النساء نبيات، منهم مريم بنت عمران، وبعث منهم حنة، وسارى، ورفقى. وذكرتم أنهم قالوا: زعمتم أن عيسى تكلم في المهد، ونحن على تقديمنا له، وتقريبنا لأمره، وإفراطنا بزعمكم فيه، على كثرة عددنا، وتفاوت بلادنا، واختلافنا فيما بيننا، لا نعرف ذلك ولا ندعيه، وكيف ندعيه ولم نسمعه عن سلف، ولا ادعاه منا مدع. ثم هذه اليهود لا تعرف ذلك، وتزعم أنها لم تسمع به إلا منكم، ولا تعرفه المجوس، ولا الصابئون، ولا عبادة البددة من الهند وغيرهم،

ولا الترك والخزر، ولا بلغنا ذلك عن أحد من الأمم السالفة، والقرون الماضية، ولا في الإنجيل، ولا في ذكر صفات المسيح في الكتب والبشارات به على ألسنة الرسل. ومثل هذا لا يجوز أن يجهله الولي والعدو، وغير الولي وغير العدو، ولا يضرب به مثل، ولا يروح به الناس، ثم يجمع النصارى على رده، مع حبهم لتقوية أمره. ولم يكونوا ليضادوكم فيما يرجع عليهم نفعه. وكيف لم يكذبوكم في إحيائه الموتى، ومشيه على الماء، وإبراء الأكمه والأبرص؟ ! بل لم يكونوا ليتفقوا على إظهار خلاف دينهم، وإنكار أعظم حجة كانت لصاحبهم، ومثل هذا لا ينكتم ولا ينفك ممن يخالف وينم. والكلام في المهد أعجب من كل عجب، وأغرب من كل غريب، وأبدع من كل بديع؛ لأن إحياء الموتى والمشي على الماء، وإقامة المقعد، وإبراء الأعمى، وإبراء الأكمه قد أتت به الأنبياء، وعرفه الرسل، ودار في أسماعهم. ولم يتكلم صبي قط، ولا مولود في المهد. وكيف ضاعت هذه الآية، وسقطت حجة هذه العلامة من بين كل علامة؟ ! وبعد، فكل أعجوبة يأتي بها الرجال، والمعروفون بالبيان،

والمنسوبون إلى صواب الرأي، تكون الحيلة في الظن إليها أقرب، وخوف الخدعة عليها أغلب. والصبي المولود عاجز في الفطرة، ممتنع من كل حيلة، لا يحتاج فيه إلى نظر، ولا يشبهه من شاهده بدخل. فصل منه وسنقول في جميع ما ورد علينا من مسائلكم، وفيما لا يقع إليكم من مسائلهم، بالشواهد الظاهرة، والحجج القوية، والأدلة الاضطرارية، ثم نسألهم بعد جوابنا إياهم عن وجوه يعرفون بها انتقاض قولهم، وانتشار مذهبهم، وتهافت دينهم. ونحن نعوذ بالله من التكلف وانتحال ما لا نحسن، ونسأله القصد في القول والعمل، وأن يكون ذلك لوجهه، ولنصرة دينه، إنه قريب مجيب. فأنا مبتدىء في ذكر الأسباب التي لها صارت النصارى أحب إلى العوام من المجوس، وأسلم صدوراً عندهم من اليهود، وأقرب مودة، وأقل غائلة، وأصغر كفراً، وأهون عذاباً. ولذلك أسباب كثيرة، ووجوه واضحة، يعرفها من نظر، ويجهلها من لم ينظر.

أول ذلك أن اليهود كانوا جيران المسلمين بيثرب وغيرها، وعداوة الجيران شبيهة بعداوة الأقارب في شدة التمكن وثبات الحقد، وإنما يعادي الإنسان من يعرف، ويميل على من يرى، ويناقض من يشاكل، ويبدو له عيوب من يخالط. وعلى قدر الحب والقرب يكون البغض والبعد، ولذلك كانت حروب الجيران وبني الأعمام من سائر الناس وسائر العرب أطول، وعداوتهم أشد. فلما صار المهاجرون لليهود جيراناً، وقد كانت الأنصار متقدمة الجوار، مشاركة في الدار، حسدتهم اليهود على النعمة في الدين، والاجتماع بعد الافتراق، والتواصل بعد التقاطع، وشبهوا على العوام، واستمالوا الضعفة، ومالئوا الأعداء والحسدة، ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة، إلى المناجزة والمنابذة بالعداوة، فجمعوا كيدهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في قتالهم، وإخراجهم من ديارهم، وطال ذلك واستفاض فيهم وظهر، وترادف لذلك الغيظ، وتضاعف البغض، وتمكن الحقد. وكانت النصارى لبعد ديارهم، من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومهاجره، لا يتكلفون طعنا، ولا يثيرون كيداً،

ولا يجمعون على حرب. فكان هذا أول أسباب ما غلظ القلوب على اليهود، ولينها على النصارى. ثم كان من أمر المهاجرين إلى الحبشة، واعتمادهم على تلك الجنبة ما حببهم إلى عوام المسلمين. وكلما لانت القلوب لقوم غلظت على أعدائهم، وبقدر ما نقص من بغض النصارى زاد في بغض اليهود. ومن شأن الناس حب من اصطنع إليهم خيراً أو جرى على يديه، أراد الله بذلك أو لم يرده، وبقصد كان أم باتفاق. وأمر آخر، وهو من أمتن أسبابهم وأقوى أمورهم، وهو تأويل آية غلطت فيها العامة حتى نازعت الخاصة، وحفظتها النصارى واحتجت، واستمالت قلوب الرعاع والسفلة، وهو قول الله تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ". إلى قوله: " وذلك جزاء المحسنين ". وفي نفس الآية أعظم الدليل على أن الله تعالى لم يعن هؤلاء النصارى ولا أشباههم: الملكانية واليعقوبية، وإنما عنى

ضرب بحيرا، وضرب الرهبان الذين كان يخدمهم سلمان. وبين حمل قوله: " الذين قالوا إنا نصارى " على الغلط منهم في الأسماء، وبين أن نجزم عليهم لأنهم نصارى فرق. كما ذكر اليهود أنه جاء الإسلام وملوك العرب رجلان: غساني ولخمي، وهما نصرانيان، وقد كانت العرب تدين لهما، وتؤدي الإتاوة لهما، فكان تعظيم قلوبهم لهما راجعاً إلى تعظيم دينهما. وكانت تهامة، وإن كانت لقاحاً لا تدين الدين، ولا تؤدي

الإتاوة، ولا تدين للملوك، فإنها كانت لا تمتنع من تعظيم ما عظم الناس، وتصغير ما صغروا. ونصرانية النعمان وملوك غسان مشهورة في العرب، معروفة عند أهل النسب، ولولا ذلك لدللت عليها بالأشعار المعروفة، والأخبار الصحيحة. وقد كانت تتجر إلى الشام، وينفذ رجالها إلى ملوك الروم، ولها رحلة في الشتاء والصيف، في تجارة مرة إلى الحبشة، ومرة قبل الشام، ومرة بيثرب، ومصيفها بالطائف، ومرة منيحين مستأنفاً بحمده، فكانوا أصحاب نعمة، وذلك مشهور مذكور في القرآن، وعند أهل المعرفة. وقد كانت تهاجر إلى الحبشة، وتأتي باب النجاشي وافدة، فيحبوهم بالجزيل، ويعرف لهم الأقدار، ولم تكن تعرف كسرى، ولا تأنس بهم. وقيصر والنجاشي نصرانيان، فكان ذلك أيضاً للنصارى، دون اليهود. والآخر من الناس تبع للأول في تعظيم من عظم، وتصغير من صغر.

وأخرى: أن العرب كانت النصرانية فيهل فاشية، وعليها غالبة، إلا مضر، فلم تغلب عليها يهودية ولا مجوسية، ولم تفش فيها النصرانية، إلا ما كان من قوم منهم نزلوا الحيرة يسمون: العباد، فإنهم كانوا نصارى، وهم مغمورون مع نبذ يسير في بعض القبائل. ولم تعرف مضر إلا دين العرب، ثم الإسلام. وغلبت النصرانية على ملوك العرب وقبائلها: على لخم، وغسان، والحارث بن كعب بنجران، وقضاعة، وطي، في قبائل كثيرة، وأحياء معروفة. ثم ظهرت في ربيعة فغلبت على تغلب وعبد القيس وأفناء بكر، ثم في آل ذي الجدين خاصة. وجاء الإسلام وليست اليهودية بغالبة على قبيلة، إلا ما كان من ناس من اليمانية، ونبذ يسير من جميع إياد وربيعة. ومعظم اليهودية إنما كانت بيثرب وحمير وتيماء ووادي القرى، في ولد هارون، دون العرب. فعطف قلوب دهماء العرب على النصارى الملك الذي كان فيهم، والقرابة التي كانت لهم. ثم رأت عوامنا أن فيها ملكاً قائماً، وأن فيهم عرباً كثيرة، وأن بنات الروم ولدن لملوك الإسلام، وأن في

النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين، فصاروا بذلك عندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء، ولم يروا ذلك في اليهود. وإنما اختلفت أحوال اليهود والنصارى في ذلك لأن اليهود ترى أن النظر في الفلسفة كفر، والكلام في الدين بدعة، وأنه مجلبة لكل شبهة، وأنه لا علم إلا ما كان في التوراة وكتب الأنبياء، وأن الإيمان بالطب، وتصديق المنجمين من أسباب الزندقة والخروج إلى الدهرية، والخلاف على الأسلاف وأهل القدوة، حتى إنهم ليبهرجون المشهور بذلك، ويحرمون كلام من سلك سبيل أولئك. ولو علمت العوام أن النصارى والروم ليست لهم حكمة ولا بيان، ولا بعد روية، إلا حكمة الكف، من الخرط والنجر والتصوير، وحياكة البزيون لأخرجتهم من حدود الأدباء، ولمحتهم من ديوان الفلاسفة والحكماء؛ لأن كتاب المنطق والكون والفساد، وكتاب العلوي، وغير ذلك، لأرسطاطاليس، وليس برومي ولا نصراني. وكتاب المجسطي لبطليموس، وليس برومي ولا نصراني. وكتاب إقليدس لإقليدس، وليس برومي ولا نصراني.

وكتاب الطب لجالينوس، ولم يكن رومياً ولا نصرانياً. وكذلك كتب ديمقراط وبقراط وأفلاطون، وفلان وفلان. وهؤلاء ناس من أمة قد بادوا وبقيت آثار عقولهم، وهم اليونانيون، ودينهم غير دينهم، وأدبهم غير أدبهم، أولئك علماء، وهؤلاء صناع أخذوا كتبهم لقرب الجوار، وتداني الدار، فمنها ما أضافوه إلى أنفسهم، ومنها ما حولوه إلى ملتهم. إلا ما كان من مشهور كتبهم، ومعروف حكمهم، فإنهم حين لم يقدروا على تغيير أسمائها زعموا أن اليونانيين قبيل من قبائل الروم، ففخروا بأديانهم على اليهود، واستطالوا بها على العرب، وبذخوا بها على الهند، حتى زعموا أن حكماءنا أتباع حكمائهم، وأن فلاسفتنا اقتدوا على أمثالهم، فهذا هذا. ودينهم - يرحمك الله - يضاهي الزندقة، ويناسب في بعض وجوهه قول الدهرية، وهم من أسباب كل حيرة وشبهة. والدليل على ذلك أنا لم نر أهل ملة قط أكثر زندقة من النصارى، ولا أكثر متحيراً أو مترنحاً منهم. وكذلك شأن كل من نظر في الأمور الغامضة بالعقول الضعيفة: ألا ترى أن أكثر من قتل في الزندقة ممن كان ينتحل الإسلام ويظهره،

هم الذين آباؤهم وأمهاتهم نصارى. على أنك لو عددت اليوم أهل الظنة ومواضع التهمة لم تجد أكثرهم إلا كذلك. ومما عظمهم في قلوب العوام، وحببهم إلى الطغام، أن منهم كتاب السلاطين، وفراشي الملوك، وأطباء الأشراف، والعطارين والصيارفة. ولا تجد اليهودي إلا صباغاً، أو دباغاً، أو حجاماً، أو قصاباً، أو شعاباً. فلما رأت العوام اليهود والنصارى توهمت أن دين اليهود في الأديان كصناعتهم في الصناعات، وأن كفرهم أقذر الكفر، إذ كانوا هم أقذر الأمم. وإنما صارت النصارى أقل مساخة من اليهود، على شدة مساخة النصارى، لأن الإسرائيلي لا يزوج إلا الإسرائيلي، وكل مناكحهم مردودة فيهم، ومقصورة عليهم، وكانت الغرائب لا تشوبهم، وفحولة الأجناس لا تضرب ولا تضرب فيهم، لم ينجبوا في عقل ولا أسر ولا ملح. وإنك لتعرف ذلك في الخيل والإبل، والحمير والحمام. ونحن - رحمك الله - لم نخالف العوام في كثرة أموال النصارى، وأن فيهم ملكاً قائماً، وأن ثيابهم أنظف، وأن صناعتهم أحسن.

وإنما خالفنا في فرق ما بين الكفرين والفرقتين، في شدة المعاندة واللجاجة، والإرصاد لأهل الإسلام بكل مكيدة، مع لؤم الأصول، وخبث الأعراق. فأما الملك والصناعة والهيئة، فقد علمنا أنهم اتخذوا البراذين الشهرية، والخيل العتاق، واتخذوا الجوقات، وضربوا بالصوالجة، وتحذفوا المديني، ولبسوا الملحم والمطبقة، واتخذوا الشاكرية، وتسموا بالحسن والحسين، والعباس وفضل وعلي، واكتنوا بذلك أجمع، ولم يبق إلا أن يتسموا بمحمد، ويكتنوا بأبي القاسم. فرغب إليهم المسلمون، وترك كثير منهم عقد الزنانير، وعقدها آخرون دون ثيابهم، وامتنع كثير من كبرائهم من إعطاء الجزية، وأنفوا مع أقدارهم من دفعها وسبوا من سبهم، وضربوا من ضربهم.

وما لهم لا يفعلون ذلك وأكثر منه، وقضاتنا أو عامتهم يرون أن دم الجاثليق والمطران والأسقف وفاء بدم جعفر وعلي والعباس وحمزة. ويرون أن النصراني إذا قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم بالغواية أنه ليس عليه إلا التعزير والتأديب، ثم يحتجون أنهم إنما قالوا ذلك لأن أم النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مسلمة. فسبحان الله العظيم! ما أعجب هذا القول وأبين انتشاره! ومن حكم النبي صلى الله عليه وسلم: أن لا يساوونا في المجلس، ومن قوله: " وإن سبوكم فاضربوهم، وإن ضربوكم فاقتلوهم ". وهم إذا قذفوا أم النبي عليه السلام بالفاحشة لم يكن له عند أمته إلا التعزير والتأديب. وزعموا أن افتراءهم على النبي ليس بنكث للعهد، ولا بنقض للعقد. وقد أمر النبي عليه السلام أن يعطونا الضريبة عن يد منا عالية في قبولنا منهم، وعقدنا لذمتهم، دون إراقة دمهم. وقد حكم الله تعالى عليهم بالذلة والمسكنة.

أو ما ينبغي للجاهل أن يعلم أن الأئمة الراشدين، والسلف المتقدمين لم يشترطوا عند أخذ الجزية، وعقد الذمة عدم الافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، إلا لأن ذلك عندهم أعظم في العيون، وأجل في الصدور من أن يحتاجوا إلى تخليده في الكتب، وإلى إظهار ذكره بالشرط، وإلى تثبيته بالبينات، بل لو فعلوا ذلك لكان فيه الوهن عليهم، والمطمعة فيهم، ولظنوا أنهم في القدر الذي يحتاج فيه إلى هذا وشبهه. وإنما يتواثق الناس في شروطهم، ويفسرون في عهودهم ما يمكن فيه الشبهة، أو يقع فيه الغلط، أو يغبى عنه الحاكم، وينساه الشاهد، ويتعلق به الخصم، فأما الواضح الجلي، والظاهر الذي لا يخيل فما وجه اشتراطه، والتشاغل بذكره. وأما ما احتاجوا إلى ذكره في الشروط، وكان مما يجوز أن يظهر في العهد فقد فعلوه، وهو كالذلة والصغارة، وإعطاء الجزية، ومقاسمة الكنائس، وأن لا يعينوا بعض المسلمين على بعض، وأشباه ذلك. فأما

أن يقولوا لمن هو أذل من الذليل، وأقل من القليل، وهو الطالب الراغب في أخذ فديته، والإنعام عليه بقبض جزيته وحقن دمه: نعاهدك على أن لا تفتري على أمة رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين. فهذا ما لا يجوز في تدبير أوساط الناس، فكيف بالجلة والعلية، وأئمة الخليقة، ومصابيح الدجى، ومنار الهدى، مع أنفة العرب، وبأو السلطان، وغلبة الدولة، وعز الإسلام، وظهور الحجة، والوعد بالنصرة. على أن هذه الأمة لم تبتل باليهود، ولا المجوس، ولا الصابئين كما ابتليت بالنصارى. وذلك أنهم يتبعون المتناقض من أحاديثنا، والضعيف بالأسناد من روايتنا، والمتشابه من آي كتابنا، ثم يخلون بضعفائنا، ويسألون عنها عوامنا، مع ما قد يعلمون من مسائل الملحدين، والزنادقة الملاعين، وحتى مع ذلك ربما تبرءوا إلى علمائنا، وأهل الأقدار منا، ويشغبون على القوي، ويلبسون على الضعيف. ومن البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم، وأنه ليس أحد أحق بمحاجة الملحدين من أحد. وبعد، فلولا متكلمو النصارى وأطباؤهم ومنجموهم ما صار إلى

أغبيائنا وظرفائنا، ومجاننا وأحداثنا شيء من كتب المنانية، والديصانية، والمرقونية، والفلانية، ولما عرفوا غير كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكانت تلك الكتب مستورة عند أهلها، ومخلاة في أيدي ورثتها. فكل سخنة عين رأيناها في أحداثنا وأغبيائنا فمن قبلهم كان أولها. وأنت إذا سمعت كلامهم في العفو والصفح، وذكرهم للسياحة، وزرايتهم على كل من أكل اللحمان، ورغبتهم في أكل الحبوب، وترك الحيوان، وتزهيدهم في النكاح، وتركهم لطلب الولد، ومديحهم للجاثليق والمطران والأسقف والرهبان، بترك النكاح وطلب النسل، وتعظيمهم الرؤساء علمت أن بين دينهم وبين الزندقة نسباً، وأنهم يحنون إلى ذلك المذهب.

والعجب أن كل جاثليق لا ينكح، ولا يطلب الولد. وكذلك كل مطران، وكل أسقف. وكذلك كل أصحاب الصوامع من اليعقوبية، والمقيمين في الديارات والبيوت من النسطورية. وكل راهب في الأرض وراهبة، مع كثرة الرهبان والرواهب، ومع تشبه أكثر القسيسين بهم في ذلك، ومع ما فيهم من كثرة الغزاة، وما يكون فيهم مما يكون في الناس، من المرأة العاقر، والرجل العقيم. على أن من تزوج منهم امرأة لم يقدر على الاستبدال بها، ولا على أن يتزوج أخرى معها، ولا على التسري عليها. وهم مع هذا قد طبقوا الأرض، وملئوا الأفاق، وغلبوا الأمم بالعدد، وبكثرة الولد. وذلك مما زاد في مصائبنا، وعظمت به محنتنا. ومما زاد فيهم، وأنمى عددهم، أنهم يأخذون من سائر الأمم، ولا يعطونهم، لأن كل دين جاء بعد دين، أخذ منه الكثير، وأعطاه القليل. فصل منه ومما يدل على قلة رحمتهم، وفساد قلوبهم أنهم أصحاب الخصاء من بين جميع الأمم، والخصاء أشد المثلة، وأعظم ما ركب به إنسان ثم يفعلون ذلك بأطفال لا ذنب لهم، ولا دفع عندهم.

ولا نعرف قوماً يعرفون بخصاء الناس حيث ما كانوا إلا ببلاد الروم والحبشة، وهم في غيرهما قليل، وأقل قليل. على أنهم لم يتعلموا إلا منهم، ولا كان السبب في ذلك غيرهم، ثم خصوا أبناءهم وأسلموهم في بيعهم. وليس الخصاء إلا في دين الصابئين، فإن العابد ربما خصى نفسه، ولا يستحل خصاء ابنه. فلو تمت إرادتهم في خصاء أولادهم في ترك النكاح وطلب النسل كما حكيت لك قبل هذا لانقطع النسل، وذهب الدين، وفتن الخلق. والنصراني وإن كان أنظف ثوباً، وأحسن صناعة، وأقل مساخة، فإن باطنه ألأم وأقذر وأسمج، لأنه أقلف، ولا يغتسل من الجنابة، ويأكل لحم الخنزير، وامرأته جنب لا تطهر من الحيض، ولا من النفاس، ويغشاها في الطمث، وهي مع ذلك غير مختونة. وهم مع شرارة طبائعهم، وغلبة شهواتهم ليس في دينهم مزاجر كنار الأبد في الآخرة، وكالحدود والقود والقصاص في الدنيا، فكيف يجانب ما يفسده، ويؤثر ما يصلحه من كانت حاله كذلك. وهل يصلح الدنيا من هو كما قلنا؟ وهل يهيج على الفساد إلا من وصفنا؟

ولو جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك أن تفهم قولهم في المسيح، لما قدرت عليه، حتى تعرف به حد النصرانية، وخاصة قولهم في الإلهية. وكيف تقدر على ذلك وأنت لو خلوت ونصراني نسطوري فسألته عن قولهم في المسيح لقال قولاً، ثم إن خلوت بأخيه لأمه وأبيه وهو نسطوري مثله فسألته عن قولهم في المسيح لأتاك بخلاف أخيه وصنوه. وكذلك جميع الملكانية واليعقوبية. ولذلك صرنا لا نعقل حقيقة النصرانية، كما نعرف جميع الأديان. على أنهم يزعمون أن الدين لا يخرج في القياس، ولا يقوم على المسائل، ولا يثبت في الامتحان، وإنما هو بالتسليم لما في الكتب، والتقليد للأسلاف. ولعمري، إن من كان دينه دينهم ليجب عليه أن يعتذر بمثل عذرهم. وزعموا أن كل من اعتقد خلاف النصرانية من المجوس والصابئين والزنادقة فهو معذور، ما لم يتعمد الباطل، ويعاند الحق. فإذا صاروا إلى اليهود قضوا عليهم بالمعاندة، وأخرجوهم من طريق الغلط والشبهة. فصل منه فأما مسألتهم في كلام عيسى في المهد: أن النصارى مع حبهم لتقوية أمره لا يثبتونه، وقولهم: إنا تقولناه ورويناه عن غير الثقات،

وأن الدليل على أن عيسى لم يتكلم في المهد أن اليهود لا يعرفونه، وكذلك المجوس، وكذلك الهند والخزر والديلم. فنقول في جواب مسألتهم عند إنكارهم كلام المسيح في المهد مولوداً. يقال لهم: إنكم حين سويتم المسألة وموهتموها، ونظمتم ألفاظها، ظننتم أنكم قد أنجحتم، وبلغتم غايتكم. ولعمري لئن حسن ظاهرها، وراع الأسماع مخرجها، إنها لقبيحة المفتش، سيئة المعرى. ولعمري أن لو كانت اليهود تقر لكم بإحياء الأربعة الذين تزعمون، وإقامة المقعد الذي تدعون، وإطعام الجمع الكثير من الأرغفة اليسيرة، وتصيير الماء جمداً، والمشي على الماء، ثم أنكرت الكلام في المهد من بين جميع آياته وبراهينه لكان لكم في ذلك مقال، وإلى الطعن سبيل. فأما وهم يجحدون ذلك أجمع، فمرة يضحكون، ومرة يغتاظون ويقولون: إنه صاحب رقىً ونيرجات، ومداوي

مجانين، ومتطبب، وصاحب حيل وتربص خدع، وقراءة كتب، وكان لسناً مسكيناً، ومقتولاً مرحوماً، ولقد كان قبل ذلك صياد سمك، وصاحب شبك، وكذلك أصحابه. وأنه خرج على مواطأة منهم له، وأنه لم يكن لرشدة. وأحسنهم قولاً، وألينهم مذهباً من زعم أنه ابن يوسف النجار. وأنه قد كان واطأ ذلك المقعد قبل إقامته بسنين، حتى إذا شهره بالقعدة، وعرف موضعه في الزمنى، مر به في جمع من الناس كأنه لا يريده، فشكا إليه الزمانة وقلة الحيلة، وشدة الحاجة، فقال: ناولني يدك. فناوله يده، فاجتذبه فأقامه، فكان تجمع لطول القعود، حتى استمر بعد ذلك. وأنه لم يحي ميتاً قط، وإنما كان داوى رجلاً يقال له لا عازر إذ أغمي عليه يوماً وليلة، وكانت أمه ضعيفة العقل، قليلة المعرفة، فمر بها، فإذا هي تصرخ وتبكي، فدخل إليها

ليسكتها ويعزيها، وجس عرقه فرأى فيه علامة الحياة، فداواه حتى أقامه، فكانت لقلة معرفتها لا تشك أنه قد مات، ولفرحها بحياته تثني عليه بذلك، وتتحدث به. فكيف تستشهدون قوماً هذا قولهم في صاحبكم، حين قالوا: كيف يجوز أن يتكلم صبي في المهد مولوداً، فيجهله الأولياء والأعداء. ولو كانت المجوس تقر لعيسى بعلامة واحدة، وبأدنى أعجوبة، لكان لكم أن تنكروا علينا بهم، وتستعينوا بإنكارهم. فأما وحال عيسى في جميع أمره عند المجوس كحال زرادشت في جميع أمره عند النصارى فما اعتلالهم به، وتعلقهم في إنكارهم؟ وأما قولكم: وكيف لم تعرف الهند والخزر والترك ذلك؟ فمتى أقرت الهند لموسى بأعجوبة واحدة، فضلاً عن عيسى؟ ومتى أقرت لنبي بآية، أو روت له سيرة، حتى تستشهدوا الهند على كلام عيسى في المهد؟ ومتى كانت الترك والديلم والخزر والببر والطيلسان مذكورة في شيء من هذا الجنس، محتجاً بها على هذا الضرب؟

فإن سألونا عن أنفسهم فقالوا: ما لنا لا نعرف ذلك ولم يبلغنا عن أحد بتة؟ أجبناهم بعد إسقاط نكيرهم وتشنيعهم، وتزوير شهودهم. وجوابنا: أنهم إنما قبلوا دينهم عن أربعة أنفس: اثنان منهم من الحواريين بزعمهم: يوحنا، ومتى. واثنان من المستجيبة وهما: مارقش ولوقش، وهؤلاء الأربعة لا يؤمن عليهم الغلط ولا النسيان، ولا تعمد الكذب، ولا التواطؤ على الأمور، والاصطلاح على اقتسام الرياسة، وتسليم كل واحد منهم لصاحبه حصته التي شرطها له. فإن قالوا: إنهم كانوا أفضل من أن يتعمدوا كذباً، وأحفظ من أن ينسوا شيئاً، وأعلى من أن يغلطوا في دين الله تعالى، أو يضيعوا عهدا. قلنا: إن اختلاف رواياتهم في الإنجيل، وتضادها في كتبهم، واختلافهم في نفس المسيح، مع اختلاف شرائعهم، دليل على صحة قولنا فيهم، وغفلتكم عنهم.

وما ينكر من مثل لوقش أن يقول باطلاً، وليس من الحواريين، وقد كان يهودياً قبل ذلك بأيام يسيرة، ومن هو عندكم من الحواريين خير من لوقش عند المسيح في ظاهر الحكم بالطهارة، والطباع الشريفة، وبراءة الساحة. فصل منه سألتم عن قولهم: إذا كان تعالى قد اتخذ عبداً من عباده خليلاً، فهل يجوز أن يتخذ عبداً من عباده ولداً، يريد بذلك إظهار رحمته له، ومحبته إياه، وحسن تربيته وتأديبه له، ولطف منزلته منه، كما سمى عبداً من عباده خليلاً، وهو يريد تشريفه وتعظيمه، والدلالة على خاص حاله عنده. وقد رأيت من المتكلمين من يجيز ذلك ولا ينكره، إذا كان ذلك على التبني والتربية والإبانة له بلطف المنزلة، والاختصاص له بالمرحمة والمحبة، لا على جهة الولادة، واتخاذ الصاحبة. ويقول: ليس في القياس فرق بين اتخاذ الولد على التبني والتربية وبين اتخاذ الخليل على الولاية والمحبة. وزعم أن الله تعالى يحكم في الأسماء بما أحب، كما أن له أن يحكم في المعاني بما أحب. وكان يجوز دعوى أهل الكتاب على التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء صلوات الله عليهم في قولهم: إن الله قال: " إسرائيل

بكري " أي هو أول من تبنيت من خلقي. وأنه قال: " إسرائيل بكري، وبنوه أولادي ". وأنه قال لداود: " سيولد لك غلام، ويسمى لي ابناً، وأسمى له أباً ". وأن المسيح قال في الإنجيل: " أنا أذهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم "، وأن المسيح أمر الحواريين أن يقولوا في صلواتهم: " يا أبانا في السماء، تقدس اسمك ". في أمور عجيبة، ومذاهب شنيعة، يدل على سوء عبادة اليهود، وسوء تأويل أصحاب الكتب، وجهلهم مجازات الكلام، وتصاريف اللغات، ونقل لغة إلى لغة، وما يجوز على الله، وما لا يجوز. وسبب هذا التأويل كله الغي والتقليد، واعتقاد التشبيه. وكان يقول: إنما وضعت الأسماء على أقدار المصلحة، وعلى قدر ما يقابل من طبائع الأمم. فربما كان أصلح الأمور وأمتنها أن يتبناه الله أو يتخذه خليلاً، أو يخاطبه بلا ترجمان، أو يخلقه من غير ذكر، أو يخرجه من بين عاقر وعقيم. وربما كانت المصلحة غير ذلك

كله. وكما تعبدنا أن نسميه جواداً ونهانا أن نسميه سخياً أو سرياً وأمرنا أن نسميه مؤمناً ونهانا أن نسميه مسلماً، وأمرنا أن نسميه رحيماً ونهانا أن نسميه رفيقاً. وقياس هذا كله واحد، وإنما يتسع ويسهل على قدر العادة وكثرتها. ولعل ذلك كله قد كان شائعاً في دين هود وصالح وشعيب وإسماعيل، إذ كان شائعاً في كلام العرب في إثبات ذلك وإنكاره. وأما نحن - رحمك الله - فإنا لا نجيز أن يكون لله ولد، لا من جهة الولادة، ولا من جهة التبني، ونرى أن تجويز ذلك جهل عظيم، وإثم كبير؛ لأنه لو جاز أن يكون أباً ليعقوب لجاز أن يكون جداً ليوسف، ولو جاز أن يكون جداً وأباً، وكان ذلك لا يوجب نسبا، ولا يوهم مشاكلة في بعض الوجوه، ولا ينقص من عظم، ولا يحط من بهاء، لجاز أيضاً أن يكون عماً وخالاً؛ لأنه إن جاز أن يسميه من أجل المرحمة والمحبة والتأديب أباً، جاز أن يسميه آخر من جهة التعظيم والتفضيل والتسويد أخاً، ولجاز أن يجد له صاحباً وصديقاً، وهذا ما لا يجوزه إلا من لا يعرف عظمة الله، وصغر قدر الإنسان. وليس بحكيم من ابتذل نفسه في توقير عبده، ووضع من قدره في التوفر على غيره. وليس من الحكمة أن تحسن إلى عبدك بأن تسيء إلى

نفسك، وتأتي من الفضل ما لا يجب بتضييع ما يجب. وكثير الحمد لا يقوم بقليل الذم، ولم يحمد الله ولم يعرف إلهيته من جوز عليه صفات البشر، ومناسبة الخلق، ومقاربة العباد. وبعد، فلا يخلو المولى في رفع عبده وإكرامه من أحد أمرين: إما أن يكون لا يقدر على كرامته إلا بهوان نفسه، ويكون على ذلك قادراً، مع وفارة العظمة، وتمام البهاء. وإن كان لا يقدر على رفع قدر غيره إلا بأن ينقص من قدر نفسه فهذا هو العجز، وضيق الذرع. وإن كان على ذلك قادراً فآثر ابتذال نفسه والحط من شرفه فهذا هو الجهل الذي لا يحتمل. والوجهان عن الله جل جلاله منفيان. ووجه آخر يعرفون به صحة قولي، وصواب مذهبي، وذلك أن الله تبارك وتعالى لو علم أنه فد كان فيما أنزل من كتبه على بني إسرائيل: إن أباكم كان بكري وابني، وإنكم أبناء بكري لما كان تغضب عليهم إذ قالوا: نحن أبناء الله، فكيف لا يكون ابن ابن الله ابنه،

وهذا من تمام الإكرام، وكمال المحبة، ولا سيما إن كان قال في التوراة: بنو إسرائيل أبناء بكري. وأنت تعلم أن العرب حين زعمت أن الملائكة بنات الله كيف استعظم الله تعالى ذلك وأكبره، وغضب على أهله، وإن كان يعلم أن العرب لم تجعل الملائكة بناته على الولادة واتخاذ الصاحبة، فكيف يجوز مع ذلك أن يكون الله قد كان يخبر عباده قبل ذلك بأن يعقوب ابنه، وأن سليمان ابنه، وأن عزيراً ابنه، وأن عيسى ابنه؟. فالله تعالى أعظم من أن يكون له أبوة من صفاته، والإنسان أحقر من أن يكون بنوة الله من أنسابه. والقول بأن الله يكون أباً وجداً وأخاً وعماً، للنصارى ألزم، وإن كان للآخرين لازماً، لأن النصارى تزعم أن الله هو المسيح بن مريم، وأن المسيح قال للحواريين: " إخوتي ". فلو كان للحواريين أولاد لجاز أن يكون الله عمهم! بل قد يزعمون أن مرقش هو ابن شمعون الصفا، وأن زوزري ابنته، وأن النصارى تقر أن في إنجيل مرقش: " ما زاذ أمك وإخوتك على الباب " وتفسيرها: ما زاذ: معلم. فهم لا يمتنعون من أن يكون الله تبارك وتعالى أباً وجداً وعماً.

ولولا أن الله قد حكى عن اليهود أنهم قالوا: إن " عزيراً ابن الله "، " ويد الله مغلولة "، و " إن الله فقير ونحن أغنياء " وحكى عن النصارى أنهم قالوا: " المسيح ابن الله " وقال: " قالت النصارى المسيح ابن الله ". وقال: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " لكنت لأن أخر من السماء أحب إلي من أن ألفظ بحرف مما يقولون. ولكني لا أصل إلى إظهار جميع مخازيهم، وما يسرون من فضائحهم، إلا بالإخبار عنهم، والحكاية منهم. فإن قالوا: خبرونا عن الله، وعن التوراة، أليست حقاً؟ قلنا: نعم. قالوا: فإن فيها " إسرائيل بكري " وجميع ما ذكرتم عنا معروف في الكتب. قلنا: إن القوم إنما أتوا من قلة المعرفة بوجوه الكلام، ومن سوء الترجمة، مع الحكم بما يسبق إلى القلوب. ولعمري أن لو كانت لهم عقول المسلمين ومعرفتهم بما يجوز في كلام العرب، وما يجوز على الله، مع فصاحتهم بالعبرانية، لوجدوا لذلك الكلام تأويلاً حسناً، ومخرجاً سهلاً، ووجهاً قريباً. ولو كانوا أيضاً لم يعطلوا في سائر ما ترجموا لكان لقائل مقال، ولطاعن مدخل، ولكنهم يخبرون أن

الله تبارك وتعالى قال في العشر الآيات التي كتبتها أصابع الله: " إني أنا الله الشديد، وإني أنا الله الثقف، وأنا النار التي تأكل النيران، آخذ الأبناء بحوب الآباء، القرن الأول والثاني والثالث إلى السابع ". وأن داود قال في الزبور: " وافتح عينك يا رب " وقم يا رب "، و " أصغ إلي سمعك يا رب ". وأن داود خبر أيضاً في مكان آخر عن الله تعالى: " وانتبه الله كما ينتبه السكران الذي قد شرب الخمر ". وأن موسى قال في التوراة: " خلق الله الأشياء بكلمته، وبروح نفسه ". وأن الله قال في التوراة لبني إسرائيل: " بذراعي الشديدة أخرجتكم من أهل مصر ". وأنه قال في كتاب إشعياء: " احمد الله حمداً جديداً، احمده في أقاصي الأرض، يملأ الجزائر وسكانها، والبحور والقفار وما فيها، ويكون بنو قيدار في القصور، وسكان الجبال - يعني قيدار بن إسماعيل - ليصيحوا ويصيروا لله الفخر والكرامة، ويسبحوا بحمد الله في الجزائر ".

وأنه قال على إثر ذلك: " ويخرج الرب كالجبار، وكالرجل الشجاع المجرب، ويزجر ويصرخ، ويهيج الحرب والحمية، ويقتل أعداءه، يفرح السماء والأرض ". وأن الله قال أيضاً في كتاب إشعياء: " سكت. قال: هو متى أسكت، مثل المرأة التي قد أخذها الطلق للولادة أتلهف، وإن تراني أريد أحرث الجبال والشعب، وآخذ بالعرب في طريق لا يعرفونه ". وكلهم على هذا اللفظ العربي مجمع. ومعنى هذا لا يجوزه أحد من أهل العلم، ومثل هذا كثير تركته لمعرفتكم به. وأنت تعلم أن اليهود لو أخذوا القرآن فترجموه بالعبرانية لأخرجوه من معانيه، ولحولوه عن وجوهه، وما ظنك بهم إذا ترجموا: " فلما آسفونا انتقمنا منهم "، و " لتصنع على عيني "، و " السموات مطوية بيمينه "، و " على العرش استوى "، و " ناضرة. إلى ربها ناظرة "، وقوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً "،

و " كلم الله موسى تكليماً "، و " جاء ربك والملك صفاً صفاً ". وقد يعلم أن مفسري كتابنا وأصحاب التأويل منا أحسن معرفة، وأعلم بوجوه الكلام من اليهود، ومتأولي الكتاب، ونحن قد نجد في تفسيرهم ما لا يجوز على الله في صفته، ولا عند المتكلمين في مقاييسهم، ولا عند النحويين في عربيتهم. فما ظنك باليهود مع غباوتهم وغيهم، وقلة نظرهم وتقليدهم؟ وهذا باب قد غلطت فيه العرب أنفسها، وفصحاء أهل اللغة إذا غلطت قلوبها، وأخطأت عقولها، فكيف بغيرهم ممن لا يعلم كعلمها؟ سمع بعض العرب قول جميع العرب: " القلوب بيد الله "، وقولهم في الدعاء: " نواصينا بيد الله " وقوله جل ذكره: " بل يداه مبسوطتان "، وقولهم: " هذا من أيادي الله ونعمه عندنا " وقد كان من لغتهم أن الكف أيضاً يد، كما أن النعمة يد، والقدرة يد، فغلط الشاعر فقال: هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها

وقد كان إبراهيم بن سيار النظام يجيب بجواب، وأنا ذكره إن شاء الله. وعليه كانت علماء المعتزلة، ولا أراه مقنعاً ولا شافياً. وذلك أنه كان يجعل الخليل مثل الحبيب، مثل الولي، وكان يقول: خليل الرحمن مثل حبيبه ووليه وناصره. وكانت الخلة والولاية والمحبة سواء. قالوا: ولما كانت كلها عنده سواء جاز أن يسمي عبداً له ولداً، لمكان التربية التي ليست بحضانة، ولمكان الرحمة التي لا تشتق من الرحم، لأن إنساناً لو رحم جرو كلب فرباه لم يجز أن يسميه ولداً ويسمي نفسه أباً. ولو التقط صبياً فرباه جاز أن يسميه ولداً ويسمي نفسه له أباً، لأنه شبيه ولده، وقد يولد لمثله مثله. وليس بين الكلاب والبشر أرحام، فإذا كان شبه الإنسان أبعد من الله تعالى من شبه الجرو بالإنسان، كان الله أحق بألا يجعله ولده، وينسبه إلى نفسه. قلنا لإبراهيم النظام عند جوابه هذا وقياسه الذي قاس عليه، في المعارضة والموازنة بين قياسنا وقياسه: أرأيت كلباً ألف كلابه، وجامى وأحمى دونه، هل يجوز أن يتخذه بذلك كله خليلاً، مع بعد التشابه والتناسب؟ فإذا قال: لا. قلنا: فالعبد الصالح أبعد شبهاً من الله من ذلك الكلب المحسن إلى كلابه، فكيف جاز في قياسك أن يكون الله خليل

من لا يشاكله لمكان إحسانه، ولا يجوز للكلاب أن يسمي كلبه خليلاً أو ولداً لمكان حسن تربيته له، وتأديبه إياه، ولمكان حسن الكلب وكسبه عليه، وقيامه مقام الولد الكاسب والأخ، والبار. والعبد الصالح لا يشبه الله في وجه من الوجوه، والكلب قد يشبه كلابه لوجوه كثيرة، بل ما أشبهه به مما خالفه فيه، وإن كانت العلة التي منعت من تسمية الكلب خليلاً وولداً بعد شبهه من الإنسان. فلو قلتم: فما الجواب الذي أجبت فيه، والوجه الذي ارتضيته؟ قلنا: إن إبراهيم صلوات الله عليه، وإن كان خليلاً، فلم يكن خليله بخلة كانت بينه وبين الله تعالى، لأن الخلة والإخاء والصداقة والتصافي والخلطة وأشباه ذلك منفية عن الله تعالى عز ذكره، فيما بينه وبين عباده، على أن الإخاء والصداقة داخلتان في الخلة، والخلة أعم الاسمين، وأخص الحالين. ويجوز أن يكون إبراهيم خليلاً بالخلة التي أدخلها الله على نفسه وماله، وبين أن يكون خليلاً بالخلة وأن يكون خليلاً بخلة بينه وبين ربه فرق ظاهر، وبون واضح. وذلك أن إبراهيم عليه السلام اختل في الله تعالى اختلالاً لم يختلله أحد قبله. لقذفهم إياه في النار، وذبحه ابنه، وحمله على ماله في الضيافة والمواساة والأثرة، وبعداوة قومه، والبراءة من أبويه في حياتهما، وبعد موتهما، وترك وطنه، والهجرة إلى غير داره ومسقط رأسه. فصار لهذه الشدائد مختلاً في الله، وخليلاً في الله. والخليل والمختل سواء في كلام

العرب. والدليل على أن يكون الخليل من الخلة كما يكون من الخلة قول زهير بن أبي سلمى، وهو يمدح هرماً: وإن أتاه خليل يوم مسبغة ... يقول لا عاجز مالي ولا حرم وقال آخر: وإني إلى أن تسعفاني بحاجة ... إلى آل ليلى مرة لخليل وهو لا يمدحه بأن خليله وصديقه يكون فقيراً سائلاً، يأتي يوم المسألة ويبسط يده للصدقة والعطية، وإنما الخليل في هذا الموضع من الخلة والاختلال، لا من الخلة والخلال. وكأن إبراهيم عليه السلام حين صار في الله مختلاً أضافه الله إلى نفسه، وأبانه بذلك عن سائر أوليائه، فسماه خليل الله من بين الأنبياء، كما سمى الكعبة: بيت الله من بين جميع البيوت، وأهل مكة: أهل الله من بين جميع البلدان. وسمى ناقة صالح عليه السلام: ناقة الله من بين جميع النوق. وهكذا كل شيء عظمه الله تعالى، من خير وشر، وثواب وعقاب. كما قالوا: دعه في لعنة الله، وفي نار الله وفي حرقه. وكما قال للقرآن: كتاب الله، وللمحرم: شهر الله. وعلى هذا المثال قيل لحمزة رحمة الله ورضوانه عز ذكره عليه: أسد الله، ولخالد رحمة الله عليه: سيف الله تعالى. وفي قياسنا هذا لا يجوز: أن الله خليل إبراهيم، كما يقال: إن إبراهيم خليل الله.

فإن قال قائل: فكيف لم يقدموه على جميع الأنبياء، إذ كان الله قدمه بهذا الاسم الذي ليس لأحد مثله؟ قلنا: إن هذا الاسم اشتق له من عمله وحاله وصفته، وقد قيل لموسى عليه السلام: كليم الله، وقيل لعيسى: روح الله، ولم يقل ذلك لإبراهيم، ولا لمحمد صلوات الله عليهما، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم أرفع درجة منهم، لأن الله تعالى كلم الأنبياء عليهم السلام على ألسنة الملائكة، وكلم موسى كما كلم الملائكة، فلهذه العلة قيل: كليم الله. وخلق في نطف الرجال أن قذفها في أرحام النساء على ما أجرى عليه تركيب العالم، وطباع الدنيا، وخلق في رحم مريم روحاً وجسداً، على غير مجرى العادة، وما عليه المناكحة. فلهذه الخاصة قيل له: روح الله. وقد يجوز أن يكون في نبي من الأنبياء خصلة شريفة، ولا تكون تلك الخصلة بعينها في نبي أرفع درجة منه، ويكون في ذلك النبي خصال شريفة ليست في الآخر. وكذلك جميع الناس، كالرجل يكون له أبوان، فيحسن برهما وتعاهدهما، والصبر عليهما، وهو أعرج لا يقدر على الجهاد، وفقير لا يقدر على الإنفاق. ويكون آخر لا أب له ولا أم له، وهو ذو مال كثير، وخلق سوي، وجلد طاهر، فأطاع هذا بالجهاد والإنفاق، وأطاع ذلك ببر والديه والصبر عليهما. والكلام إذا حرك تشعب، وإذا ثبت أصله كثرت فنونه، واتسعت طرقه. ولولا ملالة القارىء، ومداراة المستمع لكان بسط القول في جميع ما يعرض أتم للدليل، وأجمع للكتاب، ولكنا إنما ابتدأنا الكتاب لنقتصر به على كسر النصرانية فقط.

فصل منه قلنا في جواب آخر: إن كان المسيح إنما صار ابن الله لأن الله خلقه من غير ذكر، فآدم وحواء إذ كانا من غير ذكر وأنثى أحق بذلك، إن كانت العلة في اتخاذه ولداً أنه خلقه من غير ذكر. وإن كان ذلك لمكان التربية فهل رباه إلا كما ربى موسى، وداود، وجميع الأنبياء. وهل تأويل: رباه إلا غذاه، ورزقه، وأطعمه، وسقاه، فقد فعل ذلك بجميع الناس. ولم سميتم سقيه لهم وإطعامه إياهم تربية؟ ولم رباه وأنتم لا تريدون إلا غذاه ورزقه، وهو لم يحضنه، ولم يباشر تقليبه، ولم يتول بنفسه سقيه وإطعامه، فيكون ذلك سبباً له دون غيره، وإنما سقاه لبن أمه في صغره، وغذاه بالحبوب والماء في كبره. فصل منه والأعجوبة في آدم عليه السلام أبدع، وتربيته أكرم، ومنقلبه أعلى وأشرف، إذ كانت السماء داره، والجنة منزله، والملائكة خدامه. بل هو المقدم بالسجود، والسجود أشد الخضوع. وإن كان بحسن التعليم والتثقيف؛ فمن كان الله تعالى يخاطبه، ويتولى مناجاته دون أن يرسل إليه ملائكته ويبعث إليه رسله، أقرب منزلة، وأشرف مرتبة، وأحق بشرف التأديب وفضيلة التعليم.

