الرزق أبوابه ومفاتحه

عبد الملك بن قاسم

مقدمة

مقدمة الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة, فهدانا للإسلام, وأتم علينا هذا الدين, وأرسل علينا السماء, وأخرج لنا من كنوز الأرض, فله الحمد والشكر, وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله أجمعين وبعد: فإن الله عز وجل قسم الأرزاق بعلمه, فأعطى من شاء بحكمته, ومنع من شاء بعدله, وجعل بعض الناس لبعض سخرياً, قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. ولأن أمر المال عظيم, والسؤال عنه شديد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه, وعن عمله ماذا عمل فيه؟ " أقدم الجزء (الحادي والعشرين) من سلسلة "أين نحن من هؤلاء؟ ". جعل الله سعينا في هذه الدنيا سعياً مباركاً, وجعله عوناً على الطاعة. عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم

مدخل

مدخل فرض الله عزّ وجل على عباده الاكتساب لطلب المعاش؛ ليستعينوا به على طاعته, قال تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. فجعل سبحانه الاكتساب سبباً للعبادة. وقال تعالى عن الإنسان ومحبته للمال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. وقال عز وجل آمراً عباده بعد انقضاء فريضة عظيمة هى صلاة الجمعة: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. قال الإمام البغوي: أي إذا فُرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في -حوائجكم. (¬1) وكان عراك بن مالك -رضي الله عنه- إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فرضك, وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين (¬2). وقد حث الإسلام على العمل والإكتساب, فهو دين العمل والحركة والسعي في الأرض وعمارتها. ¬

_ (¬1) مختصر تفسير البغوي 2/ 945. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 471.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله, أعطاه أو منعه" (¬1). وأثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المال الصالح في يد العبد الصالح فقال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" (¬2). ولم تُذم الدنيا لذاتها, إنما لما يقع فيها من المعاصي, والذنوب, وأكل المال الحرام, فالدنيا الحرام: الصارفة عن الدين, المجموعة من الحرام. أي أن تجمعها من الحرام, وتجعلها في الحرام. قال - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا لأبعة رجال, رجل جمع المال من حلِّه وأنفقه في حقه فهذا بأرفع المنازل" (¬3). ورجل جمع المال من غير حلِّه, وأنفقه في حقِّه فهذا بأخبث المنازل. ورجل جمع المال من غير حلهِّ, وأنفقه في حقِّه فهذا بأخبث المنازل. ورجل جمع المال من حله, وأنفقه في غير حقه فهذا بأخبث المنازل (¬4). ويحتم العمل ويجب الاكتساب على من كان له عيال, أو كانت له مسئولية. فقد جعل الإسلام التقصير في حق الزوجة, ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أخرجه أحمد. (¬3) رواه الترمذي. (¬4) رواه الترمذي.

والأطفال, والوالدين من الذنوب العظيمة فعن وهب بن جابر قال: شهدت عبدالله بن عمرو بن العاص في بيت المقدس وأتاه مولى له فقال: إني أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا -يعني رمضان- قال له عبدالله: هل تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا, قال: أمّا لا فراجع, فدع لهم ما يقوتهم, فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نظر إلى رجل فأعجبه, قال: "هل له من حرفة؟ " فإن قالوا: لا, سقط من عينه, قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأن المؤمن إذا لم يكن ذا حرفة تعيَّش بدينه" (¬2). والمسلم يؤجر على قوت عياله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "دينارٌ أنفقته في سبيل الله, دينارٌ أنفقته في رقبة, ودينارٌ تصدَّقت به على مسكين, ودينارٌ أنفقته على أهلك, أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك" (¬3). وروي عن سفيان الثوري -رحمه الله- أنه قال: عليك بعمل الأبطال. الكسب من الحلال, والإنفاق على العيال. وكان إذا أتاه الرجل يطلب العلم سأله هل لك وجه معيشة؟ فإن أخبره أنَّه في كفاية, أمره بطلب العلم, وإن لم يكن في كفاية ¬

_ (¬1) رواه أبو داود. (¬2) كتاب الجامع 1/ 34. (¬3) رواه مسلم.