وكان الله تعالى يكلم آدم كما كان يكلم ملائكته، ثم علمه الأسماء كلها؛ ولم يكن ليعلمه الأسماء كلها إلا بالمعاني كلها، فإذا كان ذلك كذلك فقد علمه جميع مصالحه ومصالح ولده، وتلك نهاية طباع الآدميين، ومبلغ قوى المخلوقين. فصل منه فأما قولهم إنا نقول على الناس ما لا يعرفونه، ولا يجوز أن يدينوا به، وهو قولنا إن اليهود قالت: إن الله تعالى فقير ونحن أغنياء. وأنها قالت: إن يد الله مغلولة، وإنها قالت: إن عزيراً ابن الله، وهم مع اختلافهم وكثرة عددهم، ينكرون ذلك ويأبونه أشد الإباء. قلنا لهم: إن اليهود لعنهم الله تعالى كانت تطعن على القرآن، وتلتمس نقضه، وتطلب عيبه، وتخطىء فيه صاحبه، وتأتيه من كل وجه، وترصده بكل حيلة، ليلتبس على الضعفاء، وتستميل قلوب الأغبياء. فلما سمعت قول الله تعالى لعباده الذين أعطاهم، قرضاً، وسألهم قرضاً على التضعيف، فقال عز من قائل: " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له ". قالت اليهود على وجه الطعن والعيب والتخطئة والتعنت: تزعم أن الله يستقرض منا، وما استقرض منا

إلا لفقره وغنانا! فكفرت بذلك القول إذ كان على وجه التكذيب والتخطئة، لا على وجه أن دينها كان في الأصل أن الله فقير، وأن عباده أغنياء. وكيف يعتقد إنسان أن الله عاجز عما يقدر عليه، مع إقراره بأنه الذي خلقه ورزقه، وإن شاء حرمه، وإن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. وقدرته على جميع ذلك كقدرته على واحد. ومجاز الآية في اللغة واضح، وتأويلها بين؟ وذلك أن الرجل منهم كان يقرض صاحبه لإرفاقه، ليعود إليه مع أصل ماله اليسير من ربحه، ثم هو مخاطر به إلى أن يعود في ملكه. فقال لهم بحسن عادته ومنته: آسوا فقراءكم، وأعطوا في الحق أقرباءكم، من المال الذي أعطيتكم، والنعمة التي خولتكم، بأمري إياكم وضماني لكم، فأعتده منكم قرضاً وإن كنت أولى به منكم، فأنا موفيكم حقوقكم إلى ما لا ترتقي إليه همة ولا تبلغه أمنية. على أنكم قد أمنتم من الخطار، وسلمتم من التغرير. والرجل يقول لعبده: أسلفني درهماً، عند الحاجة تعرض له، وهو يعلم أن عبده وماله له. وإنما هذا كلام وفعال يدل على حسن الملكة، والتفضل على العبد والأمة، وإخبار منه لعبده أنه سيعيد عليه ما كانت سخت به نفسه.

وهذا ليس بغلط في الكلام ولا بضيق فيه ولكن المتعنت يتعلق بكل سبب، ويتشبث بكل ما وجد. وأما إخباره عن اليهود أنها قالت: " يد الله مغلولة "، فلم يذهب إلى أن اليهود ترى أن ساعده مشدودة إلى عنقه بغل. وكيف يذهب إلى هذا ذاهب، ويدين به دائن؟ ! لأنه لا بد أن يكون يذهب إلى أنه غل نفسه أو غله غيره. وأيهما كان، فإنه منفي عن وهم كل بالغ يحتمل التكليف، وعاقل يحتمل التثقيف، ولكن اليهود قوم جبرية، والجبرية تبخل الله مرة، وتظلمه مرة، وإن لم تقر بلسانها، وتشهد على إقرارها، بقولهم: " يد الله مغلولة " يعنون بره وإحسانه. وقولهم: مغلولة، لا يعني أن غيره حبسه ومنعه، ولكن إذا كان عندهم أنه الذي منع أياديه، وحبس نعمه؛ فهي محبوسة بحبسه، وممنوعة بمنعه. والذي يدل على أنهم أرادوا باليدين النعمة والإفضال، دون

الساعد والذراع، جواب كلامهم حين قال: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ". دليلاً على ما قلنا، وشاهداً على ما وصفنا. فإن قالوا: فكيف لم نقل إن اليهود بخلت الله وجحدت إحسانه، دون أن يقال إن يد الله مغلولة؟ قلنا: إن أراد الله الإخبار عن كفر قوم وسخط عليهم، فليس لهم عليه أن يعبر عن دينهم وعيوبهم بأحسن المخارج، ويجليها بأحسن الألفاظ. وكيف وهو يريد التنفير عن قولهم، وأن يبغضهم إلى من سمع ذلك عنهم. ولو أراد الله تعالى تليين الأمر وتصغيره وتسهيله، لقال قولاً غير هذا. وكل صدق جائز في الكلام. فهذا مجاز مسألتهم في اللغة، وهو معروف عند أهل البيان والفصاحة. وأما قولهم: إن اليهود لا تقول إن عزيراً ابن الله. فإن اليهود في ذلك على قولين: أحدهما خاص، والآخر عام في جماعتهم. فأما الخاص، فإن ناساً منهم لما رأوا عزيراً أعاد عليهم التوراة من تلقاء نفسه، بعد دروسها وشتات أمرها غلوا فيه، وقالوا ذلك، وهو مشهور من أمرهم. وإن فريقاً من بقاياهم لباليمن والشام وداخل بلاد الروم. وهؤلاء بأعيانهم يقولون: إن إسرائيل الله ابنه، وإذا كان ذلك على خلاف تناسب الناس، وصار ذلك الاسم لعزير

بالطاعة والعلامة، والمرتبة لأنه من ولد إسرائيل. والقول الذي هو عام فيهم، أن كل يهودي ولده إسرائيل، فهو ابن الله، إذ لم يجدوا ابن ابن قط إلا وهو ابن. فصل منه فإن قالوا: ليس المسيح روح الله وكلمته، كما قال عز ذكره: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " أو ليس قد أخبر عن نفسه حين ذكر أمه أنه نفخ فيها من روحه؟ أو ليس مع ذلك قد أخبر عن حصانة فرجها وطهارتها؟ أو ليس مع ذلك قد أخبر أنه لا أب له، وأنه كان خالقاً، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فيكون حياً طائراً؟ فأي شيء بقي من الدلالات على مخالفته لمشاكلة جميع الخلق، ومباينة جميع البشر؟ قلنا لهم: إنكم إنما سألتمونا عن كتابنا، وما يجوز في لغتنا وكلامنا، ولم تسألونا عما يجوز في لغتكم وكلامكم. ولو أننا جوزنا ما في لغتنا ما لا يجوز، وقلنا على الله تعالى ما لا نعرف، كنا بذلك عند الله والسامعين في حد المكاثرين، وأسوأ حالاً من المنقطعين، وكنا قد أعطيناكم أكثر مما سألتم، وجزنا بكم فوق أمنيتكم.

ولو كنا إذا قلنا: عيسى روح الله وكلمته، وجب علينا في لغتنا أن يجعله الله ولداً، ونجعله مع الله تعالى إلهاً، ونقول: إن روحاً كانت في الله فانفصلت منه إلى بدن عيسى وبطن مريم. فكنا إذا قلنا: إن الله سمى جبريل روح الله وروح القدس، وجب علينا أن نقول فيه ما يقولون في عيسى. وقد علمتم أن ذلك ليس من ديننا، ولا يجوز ذلك بوجه من الوجوه عندنا، فكيف نظهر للناس قولاً لا نقوله، وديناً لا نرتضيه. ولو كان قوله جل ذكره: " فنفخنا فيه من روحنا " يوجب نفخاً كنفخ الزق، أو كنفخ الصائغ في المنفاخ، وأن بعض الروح التي كانت فيه انفصلت فاصلة إلى بطنه وبطن أمه، لكان قوله في آدم يوجب له ذلك؛ لأنه قال: " وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله ". . إلى قوله: " ونفخ فيه من روحه " وكذلك قوله: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ". والنفخ يكون من وجوه، والروح يكون من وجوه: فمنها ما أضافه إلى نفسه، ومنها ما لم يضفه إلى نفسه. وإنما

يكون ذلك على قدر ما عظم من الأمور، فمما سمى روحاً وأضافه إلى نفسه، جبريل الروح الأمين، وعيسى بن مريم. والتوفيق كقول موسى حين قال: إن بني فلان أجابوا فلاناً النبي ولم يجيبوك. فقال له: " إن روح الله مع كل أحد ". وأما القرآن فإن الله سماه روحاً، وجعله يقيم للناس مصالحهم في دنياهم وأبدانهم، فلما اشتبها من هذا الوجه ألزمهما اسمهما فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا " وقال: " تنزل الملائكة والروح ". فصل منه قد جعلنا في جواباتهم وقدمنا مسائلهم، بما لم يكونوا ليبلغوه لأنفسهم، ليكون الدليل تاماً، والجواب جامعاً؛ وليعلم من قرأ هذا الكتاب، وتدبر هذا الجواب، أنا لم نغتنم عجزهم، ولم ننتهز غرتهم، وأن الإدلال بالحجة، والثقة بالفلج والنصرة، هو الذي دعانا إلى أن نخبر عنهم بما ليس عندهم، وألا نقول في مسألتهم بمعنىً لم ينتبه له منتبه، أو يشر إليه مشير، وألا يوردوا فيما يستقبلون، على

ضعفائنا ومن قصر نظره منا، شيئاً إلا والجواب قد سلف فيهم، وألسنتهم قد مذلت به. وسنسألهم إن شاء الله، ونجيب عنهم، ونستقصي لهم في جواباتهم، كما سألنا لهم أنفسنا، واستقصينا لهم في مسائلهم. فيقال لهم: هل يخلو المسيح أن يكون إنساناً بلا إله، أو إلهاً بلا إنسان؟ أو أن يكون إلهاً وإنساناً؟ فإن زعموا أنه كان إلهاً بلا إنسان، قلنا لهم: فهو الذي كان صغيراً فشب والتحى، والذي كان يأكل ويشرب، وينجو ويبول، وقتل بزعمكم وصلب، وولدته مريم وأرضعته، أم غيره هو الذي كان يأكل ويشرب على ما وصفنا؟ فأي شيء معنى الإنسان إلا ما وصفنا وعددنا؟ وكيف يكون إلهاً بلا إنسان، وهو الموصوف بجميع صفات الإنسان. وليس القول في غيره ممن صفته كصفته إلا كالقول فيه كاشتمالها على غيره؟ وإن زعموا أنه لم ينقلب عن الإنسانية ولم يتحول عن جوهر البشرية، ولكن لما كان اللاهوت فيه، صار خالقاً وسمي إلهاً. قلنا لهم: خبرونا عن اللاهوت. أكان فيه وفي غيره، أم كان فيه دون غيره؟

فإن زعموا أنه كان فيه وفي غيره، فليس هو أولى بأن يكون خالقاً ويتسمى إلهاً من غيره. وإن كان فيه دون غيره، فقد صار اللاهوت جسماً. وسنقول في الكسر عليهم إذا صرنا إلى القول في التشبيه، وهو قول معظمهم، والذي كان عليه جماعتهم، إلا من خالفهم من متكلميهم ومتفلسفيهم، فإنهم يقولون بالتشبيه والتجسيم، فراراً من كثرة الشناعة، وعجزاً عن الجواب. وكفى بالتشبيه قبحاً، وهو قول يعم اليهود وإخوانهم من الرافضة، وشياطينهم من المشبهة والحشوية والنابتة، وهو بعد متفرق في الناس. والله تعالى المستعان.

الجزء الرابع فصل من صدر كتابه في الرد على المشبهة أما بعد، فقد اختلف أهل الصلاة في معنى التوحيد، وإن كانوا قد أجمعوا على انتحال اسمه. فليس يكون كل من انتحل اسم التوحيد موحداً إذا جعل الواحد ذا أجزاء، وشبهه بشيء ذي أجزاء. ولو أن زاعماً زعم أن أحداً لا يكون مشبهاً وإن زعم أن الله يرى بالعيون، ويوجد ببعض الحواس، حتى يزعم أنه يرى كما يرى الإنسان، ويدرك كما تدرك الألوان كان كمن قال: لا يكون العبد لله مكذباً، وإن زعم أنه يقول ما لا يفعل، حتى يزعم أنه يكذب. ولا يكون العبد لله مجوراً، وإن زعم أنه يعذب من لم يعطه السبب الذي به ينال طاعته، حتى يزعم أنه يجور. ولو أن رجلاً قال لفلان: عندي جذر مائة، كان عندنا كقوله:

لفلان عشرة. وكذلك إذا قال: فلان قد ناقض في كلامه، فهو عندنا كقوله: فلان قد أحال في كلامه. ولو قال: ناقض ولم يحل، له عندي جذر مائة وليس له عندي عشرة؛ كان كالذي يقول: ركبت عيراً ولم أركب حماراً، وشربت المدامة ولم أشرب خمراً. وللمعاني دلالات وأسماء، فمن دل على المعنى بواحدة منها، وباسم من أسمائها، لم نسأله أن يوفينا الجميع؛ وأن يأتي على الكل، ولم يلتفت إلى منع ما منع، إذا كان الذي منع مثل الذي أعطى. وقد أنبأ الله عن نفسه، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال " ليس كمثله شيء " فأقر القوم بظاهر هذا الكلام؛ ثم جعلوه في المعنى يشبه كل شيء، إذ جعلوه جسماً، فقد جعلوه محدثاً ومخلوقاً؛ لأن دلالة الحدوث، والشهادة على التدبير، ثابتان في الأجسام، وإنما لزمها ذلك لأنهما أجسام لا لغير ذلك؛ لأن الجسم إذا تحرك وسكن، وعجز وقوي، وبقي وفني، وزاد ونقص، ومازج الأجسام وتخلص لأنه جسم؛ ولولا أنه جسم لاستحال ذلك منه، ولما جاز عليه

هذه الأمور التي أوجبتها الجسمية، وهي الدالة على حدوث الأجسام. فواجب أن يكون كل جسم كذلك، إذا كانت الأجسام مستوية في الجسمية، وإذا كان كل جسم منها أيضاً لزمه ذلك. وقد اختلف أصحاب التشبيه في مذاهب التشبيه. فقال بعضهم: نقول: إنه جسم، وكل جسم طويل. وقال آخرون: نقول: إنه جسم، ولا نقول إنه طويل، لأنا إنما جعلناه جسماً لنخرجه من باب العدم؛ إذ كنا متى أخبرنا عن شيء، فقد جعلناه معقولا متوهماً، ولا معقول ولا متوهم إلا الجسم. وليست بنا حاجة إلى أن نجعله طويلاً، وليس في كونه جسماً إيجاب لأن يكون طويلاً. لأن الجسم يكون طويلاً وغير طويل، كالمدور، والمثلث، والمربع، وغير ذلك، ولا يكون الشيء إلا معقولا، ولا المعقول إلا جسماً. فلذلك جعلناه جسماً، ولم نجعله طويلا. فينبغي - يرحمك الله - لصاحب هذه المقالة، إن لم يجعله طويلاً أن يجعله عريضاً، وإن لم يجعله عريضاً أن يجعله مدوراً، وإن لم يجعله مدوراً أن يجعله مثلثاً، وإن لم يجعله مثلثاً أن يجعله مربعاً. وإن أقر بهيئة من الهيئات فقد دخل فيما كره. ولا أعلم المدور، والمثلث، والمربع، والمخمس، والمصلب، والمزوى، وغير ذلك من الهيئات، إلا أشنع في اللفظ، وأحقر في الوهم.

فصل منه وقال أصحاب الرؤية: اعتللتم علينا بقول الله تعالى: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار "، وقلتم: هذه الآية مبهمة، وخرجت مخرج العموم، والعام غير الخاص. وقد صدقتم، كذلك العام إلى أن يخصه الله بآية أخرى؛ وذلك أن الله تعالى لو كان قال: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " ثم لم يقل: " وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة " لعلمنا أنه قد استثنى أخرة من جميع الأبصار. قالوا: وإنما ذلك مثل قوله: " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله " ومثل قوله: " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " وهذه الأخبار مبهمة عامة، فلما قال: " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا " ولما قال، أيضاً: " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " علمنا أن القول الثاني قد خص القول الأول. وكذلك أيضاً قوله: " لا تدركه الأبصار ".

قلنا للقوم: إن الله تعالى لما قال: " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ". بعد أن قال: " وما كان الله ليطلعكم على الغيب ". علمنا أن ذلك استثناء لبعض ما قال إني لا أطلعكم على الغيب. وهذا الاستثناء لا اختلاف في لفظه ولا في معناه، ولا يحتمل ظاهر لفظه غير معناه عندنا. وعند خصومنا فيه أشد الاختلاف. وظاهر لفظه يحتمل وجهاً آخر غير ما ذهبوا إليه. والفقهاء وأصحاب التفسير يختلفون في تأويله وهم لا يختلفون في تأويل قوله: " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك " قال: ذكر ابن مهدي عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: " وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة " أنه قال: تنتظر ثواب ربها. وذكر أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح

مثل ذلك. وأبو صالح ومجاهد من كبار أصحاب ابن عباس، ومن العاملية، ومن المتقدمين في التفسير. فهذا فرق بين. وبعد، ففي حجج العقول أن الله لا يشبه الخلق بوجه من الوجوه؛ فإذا كان مرئياً فقد أشبهه في أكثر الوجوه. وإذا كان قولهم في النظر يحتمل ما قلتم، وما قال خصمكم، مع موافقة أبي صالح ومجاهد في التأويل، وكان ذلك أولى بنفي التشبيه الذي قد دل عليه العقل، ثم القرآن: " ليس كمثله شيء " كان التأويل ما قال خصمكم دون ما قلتم. فصل منه ثم رجع الكلام إلى أول المسألة، حيث جعلنا القرآن بيننا قاضياً، واتخذناه حاكماً، فقلنا: قد رأينا الله استعظم الرؤية استعظاماً شديداً، وغضب على من طلب ذلك وأراده، ثم عذب عليه، وعجب عباده ممن سأله ذلك، وحذرهم أن يسلكوا سبيل الماضين، فقال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ". فإن كان الله تعالى - في الحقيقة - يجوز أن يكون مرئياً، وببعض الحواس مدركاً، وكان ذلك عليه جائزاً، فالقوم إنما سألوا أمراً

ممكناً، وقد طمعوا في مطمع، فلم غضب هذا الغضب، واستعظم سؤالهم هذا الاستعظام، وضرب به هذا المثل، وجعله غاية في الجرأة وفي الاستخفاف بالربوبية. فإن قالوا: لأن ذلك كان لا يجوز في الدنيا؛ فقدرة الله تعالى على ذلك في الدنيا كقدرته عليه في الآخرة. فإن قالوا: ليس لذلك استعظم سؤالهم، ولكن لأنهم تقدموا بين يديه. قلنا: لم صار هذا السؤال تقدماً عليه واستخفافاً به، والشيء الذي طلبوه هو مجوز في عقولهم، وقد أطمعهم فيه أن جوزوه عندهم، والقوم لم يسألوا ظلماً ولا عبثاً ولا محالا. ومن عادة المسئول التفضل، وأنه فاعل ذلك بهم يوماً. فإن قالوا: إنما صار ذلك الطلب كفراً وذنباً عظيماً لأنه قد كان قال لهم: إني لا أتجلى لأحد في الدنيا. قلنا: فإن كان الأمر على ما قلتم لكان في تفسيره إنكاره لطلبهم دليل على ما يقولون، ولذكر تقدمهم بعد البيان، بل قال: " فقد سألوا

موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " لا غير ذلك. فإن قالوا: إنما غضب الله عليهم لأنه ليس لأحد أن يظن أن الله تعالى يرى جهرة. قلنا: وأي شيء تأويل قول القائل: رأيت الله جهرة إلا المعاينة، أو إعلان المعاينة؛ قال الله عز ذكره: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ". والجهر هو الإعلان والرفع والإشاعة؛ فهل يراه أهل الجنة إذا رفع عنهم الحجب، ودخلوا عليه وجلسوا على الكرسي عنده إلا جهرة؟ كما تأولتم الحديث الذي رويتموه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تضامون في رؤيته كما لا تضامون في القمر ليلة البدر "، إلا أن يزعموا أنهم يرون ربهم سراً، لأنه ليس إلا السر والجهر، وليس إلا الإعلان والإخفاء، وليس إلا المعاينة. فإن قالوا: نحن لا نقول بالمعاينة، ونقول: نراه، ولا نقول نعاينه. قلنا: ولم، وأنتم ترونه بأعينكم؟ فمن جعل لكم أن تقولوا نراه بالعين، ومنعكم أن تقولوا نعاينه بالعين؟ وهل اشتقت المعاينة إلا من العين؟

فإن قالوا: لا يجوز أن يلفظ بالمعاينة إلا في الشيء الذي تقع عينه علي، وتقع عيني عليه. فأما إذا كان أحدنا ذا عين، والآخر ليس ذا عين، فغير جائز أن تسمى الرؤية معاينة، وإنما المعاينة مثل المخاصمة؛ ولا يجوز أن أقول: خاصمت إلا وهناك من يخاصمني. قلنا: قد يقول الناس أسلم فلان حين عاين السيف، وليس للسيف عين، وليس هناك من يقاتله. على أنكم قد تزعمون أن لله عيناً لا كالعيون ويداً لا كالأيدي، وله عين بلا كيف، وسمع بلا كيف. فصل منه وقالت - أيضاً - المشبهة: الدليل على أنه جسم قوله عز ذكره: " وجاء ربك والملك صفاً صفاً ". قالوا: فلا يجيء إلا إلى مكان هو فيه؛ ولو جاز أن يجيء إلى مكان هو فيه جاز أن يخرج منه وهو فيه. فإذا أخبر الله أنه في السموات والأرض، وقلتم إن الدنيا كلها لا تخلو منه، وإنه فيها، فإذا كان الأمر كذلك، وكانت الدنيا محدودة، كان الذي يكون في بعضها أو في كلها محدوداً، إذا كان لم يجاوزها. ولو جاوزها لخرج إلى مكان، ولا يجوز أن يخرج منها إلا إلى مكان.

وقالوا: قد أخبر الله أنه في السموات والأرض، والله لا يخاطب عباده إلا بما يعقلون، ولو خاطبهم بما لا يعقلون لكان قد كلفهم ما لا يطيقون، ومن خاطب من لا يفي بالفهم عنه فقد وضع المخاطبة في غير موضعها. فهذا ما قال القوم. ونحن نقول: إن الشيء قد يكون في الشيء على وجوه، وسنذكر لك الوجوه، ونلحق كل واحد منها بشكله وبما يجوز فيه، إن شاء الله تعالى. قلنا للقوم: أليس قد خاطب الله الصم البكم الذين لا يعقلون، والذين خبر أنهم لا يستطيعون سمعاً؟ فإن قالوا: إن العرب قد تسمي المتعامي أعمى، والمتصامم أصم، ويقولون لمن عمل عمل من لا يعقل: لا يعقل؛ وإنما الكلام محمول على كلام. وذلك أن المتعامي إذا تعامى، صار في الجهل كالأعمى، فلما أشبهه من وجه سمي باسمه. قلنا: قد صدقتم؛ ولكن ليس الأصل. والمستعمل في تسميتهم بالعمى إنما هو الذي لا ناظر له. فإذا قالوا ذلك، قلنا: فلم زعمتم أن له ناظراً، وأخذتم بالمجاز والتشبيه، وتركتم الأصل الذي هذا الاسم محمول عليه؟ فإن قالوا: إنما قلنا من أجل أن الأول لا يجوز على الله تعالى، والثاني جائز عليه، والله لا يتكلم بكلام إلا ولذلك الكلام وجه إما

أن يكون هو الأصل والمحمول عليه؛ وإما أن يكون هو الفرع والاشتقاق الذي تسميه العرب مجازاً. فإذا نظرنا في كلام الله وهو عندنا عادل غير جائر، وهو جل جلاله يقول: " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " علمنا أنهم لو كانوا منقوصين غير وافرين، كانوا قد كلفوا ما لا يطيقون، والمكلف لعباده ما لا يطيقون جائر ظالم. فإذا كان لا يليق ذلك به علمنا أنهم قد كانوا وافرين غير عاجزين ولا منقوصين. وإذا كانوا كذلك، صار الواجب أن نحكم بالفرع والمجاز، وندع الأصل والمحمول عليه وقلنا: هم عمي وصم ولا يعقلون على أنهم تعاموا وتصاموا وعملوا عمل من لا يعقل. فإذا قالوا ذلك قلنا لهم: فإنا لم نعد هذا المذهب في قوله: " ناضرة "، " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " وفي قوله: " وهو الله في السموات وفي الأرض ". وقد يقولون: جاءنا فلان بنفسه، ويقولون: جاءنا بولده، وجاءنا بخير كثير. وذلك على معان مختلفة.

ويقولون: جاءتنا السماء بأمر عظيم، والسماء في مكانها. وقد يقولون - أيضاً -: جاءتنا السماء، وهم إنما يريدون الغيم الذي يكون به المطر من شق السماء وناحيتها ووجهها.

فصل من صدر كتابه في مقالة العثمانية

زعمت العثمانية أن أفضل هذه الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة. وكان أول ما دلهم عند أنفسهم على فضيلته، وخاصة منزلته، وشدة استحقاقه إسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد من عالمه وفي عصره. وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاماً: فقال قوم: أبو بكر بن أبي قحافة. وقال آخرون: زيد بن حارثة. وقال نفر: خباب بن الأرت. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ على أنا إذا تفقدنا أخبارهم، وأحصينا أحاديثهم، وعددنا رجالهم، وصحة أسانيدهم، كان الخبر في تقديم أبي بكر أعم، ورجاله أكثر، وإسناده أصح؛ وهو بذلك أشهر، واللفظ به أظهر. مع الأشعار الصحيحة، والأمثال المستفيضة، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. وليس بين الأشعار وبين الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التشاعر، والاتفاق والتواطؤ. ولكنا ندع هذا المذهب جانباً، ونضرب عنه صفحاً، اقتداراً على الحجة، وثقة بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى منازل أبي بكر،

وننزل على حكم الخصم، مع سرفه وميطه، فنقول: لما وجدنا من يزعم أن خباباً وزيد أسلما قبله، فأوسط الأمور وأعدلها وأقربها من محبة الجميع ورضى المخالف، أن نجعل إسلامهم كان معاً؛ إذ ادعوا أن الأخبار في ذلك متكافئة، والآثار متدافعة؛ وليس في الأشعار دلالة، ولا في الأمثال حجة. ولم يجدوا إحدى القضيتين أولى في حجة العقل من الأخرى. ؟؟؟؟ وقالوا: فإن قال لنا قائل: فما بالكم لم تذكروا علياً في هذه الطبقة، وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟ قلنا: لأنا قد علمنا بالوجه الصحيح، والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير، ولم نكذب الناقلين. ولم نستطع أن نزعم أن إسلامه كان لاحقاً بإسلام البالغين؛ لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين، والقياس يوجب أن يؤخذ بأوسط الروايتين، وبالأمر بين الأمرين. وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن تحصي سنيه التي ولي فيها، وسني عثمان، وسني أبي بكر، وسني الهجرة ومقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، بعد أن دعا إلى الله وإلى رسالته، وإلى أن هاجر إلى المدينة، ثم

تنظر في أقاويل الناس في عمره، وفي قول المقلل والمكثر، فنأخذ بأوسطها، وهو أعدلها، وتطرح قول المقصر والغالي، ثم تطرح ما حصل في يديك من أوسط ما روي من عمره وسنيه، وسني عثمان، وسني عمر، وسني أبي بكر، والهجرة، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، إلى وقت إسلامه. فإذا فعلت وجدت الأمر على ما قلنا، وكما فسرنا. ؟؟؟؟؟؟ وهذه التأريخات والأعمار معروفة، لا يستطيع أحد جهلها، والخلاف عليها؛ لأن الذين نقلوا التاريخ لم يعتمدوا تفضيل بعض على بعض، وليس يمكن ذلك، مع عللهم وأسبابهم. فإذا ثبت عندك بالذي أوضحنا وشرحنا، أنه كان ابن سبع سنين، أقل بسنة وأكثر بسنة علمت بذلك أنه لو كان ابن أكثر من ذلك بسنتين وثلاث وأربع، لا يكون إسلامه إسلام المكلف العارف بفضيلة ما دخل فيه، ونقصان ما خرج منه. ؟؟؟؟؟ والتأويل المجمع عليه أن علياً قتل سنة أربعين في رمضان. وقالوا: وإن قالوا: فلعله وهو ابن سبع سنين وثمان، فقد بلغ من فطنته وذكائه، وصحة لبه، وصدق حسه، وانكشاف العواقب

له، وإن لم يكن جرب الأمور، ولا فاتح الرجال، ولا نازع الخصوم، أن يعرف جميع ما يجب على البالغ معرفته والإقرار به. قلنا: إنما نتكلم على ظاهر الأحكام، وما شاهدنا عليه طباع الأطفال، فوجدنا حكم ابن سبع سنين وثمان سنين، وتسع سنين، حيث رأيناه وبلغنا خبره ما لم نعلم مغيب أمره، وخاصة طباعه حكم الأطفال. وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه، والذي نعرف من شكله بلعل وعسى، لأنا كنا لا ندري، لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله قد كان ذا نقص فيها. أجاب منهم بهذا الجواب من يجوز أن يكون علي في المغيب قد أسلم إسلام البالغ المختار. غير أن الحكم فيه عنده على مجرى أمثاله وأشكاله، الذين إذا أسلموا وهم في مثل سنه، كان إسلامهم عن تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة السائس. فأما علماء العثمانية ومتكلموهم، وأهل القدم والرياسة فيهم، فإنهم قالوا: إن علياً لو كان، وهو ابن ست سنين، وثمان سنين، وتسع سنين، يعرف فصل ما بين الأنبياء والكهنة، وفرق ما بين الرسل والسحرة، وفرق ما بين المنجم والنبي، وحتى يعرف الحجة من الحيلة، وقهر الغلبة من قهر المعرفة، ويعرف كيد الأريب، وبعد غور المتنبي،

وكيف يلبس على العقلاء ويستميل عقول الدهماء، ويعرف الممكن في الطباع من الممتنع فيها، وما قد يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب، ويعرف أقدار القوى في مبلغ الحيلة ومنتهى البطش وما لا يحتمل إحداثه إلا الخالق، وما يجوز على الله مما لا يجوز في توحيده وعدله، وكيف التحفظ من الهوى، وكيف الاحتراس من تقدم الخادع في الحيلة كان كونه بهذه الحال وهذه الصفة، مع فرط الصبا والحداثة، وقلة التجارب والممارسة، خروجاً من نشو العادة، والمعروف مما عليه تركيب الأمة. ولو كان على هذه الصفة، ومع هذه الخاصة، كان حجة على العامة وآية تدل على المباينة. ولم يكن الله تعالى ليخصه بمثل هذه الآية، وبمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها له، ويخبر بها عنه، ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد، وحجة الغائب، ولا يضيعها هدراً، ولا يكتمها باطلا. ولو أراد الاحتجاج له بها شهر أمرها وكشف قناعها، وحمل

النفوس على معرفتها، وسخر الألسنة لنقلها. والأسماع لإدراكها، لئلا يكون لغواً ساقطاً، ونسياً منسياً؛ لأن الله تعالى لا يبتدع أعجوبة، ولا يخترع آية، ولا ينقض العادة إلا للتعريف والإعذار، والمصلحة والاستبصار. ولولا ذلك لم يكن لفعلها معنىً، ولا لرسالته حجة. والله تبارك اسمه، تعالى أن يترك الأمور سدىً، والتدبير نشراً. وأنتم تزعمون أنه لا يصل أحد إلى معرفة نبي، وكذب متنبىء، حتى تجتمع له هذه المعارف التي ذكرنا، والأسباب التي فصلنا. ولولا أن الله تعالى أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبياً، وأنه أنطق عيسى في المهد رضيعاً، ما كانا في الحكم إلا كسائر البشر فإذ لم ينطق لعلي بذلك، ولا جاء الخبر به مجيء الحجة القاطعة والشهادة الصادقة، فالمعلوم عندنا في الحكم والمغيب جميعاً أن طباعه كطباع عميه العباس وحمزة. وهما أمس بمعدن جميع الخير منه، وكطباع أخويه جعفر وعقيل، وكطباع أبويه ورجال عصره وسادة رهطه. ولو أن إنساناً ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر، أو لعمه حمزة أو العباس - وهو حليم قريش - ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه. ولو لم تعلم الروافض ومن يذهب مذهبها في هذا، باطل هذه الدعوى، وفساد هذا المعنى، إذا صدقت نفسها، ولم تقلد رجالها،

وتحفظت من الهوى وآثرت التقوى، إلا بترك علي - رضوان الله عليه - ذكر ذلك لنفسه، والاحتجاج على خصمه وأهل دهره، مذ نازع الرجال، وخاصم الأكفاء، وجامع أهل الشورى، ولي وولي عليه، والناس بين معاند يحتاج إلى التقريع، ومرتاد يحتاج إلى المادة، وغفل يحتاج إلى أن يكثر له من الحجة، ويتابع له من الأمارات والدلالات، مع حاجة القرن الثاني إلى معرفة الحق ومعدن الأمر؛ لأن الحجة إذا لم تصح لعلي في نفسه، ولم تقم على أهل دهره، فهي عن ولده أعجز، وعنهم أضعف. ثم لم ينقل ناقل واحد أن علياً احتج بذلك في موقف، ولا ذكره في مجلس، ولا قام به خطيباً، ولا أدلى به واثقاً، ولا همس به إلى موافق، ولا احتج به على مخالف، فقد ذكر فضائله وفخر بقرابته وسابقته، وكاثر بمحاسنه ومواقفه مذ جامع الشورى وناضلهم، إلى أن ابتلي بمساورة معاوية وطمعه فيه، وجلوس أكثر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله عن عونه. والشد على عضده، كما قال عامر الشعبي: لقد وقعت الفتنة، وبالمدينة عشرون ألفاً من أصحاب رسول الله، ما خف فيها منهم عشرون. ومن زعم أنه شهد الجمل ممن

شهد بدراً أكثر من أربعة فقد كذب، كان علي وعمار في شق، وطلحة والزبير في شق. وكيف يجوز عليه ترك الاحتجاج، وتشجيع الموافق وقد نصب نفسه للخاصة والعامة وللمولى والمعادي ومن لا يحل له في دينه ترك الإعذار إليهم، إذ كان يرى أن قتالهم كان واجباً، وقد نصبه الرسول مفزعا ومعلما، ونص عليه قائماً، وجعله للناس إماماً، وأوجب طاعته، وجعله حجة في الناس، يقوم مقامه. وأعجب من ذلك أنه لم يدع هذا له أحد في دهره كما لم يدعه لنفسه، مع عظيم ما قالوا فيه في عسكره، وبعد وفاته، حتى يقول إنسان واحد: إن الدليل على إقامته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه إلى الإسلام، فكلف التصديق قبل بلوغه وإدراكه، ليكون ذلك آية له في عصره، وحجة له ولولده على من بعده. وقد كان علي أعلم بالأمور من أن يدع ذكر أكثر حججه والذي بان به من شكله، ويذكر أصغر حججه، والذي يشاكله فيه غيره. وقد كان في عسكره من لا يألو في الإفراط، زيادة في القدر.

والعجب له - إن كان الأمر على ما ذكرتم - كيف لم يقف يوم الجمل. أو يوم صفين، أو يوم النهر، في موقف يكون فيه من عدوه بمرأى ومسمع فيقول: " تباً لكم وتعساً! كيف تقاتلوني، وتجحدون فضيلتي، وقد خصصت بآية، حتى كنت كيحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم " فلا يمتنع الناس من أن يموجوا، فإذا ماجوا تكلموا على أقدار عللهم، وعللهم مختلفة، فلا يثبت أمرهم أن يعود إلى فرقة، فمن ذاكر قد كان ناسياً، ومن نازع قد كان مصراً، ومن مترنح قد كان غالطاً، مع ما كان يشيع من الحجة في الآفاق، ويستفيض في الأطراف، وتحمله الركبان، ويتهادى في المجالس. فهذا كان أشد على طلحة والزبير وعائشة، ومعاوية، وعبد الله بن وهب، من مائة ألف سنان طرير وسيف شهير. ومعلوم عند ذوي التجربة والعارفين بطبائع الأتباع وعلل الأجناد أن العساكر تنتقض مرائرها، وينتشر أمرها، وتنقلب على قائدها بأيسر من هذه الحجة وأخفى من هذه الشهادة.

وقد علمتم ما صنعت المصاحف في طبائع أصحاب علي رضوان الله عليه، حين رفعها عمرو أشد ما كان أصحاب علي استبصاراً في قتالهم، ثم لم ينتقض على علي من أصحابه إلا أهل الجد والنجدة، وأصحاب البرانس والبصيرة. وكما علمت من تحول شطر عسكر عبد الله بن وهب حين اعتزلوا مع فروة بن نوفل لكلمة سمعوها من عبد الله بن وهب كانت تدل عندهم على ضعف الاستبصار، والوهن في اليقين. وهذا الباب أكثر من أن يحتاج مع ظهوره، ومعرفة الناس له إلى أن نحشو به كتابنا. فأما إسلامه وهو حدث غرير، وصبي صغير، فهذا ما ندفعه؛ غير أنه إسلام تأديب وتلقين وتربية. وبين إسلام التكليف والامتحان، وبين التلقين والتربية، فرق عظيم، ومحجة واضحة. وقالت العثمانية: إن قالت الشيع: إن الأمر ليس كما حكيتم ولا كما هيأتموه لأنفسكم، بل نزعم أنه قد كانت هنالك في أيام حداثته وصباه فضيلة ومزيد ذكاء، ولم يبلغ الأمر حد الأعجوبة والآية، قلنا: إن

الذي ذهبتم إليه - أيضاً - لا بد فيه من أحد وجهين: إما أن يكون قد كان لا يزال يوجد في الصبيان مثله في الفطنة والذكاء، وإن كان ذلك عزيزاً قائلاً، وكان وجود ذلك ممتنعاً، ومن العادة خارجاً. فإذا كان قد يوجد مثله - على عزته وقلته - فما كان إلا كبعض من نرى اليوم ممن يتعجب من كيسه وفطنته، وحفظه وحكايته، وسرعة قبوله، على صغر سنه، وقلة تجربته. فإن كانت حاله هذه الحال، وطبقته على هذا المثال، فإنا لم نجد صبياً قط وإن أفرط كيسه، وحسنت فطنته، وأعجب به أهله يحتمل ولاية الله وعداوته، والتمييز بين الأمور التي ذكرنا. مع أنه ما جاءنا ولا جاء عند أحد منا بخبر صادق، ولا كتاب ناطق، أنه قد كان لعلي خاصة، دون قريش عامة، في صباه، من إتقان الأمور، وصحة المعارف، وجودة المخارج، ما لم يكن لأحد من إخوته، وعمومته وآبائه. وإن كان القدر الذي كان عليه علي من المعرفة والذكاء القدر الذي لا نجد له فيه مثلاً، ولا رأينا له شكلاً، فهذا هو البديع الذي يحتج به على المنكرين، ويفلج على المعارضين، ويبين للمسترشدين. وهذا باب قد فرغنا منه مرة.

ولو كان الأمر في علي كما يقولون لكان ذلك حجة للرسول في رسالته ولعلي في إمامته. والآية إذا كانت للرسول وخليفة الرسول كان أشهر لها؛ لأن وضوح أمر الرسول يزيد على ما للإمام، ويزيده إشراقاً واستنارة وبياناً. ولا يجوز أن يكون الله تعالى قد عرف أهل عصرهما ذلك، وهم الشهداء على من بعدهم من القرون، ثم أسقط حجته. فلا تخلو تلك الحجة، وتلك الشهادة من ضربين: إما أن تكون ضاعت وضلت، وإما أن تكون قد قامت وظهرت. فإن كانت قد ضاعت فلعل كثيراً من حجج الرسول قد ضاع. وما جعل الباقي أولى بالتمام من الساقط، والساقط من شكل الثابت، لأنه حجة على شيئين، والثابت حجة على شيء. ولا يخلو أمر الساقط من ضربين: إما أن يكون الله - تبارك وتعالى - لم يرد تمامه، أو يكون قد أراده. وأي هذين كان، ففساده واضح عند قارىء الكتاب، وإن كانت الآية فيه قد تمت؛ إذ كانت الشهادة قد قامت علينا بها، كما كانت شهادة العيان قائمة عليهم فيها. فليس في الأرض عثماني إلا وهو يكابر عقله، ويجحد علمه.

ولعمري، إنا لنجد في الصبيان من لو لقنته، أو كتبت له أغمض المعاني وألطفها، وأغمض الحجج وأبعدها، وأكثرها لفظاً وأطولها، ثم أخذته بدرسه وحفظه لحفظه حفظاً عجيباً، ولهذه هذاً ذليقا. فأما معرفة صحيحه من سقيمه، وحقه من باطله، وفصل ما بين المقر به والدليل، والاحتراس من حيث يؤتى المخدوعون، والتحفظ من مكر الخادعين، وتأتي المجرب، ورفق الساحر، وخلابة المتنبىء، وزجر الكهان، وأخبار المنجمين. وفرق ما بين نظم القرآن وتأليفه، فليس يعرف فروق النظم، واختلاف البحث والنثر إلا من عرف القصيد من الرجز، والمخمس من الأسجاع، والمزدوج من المنثور، والخطب من الرسائل، وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه، من العجز الذي هو صفة في الذات. فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام ثم لا يكتفي بذلك حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله عن مثله، وأن حكم البشر حكم واحد في العجز الطبيعي، وإن تفاوتوا في العجز العارض.

وهذا ما لا يوجد عند صبي ابن تسع سنين، أو ثمان سنين، أو سبع سنين أبداً، عرف ذلك عارف أو جهله جاهل. ولا يجوز أن يعرف عارف معنى الرسالة إلا بعد الفراغ من هذه الوجوه، إلا أن يجعل جاعل التقليد والنشو والإلف لما عليه الآباء، وتعظيم الكبراء معرفة ويقيناً. وليس بيقين ما اضطرب، ودخله الخلاج عند ورود معاني لعل وعسى، مما لا يمكن في المعقول إلا بحجة تخرج القلب إلى اليقين عن التجويز. ولقد أعيانا أن نجد هذه المعرفة إلا في الخاص من الرجال وأهل الكمال في الأدب؛ فكيف بالطفل الصغير، والحدث الغرير! مع أنك لو أدرت معاني بعض ما وصف لك على أذكى صبي في الأرض، وأسرعه قبولاً وأحسنه حكاية وبياناً، وقد سويته له ودللته، وقربته منه، وكفيته مؤونة الروية، ووحشة الفكرة، لم يعرف قدره، ولا فصل حقه من باطله، ولا فرق بين الدلالة وشبيه الدلالة. فكيف له بأن يكون هو المتولي لتجربته وحل عقده وتخليص متشابهه، واستثارته من معدنه؟

وكل كلام خرج من التعارف فهو رجيع بهرج، ولغو ساقط. وقد نجد الصبي الذكي يعرف من العروض وجهاً، ومن النحو صدراً، ومن الفرائض أبواباً، ومن الغناء أصواتاً. فأما العلم بأصول الأديان، ومخارج الملل وتأويل الدين، والتحفظ من البدع، وقبل ذلك الكلام في حجج العقول، والتعديل والتجوير، والعلم بالأخبار وتقدير الأشكال، فليس هذا موجوداً إلا عند العلماء. فأما الحشو والطغام، فإنما هم أداة للقادة، وجوارح للسادة؛ وإنما يعرف شدة الكلام في أصول الأديان من قد صلي به، وسال في مضايقه، وجاثى الأضداد ونازع الأكفاء. فصل منه وقد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله، وكان المال أربعين ألفاً، فأنفقه على نوائب الإسلام وحقوقه، ولم يكن ماله ميراثاً لم يكد فيه، فهو غزير لا يشعر بعسر اجتماعه، وامتناع رجوعه، ولا كان هبة

ملك فيكون أسمح لطبيعته، وأخرق في إنفاقه، بل كان ثمرة كده وكسب جولانه وتعرضه. ثم لم يكن خفيف الظهر، قليل النسل، قليل العيال، فيكون قد جمع اليسارين؛ لأن المثل الصحيح السائر المعنى: " قلة العيال أحد اليسارين "، بل كان ذا بنين وبنات وزوجة، وخدم وحشم، يعول مع ذلك أبويه وما ولدا. ولم يكن فتىً حدثاً فتهزه أريحية الشباب، وغرارة الحداثة. ولم يكن بحذاء إنفاقه طمع يدعوه، ولا رغبة تحدوه. ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يد مشهورة فيخاف العار في ترك مواساته، وإنفاقه عليه، ولا كان من رهطه دنيا فيسب بترك مكانفته ومعاونته وإرفاقه. فكان إنفاقه على الوجه الذي لا يجد أبلغ في غاية الفضل منه، ولا أدل على غاية البصيرة منه. وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ببطن مكة من المشركين، وقد تعلمون حسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه، فبلغ في هامته، في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل يومئذ أمنع أهل البطحاء، وهو رأس الكفر.

ثم صنيع عمر حيث يقول يوم أسلم: " والله لا نعبد الله سراً بعد هذا اليوم "، حتى قال بعد موته عبد الله بن مسعود: " وما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر ". فصل منه ولو كان في ذلك الزمان القتال ممكناً، والوثوب مطمعاً، لقاتل أبو بكر ونهض كما نهض في الردة، وإنما قاتل علي في الزمان الذي قد أقرن فيه أهل الإسلام لأهل الشرك، وطمعوا أن تكون الحرب سجالاً، وقد أعلمهم الله أن العاقبة للمتقين، وأبو بكر مفتون مفرد ومطرود مشرد ومضروب معذب، في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: " طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام "، يقول: في أيام ضعفه وقلته، بحيث كانت الطاعة أعظم لفرط الامتحان، والبلاء أغلظ لشدة الجهد، لأن الاحتمال كلما كان أشد وأدوم، كانت الطاعة أفضل، والعزم فيه أقوى. ولا سواء مفتون مشرد لا حيلة عنده، ومضروب معذب لا انتصار به، ولا دفع عنده، ومباطش مقرن يشفي غيظه، ويروي غليله، وله مقدم يكنفه ويشجعه.