أمره بطلب المعاش. وقال أيوب السِّختياني: قال لي أبو قِلابة: يا أيوب, إلزم سوقك, فإنّ فيها غنى عن الناس، وصلاحاً في الدِّين. وعن محمد بن سيرين عن أبيه قال: صليت مع عمر بن الخطاب المغرب, وانصرف معه جماعة من قريش, فرأى تحت إبطي رزمة فقال: ما هذا يا ابن سيرين؟ فقلت: يا أمير المؤمنين, آتي إلى السوق فأشتري وأبيع, فالتفت إلى جماعة من قريش فقال: لا يغلبنكم هذا وأشباهه على التجارة؛ فإن التجارة ثلث الإمارة (¬1). وقال أبو سليمان الداراني: ليست العبادة أن تصف قدميك وغيرك يقوت لك, ولكن ابدأ برغيفك فأحرزها, ثم تعبد (¬2). والمال في يد الإنسان المسلم طريق إلى الحياة الكريمة في الدنيا, والسعادة في الآخرة؛ لأنه كما قال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله, يعطي منه حقه, ويكف به وجهه عن الناس (¬3). وقال ابن قدامه في تفصيل دقيق لحال طالب الدنيا: قد بينا أن المال لا يذم لذاته, بل ينبغي أن يمدح؛ لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا, وقد سماه الله تعالى خيراً, وهو قوام الآدمي. قال الله تعالى في أول سورة النساء: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ¬

_ (¬1) تاريخ عمر: ص 214. (¬2) الإحياء 2/ 172. (¬3) السير 4/ 238.

[النساء: 5]. وقال أبو إسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عوناً على الدين. وقال سفيان: المال في زماننا هذا سلاح المؤمنين. وحاصل الأمر: أن المال مثل حية فيها سم وترياق, فترياقه فوائده, وغوائله سمه, فمن عرف فوائده, أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره (¬1). أخي المسلم: اعلم أنَّ المال لا يُذم لذاته, بل يقع الذم لمعنى من الآدمي, وذلك المعنى إما لشدة حرصه, أو تناوله من غير حلِّه, أو حبسه عن حقه, أو إخراجه في غير وجهه, أو المفاخرة به, ولهذا قال الله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]. وفي سنن الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم, بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" (¬2). وقد كان السلف يخافون فتنة المال. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى الفتوح يبكي ويقول: ما حبس الله هذا عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر لشرٍ إراده الله بهما, وأعطاه عمر إرادة الخير له. ¬

_ (¬1) مختصر منهاج القاصدين ص 214. (¬2) رواه الترمذي.

وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب, فإن لم تسحن رقيته فلا تأخذه؛ فإنه إن لدغك قتلك سمه. قيل: ما رقيته؟ قال: أخذه من حِله, ووضعه في حقِّه. وقال في صاحب حق المال: مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما, قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله, ويُسأل عنه كله (¬1). ودين الإسلام دين التوكل لا التواكل, ودين السعي لا الخمول. قال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول اللهم أرزقني؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة (¬2). وقال محمد بن المنكدر في كلمات جميلة عن المال: نعم العون على تقوى الله -عز وجل- الغنى (¬3). أخي المسلم: هي القناعة لا تبغ بها بدلاً ... فيها النعيم وفيها راحة البدن ¬

_ (¬1) مختصر منهاج القاصدين ص 213. (¬2) الإحياء 2/ 71. (¬3) حلية الأولياء 2/ 149.

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن (¬1) أخي الحبيب: اعلم أنه ليس من الزهد ترك المال, وبذله على سبيل السخاء والقوة واستمالة القلوب, إنما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة, ومن عرف أن الدنيا كالثلج يذوب, والآخرة كالدر يبقى, قويت رغبته في بيع هذه بهذه (¬2). وقد كان زهد السلف في الدنيا خوف الوقوع في الحرام, قال مزمل: دخلت على سفيان وهو يأكل طبهاج (اللحم المشرح) ببيض فكلمته في ذلك, فقال: لم آمركم أن لا تأكلوا طيباً, اكتسبوا طيباً وكلوا (¬3). وقال علي بن الفضيل: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة, ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام, كيف ذا؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي إنما أفعل ذا؛ لأصون به وجهي, وأكرم به عرضي, وأستعين به على طاعة ربي (¬4). ¬

_ (¬1) التذكرة ص 102. (¬2) منهاج القاصدين ص 355. (¬3) السير 7/ 277. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 160.