ولا سواء مقهور لا يغاث، ولم ينزل القرآن بعد بظفره. وقد هتك اليأس لما ألفى حجاب قلبه ونقض قوى طمعه حتى بقي وليس معه إلا احتسابه؛ ومقاتل في عسكره معه عز الرجال، وقوة الطمع، وطيب نفس الآمل. فصل منه وإن سأل سائل فقال: هل على الناس أن يتخذوا إماماً، وأن يقيموا خليفة؟ قيل لهم: إن قولكم الناس يحتمل الخاصة والعامة. فإن كنتم قصدتم إليهما، ولم تفصلوا بين حاليهما، فإنا نزعم أن العامة لا تعرف معنى الإمامة. وتأويل الخلافة، ولا تفصل بين فضل وجودها ونقص عدمها، ولأي شيء ارتدت، ولأي أمر أملت، وكيف مأتاها والسبيل إليها، بل هي مع كل ريح تهب، وناشئة تنجم. ولعلها بالمبطلين أقر عيناً منها بالمحقين، وإنما العامة أداة للخاصة تبتذلها للمهن، وتزجي لها الأمور، وتصول بها على العدو، وتسد بها الثغور. ومقام العامة من الخاصة مقام جوارح الإنسان من الإنسان، فإن الإنسان إذا فكر أبصر، وإذا أبصر عزم، وإذا عزم تحرك أو سكن، وهما بالجوارح دون القلب.

وكما أن الجوارح لا تعرف قصد النفس، ولا تروي في الأمور، ولم يخرجها ذلك من الطاعة للعزم، فكذلك العامة، لا تعرف قصد القادة ولا تدبير الخاصة، ولا تروي معها، وليس يخرجها ذلك من عزمها، وما أبرمت من تدبيرها. والجوارح والعوام، وإن كانت مسخرة ومدبرة فقد تمتنع لعلل تدخلها، وأمور تصرفها، وأسباب تنقضها، كاليد يعرض لها الفالج واللسان يعتريه الخرس، فلا تقدر النفس على تسديدهما وتقويتهما، ولو اشتد عزمها، وحسن تأتيها ورفقها. وكذلك العامة عند نفورها وتهيجها، وغلبة الهوى والسخف عليها، وإن حسن تدبير الخاصة، وتعهد السياسة. غير أن معصية الجارحة أيسر ضرراً، وأهون أمراً، لأن العامة إذا انتكثت للخاصة، وتنكرت للقادة، وتشزنت على الراضة، كان البوار الذي لا حيلة له، والفناء الذي لا بقاء معه. وصلاح الدنيا، وتمام النعمة في تدبير الخاصة وطاعة العامة، كما أن كمال المنفعة وتمام درك الحاجة بصواب قصد النفس؛ لأن

النفس لو أدركت كل بغية، وأوفت كل غاية، وفتحت كل مستغلق، واستثارت كل دفين، ثم لم يعطها اللسان بحسن العبارة واليد بحسن الكتابة، كان وجود ذلك المستنبط - وإن جل قدره - وعدمه سواء. فالخاصة تحتاج إلى العامة كحاجة العامة إلى الخاصة، وكذلك القلب والجارحة، وإنما هم جند للدفع، وسلاح للقطع، وكالترس للرامي، والفأس للنجار. وليس مضي سيف صارم بكف امرىء صارم، بأمضى من شجاع أطاع أميره، وقلد إمامه. وما كلب أشلاه ربه، وأحمشه كلابه، بأفرط نزقاً ولا أسرع تقدماً، ولا أشد تهوراً من جندي أغراه طمعه، وصاح به قائده. وليس في الأعمال أقل من الاختيار، ولا في الاختيار أقل من الصواب، فلباب كل عمل اختياره، وصفوة كل اختيار صوابه. ومع كثرة الاختيار يكثر الصواب، وأكثر الناس اختياراً أكثرهم صواباً، وأكثرهم أسباباً موجبه أقلهم اختياراً، وأقلهم اختياراً أقلهم صواباً.

فإن قالوا: فقد ينبغي للعوام أن لا يكونوا مأمورين ولا منهيين، ولا عاصين ولا مطيعين. قيل لهم: أما فيما يعرفون فقد يعصون ويطيعون. فإن قالوا: فما الأمر الذي يعرفون من الأمر الذي يجهلون؟ قيل لهم: أما الذي يعرفون، فالتنزيل المجرد بغير تأويله، وجملة الشريعة بغيرها، وما جل من الخبر واستفاض، وكثر ترداده على الأسماع، وكرروه على الأفهام. وأما الذي يجهلون فتأويل المنزل وتفسير المجمل، وغامض السنن التي حملتها الخواص عن الخواص، من حملة الأثر وطلاب الخبر مما يتكلف معرفته، ويتبع في مواضعه، ولا يهجم على طالبه، ولا يقهر سمع القاعد عنه. والخبر خبران: خبر ليس للخاصة فيه فضل على العامة، وهو كما سن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام، وأبواب القضاء والطلاق، والمناسك، والبيوع، والأشربة، والكفارات، وأشباه ذلك. وباب آخر يجهله العوام، ويخبط فيه الحشو ولا تشعر بعجزها ولا موضع دائها. ومتى جرى سببه، أو ظهر شيء منه تسنمت

أعلاه، وركبت حومته، كالكلام في الله، وفي التشبيه، والوعد والوعيد؛ لأنها قد عجزت عن دعوى الفتيا، ولا تتهافت فيها، ولا تتسكع فيما لا يعرف منها، ولا تتوحش من الكلام في التعديل والتجوير، ولا تفرغ من الكلام في الاختيار والطباع، ومجيء الآثار، وكل ما جرى سببه من دقيق الكلام وجليله، في الله تعالى وفي غيره. ولو برز عالم على جادة منهج وقارعة طريق، فنازع في النحو واحتج في العروض، وخاض في الفتيا، وذكر النجوم والحساب، والطب والهندسة، وأبواب الصناعات، لم يعرض له، ولم يفاتحه إلا أهل هذه الطبقات. ولو نطق بحرف في القدر حتى يذكر العلم والمشيئة، والتكليف والاستطاعة، وهل خلق الله تعالى الكفر وقدره أو لم يخلقه ولم يقدره، لم يبق حمال أغثر، ولا بطال غث، ولا خامل غفل ولا غبي

كهام، ولا جاهل سفيه، إلا وقف عليه ولاحاه وصوبه وخطأه ثم لا يرضى حتى يتولى من أرضاه، ويكفر من خالف هواه، فإن جاراه محق، وأغلظ له واعظ، واتفق أن يكون بحضرته أشكاله استغوى أمثاله، فأشعلوها فتنة وأضرموها ناراً. فليس لمن كانت هذه حاله أن يتحيز مع الخاصة، مع أنه لو حسنت نيته، لم تحتمل فطرته معرفة الفصول، وتمييز الأمور. فإن قالوا: ولعلهم لا يعرفون الله ورسوله، كما لا يعرفون عدله من جوره، وتشبيهه بخلقه من نفي ذلك عنه. وكما لا يعرفون القرآن وتفسير جمله، وتأويل منزله. قيل لهم: إن قلوب البالغين مسخرة لمعرفة رب العالمين، ومحمولة على تصديق المرسلين، بالتنبيه على مواضع الأدلة، وقصر النفوس على الروية، ومنعها عن الجولان والتصرف، وكل ما ربث عن التفكير، وشغل عن التحصيل، من وسوسة أو نزاع شهوة؛ لأن الإنسان ما لم يكن معتوهأ أو طفلأ، فمحجوج على ألسنة المرسلين، عند

جميع المسلمين. ولا يكون محجوجاً حتى يكون عالماً بما أمر به، عارفاً بما نهي عنه؛ لأن من لم يعلم في أي الضربين سخط الله، وفي أي نوع رضاه، ثم ركب السخط أو أتى الرضا لم يكن ذلك منه إلا على اتفاق. وإنما الاستحقاق مع القصد. والله تبارك يتعالى عن أن يعاقب من لم يرد خلافه، ولم يعرف رضاه. أو يحمد من لم يعتمد رضاه، ولم يقصد إليه. ولم يكن الله تعالى ليعدل صنعته ويسوي أداته ويفرق بينه وبين المنقوص في بنيته وتركيبه، إلا ليفرق بين حاله وبين الطفل والمعتوه. وليس للمعرفة وجه إلا لتبصيره وتخييره، ولولا ذلك لم يكن للذي خص به من الإبانة وتعديل الصنعة، وإحكام البنية معنىً. والله تعالى عن فعل ما لا معنى له. وفي قول الله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " دليل على ما قلنا. وليس لأحد أن يخرج بعض الجن والإنس من أن يكون خلق للعبادة إلا بحجة، ولا حجة إلا في عقل، أو في كتاب، أو خبر. فإن قالوا: فإن كان الله إنما أبانهم بالتعديل والتسوية للعبادة والاختيار، فلم قلتم: إنهم غير مأمورين بإقامة الأئمة والاختيار مع

الأمة، وحكمهم حكم المسلمين المتعبدين. وإنما الإمام إمام المسلمين المتعبدين؟ قلنا: إنما يلزم الناس الأمر فيما عرفوا سبيله. وليس للعوام - خاصة - معرفة بسبيل إقامة الأئمة فيلزمها، أو يجري عليها أمر أو نهي. والعامة وإن كانت تعرف جمل الدين بقدر ما معها من العقول، فإنه لم يبلغ من قوة عقولها، وكثرة خواطرها أن ترتفع إلى معرفة العلماء ولم يبلغ من ضعف عقولها أن تنحط إلى طبقة المجانين والأطفال. وأقدار طبائع العوام والخواص، ليست مجهولة فيحتاج إلى الإخبار عنها بأكثر من التنبيه عليها؛ لأنكم تعلمون أن طبائع الرسل فوق طبائع الخلفاء، وطبائع الخلفاء فوق طبائع الوزراء، وكذلك الناس على منازلهم من الفضل، وطبقاتهم من التركيب، في البخل والسخاء، والبلادة والذكاء، والغدر والوفاء، والجبن والنجدة، والصبر والجزع، والطيش والحلم، والكبر والتيه، والحفظ والنسيان، والعي والبيان. ولو كانت العامة تعرف من الدين والدنيا ما تعرف الخاصة، كانت العامة خاصة، وذهب التفاضل في المعرفة، والتباين في البنية. ولو لم يخالف بين طبائعهم لسقط الامتحان وبطل الاختيار، ولم يكن في الأرض اختيار، وإنما خولف بينهم في الغريزة ليصبر بها صابر، ويشكر شاكر، وليتفقوا على الطاعة، ولذلك كان الاختلاف، وهو سبب الائتلاف.

؟ فصل من صدر كتاب المسائل والجوابات في المعرفة

بالله نستعين، وعليه نتوكل، وما توفيقنا إلا بالله. اختلف الناس في المعرفة اختلافاً شديداً، وتباينوا فيها تبايناً مفرطاً. فزعم قوم أن المعارف كلها فعل الفاعلين إلا معرفة لم يتقدمها سبب منهم، ولم يوجبها علة من أفعالهم. ولم يرجعوا إلى معرفة الله ورسوله، والعلم بشرائعه، ولا إلى كل ما فيه الاختلاف والمنازعة، وما لا يعرف حقائقه إلا بالتفكر والمناظرة، دون درك الحواس الخمس. فزعموا أن ذلك أجمع فعلهم، على الأسباب الموجبة، والعلل المتقدمة، وجعلوا مع ذلك سبيل المعرفة بصدق الأخبار، كالعلم بالأمصار القائمة، والأيام الماضية، كبدر وأحد والخندق، وغير ذلك من الوقائع والأيام، وكالعلم بفرغانة والأندلس، والصين والحبشة، وغير ذلك من القرى والأمصار سبيل الاكتساب والاختيار؛ إذ كانوا هم الذين نظروا حتى عرفوا فصل ما بين المجيء الذي لا يكذب مثله، والمجيء الذي يمكن الكذب في مثله.

فزعموا أن جميع المعارف سبيلها سبيل واحد، ووجوه دلائلها وعللها متساوية، إلا ما وجد الحواس بغتة، وورد على النفوس في حال عجز أو غفلة، وكان هو القاهر، للحاسة، والمستولي على القوة، من غير أن يكون من البصر فتح، ومن السمع إصغاء ومن الأنف شم، ومن الفم ذوق ومن البشرة مس، فإن ذلك الوجود فعل الله دون الإنسان، على ما طبع عليه البشر، وركب عليه الخلق. قالوا: فإذا كان درك الحواس الخمس إذا تقدمته الأسباب، وأوجبته العلل فعل المتقدم فيه والموجب له، ودرك الحواس أصل المعارف، وهو المستشهد على الغائب، والدليل على الخفي، وبقدر صحته تصح المعارف، وبقدر فساده تفسد فالذي تستخرجه الأذهان منه، وتستشهده عليه، كعلم التوحيد، والتعديل والتجوير، وغامض التأويل، وكل ما أظهرته العقول بالبحث، وأدركته النفوس بالفكر من كل علم، وصناعة الحساب والهندسة، والصياغة والفلاحة أجدر أن يكون فعله والمنسوب إلى كسبه. قالوا: فالدليل على درك الحواس فعل الإنسان على ما وصفنا واشترطنا، من إيجاب الأسباب، وتقدم العلل: أن الفاتح بصره لو لم يفتح لم يدرك. فلما كان البصر قد يوجد مع عدم الإدراك، ولا يعدم الإدراك مع وجود الفتح، كان ذلك دليلاً على أن الإدراك إنما كان لعلة الفتح، ولم يكن لعلة البصر؛ لأنه لو كان لعلة صحة البصر كانت الصحة لا توجد أبداً إلا والإدراك موجود. فإذا كانت الصحة قد توجد مع عدم الإدراك، ولا يعدم الإدراك مع

وجود الفتح، كان ذلك شاهداً على أنه إنما كان لعلة الفتح دون صحة البصر. وقالوا: ولأن طبيعة البصر قد كانت غير عاملة حتى جعلها الفاتح بالفتح عاملة، ولأن الفتح علة الإدراك ومقدمة بين يديه، وتوطئة له. وليس الإدراك علة للفتح ولا مقدمة بين يديه، ولا توطئة له، فواجب أن يكون فعل الفاتح، لأن السبب إذا كان موجباًفالمسبب تبع له. فصل منه ثم قالوا بعد الفراغ من درك الحواس في معرفة الله ورسوله وكل ما فيه الاختلاف والتنازع، أن ذلك أجمع لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون يحدث من الإنسان لعلة النظر المتقدم، أو يكون يحدث على الابتداء، لا عن علة موجبة وسبب متقدم. فإن كانوا أحدثوه على الابتداء، فلا فعل أولى بالاختيار، ولا أبعد من الاضطرار منه. وإن كان إنما كان لعلة النظر المتقدم، كما قد دللنا في صدر الكلام على أن درك الحواس فعل الإنسان إذا تقدم في سببه، فالعلم

بالله وكتبه ورسله أجدر أن يكون فعله. إذ كان من أجل نظره علم، ومن جهة بحثه أدرك. فهذه جمل دلائل هؤلاء القوم. ورئيسهم بشر بن المعتمر. ثم هم بعد ذلك مختلفون في درك الحواس إلا ما اعتمد إدراكه بعينه وقصد إليه بالفتح والإرادة؛ لأن الفتح نفسه لو لم يكن معه قصد وإرادة ما كان فعل الفاتح. فكيف يجوز أن يكون الإدراك فعله من غير قصد. ولو جاز أن يكون الفتح فعل الإنسان من غير أن يكون أراده وقصد إليه، ما كان بين فعل الإنسان وبين فعل غيره فرق؛ لأنه كان لا يجوز أن يكون ذهاب الحجر إذا لم يدفعه، ولم يقصد إليه، ولم يخطر له على بال، فعله. فكذلك الإدراك إذا لم يخطر على باله، ولم يقصد إليه، ولم يتعمده، لا يكون فعله. فصل منه وليس على المخبر بقصة خصمه والواصف لمذهب غيره، أن يجعل باطلهم حقاً، وفاسدهم صحيحاً، ولكن عليه أن يقول بقدر ما تحتمله النحلة، وتتسع له المقالة، وعليه أن لا يحكي عن خصمه ويخبر عن مخالفه إلا وأدنى منازله ألا يعجز عما بلغوه، ولا يغبى عما أدركوه.

فصل منه وقد زعم آخرون أن المعارف ثمانية أجناس: واحد منها اختيار، وسبعة منها اضطرار. فخمسة منها درك الحواس الخمس، ثم المعرفة بصدق الأخبار، كالعلم بالقرى والأمصار، والسير والآثار، ثم معرفة الإنسان إذا خاطب صاحبه أنه موجه بكلامه إليه، وقاصد به نحوه. وأما الاختيار فكالعلم بالله ورسوله، وتأويل كتبه، والمستنبط من علم الفتيا وأحكامه، وكل ما كان فيه الاختلاف والمنازعة. وكان سبيل علمه النظر والفكرة. ورئيس هؤلاء أبو إسحاق. وزعم معمر أن العلم عشرة أجناس: خمسة منها درك الحواس، والعلم السادس كالسير الماضية والبلدان القائمة، والسابع: علمك بقصد المخاطب إليك وإرادته إياك، عند المحاورة والمنازعة. وقبل ذلك: وجود الإنسان لنفسه، وكان يجعله أول العلوم، ويقدمه على درك الحواس. وكان يقول: ينبغي أن يقدم وجود الإنسان لنفسه على وجوده لغيره. وكان يجعله علماً خارجاً من درك الحواس؛ لأن الإنسان لو كان أصم لأحس نفسه ولم يحس صوته، ولو كان أخشم لأحس نفسه ولم يحس رائحته. وكذلك سبيل المذاقات والملامس. فلما كان المعنى

كذلك وجب أن يفرد من درك الحواس، ويجعل علماً ثامناً على حياله وقائماً بنفسه. ثم جعل العلم التاسع: علم الإنسان بأنه لا يخلو من أن يكون قديماً أو حديثاً. وجعل العلم العاشر: علمه بأنه محدث وليس بقديم. فصل منه ولست آلو جهداً في الكلام والإيجاز في الإدخال على بشر بن المعتمر في درك الحواس، ثم على أبي إسحاق في ذلك، وفي غيره مما ذكرت من مذاهبه، وتركه قياس ما بنى عليه إن شاء الله، لنصير إلى الكلام في المعرفة، فإني إليه أجريت، وإياه اعتقدت، ولكني أحببت أن أبدي فساد أصولهم قبل فروعهم، فإن ذلك أقتل للداء وأبلغ في الشفاء، وأحسم للعرق، وأقطع للمادة، وأخف في المؤونة على من قرأ الكتاب، وتدبر المسألة والجواب. وبالله ذي المن والطول نستعين.

فصل من رده على أبي إسحاق النظام وأصحابه يقال لهم: حدثونا عن العلم بالله ورسوله وتأويل كتبه، وعن علم القدر وعلم المشيئة، والأسماء والأحكام. أباكتساب هو أم باضطرار؟ فإن زعموا أنه باكتساب قيل لهم: فخبرونا عن علمكم بأن ذلك أجمع اكتساب، أباكتساب هو أم باضطرار؟ فإن قالوا: باكتساب. قيل لهم: أو ليس اعتقاد خلاف ذلك أجمع باكتساب؟ فإن قالوا: نعم. قيل لهم: فإذا كان اعتقاد الحق واعتقاد الباطل باكتساب أفليس كل واحد من المكتسبين عند نفسه على الصواب؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: أو ليس كل واحد منهما ساكن القلب إلى مذهبه واختياره؟ فإذا قالوا نعم قيل لهم: فما يؤمن المحق من الخطأ؟ وليس سكون القلب وثقته علامة للحق، لأن ذلك لو كان علامة لكان المبطل محقاً، إذ كان قد يجد من السكون والثقة ما لا يجد المحق. وقلنا: وما معنى خلافه إلا أن يكون المبطل شاكاً، أو يكون عارفاً بتقصيره، أو يكون مكترثاً لوهن يجده. فإذا لم يكن كذلك فلا فرق بين المعقودين.

فإن قالوا: إن فرق ما بينهما أن سكون قلب المحق حق في عينه، وسكون قلب المبطل باطل في عينه. قلنا: أو ليس ذلك غير محول لسكون المبطل عن الثقة إلى الاضطراب ولا مغيره إلى الاكتراث؟ فإذا قالوا ذلك، قيل لهم: فما يؤمن المحق أن يكون سكونه أيضاً باطلاً في عينه إذا كان سكونه لا ينقص عن سكون المبطل. ولئن كان فرق السكون بينهما ظاهر الاجتهاد والعبادة، فمن أظهر اجتهاداً من الرهبان في الصوامع، والخوارج في بذل النفوس؟ فإن قالوا: الفرق بينهما أن المحق قد استشهد الضرورات، والمبطل لم يستشهدها. قلنا: فهل يجوز أن يكون عند نفسه قد استشهد الضرورات. حتى لو سأله سائل فقال: ما يؤمنك من الخطأ؟ لقال: استشهادي للضرورات. فإن زعموا أن المبطل لا يجوز أن يكون عند نفسه قد استشهد الضرورات، لأن ذلك هو علامة الحق، والفصل بينه وبين الباطل. قلنا: وهل رأيتم أحداً اكتسب علماً قط، أو نظر في شيء إلا وأول نظره إنما هو على أصل الاضطرار؛ لأن المفكر لا يبلغ من جهله

أن يستشهد الخفي، بل من شأن الناس أن يستدلوا بالظاهر على الباطن إذا أرادوا النظر والقياس؛ ثم هم بعد ذلك يخطئون أو يصيبون. وقلنا: فينبغي أن يكون كل مبطل في الأرض قد علم حين يقال له: ما يؤمنك أن تكون مبطلا؟ أنه لم يستشهد الضرورات، وأنكر أصله الذي قاس عليه واستنبط منه ضرورة، وأنه إنما قال بالعسف أو بالتقليد. وإذا كانوا كذلك فهل يخلو أمرهم من أن يكونوا قد علموا أنهم على خطاء أو يكونوا شكاكاً، أو يكونوا عند أنفسهم مستشهدين للضرورات، وإن كانوا قد تركوا ذلك عند بعض المقدمات. فإن كانوا قد علموا أنهم لم يستشهدوا الضروريات، وإن كانوا شكاكاً فيها؛ فليس على ظهر الأرض مخطىء إلا وهو عالم بموضع خطائه، أو شاك فيه. أو كانوا عند أنفسهم مستشهدين للضرورات، فما يؤمنكم أن تكونوا كذلك؟ فإن قالوا: ليس أحد يعرف أن علامة الحق استشهاد الضرورات غيرنا. قلنا: أو لستم معشر أبي إسحاق النظام تختلفون في أمور كثيرة، وقد كنتم تخالفون صاحبكم خلافاً كثيراً، وكلكم إذا سأله سائل: ما يؤمنك أن تكون على باطل؟ قال: لأني مستشهد للضرورات. فهل

يخلو أمركم من أحد وجهين: إما أن تكونوا صادقين على أنفسكم، أو كاذبين عليها؟ فإن كنتم صادقين فقد صار قلب المحق كقلب المبطل؛ إذ كان كل واحد عند نفسه مستشهداً للضرورات. وإن كنتم كاذبين فهل منكم محق إلا وهو يلقى الخصم بمثل دعواه في استشهاد الضرورات؟ وهل منكم واحد على حياله محقاً أو مبطلا إلا وجوابه لنا مثل جواب صاحبه. فإذا كانت القلوب قد تكون عند أنفسها مستشهدة للضرورات، وهي غير مستشهدة لها، وكون القلب كذلك هو علامة الحق، فما الفرق بين قلب المحق والمبطل؟ ومع ذلك إنا وجدنا صاحبكم قبلكم ووجدناكم بعده قد رجعتم عن أقاويل كثيرة، بعد أن كان جوابكم لمن سألكم ما يؤمنكم أن تكونوا على باطل، أن تقولوا: استشهادنا للضرورات. ونحن لو سألناكم عما رجعتم عنه، فقلنا لكم: لعلكم على خطأ، ولعلكم من هذه الأقاويل على غرر، لم يعد جوابكم استشهاد الضرورات.

فصل من هذا الكتاب في الجوابات ثم إني واصل قولي في المعرفة ومجيب خصمي في معنى الاستطاعة وفي أي أوجهها يحسن التكليف وتثبت الحجة؛ ومع أيها يسمج التكليف وتسقط الحجة. فأول ما أقول في ذلك: أن الله - جل ذكره - لا يكلف أحداً فعل شيء ولا تركه إلا وهو مقطوع العذر، زائل الحجة. ولن يكون العبد كذلك إلا وهو صحيح البنية، معتدل المزاج، وافر الأسباب، مخلى السرب، عالم بكيفية الفعل، حاضر النوازع، معدل الخواطر، عارف بما عليه وله. ولن يكون العبد مستطيعاً في الحقيقة دون هذه الخصال المعدودة، والحالات المعروفة، التي عليها مجاري الأفعال، ومن أجلها يكون الاختيار ولها يحسن التكليف، ويجب الفرض، ويجوز العقاب، ويحسن الثواب. ولو كان الإنسان متى كان صحيحاً كان مستطيعاً، لكان من لا سلم له للصعود مستطيعاً.

ولن يكون أيضاً مع ذلك كله للفعل مختاراً، وله في الحقيقة دون المجاز مستطيعاً، إلا وجميع أوامره في وزن جميع زواجره، حتى إذا ما قابلت بين مرجوهما ومخوفهما، وبين تقديم اللذة وخوف الآخرة، وبين تعجيل المكروه وتأميل العاقبة، وجدتهما في الحدر والرفع، وفي القبض والبسط سواء. ولا يكون أيضاً كذلك إلا وبقاؤه في الحال الثانية معلوم، لأن الفعل حارس والطباع محروسة، والنفس عليها موقفة. فإن كان الحارس أقوى من طباعها كان ميل النفس معه طباعاً؛ لأن من شأن النفس الميل إلى أقوى الحارسين، وأمتن السببين. ومتى كانت القوتان متكافئتين كان الفعل اختيارياً، ومن حد الغلبة خارجاً، وإن كانت الغلبة تختلف في اللين والشدة، وبعضها أخفى وبعضها أظهر، كفرار الإنسان من وهج السموم إذا لم يحضره دواعي الصبر، وأسباب المكث. وهو من لهب الحريق أشد نفرة، وأبعد وثبة، وأسرع حركة. ومتى قويت الطبيعة على العقل أوهنته وغيرته، ومتى توهن وتغير تغيرت المعاني في وهمه، وتمثلت له على غير حقيقتها. ومتى كان

كذلك كل عن إدراك ما عليه في العاقبة، وزينت له الشهوات ركوب ما في العاجلة. ومتى - أيضاً - فضلت قوى عقله على قوى طبائعه أوهنت طبائعه، ومتى كانت كذلك آثر الحزم والآجلة على اللذة العاجلة، طبعاً لا يمتنع منه، وواجباً لا يستطيع غيره. وإنما تكون النفس مختارة في الحقيقة، ومجانبة لفعل الطبيعة إذا كانت أخلاطها معتدلة، وأسبابها متساوية، وعللها متكافئة، فإذا عدل الله تركيبه وسوى أسبابه، وعرفه ما عليه وله، كان الإنسان للعقل مستطيعاً في الحقيقة، وكان التكليف لازماً له بالحجة. ولولا أنك تحتاج إلى التعريف بأن المأمور المنهي لا بد له من التسوية والتعديل لما قال الله تعالى: " والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها ". ولو جاز أن يعلم موضع غيها ورشدها من غير أن يسويها ويهيئها لكان ذكر التسوية فضلاً من القول. والله يتعالى عن هذا وشبهه علواً كبيراً.

فصل في جواب من يسأل عن المعرفة باضطرار هي أم باكتساب قلنا: إن الناس لم يعرفوا الله إلا من قبل الرسل، ولم يعرفون من قبل الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والزيادة والنقصان. على أنا لا نشك أن رجالاً من الموحدين قد عرفوا وجوهاً من الدلالة على الله بعد أن عرفوه من قبل الرسل، فتكلفوا من ذلك ما لا يجب عليهم، وأصابوا من غامض العلم ما لا يقدر عليه عوامهم، من غير أن يكونوا تكلفوا ذلك لشك وجدوه، أو حيرة خافوها؛ لأن أعلام الرسل مقنعة، ودلائلها واضحة، وشواهدها متجلية، وسلطانها قاهر، وبرهانها ظاهر. فإن قال: أباكتساب علموا صدق الرسل أم باضطرار؟ قلنا: باضطرار. فإن قالوا: فخبرونا عن من عاين النبي صلى الله عليه وسلم وحجته، والمتنبي وحيلته، كيف يعلم صدق النبي من كذب المتنبي، وهو لم ينظر ولم يفكر؟ فإن قلتم: إنه نظر، وفكر، فقد رجعتم إلى الاكتساب. وإن قلتم: إنه لم ينظر ولم يفكر فلم عرف الفصل بينهم دون أن يجهله؟ وكيف علم ذلك وهو لا يعرف الحجة من الحيلة؟ وما يؤمنه

أن يكون مبطلاً إذا كان لم ينظر في أمور الدنيا، ولم يختبر معانيها حتى يعرف الممتنع من الممكن، وما لا يزال يكون بالاتفاق مما لا يمكن ذلك فيه؟ وكيف ولم يعرف العادة وجرى الطبيعة وإلى أين تبلغ الحيلة وأين تعجز الحيلة، وعند أي ضرب يسقطان، وعلى أي ضرب يقومان؟ ولم عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم حين عاين شاهده وأبصر أعاجيبه، من غير امتحان لها وتعقب لمعانيها، دون أن يعتقد صدق المتنبي إذا أورد عليه أعاجيبه وخدعه وحيله؟ بل كيف لم يعرف الله حين وقع بصره على الدنيا من غير فكرة فيها وتقليب لأمرها. والدنيا بأسرها دلالة عما عرف صدق النبي حين أبصر دلالته من غير تفكير فيها أو تقليب لأمرها. وقد علمنا أن الدنيا دالة على أن شواهد النبي دالة، ومتى كان ظاهر أحدهما يغني عن التفكير كان الآخر مثله، إذ لم يكن في القياس بينهما فرق، ولا في المعقول فضل. قلنا: إن تجارب البالغ قبل أن يهجم على دلالات الرسل تأتي على جميع ذلك. ولعمري أن لو كان هجومه عليها قبل المعرفة بمجاري وتصريف الدهور وعلاقات الدنيا، والتجربة لتصريف أمورها، لما

وصل إلى معرفة صدق النبي إلا بعد مقدمات كثيرة، وترتيبات منزلة؛ لأن مشاهد الشواهد إنما تضطره المشاهدة لها إذا كان قد جرب الدنيا، وعرف تصرفها وعادتها قبل ذلك. ولو لم يكن جربها قبل ذلك حين عرف منتهى قوة بطش الإنسان وحيلته، وعرف الممكن من الممتنع، وما يمكن قوله بالاتفاق مما لا يمكن، لما عرف ذلك. فإن قالوا: وكيف جرب ذلك وعقله، وأتقنه وحفظه، وهو طفل غرير وحدث صغير؛ لأن غير البالغ طفل إلى أن يبلغ، وحين يبلغ فقد هجم على النبي صلى الله عليه وسلم وشواهده، أو هجم عليه النبي بشواهده، إما بخبر مقنع أو بعيان شاف. ففي أية الحالين جرب وعرف، وميز وحفظ، في حال الطفولة والغرارة؟ وهذا غير معروف في التجربة والعادة، والذي عليه ركبت الطبيعة. أما في حال البلوغ والتمام فحال البلوغ هي الحال التي أبلغه الله الرسالة، وقاده إلى رؤية الحجة، واستماع البرهان ومخرج الرسالة. فإذا كان الأمر، كما تقولون فقد كان ينبغي أن لا يصل إلى العلم بصدق النبي وقد أراه برهانه، وأسمعه حججه، حتى يمكث بعد ذلك دهراً يمتحن الدنيا ويتعقب أمورها، ويعمل التجربة فيها. فإن كان ذلك كذلك فلم سميتموه بالغاً، وليس في طاقته بعد العلم يفصل ما بين النبي والمتنبي؟

قلنا: إن التجربة على ضربين: أحدهما: أن يقصد الرجل إلى امتحان شيء ليعرف مخبره عما عرف منظره. والآخر: أن يهجم على علم ذلك من غير قصد. وقد يسمى الإنسان مجرباً، قاصداً أو هاجماً، فيزعم أن البالغ قد سقط من بطن أمه إلى أن يبلغ، مقلباً في الأمور المختلفة، ومصرفاً في خلال الحالات، بالمعرفة التي تلقحه الدنيا، بما تورد عليه من عجائبها، ويزداد في كل ساعة معرفة، وتفيده الأيام في كل يوم تجربة، كما يزداد لسانه قوة، وعظمه صلابة، ولحمه شدة، من أم تناغيه، وظئر تلهيه، وطفل يلاعبه، وطبيب يعالجه، ونفس تدعوه، وطبيعة تعينه، وشهوة تبعثه، ووجع يقلقه، كما يزيده الزمان في قوته، ويشد من عظمه ولحمه، ويزيده الغذاء عظما، وكثرة الغضب والتقليب جلدا. فإذا درج وحبا، وضحك وبكى، وأمكنه أن يكسر إناءً أو يكفئه، أو يسود ثوباً، أو يضرب دابرة الخادم، وانتهره القيم. فلا يزال ذلك دأبه ودأبهم حتى يفهم الإغراء والزجر، والتغذية والانتهار، كما يعرف الكلب اسمه إذا ألح الكلاب عليه به. وكما يعرف المجنون لقبه، وكما يحضر الفرس من وقع السوط من كثرة وقعه بعد رفعه عليه.

فصل منه في هذا المعنى فإذا استحكمت هذه الأمور في قلبه، وثبتت في خلده وصحت في معرفته، فهو حينئذ بالغ محتمل. وعند ذلك يسخر الله سمعه للخبر المثلج، أو بصره لمعاينة الشاهد المقنع، على يدي الرسول الصادق، ولا يتركه هملا، ولا يدعه غفلا، وقد عدل طبعه وأحكم صنعه، ووفر أسبابه، فلا يحتاج عند معاينته رسولاً يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويفلق البحر، إلى تفكير، ولا تمييل ولا امتحان ولا تجربة، لأنه قد فرغ من ذلك أجمع، واستحكم عنده العلم الذي أدب به، وهيئ له وأورد عليه. فإن كان لم يكن لذلك عامداً، ولا إليه قاصداً ولا به معنياً، وإنما هو عبد عبأه سيده، ورشحه مولاه، وهيأه خالقه لأمر لا يشعر به من مصلحته، ولا يخطر على باله من الصنع له حين غذاه به، وقاده إليه، وهيأه له. فإذا أورد عليه دعوى رسول، وأمته تشهد له بإحياء الموتى وفلق البحر، وبكل شيء قد عرف عجز البشر عن فعله والقوة عليه، علم بتجاربه المتقدمة بعادة الدنيا، أن ذلك ليس من صنع البشر، وأن مثله

لا يقع اتفاقاً، وأن الحيل لا تبلغه، فلا يمتنع مع رؤية البرهان وفهم الدعوى، أن يعلم أن الرسول صادق، وأن الراد عليه كاذب. فصل منه ولولا أن هذا كلام لم يكن من ذكره بد، لأنه تأسيس لما بعده، ومقدمة لما بين يديه، وتوطئة له، لاقتضبت الكلام في المعرفة اقتضابا، ولكن يمنعني عجز أكثر الناس عن فهم غايتي فيه إلا بنزيله وترتيبه. وكل كلام أتيت على فرعه، ولم تخبر عن أصله فهو خداع لا غناء عنده، وواهن لا ثبات له.

فصل من صدر كتابه في المعاد والمعاش

أما بعد فإن جماعات أهل الحكمة قالوا: واجب على كل حكيم أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يتبين أسباب الأمور، ويمهد لعواقبها. فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفاقهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأما معرفة الأمور عند تكشفها، وما يظهر من خفياتها. فذلك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالم والجاهل. وإني قد عرفتك - أكرمك الله - في أيام الحداثة، وحيث سلطان الهوى المخلط للأعراض أغلب على نظرائك، وسكر الشباب

والجدة المتحيفين للدين والمروءة مستول على لداتك، ففقتهم ببسطة المقدرة، وحميا الحداثة، وفضل الجدة، مع ما تقدمتهم به من الوسامة في الصورة، والجمال في الهيئة. وهذه أسباب تكاد أن توجب الانقياد للهوى، وتلجج في المهالك ولا يسلم معها إلا المنقطع القرين في صحة الفطرة، وكمال العقل. فاستعبدتهم الشهوات حتى أعطوها أزمة أديانهم، وسلطوها على مروءاتهم وأباحوها أعراضهم، فآلت بأكثرهم الحال إلى ذل العدم، وفقد عز الغني في العاجل، مع الندامة الطويلة والحسرة في الآجل. وخرجت نسيج وحدك أوحدياً في نفسك، حكمت وكيل الله عندك - وهو عقلك - على هواك، وألقيت إليه أزمة أمرك، فسلك بك طريق السلامة، وأسلمك إلى العاقبة المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذات أكثر مما بلغوا، ونال بك من الشهوات أكثر مما نالوا، وصرفك

من صنوف النعم في أكثر مما تصرفوا، وربط عليك من نعم الله التي خولك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو، وتسليطهم الهوى على أنفسهم فخاض بك تلك اللجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدين، وافر المروءة، نقي العرض، كثير الشراء، بين الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى الله أكثر من ميله إلى هواه. فلم أزل في أحوالك كلها تلك بفضيلتك عارفاً، ولك بنعم الله عندك غابطاً، أرى ظواهر أمرك المحمودة تدعوني إلى الانقطاع إليك، وأسأل عن بواطن أحوالك فيزيدني رغبة في الاتصال بك، ارتياداً مني لموضع الخيرة في الأخوة، والتماساً لإصابة الاصطفاء في المودة، وتخيراً لمستودع الرجاء في النائبة. فلما محصتك الخبرة، وكشف الابتلاء عن المحمدة، وقضت لك التجارب بالتقدمة، وشهدت لك قلوب العامة بالقبول والمحبة، وقطع الله عذر من كان يطلب الاتصال بك، طلبت الوسيلة إليك والاتصال بحبلك، ومتت بحرمة الأدب وذمام كرمك.

وكان من نعمة الله عندي أن جعل أبا عبد الله - حفظه الله - وسيلتي إليك، فوجدت المطلب سهلاً، والمراد محموداً، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنية ويفوت الأمل. فوصلت إخاي بمودتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني في مراعي ذوي الخاصة بك تفضلا لا مجازاة، وتطولاً لا مكافاة، فأمنت الخطوب، واعتليت على الزمان، واتخذتك للأحداث عدة، ومن نوائب الدهر حصناً منيعاً. فلما جرت المؤانسة، وتقلبت من فضلك في صنوف النعمة، وزاد تصرفي في مواهبك في السرور والحبرة، أردت خبرة المشاهدة فبلوت أخلاقك، وامتحنت شيمك، وعجمت مذاهبك، على حين غفلاتك، وفي الأوقات التي يقل فيها تحفظك، أراعي حركاتك، وأراقب مخارج أمرك ونهيك، فأرى من استصغارك لعظيم النعمة التي تنعم بها، واستكثارك لقليل الشكر من شاكريك، ما أعرف به وبما قد بلوت من غيرك وما قد شهدت لي به عليك التجارب، أن ذلك منك طبع غير تكلف. هيهات ما يكاد ذو التكلف أن يخفى على أهل الغباوة، فكيف على مثلي من المتصفحين؟

فصل منه ولم أزل - أبقاك الله - بالموضع الذي عرفت من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها. ومعلوم أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيين - صلوات الله تعالى عليهم أجمعين - وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل. فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً لعلم كثير من أمر المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها، وما اتفقت عليه محاسن الأمم. وعلمت أن ذلك من أعظم ما أبرك به، وأرجح ما أتقرب به إليك. وكان الذي حداني إلى ذلك ما رأيت الله تعالى قسم لك من العقل والفهم، وركب فيك من الطبع الكريم. وقد اجتمعت الحكماء على أن العقل المطبوع والكرم الغريزي، لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن، وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك. ورأيت كثيراً من واضعي الأدب قبلي، قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهوداً قاربوا فيها الحق، وأحسنوا فيها الدلالة. إلا

أني رأيت أكثر ما رسموا من ذلك فروعاً لم يبينوا عللها، وصفات حسنة لم يكشفوا أسبابها، وأموراً محمودة لم يدلوا على أصولها. فإن كان ما فعلوا من ذلك روايات رووها عن أسلافهم، ووراثات ورثوها عن أكابرهم فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من طب لمن استطب، وإن كانوا تركوا الدلالة على علل الأمور، التي بمعرفة عللها يوصل إلى مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظن بها. ولم تجد وصايا أنبياء الله تعالى أبداً إلا مبينة بالأسباب، مكشوفة العلل، مضروبة معها الأمثال. فصل منه ولن أدع من تلك المواضع الخفية موضعاً إلا أقمت لك بها بإزاء كل شبهة منه دليلاً، ومع كل خفي من الحق حجة ظاهرة، تستنبط بها غوامض البرهان، وتستثير بها دفائن الصواب، وتستشف بها سرائر القلوب، فتأتي بما تأتي عن بينة، وتدع ما تدع

عن خبرة، ولا يكون بك وحشة إلى معرفة كثير ما يغيب عنك إذا عرفت العلل والأسباب، حتى كأنك مشاهد لضمير كل امرىء لمعرفتك بطبعه وما ركب عليه. فصل منه اعلم أنك إذا أهملت ما وصفت لك عرضت تدبيرك إلى الاختلاط، وإن آثرت الهوينى، واتكلت على الكفاية في الأمر الذي لا يجوز فيه إلا نظرك، وزجيت أمرك على رأي مدخول، وأصل غير محكم، رجع ذلك عليك بما لو حكم فيه عدوك كان ذلك غاية أمنيته وشفاء غيظه. واعلم أن إجراءك الأمور مجاريها، واستعمالك الأشياء على وجوهها، يجمع لك ألفة القلوب، فيعاملك كل من عاملك بمودة، وأخذ وإعطاء، وهو على ثقة من بصرك بمواضع الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور.

فصل منه فإن ابتليت في بعض الأوقات بمن يتقرب بحرمة، ويمت بدالة، يطلب المكافأة بأكثر مما يستوجب، فدعاك الكرم والحياء إلى تفضيله على من هو أحق به، إما خوفاً من لسانه، أو مداراة لغيره، فلا تدع الاعتذار إلى من هو فوقه من أهل البلاء والنصيحة وإظهار ما أردت من ذلك لهم؛ فإن أهل خاصتك والمؤتمنين على أسرارك، هم شركاؤك في العيش، فلا تستهينن بشيء من أمورهم، فإن الرجل قد يترك الشيء من ذلك اتكالاً على حسن رأي أخيه، فلا يزال ذلك يجرح في القلب وينمو، حتى يولد ضغناً ويحول عداوة. فتحفظ من هذا الباب، واحمل إخوانك عليه بجهدك. وستجد من يتصل بك ممن يغلبه إفراط الحرص، وحميا الشره، ولين جانبك له، على أن ينقم العافية، ويطلب اللحوق بمنازل من ليس مثله، ولا له مثل دالته، فتلقاه لما تصنع به مستقلاً. ولمعروفك مستصغرا. وصلاح من كانت هذه حاله بخلاف ما فسد عليه أمره.

فاعرف طرائفهم وشيمهم، وداو كل من لا بد لك من معاشرته، بالدواء الذي هو أنجع فيه، إن ليناً فليناً، وإن شدة فشدة، فقد قيل في مثل: من لا يؤدبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه فصل منه واعلم أن المقادير ربما جرت بخلاف ما تقدر الحكماء، فينال بها الجاهل في نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا ينال الحازم الأريب الحذر، فلا يدعونك ما ترى من ذلك إلى التضييع والاتكال على مثل تلك الحال؛ فإن الحكماء قد اجتمعت على أن من أخذ بالحزم وقدم الحذر، فجاءت المقادير خلاف ما قدر، كان عندهم أحمد رأياً، وأوجب عذراً ممن عمل بالتفريط، وإن اتفقت له الأمور على ما أراد. ولا تكونن بشيء مما في يدك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً منك بالأخ الذي قد بلوته بالسراء والضراء فعرفت مذاهبه، وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناحيته، فإنه شقيق روحك، وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك.

ولست منتفعاً بعيش مع الوحدة، ولا بد من المؤانسة. وكثرة الاستبدال يهجم بصاحبه على المكروه. فإن صفا لك أخ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى خلقاً أو خلقين تكرههما، فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك. وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره. وقد قالت الحكماء: " من لك بأخيك كله ". و: " أي الرجال المهذب ". فصل منه واعلم أنك موسوم بسيما من قارنت، ومنسوب إليك أفاعيل من صاحبت. فتحرز من دخلاء السوء، وأظهر مجانبة أهل الريب، وقد جرت لك في ذلك الأمثال، وسطرت فيه الأقاويل، فقالوا: " المرء حيث يجعل نفسه ".

وقالوا: " يظن بالمرء ما يظن بقرينه ". وقالوا: " المرء بشكله "، و " المرء بأليفه ". ولن تقدر أن تتحرز من الناس، ولكن أقل المؤانسة إلا بأهل البراءة من كل دنس. واعلم أن المرء بقدر ما يسبق إليه يعرف، وبالمستفيض من أفعاله يوصف. فإن كان بين ذلك كثير من أخلاقه ألغاه الناس، وحكموا عليه بالغالب من أمره. فاجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفعالك كل ما يحمده العوام ولا تذمه الجماعات، فإن ذلك يعفي على كل خلل إن كان. فبادر ألسنة الناس واشغلها بمحاسنك، فإنهم إلى كل سيىء سراع، واستظهر على من دونك بالتفضل، وعلى نظائرك بالإنصاف، وعلى كل من فوقك بالإجلال، تأخذ بوثائق الأمور وبأزمة التدبير.

فصل من صدر رسالته إلى محمد بن عبد الملك في الجد والهزل

جعلت فداك، ليس من اختياري، النخل على الزرع. أقصيتني، ولا على ميلي إلى الصدقة دون إعطاء الخراج عاقبتني، ولا لبغض دفع الإتاوة والرضا بالجزية حرمتني. ولست أدري لم كرهت قربي، وهويت بعدي، واستثقلت روحي ونفسي، واستطلت عمري وأيام مقامي؟ ولم سرتك سيئتي ومصيبتي، وساءتك حسنتي وسلامتي؟ نعم، حتى ساءك عزائي وتجملي، بقدر ما سرك جزعي وتضجري، وحتى تمنيت أن أخطىء عليك، فتجعل خطائي حجة لك في إبعادي، وكرهت صوابي فيك خوفاً من أن تجعله ذريعة إلى تقريبي. فإن كان ذلك هو الذي أغضبك، وكان هو السبب لموجدتك، فليس - أبقاك الله - هذا الحقد في طبقة هذا الذنب، ولا هذه المطالبة من شكل هذه الجريمة.

فصل منه فأي شيء أبقيت للعدو المكاشف، وللموافق الملاطف، وللمعتمد المصر، وللقادر المدل؟ ومن عاقب على الصغير بعقوبة الكبير، وعلى الهفوة بعقوبة الإصرار، وعلى الخطأ بعقوبة العمد، وعلى معصية المتستر بعقوبة المعلن. ومن لم يفرق بين الأعالي والأسافل، وبين الأقاصي والأداني، عاقب على الزنى بعقوبة السرقة، وعلى القتل بعقوبة القذف. ومن خرج إلى ذاك في باب العقاب، خرج إلى مثله في باب الثواب. ومن خرج من جميع الأوزان، وخالف جميع التعديل كان بغاية العقاب أحق، وبه أولى. والدليل على شدة غيظك وغليان صدرك، قوة حركتك، وإبطاء فترتك، وبعد الغاية في احتيالك. ومن البرهان على بيان الغضب وعلى عظم الذنب، تمكن الحقد ورسوخ الغيظ، وبعد الوثبة وشدة الصولة. وهذا البرهان صحيح ما صح النظم، وقام التعديل، واستوت الأسباب. ولا أعلم ناراً أبلغ في إحراق أهلها من نار الغيظ، ولا حركة أنقض لقوى الأبدان من طلب الطوائل، مع قلة الهدوء، والجهل بمنافع الجمام، وإعطاء الحالات أقسامها من التدبير.

ولا أعلم تجارة أكثر خسراناً ولا أخف ميزاناً، من عداوة العاقل العالم، وإطلاق لسان الجليس والمداخل، والشعار دون الدثار، والخاص دون العام. والطالب - أبقاك الله - بعرض ظفر ما لم يخرج المطلوب، وإليه الخيار ما لم تقع المنازلة. ومن الحزم ألا تخرج إلى العدو إلا ومعك من القوى ما يغمر الفضلة التي يتيحها له الإخراج، ولا بد - أيضاً - من حزم يحذرك مصارع البغي، ويخوفك ناصر المطلوب. فصل منها والله لقد كنت أكره لك سرف الرضا، مخافة جواذبه إلى سرف الهوى، فما ظنك بسرف الغضب. وبغلبة الغيظ، ولا سيما ممن تعود إهمال النفس ولم يعودها الصبر، ولم يعرفها موضع الحظ في تجرع مرارة العفو. وإنما المراد من الأمور عواقبها لا عواجلها.

وقد كنت أشفق عليك من إفراط السرور، فما ظنك بإفراط الغيظ. وقد قال الناس: " لا خير في طول الراحة إذا كان يورث الغفلة، ولا في طول الكفاية إذا كان يؤدي إلى المعجزة. ولا في كثرة الغنى إذا كان يخرج إلى البلدة ". جعلت فداك إن داء الحزن، وإن كان قاتلا، فإنه داء مماطل، وسقمه سقم مطاول، ومعه من التمهل بقدر قسطه من أناة المرة السوداء. وداء الغيظ سفيه طياش، وعجول فحاش، يعجل عن التوبة، ويقطع دون الوصية. فصل منها وربت كلمة لا توضع إلا على معناها الذي جعلت حظه وصارت هي حقه، والدالة عليه دون غيره، كالعزم والعلم، والحلم والرفق؛ والأناة والمداراة، والقصد والعدل، وكالانتهاز والاهتبال، وكاليأس والأمل، وكالخرق والعجلة، والمداهنة والتسرع، والغلو والتقصير.

ورب كلمة تدور مع واصلتها، وتتقلب مع جارتها، وإزاء صاحبتها، وعلى قدر ما تقابل من الحالات وتلاقي من الأسباب، كالحب والبغض، والغضب والرضا، والعزم والإرادة، والإقبال والإدبار، والجد والفتور. لأن كل هذا الباب الأخير يكون في الخير والشر، ويكون محموداً ويكون مذموماً. وصاحب العجلة - أبقاك الله - صاحب لتغرير ومخاطرة، إن ظفر لم يحمده عاقل، وإن لم يظفر قطعته الملاوم. والريث أخو المعجزة، ومقرون بالحسرة، وعلى مدرجة اللائمة. وصاحب الأناة، إن ظفر نفع غيره بالغنم، ونفع نفسه بثمرة العلم، وطاب ذكره ودام شكره، وحفظ فيه ولده. وإن حرم فمبسوط عذره ومصوب رأيه مع انتفاعه بعلمه، وما يجد من عز حزمه، ونبل صوابه.

فصل منها ومن كانت طبيعته مأمونة عليه عند نفسه، وكان هواه رائده الذي لا يكذبه، والمتأمر عليه دون عقله، ولم يتوكل لما لا يهواه على ما يهوى، ولم ينصر تالد الإخوان على الطارف، ولم ينصف الملول المبعد من المستطرف المقرب، ولم يخف أن تجتذبه العادة وتتحكم عليه الطبيعة فليرسم حججهما ويصور صورهما في كتاب مقروء أو لفظ مسموع، ثم يعرضهما على جهابذة المعاني وأطباء أدواء العقول. على أن لا يختار إلا من لا يدري أي النوعين يتقي، وأيهما يحامي، وأيهما داؤه، وأيهما دواؤه. فإن لم يستعمل ذلك لم يزل متورطاً في الخطاء مغموراً بالذنب. سمعتك وأنت تريدني وكأنك تريد غيري، أو كأنك تشير علي من غير أن تنصني، وتقول: إني لأعجب ممن ترك دفاتر علمه متفرقة، وكراريس درسه غير مجموعة ولا منظومة، كيف يعرضها

للتخرم، وكيف لا يمنعها من التخرق؟ ! وعلى أن الدفتر إذا انقطعت حزامته وانحل شداده، وتخرمت ربطه، ولم تكن دونه وقاية، ولا دونه جنة، تفرق ورقه، واشتد جمعه، وعسر نظمه، وامتنع تأليفه، وضاع أكثره. والدفتان أجمع، وضم الجلود لها أصون والحزم لها أصلح. وينبغي للأشكال أن تنظم، والأشباه أن تؤلف؛ فإن التأليف يزيد الأجزاء الحسنة حسناً، والاجتماع يحدث للمتساوي في الضعف قوة. فصل منها أنت - أبقاك الله - شاعر وأنا راوية، وأنت طويل وأنا قصير، وأنت أصلع وأنا أنزع، وأنت صاحب براذين وأنا صاحب حمير،

وأنت ركين وأنا عجول. وأنت تدبر نفسك وتقيم أود غيرك، وتتسع لجميع الرعية، وتبلغ بتدبيرك أقصى الأمة. وأنا أعجز عن تدبيري وعن تدبير أمتي وعبدي. وأنت منعم وأنا شاكر، وأنت ملك وأنا سوقة. وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت تفعل وأنا أصف. وأنت متقدم وأنا تابع، وأنت إذا نازعت الرجال وناهضت الأكفاء لم تقل بعد فراغك وانقطاع كلامك: لو كنت قلت كذا لكان أجود، ولو تركت قول كذا كان أحسن. وأمضيت الأمور على حقائقها، وسلمت إليها أقساطها، على مقادير حقوقها، فلم تندم بعد قول، ولم تأسف بعد سكوت. وأنا إن تكلمت ندمت، وإن جاريت أبدعت. فصل منها وقد منحتك جلد شبابي كملاً؛ وغرب نشاطي مقتبلا، فكان لك مهناه، وثمرة قواه، واحتملت دونك عرامه وغربه، فكان لك غنمه وعلي غرمه.

وأعطيتك عند إدبار بدني قوة رأيي، وعند تكامل معرفتي نتيجة تجربتي، واحتملت دونك وهن الكبر وإسقام الهرم. وخير شركائك من أعطاك ما صفا وأخذ لنفسه ما كدر. وأفضل خلطائك من كفاك مؤونته وأحضرك معونته، وكان كلاله عليه ونشاطه لك. وأكرم دخلائك وأشكر مواليك من لا يظن أنك تسمي جزيل ما تحتمل في بذلك ومؤانستك مؤونة، ولا تتابع إحسانك إليه نعمة. بل يرى أن نعمة الشاكر فوق نعمة الواهب، ونعمة الواد المخلص، فوق نعمة الجواد المغني.

فصل من صدر كتابه في الوكلاء

وفقك الله للطاعة، وعصمك من الشبهة، وأفلجك بالحجة، وختم لك بالسعادة. غبرت - أصلحك الله - أزمان وأنت عندي ممن لا يمضي القول إلا بعد التثبت، ولا يخرج الكتاب إلا بعد التصفح، وكنت حرياً بتهيئة الرأي الفطير، جديراً أن تميل بنفسك عاقبة التفريط. ولولا كثرة مرور أيام المطالبة عليك لما ثقل عليك التثبت، ولولا قصر أيام التحصيل لما وثقت بأول خاطر، ولولا سوء العادة لما كذبك رائد النظر واتهمت الرأي. واعترام الغضبان يهور الأعمار، فإن الغضبان أسوأ أثراً

على نفسه من السكران، ولولا أن نار الغضب تخبو قبل إفاقة المعتوه، وضباب السكر ينكشف قبل انكشاف غروب عقل المدله، وأن حكم الظاعن خلاف حكم المقيم، وقضية المجتاز خلاف قضية الماكث، لكانت حال الغضبان أسوأ مغبة، وجهله أوبى، على أن الحكم له ألزم والناس له ألوم. وما أكثر ما يقحم الغضب المقاحم التي لا يبلغها جناية الجنون، وفرط جهل المصروع. فصل منه وإن الغمر لا يكون إلا عديم الآلة، منقطع المادة، يرى الغي رشدأً والغلو قصداً. فلو كنت إذا جنيت لم تقم على الجناية، وإذا عزمت على القول لم تخلده في الكتب، وإذا خلدته لم تظهر التبجح به، والاستبصار فيه، كان علاج ذلك أيسر، وكانت أيام سقمك أقصر. فأخزى الله التصميم إلا مع الحزم، والاعتزام إلا بعد التثبت والعلم إلا مع القريحة المحمودة، والنظر إلا مع استقصاء الروية. وأخلق بمن كان في صفتك، وأحر بمن جرى على دربك، ألا يكون سبب تسرعه، وعلة تشحنه إلا من ضيق الصدر. وجميع الخير راجع إلى سعة الصدر. فقد صح الآن أن سعة الصدر أصل، وما سوى ذلك من أصناف الخير فرع.

وقد رأيتك - حفظك الله - خونت جميع الوكلاء وفجرتهم، وشنعت على جميع الوراقين وظلمتهم، وجمعت جميع المعلمين وهجوتهم، وحفظت مساويهم، وتناسيت محاسنهم، واقتصرت على ذكر مثالب الأعلام والجلة، حتى صوب نفسك عند السامع لكلامك، والقارىء كتابك، أنك ممن ينكر الحق جهلا، أو يتركه معاندة له. وقد علم الناس أن من تركه جهلاً به أصغر إثماً ممن تركه عمداً. ولعمري إن العلم لطوع يديك، والمتصرف مع خواطرك، والمستملي من بديهتك، كما يستملي من ثمرة فكرك، والمحصل من رويتك. ولكن الرأي لك أن لا تثق بما يرسمه العلم في الخلا، وتتوقاه في الملا. اعلم أنك متى تفردت بعلمك استرسلت إليه. ومتى ائتمنت على نفسك نواجم خطرك، فقد أمكنت العدو من ربقة عنقك. وبنية الطبائع وتركيب النفوس، والذي جرت عليه العادة، إهمال النفس في الخلا، واعتقالها في الملا. فتوقف عند العادة، واتهم النفس عند الاسترسال والثقة. قال ابن هرمة:

إن الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يكون له عي وإكثار وبئس الشيء العجب، وحسن الظن بالبديهة! واعلم أن هذه الحال التي ارتضيتها لشأنك هي أمنية العدو، وتهزة الخصم، ومتى أبرزت كتابك على هذه الصورة وأفرغته هذا الإفراغ، ثم سبكته هذا السبك، فليس بعدوك حاجة إلى التكذيب عليك، وقول الزور فيك، لأنك قد مكنته من عرضك، وحكمته في نفسك. وبعد، فمن يعجز عن عيب كتاب لم يحرس بالتثبت، ولم يحصن بالتصفح، ولم يغب بالمعاودة والنظر، ولم يقلب فيه الطرف من جهة الإشفاق والحذر. فكيف يوفق الله الواثق بنفسه، والمستبد برأيه لأدب ربه، ولما وصى به نبيه صلى الله عليه وسلم حين قال لرجل خاصم عنده رجلا فقال في بعض كلامه: حسبي الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبل الله من نفسك عذراً، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله "

وزعمت في أول تشنيعك عليهم، فقلت: قال يعقوب بن عبيد لبعض ولده حين قال له في مرضه: أي شيء تشتهي؟ قال: كبد وكيل. وقد كان ترك التجارة من سوء معاملتهم وفحش خبائثهم.

فصل من جوابه عن الوكلاء قد فهمنا عذرك وسمعنا قولك، فاسمع الآن ما نقول: اعلم أن الوكيل، والأجير، والأمين، والوصي، في جملة الأمر، يجرون مجرىً واحداً. فأيش لك أن تقضي على الجميع بإساءة البعض. ولو بهرجنا جميع الوكلاء وخونا جميع الأمناء، واتهمنا جميع الأوصياء وأسقطناهم، ومنعنا الناس الارتفاق بهم، لظهرت الخلة وشاعت المعجزة، وبطلت العقد وفسدت المستغلات، واضطربت التجارات، وعادت النعمة بلية والمعونة حرماناً، والأمر مهملاً، والعهد مريجاً. ولو أن التجار وأهل الجهاز صاحبوا الجمالين والمكارين

والملاحين، حتى يعاينوا ما نزل بأموالهم في تلك الطرق والمياه، والمسالك والخانات، لكان عسى أن يترك أكثرهم الجهاز. فصل منه وقد قال الله عز وجل: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض "، وقال: " فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم " وقال: " ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ". وقال يوسف النبي صلى الله عليه وسلم لفرعون وفرعون كافر: " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ". وقالت بنت شعيب في موسى بن عمران: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ": فجمع جميع ما يحتاج إليه في الكلمتين. وفي قياسك هذا إسقاط جميع ما أدبنا الله به، وجعله رباطاً لمراشدنا في ديننا، ونظاماً لمصالحنا في دنيانا. والذي يلزمني لك أن لا أعمهم بالبراءة، والذي يلزمك أن لا تعمهم بالتهمة، وأن تعلم أن نفعهم عام، وخيرهم خاص. وقالوا: مثل الإمام الجائر مثل المطر، فإنه يهدم على الضعيف، ويمنع المسافر.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " حوالينا ولا علينا ". والمطر وإن أفسد بعض الثمار، وأضر ببعض الأكرة فإن نفعه غامر لضرره. وليس شيء من الدنيا يكون نفعه محضاً، وشره صرفا. وكذلك الإمام الجائر، وإن استأثر ببعض الفيء، وعطل بعض الحكم، فإن مضاره مغمورة بمنافعه. قالوا: وكذلك أمر الوكلاء والأوصياء والأمناء، لا تعلم قوماً الشر فيهم أعم ولا الغش فيهم أكثر من الأكرة، وما يجوز لنا مع هذا أن نعمهم بالحكم مع أن الحاجة إليهم شديدة، ونزع هذه العادة وهذا الخلق منهم أشد. فصل منه وأنا أظن أن الذنب مقسوم بينك وبين وكلائك. فارجع إلى نفسك فلعلك أن ترى أنك إنما أتيت من قبل الفراسة، أو من قبل أنك لم تقطع لهم الأجرة السنية، وحملتهم على غاية المشقة في أداء الأمانة وتمام النصيحة.

فصل منه ولا بد في باب البصر بجواهر الرجال من صدق الحس، ومن صحة الفراسة، ومن الاستدلال في البعض على الكل، كما استدلت بنت شعيب - صلوات الله عليه - حين قضت لموسى عليه السلام بالأمانة والقوة، وهما الركنان اللذان تبنى عليهما الوكالة. فصل منه وقد قالوا: ليس مما يستعمل الناس كلمة أضر بالعلم والعلماء، ولا أضر بالخاصة والعامة، من قولهم: " ما ترك الأول للآخر شيئاً ". ولو استعمل الناس معنى هذا الكلام فتركوا جميع التكلف، ولم يتعاطوا إلا مقدار ما كان في أيديهم لفقدوا علماً جماً ومرافق لا تحصى، ولكن أبى الله إلا أن يقسم نعمه بين طبقات جميع عباده قسمة عدل، يعطي كل قرن وكل أمة حصتها ونصيبها، على تمام مراشد الدين، وكمال مصالح الدنيا. فهؤلاء ملوك فارس نزلوا على شاطىء الدجلة، من دون الصراة

إلى فوق بغداد؛ في القصور والبساتين؛ وكانوا أصحاب نظر وفكر، واستخراج واستنباط، من لدن أزدشير بن بابك إلى فيروز بن يزدجرد. وقبل ذلك ما نزلها ملوك الأشكان، بعد ملوك الأردوان. فهل رأيتم أحداً اتخذ حراقة، أو زلالة، أو قارباً؟ ! وهل عرفوا الخيش مع حر البلاد ووقع السموم؟ ! وهل عرفوا الجمازات لأسفارهم ومنتزهاتهم؟ !

وهل عرف فلاحوهم الثمار المطعمة، وغراس النخل على الكردات المسطرة؟ وأين كانوا عن استخراج فوه العصفر؟ وأين كانوا عن تغليق الدور والمدن، وإقامة ميل الحيطان والسواري المائلة الروس، الرفيعة السموك المركبة بعضها على بعض؟ ! وأين كانوا عن مراكب البحر في ممارسة العدو الذي في البحر، إن طارت البوارج أدركتها، وإن أكرهتها فاتتها بعد أن كان القوم أسرى في بلاد الهند، يتحكمون عليهم ويتلعبون بهم؟ وأين كانوا عن الرمي بالنيران؟ ! نعم، وكانوا يتخذون الأحصار وينفقون عليها الأموال، رجالهم دسم العمائم، وسخة القلانس، وكان الرجل منهم إذا مر بالعطار، أو جلس إليه، فأراد كرامته دهن رأسه ولحيته، لايحتشم من ذلك الكبير، وكان أهل البيت إذا طبخوا اللحم غرفوا للجار والجارة غرفة غرفة.

فصل من صدر كتابه في الأوطان والبلدان

زينك الله بالتقوى، وكفاك المهم من أمر الآخرة والأولى، وأثلج صدرك باليقين، وأعزك بالقناعة، وختم لك بالسعادة، وجعلك من الشاكرين. سألت - أبقاك الله - أن أكتب لك كتاباً في تفاضل البلدان، وكيف قناعة النفس بالأوطان، وما في لزومها من الفشل والنقص، وما في الطلب من علم التجارب والعقل. وذكرت أن طول المقام من أسباب الفقر، كما أن الحركة من أسباب اليسر، وذكرت قول القائل: " الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم ". ونسيت - أبقاك الله - عمل البلدان، وتصرف الأزمان، وأثارهما في الصور والأخلاق، وفي الشمائل والآداب، وفي اللغات والشهوات، وفي الهمم والهيئات، وفي المكاسب والصناعات، على ما دبر الله تعالى من ذلك بالحكمة اللطيفة، والتدابير العجيبة. فسبحان من جعل بعض الاختلاف سبباً للائتلاف، وجعل الشك داعية إلى اليقين، وسبحان من عرفنا ما في الحيرة من الذلة، وما في

الشك من الوحشة، وما في اليقين من العز، وما في الإخلاص من الأنس. وقلت: ابدأ لي بالشام ومصر، وفضل ما بينهما، وتحصيل جمالهما، وذكرت أن ذلك سيجر العراق والحجاز، والنجود والأغوار، وذكر القرى والأمصار، والبراري والبحار. واعلم - أبقاك الله - أنا متى قدمنا ذكر المؤخر وأخرنا ذكر المقدم، فسد النظام وذهبت المراتب. ولست أرى أن أقدم شيئاً من ذكر القرى على ذكر أم جميع القرى. وأولى الأمور بنا ذكر خصال مكة، ثم خصال المدينة. ولولا ما يجب من تقديم ما قدم الله وتأخير ما أخر لكان، الغالب على النفوس ذكر الأوطان وموقعها من قلب الإنسان. وقد قال الأول: " عمر الله البلدان بحب الأوطان "، وقال ابن الزبير: " ليس الناس بشيء من أقسامهم أقتنع منهم بأوطانهم ". ولولا ما من الله به على كل جيل منهم من الترغيب في كل ما تحت أيديهم، وتزيين كل ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوضاً إلى العقول، وإلى اختيارات النفوس ما سكن أهل الغياض والأدغال في الغمق واللثق، ولما سكنوا مع البعوض والهمج، ولما سكن سكان

القلاع في قلل الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذئاب والأفاعي وحيث من عز بز، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتغرير، ولما رضي أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، ولالتمس الجميع السكنى في الواسطة، وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمنعة. وكذلك كانت تكون أحوالهم في اختيار المكاسب والصناعات وفي اختيار الأسماء والشهوات. ولاختاروا الخطير على الحقير، والكبير على الصغير. ألا تراهم قد اختاروا ما هو أقبح على ما هو أحسن من الأسماء والصناعات، ومن المنازل والديارات، من غير أن يكونوا خدعوا أو استكرهوا. ولو اجتمعوا على اختيار ما هو أرفع، ورفض ما هو أوضع من اسم أو كنية، وفي تجارة وصناعة، ومن شهوة وهمة، لذهبت المعاملات، وبطل التمييز، ولوقع التجاذب والتغالب، ثم التجارب، ولصاروا غرضاً للتفاني، وأكلة للبوار. فالحمد لله أكثر الحمد وأطيبه على نعمه، ما ظهر منها وما بطن، وما جهل منها وما علم!

ذكر الله تعالى الديار فخبر عن موقعها من قلوب عباده، فقال: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ". فسوى بين موقع قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم. وقال: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ". فسوى بين موقع الخروج من ديارهم وبين موقع هلاك أبنائهم. فصل منه فقسم الله تعالى المصالح بين المقام والظعن، وبين الغربة وإلف الوطن، وبين ما هو أربح وأرفع، حين جعل مجاري الأرزاق مع الحركة والطلب. وأكثر ذلك ما كان مع طول الاغتراب، والبعد في المسافة، ليفيدك الأمور، فيمكن الاختبار ويحسن الاختيار. والعقل المولود متناهي الحدود، وعقل التجارب لا يوقف منه على حد. ألا ترى أن الله لم يجعل إلف الوطن عليهم مفترضاً، وقيداً مصمتاً، ولم يجعل كفاياتهم مقصورة عليهم، محتسبة لهم في أوطانهم؟ ألا تراه يقول: " فاقرءوا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ". فقسم الحاجات فجعل أكثرها في البعد. وقال عز ذكره: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من

فضل الله " فأخرج الكلام والإطلاق على مخرج العموم، فلم يخص أرضاً دون أرض، ولا قرباً دون بعد. فصل منه ونحن، وإن أطنبنا في ذكر جملة القول في الوطن، وما يعمل في الطبائع، فإنا لم نذكر خصال بلدة بعينها، فنكون قد خالفنا إلى تقديم المؤخر وتأخير المقدم. قالوا: ولم نجهل ولم ننكر أن نفس الإلف يكون من صلاح الطبيعة، حتى إن أصحاب الكلاب ليجعلون هذا من مفاخرنا على جميع ما يعاشر الناس في دورهم من أصناف الطير وذوات الأربع: وذلك أن صاحب المنزل إذا هجم منزله واختار غيره، لم يتبعه فرس ولا بغل ولا حمار، ولا ديك ولا دجاجة، ولا حمامة ولا حمام، ولا هر ولا هرة، ولا شاة، ولا عصفور؛ فإن العصافير تألف دور الناس، ولا تكاد تقيم فيها إذا خرجوا منها. والخطاطيف تقطع إليهم لتقيم فيها إلى أوان حاجتها إلى الرجوع إلى أوطانها، وليس شيء من هذه الأنواع مما تبوأ في الدور باجتلابهم لها، ولا ما تبوأ في دورهم مما ينزع إليهم أحن من الكلب، فإنه يؤثره على وطنه، ويحميه ممن يغشاه.

فذكروا الكلب بهذا الخلق الذي تفرد به دون جميع الحيوان. وقالوا في وجه آخر: أكرم الصفايا أشدها ولهاً إلى أولادها، وأكرم الإبل أحنها إلى أعطانها، وأكرم الأفلاء أشدها ملازمة لأمهاتها، وخير الناس آلفهم للناس. فصل منه وقلتم: خبرونا عن الخصال التي بانت بها قريش عن جميع الناس. وأنا أعلم أنك لم ترد هذا، وإنما أردت الخصال التي بانت بها قريش من سائر العرب، كما ذكرنا في الكتاب الأول الخصال التي بانت بها العرب عن العجم؛ لأن قريشاً والعرب قد يستوون في مناقب كثيرة. قد يلفى في العرب الجواد المبر وكذلك الحليم الشجاع، حتى يأتي على خصال حميدة؛ ولكنا نريد الخصائص التي في قريش دون العرب. فمن ذلك أنا لم نر قريشياً انتسب إلى قبيلة من قبائل العرب، وقد رأينا في قبائل العرب الأشراف رجالاً - إلى الساعة - ينتسبون في قريش، كنحو الذي وجدنا في بني مرة بن عوف، والذي وجدنا من ذلك في بني سليم، وفي خزاعة، وفي قبائل شريفة.

ومما بانت قريش أنها لم تلد في الجاهلية ولداً قط لغيرها ولقد أخذ ذلك منهم سكان الطائف، لقرب الجوار وبعض المصاهرة، ولأنهم كانوا حمساً، وقريش حمستهم. ومما بانت به قريش من سائر العرب أن الله تعالى جاء بالإسلام وليس في أيدي جميع العرب سبية من جميع نساء قريش، ولا وجدوا في جميع أيدي العرب ولداً من امرأة من قريش. ومما بانت به قريش من سائر العرب أنها لم تكن تزوج أحداً من أشراف العرب إلا على أن يتحمس، وكانوا يزوجون من غير أن يشترط عليهم، وهي عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، والحارث بن كعب، وكانوا ديانيين، ولذلك تركوا الغزو لما فيه من الغصب والغشم، واستحلال الأموال والفروج. ومن العجب أنهم مع تركهم الغزو كانوا أعز وأمثل، مثل أيام الفجار وذات كهف.

ألا ترى أنهم عند بنيان الكعبة قال رؤساؤهم: لا تخرجوا في نفقاتكم على هذا البيت إلا من صدقات نسائكم، ومواريث آبائكم! أرادوا مالاً لم يكسبوه ولا يشكون أنه لم يدخله من الحرام شيء. ومن العجب أن كسبهم لما قل من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعترهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطي الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت، فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد، والراجل والراكب وأطعموا بدل الحيس الفالوذج. ألا ترى أمية بن أبي الصلت يقول، ويذكر عبد الله بن جدعان: له داع بمكة مشمعل ... وحفص فوق دارته ينادي

إلى ردح من الشيزي ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد فلباب البر هو هذا النشا، والشهاد يعني به العسل. ألا ترى أن عمر بن الخطاب يقول: " أتروني لا أعرف طيب الطعام؟ لباب البر بصغار المعزى "، يعني خبز الحوارى بصغار الجداء. ولقد مدحتهم الشعراء كما يمدح الملوك، ومدحتهم الفرسان والأشراف وأخذوا جوائزهم؛ منهم: دريد بن الصمة، وأمية بن أبي الصلت. ومن خصالهم أنهم لم يشاركوا العرب والأعراب في شيء من جفائهم، وغلظ شهواتهم؛ وكانوا لا يأكلون الضباب، ولا شيئاً من الحشرات؛ ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا خوانه بضب فقال: " ليس من طعام قومي "، لأنهم لم يكونوا يحرشون الضباب، ويصيدون اليرابيع، ويملون القنافذ، أصحاب الخمر والخمير، وخبز التنانير. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر ". وذلك أن جميع قبائل العرب إنما كانت القبيلة لا تكاد ترى

وتسمع إلا من قبيلتها ورجالها، فليس عندهم، إلا عند قبيل واحد، من البيان والأدب والرأي والأخلاق، والشمائل، والحلم والنجدة والمعرفة، إلا في الفرط. وكانت العرب قاطبة ترد مكة في أيام المواسم، وترد أسواق عكاظ وذا المجاز؛ وتقيم هناك الأيام الطوال، فتعرف قريش، لاجتماع الأخلاق لهم والشمائل والألفاظ، والعقول والأحلام، وهي وادعة وذلك قائم لها، راهن عندها في كل عام، تتملك عليهم فيقتسمونهم، فتكون غطفان للميرة، وبنو عامر لكذا، وتميم لكذا، تغلبها المناسك وتقوم بجميع شأنها. فصل منه وفتح مكة يسمى فتح الفتوح؛ وهو بيت الله، وأهله وحجاجه زوار الله؛ وهو البيت العتيق والبيت الحرام؛ وفيه الحجر، والحجر الأسود. وله زمزم، وهي هزمة جبريل - صلوات الله عليه -، ومقام إبراهيم. وماء زمزم لما شرب له، العاكف فيه والبادي سواء.

وبسبب كرامته أرسل الله طير الأبابيل وحجارة السجيل. وأهله حمس ولقاح لا يؤدون إتاوة؛ ولهم السقاية، ودار الندوة، والرفادة، والسدانة. قال: وأقسم الله تعالى بها، قال: " لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد ". وقوله جل ذكره: " لا أقسم " أي: أقسم، وإنما قوله " لا " في هذا الموضع صلة، ليس علة معنى " لا " الذي هو خلاف " نعم ". وقالوا: ولو كان قوله: " وليطوفوا بالبيت العتيق " يراد به تقادم البنيان، وما تعاوره من كرور الزمان، لم يكن فضله على سائر البلدان، لأن الدنيا لم تخل من بيت ودار، وسكان وبنيان. وقد مرت الأيام على مصر، وحران، والحيرة، والسوس الأقصى، وأشباه ذلك، فجعل البيت العتيق صفة له، ولو كان ذهب إلى ما يعنون، كان من قبل أن يعتق وتمر عليه الأزمنة ليس بعتيق. وهذا الاسم قد أطلق له إطلاقاً، فاسمه البيت العتيق، كما أن اسمه بيت الله. ومن زعم أن الله تعالى حرمه يوم خلق السموات والأرض، فقولنا هذا مصداق له.

ومن زعم أنه إنما صار حراماً مذ حرمه إبراهيم، كان قد زعم أنه قد كان ولا يقال له عتيق ولا حرام. قالوا: ومما يصدق تأويلنا أنه لم يعرف إلا وهو لقاح، ولا أدى أهله إتاوة قط، ولا وطئته الملوك بالتمليك: أن سابور ذا الأكتاف، وبخت نصر وأبا يكسوم وغيرهم، قد أرادوه فحال الله تعالى دونه، فتلك عادة فيه، وسنة جارية له. ولولا أن تبع أتاه حاجاً، على جهة التعظيم والتدين بالطواف، فحجه وطاف به، وكساه الوصائل، لأخرجه الله منه. وحجه بعض ملوك غسان ولخم، وهم نصارى، تعظيماً له، ولما جعل الله له في القلوب. والعتيق يكون من رق العبودية، كالعبد يعتقه مولاه. ويكون عتيقاً من النار، كالتائب من الكبائر، وكالرجل يدعو إلى الإيمان فيستجاب له، ويتعلم ناس على يده، فهم أيضاً عتقاء. ويكون الرجل عتيقاً من عتق الوجه. وربما كان عتيقاً كما يقال للفرس عتيق وليس بهجين ولا مقرف. وقد سمي أبو بكر بن أبي قحافة - رضوان الله عليه - عتيقاً، من طريق عتق الوجه، ومن طريق أنهم طلبوا المثالب والعيوب التي كانت تكون

في الأمهات والآباء فلم يجدوها، قالوا: ما هذا إلا عتيق. فصل منه قد قلنا في الخصال التي بانت بها قريش دون العرب. ونحن ذاكرون - وبالله التوفيق - الخصال التي بانت بها بنو هاشم دون قريش. فأول ذلك النبوة، التي هي جماع خصال الخير، وأعلاها وأفضلها، وأجلها وأسناها. ثم وجدنا فيهم ثلاثة رجال بني أعمام في زمان واحد، كلهم يسمى علياً، وكل واحد من الثلاثة سيد فقيه، عالم عابد، يصلح للرياسة والإمامة؛ مثل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ابن هاشم، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وعلي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم. ثم وجدنا ثلاثة رجال بني أعمام، في زمان واحد، كلهم يسمى محمداً، وكلهم سيد وفقيه عابد، يصلح للرياسة والإمامة، مثل محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ومثل محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم. وهذا من أغرب ما يتهيأ في العالم، ويتفق في الأزمنة، وهذه لا يشركهم فيها أحد، ولا يستطيع أن يدعي مثلها أحد.

ولبني هاشم واحدة مبرزة، وثانية نادرة، يتقدمون بها على جميع الناس. وذلك أنا لا نعرف في جميع مملكة العرب، وفي جميع مملكة العجم، وفي جميع الأقاليم السبعة، ملكاً واحداً ملكه من نصاب واحد، وفي مغرس رسالة، إلا من بني هاشم، فإن ملكهم العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعم وارث، والعم أب. ولا نعلم أمة تدعي مثل هذا لملكها. وهذا شيء سمعته من أبي عبيدة، ومنه استمليت هذا المعنى. ولبني هاشم - مذ ملكوا هذه الدفعة - دون أيام علي بن أبي طالب والحسين بن علي إلى يومنا هذا مائة وست عشرة سنة. كان أول بركتهم أن الله تعالى رفع الطواعين والموتان الجارف، فإنهم كانوا يحصدون حصداً بعد حصد. ثم الذي تهيأ واتفق، وخص به آل أبي طالب من الغرائب والعجائب والفضائل، ما لم نجده في أحد سواهم: وذلك أن أول هاشمي هاشمي الأبوين كان في الدنيا ولد لأبي طالب، لأن أباهم عبد مناف. وهو أبو طالب بن شيبة وهو عبد المطلب بن هاشم وهو عمرو وهو أبو شيبة. وشيبة هو عبد المطلب. وهو أبو الحارث وسيد الوادي غير مدافع، بن عمرو، وهو هاشم بن المغيرة، وهو عبد مناف. ثم الذي تهيأ لبني أبي طالب الأربعة: أن أربعة إخوة كان بين كل واحد منهم وبين أخيه في الميلاد عشر سنين سواء، وهذا عجب.

ومن الغرائب التي خصوا بها، أعني ولد أبي طالب، أنا لا نعلم الإذكار في بلد من البلدان، وفي جيل من الأجيال، إلا أهل خراسان فمن دونهم، فإن الإذكار فيهم فاش؛ كما أنك لا تجد من وراء بلاد مصر إلا مئناثاً، ثم لا ترى فيهن مفذاً بل لا ترى إلا التؤام ومن البنات. فتهيأ في آل أبي طالب أحصوا منذ أعوام وحصلوا، فكانوا قريباً من ألفين وثلثمائة، ثم لا يزيد عدد نسائهم على رجالهم إلا دون العشر. وهذا عجب. وإن كنت تريد أن تتعرف فضل البنات على البنين، وفضل إناث الحيوانات على ذكورها، فابدأ فخذ أربعين ذراعاً عن يمينك، وأربعين ذراعاً عن يسارك، وأربعين خلفك، وأربعين أمامك، ثم عد الرجال والنساء حتى تعرف ما قلنا، فتعلم أن الله تعالى لم يحلل للرجل الواحد من النساء أربعاً ثم أربعاً، متى وقع بهن موت أو طلاق، ثم كذلك للواحد ما بين الواحدة من الإماء إلى ما يشاء من العدد، مجموعات ومتفرقات، لئلا يبقين إلا ذوات أزواج.

ثم انظر في شأن ذوات البيض وذوات الأولاد فإنك سترى في دار خمسين دجاجة وديكاً واحداً، ومن الإبل الهجمة وفحلاً واحداً، ومن الحمير العانة وعيراً واحداً. فلما حصلوا كل مئناث وكل مذكار، فوجدوا آل أبي طالب قد برعوا على الناس وفضلوهم، عرف الناس موضع الفضيلة له والخصوصية. وفي ولد أبي طالب - أيضاً - أعجوبة أخرى؛ وذلك أنه لم يوجد قط في أطفالهم طفل يحبو، بل يزحف زحفاً لئلا ينكشف منه عن شيء يسوءه، ليكون أوفر لبهائه، وأدل على ما خصوا به. ولهم من الأعاجيب خصلة أخرى: وذلك أن عبيد الله بن زياد قتل الحسين في يوم عاشوراء، وقتله الله يوم عاشوراء في السنة الأخرى. وقالوا: لا نعلم موضع رجل من شجعان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له من عدد القتلى ما كان لعلي رضوان الله عليه، ولا كان لأحد مع ذلك من قتل الرؤساء والسادة، والمتبوعين والقادة، ما كان لعلي بن أبي طالب. وقتل رئيس واحد، وإن كان دون بعض الفرسان في الشدة، أشد؛ فإن قتل الرئيس أرد على المسلمين وأقوى لهم من قتل الفارس الذي هو أشد من ذلك السيد. وأيضاً أنه قد جمع بين قتل الرؤساء وبين قتل الشجعان. وله أعجوبة أخرى؛ وذلك أنه مع كثرة ما قتل وما بارز، وما مشى بالسيف إلى السيف، لم يجرح قط ولا جرح إنساناً إلا قتله،

ولا نعلم في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتى ذكر الفقه في الدين، ومتى ذكر الزهد في الأموال التي تشاجر الناس عليها، ومتى ذكر الإعطاء في الماعون، كان مذكوراً في هذه الحالات كلها إلا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. قالوا: وكان الحسن يقول: قد يكون الرجل عالماً وليس بعابد، وعابداً وليس بعالم، وعابداً وليس بعاقل، وعاقلاً وليس بعابد. وسليمان بن يسار عالم عاقل عابد، فانظر أين يقع خصال سليمان من خصال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولم يكن قصدنا في أول هذا الكتاب إلى ذكر هاشم، وقد كان قصدنا الإخبار عن مكة بما قد كتبناه في صدر هذا الكتاب، ولكن ذكر خصال مكة جر ذكر خصال قريش، وذكر خصال قريش جر ذكر خصال بني هاشم. فإن أحببت أن تعرف جملة القول في خصال بني هاشم فانظر في كتابي هذا الذي فرقت فيه بين خصال بني عبد مناف وبين بني مخزوم، وفرقت ما بين عبد شمس؛ فإنه هناك أوفر وأجمع، إن شاء الله تعالى.

فصل منه قالوا: وقد تعجب الناس من ثبات قريش، وجزالة عطاياهم، واحتمالهم المؤن الغلاظ في دوام كسبهم من التجارة، وقد علموا أن البخل والبصر في الطفيف مقرون في التجارة؛ وذلك خلق من أخلاقهم. وعلى ذلك شاهد أهل الترقيح والتكسب والتدنيق. فكان في ثبات جودهم العالي على جود الأجواد، وهم قوم لا كسب لهم إلا من التجارة، عجب من العجب. ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأطم، وذلك أنا قد علمنا أن الروم قبل التدين بالنصرانية، كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالاً، فلما صارت لا تدين بالقتل والقتال، والقود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفا. ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة، وسرت في لحومهم ودمائهم فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبية إلى أن صاروا مغلوبين. وإلى مثل ذلك صارت حال التغزغز من الترك. بعد أن كانوا

أنجادهم وحماتهم، وكانوا يتقدمون الخرلخية، وإن كانوا في العدد أضعافهم، فلما دانوا بالزندقة - ودين الزندقة في الكف والسلم أسوأ من دين النصارى - نقصت تلك الشجاعة، وذهبت تلك الشهامة. وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس، وتشددوا في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصب؛ فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة سوى التجارة، فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، وإلى النجاشي بالحبشة، وإلى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء، وبانوا بالديانة والتحمس، فحمسوا بني عامر بن صعصعة، وحمسوا الحارث بن كعب، فكانوا - وإن كانوا حمساً - لا يتركون الغزو والسبي ووطء النساء، وأخذ الأموال، فكانت نجدتهم - وإن كان أنقص - فإنها على حال النجدة، ولهم في ذلك بقية. وتركت قريش الغزو بتة، فكانوا - مع طول ترك الغزو - إذا غزوا كالأسود على براثنها، مع الرأي الأصيل، والبصيرة النافذة. أفليس من العجب أن تبقى نجدتهم، وتثبت بسالتهم، ثم يعلون الأنجاد والأجواد، ويفرعون الشجعان؟ ! وهاتان الأعجوبتان بينتان. وقد علم أن سبب استفاضة النجدة في جميع أصناف الخوارج

وتقدمهم في ذلك، إنما هو بسبب الديانة، لأنا نجد عبيدهم ومواليهم ونساءهم، يقاتلون مثل قتالهم، ونجد السجستاني وهو عجمي، ونجد اليمامي والبحراني والخوزي وهم غير عرب، ونجد إباضية عمان وهي بلاد عرب، وإباضية تاهرت وهي بلاد عجم، كلهم في القتال والنجدة، وثبات العزيمة، والشدة في البأس سواء. فاستوت حالاتهم في النجدة مع اختلاف أنسابهم ويلدانهم. أفما في هذا دليل على أن الذي سوى بينهم التدين بالقتال، وضروب كثيرة من هذا الفن؟ ! وذلك كله مصور في كتبي، والحمد لله. وقد تجدون عموم السخف والجهل والكذب في المواعيد، والغش في الصناعة، في الحاكة، فدل استواء حالاتهم في ذلك على استواء عللهم. ليست هناك علة إلا الصناعة؛ لأن الحاكة في كل بلد شيء واحد. وكذلك النخاس وصاحب الخلقان، وبياع السمك. وكذلك الملاحون وأصحاب السماد، أولهم كآخرهم، وكهولهم كشبانهم، ولكن قل في استواء الحجامين في حب النبيذ. فصل منه في ذكر المدينة وأمر المدينة عجب، وفي تربها وترابها وهوائها، دليل وشاهد

وبرهان على قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنها طيبة تنفي خبثها وتنصع طيبها " لأن من دخلها أو أقام فيها، كائنا من كان من الناس، فإنه يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة، ليس لها اسم في الأرابيح، وبذلك السبب طاب طيبها والمعجونات من الطيب فيها. وكذلك العود وجميع البخور، يضاعف طيبها في تلك البلدة على كل بلد استعمل ذلك الطيب بعينه فيها. وكذلك صياحها والبلح والأترج والسفرجل، أعني المجعول منها سخباً للصبيان والنساء. فإن ذكروا طيب سابور بطيب أرياح الرياحين، وذلك من ريح رياحينها وبساتينها وأنوارها، ولذلك يقوى في زمان، ويضعف في زمان. ونحن قد ندخل دجلة في نهر الأبلة بالأسحار، فنجد من تلك

الحدائق، ونحن في وسط النهر، مثل ما يجد أهل سابور من تلك الرائحة. وطيبة التي يسمونها المدينة، هذا الطيب خلقة فيها، وجوهرية منها، وموجود في جميع أحوالها. وإن الطيب والمعجونات لتحمل إليها فتزداد فيها طيباً، وهو ضد قصبة الأهواز وأنطاكية، فإن الغوالي تستحيل الاستحالة الشديدة. ولسنا نشك أن ناساً ينتابون المواضع التي يباع فيها النوى المنقع، فيستنشقون تلك الرائحة، يعجبون بها ويلتمسونها، بقدر فرارنا نحن من مواقع النوى عندنا بالعراق، ولو كان من النوى المعجوم ومن نوى الأفواه. ونحن لا نشك أن الرجل الذي يأكل بالعراق أربع جرادق في مقعد واحد من الميساني والموصلي، أنه لا يأكل من أقراص المدينة قرصين؛ ولو كان ذلك لغلظ فيه أو لفساد كان في حبه وطحينه لظهر ذلك في التخم وسوء الاستمراء، ولتولد على طول الأيام من ذلك أوجاع وفساد كثير. ولم يكن بها طاعون قط ولا جذام.

وليس لبلدة من البلدان من الشهرة في الفقه ما لهم ولرجالهم، وذكر عبد الملك بن مروان روح بني زنباع فمدحه فقال: " جمع أبو زرعة فقه الحجاز، ودهاء العراق، وطاعة أهل الشام ". فصل منه في ذكر مصر قال أبو الخطاب: لم يذكر الله جل وعز شيئاً من البلدان باسمه في القرآن كما ذكر مصر، حيث يقول: " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ". وقال: " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " وقال: " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة " وقال تعالى: " اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم " وقال في آية: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ".

وذكر مصر في القرآن بالكناية عن خاصة اسمها، فمن ذلك: " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " قالوا: هي مدينة منف، وهو موضع منزل فرعون. وأخبرني شيخ من آل أبي طالب من ولد علي صحيح الخبر: منف دار فاعون، ودرت في مجالسه ومثاويه وغرفه وصفافه، فإذا كله حجر واحد منقور؛ فإن كانوا هندموه وأحكموا بناءه حتى صار في الملاسة واحداً لا يستبان فيه مجمع حجرين، ولا ملتقى صخرتين فهذا عجب. ولئن كان جبلاً واحداً، ودكاً واحداً، فنقرته الرجال بالمناقير حتى خرقت فيه تلك المخاريق، إن هذا لأعجب. وفي القرآن: " فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ". قال: والأرض ها هنا مصر. وفي هذا الموضع كلام حسن، ولكنا ندعه مخافة أن نخرج إلى غير الباب الذي ألفنا له هذا الكتاب. قالوا: وسمى الله تعالى ملك مصر " العزيز "، وهو صاحب يوسف، وسمي صاحب موسى فرعون. قالوا: وكان أصل عتو فرعون ملكه العظيم، ومملكته التي لا تشبهها مملكة.