أسباب الرزق

أسباب الرزق أسباب الرزق كثيرة متنوعة من أهمها: لزوم التقوى, قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 69]. وقال تعالى في ذكر الإستغفار والتوبة وفوائدهما: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10]. ومن أعظم الأسباب الجالبة للرزق: ترك الذنوب والمعاصي, فإنها تحرم خيري الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] أي بجنايتكم على أنفسكم, فقد سمَّى جناية المرء على نفسه كسباً. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليُحْرم الرزق بالذنب يصيبه" (¬1). قيل لرجل من الفقهاء: من يتق الله يجعل له مخرجًا, ويرزقه من حيث لا يحتسب, فقال الفقيه: والله, إنه ليجعل لنا المخرج, وما بلغنا من التقوى ما هو أهله وإنه ليرزقنا وما اتقيناه, وإنا لنرجو الثالثة, ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته, ويعظم له أجراً (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد. (¬2) حلية الأولياء 4/ 248.

وقال بعض السلف متعجباً ممن يعصي الله عز وجل كيف يرزقه الكريم الحليم, فقال: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟ ! أين نحن من هؤلاء: لم تكن الدنيا أكبر همهم ومبلغ سعيهم, فلم تلههم, كانوا يعرفون نعم الله عز وجل الأخرى, وأعظمها وأهمها, وأكملها وأتمها نعمة الإسلام, ثمَّ نعمة الصحة والعافية, والأمن في الأوطان: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. عن الحسن بن صالح قال: ربَّما أصبحت ما معي درهم, وكأن الدنيا كلها قد حيزت لي (¬1). ولقد كان ارتباطهم بالله عز وجل قوياً, وخوفهم من المعاصي شديداً, ولهذا يرون أثر المعاصي لقلتها في دوابهم وزوجاتهم وأبنائهم! فقد أغلظ رجل لوكيع بن الجراح, ثم دخل وكيع بيتاً فعفر وجهه بالتراب, ثم خرج إلى الرجل فقال زد وكيعاً بذنبه, فلولاه ما سُلطت عليه (¬2). وكان المال وسيلة عندهم, والمآل والمنتهى والمطلب هو جنة عدن, ولهذا تدور إجاباتهم وهمومهم على الآخرة, فهى غاية ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ 1/ 217. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 503.

المطالب, وأسمى المنازل. قيل لأبي حازم الزاهد ما مالك؟ قال: مالان, لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله, واليأس مما في أيدي الناس (¬1). اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ... واقنع بياس فإن العز في اليأس واستغني عن ذي قربى وذي رحم ... إن الغِنَّي من استغنى عن الناس (¬2) ومن يسَّر الله له المال, وساق إليه الخيرات, فليشكر الله على نعمه, وليستعملها في طاعته, ويفرقها ذات اليمين والشمال في اصحاب الحقوق, وقضاء الحوائج. قال ابن تيمية: "ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس؛ ليبارك له فيه, من غير أن يكون له في القلب مكانة, والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء". ثم قال رحمه الله: "فيكون المال عنده يُستعمل في حاجته يمنزلة حماره الذي يركبه, وبساطه الذي يجلس عليه, بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده, فيكون هلوعاً, إذا مسه الشر جزوعاً, وإذا مسه الخير منوعاً". ورزق الله مكتوب مقدر, لا يجلبه حرص حريص, ولا يدفعه ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم ص 353. (¬2) مكاشفة القلوب ص 181.

كسل كسول, فإن الله عز وجل قسم الأرزاق بعلمه وعدله, ولهذا كفر من قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} إنما هي منحة ربانية؛ ليبتلي عباده بها! قالت مريم البصرية: ما أهتممت بالرزق ولا تعبت في طلبه منذ سمعت الله عز وجل يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]. أخي المسلم: إذا سُدَّ باب عنك من دون حاجةٍ ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابُها فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوآت الأمور اجتنابُها ولاتك مبذالاً لعرضك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك تقلبُها (¬1) وحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون الدنيا وطعامها هَمَّ المسلم وديدنه في ليله ونهاره, تشغله عن الطاعة, وتصرفه عن العبادة, قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح والدنيا أكبر همِّه, جعل الله فقره بين عينيه, وشتَّت عليه شمله, ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له, ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه, وجمع عليه شمله, وأتته الدنيا وهي راغمة, وكان الله بكل خير إليه أسرع" (¬2). ¬

_ (¬1) الإحياء 3/ 254. (¬2) رواه الترمذي وصححه الألباني.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي, وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه؟ فهذا من باب التنبيه والأولى (¬1). وقد وردت آيات كثيرة نصت على الترف والمترفين, وسوء ذلك على نفوس الكثير, قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64] وقال تعالى عن أصحاب الشمال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45] وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] وقال تعالى في آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]. والأمر في الأموال والدور والقصور, مثلما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تصنيفه لفئات الناس مع المال: "والفقر يصلح عليه خلق كثير, والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم, ولهذا كان أكثر ما يدخل الجنة المساكين؛ لأن فتنة الفقر أهون, وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر, لكن لما كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم, اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء". ولهذا مال الإنسان محدود الفائدة في ذاته إما لقمة يأكلها, أو ثوباً يلبسه أو مركباً يركبه, أما من اراد به الله الخير فهو ينفق منه, ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين ص 45.