قالوا: ومنهم مؤمن آل فرعون، وهي آسية بنت مزاحم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سيدة نساء العالم خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم ". قال: ولما هم فرعون بقتل موسى قالت آسية: لا تقتله عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. وقالت: وكيف تقتله، ووالله ما يعرف الجمرة من التمرة. ومنهم السحرة الذين كانوا قد أبروا على أهل الأرض، فلما أبصروا بالأعلام، وأيقنوا بالبرهان، استبصروا وتابوا توبة ما تابها ماعز بن مالك، ولا أحد من العالمين، حتى قالوا لفرعون: " اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ". وجاء في الحديث: " من أخرب خزائن الله فعليه لعنة الله ". قالوا:

خزائن الله هي مصر، أما سمعتم قول يوسف: " اجعلني على خزائن الأرض "؟ وقال عبد الله بن عمرو: " البركة عشر بركات: تسع بمصر والواحدة في جميع الأرض ". فصل منه وقال أهل العراق: سألنا بطريق خرشنة عن خراج الروم، فذكر مقداراً من المال، وقال: هو كذا وكذا قنطاراً. فنظر بعض الوزراء فإذا خراج مصر وحده يضعف على خراج بلاد الروم إذا جمعت أبواب المال من البلاد جميعاً. وزعم أبو الخطاب أن أرض مصر جبيت أربعة آلاف ألف دينار. فصل منه ولا أعلم الفرقة في المغرب إلا أكثر من الفرقة في المشرق، إلا أن أهل المغرب إذا خرجوا لم يزيدوا على البدعة والضلالة، والخارجي في

المشرق لا يرضى بذلك حتى يجوزه إلى الكفر، مثل المقنع وشيبان والإصبهبذ وبابك، وهذا الضرب. فصل منه وقد علمنا أن لجماعة بني هاشم طابعاً في وجوههم يستبين به كرم العتق وكرم النجار، وليس ذلك لغيرهم. ولقد كادت الأهواز تفسد هذا المعنى على هاشمية الأهواز، ولولا

أن الله غالب على أمره لقد كادت طمست على ذلك العتق ومحته. فتربتها خلاف تربة الرسول صلى الله عليه وسلم: وذلك أن كل من تخرق طرق المدينة وجد رائحة طيبة ليست من الأراييح المعروفة الأسماء. فصل منه قال زياد: الكوفة جارية جميلة لا مال لها، فهي تخطب لجمالها. والبصرة عجوز شوهاء ذات مال فهي تخطب لمالها. فصل منه والفرات خير من ماء النيل. وإما دجلة فإن ماءها يقطع شهوة الرجال. ويذهب بصهيل الخيل، ولا يذهب بصهيلها إلا مع ذهاب نشاطها، ونقصان قواها؛ وإن لم يتنسم النازلون عليها أصابهم قحول في عظامهم، ويبس في جلودهم. وجميع العرب النازلين على شاطئ دجلة من بغداد إلى بلد

لا يرعون الخيل في الصيف على أواريها على شاطئ دجلة، ولا يسقونها من مائها، لما يخاف عليها من الصدام، وغير ذلك من الآفات. وأصحاب الخيل من العتاق والبراذين إنما يسقونها بسر من رأى، مما احتفروها من كارباتهم ولا يسقونها من ماء دجلة؛ وذلك أن ماء دجلة مختلط، وليس هو ماءً واحداً، ينصب فيها من الزابين والنهروانات وماء الفرات، وغير ذلك من المياه. واختلاف الطعام إذا دخل جوف الإنسان من ألوان الطبيخ والإدام غير ضار، وإن دخل جوف الإنسان من شراب مختلف كنحو الخمر والسكر ونبيذ التمر والداذي كان ضاراً. وكذلك الماء، لأنه متى أراد أن يتجرع جرعاً من الماء الحار لصدره أو لغير ذلك، فإن أعجله أمر فبرده بماء بارد ثم حساه ضره ذلك، وإن تركه حتى يفتر ببرد الهواء لم يضره. وسبيل المشروب غير سبيل المأكول. فإن كان هذا فضيلة مائنا على ماء دجلة فما ظنك بفضله على ماء

البصرة، وهو ماء مختلط من ماء البحر ومن الماء المستنقع في أصول القصب والبردي؟ قال الله تعالى: " هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ". والفرات أعذبها عذوبة، وإنما اشتق الفرات لكل ماء عذب، من فرات الكوفة. فصل منه في ذكر البصرة كان يقال: الدنيا البصرة. وقال الأحنف لأهل الكوفة: " نحن أعذى منكم برية، وأكثر منكم بحرية، وأبعد منكم سرية، وأكثر منكم ذرية ". وقال الخليل بن أحمد في وصف القصر المذكور بالبصرة: زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بد من زورة عن غير ميعاد ترقى بها السفن والظلمان واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي

ومن أتى هذا القصر وأتى قصر أنس رأى أرضاً كالكافور، وتربة ثرية، ورأى ضباً يحترش، وعزالاً يقتنص، وسمكاً يصاد، ما بين صاحب شص وصاحب شبكة، ويسمع غناء ملاح على سكانه، وحداء جمال على بعيره. قالوا: وفي أعلى جبانة البصرة موضع يقال له الحزيز يذكر الناس أنهم لم يروا قط هواءً أعدل، ولا نسيماً أرق، ولا ماء أطيب منها في ذلك الموضع. وقال جعفر بن سليمان: " العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد ". وقال أبو الحسن وأبو عبيدة: " بصرت البصرة سنة أربع عشرة، وكوفت الكوفة سنة سبع عشرة " فصل منه زعم أهل الكوفة أن البصرة أسرع الأرض خراباً، وأخبثها تراباً، وأبعدها من السماء وأسرعها غرقاً، ومفيض مائها البحر، ثم يخرج ذلك إلى البحر الأعظم. وكيف تغرق، وهم لا يستطيعون أن يوصلوا ماء الفيض إلى

حياضهم إلا بعد أن يرتفع ذلك الماء في الهواء ثلاثين ذراعاً، في كل سقاية بعينها، لا لحوض بعينه. وهذه أرض بغداد في كل زيادة ماء ينبع الماء في أجواف قصورهم الشارعة بعد إحكام المسنيات التي لا يقوى عليها إلا الملوك، ثم يهدمون الدار التي على دجلة فيكسون بها تلك السكك، ويتوقعون الغرق في كل ساعة. قال: وهم يعيبون ماء البصرة، وماء البصرة رقيق قد ذهب عنه الطين والرمل المشوب بماء بغداد والكوفة، لطول مقامه بالبطيحة، وقد لان وصفا ورق. وإن قلتم: إن الماء الجاري أمرأ من الساكن، فكيف يكون ساكناً مع تلك الأمواج العظام والرياح العواصف، والماء المنقلب من العلو إلى السفل؟ ومع هذا إنه إذا سار من مخرجه إلى ناحية المذار ونهر أبي الأسد وسائر الأنهار، وإذا بعد من مدخله إلى البصرة من الشق القصير، جرى منقضاً إلى الصخور والحجارة، فراسخ وفراسخ، حتى ينتهي إلينا.

ويدل على صلاح مائهم كثرة دورهم، وطول أعمارهم، وحسن عقولهم، ورفق أكفهم، وحذقهم لجميع الصناعات، وتقدمهم في ذلك لجميع الناس. ويستدل على كرم طينهم ببياض كيزانهم وعذوبة الماء البائت في قلالهم، وفي لون آجرهم، كأنما سبك من مح بيض. وإذا رأيت بناءهم وبياض الجص الأبيض بين الآجر الأصفر لم تجد لذلك شبهاً أقرب من الفضة بين تضاعيف الذهب. فإذا كان زمان غلبة ماء البحر فإن مستقاهم من العذب الزلال الصافي، النمير في الأبدان، على أقل من فرسخ، وربما كان أقل من ميل. ونهر الكوفة الذي يسمونه إنما هو شعبة من أنهار الفرات، وربما جف حتى لا يكون لهم مستقىً إلا على رأس فرسخ، وأكثر من ذلك، حتى يحفروا الآبار في بطون نهرهم، وحتى يضر ذلك بخضرهم وأشجارهم. فلينظروا أيما أضر وأيما أعيب. وليس نهر من الأنهار التي تصب في دجلة إلا هو أعظم وأكبر وأعرض من موضع الجسر من نهر الكوفة، وإنما جسره سبع سفائن،

لا تمر عليه دابة لأنها جذوع مقيدة بلا طين، وما يمشي عليها الماشي إلا بالجهد؛ فما ظنك بالحوافر والخفاف والأظلاف؟ ! وعامة الكوفة خراب يباب، ومن بات فيها علم أنه في قرية من القرى ورستاق من الرساتيق، بما يسمع من صياح بنات آوى، وضباح الثعالب، وأصوات السباع. وإنما الفرات دمما إلى ما اتصل به إلى بلاد الرقة، وفوق ذلك. فإما نهرهم فالنيل أكبر منه، وأكثر ماءً، وأدوم جرية. وقد تعلمون كثرة عدد أنهار البصرة، وغلبة الماء، وتطفح الأنهار. وتبقى النخلة عشرين ومائة سنة وكأنها قدح. وليس يرى من قرب القرية التي يقال لها النيل إلى أقصى أنهار الكوفة نخلة طالت شيئاً إلا وهي معوجة كالمنجل. ثم لم نر غارس نخل قط في أطراف الأرض يرغب في فسيل كوفي، لعلمه بخبث مغرسه، وسوء نشوه، وفساد تربته، ولؤم طبعه. وليس لليالي شهر رمضان في مسجدهم غضارة ولا بهاء، وليس منار مساجدهم على صور منار البصرة، ولكن على صور منار الملكانية واليعقوبية.

ورأينا بها مسجداً خراباً تأويه الكلاب والسباع، وهو يضاف إلى علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه. ولو كان بالبصرة بيت دخله علي بن أبي طالب ماراً لتمسحوا به وعمروه بأنفسهم وأموالهم. وخبرني من بات أنه لم ير كواكبها زاهرة قط، وأنه لم يرها إلا ودونها هبوة، وكأن في مائهم مزاج دهن. وأسواقهم تشهد على أهلها بالفقر. وهم أشد بغضاً لأهل البصرة من أهل البصرة لهم؛ وأهل البصرة هم أحسن جواراً، وأقل بذخاً، وأقل فخراً. ثم العجب من أهل بغداد وميلهم معهم، وعيبهم إيانا في استعمال السماد في أرضنا ولنخلنا، ونحن نراهم يسمدون بقولهم بالعذرة اليابسة صرفاً، فإذا طلع وصار له ورق ذروا عليه من تلك العذرة اليابسة حتى يسكن في خلال ذلك الورق. ويريد أحدهم أن يبني داراً فيجيء إلى مزبلة، فيضرب منها لبناً، فإن كانت داره مطمئنة ذات قعر حشا من تلك المزبلة التي لو وجدها أصحاب السماد عندنا لباعوها بالأموال النفيسة. ثم يسجرون تنانيرهم بالكساحات التي فيها من كل شيء، وبالأبعار والأخثاء، وكذلك مواقد الكيران.

وتمتلىء ركايا دورهم عذرة فلا يصيبون لها مكاناً، فيحفرون لذلك في بيوتهم آباراً، حتى ربما حفر أحدهم في مجلسه، وفي أنبل موضع من داره. فليس ينبغي لمن كان كذلك أن يعيب البصريين بالتسميد. فصل منه وليس في الأرض بلدة أرفق بأهلها من بلدة لا يعز بها النقد، وكل مبيع بها يمكن. فالشامات وأشباهها الدينار والدرهم بها عزيزان، والأشياء بها رخيصة لبعد المنقل، وقلة عدد من يبتاع. ففي ما يخرج من أرضهم أبداً فضل عن حاجاتهم. والأهواز، وبغداد، والعسكر، يكثر فيها الدراهم ويعز فيها المبيع لكثرة عدد الناس وعدد الدراهم. وبالبصرة الأثمان ممكنة والمثمنات ممكنة، وكذلك الصناعات، وأجور أصحاب الصناعات. وما ظنك ببلدة يدخلها في البادي من أيام الصرام إلى بعد ذلك بأشهر، ما بين ألفي سفينة تمر أو أكثر في كل يوم، لا يبيت فيها سفينة واحدة، فإن باتت فإنما صاحبها هو الذي يبيتها، لأنه لو كان حط في كل ألف رطل قيراطاً لانتسفت انتسافا. ولو أن رجلاً ابتنى داراً يتممها ويكملها ببغداد، أو بالكوفة،

أو بالأهواز، وفي موضع من هذه المواضع، فبلغت نفقتها مائة ألف درهم، فإن البصري إذا بنى مثلها بالبصرة لم ينفق خمسين ألفاً؛ لأن الدار إنما يتم بناؤها بالطين واللبن، وبالآجر والجص، والأجذاع والساج والخشب، والحديد والصناع، وكل هذا يمكن بالبصرة على الشطر مما يمكن في غيرها. وهذا معروف. ولم نر بلدة قط تكون أسعارها ممكنة مع كثرة الجماجم بها إلا البصرة: طعامهم أجود الطعام، وسعرهم أرخص الأسعار، وتمرهم أكثر التمور، وريع دبسهم أكثر، وعلى طول الزمان أصبر، يبقى تمرهم الشهريز عشرين سنة، ثم بعد ذلك يخلط بغيره فيجيء له الدبس الكثير، والعذب الحلو، والخاثر القوي. ومن يطمع من جميع أهل النخل أن يبيع فسيلة بسبعين ديناراً، أو بحونة بمائة دينار، أو جريباً بألف دينار غير أهل البصرة؟ فصل منه ولأهل البصرة المد والجزر على حساب منازل القمر لا يغادران من ذلك شيئاً. يأتيهم الماء حتى يقف على أبوابهم؛ فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا حجبوه.

ومن العجب لقوم يعيبون البصرة لقرب البحر والبطيحة؛ ولو اجتهد أعلم الناس وأنطق الناس أن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة، وهذه الأجمة، لما قدر عليها. قال زياد: قصبة خير من نخلة. وبحق أقول: لقد جهدت جهدي أن أجمع منافع القصب ومرافقه وأجناسه، وجميع تصرفه وما يجيء منه، فما قدرت عليه حتى قطعته وأنا معترف بالعجز، مستسلم له. فأما بحرنا هذا فقد طم على كل بحر وأوفى عليه؛ لأن كل بحر في الأرض لم يجعل الله فيه من الخيرات شيئاً، إلا بحرنا هذا، الموصول ببحر الهند إلى ما لا تذكر. وأنت تسمع بملوحة ماء البحر، وتستسقطه وتزري عليه. والبحر هو الذي يخلق الله تعالى منه الدر الذي بيعت الواحدة منه بخمسين ألف دينار؛ ويخلق في جوفه العنبر، وقد تعرفون قدر العنبر. فشيء يولد هذين الجوهرين كيف يحقر؟ ولو أنا أخذنا خصال هذه الأجمة وما عظمنا من شأنها، فقذفنا بها في زاوية من زوايا بحرنا هذا لضلت حتى لا نجد لها حسا، وهما لنا خالصان دونكم، وليس يصل إليكم منهما شيء إلا بسببنا وتعدينا فضل غنا.

وقال بعض خطبائنا: نحن أكرم بلاداً، وأوسع سواداً، وأكثر ساجاً وعاجاً وديباجاً، وأكثر خراجاً. لأن خراج العراق مائة ألف ألف واثنا عشر ألف ألف، وخراج البصرة من ذلك ستون ألف ألف، وخراج الكوفة خمسون ألف ألف. فصل منه في ذكر الحيرة ورأيت الحيرة البيضاء وما جعلها الله بيضاء، وما رأيت فيها داراً يذكر إلا دار عون النصراني العباداني. ورأيت التربة التي بينها وبين قصبة الكوفة، ورأيت لون الأرض فإذا هو أكهب كثير الحصى، خشن المس. والحيرة أرض باردة في الشتاء، وفي الصيف ينزعون ستور بيوتهم مخافة إحراق السمائم لها.

فصل من صدر رسالته في البلاغة والإيجاز

قال عمرو بن بحر الجاحظ: درجت الأرض من العرب والعجم على إيثار الإيجاز، وحمد الاختصار، وذم الإكثار والتطويل والتكرار، وكل ما فضل عن المقدار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، دائم السكت يتكلم بجوامع الكلم، لا فضل ولا تقصير، وكان يبغض الثرثارين المتشدقين. وكان يقال: أفصح الناس أسهلهم لفظاً، وأحسنهم بديهة. والبلاغة إصابة المعنى والقصد إلى الحجة مع الإيجاز، ومعرفة الفصل من الوصل. وقيل: العاقل من خزن لسانه، ووزن كلامه، وخاف الندامة. وحسن البيان محمود، وحسن الصمت حكم.

وربما كان الإيجاز محموداً، والإكثار مذموماً. وربما رأيت الإكثار أحمد من الإيجاز. ولكل مذهب ووجه عند العاقل. ولكل مكان مقال، ولكل كلام جواب. مع أن الإيجاز أسهل مراما وأيسر مطلباً من الإطناب، ومن قدر على الكثير كان على القليل أقدر. والتقليل للتخفيف، والتطويل للتعريف، والتكرار للتوكيد، والإكثار للتشديد. فصل منه وأما المذموم من المقال، فما دعا إلى الملال، وجاوز المقدار، واشتمل على الإكثار، وخرج من مجرى العادة. وكل شيء أفرط في طبعه، وتجاوز مقدار وسعه، عاد إلى ضد طباعه، فتحول البارد حاراً، ويصير النافع ضاراً، كالصندل البارد إن أفرط في حكه عاد حاراً مؤذياً، وكالثلج يطفىء قليله الحرارة، وكثيره يحركها. وكذلك القرد لما فرط قبحه، وتناهت سماجته استملح واستظرف. وإلى هذا ذهب من عد الإكثار عياً، والإيجاز بلاغة.

فصل من صدر كتابه في تفضيل البطن على الظهر عصمنا الله وإياك من الشبهة، وأعاذنا وإياك من زيغ الهوى، وفضلات المنى، ووهب لنا ولك تأديباً مؤدياً إلى الزيادة في إحسانه، وتوفيقاً موجباً لرحمته ورضوانه. وقد كان كتابك يا ابن أخي - وفقك الله - ورد علي، تصف فيه فضيلة الظهور وصفاً يدل على شغفك بها، وحبك إياها، وحنينك إليها وإيثارك لها، وفهمته. فلم تمنع - أعاذك الله من عدوك - من الإجابة عن كتابك في وقت وروده، إلا عوارض أشغال مانعة، وحوادث من التصرف والانتقال من مكان إلى مكان عائقة. ولم آمن أن لو تأخر الجواب عليك أكثر مما تأخر، أن يسبق إلى قلبك أني راض باختيارك، ومسلم لمذهبك، وموافق لك فيه، مساعد لك عليه، ومنقاد معك فيما اعتقدت منه، ومجد في طلبه، ومحرض عليه.

فبادرت بكتابي هذا، منبها لك من سنة رقدتك، وداعياً إلى رشدك. فإنك تعلم - وإن كنت لي في مذهبي مخالفاً، وفي اعتقادي مبايناً - أن اجتماع المتباينين فيما يقع بصلاحهما أولى في حكم العقل، وطريق المعرفة منه فيما أبادهما، وعاد بالضرر في اختيارهما عليهما. وأنا، وإن كنت كشفت لك قناع الخلاف، وأبديت مكنون الضمير بالمضادة، وجاهدتني بنصرة الرأي والعقيدة في حب الظهور، وتلفيق الفضائل لها، غير مستشعر لليأس من رجعتك، ولا شاك في لطائف حكمتك، وغوامض فطنتك. وقد أعلم أن معك - بحمد الله - بصيرة المعتبرين، وتمييز الموفقين وأنك إذا أنعمت فكراً وبحثاً ونظراً، رجعت إلى أصل قوي الانقياد والموافقة، ولم تتورط في اللجاج فعل المعجبين، ولم يتداخلك غرة المنتحلين؛ فإنا رأينا قوماً انتحلوا الحكمة وليسوا من أهلها، بل هم أعلام الدعوى، وحلفاء الجهالة، وأتباع الخطأ، وشيع

الضلالة، وخول النقص، الذين قامت عليهم الحجة بما نحلوه أنفسهم من اسمها، وسلبوه من فهم عظيم قدرها ومعرفة جليل خطرها، ولم يجلوا الرين عن قلوبهم والصدأ عن أسماعهم، بالتنقير والبحث والتكشف، ولم ينصبوا في عقولهم لأنفسهم أصلاً يئلون في اعتقادهم عليه، ويرجعون عند الحيرة في اختلاف آرائهم إليه. فضلوا، وأصبح الجهل لهم إماماً، والسفهاء لهم قادة وأعلاما. ونحن نسأل الله بحوله وطوله ومنه، ألا يجعلك من أهل هذه الصفة، وأن يريك الحق حقاً فتتبعه، والباطل باطلاً فتجتنبه، وأن يعمنا ببركة هذا الدعاء، وجماعة المسلمين، وأن يأخذ إلى الخير بنواصينا، ويجمع على الهدى قلوبنا، ويؤلف فيه ذات بيننا، فإنك ما علمت - وأتقلد في ذلك أمانة القول - ممن أحب موافقته ومخالطته، وأن يكون في فضله مقدماً، وعن كل عضيهة منزها. وما أعلم حالاً أنا عليها في الرغبة لك فيما أرغب لنفسي فيه، والسرور بتكامل أحوالك، واستواء مذهبك، وما أزابن به من إرشادك ونصيحتك، وتسديدك وتوفيقك، إلا وصدق الطوية مني فيها أبلغ من إسهامي في فضل صفتها. والله تعالى المعين والمؤيد والموفق، والمبدع، وحده لا شريك له. والحمد لله، كما هو أهله، وصلى الله على محمد وآله وسلم كثيراً.

يا أخي - أرشدك الله - إنك أغرقت في مدح الظهر من الجهة التي كان ينبغي لك أن تذمها، وقدمتها من الحجة التي ينبغي لك أن تؤخرها. وآثرتها وهي محقوقة بأن ترفضها. وما رأينا هلاك الأمم الخالية، من قوم لوط، وثمود وأشياعهم وأتباعهم، وحلول الخسف والرجفة والآيات المثلات والعذاب الأليم والريح العقيم، والغير والنكير ووجوب نار السعير، إلا بما دانوا به من اختيار الظهور. قال الله تعالى، في قصة لوط: " أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ". فذمهم الله - تبارك وتعالى - كما ترى، وبلغ بهم في ذكر ما استعظم من عتوهم إلى غاية لا تدرك صفتها، ولا يوقف على حدها مع آي كثيرة قد أنزلها فيهم، وقصص طويلة قد أنبأ بها عنهم، وروايات كثيرة أثرها فيمن كان من طبقتهم. وسنأتي منها بما يقع به الكفاية دون استفراغ الجميع، مما حملته الرواة، ونقله الصالحون.

فصل منه والحق بين لمن التمسه، والمنهج واضح لمن أراد أن يسلكه. وليس في العنود درك فلج. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وترك الذنب أيسر من التماس الحجة، كما كان غض الطرف أهون من الحنين إلى الشهوة. وبالله تعالى التوفيق. فصل منه نبدأ الآن بذكر ما خص الله به البطون من الفضائل، ليرجع راجع، وينيب منيب مفكر، وينتبه راقد، ويبصر متحير، ويستغفر مذنب، ويستقيل مخطىء، وينزع مصر، ويستقيم عاند، ويتأمل غمر، ويرشد غوي، ويعلم جاهل، ويزداد عالم. قال الله عز وجل فيما وصف به النحل: " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ". وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير بطون قريش. ووجدنا الأغلب في صفة الرجل أن يقال إنه معروف بكذا مذ خرج من بطن أمه، ولا يقال من ظهر أبيه.

ويقال في صفات النساء: " قب البطون نواعم ". ويقال: خمصانة البطن، ولا يقال: خمصانة الظهر. ويقال: فلان بطن بالأمور، ولا يقال: ظهر. ويقال: بطانة الرجل وطهارته، فيبدأ بالبطانة. وبطن القرطاس خير من ظهره، وبطن الصحيفة موضع النفع منها لا ظهرها، وببطن القلم يكتب لا بظهره، وببطن السكين يقطع لا بظهرها. وخلق الله جل وعز آدم من طين، ونسله من بطن حواء. ورأينا أكثر المنافع من الأغذية في البطون لا في الظهور؛ فبطون البقر أطيب من ظهورها، وبطن الشاة كذلك. ومن أفضل صفات علي رضي الله عنه أن كان أخمص بطينا. وأسمع من غنائهم: بطني على بطنك يا جارية ... لا نمطاً نبغي ولا باريه ولم يقل ظهري على ظهرك، فجعل مماسة البطن غانياً عن الوطاء، كافياً من الغطاء. ولو لم يكن في البطن من الفضيلة إلا أن الوجه الحسن، والمنظر

الأنيق من حيزه، وفي الظهر من العيب، إلا أن الدبر في جانبه، لكان فيها أوضح الأدلة على كرم البطن ولؤم الظهر. ولم نرهم وصفوا الرجل بالفحولة والشجاعة إلا من تلقائه، وبالخبث والأبنة إلا من ظهره. وإذا وصفوا الشجاع قالوا: مر فلان قدماً، وإذا وصفوا الجبان قالوا: ولى مدبراً. ولشتان بين الوصفين: بين من يلقى الحرب بوجهه وبين من يلقاه بقفاه، وبين الناكح والمنكوح، والراكب والمركوب، والفاعل والمفعول، والآتي والمأتي، والأسفل والأعلى، والزائر والمزور، والقاهر والمقهور. ولما رأينا الكنوز العادية والذخائر النفيسة، والجواهر الثمينة مثل الدر الأصفر، والياقوت الأحمر، والزمرد الأخضر، والمسك والعنبر والعقيان واللجين، والزرنيخ والزئبق، والحديد والبورق، والنفط والقار، وصنوف الأحجار، وجميع منافع العالم وأدواتهم وآلاتهم، لحربهم وسلمهم، وزرعهم وضرعهم، ومنافعهم ومرافقهم ومصالحهم، وسائر ما يأكلونه ويشربونه، ويلبسونه ويشمونه، وينتفعون برائحته وطعمه، ودائع في بطون الأرض، وإنما يستنبط منها استنباطاً، ويستخرج منها استخراجاً، وأن على ظهرها الهوام القاتلة، والسباع العادية التي في أصغرها تلف النفوس ودواعي الفناء وعوارض البلاء،

وأنه قل ما يمشي على ظهرها من دابة، إلا وهو للمرء عدو، وللموت رسول، وعلى الهلكة دليل لم يمتنع في عقولنا، وآرائنا ومعرفتنا من الإقرار بتفضيل البطن على الظهر في كل وقت، وعلى كل حال. ومن فضيلة البطن على الظهر أن أحداً إن ابتلي فيه بداء كان مستوراً، وإن شاء أن يكتمه كتمه عن أهله، ومن لا ينطوي عنه شيء من أمره، وغابر دهره. ومن بلية الظهر أنه إن كان داء ظهر وبان، مثل الجرب والسلع والخنازير وما أشبهها، مما سلمت منه البطون وجعل خاصاً في الظهور. وفضل الله تعالى البطون بأن جعل إتيان النساء، وطلب الولد، والتماس الكثرة مباحاً من تلقائها، محرماً في المحاش من ورائها، لأنه حرام على الأمة إتيان النساء في أدبارهن، لما جاء في الحديث عن الصادق صلى الله عليه وسلم: " لا تأتوا النساء في محاشهن ". وقد ترى بطانة الثوب تقوم بنفسها، ولا ترى الظهارة تستغني. وجعل الله تعالى البطن وعاءً لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جعل أول دلائل نبوته أن أهبط إليه ملكاً حين أيفع، وهو يدرج

مع غلمان الحي في هوازن، وهو مسترضع في بني سعد، حين شق عن بطنه، ثم استخرج قلبه فحشي نوراً، ثم ختم بخاتم النبوة. ولم يكن ذلك من قبل الظهر. فصل منه ومما فضلت به البطون: أن لحم السرة من الشاة أطيب اللحم، ولحم السرة من السمك الموصوف، وسرة حمار الوحش شفاء يتداوى به، ومن سرة الظباء يستخرج المسك. وهذا كله خاص للبطون ليس للظهور منه شيء. وبدأ الله عز وجل في ذكر الفواحش بما ظهر منها، ولم يبدأه بما بطن فقال: " إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن "، فجعله ابتداءً في الذم. والظهر في أكثر أحواله سمج، والبطن في أكثر أحواله حسن. والظهر في كل الأوقات وحشة ووحش، والبطن في كل الأوقات سكن وأنس. ولم نرهم حين بالغوا في صفات النساء بدءوا بذكرها إلا من جهة البطن فقالوا: مدمجة الخصر، لذيذة العناق، طيبة النكهة، حلوة العينين، ساحرة الطرف، كأن سرتها مدهن، وكأن فاها خاتم، وكأن ثدييها حقان، وكأن عنقها إبريق فضة. وليس للظهور في شيء من تلك الصفات حظ.

وأنى نبلغ في صفة البطون، وإن أسهبنا، وكم عسى أن نحصي من معايب الظهور وإن اجتهدنا وبالغنا. ألا ترى أن حد الزاني ثمانون جلدة ما لم يكن محصناً، وحد اللوطي أن يحرق. وكلاهما فجور ورجاسة، وإثم ونجاسة. إلا أن أيسر المكروهين أحق بأن يميل إليه من ابتلي، وخير الشرين أحسن في الوصف من شر الشرين. ولو أنا رأينا رجلاً في سوق من أسواق المسلمين يقبل امرأة فسألناه عن ذلك، فقال: امرأتي. وسألوها فقالت: زوجي لدرأنا عنهما الحد، لأن هذا حكم الإسلام. ولو رأيناه يقبل غلاماً لأدبناه وحبسناه؛ لأن الحكم في هذا غير الحكم في ذاك. ألا ترى أنه ليس يمتنع في العقول والمعرفة أن يقبل الرجل في حب ما ملكت يمينه حتى يقبلها في الملا كما يقبلها في الخلا، يصدق ذلك حديث ابن عمر: " وقعت في يدي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة فما صبرت حتى قبلتها والناس ينظرون ". فصل منه وقد رأيت منك أيها الرجل إفراطك في وصف فضيلة الظهور، وفي محل الريبة وقعت، لأنا روينا عن عمر أنه قال: " من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً ". وإنما يصف فضل الظهر من كان مغرماً بحب الظهور، وإلى ركوبه صباً، وبالنوم عليه مستهتراً، وبالولوع بطلبه موكلا، ومن كان للحلال

مبايناً، ولسبيله مفارقاً، ولأهله قالياً، وللحرام معاوداً، وبحبله مستمسكا وإلى قربه داعياً، ولأهله موالياً. وقد اضطررتنا بتصييرك المفضول فاضلا، والعام خاصاً، والخسيس نفسياً، والمحمود مذموماً، والمعروف منكراً، والمؤخر مقدماً، والمقدم مؤخراً، والحلال حراماً، والحرام حلالا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، والحظر إطلاقاً، والإطلاق حظراً، والحقيقة شبهة والشبهة حقيقة، والشين زيناً والزين شيناً، والزجر أمراً والأمر زجرأ، والوهم أصلا والأصل وهماً، والعلم جهلاً والجهل فضلاً إلى أن أدخلنا عليك الظن، وألحقناك التهمة، ونسبناك إلى غير أصلك، ونحلناك غير عقيدتك، وقضينا عليك بغير مذهبك. و " يداك أوكتا، وفاك نفخ ". فلا يبعد الله غيرك! أوجدنا أيها الضال المضل، المغلوب على رأيه، المسلوب فهمه، المولى على تمييزه، الناكص على عقبه في اختياره، المفارق لأصل عقده، المدبر بعد الإقبال في معرفته، الساقط بعد الهوى في ورطته، المتخلي من فهمه، الغني عن إفهامه، المضيع لحكمته، المنزوع

عقله، المختلس لبه، المستطار جنانه، المعدوم بيانه، في الظهور بعد الفضائل التي أوجدناكها في البطون، إما قياساُ، وإما اختياراً، وإما ضرورة، وإما اختباراً وإما اكتساباً، أو في كتاب منزل، أو سنة مأثورة، أو عادة محمودة، أو صلاح على خير. أم هل لك في مقالتك من إمام تأتم به، أو أستاذ تقتفى أثره، وتهتدي بهداه، وتسلك سننه. فصل منه وقد حضتني عليك عند انتهائي إلى هذا الموضع رقة، وتداخلتني لك رحمة، ووجدت لك بقية في نفسي؛ لأنه إنما يرحم أهل البلاء. والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً. فرأيت أن أختم بأبسط الدعاء لك كتابي، وأن أحرز به أجري وثوابي، ورجوت أن تنيب وترجع بعد الجماح واللجاج، فإن للجواد استقلالاً بعد الكبوة، وللشجاع كرة بعد الكشفة، وللحليم عطفةً بعد النبوة. وأنا أقول: جعلنا الله وإياك ممن أبصر رشده، وعرف حظه، وآثر الإنصاف واستعمله، ورفض الهوى وأطرحه؛ فإن الله تعالى لم يبتل بالهوى إلا من أضله، ولم يبعد إلا من استبعده.

فصل من صدر كتابه في النبل والتنبل وذم الكبر

قد قرأت كتابك وفهمته، وتتبعت كل ما فيه واستقصيته، فوجدت الذي ترجع إليه بعد التطويل، وتقف عنده بعد التحصيل، قد سلف القول منا في عيبه، وشاع الخبر عنا في ذمه، وفي النصب لأهله، والمباينة لأصحابه، وفي التعجب منهم، وإظهار النفي عنهم. والجملة أن فرط العجب إذا قارن كثرة الجهل، والتعرض للعيب إذا وافق قلة الإكتراث، بطلت المزاجر، وماتت الخواطر. ومتى تفاقم الداء، وتفاوت العلاج، صار الوعيد لغواً مطرحاً، والعقاب حكماً مستعملاً. وقد أصبح شيخك، وليس يملك من عقابهم إلا التوقيف، ولا من تأديبهم إلا التعريف. ولو ملكناهم ملك السلطان، وقهرناهم قهر الولاة، لنهكناهم عقوبة بالضرب، ولقمعناهم بالحصر.

والكبر - أعزك الله تعالى - باب لا يعد احتماله حلماً، ولا الصبر على أهله حزماً، ولا ترك عقابهم عفواً، ولا الفضل عليهم مجداً، ولا التغافل عنهم كرماً، ولا الإمساك عن ذمهم صمتاً. واعلم أن حمل الغنى أشد من حمل الفقر، واحتمال الفقر أهون من احتمال الذل. على أن الرضا بالفقر قناعة وعز، واحتمال الذل نذالة وسخف. ولئن كانوا قد أفرطوا في لوم العشيرة، والتكبر على ذوي الحرمة، لقد أفرطت في سوء الاختيار، وفي طول مقامك على العار. وأنت مع شدة عجبك بنفسك، ورضاك عن عقلك، خالطت من موته يضحك السن، وحياته تورث الحزن، وتشاغلك به من أعظم الغبن. وشكوت تنبلهم عليك، واستصغارهم لك، وأنك أكثر منهم في المحصول، وفي حقائق المعقول. ولو كنت كما تقول لما أقمت على الذل ولما تجرعت الصبر وأنت بمندوحة منهم، وبنجوة عنهم. ولعارضتهم من الكبر بما يهضهم، ومن الامتعاض بما يبهرهم. وقلت: ولو كانوا من أهل النبل عند الموازنة، أو كان معهم ما يغلط الناس فيه عند المقايسة لعذرتهم واحتججت عنهم، ولسترت عيبهم، ولرقعت وهيهم. ولكن أمرهم مكشوف، وظاهرهم معروف.

وإن كان أمرهم كما قلت، وشأنهم كما وصفت، فذاك ألوم لك، وأثبت للحجة عليك. وسأؤخر عذلك إلى الفراغ منهم، وتوقيفك بعد التنويه بهم. أقول: وإن كان النبل بالتنبل، واستحقاق العظم بالتعظم وبقلة الندم والاعتذار، وبالتهاون بالإقرار، فكل من كان أقل حياءً، وأتم قحة، وأشد تصلفاً، وأضعف عدة، أحق بالنبل وأولى بالعذر. وليس الذي يوجب لك الرفعة أن تكون عند نفسك دون أن يراك الناس رفيعاً، وتكون في الحقيقة وضيعاً. ومتى كنت من أهل النبل لم يضرك التنبل، ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التنبل. وليس النبل كالرزق، يكون مرزوقاً الحرمان أليق به، ولا يكون نبيلاً السخافة أشبه به. وكل شيء من أمر الدنيا قد يحظى به غير أهله، كما يحظى به أهله. وما ظنك بشيء المروءة خصلة من خصاله، وبعد الهمة خلة من خلاله، وبهاء المنظر سبب من أسبابه، وجزالة اللفظ شعبة من شعبه، والمقامات الكريمة طريق من طرقه.

فصل منه واعلم أنك متى لم تأخذ للنبل أهبته، ولم تقم له أداته، وتأته من وجهه، وتقم بحقه، كنت مع العناء مبغضاً، ومع التكلف مستصلفاً. ومن تبغض فقد استهدف للشتام، وتصدى للملام. فإن كان لا يحفل بالشتم، ولا يجزع من الذم، فعده ميتاً إن كان حياً؛ وكلباً إن كان إنساناً. وإن كان ممن يكترث ويجزع، ويحس ويألم، فقد خسر الراحة والمحبة، وربح النصب والمذمة. وبعد، فالنبل كلف بالمولي عنه، شنف للمقبل عليه، لازق بمن رفضه، شديد النفار ممن طلبه. فصل منه والسيد المطاع لم يسهل عليه الكظم، ولم يكن له كنف الحلم، إلا بعد طول تجرع للغيظ، ومقاساة للصبر. وقد كان معنى القلب دهره، ومكدود النفس عمره، والحرب سجال بينه وبين الحلم، ودول بينه وبين الكظم. فلما انقادت له العشيرة، وسمحت له بالطاعة، ووثق بظهور القدرة خلاف المعجزة سهل عليه الصبر، وغمر

بعلوه دواعي الجزع، بطلت المجاذبة، وذهبت المساجلة. والذي كان دعاه إلى تكلف الحلم في بدء أمره وإلى احتمال المكروه في أول شأنه، الأمل في الرياسة، والطمع في السيادة، ثم لم يتم له أمره، ولم يستحكم له عقده إلا بعد ثلاثة أشياء: الاحتمال، ثم الاعتياد، ثم ظهور طاعة الرجال. ولولا خوف جميع المظلومين من أن يظن بهم العجز، وألا يوجه احتمالهم إلى الذل لزاحم السادة في الحلم رجال ليسوا في أنفسهم بدونهم، ولغمرهم بعض من ليس معه من أسبابهم. فصل منه ولا يكون المرء نبيلاً حتى يكون نبيل الرأي، نبيل اللفظ، نبيل العقل، نبيل الخلق، نبيل المنظر، بعيد المذهب في التنزه، طاهر الثوب من الفحش، إن وافق ذلك عرقاً صالحاً، ومجداً تالداً. فالخارجي قد يتنبل بنفسه، والنابتي قد يخرج بطبعه. ولكل عز أول، وأول كل قديم حادث. ومن حقوق النبل أن تتواضع لمن هو دونك، وتنصف من هو مثلك، وتتنبل على من هو فوقك.

فصل منه وكان بعض الأشراف في زمان الأحنف، لا يحتقر أحداً، ولا يتحرك لزائر، وكان يقول: " ثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل " فكان الأحنف ما يزداد إلا علواً، وكان ذلك الرجل لا يزداد إلا تسفلاً. وقد ذم الله تعالى المتكبرين، ولعن المتجبرين، وأجمعت الأمة على عيبه، والبراءة منه، وحتى سمي المتكبر تائهاً، كالذي يختبط في التية بلا أمارة، ويتعسف الأرض بلا علامة. ولعل قائلاً أن يقول: لو كان اسم المتكبر قبيحاً، ولو كان المتكبر مذموماً، لما وصف الله تعالى بهما نفسه، ولما نوه بهما في التنزيل حين قال: " الجبار المتكبر "، ثم قال: " له الأسماء الحسنى ". قلنا لهم: إن الإنسان المخلوق المسخر، والضعيف الميسر، لا يليق به إلا التذلل، ولا يجوز له إلا التواضع. وكيف يليق الكبر بمن إن جاع صرع، وإن شبع طغى، وما يشبه الكبر بمن يأكل ويشرب، ويبول وينجو. وكيف يستحق الكبر ويستوجب العظمة من ينقصه النصب، ويفسده الراحة؟.

فإذا كان الكبر لا يليق بالمخلوق فإنما يليق بالخالق؛ وإنما عاند الله تعالى بالكبر لتعديه طوره، ولجهله لقدره، وانتحاله ما لا يجوز إلا لربه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " العظمة رداء الله، فمن نازعه رداءه قصمه ". فصل منه والنبيل لا يتنبل، كما أن الفصيح لا يتفصح؛ لأن النبيل يكفيه نبله عن التنبل، والفصيح تغنيه فصاحته عن التفصح. ولم يتزيد أحد قط إلا لنقص يجده في نفسه، ولا تطاول متطاول إلا لوهن قد أحس به في قوته. والكبر من جميع الناس قبيح، ومن كل العباد مسخوط، إلا أنه عند الناس من عظماء الأعراب، وأشباه الأعراب أوجد، وهو لهم أسرع، لجفائهم وبعدهم من الجماعة، ولقلة مخالطتهم لأهل العفة والرعة، والأدب والصنعة.

فصل منه ولم نر الكبر يسوغ عندهم ويستحسن إلا في ثلاثة مواضع: من ذلك أن يكون المتكبر صعباً بدوياً، وذا عرضية وحشياً، ولا يكون حضرياً ولا مدرياً، فيحمل ذلك منه على جهة الصعوبة ومذهب الجاهلية، وعلى العنجهية والأعرابية. أو يكون ذلك منه على جهة الانتقام والمعارضة، والمكافأة والمقابلة. أو على أن لا يكون تكبره إلا على الملوك والجبابرة، والفراعنة وأشباه الفراعنة. وصاحبك هذا خارج من هذه الخصال، مجانب لهذه الخلال. إن أصاب صديقاً تعظم عليه، وإن أتاه ضيف تغافل عنه، وإن أتاه ضعيف من عليه، وإن صادف حليماً اعتمر به. وينبغي أن يكون خضوعه لمن فوقه على حسب تكبره على من دونه. ومن صفة اللئيم أن يظلم الضعيف، ويظلم نفسه للقوي، ويقتل

الصريع، ويجهز على الجريح، ويطلب الهارب، ويهرب من الطالب، ولا يطلب من الطوائل إلا ما لا خطار فيه ولا يتكبر إلا حيث لا يرجع مضرته عليه، ولا يقفو التقية ولا المروءة، ولا يعمل على حقيقته. ومن اختار أن يبغي تبدى، ومن أراد أن يسمع قوله ساء خلقه، إذ كان لا يحفل ببغض الناس له ووحشة قلوبهم منه، واحتيالهم في مباعدته، وقلة ملابسته. وليس يأمن اللئيم على إتيان جميع ما اشتمل عليه اسم اللؤم إلا حاسد. فإذا رأيته يعق أباه، ويحسد أخاه، ويظلم الضعيف، ويستخف بالأديب، فلا تبعده من الخيانة، إذ كانت الخيانة لؤماً؛ ولا من الكذب، إذ كان الكذب لؤماً؛ ولا من النميمة، إذ كانت النميمة لؤماً. ولا تأمنه على الكفر فإنه ألأم اللؤم، وأقبح الغدر. ومن رأيته منصرفاً عن بعض اللؤم، وتاركاً لبعض القبيح، فإياك أن توجه ذلك منه على التجنب له، والرغبة عنه، والإيثار لخلافه،

ولكن على أنه لا يشتهيه أو لا يقدر عليه، أو يخاف من مرارة العاقبة أمراً يعفي على حلاوة العاجل؛ لأن اللؤم كله أصل واحد وإن تفرقت فروعه، وجنس واحد وإن اختلفت صوره، والفعل محمول على غلبته، تابع لسمته. والشكل ذاهب على شكله، منقطع إلى أصله، صائر إليه وإن أبطأ عنه، ونازع إليه وإن حيل دونه. وكذلك تناسب الكرم وحنين بعضه لبعض. ولم تر العيون، ولا سمعت الآذان، ولا توهمت العقول عملاً اجتباه ذو عقل، أو اختاره ذو علم، بأوبأ مغبة، ولا أنكد عاقبة، ولا أوخم مرعىً، ولا أبعد مهوىً، ولا أضر على دين، ولا أفسد لعرض، ولا أوجب لسخط الله، ولا أدعى إلى مقت الناس، ولا أبعد من الفلاح، ولا أظهر نفوراً عن التوبة، ولا أقل دركاً عند الحقيقة، ولا أنقض للطبيعة، ولا أمنع من العلم، ولا أشد خلافاً على الحلم، من التكبر في غير موضعه، والتنبل في غير كنهه. وما ظنك بشيء العجب شقيقه، والبذخ صديقه، والنفج أليفه، والصلف عقيده. والبذاخ متزيد، والنفاج كذاب، والمتكبر ظالم، والمعجب

صغير النفس. وإذا اجتمعت هذه الخصال، وانتظمت هذه الخصال في قلب طال خرابه، واستغلق بابه. وشر العيوب ما كان مضمناً بعيوب، وشر الذنوب ما كان علة للذنوب. والكبر أول ذنب كان في السماوات والأرض، وأعظم جرم كان من الجن والإنس، وأشهر تعصب كان في الثقلين، وعنه لج إبليس في الطغيان، وعتا على رب العالمين، وخطأ ربه في التدبير، وتلقى قوله بالرد. ومن أجله استوجب السخطة، وأخرج من الجنة، وقيل له: " ما يكون لك أن تتكبر فيها ". ولإفراطه في التعظيم خرج إلى غاية القسوة، ولشدة قسوته اعتزم على الإصرار، وتتايع في غاية الإفساد، ودعا إلى كل قبيح، وزين كل شر، وعن معصيته أخرج آدم من الجنة، وشهر في كل أفق وأمة، ومن أجله نصب العداوة لذريته، وتفرغ من كل شيء إلا من إهلاك نسله، فعادى من لا يرجوه ولا يخافه، ولا يضاهيه

في نسب، ولا يشاكله في صناعة، وعن ذلك قتل الناس بعضهم بعضاً، وظلم القوي الضعيف، ومن أجله أهلك الله الأمم بالمسخ والرجف، وبالخسف وبالطوفان، والريح العقيم، وأدخلهم النار، وأقنطهم من الخروج. والكبر هو الذي زين لإبليس ترك السجود، ووهمه شرف الأنفة، وصور له عز الانتقاض، وحبب إليه المخالفة، وآنسه بالوحدة والوحشة، وهون عليه سخط الرب، وسهل عليه عقاب الأبد، ووعده الظفر، ومناه السلامة، ولقنه الاحتجاج بالباطل، وزين له قول الزور، وزهده في جوار الملائكة، وجمع له خلال السوء، ونظم له خلال الشر؛ لأنه حسد والحسد ظلم، وكذب والكذب ذل، وخدع والخديعة لؤم. وحلف على الزور، وذلك فجور. وخطأ ربه، وتخطئة الله جهل، وأخطأ في جلي القياس وذلك غي، ولج واللجاج ضعف. وفرق بين التكبر والتبدي. وجمع بين الرغبة عن صنيع الملائكة وبين الدخول في أعمال السفلة. واحتج بأن النار خير من الطين. ومنافع العالم نتائج أربعة

أركان: نار يابسة حارة، وماء بارد سيال، وأرض باردة يابسة، وهواء حار رطب. ليس منها شيء مع مزاوجته لخلافه إلا وهو محي مبق. على أن النار نقمة الله من بين جميع الأصناف، وهي أسرعهن إتلافاً لما صار فيها. وأمحقهن لما دنا منها. هذا كله ثمرة الكبر، ونتاج النية. والتكبر شر من القسوة، كما أن القسوة شر المعاصي. والتواضع خير الرحمة، كما أن الرحمة خير الطاعات. والكبر معنىً ينتظم به جماع الشر، والتواضع معنىً ينتظم به جماع الخير، والتواضع عقيب الكبر، والرحمة عقيب القسوة. فإذا كان للطاعة قدر من الثواب فلتركها وعقيبها، ولما يوازنها ويكايلها، مثل ذلك القدر من العقاب. وموضع الطاعة من طبقات الرضا، كموضع تركها من طبقات السخط إذ كانت الطاعة واجبة، والترك معصية. والكبر من أسباب القسوة. ولو كان الكبر لا يعتري إلا الشريف والجميل، أو الجواد، أو الوفي أو الصدوق، كان أهون لأمره، وأقل لشينه، وكان يعرض لأهل الخير، وكان لا يغلط فيه إلا أهل الفضل،

ولكنا نجده في السفلة، كما نجده في العلية، ونجده في القبيح كما نجده في الحسن، وفي الدميم كما نجده في الجميل، وفي الدني الناقص، كما نجده في الوفي الكامل، وفي الجبان كما نجده في الشجاع، وفي الكذوب كما نجده في الصدوق، وفي العبد كما نجده في الحر، وفي الذمي ذي الجزية والصغار والذلة، كما نجده في قابض جزيته والمسلط على إذلاله. ولو كان في الكبر خير لما كان في دهر الجاهلية أظهر منه في دهر الإسلام، ولما كان في العبد أفشى منه في الحر، ولما كان في دهره الجاهلية أظهر منه في دهره الإسلام، ولما كان في العبد أفشى منه في الحر، ولما كان في السند أعم منه في الروم والفرس. وليس الذي كان فيه آل ساسان وأنو شروان وجميع ولد أزدشير بن بابك كان من الكبر في شيء. تلك سياسة للعوام، وتفخيم لأمر السلطان، وتسديد للملك. ولم يكن في الخلفاء أشد نخوة من الوليد بن عبد الملك، وكان أجهلهم وألحنهم. وما كان في ولاة العراق أعظم كبراً من يوسف بن عمر، وما كان أشجعهم ولا أبصرهم، ولا أتمهم قواماً، ولا أحسنهم كلاماً.

ولم يدع الربوبية ملك قط إلا فرعون، ولم يك مقدماً في مركبه، ولا في شرف حسبه، ولا في نبل منظره، وكمال خلقه، ولا في سعة سلطانه وشرف رعيته وكرم ناحيته. ولا كان فوق الملوك الأعاظم والجلة الأكابر، بل دون كثير منهم في الحسب وشرف الملك وكرم الرعية، ومنعة السلطان، والسطوة على الملوك. ولو كان الكبر فضيلة وفي التيه مروءة، لما رغب عنه بنو هاشم ولكان عبد المطلب أولى الناس منه بالغاية، وأحقهم بأقصى النهاية. ولو كان محمود العاجل ومرجو الآجل، وكان من أسباب السيادة أو من حقوق الرياسة، لبادر إليه سيد بني تميم، وهو الأحنف بن قيس؛ ولشح عليه سيد بكر بن وائل وهو ملك، ولاستولى عليه سيد الأزد وهو المهلب. ولقد ذكر أبو عمرو بن العلاء جميع عيوب السادة، وما كان فيهم من الخلال المذمومة، حيث قال: " ما رأينا شيئاً يمنع من السودد إلا وقد وجدناه في سيد: وجدنا البخل يمنع من السودد، وكان

أبو سفيان بن حرب بخيلا. والعهار يمنع من السودد، وكان عامر بن الطفيل سيداً، وكان عاهراً. والظلم يمنع من السودد، وكان حذيفة بن بدر ظلوماً، وكان سيد غطفان. والحمق يمنع من السودد، وكان عتيبة بن حصن محمقاً، وكان سيداً. والإملاق يمنع من السودد، وكان عتبة بن ربيعة مملقاً. وقلة العدد تمنع من السودد وكان شبل بن معبد سيداً، ولم يكن من عشيرته بالبصرة رجلان. والحداثة تمنع من السودد، وساد أبو جهل وما طر شاربه، ودخل دار الندوة وما استوت لحيته. فذكر الظلم، والحمق، والبخل، والفقر، والعهار، وذكر العيوب ولم يذكر الكبر؛ لأن هذه الأخلاق وإن كانت داءً فإن في فضول أحلامهم وفي سائر أمورهم ما يداوى به ذلك الداء، ويعالج به ذلك السقم؛ وليس الداء الممكن كالداء المعضل، وليس الباب المغلق كالمستبهم؛ والأخلاق التي لا يمكن معها السودد، مثل الكبر والكذب والسخف، ومثل الجهل بالسياسة.

وخرجت خارجة بخراسان فقيل لقتيبة بن مسلم: لو وجهت إليهم وكيع بن أبي سود لكفاهم فقال: وكيع رجل عظيم الكبر، في أنفه خنزوانة، وفي رأسه نعرة، وإنما أنفه في أسلوب؛ ومن عظم كبره اشتد عجبه، ومن أعجب برأيه لم يشاور كفياً، ولم يؤامر نصيحاً، ومن تبجح بالانفراد وفخر بالاستبداد كان من الظفر بعيداً، ومن الخذلان قريباً، والخطاء مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة. وإن كانت الجماعة لا تخطىء والفرقة لا نصيب. ومن تكبر على عدوه حقره، وإذا حقره تهاون بأمره. ومن تهاون بخصمه ووثق بفضل قوته قل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عثاره. وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب إلا كان منكوباً ومهزوماً ومخدوعاً. ولا يشعر حتى يكون عدوه عنده، وخصمه فيما يغلب عليه أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأحذر من عقعق، وأشد إقداماً من الأسد، وأوثب من فهد، وأحقد من

جمل، وأروغ من ثعلب، وأغدر من ذئب، وأسخى من لافظة، وأشح من صبي، وأجمع من ذرة، وأحرص من كلب، وأصبر من ضب. فإن النفس إنما تسمح بالعناية على قدر الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب. فصل منه وأقول بعد هذا كله: إن الناس قد ظلموا أهل الحلم والعزم، حين زعموا أن الذي يسهل عليهم الاحتمال معرفة الناس بقدرتهم على الانتقام، فكيف والمذكور بالحلم والمشهور بالاحتمال يقيض له من السفهاء، ويؤتى له من أهل البذاء ما لا يقوم له صبر، ولا ينهض به عزم. بل على قدر حلمه يتعرض له، وعلى قدر عزمه يمتحن صبره ولأن الذي سهل عليه الحلم، ومكنه من العزم، معرفة الناس بقدرته على الانتقام، واقتداره على شفاء الغيظ؛ فإن منعه لنفسه، ومجاذبته لطبعه مع الغيظ الشديد، والقدرة الظاهرة، أشد عليه في المزاولة

وأبلغ في المشقة والمكابدة، من صبر الشكل على أذى شكله، واحتمال المظلوم عن مثله، وإن خاف الطمس، وتوقع العيب. فصل منه ومن بعد هذا، فمن شأن الأيام أن يظلم المرء أكثر محاسنه ما كان تابعاً، فإذا عاد متبوعاً عادت عليه من محاسن غيره بأضعاف ما منعته من محاسن نفسه، حتى يضاف إليه من شوارد الأفعال، ومن شواذ المكارم إن كان سيداً، ومن غريب الأمثال إن كان منطيقاً، ومن خيار القصائد إن كان شاعراً، مما لا أمارات لها، ولا سمات عليها. فكم من يد بيضاء وصنيعة غراء، ضلت فلم يقم بها ناشد، وخفيت فلم يظهرها شاكر. والذي ضاع للتابع قبل أن يكون متبوعاً، أكثر مما حفظ، والذي نسي أكثر مما ذكر، وما ظنك بشيء بقيته تهب السادة، ومشكوره يهب الرياسة، على قلة الشكر، وكثرة الكفر. وقد يكون الرجل تام النفس ناقص الأداة، فلا يستبان فضله، ولا يعظم قدره، كالمفرج الذي لا عشيرة له، والإتاوي الذي

لا قوم له. وقد يعظم المفرج الذي لا ولاء له ولا عقد جوار، ولا عهد حلف، إذا برع في الفقه وبلغ في الزهد، بأكثر من تعظيم السيد، كجهة تعظيم الديان. كما أن طاعة السلطان غير طاعة السادة، والسلطان إنما يملك أبدان الناس، ولهم الخيار في عقولهم، وكذلك الموالي والعبيد. وطاعة الناس للسيد، وطاعة الديان طاعة محبة ودينونة، والقلوب أطوع لهما من الأبدان، إلا أن يكون السلطان مرضياً، فإن كان كذلك فهو أعظم خطراً من السيد، وأوجه عند الله من ذلك الديان. وربما ساد الأتاوي لأنه عربي على حال. والمفرج لا يسود أبداً لأنه عجمي لا حلف له، ولا عقد جوار، ولا ولاء معروف، ولا نسب ثابت. وليس التسويد إلا في العرب، والعجم لا تطيع إلا للملوك. والذي أحوج العرب في الجاهلية إلى تسويد الرجال وطاعة الأكابر، بعد دورهم من الملوك والحكام والقضاة، وأصحاب الأرباع، والمسالح والعمال. فكان السيد، في منعهم من غيرهم ومنع غيرهم منهم، ووثوب بعضهم عل بعض، في كثير من معاني السلطان.

فصل من رسالته إلى أبي الفرج الكاتب

في المودة والخلطة أطال الله بقاءك، وأعزك وأكرمك، وأتم نعمته عليك. زعم - أبقاك الله - كثير ممن يقرض الشعر ويروي معانيه، ويتكلف الأدب ويجتبيه، أنه قد يمدح المرجو المأمول، والمغشي المزور، بأن يكون مخدوعاً، وعمي الطرف مغفلا، وسليم الصدر للراغبين، وحسن الظن بالطالبين، قليل الفطنة لأبواب الاعتذار، عاجزاً عن التخلص إلى معاني الاعتلال، قليل الحذق برد الشفعاء،

شديد الخوف من مياسم الشعراء، حصراً عند الاحتجاج للمنع، سلس القياد إذا نبهته للبذل، واحتجوا بقول الشاعر: إيت الخليفة فاخدعه بمسألة ... إن الخليفة للسؤال ينخدع فانتحال المأمول للغفلة التي تعتري الكرام، وانخداع الجواد لخدع الطالبين ومخاريق المستميحين، باب من التكرم، ومن استدعاء الراغب، والتعرض للمجتدي، والتلطف لاستخراج الأموال، والاحتيال لحل عقد الأشحاء، وتهييج طبائع الكرام. وأنا أزعم - أبقاك الله - أن إقرار المسئول بما ينحل من ذلك نوك، وإضماره لؤم، حتى تصح القسمة، ويعتدل الوزن. وأنا أعوذ بالله من تذكير يناسب الاقتضاء، ومن اقتضاء

يضارع الإلحاح. ومن حرص يعود إلى الحرمان، ومن رسالة ظاهرها زهد، وباطنها رغبة. فإن أسقط الكلام وأوغده، وأبعده من السعادة وأنكده، ما أظهر النزاهة وأضمر الحرص، وتجلى للعيون بعين القناعة، واستشعر ذلة الافتقار. وأشنع من ذلك، وأقبح منه وأفحش، أن يظن صاحبه أن معناه خفي وهو ظاهر، وتأويله بعيد الغور وهو قريب القعر. فنسأل الله تعالى السلامة فإنها أصل النعمة عليكم، ونحمده على اتصال نعمتنا بنعمتكم، وما ألهمنا الله من وصف محاسنكم. والحمد لله الذي جعل الحمد مستفتح كتابه، وآخر دعوى أهل جنته. ولو أن رجلاً اجتهد في عبادة ربه، واستفرغ مجهوده في طاعة سيده، ليهب له الإخلاص في الدعاء لمن أنعم عليه؛ وأحسن إليه، لكان حرياً بذلك أن يدرك أقصى غاية الكرم في العاجل، وأرفع درجات الكرامة في الآجل. وعلى أني لا أعرف معنىً أجمع لخصال الشكر، ولا أدل على جماع الفضل، من سخاوة النفس بأداء الواجب.

ونحن وإن لم نكن أعطينا الإخلاص جميع حقه، فإن المرء مع من أحب، وله ما احتسب. ولا أعلم شيئاً أزيد في السيئة من استصغارها، ولا أحبط للحسنة من العجب بها. ومما يستديم الخطأ لبث لبتقصير وإهمال النفس، وترك التوقف، وقلة المحاسبة، وبعد العهد بالتثبت. ومهما رجعنا إليه من ضعف في عزم، وهان علينا ما نفقد من مناقل الحلم، فإنا لا نجمع بين التقصير والإنكار. ونعوذ بالله أن نقصر في ثناء على محسن، أو دعاء لمنعم. ولئن اعتذرنا لأنفسنا بصدق المودة وبجميل الذكر، فلما يعد لكم، من تحقق الآمال، والنهوض بالأثقال أكثر. على أنكم لم تحملونا إلا الخف، وقد حملناكم الثقل. ولم تسألونا الجزاء على إحسانكم، وقد سألناكم الجزاء على ما سألناكم. ولم تكلفونا ما يجب لكم، وكلفناكم ما لا يجب. ومن إفراط الجهل أن نتذكر حقنا في حسن الحظ، ولا نتذكر

حقكم في تصديق ذلك الظن وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عظمت نعمة الله على أحد إلا عظمت عليه مؤنة الناس ". وأنا أسأل الله الذي ألزمكم المؤن الثقال، ووصل بكم آمال الرجال، وامتحنكم بالصبر على تجرع المرار، وكلفكم مفارقة المحبوب من الأموال، أن يسهلها عليكم، ويحببها إليكم، حتى يكون شغفكم بالإحسان الداعي إليه، وصبابتكم بالمعروف الحامل عليه، وحتى يكون حب التفضل، والمحبة الاعتقاد المنن الغاية التي تستدعي المدبر، والنهاية التي تعذر المقصر، وحتى تكرهوا على الخير من أخطأ حظه، وتفتحوا باب الطلب لمن قصر به العجز. ثم اعلم - أصلحك الله - أن الذي وجد في العبرة، وجرت عليه التجربة، واتسق به النظم، وقام عليه وزن الحكم، واطرد منه النسق، وأثبته الفحص، وشهدت له العقول. أن من أول أسباب الخلطة، والدواعي إلى المحبة، ما يوجد على بعض الناس من القبول عند أول وهلة، وقلة انقباض النفوس مع أول لحظة، ثم اتفاق الأسباب التي تقع بالموافقة عند أول المجالسة، وتلاقي النفوس بالمشاكلة عند أول الخلطة. والأدب أدبان: أدب خلق، وأدب رواية، ولا تكمل أمور صاحب

الأدب إلا بهما، ولا يجتمع له أسباب التمام إلا من أجلهما، ولا يعد في الرؤساء، ولا يثنى به الخنصر في الأدباء، حتى يكون عقله المتأمر عليهما، والسائس لهما. فصل منه فإن تمت بعد ذلك أسباب الملاقاة تمت المصافاة، وحن الإلف إلى سكنه. والشأن قبل ذلك لما يسبق إلى القلب، ويخف على النفس، ولذلك احترس الحازم المستعدى عليه من السابق إلى قلب الحاكم عليه. وكذلك التمسوا الرفق والتوفيق، والإيجاز وحسن الاختصار، وانخفاض الصوت، وأن يخرج الظالم كلامه مخرج لفظ المظلوم. نعم، وحتى يترك اللحن بحجته بعد، ويخلف الداهية كثيراً من أدبه، ويغض من محاسن منطقه. التماساً لمواساة خصمه في ضعف الحيلة، والتشبه به في قلة الفطنة. نعم، وحتى يكتب كتاب سعاية ومحل وإغراق وتحد، فيلحن في إعرابه، ويتسخف في ألفاظه، ويتجنب القصد، ويهرب من

اللفظ المعجب ليخفي مكان حذقه، ويستر موضع رفقه، حتى لا يحترس منه الخصم، ولا يتحفظ منه صاحب الحكم، بعد أن لا يضر بعين معناه، ولا يقصر في الإفصاح عن تفسير مغزاه، وهذا هو الموضع الذي يكون العي فيه أبين، وذو الغباوة أفطن، والردي أجود، والأنوك أحزم، والمضيع أحكم؛ إذ كان غرضه الذي إياه يرمي، وغايته التي إليها يجري، الانتفاع بالمعنى المتخير دون المباهاة باللفظ، وإنما كانت غايته إيصال المعنى إلى القلب دون نصيب السمع من اللفظ المونق، والمعنى المتخير؛ بل ربما لم يرض باللفظ السليم حتى يسقمه ليقع العجز موقع القوة، ويعرض العي في محل البلاغة. إذا كان حق ذلك المكان اللفظ الدون، والمعنى الغفل. هذا إذا كان صاحب القصة ومؤلف لفظ المحل والسعاية، ممن يتصرف قلمه، ويعلل لسانه، ويلتزق في مذاهبه، ويكون في سعة وحل لأن يحط نفسه إلى طبقة الذل وهو عزيز، ومحل العي وهو بليغ، ويتحول في هيئة المظلوم وهو ظالم، ويمكنه تصوير الباطل في صورة الحق، وستر العيوب بزخرف القول؛ وإذا شاء طفا، وإذا شاء رسب، وإذا شاء أخرجه غفلاً صحيحاً.

وما أكثر من لا يحسن إلا الجيد، فإن طلب الردى جاوزه. كما أنه ما أكثر من لا يستطيع إلا الردى، فإن طلب الجيد قصر عنه. وليس كل بليغ يكون بذلك الطباع، وميسر الأداة، وموسعاً عليه في تصريف اللسان، وممنونا عليه في تحويل القلم. وما أكثر من البصراء من يحكي العميان، ويحول لسانه إلى صورة لفظ الفأفاء بما لا يبلغه الفأفاء ولا يحسنه التمتام. وقد نجد من هو أبسط لساناً وأبلغ قلماً، لا يستطيع مجاوزة ما يشركه، والخروج مما قصر عنه. فصل منها ولولا الحدود المحصلة والأقسام المعدلة، لكانت الأمور سدىً، والتدابير مهملة، ولكانت عورة الحكيم بادية، ولاختلطت السافلة بالعالية. فصل منها وأنا أقول بعد هذا كله: لو لم أضمر لكم محبة قديمة، ولم أضر بكم بشفيع من المشاكلة، ولا سبب الأديب إلى الأديب، ولم

يكن علي قبول، ولا علي حلاوة عند المحصول، ولم أكن إلا رجلاً من عرض المعارف، ومن جمهور الأتباع لكان في إحسانكم إلينا، وإنعامكم علينا، دليل على أنا قد أخلصنا المحبة، وأصفينا لكم المودة. وإذا عرفتم ذلك بالدليل النير الذي أنتم سببه، والبرهان الواضح الذي إليكم مرجعه، لم يكن لنا عند الناس إلا توقع ثمرة الحب، ونتيجة جميل الرأي، وانتظار ما عليه مجازاة القلوب. وبقدر الإنعام تجود النفوس بالمودة، وبقدر المودة تنطلق الألسن بالمدحة. وهذه الوسيلة أكثر الوسائل وأقواها في نفسي: أني لم أصل سببي بمحرم غمر ولا بمبخل غفل، ولا بضيق العطن حديث الغنى، ولا بزمر المروة مستنبط الثرى؛ بل وصلته بحمال أثقال ومقارع أبطال، وبمن ولد في اليسر وربي فيه، وجرى منه على عرق ونزع إليه. فصل منها ولا خير في سمين لا يحتمل هزال أخيه، وصحيح لا يجبر كسر صاحبه.

فصل منها وقد تنقسم المودة إلى ثلاث منازل: منها: ما يكون على اهتزاز الأريحية وطبع الحرية. ومنها: ما يكون على قدر فرط وسائل الفاقة ومنها: مايحسن موقعه على قدر طباع الحرص وجشع النفس. فأرفعها منازل حب المشغوف شكر النعمة. وهو الذي يدوم شكره، ويبقى على الأيام وده. والثاني هو الذي إنما اشتد حبه على قدر موضع المال من قلب الحريص الجشع، واللئيم الطمع. فهذا الذي لا يشكر، وإن شكر لم يشكر إلا ليستزيد، ولم يمدح إلا ليستمد. وعلى أنه لا يأتي الحمد إلا زحفاً، ولا يفعله إلا تكلفاً. وأنا أسأل الله الذي قسم له أفضل الحظوظ في الإنعام، أن يقسم لنا أفضل الحظوظ في الشكر. وما غاية قولنا هذا ومدار أمرنا إلا على طاعة توجب الدعاء، وحرية توجب الثناء، شاكرين كنا أو منعمين، وراجين كنا أو مرجوين. ومن صرف الله حاجته إلى الكرام، وعدل به عن اللئام فلا يعدن نفسه في الراغبين ولا في الطالبين المؤملين، لأن من لم يجرع مرارة المطال، ولم يمد للرحيل التسويف، ويقطع عنقه بطول الانتظار،

ويحمل مكروه ذل السؤال، ويحمل على طمع يحثه يأس، كان خارجاً من حدود المؤملين. ومن استولى على طمعه الثقة بالإنجاز، وعلى طلبته اليقين بسرعة الظفر، وعلى ظفره الجزيل من الإفضال، وعلى إفضاله العلم بقلة التثريب، بالسلام من التنغيص بالتماس الشكر، وبالبكور وبالرواح وبالخضوع إذا دخل، والاستكانة إذا جلس. ثم مع ذلك لم يكن ما أنعم به عليه ثواباً لسالف يد، ولا تعويضاً من كد، كانت النعمة محضة خالصة، ومهذبة صافية، وهب نعمتكم التي ابتدأتمونا بها. ولا تكون النعمة سابغة ولا الأيدي شاملة، ولا الستر كثيفاً ذيالاً، وكثير العرض مطبقاً، ودون الفقر حاجزاً، وعلى الغنى ملتحفاً، حتى يخرج من عندكم، ثم يحتسب إلى شاكر حر. فصل منها وأنتم قوم تقدمتم بابتناء المكارم في حال المهلة، وأخذتم لأنفسكم فيها بالثقة على مقادير ما مكنتم الأواخي، ومددتم الأطناب، وثبتم القواعد. ولذلك قال الأول:

عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود وأبو الفرج - أعزه الله - فتى العسكرين، وأديب المصرين جمع أريحية الشباب، ونجابة الكهول، ومحبة السادة، وبهاء القادة وأخلاق الأدباء، ورشاقة عقول الكتاب، والتغلغل إلى دقائق الصواب، والحلاوة في الصدور، والمهابة في العيون، والتقدم في الصناعة، والسبق عند المحاورة، شقيق أبيه وشبه جده، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة. لم يتأخر عنهما إلا في ما لا يجوز أن يتقدمهما فيه، ولم يقصر عن شأوهما إلا بقدر ما قصرا عن سنخهما، وهم وإن قصروا عن مدى آبائهم، وعن غايات أوائلهم، فلم يقصروا عن جلة الرؤساء، وأهل السوابق من الكبراء، ولست ترى تاليهم إلا سابقاً، ومصليهم إلا للغاية مجاوزاً. ليس فيهم سكيت ولا مبهور ولا منقطع، قد نقحت أعراقهم من الإقراف والهجنة، ومن الشوب ولؤم العجمة. ومتى عاينت أبا الفرج وكماله، ورأيت ديباجته وجماله، علمت أنه لم يكن في ضرائبهم وقديم نجلهم، خارجي النسب، ولا مجهول

المركب، ولا بهيم مصمت، ولا كثير الأوضاح مغرب، بل لا ترى إلا كل أغر محجل، وكل ضخم المحزم هيكل. إني لست أخبر عن الموتى ولا أستشهد الغيب، ولا أستدل بالمختلف فيه ولا الغامض الذي تعظم المؤنة في تعرفه، والشاهد لقولي يلوح في وجوههم، والبرهان على دعواي ظاهر في شمائلهم؛ والأخبار مستفيضة، والشهود متعاونة. وأنت حين ترى عتق تلك الديباجة، ورونق ذلك المنظر، علمت أن التالد هو قياد هذا الطارف. أما أنا فلم أر لأبي الفرج - أدام الله كرامته - ذاماً ولا شائناً ولا عائباً ولا هاجياً، بل لم أجد مادحاً قط إلا ومن سمع تسابق إلى

تلك المعاني، ولا رأيت واصفاً له قط إلا وكل من حضر يهش له ويرتاح لقوله. قال الطرماح: هل المجد إلا السودد العود والندى ... ورأب الثأى والصبر عند المواطن ولكن هل المجد إلا كرم الأرومة والحسب، وبعد الهمة، وكثرة الأدب، والثبات على العهد إذا زلت الأقدام، وتوكيد العقد إذا انحلت معاقد الكرام، وإلا التواضع عند حدوث النعمة، واحتمال كل العثرة، والنفاذ في الكتابة، والإشراف على الصناعة. والكتاب هو القطب الذي عليه مدار علم ما في العالم وآداب الملوك، وتلخيص الألفاظ، والغوص على المعاني السداد، والتخلص إلى إظهار ما في الضمائر بأسهل القول، والتمييز بين الحجة والشبهة وبين المفرد والمشترك، وبين المقصور والمبسوط، وبين ما يحتمل التأويل مما لا يحتمله، وبين السليم والمعتل. فبارك الله لهم فيما أعطاهم، ورزقهم الشكر على ما خولهم، وجعل ذلك موصولاً بالسلامة، وبما خط لهم من السعادة، إنه سميع قريب، فعال لما يريد.

فصل من صدر كتابه في استحقاق الإمامة

بعون الله تعالى نقول، وإليه نقصد، وإياه ندعو، وعلى الله قصد السبيل. أعلم أن الشيعة رجلان: زيدي، ورافضي، وبقيتهم نزر جاء لازماً لهم. وفي الإخبار عنهما غنى عمن سواهما. قالت علماء الزيدية: وجدنا الفضل في الفعل دون غيره، ووجدنا الفعل كله على أربعة أقسام: أولها القدم في الإسلام، حيث لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه. ثم الزهد في الدنيا، فإن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة وآمنهم على نفيس المال، وعقائل النساء، وإراقة الدماء. ثم الفقه الذي به يعرف الناس مصالح دنياهم، ومراشد دينهم. ثم المشي بالسيف كفاحاً بالذب عن الإسلام، وتأسيس الدين، وقتل عدوه، وإحياء وليه. فليس وراء بذل المهجة واستفراغ القوة غاية يطلبها طالب، ويرتجيها راغب.

ولم نجد فعلاً خامساً فنذكره. فمتى رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم، وتقديمه دونهم وذلك أنا إذا سألنا العلماء والفقهاء، وأصحاب الأخبار وحمال الآثار، عن أول الناس إسلاماً، قال فريق منهم: علي. وقال فريق منهم: أبو بكر. وقال آخرون: زيد بن حارثة. وقال قوم: خباب. ولم نجد كل واحد من هذه الفرق قاطعاً لعذر صاحبه، ولا ناقلاً له عن مذهبه، وإن كانت الرواية في تقدم علي أكثر، واللفظ به أظهر. وكذلك إذا سألناهم عن الذابين عن الإسلام بمهجهم، والماشين إلى الأقران بسيوفهم، وجدناهم مختلفين. فمن قائل يقول: علي، ومن قائل يقول: الزبير، ومن قائل يقول: ابن عفراء، ومن قائل يقول: أبو دجانة، ومن قائل يقول: محمد بن مسلمة، ومن قائل يقول: طلحة، ومن قائل يقول: البراء بن مالك. على أن لعلي - رضي الله عنه - من قتل الأقران والفرسان والأكفاء، ما ليس لهم، فلا أقل من أن يكون في طبقتهم. وإن نحن سألناهم عن الفقهاء قالوا: علي، وعمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب. على أن علياً كان أفقههم، لأنه كان يسأل

ولا يسأل، ويفتي ولا يستفتي، ويحتاج إليه ولا يحتاج إليهم، ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم. وإن نحن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف، والمعروفين برفض الدنيا وخلعها والزهد فيها، قالوا: علي، وأبو الدرداء، ومعاذ، وأبو ذر، وعمار، وبلال، وعثمان بن مظعون. على أن علياً أزهدهم؛ لأنه شاركهم في خشونة الملبس وخشونة المأكل، والرضا باليسير، والتبلغ بالحقير وظلف النفس عن الفضول، ومخالفة الشهوات. وفارقهم بأن ملك بيوت الأموال، ورقاب العرب والعجم، فكان ينضح بيت المال في كل جمعة، ويصلي فيه ركعتين. ورقع سراويله بأدم، وقطع ما فضل من كميه عن أطراف أصابعه بالشفرة، في أمور كثيرة. مع أن زهده هو أفضل من زهدهم؛ لأنه أعلم منهم. وعبادة العالم ليست كعبادة غيره، كما أن زلته ليست كزلة غيره، فلا أقل من أن يعد في طبقتهم. ولم نجدهم ذكروا لأبي بكر، وزيد، وخباب، مثل الذي ذكروا له من بذل النفس والعناء، والذب عن الإسلام بالسيف، ولا ذكروهم في طبقة الفقهاء وأهل القدم في الإسلام. ولم نجدهم ذكروا لابن عفراء، والزبير، وأبي دجانة، والبراء بن مالك، مثل الذي ذكروا له من التقدم في الإسلام والزهد والفقه. ولا ذكروا أبا بكر، وزيداً،

وخباباً، في طبقة عمرو بن مسعود، وأبي بن كعب، كما ذكروا علياً في طبقتهم. ولا ذكروا أبا بكر، وزيداً، وخباباً، في طبقة معاذ، وأبي الدرداء، وأبي، وعمار، وبلال، وعثمان بن مظعون، كما ذكروا علياً في طبقتهم. فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه، ومتفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب، وأهل هذه الطبقات، الذين هم الغايات، علمنا أنه أفضل، وأن كل واحد منهم وإن كان قد أخذ من كل خير بنصيب، فإنه لن يبلغ مبلغ من قد اجتمع له الخير وصنوفه. فهذا دليل هذه الطبقة من الزيدية على تفضيل علي - رضوان الله عليه - وتقديمه على غيره. وزعموا أن علياً كان أولاهم بالخلافة، إلا أنهم كانوا على غيره أقل فساداً واضطراباً، وأقل طعناً وخلافاً. وذلك أن العرب وقريشاً كانوا في أمره على طبقات: فمن رجل قد قتل علي أباه أو ابنه، أو أخاه أو ابن عمه، أو حميمه أو صفيه، أو سيده أو فارسه، فهو بين مضطغن قد أصر على حقده، ينتظر الفرصة ويترقب الدائرة، قد كشف قناعه، وأبدى عداوته. ومن رجل قد زمل غيظه وأكمل ضغنه، يرى أن سترهما في نفسه،

ومداراة عدوه، أبلغ في التدبير، وأقرب من الظفر، فإن ما يجزيه أدنى علة تحدث، وأول تأويل يعرض، أو فتنة تنجم؛ فهو يرصد الفرصة ويترقب الفتنة، حتى يصول صولة الأسد، ويروغ روغان الثعلب، فيشفي غليله، ويبرد ثائره. وإذا كان العدو كذلك كان غير مأمون عليه سرف الغضب، وإن يموه له الشيطان الوثوب، ويزين له الطلب؛ لأنه قد عرف مأتاه، وكيف يختله من طريق هواه. فإذا كان القلب كذلك اشتد تحفظه ولم يقو احتراسه، وكان بعرض هلكة وعلى جناح تغرير؛ لأنه منقسم الرأي متفرق النفس، قد اعتلج على قلبه غيظ الثأر على قرب عهده بأخلاق الجاهلية، وعادة العرب من الثأر وتذكر الأحقاد والأمر القديم، وشدة التصميم. ومن رجل غمته حداثته، وأنف أن يلي عليه أصغر منه. ومن رجل عرف شدته في أمره، وقلة اغتفاره في دينه، وخشونة مذهبه. ومن رجل كره أن يكون الملك والنبوة يثبتان في نصاب واحد، وينبتان في مغرس واحد، لأن ذلك أقطع لأطماع قريش أن يعود الملك

دولة في قبائلها، ومن قريش خاصة في بني عبد مناف، الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى، لأن الرحم كلما كانت أمس، والجوار أقرب، والصناعة أشكل، كان الحسد أشد، والغيظ أفرط. فكان أقرب الأمور إلى محبتهم إخراج الخلافة من ذلك المعدن، ترفيهاً عن أنفسهم من ألم الغيظ، وكمد الحسد. فصل منها وضرب من الناس همج هامج، ورعاع منتشر، لا نظام لهم، ولا اختيار عندهم، وأعراب أجلاف، وأشباه الأعراب، يفترقون من حيث يجتمعون، ويجتمعون من حيث يفترقون، لا تدفع صولتهم إذا هاجوا، ولا يؤمن تهيجهم إذا سكنوا. إن أخصبوا طغوا في البلاد وإن أجدبوا آثروا العناد. هم موكلون ببغض القادة، وأهل الثراء والنعمة، يتمنون له النكبة، ويشمتون بالعشيرة، ويسرون بالجولة، ويترقبون الدائرة. فلما كان الناس عند علي وأبي بكر على الطبقات التي نزلنا، والمراتب التي رتبنا، أشفق علي أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة أن يتكلم متكلم أو يشغب شاغب، فدعاه النظر للدين إلى الكف عن

الإظهار، والتجافي عن الأمر، فاغتفر المجهول ضناً بالدين، وإيثاراً للآجلة على العاجلة. فدل ذلك على رجاجة حلمه، وقلة حرصه، وسعة صدره، وشدة زهده، وفرط سماحته، وأصالة رأيه. وعلم أن هلكتهم لا تقوم بإزاء صرف ما بين حاله وحال أبي بكر في مصلحتهم. وقد علم بعد ذلك أن مسيلمة قد أطبق عليه أهل اليمامة ومن حولها من أهل البادية، وهم القوم الذين لا يصطلى بنارهم، ولا يطمع في ضعفهم وقلة عددهم، فكان الصواب ما رآه علي من الكف عن تحريك الهرج، إذ أبصر أسباب الفتن شارعة، وشواكل الفساد بادية، ولو هرج القوم هرجة وحدثت بينهم فرقة، كان حرب بوارهم أغلب من الطمع في سلامتهم. وقد كان أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وفضلاء أصحابه، يعرفون

من تلك الآراء شبيهاً بما يعرفه علي، فعلموا أن أول أحكام الدين المبادرة إلى إقامة إمام المسلمين، لئلا يكونوا نشراً، ولئلا يجعلوا للمفسدين علة وسبباً. فكان أبو بكر أصلح الناس لها بعد علي، فأصاب في قيامه، والمسلمون في إقامته، وعلي في تسويغه والرضا بولايته منعقدة منه على الإسلام وأهله. فلما قمع الله تعالى أهل الردة بسيف النقمة، وأباد النفاق، وقتل مسيلمة وأسر طلحة، ومات أصحاب الأوتار، وفنيت الضغائن، راح الحق إلى أهله، وعاد الأمر إلى صاحبه. قالوا: وقد يكون الرجل أفضل الناس ويلي عليه من هو دونه في الفضل حتى يكلفه الله طاعته وتقديمه: إما للمصلحة والإشفاق من الفتنة كما ذكرنا وفسرنا، وإما للتغليط في المحنة وتشديد البلوى والكلفة، كما قال الله تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر ". والملائكة أفضل من آدم، ولأن جبريل وميكائيل وإسرافيل عند الله من المقربين قبل خلق آدم بدهر طويل، لما قدمت من العبادة واحتملت من ثقل الطاعة. وكما ملك الله طالوت على

بني إسرائيل وفيهم يومئذ داود نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهو نبيهم الذي أخبر الله عنه في القرآن بقوله تعالى: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا " إلى آخر الآية.

فصل من صدر رسالته في استنجاز الوعد

قد شاع الخبر وسار المثل بقولهم: " اطلبوا الحاجات من حسان الوجوه ". فإن كان الوجه إنما وقع على الوجه الذي فيه الناظر والسامع، والشام والذائق، إذا كان حسناً جميلاً، وعتيقاً بهياً، فوجهك الذي لا يخيل على أحد كماله، لا يخطىء حواله. وإن كان ذكر الوجه إنما يقع على حسن وجه المطلب وجماله على جهة الرغبة؛ وإن كان ذلك على طريق المثل، وعلى سبيل اللفظ المشتق من اللفظ، والفرع المأخوذ من الأصل، فوجه المطلب إليك أفضل الوجوه وأسناها، وأصونها وأرضاها. وهو المنهج الفسيح والمتجر الربيح؛ وجماله ظاهر، ونفعه حاضر، وخيره غامر، إلا أن الله تعالى قرنه مع ذلك باليمن، وسهله باليسر، وحببه بالبشر الحسن، ودعا إليه بلين الخطاب، وأظهر في أسمائكم وأسماء آبائكم وفي كناكم وكنى

إخوانكم، من برهان الفأل الحسن ونفي الطيرة السيئة ما جمع لكم به صنوف الأمل، وصرف إليكم وجوه المطالب؛ فاجتمع فيكم تمام القوام وبراعة الجمال، والبشر عند اللقاء، ولين الخطاب والكنف للخلطاء، وقلة البذخ بالمرتبة الرفيعة، والزيادة في الإنصاف عند النعمة الحادثة. فجعل الناس وعدكم من أكرم الوعد، وعقدكم من أوثق العقد، وإطماعكم من أصح الإنجاز. وعلموا أنكم تؤيسون في مواضع اليأس، وتطمعون في مواضع الضمان، وأن الأمور عندكم موزونة معدلة، والأسباب مقدرة محصلة. هذا مع الصولة والتصميم في موضع التصميم. والتقية أحزم، والصفح إذا كان الصفح أكرم، والرحمة لمن استرحم، والعقاب لمن صمم. ثم المعرفة بفرق ما بين اعتزام الغمر واعتزام المستبصر، وفصل ما بين اعتزام الشجاع والبطل، وبين إقدام الجاهل والمتهور. وقد علم الناس بما شاهدوه منكم، وعاينوه من تدبير، وعرفوه من

تصرف حالاتكم، أني لم أتزيد لكم، ولم أتكلف فيكم ما ليس عندكم. وخير المديح ما وافق جمال الممدوح، وأصدق الصفات ما شاكل مذهب الموصوف، وشهد له أهل العيان الظاهر، والخبر المتظاهر. ومتى خالف هذه القضية وجانب الحقيقة، ضار المادح ولم ينفع الممدوح. هذا إلى الثبات على العهد، وإحكام العقد، مع الوفاء العجيب، والرأي المصيب، وتمام ذلك وكماله، وسناء ذلك وبهائه، وكثرة الشهود لكم، وإجماع الناس على ذلك فيكم. ومن قبل لنفسه مديحاً لا يعرف به كان كمادح نفسه. ومن أثاب الكذابين على كذبهم كان شريكهم في إثمهم، وشقيقهم في سخفهم، بل كان المحتقب لكبره، المحتمل لوزره، إذ كان المثيب عليه والداعي إليه. معاذ الله أن نقول إلا معروفاً غير مجهول، ونصف إلا صحيحاً

غير مدخول، أو نكون ممن يتودد بالملق، ويتقحم على أهل الأقدار شرهاً إلى مال، أو حرصاً على تقريب. وأبعد الله الحرص وأخزى الشره والطمع! فإن شك شاك أو توقف مرتاب فليعترض العامة، وليتصفح ما عند الخاصة حتى يتبين الصبح. وقالوا في تأديب الولاة وتقديم تدبير الكفاة: " إذا أبردتم البريد فاجعلوه حسن الوجه، حسن الاسم ". فكيف إذا قارن حسن الوجه وحسن الاسم كرم الضريبة، وشرف العرق. وأعيان الأعراق الكريمة، والأخلاق الشريفة، إذا استجمعت هذا الاستجماع، واقترنت هذا الاقتران، كان أتم للنعمة، وأبرع للفضيلة وكانت الوسيلة إليها أسهل، والمأخذ نحوها أقرب، والأسباب أمتن. فإذا انتظمت في هذا السلك، وجمعها هذا النظم، كان الذي يبرد البريد أولى بها من البريد، وكان مقوم البلاد أحق بها من حاشيته الكفاة، إذ التأميل لا يجمع أوجه الصواب، ولا يحصي مخارج الأسباب، ولا يظهر برهانه ويقوى سلطانه، حتى يصيب المعدن.

ولن يكون موضع الرغبة معدناً إلا بعد اشتماله على ترادف خصال الشرف وبعد أن يتوافى إليه معاني الكرم بالأعراق الكريمة، والعادات الحسنة، على حادث يشهد لمتقادم، وطارف يدل على تالد. فإذا كان الأمل يخبر بالحسب فالحسب ثاقب، والمجد راسخ. وإن كان الشأن في صناعة الكلام وفي القدم والرياسة، وفي خلف يأثره عن سلف، وآخر يلقاه عن أول، فلكم ما لا يذهب عنه جاحد، ولا يستطيع جحده معاند. فصل منها وأسماؤكم وكناكم بين فرج ونجح، وبين سلامة وفضل، ووجوهكم وفق أسمائكم، وأخلاقكم وفق أعراقكم، لم يضرب التفاوت فيكم بنصيب. وبعد هذا فإني أستغفر الله من تفريطي في حقوقكم، وأستوهبه طول رقدتي عما فرضته لكم. ولا ضير إن كان هذا الذي قلنا على إخلاص وصحة عهد، وعلى صدق سيرة وثبات عقد. ينبو السيف وهو حسام، ويكبو الطرف وهو جواد، وينسى الذكور، ويغفل الفطن.

ونعوذ بالله تعالى من العمى بعد البصيرة، والحيرة بعد لزوم الجادة. كان أبو الفضل - أعزه الله - على ما قد بلغك من التبرع بالوعد وسرعة الإنجاز وتمام الضمان. وعلى الله تمام النعمة والعافية. وكان - أيده الله - في حاجتي، كما وصف زيد الخيل نفسه حين يقول: وموعدتي حق كأن قد فعلتها ... متى ما أعد شيئاً فإني لغارم وتقول العرب: " من أشبه أباه فما ظلم "، تقول: لم يضع الشبه إلا في موضعه، لأنه لا شاهد أصدق على غيب نسبه وخفي نجله من الشبه القائم فيه، الظاهر عليه. وقد تقيلت - أبقاك الله - شيخك: خلقه وخلقه، وفعله وعزمه، وعز الشهامة، والنفس التامة.

ومرجع الأفعال إلى الطبائع، ومدار الطبائع على جودة اليقين وقوة المنة، وبهما تتم العزيمة، وتنفذ البصيرة. هذا مع ما قسم الله لك من المحبة ومنحك من المقة، وسلمك عنه من المذمة. والله لو لم يكن فيكم من خصال الحرية وخلال النفوس الأبية إلا أنكم لا تدينون بالنفاق، ولا تعدون بالكذب ولا تستعملون المواربة في موضع الاستقامة، وحيث تجب الثقة. ولا يكون حظ الأحرار بالمواعيد صرفا، ولا تتكلون على ملالة الطالب، ولا عجز الراغب، إذا استنفدت أيامه، وعجزت نفقته، وماتت أسبابه، بل تعجلون لهم الراحة عند تعذر الأمور إليكم بالإياس، وتحققون أطماعهم عند إمكان الأمور لكم بالإنجاح. فصل منها وإنك والله - أيها الكريم المأمول، والمستعطف المسئول - لا تزرع

المحبة إلا وتحصد الشكر، ولا تكثر المودات إلا إذا أكثر الناس الأموال، ولا يشيع لك طيب الأحدوثة وجمال الحال في العشيرة، إلا لتجرع مرار المكروه. ولن تنهض بأعباء المكارم التي توجبها النعمة وتفرضها المرتبة حتى تستشعر التفكر في التخلص إلى إغنائهم، والقيام بحسن ظنهم، وحتى ترحمهم من طول الانتظار، وترق عليهم من موت الأمل وإحياء القنوط، وحتى تتغلغل ذلك بالحيل اللطيفة، والعناية الشديدة الشريفة، وحتى تتوخى الساعات، وتنتهز الفرص في الحالات، وتتخير من الألفاظ أرقها مسلكاً، وأحسنها قبولاً، وأجودها وقوعاً.

فصل من صدر رسالته في تفضيل النطق على الصمت

أمتع الله بك وأبقى نعمه عندك؛ وجعلك ممن إذا عرف الحق انقاد له، وإذا رأى الباطل أنكره وتزحزح عنه. قد قرأت كتابك فيما وصفت من فضيلة الصمت، وشرحت من مناقب السكوت، ولخصت من وضوح أسبابهما، وأحمدت من منفعة عاقبتهما وجريت في مجرى فنون الأقاويل فيهما، وذكرت أنك وجدت الصمت أفضل من الكلام في مواطن كثيرة وإن كان صوابا، وألفيت السكون أحمد من المنطق في مواضع جمة، وإن كان حقاً. وزعمت أن اللسان من مسالك الخنا، الجالب على صاحبه البلا وقلت: إن حفظ اللسان أمثل من التورط في الكلام. وسميت الغبي عاقلاً، والصامت حليماً، والساكت لبيباً، والمطرق مفكراً. وسميت البليغ مكثاراً والخطيب مهذاراً والفصيح مفرطاً، والمنطيق مطنباً.