ويتصدَّق ويواسي ويفرج, فهذا نعم المال! قال - صلى الله عليه وسلم -: "يقول ابن آدم مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت, أو تصدقت فأمضيت" (¬1). قال يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة (¬2). ومن هذا الخوف والوجل كانوا يحتاطون لأنفسهم, ويحاسبونها؛ رغبة في النجاة, وخوفاً من الوقوع في الهلاك. قال خرمي بن يونس: سمعت أبا يوسف الغولي يقول: أنا أتفقه في مطعمي من ستين سنة. وكان أبو حنيفة خزازاً يبيع الخز, فروي أن رجلاً جاءه فقال: يا أبا حنيفة قد احتجت إلى ثوب خز, فقال: ما لونه؟ قال: كذا وكذا, قال: اصبر حتى يقع, وآخذه لك, فما دارت الجمعة حتى وقع, فجاءه الرجل فقال له أبو حنيفة: قد وقعت حاجتك, ثم أخرج إليه ثوباً فأعجبه, فقال: يا أبا حنيفة كم أزن للغلام؟ فقال درهماً, فقال: أتهزأ بي قال: لا والله إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهم, فبعت أحدهم بعشرين ديناراً, وبقى هذا بدرهم, وما كانت لأربح على صديق. فأخذه! (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) تاريخ بغداد 14/ 212. (¬3) مناقب أبي حنيفة للموفق 1/ 196.

قال سفيان الثوري: انظر درهمك من أين هو, وصل في الصف الأخير (¬1). وقال محمد بن سيرين: كان يقال: المتعلم المسلم عند الدرهم (¬2). وغالب الناس اليوم ينطبق عليهم قول الشاعر: نُرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نُرقع ولهذا قلت الدمعة في المآقي, وندر البكاء من خشية الله. قال سهل رحمه الله: لا تجد الخوف حتى تأكل الحلال (¬3). وعندما رأى عطاء بن يسار رجلاً في المسجد فدعاه فقال: هذه سوق الآخرة, فإن أردت البيع فأخرج إلى سوق الدنيا (¬4). وروي عن خالد البلوي قال: جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال: أرشدت إليك تبيعني ثوبين أريدهما لأمي وزوجتي, وأحسن بيعي, فقال له, أي لون تريد؟ فوصف له. فقال: انتظرني جمعتين, قال: نعم. فذهب, ثم جاء بعد ذلك فدفع إليه ثوبين وديناراً واحداً وقال: إني لم أخسر عليك, إني جعلت لك بضاعة فرزقت من عند الله عز وجل, فأحمده فقلت له, أو قيل له: يا أبا حنيفة هل ذكرت ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 7/ 68. (¬2) الزهد للبيهقي ص 362. (¬3) الإحياء 40/ 170. (¬4) الورع للإمام أحمد بن حنبل ص 51.

بينكما معرفة قديمة؟ قال: لا. ألم تسمع إلى قوله: (وأحسن بيعي). قال سعيد بن جبير: إذا قال الرجل للرجل: أحسن بيعي فقد ائتمنه, فلم أكن أبقي من الإحسان شيئاً إلا أتيته؛ لتسلم لي أمانتي (¬1). وعن علي بن حفص البزاز قال: كان حفص بن عبدالرحمن شريك أبي حنيفة, وكان أبو حنيفة يجهز عليه, فبعث إليه في رفقة بمتاع, وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً, فإذا بعته فبيِّن. فباع حفص المتاع ونسي أن يبيِّن ولم يعلم ممن باعه, فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كُلِّه (¬2). أخي الحبييب: أين نحن من هؤلاء: قال مسلمة بن عبدالملك: دخلتُ على عمر بن عبدالعزيز بعد الفجر في بيت كان يخلو فيه بعد الفجر, فلا يدخل عليه أحدٌ, فجاءته جارية بطبق عليه تمرُ صيحاني, وكان يُعجبه التمر, فرفع بكفِّه منه, فقال يا مسلمة, أترى لو أن رجُلاً أكل هذا, ثم شرب عليه من الماء -على التمر طيب- أكان مُزجئه إلى الليل؟ قلتُ: لا أدري. قال: فرفع أكثر منه فقال: هذا؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤمنين, كان كافيه دون هذا, حتى ما يُبالي أن لا يذوق طعاماً غيره. قال: فعلامَ يدخل النار؟ قال مسلمة: فما وقعتْ مني موعظة ما وقعتْ ¬

_ (¬1) مناقب أبي حنيفة للموفق 1/ 241. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 358.