وقلت: إنك لم تندم على الصمت قط، وإن كان منك عياً، وأنك ندمت على الكلام مراراً وإن كان منك صواباً. واحتجاجك في ذلك بقول كسرى أنو شروان، واعتصامك فيها بما سار من أقاويل الشعراء والمتسق من كلام الأدباء، وإفراطهم في مذمة الكلام، وإطنابهم في محمدة السكوت. وأتيت - حفظك الله - على جميع ما ذكرت من ذلك، ووصفت ولخصت، وشرحت وأطنبت فيها وفرطت بالفهم، وتصفحتها بالعلم، وبحثت بالحزم، ووعيت بالعزم، فوجدتها كلام امرىء قد أعجب برأيه وارتطم في هواه، وظن أنه قد نسج فيها كلاماً، وألف ألفاظاً ونسق له معاني على نحو مأخذه. ومقصده أن لا يلفي له ناقضاً في دهره بعد أن أبرمها، ولا يجد فيها مناوياً في عصره بعد أن أحكمها. وأن حجته قد لزمت جميع الأنام، ودحضت حجة قاطبة أهل الأديان، لما شرح فيها من البرهان، وأوضح بالبيان. وحتى كان القول من القائل نقضاً، ورفع الوصف من الواصف تغلباً، وكان في موضع لا ينازعه فيه أحد، وقلما يجد

من يخاصمه، ولا يلفي أبداً من يناضله، وصار فلجاً بحجته أوحدياً في لهجته، إذ كان محله محل الوحدة، والأنس بالخلوة، وكان مثله في ذلك مثل من تخلص إلى الحاكم وحده فلج بحجته. وإني سأوضح ذلك ببرهان قاطع، وبيان ساطع، وأشرح فيه من الحجج ما يظهر، ومن الحق ما يقهر، بقدر ما أتت عليه معرفتي، وبلغته قوتي، وملكته طاقتي، بما لا يستطيع أحد رده، ولا يمكنه إنكاره وجحده. ولا قوة إلا بالله، وبه أستعين، وعليه أتوكل وإليه أنيب. إني وجدت فضيلة الكلام باهرة، ومنقبة المنطق ظاهرة، في خلال كثيرة، وخصال معروفة. منها: أنك لا تؤدي شكر الله ولا تقدر على إظهاره إلا بالكلام. ومنها: أنك لا تستطيع العبارة عن حاجاتك والإبانة عن ماربك إلا باللسان. وهذان في العاجل والآجل مع أشياء كثيرة لو ينحوها الإنسان لوجدها في المعقول موجودة، وفي المحصول معلومة

وعند الحقائق مشتهرة، وفي التدبير ظاهرة. ولم أجد للصمت فضلاً على الكلام مما يحتمله القياس، لأنك تصف الصمت بالكلام، ولا تصف الكلام به. ولو كان الصمت أفضل والسكوت أمثل لما عرف للآدميين فضل على غيرهم، ولا فرق بينهم وبين شيء من أنواع الحيوان وأخياف الخلق في أصناف جواهرها واختلاف طبائعها، وافتراق حالاتها وأجناس أبدانها في أعيانها وألوانها. بل لم يمكن أن يميز بينهم وبين الأصنام المنصوبة والأوثان المنحوتة، وكان كل قائم وقاعد، ومتحرك وساكن، ومنصوب وثابت، في شرع سواء ومنزلة واحدة، وقسمة مشاكلة؛ إذ كانوا في معنى الصمت بالجثة واحداً، وفي معنى الكلام بالمنطق متبايناً. ولذلك صارت الأشياء مختلفة في المعاني، مؤتلفة الأشكال، إذ كانت في أشكال خلقتها متفقة بتركيب جواهرها، وتأليف أجزائها، وكمال أبدانها، وفي معنى الكمال متباينة عند مفهوم نغماتها، ومنظوم ألفاظها، وبيان معالمها وعدل شواهدها.

مع أني لم أنكر فضيلة الصمت، ولم أهجن ذكره إلا أن فضله خاص دون عام، وفضل الكلام خاص وعام، وأن الاثنين إذا اشتمل عليهما فضل كان حظهما أكثر، ونصيبهما أوفر من الواحد. ولعله أن يكون بكلمة واحدة نجاة خلق، وخلاص أمة. ومن أكثر ما يذكر للساكت من الفضل، ويوصف له من المنقبة أن يقال يسكت ليتوقى به عن الإثم، وذلك فضل خاص دون عام. ومن أقل ما يحتكم عليه أن يقال غبي أو جاهل، فيكون في ذلك لازم ذنب على التوهم به، فيجتمع مع وقوع اسم الجاهل عليه ما ورط فيه صاحبه من الوزر. والذي ذكر من تفضيل الكلام ما ينطق به القرآن، وجاءت فيه الروايات عن الثقات، في الأحاديث المنقولات، والأقاصيص المرويات، والسمر والحكايات، وما تكلمت به الخطباء ونطقت فيه البلغاء أكثر من أن يبلغ آخرها، ويدرك أولها، ولكن قد ذكرت من ذلك على قدر الكفاية، ومن الله التوفيق والهداية. ولم نر الصمت - أسعدك الله - أحمد في موضع إلا وكان الكلام فيه أحمد، لتسارع الناس إلى تفضيل الكلام، لظهور علته، ووضوح جليته، ومغبة نفعه.

وقد ذكر الله جل وعز في قصة إبراهيم عليه السلام حين كسر الأصنام وجعلها جذاذاً، فقال حكاية عنهم: " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ". فكان كلامه سبباً لنجاته، وعلة لخلاصه، وكان كلامه عند ذلك أحمد من صمت غيره في مثل ذلك الموضع، لأنه عليه السلام لو سكت عند سؤالهم إياه لم يكن سكوته إلا على بصر وعلم، وإنما تكلم لأنه رأى الكلام أفضل، وأن من تكلم فأحسن قدر أن يسكت فيحسن، وليس من سكت فأحسن قدر أن يتكلم فيحسن. واعلم - حفظك الله - أن الكلام سبب لإيجاب الفضل، وهداية إلى معرفة أهل الطول. ولولا الكلام لم يكن يعرف الفاضل من المفضول، في معان كثيرة، لقول الله عز وجل، في بيان يوسف عليه السلام وكلامه عند عزيز مصر، لما كلمه فقال: " إنك اليوم لدينا مكين أمين ". فلو لم يكن يوسف عليه السلام أظهر فضله بالكلام، والإفصاح بالبيان، مع محاسنه المونقة، وأخلاقه الطاهرة، وطبائعه الشريفة، لما عرف العزيز فضله، ولا بلغ تلك المنزلة لديه، ولا حل ذلك المحل منه، ولا صار

عنده بموضع الأمانة، ولكان في عداد غيره ومنزلة سواه عند العزيز. ولكن الله جعل كلامه سبباً لرفع منزلته، وعلو مرتبته، وعلة لمعرفة فضيلته، ووسيلة لتفضيل العزيز إياه. ولم أر للصمت فضيلة في معنى ولا للسكوت منقبة في شيء إلا وفضيلة الكلام فيها أكثر، ونصيب المنطق عندها أوفر، واللفظ بها أشهر. وكفى بالكلام فضلاً، وبالمنطق منقبة، أن جعل الله الكلام سبيل تهليله وتحميده، والدال على معالم دينه وشرائع إيمانه، والدليل إلى رضوانه. ولم يرض من أحد من خلقه إيماناً إلا بالإقرار، وجعل مسلكه اللسان، ومجراه فيه البيان، وصيره المعبر عما يضمره والمبين عما يخبره، والمنبىء عن ما لا يستطيع بيانه إلا به. وهو ترجمان القلب. والقلب وعاء واع. ولم يحمد الصمت من أحد إلا توقياً لعجزه عن إدراك الحق والصواب في إصابة المعنى. وإنما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم المشركين عند جهلهم الله تعالى وإنكارهم إياه، ليقروا به، فإذا فعلوه حقنت دماؤهم، وحرمت أموالهم، ورعيت ذمتهم. ولو أنهم سكتوا ضناً بدينهم لم يكن سبيلهم إلا العطب.

فاعلم أن الكلام من أسباب الخير لا من أسباب الشر. والكلام - أبقاك الله - سبيل التمييز بين الناس والبهائم، وسبب المعرفة لفضل الآدميين على سائر الحيوان، قال الله عز وجل: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ". كرمهم باللسان وجملهم بالتدبر. ولو لم يكن الكلام لما استوجب أحد النعمة، ولا أقام على أداء ما وجب عليه من الشكر سبباً للزيادة، وعلة لامتحان قلوب العباد. والشكر بالإظهار في القول، والإبانة باللسان. ولا يعرف الشكر إلا بهما. والله تعالى يقول: " لئن شكرتم لأزيدنكم "، فجعل الشكر علة لوجوب الزيادة، عند إظهاره بالقول، والحمد مفتاحاً للنعمة. وقد جاء في بعض الآثار: لو أن رجلاً ذكر الله تعالى وآخر يسمع له كان المعدود للمستمع من الأجر، والمذكور له من الثواب واحداً وللمتكلم به عشرة أو أكثر. فهل ترى - أبقاك الله - أنه وجب لصاحب العشر ذلك وفضل

به على صاحبه إلا عند استعماله بالنطق به لسانه. ولم يلزم الصمت أحد إلا على حسب وقوع الجهل عليه. فأما إذا كان الرجل نبيها مميزاً، عالماً مفوها فالصمت مهجن لعلمه وساتر لفضله. كالقداحة لم يستبن نفعها دون تزنيدها. ولذلك قيل: " من جهل علماً عاداه ". فصل منها ولم أجد الصامت مستعاناً به في شيء من المعاني، ولا مذكوراً في المحافل. ولم يذكر الخطباء ولا قدمتهم الوفود عند الخلفاء إلا لما عرفوه من فضل لسانهم وفضيلة بيانهم. وإن أصح ما يوجد في المعقول، وأوضح ما يعد في المحصول للعرب من الفضل، فصاحتها وحسن منطقها، بعد فضائلها المذكورة، وأيامها المشهورة. ولفضل الفصاحة وحسن البيان بعث الله تعالى أفضل أنبيائه وأكرم رسله من العرب، وجعل لسانه عربياً، وأنزل عليه قرآنه عربياً، كما قال الله تعالى: " بلسان عربي مبين ". فلم يخص اللسان بالبيان، ولم يحمد بالبرهان إلا عند وجود الفضل في الكلام، وحسن العبارة عند المنطق، وحلاوة اللفظ عند السمع. واعلم أن الله تعالى لم يرسل رسولاً ولا بعث نبياً إلا من كان فضله

في كلامه وبيانه كفضله على المبعوث إليه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأحسنهم بياناً، وأسهلهم مخارج للكلام وأكثرهم فوائد من المعاني؛ لأنه كان من جماهير العرب، مولده في بني هاشم، وأخواله من بني زهرة، ورضاعه في بني سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد بن عبد العزى، ومهاجره إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر ". ولو لم يكن مما عددنا من هؤلاء الأحياء إلا قريش وحدها لكان فيها مستغنىً عن غيرها، وكفاية عن من سواها، لأن قريشاً أفصح العرب لساناً وأفضلها بياناً، وأحضرها جواباً، وأحسنها بديهة، وأجمعها عند الكلام قلبا. ثم للعرب أيضاً خصال كثيرة، ومشاهد كثيرة، مما يشاكل هذا الباب، ويضارع هذا المثال، حذفت ذكرها خوف التطويل فيها.

فصل منها فهذه كلها دلائل على دحض حجتك ونقض قضيتك. وإنما أرسل الله تعالى رسله مبشرين ومنذرين الأمم، وأمرهم بالإبلاغ ليلزمهم الحجة بالكلام لا بالصمت، إذ لا يكون للرسالة بلاغ ولا للحجة لزوم ولا للعلة ظهور إلا بالنطق. فصل منها في صفة من يقدر على الإبانة وليس يقوى على ذلك إلا امرؤ في طبيعته فضل عن احتمال نحيزته وفي قريحته زيادة من القوة على صناعته، ويكون حظه من الاقتدار في المنطق فوق قسطه من التغلب في الكلام، حتى لا يضع اللفظ الحر النبيل إلا على مثله من المعنى، ولا اللفظ الشريف الفخم إلا على مثله من المعنى. نعم، وحتى يعطي اللفظ حقه من البيان، ويوفر على الحديث قسطه من الصواب، ويجزل للكلام حظه من المعنى، ويضع جميعها مواضعها، ويصفها بصفتها، ويوفر عليها حقوقها من الإعراب والإفصاح.

فصل منها وبعد، فأي شيء أشهر منقبة وأرفع درجة وأكمل فضلاً، وأظهر نفعاً، وأعظم حرمة، من شيء لولا مكانه لم يثبت لله ربوبية ولا لنبي حجة، ولم يفصل بين حجة وشبهة، وبين الدليل وما يتجلى في صورة الدليل. ثم به يعرف فضل الجماعة من الفرقة، والشبهة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة. والكلام سبب لتعرف حقائق الأديان، والقياس في تثبيت الربوبية وتصديق الرسالة، والامتحان للتعديل والتجوير والاضطرار والاختيار.

فصل من صدر كتابه في صناعة الكلام

ذكرت - حفظك الله - تفضيلك صناعة الكلام، والذي خصصت به مذهب النظام، وشغفك بالمبالغة في النظر، وصبابتك بتهذيب النحل، مع أنسك بالجماعة، ووحشتك من الفرقة، والذي تم عليه عزمك من إدامة البحث والتنقير ومن حمل النفس على مكروهها من التفكير، ومن الانتساب إليهم والتعرف بهم. والذي تهيأ لك من الاحتساب في الأجر، والرغبة في صالح الذكر، والذي رأيت من النصب للرافضة والمارقة، وطول مفارقة المرجئة والنابتة، ولكل من اعترض عليهم، وانحرف عنهم، والذي يخص به الجبرية ويعم به المشبهة. فيأيها المتكلم الجماعي، والمتفقه السني، والنظار المعتزني، الذي سمت همته إلى صناعة الكلام مع إدبار الدنيا عنها، واحتمل ما في التعرض للعوام من الثواب عليها، ولم يقنعه من الأديان إلا الخالص الممتحن ولا من النحل إلا الإبريز المهذب، ولا من التمييز إلا المحض المصفى. والذي رغب بنفسه عن تقليد الأغمار والحشوة، كما

رغب عن ادعاء الإلهام والضرورة، ورغب عن ظلم القياس بقدر رغبته في شرف اليقين: إن صناعة الكلام علق نفيس، وجوهر ثمين، وهو الكنز الذي لا يفنى ولا يبلى، والصاحب الذي لا يمل ولا يغل، وهو العيار على كل صناعة، والزمام على كل عبارة، والقسطاس الذي به يستبان نقصان كل شيء ورجحانه، والراووق الذي به يعرف صفاء كل شيء وكدره، والذي كل أهل علم عليه عيال، وهو لكل تحصيل آلة ومثال. ألا إنه ثغر والثغر محروس، وحمىً والحمى ممنوع، والحرم مصون، ولن تصونه إلا بابتذال نفسك دونه، ولن تمنعه إلا بأن تجود بمهجتك ومجهودك، ولن تحرسه إلا بالمخاطرة فيه. والثواب على قدر المشقة، والتوفيق على مقدار حسن النية. وكيف لا يكون حرماً وبه عرفنا حرمة الشهر الحرام والحلال المنزل، والحرام المفصل؟ ! وكيف لا يكون ثغراً وكل الناس لأهله عدو، وكل الأمم له مطالب.

وأحق الشيء بالتعظيم، وأولاه بأن يحتمل فيه كل عظيم ما كان مسلماً إلى معرفة الصغير والكبير، والحقير والخطير، وأداة لإظهار الغامض، وآلة لتخليص الغاشية، وسبباً للإيجاز يوم الإيجاز والإطناب يوم الإطناب. وبه يستدل على صرف ما بين الشرين من النقصان، وعلى فضل ما بين الخيرين من الرجحان، والذي يصنع في العقول من العبارة وإعطاء الآلة مثل صنيع العقل في الروح، ومثل صنيع الروح في البدن. وأي شيء أعظم من شيء لولا مكانه لم يثبت للرب ربوبية، ولا لنبي حجة، ولم يفصل بين حجة وشبهة، وبين الدليل وما يتخيل في صورة الدليل. وبه يعرف الجماعة من الفرقة، والسنة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة. فصل منه واعلم أن لصناعة الكلام آفات كثيرة، وضروباً من المكروه عجيبة، منها ما هو ظاهر للعيون والعقول، ومنها ما يدرك بالعقول ولا يظهر للعيون، وبعضها وإن لم يظهر للعيون وكان مما يظهر للعقول فإنه لا يظهر إلا لكل عقل سليم جيد التركيب، وذهن صحيح خالص الجوهر، ثم لا يدركه أيضاً إلا بعد إدمان الفكر، وإلا بعد دراسة الكتب، وإلا

بعد مناظرة الشكل الباهر، والمعلم الصابر. فإن أراد المبالغة وبلوغ أقصى النهاية، فلا بد من شهوة قوية، ومن تفضيله على كل صناعة، مع اليقين بأنه متى اجتهد أنجح، ومتى أدمن قرع الباب ولج. فإذا أعطى العلم حقه من الرغبة فيه، أعطاه حقه من الثواب عليه. فصل منه ومن آفات صناعة الكلام أن يرى من أحسن بعضها أنه قد أحسنها كلها، وكل من خاصم فيها ظن أنه فوق من خاصمه حتى يرى المبتدىء أنه كالمنتهي ويخيل إلى الغبي أنه فوق الذكي. وأيضاً أنه يعرض عن أهله وينصب لأصحابه من لم ينظر في علم قط، ولم يخض في أدب منذ كان، ولم يدر ما التمثيل ولا التحصيل، ولا فرق ما بين الإهمال والتفكير. وهذه الآفات لا تعتري الحساب ولا الكتاب، ولا أصحاب النحو والعروض، ولا أصحاب الخبر وحمال السير، ولا حفاظ الآثار ولا رواة الأشعار، ولا أصحاب الفرائض، ولا الخطباء ولا الشعراء، ولا أصحاب الأحكام ومن يفتي في الحلال والحرام، ولا أصحاب التأويل،

ولا الأطباء ولا المنجمين ولا المهندسين، ولا لذي صناعة ولا لذي تجارة، ولا لذي عيلة ولا لذي مسألة. فهم لهذه البلية مخصوصون، وعليها مقصورون، فللصابر منهم من الأجر حسب ما خص به من الصبر. وهي الصناعة لا يكاد تظهر قوتها ولا يبلغ أقصاها إلا مع حضور الخصم. ولا يكاد الخصم يبلغ محبته منها إلا برفع الصوت وحركة اليد، ولا يكاد اجتماعهما يكون إلا في المحفل العظيم والاحتشاد من الخصوم، ولا تحتفل نفوسهما، ولا تجتمع قوتهما، ولا تجود القوة بمكنونها وتعطي أقصى ذخيرتها، التي استخزنت ليوم فقرها وحاجتها، إلا يوم جمع وساعة حفل. وهذه الحال داعية إلى حب الغلبة. وليس شيء أدعى إلى التغلب من حب الغلبة. وطول رفع الصوت مع التغلب، وإفساد التغلب طباع المفسد، يوجبان فساد النية، ويمنعان من درك الحقيقة. ومتى خرجا من حد الاعتدال أخطآ جهة القصد. وعلم الكلام بعد ملقىً من الظلم، متاح له الهضم. فهو أبداً محمول

عليه ومبخوس حظه وباب الظلم إليه مفتوح، لا مانع له دونه. والعلم بما فيه من الضرر يخفى على أكثر العقلاء، ويغمض على جمهور الأدباء. وإذا كان ملقىً من أكبر العقلاء، ومخذولاً عند أكثر الأدباء، فما ظنك بمن كان عقله ضعيفاً ونظره قصيراً؟ بل ما ظنك بالظلوم الغادر، والغمر الجاسر؟ فهذا سبيل العوام فيه، وجهل عوام الخواص به، وانحرافهم عنه، وميل الملوك عليه، وعداوة بعض لبعض فيه. وصناعة الكلام كثيرة الدخلاء والأدعياء، قليلة الخلص والأصفياء والنجابة فيها غريبة، والشروط التي تستحكم بها الصناعة بعيدة سحيقة؛ ولدعي القوم من العجز ما ليس لصحيحهم، ولردي الطبع في صناعة الكلام من ادعاء المعرفة ما ليس للمطبوع عليها منهم، بل لا تكاد تجده إلا مغموراً بالحشوة مقصوداً بمخاتل السفلة. ومن مظالم صناعة الكلام عند أصحاب الصناعات أن أصحاب الحساب والهندسة يزعمون أن سبيل الكلام سبيل اجتهاد الرأي، وسبيل صواب الحدس، وفي طريق التقريب والتمويه، وأنه ليس العلم إلا ما كان طبيعياً واضطرارياً لا تأويل له، ولا يحتمل معناه الوجوه المشتركة، ولا يتنازع ألفاظه الحدود المتشابهة. ويزعمون أنه ليس بين علمهم بالشيء الواحد أنه شيء واحد وأنه غير صاحبه فرق في معنى الإتقان والاستبانة، وثلج الصدور والحكم بغاية الثقة.

فصل منه فلو كان هذا المهندس الذي أبرم قضيته، وهذا الحاسب الذي قد شهر حكومته، نظر في الكلام بعقل صحيح وقريحة جيدة، وطبيعة مناسبة، وعناية تامة، وأعوان صدق وقلة شواغل، وشهوة للعلم، ويقين بالإصابة، لكان تهيب الحكم أزين به، والتوقي أولى به. فكيف بمن لا يكون عرف من صناعة الكلام ما يعرفه المقتصد فيه، والمتوسط له. على أنا ما وجدنا مهندساً قط ولا رأينا حاسباً يقول ذلك إلا وهو ممن لا يتوقى سرف القول، ولا يشفق من لائمة المحصلين، وقضيته قضية من قد عرف الحقائق، واستبان العواقب، ووزن الأمور كلها وعجم المعاني بأسرها، وعلم من أين وثق كل واثق، ومن أين غر كل مغرور. وعلى أنهم يقرون أن في الحساب ما لا يعلم، وأن في الهندسة ما لا يدرك ولا يفهم. والمتكلمون لا يقرون بذلك العجز في صناعتهم، وبذلك النقص في غرائزهم. فصل منه وأقول: إنه لو لم يكن في المتكلمين من الفضل إلا أنهم قد رأوا إدبار الدنيا عن علم الكلام، وإقبالها إلى الفتيا والأحكام، وإجماع

الرعية والراعي على إغناء المفتي، وعلم الفتوى فرع؛ وإطباقهم على حرمان المتكلم، وعلم الكلام أصل، فلم يتركوا مع ذلك تكلفه، وشحت نفوسهم عن ذلك الحظ، مخافة إدخال الضيم على علم الأصل، وإشفاقاً من أن لا تسع طبائعهم اجتماع الأصل والفرع، فكان الفقر والقلة آثر عندهم مع إحكام الأصول، من الغنى والكثرة، مع حفظ الفروع، فتركوا أن يكونوا قضاة، وتركوا القضاة وتعديلهم وتركوا أن يكونوا حكاماً وقنعوا بأن يحكم عليهم، مع معرفتهم بأن آلتهم أتم، وآدابهم أكمل، وألسنتهم أحد، ونظرهم أثقب، وحفظهم أحضر، وموضع حفظهم أحصن. والمتكلم اسم يشتمل على ما بين الأزرقي والغالي وعلى مادونها من الخارجي والرافضي، بل على جميع الشيعة وأصناف المعتزلة، بل على جميع المرجئة وأهل المذاهب الشاذة.

فصل من صدر رسالته في مدح التجار وذم عمل السلطان

أدام الله لك السلامة، وأسعدك بالنعمة، وختم لك بالسعادة، وجعلك من الفائزين. فهمت كتاب صاحبك، ووقفت منه على تعد في القول، وحيف في الحكم؛ وسمعت قوله. وهو على كل حال حائر، وطريقه طريقهم، وكتبه تشاكل كتبهم، وألفاظه تطابق ألفاظهم. وكذلك حالنا وحال صاحب كتابك فيما يسخطه من أمرنا، أني لا أعتذر منه، وأستنكف من الانتساب إليه، بل أستحي من الكتابة، وأستنكف بأن أنسب إليها من البلاغة أن أعرف بها في غير موضعها، ومن السجع أن يظهر مني، ومن الصنعة أن تعرف في كتبي، ومن العجب بكثير ما يكون مني. وقديماً كره ذلك أهل المروءة والأنفة، وأهل الاختيار للصواب والصد عن الخطأ. حتى إن معاوية مع تخلفه عن مراتب أهل السابقة، أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه: " لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من

كلاب الحرة " ثم قال: " امح: من كلاب الحرة، واكتب: من الكلاب ". كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة وما أشبه السجع، وأري أنه ليس في موضعه. فصل منه وهذا الكلام لا يزال ينجم من حشوة أتباع السلطان. فأما عليتهم ومصاصهم، وذوو البصائر والتمييز منهم، ومن فتقته الفطنة، وأرهفه التأديب، وأرهقه طول الفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجارب، فعرف العواقب وأحكم التفصيل وتبطن غوامض التحصيل، فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم، ويحكمون لهم بالسلامة في الدين، وطيب الطعمة، ويعلمون أنهم أودع الناس بدناً وأهنؤهم عيشاً، وآمنهم سرباً، لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم، يرغب إليهم أهل الحاجات، وينزع إليهم ملتمسو البياعات، لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم، ولا يستعبدهم الضرع لمعاملاتهم.

وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه، وقاربه بخدمته؛ فإن أولئك لباسهم الذلة، وشعارهم الملق، وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة، قد لبسها الرعب، وألفها الذل، وصحبها ترقب الاحتياج؛ فهم مع هذا في تكدير وتنغيص، خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب، وتغيير الدول، واعتراض حلول المحن. فإن هي حلت بهم، وكثيراً ما تحل، فناهيك بهم مرحومين يرق لهم الأعداء فضلاً عن الأولياء. فكيف لا يميز بين من هذا ثمرة اختياره وغاية تحصيله، وبين من قد نال الرفاهية والدعة، وسلم من البوائق، مع كثرة الإثراء وقضاء اللذات، من غير منة لأحد، ولا منة يعتد بها رئيس ومن هو من نعم المفضلين خلي، وبين من قد استرقه المعروف، واستعبده الطمع، ولزمه ثقل الصنيعة، وطوق عنقه الامتنان، واسترهن بتحمل الشكر. فصل منها وقد علم المسلمون أن خيرة الله تعالى من خلقه، وصفيه من عباده، والمؤتمن على وحيه، من أهل بيت التجارة، وهي معولهم وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم، وسيرة خلفهم. ولقد بلغتك بسالتهم، ووصفت لك جلادتهم، ونعتت لك

أحلامهم، وتقرر لك سخاؤهم وضيافتهم، وبذلهم ومواساتهم. وبالتجارة كانوا يعرفون. ولذلك قالت كاهنة اليمن " لله در الديار لقريش التجار ". وليس قولهم: قرشي لقولهم: هاشمي، وزهري وتيمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشاً فينتسبون إليه، ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش، فهو أفخم أسمائهم وأشرف أنسابهم، وهو الاسم الذي نوه الله تعالى به في كتابه، وخصهم به في محكم وحيه وتنزيله، فجعله قرآناً عربياً يتلى في المساجد، ويكتب في المصاحف، ويجهر به في الفرائض، وحظوة على الحبيب والخالص. ولهم سوق عكاظ، وفيهم يقول أبو ذؤيب: إذا ضربوا القباب على عكاظ ... وقام البيع واجتمع الألوف وقد غبر النبي صلى الله عليه وسلم برهة من دهره تاجراً، وشخص فيه مسافراً، وباع واشترى حاضراً، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولم يقسم الله مذهباً رضياً، ولا خلقاً زكياً ولا عملاً مرضياً إلا وحظه منه أوفر الحظوظ، وقسمه فيه أجزل الأقسام.

ولشهرة أمره في البيع والشراء قال المشركون: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق "، فأوحى الله إليه: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ". فأخبر أن الأنبياء قبله كانت لهم صناعات وتجارات. فصل منه وإن الذي دعا صاحبك إلى ذم التجارة توهمه بقلة تحصيله، أنها تنقص من العلم والأدب وتقتطع دونهما وتمنع منهما. فأي صنف من العلم لم يبلغ التجار فيه غاية، أو يأخذوا منه بنصيب، أو يكونوا رؤساء أهله وعليتهم؟ ! هل كان في التابعين أعلم من سعيد بن المسيب أو أنبل؟ وقد كان تاجراً يبيع ويشتري، وهو الذي يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي - رضوان الله عليهم - قضاءً إلا وقد علمته. وكان أعبر الناس للرؤيا وأعلمهم بأنساب قريش. وهو من كان يفتي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون. وله بعد علم بأخبار الجاهلية والإسلام، مع خشوعه وشدة اجتهاده وعبادته،

وأمره بالمعروف، وجلالته في أعين الخلفاء، وتقدمه على الجبارين. ومحمد بن سيرين في فقهه وورعه وطهارته. ومسلم بن يسار في علمه وعبادته، واشتغاله بطاعة ربه. وأيوب السختياني، ويونس بن عبيد، في فضلهما وورعهما.

فصل من صدر كتابه في الشارب والمشروب

سألت - أكرم الله وجهك، وأدام رشدك، ولطاعته توفيقك، حتى تبلغ من مصالح دينك ودنياك منازل ذوي الألباب، ودرجات أهل الثواب - أن أكتب لك صفات الشارب والمشروب وما فيهما من المدح والعيوب، وأن أميز لك بين الأنبذة والخمر، وأن أقفك على حد السكر، وأن أعرفك السبب الذي يرغب في شرب الأنبذة وما فيها من اجتلاب المنفعة، وما يكره من نبيذ الأوعية. وقلت: وما فرق ما بين الجر والسقاء، والمزفت والحنتم والدباء، وما القول في الممتل والمكسوب، وما فرق ما بين النقيع والداذي، وما المطبوخ والباذق، وما الغربي والمروق، وما الذي يحل من الطبيخ، وما القول في شرب الفضيخ، وهل يكره نبيذ العكر،

وما القول في عتيق السكر، وأنبذة الجرار، وما يعمل من السكر، ولم كره النقير والمقير. وسألت عن نبيذ العسل والعرطبات وعن رزين سوق الأهواز، وعن نبيذ أبي يوسف وجمهور، والمعلق والمسحوم. والحلو والترش شيرين ونبيذ الكشمش والتين، ولم كره الجلوس على البواطي والرياحين. وقلت: وما نصيب الشيطان، وما حاصل الإنسان؟ وسألت عمن شرب الأنبذة أو كرهها من الأوائل، وما جرى بينهم فيها من الأجوبة والمسائل، وما كانوا عليه فيها من الآراء، وتشبثوا فيها من الأهواء، ولأي سبب تضادت فيها الآثار، واختلفت فيها الأخبار.

وسألت أن أقصد في ذلك إلى الإيجاز والاختصار، وحذف الإكثار وقلت: وإذ جعل الله تعالى للعباد عن الخمر المندوحة بالأشربة الهنية الممدوحة، فما تقول فيما حسن من الأنبذة صفاه، وبعد مداه، واشتدت قواه، وعتق حتى جاد، وعاد بعد قدم الكون صافي اللون، هل يحل إليه الاجتماع، وفيه الاكتراع، إذ كان يهضم الطعام ويوطىء المنام. وهو في لطائف الجسم سار، وفي خفيات العروق جار، ولا يضر معه برغوث ولا بعوض ولا جرجس عضوض. وقلت: وكيف يحل لك ترك شربه إذا كان لك موافقاً، ولجسمك ملائماً. ولم لا قلت إن تارك شربه كتارك العلاج من أدوأ الأدواء وإنه كالمعين على نفسه إذا ترك شربه أفحش الداء. وأنت تعلم أنك إذا شربته عدلت به طبيعتك، وأصلحت به صفار جسمك، وأظهرت به حمرة لونك، فاستبدلت به من السقم صحة، ومن حلول العجز قوة، ومن الكسل نشاطاً، وإلى اللذة انبساطاً، ومن الغم فرجاً، ومن الجمود تحركاً، ومن الوحشة أنساً. وهو في الخلوة خير مسامر، وعند الحاجة خير ناصر. يترك الضعيف وهو مثل أسد العرين يلان له ولا يلين.

وقلت: الجيد من الأنبذة يصفي الذهن ويقوي الركن، ويشد القلب والظهر، ويمنع الضيم والقهر، ويشحذ المعدة، ويهيج للطعام الشهوة، ويقطع عن إكثار الماء، الذي منه جل الأدواء، ويحدر رطوبة الرأس، ويهيج العطاس، ويشد البضعة، ويزيد في النطفة، وينفي القرقرة والرياح، ويبعث الجود والسماح، ويمنع الطحال من العظم، والمعدة من التخم، ويحدر المرة والبلغم، ويلطف دم العروق ويجريه، ويرقه ويصفيه، ويبسط الآمال، وينعم البال، ويغشي الغلظ في الرئة، ويصفي البشرة ويترك اللون كالعصفر، ويحدر أذى الرأس في المنخر، ويموه الوجه ويسخن الكلية، ويلذ النوم ويحلل التخم، ويذهب بالإعياء، ويغذو لطيف الغذاء، ويطيب الأنفاس، ويطرد الوسواس، ويطرب النفس، ويؤنس من الوحشة، ويسكن الروعة، ويذهب الحشمة، ويقذف فضول الصلب بالإنشاط للجماع، وفضول المعدة بالهراع، ويشجع المرتاع ويزهي الذليل، ويكثر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسلي الحزن ويجمع الذهن، وينفي الهم، ويطرد الغم، ويكشف عن قناع الحزم، ويولد في الحليم الحلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويحث على الصبر، ويصحح من الفكر، ويرجي القانط، ويرضي الساخط، ويغني عن الجليس، ويقوم مقام الأنيس

وحتى إن عز لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، وينقي الصدر من الخصومة، ويزيد في المساغ، وسخونة الدماغ، وينشط الباه حتى لا يزيف شيئاً يراه، وتقبله جميع الطبائع، ويمتزج به صنوف البدائع، من اللذة والسرور، والنضرة والحبور. وحتى سمي شربه قصفاً، وسمي فقده خسفاً. وإن شرب منه الصرف بغير مزاج، تحلل بغير علاج. ويكفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسموم، ويفتح الذهن، ويمنع الغبن، ويلقن الجواب، ولا يكيد منه العتاب، به تمام اللذات، وكمال المروءات. ليس لشيء كحلاوته في النفوس، وكسطوته في الجباه والروس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يحمر الألوان، ويرطب الأبدان، ويخلع عن الطرب الأرسان. وقلت: ومع كل ذلك فهو يلجلج اللسان، ويكثر الهذيان، ويظهر الفضول والأخلاط، ويناوب الكسل بعد النشاط. فأما إذا تبين في الرأس الميلان، واختلف عند المشي الرجلان، وأكثر الإخفاق، والتنخع

والبصاق، واشتملت عليه الغفلة، وجاءت الزلة بعد الزلة ولا سواء إن دسع بطعامه، أو سال على الصدر لعابه، وصار في حد المخرفين، لا يفهم ولا يبين، فتلك دلالات النكر، وظهور علامات السكر، ينسي الذكر، ويورث الفكر، ويهتك الستر، ويسقط من الجدار، ويهور في الآبار، ويغرق في الأنهار، ويصرف عن المعروف، ويعرض للحتوف، ويحمل على الهفوة، ويؤكد الغفلة، ويورث الصياح أو الصمات، ويصرع الفهم للسبات فلغير معنىً يضحك، ولغير سبب يمحك، ويحيد عن الإنصاف، وينقلب على الساكت الكاف. ثم يظهر السرائر، ويطلع على ما في الضمائر، من مكنون الأحقاد، وخفي الاعتقاد. وقد يقل على السكر المتاع، ويطول منه الأرق والصداع، ثم يورث بالغدوات الخمار، ويختل سائر، النهار ويمنع من إقامة الصلوات، وفهم الأوقات، ويعقب السل، ويعقب في القلوب الغل، ويجفف النطفة، ويورث الرعشة، ويولد الصفار، وضروب العلل في الإبصار، ويعقب

الهزال، ويجحف بالمال ويجفف الطبيعة ويقوي الفاسد من المرة ويذيل النفس، ويفسد مزاج الحس، ويحدث الفتور في القلب، ويبطىء عند الجماع الصب، حتى يحدث من أجله الفتق، الذي ليس له رتق، ويحمل على المظالم، وركوب المآثم، وتضييع الحقوق حتى يقتل من غير علم، ويكفر من غير فهم. فصل منه وقلت: ومن الحلو في المعد التخم، وفي الأبدان الوخم، وللترش شيرين رياح كمثل رياح العدس، وحموضة تولد في الأسنان الضرس. والسكر فحسبك بفرط مرارته، وكسوف لونه، وبشاعة مذاقه، ولفار الطبيعة عنه. وأنواع ما يعالج من التمور والحبوب فشربها الداء العضال. وللمسجور، والبتي، وأشباهها كدورة ترسب في المعدة، وتولد بين الجلدتين الحكة. وأشباه هذا كثيرة تركت ذكرها، لأني لم أقصدك بالمسألة أبتغي منك تحليل ما يجلب المضرة.

ولكن ما تقول فيما يسرك ولا يسوءك، وما إذا شربته تلقته العروق فاتحة أفواهها كأفواه الفراخ، محسنة للون ملذة للنفس، يجثم على المعدة، ويرود في العروق، ويقصد إلى القلب فيولد فيه اللذة، وفي المعدة الهضم، وهو غسولها ونضوحها، ويسرع إلى طاعة الكبد، ويفيض بالعجل إلى الطحال، وينتفخ منه العروق، وتظهر حمرته بين الجلدتين، ويزيد في اللون، ويولد الشجاعة والسخاء، ويريح من اكتنان الضغن، ويعفي على تغير النكهة، وينفي الذفر، ويسرع إلى الجبهة، ويغني عن الصلاء، ويمنع القر؟ ! وما تقول في نبيذ الزبيب الحمصي. والعسل الماذي إذا تورد لونه، وتقادم كونه، ورأيت حمرته في صفرته تلوح. تراه في الكأس لكأنه بالشمس ملتحف، شعاعه يضحك بالأكف؟ وما تقول في عصير الكرم إذا أجدت طبخه وأنعمت إنضاجه، وأحسن الدن نتاجه، فإذا فض فض عن غضارة قد صار في لون

البجادي في صفاء ياقوتة تلمع في الأكف لمع الدنانير، ويضيء كالشهاب المتقد. وما تقول في نبيذ عسل مصر، فإنه يؤدي إلى شاربه الصحيح من طعم الزعفران، لا يلبس الخلقان ولا يجود إلا في جدد الدنان، ولا يستخدم الأنجاس ولا يألف الأرجاس. وكذلك لا يزكو على علاج الجنب والحائض، ولا ينفض على شيء من الأجسام لونه حتى لو غمس فيه قطن لخرج أبيض يققاً. وحسبك به في رقة الهواء، يكدره صافي الماء، وهو مع ذلك كالهزبر ذي الأشبال، المفترس للأقران، من عاقره عقره، ومن صارعه صرعه؟ ! وما تقول في رزين الأهواز من زبيب الداقياد إذ يعود صلباً من غير أن يسل سلافه، أو يماط عنه ثفله، حتى يعود كلون

العقيق، في رائحة المسك العتيق. أصلب الأنبذة عريكة، وأصلبها صلابة، وأشدها خشونة. ثم لا يستعين بعسل ولا سكر ولا دوشاب. وما ظنك به وهو زبيب نقيع، لا يشتد ولا يجود إلا بالضرب الوجيع؟ ! وما تقول في الدوشاب البستاني، سلالة الرطب الجني بالحب الرتيلي، إذا أوجع ضرباً، وأطيل حبسا، وأعطى صفوه ومنح رفده، وبذل ما عنده، فإذا كشف عنه قناع الطين ظهر في لون الشقر والكمت وسطع برائحة كالمسك. وإذا هجم على المعدة لانت له الطبائع، وسلست له الأمعاء، وأيس الحصر، وانقطع طمع القولنج، وانقادت له

اليبوسة، وأذعنت له بالطاعة، وابتل به الجلد القحل، وارتحل عنه الباسور، وكفى شاربه الوخز. فإذا شج بماء تلظى ورمى بشرره، هل يحل أن يشعشع إذا سكن جأشه، وآب إليه حلمه. وما تقول في المعتق من أنبذة التمر، فإنك تنظر إليه وكأن النيران تلمع من جوفه. قد ركد ركود الزلال حتى لكأن شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فرند في وجه سيف. وله صفيحة مرآة مجلوة تحكي الوجوه في الزجاجة، حتى يهم فيها الجلاس؟ ! وما تقول في نبيذ الجزر، الذي منه تمتد النطفة وتشتد النقطة، يجلب الأحلام، ويركد في مخ العظام؟ ! وما تقول في نبيذ الكشمش الذي لونه لون زمردة خضراء، صافية، محكم الصلابة، مفرط الحرارة، حديد السورة، سريع الإفاقة

عظيم المؤنة، قصير العمر، كثير العلل، جم البدوات تطمع الآفات فيه، وتسرع إليه؟ ! وما تقول في نبيذ التين فإنك تعلم أنه مع حرارته لين العريكة، سلس الطبيعة، عذب المذاق، سريع الإطلاق، مرهم للعروق، نضوح للكبد فتاح للسدد، غسال للأمعاء، هياج للباه، أخاذ للثمن، جلاب للمؤن، مع كسوف لون وقبح منظر؟ ! وما تقول في نبيذ السكر الذي ليس مقدار المنفعة به على قدر المؤونة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنىً معقول؟ ! وما تقول في المروق والغربي والفضيخ؟ ألذ مشروبات في أزمانها وأنفع مأخوذات في إبانها. أقل شيء مؤونة، وأحسنه معونة، وأكثر شيء قنوعاً، وأسرعه بلوغاً، ضموزات عروفات للرجل ألوفات. ولها أراييح على الشاهسفرم كأذكى رائحة تشم، أقل المشروبات صداعاً، وأشدهن خداعا.

فصل منه وكرهت أيضاً تقليد المختلف من الآثار فأكون كحاطب ليل، دون التأمل والاعتبار بأن ظلام الشك لا يجلوه إلا مفتاح اليقين. فصل منه قد فهمت - أسعدك الله تعالى بطاعته - جميع ما ذكرت من أنواع الأنبذة، وبديع صفاتها، والفصل بين جيدها ورديها، ونافعها وضارها، وما سألت من الوقوف على حدودها. ولا زلت من عداد من يسأل ويبحث، ولا زلنا في عداد من يشرح ويفصح. اعلم - أكرمك الله - أنك لو بحثت عن أحوال من يؤثر شرب الخمور على الأنبذة، لم تجد إلا جاهلاً مخذولا، أو حدثاً مغروراً، أو خليعاً ماجناً، أو رعاعاً همجاً؛ ومن إذا غدا بهيمة، وإذا راح نعامة؛ ليس عنده من المعرفة أكثر من انتحال القول بالجماعة؛ قد مزج له الصحيح بالمحال، فهو مدين بتقليد الرجال، يشعشع الراح، ويحرم المباح، فمتى عذله عاذل ووعظه واعظ قال: الأشربة كلها خمر، فلا أشرب إلا أجودها.

وقد أحببت - أيدك الله - التوثق من إصغاء فهمك، وسؤت ظناً بالتغرير فقدمت لك من التوطئة ما يسهل لك سبيل المعرفة. وذلك إلى مثلك من مثلي حزم سيما فيما خفيت معالمه ودرست مناهجه، وكثرت شبهه، واشتد غموضه. ولو لم يكن ذلك وكان قد اعتاص على البرهان في إظهاره، واحتجت في الإبانة عنه إلى ذكر ضده، ونظيره وشكله، لم أحتشم من الاستعانة بكل ذلك. فكيف والقدرة - بحمد الله - وافرة، والحجة واضحة. قد يكون الشيء من جنس الحرام فيعالج بضرب من العلاج حتى يتغير بلون يحدث له، ورائحة وطعم ونحو ذلك، فيتغير لذلك اسمه، ويصير حلالاً بعد أن كان حراماً. فصل منه في تحليل النبيذ دون الخمر فإن قال لنا قائل: ما تدرون، لعل الأنبذة قد دخلت في ذكر تحريم الخمر، ولكن لما كان الابتداء أجري في ذكر تحريم الخمر، خرج التحريم عليها وحدها في ظاهر المخاطبة، ودخل سائر الأشربة في التحريم بالقصد والإرادة. قلنا: قد علمنا أن ذلك على خلاف ما ذكر السائل، لأسباب موجودة، وعلل معروفة.

منها: أن الصحابة الذين شهدوا نزول الفرائض، والتابعين من بعدهم، لم يختلفوا في قاذف المحصنين أن عليه الحد، واختلفوا في الأشربة التي تسكر، ليس لجهلهم أسماء الخمور ومعانيها، ولكن للأخبار المروية في تحريم المسكر، والواردة في تحليلها. ولو كانت الأشربة كلها عند أهل اللغة في القديم خمراً لما احتاجوا إلى أهل الروايات في الخمر، أي الأجناس من الأشربة هي؟ كما لم يخرجوا إلى طلب معرفة العبيد من الإماء. وهذا باب يطول شرحه إن استقصيت جميع ما فيه من المسألة والجواب. وما ينكر من خالفنا في تحليل الأنبذة مع إقراره أن الأشربة المسكرة الكثيرة لم تزل معروفة بأسمائها وأعيانها، وأجناسها وبلدانها، وأن الله تعالى قصد للخمر من بين جميعها فحرمها، وترك سائر الأشربة طلقاً مع أجناس سائر المباح. والدليل على تجويز ذلك أن الله تعالى ما حرم على الناس شيئاً من الأشياء في القديم والحديث إلا أطلق لهم من جنسه، وأباح من سنخه ونظيره وشبهه، ما يعمل مثل عمله أو قريباً منه، ليغنيهم بالحلال عن الحرام. أعني ما حرم بالسمع دون المحرم بالعقل. قد حرم من الدم المسفوح، وأباح غير المسفوح، كجامد دم الطحال والكبد وما أشبههما

وحرم الميتة وأباح الذكية. وأباح أيضاً ميتة البحر وغير البحر، كالجراد وشبهه، وحرم الربا وأباح البيع، وحرم بيع ما ليس عندك وأباح السلم، وحرم الضيم وأباح الصلح، وحرم السفاح وأباح النكاح. وحرم الخنزير وأباح الجدي الرضيع، والخروف والحوار. والحلال في كل ذلك أعظم موقعاً من الحرام. فصل منه ولعل قائلاً يقول: وأهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وسكان حرمه ودار هجرته، أبصر بالحلال والحرام، والمسكر والخمر، وما أباح الرسول وما حظره، وكيف لا يكون كذلك والدين ومعالمه من عندهم خرج إلى الناس؛ والوحي عليهم نزل، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم دفن. وهم المهاجرون السابقون، والأنصار المؤثرون على أنفسهم. وكلهم مجمع على تحريم الأنبذة المسكرة، وأنها كالخمر. وخلفهم على منهاج سلفهم إلى هذه الغاية، حتى إنهم جلدوا على الريح الخفي. وكيف لا يفعلون ذلك ويدينون به وقد شهدوا من شهد النبي صلى الله عليه وسلم قد حرمها وذمها، وأمر بجلد شاربها. ثم كذلك فعل أئمة الهدى من بعده. فهم إلى يوم الناس على رأي واحد، وأمر متفق، ينهون عن شربها، ويجلدون عليها.

وإنا نقول في ذلك: إن عظم حق البلدة لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وإنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، والسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المصيبة. وبعد، فمن هذا المهاجري أو الأنصاري، الذي رووا عنه تحريم الأنبذة ثم لم يرووا عنه التحليل؟ بل لو أنصف القائل لعلم أن الذين من أهل المدينة حرموا الأنبذة ليسوا بأفضل من الذين أحلوا النكاح في أدبار النساء، كما استحل قوم من أهل مكة عارية الفروج، وحرم بعضهم ذبائح الزنوج، لأنهم فيما زعموا مشوهو الخلق. ثم حكموا بالشاهد واليمين خلافاً لظاهر التنزيل. وأهل المدينة وإن كانوا جلدوا على الريح الخفي فقد جلدوا على حمل الزق الفارغ؛ لأنهم زعموا أنه آلة الخمر، حتى قال بعض من ينكر عليهم: فهلا جلدوا أنفسهم؟ لأنه ليس منهم إلا ومعه آلة الزنى! وكان يجب على هذا المثال أن يحكم بمثل ذلك على حامل السيف والسكين والسم القاتل، في نظائر ذلك؛ لأن هذه كلها آلات القتل. وبعد، فأهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبع الملائكة. ولو كان كل ما يقولونه حقاً وصواباً لجلدوا من كان في دار معبد،

والغريض، وابن سريج، ودحمان وابن محرز وعلويه وابن جامع، ومخارق، وشريك، ووكيع، وحماد،

وإبراهيم وجماعة التابعين، والسلف والمتقدمين؛ لأن هؤلاء فيما زعموا كانوا يشربون الأنبذة التي هي عندهم خمر؛ وأولئك كانوا يعالجون الأغاني التي هي حل طلق، على نقر العيدان والطنابير، والنايات والصنج والزنج، والمعازف التي ليست محرمة ولا منهياً عن شيء منها. ولو كان ما خالفونا فيه من تحليل الأنبذة وتحريمها، كالاختلاف في الأغاني وصفاتها وأوزانها، واختلاف مخارجها، ووجوه مصارفها ومجاريها، وما يدمج ويوصل منها، وما للحنجرة والحنك والنفس واللهوات وتحت اللسان من نغمها. وأي الدساتين أطرب، وأي أصوب، وما يحفز بالهمز أو يحرك بالضم؛ وكالقول بأن الهزج بالبنصر أطيب، أو بالوسطى؟ والسريع على الزير ألذ، أو على المثنى؟ والمصعد في لين أطرب أم المحدر في الشدة؟ لسهل ذلك ولسلمنا علمه لمن يدعيه، ولم نجاذب من يدعي دوننا معرفته.

فصل منه ولهج أصحاب الحديث بحكم لم أسمع بمثله في تزييف الرجال، وتصحيح الأخبار. وإنما أكثروا في ذلك، لتعلم حيدهم عن التفتيش، وميلهم عن التنقير، وانحرافهم عن الإنصاف. فصل منه والذي دعاني إلى وضع جميع هذه الأشربة والوقوف على أجناسها وبلدانها، مخافة أن يقع هذا الكتاب عند بعض من عساه لا يعرف جميعها، ولم يسمع بذكرها، فيتوهم أني في ذكر أجناسها المستشنعة وأنواعها المبتدعة، كالهاذي برقية العقرب، وإن كان قصدي لذكرها في صدر الكتاب لأقف على حلالها وحرامها، وكيف اختلفت الأمة فيها، وما سبب اعتراض الشك واستكمان الشبهة؛ ولأن أحتج للمباح وأعطيه حقه، وأكشف أيضاً عن المحظور فأقسم له قسطه، فأكون قد سلكت بالحرام سبيله، وبالحلال منهجه، اقتداءً مني بقول الله عز وجل: " يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ". وقد كتبت لك - أكرمك الله - في هذا الكتاب ما فيه الجزاية

والكفاية، ولو بسطت القول لوجدته متسعاً، ولأتاك منه الدهم. وربما كان الإقلال في إيجاز أجدى من إكثار يخاف عليه الملل. فخلطت لك جداً بهزل، وقرنت لك حجة بملحة، ليخف مؤونة الكتاب على القارىء، وليزيد ذلك في نشاط المستمع، فجعلت الهزل بعد الجد جماماً، والملحة بعد الحجة مستراحاً.

فصل من صدر كتابه في الجوابات في الإمامة

يحكي فيه قول من يجيز أكثر من إمام واحد زعم قوم أن الإمامة لا تجب لرجل واحد بعينه، من رهط واحد بعينه، ولا لواحد من عرض الناس، وإن كان أكثرهم فضلاً، وأعظمهم عن المسلمين غناء، بعد أن يكون فرداً في الإمامة لا ثاني له. وأن الناس إن تركوا أن يقيموا إماماً واحداً جاز لهم ذلك، ولم يكونوا بتركه ضالين ولا عاصين ولا كافرين؛ فإن أقاموه كان ذلك رأياً رأوه، وغير مضيق عليهم تركه. ولهم أن يقيموا اثنين، وجائز لهم أن يقيموا أكثر من ذلك، ولا بأس أن يكونوا عجما وموالي، ولكن لابد من حاكم، واحداً كان أو أكثر على حال. ولا يجوز أن يكون الرجل حاكماً على نفسه وقائماً عليها بالحدود. ولم يقل أحد ألبتة أن من الحكم والحاكم بداً، ولكنهم اختلفوا في جهاتهم ومعانيهم. وقالوا: وأي ذلك كان، إقامة الواحد والاثنين أو أكثر من ذلك،

فعلى الناس الكف عن محارمهم، وترك التباغي فيما بينهم، والتخاذل عند الحادثة تنوبهم، من عدو يدهمهم من غيرهم، أو خارب يخيف سبلهم من أهل دعوتهم. وعليهم فيما شجر بينهم إعطاء النصفة من أنفسهم بالغاً ما بلغ، في عسر الأمر ويسره. وعلى كل رجل في داره وبيته وقبيلته، وناحيته ومصره، إذا كان مأموناً ذا صلاح وعلم، إذا ثبتت عنده على أخيه وصاحبه وجاره، وحاشيته من خدمه، حد أو حكم جناه جان عليهم أو على نفسه أو ظلم ركبه من غيره، إقامة ذلك الحكم والحد عليه، إذا أمكنه مستحقه؛ إلا أن يكون فوقه كاف قد أجزى عنه. وعلى المجترح للذنب الموجب على نفسه الحد، والمستحق له، إمضاء الحكم في بدنه وماله، والإمكان من نفسه، وأن لا يعاز بقوة، ولا يروغ بحيلة، ولا يسخط حكم التنزيل فيما نزل به، وفيما هو بسبيله من مال أو غيره. وإنما يجب ذلك إذا كان على الفريقين من القيم، والجاني يمكنه ما كلفه الله من ذلك. فإن أبى القيم إقامة الحق والحد على الجاني بعد استيجابه، والإمكان من نفسه لإقامة الحد عليه، فقد عصى

الله تعالى ولم يؤت في ذلك الأمر نفسه، لأن الله تعالى قد بينه له، وأوجبه عليه، وقرره حين أوضح له الحجة وقرب الدلالة، وطوقه المعرفة، ومكنه من الفعل. وقد بسطنا العذر لذوي العجز في صدر الكلام. وإن أبى الجاني المستحق للحكم والحد، الإمكان من نفسه وماله، وما هو بسبيله، فقد عصى الله في ذلك، كما عصاه في ركوبه ما أوجب عليه الحد، ولم يؤت من ربه لما ذكرنا من إيضاح الحجة وإثبات القدرة. فصل منه وقد علمنا أن من شأن الناس الهرب إذا خافوا نزول المكروه، والامتناع من إمضاء الحدود بعد وجوبها عليهم، ما وجدوا السبيل إلى ذلك. وهذا سبب إسقاط الأحكام والتفاسد. وقد أمرنا أن نترك أسباب الفساد ما استطعنا، وبالنظر للرعية ما أمكننا، فوجب علينا عند الذي قلنا، أنا لو لم نقم إماماً واحداً كان الناس على ما وصفنا من التسرع إلى الشيء إذا طمعوا، والهرب إذا خافوا. وهذا أمر قد جرت به عامة المعرفة، وفتحت عندنا فيه التجربة. قلنا عند ذلك إن الإمامة لا تجب على الناس من طريق الظنون وإشفاق النفوس.

وقد رأينا أعظم منه خطراً، وقدراً ونفعاً، في كل جهة على خلاف ذلك، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إلى أمة وقد علم أنهم يزدادون مع كفرهم المتقدم من قبل ذلك الرسول كفراً، بجحدهم له، وإخراجهم إياه، وقصدهم قتله، ثم لا يكون ذلك مانعاً له من الإرسال إليهم والاحتجاج به عليهم، لمكان علمه أنهم يزدادون فساداً وتباغياً؛ إذ كان قدم لهم ما به ينالون مصالح دينهم ودنياهم. وإنما على الحكيم أن يأتي الأمر الحكيم، عرف ذلك عارف أم جهله جاهل. وعلى الجواد ذي الرحمة في جوده ورحمته، أن يفعل ما هو أفضل في الجود، وأبلغ في الإحسان، وألطف في الإنعام من إيضاح الحجة وتسهيل الطرق، والإبلاغ في الموعظة، مع ضمان الوعد بالغاية من الثواب والدوام واللذة، والتوعد بغاية العقاب في الدوام والمكروه إلى عباده الذين كلفهم طاعته، وأهل الفاقة إلى عائدته ونظره وإحسانه. فإن قبل ذلك قابل فقد أصاب حظه، وإن أبى ذلك فنفسه ظلم، وقد صنع الله به ما هو أصلح وإن لم يستطع العبد نفسه.

قالوا: فإذا كان الله تبارك وتعالى عالماً بأن القوم يزدادون فساداً عند إرسال الرسل، وكان غير صارف لهم عن الإرسال إليهم، إذ كان قد عدل خلقهم، ومكنهم من مصلحتهم، فما بال الظن والحسبان بأن الناس يتفاسدون ويتنازعون، إذا لم يقيموا إماماً واحداً يوجب فرضاً لم ينطق به كتاب ولم يؤكده خبر. وقد رأينا العلم بأن الناس يتفاسدون بما لا يرد به فرض. فصل منه وقالوا: قد رأينا أهل الصلاح والقدر، عند انتشار أمر السلطان، وغلبة السفلة والدعار، وهيج العوام، يقوم منهم العدد اليسير في الناحية والقبيلة، والدرب والمحلة فيفل لهم حد المستطيل، ويقمع شذاذ الدعار، حتى يسرح الضعيف ويأمن الخائف، وينتشر التاجر، ويكبر جانبهم الداعر. وإنما صلاح الناس بقدر تعاونهم وتخاذلهم. مع أن الناس لو تركهم المتسلطون عليهم، وألجئوا إلى أنفسهم حتى يتحقق عندهم أن لا كافي إلا بطشهم وحيلهم، وحتى تكون الحاجة إلى الذب

والحراسة، والعلم بالمكيدة، هي التي تحملهم على منع أنفسهم؛ ولذهبت عادة الكفاية، وضعف الاتكال، ولتعودوا اليقظة، ولدربوا بالحراسة، واستثاروا دفين الرأي؛ لأن الحاجة تفتق الحيلة وتبعث على الروية، وكان بالحرى أن يصلح أمر الجميع؛ لأن طمع الراعي إذا عاد بأساً صرفه في البغي. وكان في ذلك منبهة للنائم ومشحذة لليقظان، وضراوة للمواكل، ومزجرة للبغاة، حتى ينبت عليه الصغير، ويتفحل معه الكبير. فصل منه وزعم قوم أن الإمامة لا تجب إلا بأحد وجوه ثلاثة: إما عقل يدل على سببها، أو خبر لا يكذب مثله، أو أنه لا يحتمل شيئاً من التأويل إلا وجهاً واحداً. قالوا: فوجدنا الأخبار مختلفة، والمختلف منها متدافع، وليس في المتدافع والمتكافىء بيان ولا فضل. فمن ذلك قول الأنصار، وهم شطر الناس وأكثرهم، مع أمانتهم على دين الله تعالى، وعلمهم بالكتاب والسنة، حيث قالت عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: " منا أمير ومنكم أمير ".

فلو كان قد سبق من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أمر ما كان أحد أعلم به منهم، ولا أخلق للإقرار والعمل بما يلزم، والصبر عليه منهم، بعد الذي ظهر من احتمالهم في جنب الله تعالى، والجهاد في سبيله، والنصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم مع الإيواء والإيثار، بعد المواساة، ومحاربة القريب والبعيد، والعرب قاطبة وقريش خاصة. ثم الذي نطق القرآن به من تزكيتهم وتفضيلهم، بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وثقته بهم وثنائه عليهم، وهو يقول: " أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع "، في أمور كثيرة. ثم لم يكن قولهم: " منا أمير ومنكم أمير " من سفيه من سفهائهم ضوى إليه أمثاله منهم، فإن لكل قوم حسدة وجهالا، وأحداثاً وسرعانا، من حدث تبعثه الغرارة والأشر، ورجل يحب الجاه والفتنة، أو مغفل مخدوع، أو غر ذي حمية يؤثر حسبه ونسبه على دين الله تعالى وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ولا كان ذلك القول، إن كان من عليتهم، في الواحد الشاذ القليل، بل كان في ذوي أحلامهم والقدم منهم. ثم كان المرشح والمأمول عندهم سعد بن عبادة، سيداً مطاعاً، ذا سابقة وفضل، وحلم ونجدة، وجاه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغاثة به في الحوادث والمهم من أمره. ثم كان في الدهم من الأنصار، والوجوه والجمهور من الأوس والخزرج. فكيف يكون سبق من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أمر يقطع عذراً ويوجب رضاً، وهؤلاء الأمناء على الدين، والقوام عليه، قد قاموا هذا المقام، وقالوا هذا المقال. قالوا: فإن قال قائل: فإن القوم كانوا على طبقات، من ذاكر متعمد، وناس قد كان سقط عن ذكره وحفظه، ومن رجل كان غائباً عن ذلك القول والتأكيد الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم وآله، في إقامة إمام يقدم في أيام وفاته وشكاته، ومن رجل قدم في الإسلام لم يكن من حمال العلم، فأذكرهم أبو بكر وعمر فذكروا، ووعظاهم فاتعظوا. فقد كان فيهم الناشىء الفاضل الذي يزجره الذكر، وينزع إذا بصر؛ والمعتمد الذي لم يبلغ من لجاجه وتتايعه، وركوب

ردعه ما يؤثر معه التصميم على حسن الرجوع عند الموعظة الحسنة، والتخويف بفساد العاجل، في كثير ممن لم يكن له في الإسلام القدر النبيه، إما للغفلة، وإما للإبطاء عنه، وإما للخمول في قومه مع إسلامه وصحة عقده. فداواهم أبو بكر وعمر يوم السقيفة حين قالا: " نحن الأئمة وأنتم الوزراء ". وحيث رووا لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأئمة من قريش ". فلما استرجعوا رجعوا. قلنا: الدليل على أن القوم لم يروا في كلام أبي بكر وعمر حجة عليهم، وأن انصرافهم عما اجتمعوا له لم يكن لأنهم رأوا أن ذلك القول من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح حجة، غضب رئيسهم وخروجه من بين أظهرهم مراغماً، في رجال من رهطه، مع تركه بيعة أبي بكر رضوان الله عليه، وتشنيعه عليهم بالشام. وقد قال قيس بن سعد بن عبادة، وهو يذكر خذلان الأنصار لسعد بن عبادة: واستبداد الرهط من قريش عليهم، بالأمر: وخبرتمونا أنما الأمر فيكم ... خلاف رسول الله يوم التشاجر وأن وزارات الخلافة دونكم ... كما جاءكم ذو العرش دون العشائر فهلا وزيراً واحداً تجتبونه ... بغير وداد منكم وأواصر

سقى الله سعداً يوم ذاك ولا سقى ... عراجلة هابت صدور المنابر وقال رجل من الأنصار، ودعاه علي رضوان الله عليه إلى عونه ونصرته، إما يوم الجمل، أو يوم صفين: ما لي أقاتل عن قوم إذا قدروا ... عدنا عدواً وكنا قبل أنصارا ويل لها أمة لو أن قائدها ... يتلو الكتاب ويخشى النار والعارا أما قريش فلم نسمع بمثلهم ... غدراً وأعجب في الإسلام آثارا إلا تكن عصبة خالوا نبيهم ... بالعرف عرفاً وبالإنكار إنكارا أبا عمارة والثاوي ببلقعة ... في يوم مؤتة لا ينفك طيارا أبا عمارة: حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه، وقد كان يكنى أبا يعلى، والثاوي في يوم مؤتة: جعفر بن أبي طالب. وقال رجل من الأنصار من ولد أبي زيد القارىء، وذكر أمر الأنصار وأمر قريش:

دعاها إلى استبدادها وحقودها ... تذكر قتلى في القليب تكبكبوا هنالك قتلى لا تؤدى دياتهم ... وليس لباكيها سوى الصبر مذهب فإن تغضب الأبناء من قبل من مضى ... فوالله ما جئنا قبيحاً فتعتبوا فصل منه قد حكينا قول من خالفنا في وجوب الإمامة وتعظيم الخلافة، وفسرنا وجوه اختلافهم، واستقصينا جميع حججهم، إذ كان على عذر لما غاب عنه خصمه، وقد تكفل بالإخبار عنه في ترك الحيطة له، والقيام بحجته. كما أنه لا عذر له في التقصير عن إفناد من يخالفه، وكشف خطاء من يضاده عند ما قرأ كتابه، وتفهم حجته. لأن أقل ما يزيل عذره، ويزيح علته، أن يكون قول خصمه قد استهدف لعقله، وأصحر للسانه، وقد مكنه من نفسه، وسلطه

على إظهار عورته. فإذا استراح شغب المنازع، ومداراة المستمع لم يبق إلا أن يقوى على خلافه أو يعجز عنه. ومن شكر المعرفة بمغاوي الناس ومراشدهم، ومضارهم ومنافعهم: أن يحتمل ثقل مؤنتهم وتعريفهم، وأن يتوخى إرشادهم، وإن جهلوا فضل من يسدي إليهم. ولن يصان العلم بمثل بذله، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره. وأعلم أن قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم، إذ كان مع التلاقي يقوى التصنع، ويكثر التظالم، وتفرط النصرة، وتنبعث الحمية. وعند المزاحمة تشتد الغلبة وشهوة المباهاة، والاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع. وعن جميع ذلك تحدث الضغائن، ويظهر التباين، وإذا كانت القلوب على هذه الصفة، وبهذه الحالة، امتنعت من المعرفة وعميت عن الدلالة. وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية، وإصابة الحجة؛ لأن المتوحد بقراءتها، والمتفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله ولا يعاز خصمه. والكتاب قد يفضل ويرجح على واضعه بأمور:

منها: أن الكتاب يقرأ بكل مكان وفي كل زمان، على تفاوت الأعصار، وبعد ما بين الأمصار. وذلك أمر يستحيل في الواضع ولا يطمع فيه من المنازع. وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويفنى ويبقى أثره. ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلقت من عجيب حكمها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا في الحكمة، وانقطع سبيلنا إلى المعرفة. ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا، بما أدركته حواسنا، وشاهدته نفوسنا، لقد قلت المعرفة وقصرت الهمة وضعفت المنة، فاعتقم الرأي ومات الخاطر، وتبلد العقل، واستبد بنا سوء العادة. وأكثر من كتبهم نفعاً، وأحسن مما تكلفوا موقعاً، كتب الله تعالى، التي فيها الهدى والرحمة، والإخبار عن كل عبرة، وتعريف كل سيئة وحسنة.

فينبغي أن يكون سبيلنا فيمن بعدنا سبيل من قبلنا فينا. مع أنا قد وجدنا في العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا. فما ينتظر الفقيه بفقهه والمحتج لدينه، والذاب عن مذهبه، ومواسي الناس في معرفته، وقد أمكن القول وأطرق السامع، ونجا من التقية، وهبت ريح العلماء. فصل منه واعلم أن قصد العبد بنعم الله تعالى إلى مخالفته، غير مخرج إنعام الله تعالى عليه، ولا يحول إحسانه إليه إلى غير معناه وحقيقته، ولم يكن إحسان الله في إعطائه الأداة وتبيين الحجة لينقلبا إفساداً وإساءة؛ لأن المعان على الطاعة عصى بالمعونة، وأفسد بالإنعام، وأساء بالإحسان. وفرق بين المنعم والمنعم عليه؛ لأن المنعم عليه يجب أن يكون شكوراً، ولحق النعمة راعياً، والمنعم منفرد بحسن الإنعام، وشريك في جميل الشكر. ولأن المنعم أيضاً هو الذي حبب الشكر إلى فاعله، بالذي قدم إليه من إحسانه، وتولى من يساره، ولذلك جعلوا النعمة لقاحاً، والشكر ولاداً. وإنما مثل إعطاء الآلة والتكليف لفعل

الخير مثل رجل تصدق على فقير ليستر عورته، ويقيم من أود صلبه، وليصرف في منافعه، ولا يكون إنفاق الفقير ذلك الشيء في الفساد والخلاف والفواحش، لينقلب إحسان المتصدق إساءة. وإنما هذا بصواب الرأي الذي لا ينقلب صواباً وإن أنجح صاحبه. وقد يؤتى الرجل من حزمه ولا يكون مذموماً، ويحظى بالإضاعة ولا يكون محموداً. فصل منه ولم يكن الله تعالى ليضع العدل ميزاناً بين خلقه، وعياراً على عباده، في نظر عقولهم في ظاهر ما فرض عليهم، وييسر خلافه، ويستخفي بضده، ويعلم أن قضاءه فيهم غير الذي فطرهم على استحسانه، وتحبب إليهم به، في ظاهر دينه، والذي استجوب به على الشكر على جميع خلقه. فصل منه وإن لم يكن العبد على ما وصفنا من الاستطاعة والقدرة، والحال التي هي أدعى إلى المصلحة، ما كان متروكاً على طباعه ودواعي شهواته، دون تعديل طبعه وتسوية تركيبه. ولذلك أسباب نحن ذاكروها، وجاعلوها حجة في إقامة الإمامة،

وأن عليها مدار المصلحة، وأن طبع البشر يمتنع من الإخبار إلا على ما نحن ذاكروه، فنقول: إنا لما رأينا طبائع الناس وشهواتهم، من شأنها التقلب إلى هلكتهم وفساد دينهم، وذهاب دنياهم، وإن كانت العامة أسرع إلى ذلك من الخاصة، فكل لا تنفك طبائعهم من حملهم على ما يرديهم، ما لم يردوا بالقمع الشديد في العاجل، من القصاص العادل، ثم التنكيل في العقوبة على شر الجناية، وإسقاط القدر، وإزالة العدالة، مع الأسماء القبيحة، والألقاب الهجينة، ثم بالإخافة الشديدة والحبس الطويل، والتغريب عن الوطن، ثم الوعيد بنار الأبد، مع فوت الجنة. وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادة، ولتعديل الطبائع معونة؛ لأن العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على قوى عقله ورأيه، ألفي بصيراً بالرشد غير قادر عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله، وأوامر رأيه. فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضل على زواجر العقل وأوامره ألفي العبد ممتنعاً من الغي قادراً عليه؛ لأن الغضب والحسد والبخل والجبن، والغيرة، وحب الشهوات والنساء، والمكاثرة،

والعجب والخيلاء وأنواع هذه إذا قويت دواعيها لأهلها، واشتدت جواذبها لصاحبها، ثم لم يعلم أن فوقه ناقماً عليه، وأن له منتقماً لنفسه من نفسه، أو مقتضياً منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطبيعة ودواعي الشهوة طباعاً لا يمتنع منه، وواجباً لا يستطيع غيره. أو ما رأيته كيف يخرق في ماله، ويسرع فيما أثلت له رجاله، وشيدت له أوائله، من غير أن يرى للعوض وجهاً، وللخلف سبباً في عاجل دينه، ولا آجل دنياه، حتى يكون والي المسلمين هو الذي يحجر عليه؛ ليكون مضض الحجر وذل الخطر، وغلظة الجفوة. واللقب القبيح، وتسليط الأشكال، مادة للذي معه من معرفته وبقية عقله. فصل منه وقد يكون الرجل معروفاً بالنزق مذكوراً بالطيش مستهاماً بإظهار الصولة حتى يتحامى كلامه الصديق، ويداريه الجليس، ويترك مجاراته الكريم، للذي يعرفون من شذاته، وبوادر حدته وشدة تسعره والتهابه، وكثرة فلتاته. ثم لا يلبث أن يحضر الوالي الصليب والرجل المنيع، فيلفى ذليلاً خاضعاً، أو حليماً وقوراً، أو أديباً رفيقاً، أو صبوراً محتسباً.

وقد نجده يجهل على خصمه، ويستطيل على منازعه، ويهم بتناوله والغدر به، فإذا عرف له حماة تكفيه، وجهالاً تحميه، وجاهاً يمنعه، ومالاً يصول به، طامن له من شخصه، وألان له من جانبه، وسكن من حركته، وأطفأ نار غضبه. أو ما علمت أن الخوف يطرد السكر، ويميت الشهوة، ويطفىء الغضب، ويحط الكبر، ويذكر بالعاقبة، ويساعد العقل، ويعاون الرأي، وينبت الحيلة ويبعث على الروية؛ حتى يعتدل به تركيب من كان مغلوباً على عقله، ممنوعاً من رأيه، بسكر الشباب وسكر الغناء وإهمال الأمر، وثقة العز، وبأو القدرة. فصل منه وإنما أطنبت لك في تفسير هذه الأحوال التي عليها الوجود والعبرة، لتعلم أن الناس لو تركوا وشهواتهم، وخلوا وأهواءهم وليس معهم من عقولهم إلا حصة الغريزة ونصيب التركيب، ثم أخلوا من المرشدين والمؤدبين، والمعترضين بين النفوس وأهوائها، وبين الطبائع وغلبتها، من الأنبياء وخلفائها، لم يكن في قوى عقولهم ما يداوون به أدواءهم، ويجبرون به من أهوائهم، ويقوون به لمحاربة طبائعهم، ويعرفون به جميع مصالحهم.

وأي داء هو أردى من طبيعة تردي، وشهوة تطغي؟ ! ومن كان لا يعد الداء إلا ما كان مؤلماً في وقته، ضارباً على صاحبه في سواد ليله وبياض نهاره، فقد جهل معنى الداء. وجاهل الداء جاهل بالدواء. فصل منه ولكنا نقول: لا يجوز أن يلي أمر المسلمين على ظاهر الرأي والحزم والحيطة أكثر من واحد، لأن الحكام والسادة إذا تقاربت أقدارهم وتساوت عنايتهم قويت دواعيهم إلى طلب الاستعلاء، واشتدت منافستهم في الغلبة. وهكذا جرب الناس من أنفسهم في جيرانهم الأدنين في الأصهار وبني الأعمام، والمتقاربين في الصناعات، كالكلام، والنجوم، والطب والفتيا، والشعر، والنحو والعروض، والتجارة، والصباغة، والفلاحة أنهم إذا تدانوا في الأقدار، وتقاربوا في الطبقات، قويت دواعيهم إلى طلب الغلبة، واشتدت جوانبهم في حب المباينة، والاستيلاء على الرياسة. ومتى كانت الدواعي أقوى كانت النفس إلى الفساد أميل، والعزم أضعف، وموضع الروية أشغل، والشيطان فيهم أطمع؛ وكان الخوف عليهم أشد، وكانوا بموافقة المفسد أحرى، وإليه أقرب. وإذا كان ذلك كذلك فأصلح الأمور للحكام والقادة، إذا كانت النفوس ودواعيها ومجرى أفعالها على ما وصفنا، أن ترفع عنهم أسباب التحاسد والتغالب، والمباهاة والمنافسة.

وإن ذلك أدعى إلى صلاح ذات البين، وأمن البيضة، وحفظ الأطراف. وإذا كان الله تبارك وتعالى، قد كلف الناس النظر لأنفسهم، واستيفاء النعمة عليهم، وترك الخطار بالهلكة والتغرير بالأمة، وليس عليهم مما يمكنهم أكثر من الحيطة والتباعد من التغرير. ولا حال أدعى إلى ذلك أكثر مما وصفنا، لأنه أشبه الوجوه بتمام المصلحة، والتمتع بالأمن والنعمة. فصل منه فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه إذا كان القائم بأمور المسلمين بائن الأمر، متفرداً بالغاية من الفضل، كانت دواعي الناس إلى مسابقته ومجاراته أقل. ولم يكن الله ليطبع الدنيا وأهلها على هذه الطبيعة، ويركبها وأهلها هذا التركيب، حتى تكون إقامة الواحد من الناس أصلح لهم، إلا وذلك الواحد موجود عند إرادتهم له، وقصدهم إليه؛ لأن الله لا يلزم الناس في ظاهر الرأي والحيطة إقامة المعدوم، وتشييد المجهول؛ لأن على الناس التسليم، وعلى الله تعالى قصد السبيل.

وهل رأيتم ملكين أو سيدين في جاهلية أو إسلام، من العرب جميعاً أو من العجم، لا يتحيف أحدهما من سلطان صاحبه ولا ينهك أطرافه، ولا يساجله الحروب؛ إذ كل واحد منهما يطمع في حد صاحبه وطرفه، لتقارب الحال، واستواء القري. كما جاءت الأخبار عن ملوك الطوائف كيف كانت الحروب راكدة وأمرهم مريج، والناس نهب، ليس ثغر إلا معطل، ولا طرف إلا منكشف، والناس فيما بينهم مشغولون بأنفسهم، ملوكهم من عز بز، مع إنفاق المال، وشغل البال، وشدة الخطار بالجميع، والتغرير بالكل. فصل منه وإن قالوا: فما صفة أفضلهم؟ قلنا: أن يكون أقوى طبائعه عقله، ثم يصل قوة عقله بشدة الفحص وكثرة السماع، ثم يصل شدة فحصه وكثرة سماعه بحسن العادة. فإذا جمع إلى قوة عقله علماً، وإلى علمه حزماً، وإلى حزمه عزماً، فذلك الذي لا بعده. وقد يكون الرجل دونه في أمور وهو يستحق مرتبة الإمامة، ومنزلة الخلافة، غير أنه على حال لا بد من أن يكون أفضل أهل دهره. لأن من التعظيم لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقام فيه إلا أشبه

الناس به في كل عصر. ومن الاستهانة به أن يقام فيه من لا يشبهه وليس في طريقته. وإنما يشبه الإمام الرسول بأن يكون لا أحد آخذ بسيرته منه. فأما أن يقاربه أو يدانيه فهذا ما لا يجوز، ولا يسع تمنيه، والدعاء به. فصل منه وإذا كان قول المهاجرين والأنصار والذين جرى بينهم التنافس والمشاحة على ما وصفنا في يوم السقيفة، ثم صنيع أبي بكر وقوله لطلحة في عمر؛ وصنيع عمر في وضع الشورى وتوعدهم له بالقتل إن هم لم يقيموا رجلاً قبل انقضاء المدة، ونجوم الفتنة؛ ثم صنيع عثمان وقوله وصبره حتى قتل دونهما ولم يخلعها؛ وأقوال طلحة والزبير وعائشة وعلي رحمة الله عليهم وعليها، ليست بحجة على ما قلنا فليست في الأرض دلالة ولا حجة قاطعة. وفي هذا الباب الذي وصفنا، ونزلنا من حالاتهم وبينا، دليل على أنهم كانوا يرون أن إقامة الإمام فريضة واجبة، وأن الشركة عنها منفية، وأن الإمامة تجمع صلاح الدين وإيثار خير الآخرة والأولى.

فصل منه وأي مذهب هو أشنع، وأي قول هو أفحش، من قول من قال: لا بد للشاهد من أن يكون طاهراً عدلا مأموناً، ولا بأس أن يكون القاضي جائراً، نطفاً فاجراً، وهذا لا يشبه حكم الحكيم، وصفة الحليم، ونظر المرشد، وترتيب العالم.

فصل من صدر كتابه في مقالة الزيدية والرافضة

اعلم - يرحمنا الله وإياك - أن شيعة علي رضي الله عنه زيدي ورافضي، وبقيتهم بدد لا نظام لهم، وفي الإخبار عنهما غناء عمن سواهما. قالت علماء الزيدية: وجدنا الفضل في الفعل دون غيره، ووجدنا الفعل كله في أربعة أقسام: أولها: القدم في الإسلام حين لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه. ثم الزهد في الدنيا؛ فإن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة، وآمنهم على نفائس الأموال، وعقائل النساء، وإراقة الدماء. ثم الفقه الذي به يعرف الناس مصالح دنياهم، ومراشد دينهم. ثم المشي بالسيف كفاحاً في الذب عن الإسلام وتأسيس الدين؛ وقتل عدوه وإحياء وليه؛ فليس فوق بذل المهجة واستغراق القوة غاية يطلبها طالب، أو يرتجيها راغب. ولم نجد قولاً خامساً فنذكره.

فلما رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم، وتقديمه دونهم. وذاك أنا سألنا العلماء والفقهاء، وأصحاب الأخبار، وحمال الآثار، عن أول الناس إسلاماً، فقال فريق منهم: علي، وقال قوم: زيد بن حارثة، وقال قوم: خباب. ولم نجد قول كل واحد منهم من هذه الفرق قاطعاً لعذر صاحبه، ولا ناقلاً عن مذهبه، وإن كانت الرواية في تقديم علي أشهر، واللفظ به أكثر. وكذلك إذا سألناهم عن الذابين عن الإسلام بمهجهم. والماشين إلى الأقران بسيوفهم، وجدناهم مختلفين: فمن قائل يقول: علي رضي الله عنه، ومن قائل يقول: الزبير، ومن قائل يقول: ابن عفراء، ومن قائل يقول: محمد بن مسلمة، ومن قائل يقول: طلحة، ومن قائل يقول: البراء بن مالك. على أن لعلي من قتل الأقران والفرسان ما ليس لهم، فلا أقل من أن يكون علي في طبقتهم. وإن سألناهم عن الفقهاء والعلماء، رأيناهم يعدون علياً كان أفقههم، وعمر، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب.

على أن علياً كان أفقههم؛ لأن كان يسأل ولا يسأل، ويفتي ولا يستفتي، ويحتاج إليه ولا يحتاج إليهم. ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم. وإن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف، والمعروفين برفض الدنيا وخلعها، والزهد فيها، قالوا: علي، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبو ذر، وعمار، وبلال، وعثمان بن مظعون. على أن علياً أزهدهم؛ لأنه شاركهم في خشونة الملبس وخشونة المأكل، والرضا باليسير، والتبلغ بالحقير، وظلف النفس، ومخالفة الشهوات. وفارقهم بأن ملك بيوت الأموال ورقاب العرب والعجم، فكان ينضح بيت المال في كل جمعة ويصلي فيه ركعتين. ورقع سراويله بالقد، وقطع ما فضل من ردنه عن أطراف أصابعه بالشفرة. في أمور كثيرة. مع أن زهده أفضل من زهدهم؛ لأنه أعلم منهم. وعبادة العالم ليست كعبادة غيره، كما أن زلته ليست كزلة غيره. فلا أقل من أن نعده في طبقتهم. ولا نجدهم ذكروا لأبي الدرداء، وأبي ذر، وبلال، مثل الذي ذكروا له في باب الغناء والذب، وبذل النفس. ولم نجدهم ذكروا للزبير، وابن عفراء وأبي دجانة، والبراء بن مالك، مثل الذي ذكروا له

من التقدم في الإسلام، والزهد، والفقه. ولم نجدهم ذكروا لأبي بكر وزيد، وخباب، مثل الذي ذكروا له من بذل النفس والغناء، والذب بالسيف، ولا ذكروهم في طبقة الفقهاء والزهاد. فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه، متفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب وهذه الطبقات، علمنا أنه أفضلهم، وإن كان كل رجل منهم قد أخذ من كل خير بنصيب فإنه لن يبلغ ذلك مبلغ من قد اجتمع له جميع الخير وصنوفه. فصل منه وضرب آخر من الناس همج هامج، ورعاع منتشر، لا نظام لهم، ولا اختبار عندهم، أعراب أجلاف، وأشباه الأعراب. يفترقون حيث يفترقون، ويجتمعون حيث يجتمعون؛ لا تدفع صولتهم إذا هاجوا، ولا يؤمن هيجانهم إذا سكنوا. إن أخصبوا طغوا في البلاد، وإن أجدبوا آثروا العناد. ثم هم موكلون ببغض القادة، وأهل الثراء والنعمة، يتمنون النكبة، ويشتمون بالعثرة، ويسرون بالجولة، ويترقبون الدائرة. وهم كما وصفوا الطغام والسفلة.

وقال علي رضي الله عنه في دعائه: " نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا لم يملكوا، وإذا افترقوا لم يعرفوا ". فهؤلاء هؤلاء. وضرب آخر قد فقهوا في الدين، وعرفوا سبب الإمامة، وأقنعهم الحق وانقادوا له بطاعة الربوبية وطاعة المحبة، وعرفوا المحنة وعرفوا المعدن، ولكنهم قليل في كثير، ومختار كل زمان. وإن كثروا فهم أقل عدداً وإن كانوا أكثر فقهاً. فلما كان الناس عند علي وأبي بكر وعمر، وأبي عبيدة، وأهل السابقة المهاجرين والأنصار، على الطبقات التي نزلنا، والمنازل التي رتبنا، وبالمدينة منافقون يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وفيها بطانة لا يألونهم خبالاً، لا يخفى عليهم موضع الشدة وانتهاز الفرصة، وهم في ذلك على بقية، ووافق ذلك ارتداد من حول المدينة من العرب، وتوعدهم بذلك في شكاة النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به الخبر. ثم الذي كان من اجتماع الأنصار حيث انحازوا من المهاجرين وصاروا أحزاباً وقالوا: " منا أمير ومنكم أمير "، فأشفق علي أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس، مخافة أن يتكلم متكلم أو يشغب شاغب ممن وصفنا حاله، وبينا طريقته، فيحدث بينهم فرقة، والقلوب على

ما وصفنا، والمنافقون على ما ذكرنا، وأهل الردة على ما أخبرنا، ومذهب الأنصار على ما حكينا. فدعاه النظر للدين إلى الكف عن الإظهار والتجافي عن الأمور، وعلم أن فضل ما بينه وبين أبي بكر في صلاحهم لو كانوا أقاموه، لا يعادل التغرير بالدين، ولا يفي بالخطار بالأنفس؛ لأن في الهيج البائقة، وفي فساد الدين فساد العاجلة والآجلة. فاغتفر الخمول ضناً بالدين، وآثر الآجلة على العاجلة، فدل ذلك على رجاجة حلمه، وقلة حرصه، وسعة صدره، وشدة زهده، وفرط سماحته وأصالة رأيه. ومتى سخت نفس امرىء عن هذا الخطب الجليل، والأمر الجزيل، نزل من الله تعالى بغاية منازل الدين. وإنما كانت غايتهم في أمرهم أربح الحالين لهم، وأعون على المقصود إذ علم أن هلكتهم لا تقوم بإزاء صرف ما بين حاله وحال أبي بكر في مصلحتهم.

فصل منه وإنما ذكرت لك مذهب من لا يجعل القرابة والحسب سبباً إلى الإمامة، دون من يجعل القرابة سبباً من أسبابها وعللها، لأني قد حكيته في كتاب الرافضة، وكان ثم أوقع، وبهم أليق؛ وكرهت المعاد من الكلام والتكرار؛ لأن ذلك يغني عن ذكره في هذا الكتاب، وهو مسلك واحد، وسبيل واحد. وإنما قصدت إلى هذا المذهب دون مذهب سائر الزيدية في دلائلهم وحججهم، لأنه أحسن شيء رأيته لهم. وإنما أحكي لك من كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم، لأن فيه دلالة على غيره، وغنىً عما سواه. وقالوا: وقد يكون الرجل أفضل الناس ويلي عليه من هو دونه في الفضل، حتى يكلفه الله طاعته وتقديمه؛ إما للمصلحة، وإما للإشفاق من الفتنة، كما ذكرنا وفسرنا، وإما للتغليظ في المحنة وتشديد البلوى والكلفة، كما قال تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ". والملائكة أفضل من آدم، فقد كلفهم الله أغلظ المحن وأشد البلوى، إذ ليس في الخضوع أشد من السجود على الساجد له. والملائكة أفضل من آدم، لأن جبريل وميكائيل وإسرافيل عند الله تعالى من المقربين قبل خلق آدم بدهر طويل، لما قدمت من العبادة، واحتملت من ثقل الطاعة.

وكما ملك الله طالوت على بني إسرائيل وفيهم يومئذ داود النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نبيهم الذي أخبر عنه في القرآن: " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ". ثم صنيع النبي صلى الله عليه وسلم حين ولى زيد بن حارثة على جعفر الطيار يوم مؤتة، وولى أسامة على كبراء المهاجرين وفيهم أبو بكر وعمر، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وسعد بن أبي وقاص، ورجال ذوو أخطار وأقدار، من البدريين والمهاجرين، والسابقين الأولين. فصل منه ولو ترك الناس وقوى عقولهم وجماح طبائعهم، وغلبة شهواتهم، وكثرة جهلهم، وشدة نزاعهم إلى ما يرديهم ويطغيهم، حتى يكونوا هم الذين يحتجزون من كل ما أفسدهم بقدر قواهم، وحتى يقفوا على حد الضار والنافع، ويعرفوا فصل ما بين الداء والدواء، والأغذية والسموم، كان قد كلفهم شططا، وأسلمهم إلى عدوهم، وشغلهم عن

طاعته التي هي أجدى الأمور عليهم وأنفعها لهم، ومن أجلها عدل التركيب وسوى البنية، وأخرجهم من حد الطفولة والجهل إلى البلوغ والاعتدال والصحة، وتمام الأداة والآلة. ولذلك قال عز ذكره: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ". ولو أن الناس تركهم الله تعالى والتجربة، وخلاهم وسبر الأمور وامتحان السموم، واختبار الأغذية، وهم على ما ذكرنا من ضعف الحيلة وقلة المعرفة وغلبة الشهوة، وتسلط الطبيعة، مع كثرة الحاجة، والجهل بالعاقبة، لأثرت عليهم السموم، ولأفناهم الخطأ ولأجهز عليهم، الخبط، ولتولدت الأدواء وترادفت الأسقام، حتى تصير منايا قاتلة، وحتوفاً متلفة، إذ لم يكن عندهم إلا أخذها، والجهل بحدودها ومنتهى ما يجوز منها والزيادة فيها، وقلة الاحتراس من توليدها. فلما كان ذلك كذلك علمنا أن الله تعالى حيث خلق العالم وسكانه لم يخلقهم إلا لصلاحهم، ولا يجوز صلاحهم إلا بتبقيتهم

ولولا الأمر والنهي ما كان للتبقية وتعديل الفطرة معنىً. ولما أن كان لا بد للعباد من أن يكونوا مأمورين منهيين، بين عدو عاص ومطيع ولي، علمنا أن الناس لا يستطيعون مدافعة طبائعهم، ومخالفة أهوائهم، إلا بالزجر الشديد، والتوعد بالعقاب الأليم في الآجل، بعد التنكيل في العاجل، إذ كان لا بد من أن يكونوا منهيين بالتنكيل معجلاً، والجزاء الأكبر مؤجلا، وكان شأنهم إيثار الأدنى وتسويف الأقصى. وإذا كانت عقول الناس لا تبلغ جميع مصالحهم في دنياهم فهم عن مصالح دينهم أعجز، إذ كان علم الدين مستنبطاً من علم الدنيا. وإذا كان العلم مباشرة أو سبباً للمباشرة وعلم الدنيا غامض، فلا يتخلص إلى معرفته إلا بالطبيعة الفائقة، والعناية الشديدة، مع تلقين الأئمة. ولأن الناس لو كانوا يبلغون بأنفسهم غاية مصالحهم في دينهم ودنياهم كان إرسال الرسل قليل النفع، يسير الفضل. وإذا كان الناس مع منفعتهم بالعاجل وحبهم للبقاء، ورغبتهم في النماء، وحاجتهم إلى الكفاية، ومعرفتهم بما فيها من السلامة لا يبلغون لأنفسهم معرفة ذلك وإصلاحه، وعلم ذلك جليل ظاهر سببه

بعضه ببعض، كدرك الحواس وما لاقته، فهم عن التعديل والتجوير وتفصيل التأويل، والكلام في مجيء الأخبار وأصول الأديان، أعجز، وأجدر ألا يبلغوا منه الغاية، ولا يدركوا منه الحاجة؛ لأن علم الدنيا أمران: إما شيء يلي الحواس، وإما شيء يلي علم الحواس، وليس كذلك الدين. فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه لا بد للناس من إمام يعرفهم جميع مصالحهم. ووجدنا الأئمة ثلاثة: رسول، ونبي، وإمام. فالرسول نبي إمام، والنبي نبي إمام، والإمام ليس برسول ولا نبي. وإنما اختلفت أسماؤهم ومراتبهم لاختلاف النواميس والطبائع، وعلى قدر ارتفاع بعضهم عن درجة بعض، في العزم والتركيب، وتغير الزمان بتغير الفرض وتبدل الشريعة. فأفضل الناس الرسول، ثم النبي، ثم الإمام. فالرسول هو الذي يشرع الشريعة ويبتدىء الملة، ويقيم الناس على جمل مراشدهم، إذ كانت طبائعهم لا تحتمل في ابتداء الأمر

أكثر من الجمل. ولولا أن في طاقة الناس قبول التلقين وفهم الإرشاد، لكانوا هملاً، ولتركوا نشراً جشراً، ولسقط عنهم الأمر والنهي. ولكنهم قد يفضلون بين الأمور إذا أوردت عليهم، وكفوا مئونة التجربة، وعلاج الاستنباط. ولن يبلغوا بذلك القدر قدر المستغني بنفسه، المستبد برأيه، المكتفي بفطنته عن إرشاد الرسل، وتلقين الأئمة. وإنما جاز أن يكون الرسول مرة عربياً ومرة عجمياً، وليس له بيت يخطره ولا شرف يشهر موضعه؛ لأنه حين كان مبتدىء الملة ومخرج الشريعة، كان ذلك أشهر من شرف الحسب المذكور، وأنبه من البيت المقدم. ولأنه يحتاج من الأعلام والآيات والأعاجيب، إلى القاهر المعقول والواضح الذي لا يخيل أن يشتهر مثله في الآفاق، ويستفيض في الأطراف حتى يصدع عقل الغبي، ويفتق طبع العاقل، وينقض عزم المعاند، وينتبه من أطال الرقدة وتخضع الرقاب وتضرع الخدود حتى يتواضع له كل شرف، ويبخع

له كل أنف، فلا يحتاج حاله معه إلى حال، ولا مع قدره إلى حسب. وعلى قدر جهل الأمة وغباء عقولها، وسوء رعتها، وخبث عادتها، وغلظ محنتها، وشدة حيرتها، تكون الآيات، كفلق البحر، والمشي على الماء، وإحياء الموتى، وقصر الشمس عن مجراها. لأن النبي الذي ليس برسول ولا مبتدىء ملة، ولا منشىء شريعة، إنما هو للتأكيد والبشارة، كبشارة النبي بالرسول الكائن على غابر الأيام، وطول الدهر. وتوكيد المبشر يحتاج من الأعلام إلى دون ما يحتاج إليه المبتدىء لأصل الملة، والمظهر لفرض الشريعة، الناقل للناس عن الضلال القديم، والعادة السيئة، والجهل الراسخ. فلذلك التقى بشهرة أعلامه، وشرف آياته، وذكر شرائعه، من شهرة بيته وشرف حسبه، لأنه لا ذكر إلا وهو خامل عند ذكره، ولا شرف إلا وهو وضيع عند شرفه. * * *

§1/1