هذه (¬1). وعن مزمل قال: سمعت وهيباً (ابن الورد) يقول لو قمت قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام. وعندما نظر حذيفة المرعشي إلى الناس يتبادرون إلى الصف الأول, فقال: ينبغي أن يتبادروا إلى أكل خبز الحلال, ولا يُتبادر إلى الصف الأول (¬2). والشيطان في صراع وجهاد لإغواء المسلم وصده عن سبيل الله. قال يوسف بن أسباط: إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء, قال: دعوه, لا تشتغلوا به, دعوه يجتهد وينصب, فقد كفاكم نصيبه (¬3). وقد يجعل الله عز وجل نعمة المال استدراجاً لمن عصاه وخالف أمره, كما سمعنا ذلك عن أمم سابقة, ورأينا ذلك في أمم ودولٍ معاصرة, قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. ¬

_ (¬1) الورع لأحمد ص 63. (¬2) الزهد للبيهقي ص 253. (¬3) الزهد للبيهقي ص 359.

قال شعيب بن حرب: لا تحقرنَّ فلساً تطيع الله في كسبه, ليس الفلس يراد, إنما الطاعة تراد, عسى أن تشتري به بقلاً فلا يستقر في جوفك حتى يغفر لك (¬1). أرى حُللاً تُصان على أناس ... وأخلاقاً تداس فلا تصانُ يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا, وما فسد الزمان قال بعض السلف: لترك دينار مما يكره الله, أحب إلي من خمسمائة حجة (¬2). ولهذا قال الحسن: رأيت سبعين بدريًّا كانوا فيما أحلَّ الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم (¬3). المال يذهب حلَّه وحرامه ... طراً ويبقى في غدٍ آثامه ليس المتقي بمتق لإلهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما تحوى وتسكب كفه ... ويكون في حسن الحديث كلامه (¬4) ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 10. (¬2) الورع لابن أبي الدنيا. (¬3) حلية الأولياء 4/ 255. (¬4) حلية الأولياء 2/ 349.

أما صدق الحديث في البيع والشراء فإنك ترى العجب من حال أولئك! حدثنا زياد بن الربيع عن أبيه: قال رأيت محمداً بن واسع يمر ويعرض حماراً له على البيع فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه (¬1). وجاء مجمع التيمي بشاة يبيعها, فقال: إني أحسب أو أظن في لبنها ملوحةً. وجاء يوسف بن عبيد بشاةٍ, فقال: بعها وابرأ من ................... أنها تقلب المعلف, وتنزع الوتد, ولا تبرأ بعد ما تبيع, بيِّن قبل أن تبيع (¬2). أين نحن من هؤلاء؟ ! عن السري بن يحيى قال: لقد ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفاً في شيء دخله (¬3). وعن ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه, وحتى يعلم من أين ملبسه, ومطعمه, ومشربه (¬4). ¬

_ (¬1) الورع لابن أبي الدنيا ص 104. (¬2) الورع لابن أبي الدنيا ص 104. (¬3) صفة الصفوة 3/ 244. (¬4) السير 5/ 74.

وكانت الزوجة والابنة الصالحة تعين على الحلال واستطابة المطعم. قالت ابنة العدوية لأبيها: يا أبتِ, لست أجعلك في حلٍ من حرام تطعمنيه. فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً. قالت: نصبر في الدنيا على الجوع, خير من أن نصبر في الأخرة على النار. وقال المعافى بن عمران: كان عشرة فيمن مضى من أهل العلم, ينظرون في الحلال النظر الشديد, لا يدخلون بطونهم, إلا ما يعرفون من الحلال, وإلا استفُّوا التراب, ثم عد بشر, وإبراهيم بن أدهم, وسليمان الخواص, على بن الفضيل, وأبا معاوية الأسود ويوسف بن اسباط, ووهيب بن الورد, وحزيفة شيخ من أهل حران, وداود الطائي, فعد عشرة كانوا لا يدخلون بطونهم إلا ما يعرفون من الحلال, وإلا استفُّوا التراب (¬1). وكان بشرٌ يقول: ينبغي للرجل أن ينظر خبزه من أين هو؟ ومسكنه الذي سكنه أصله من أي شيء؟ ثم يتكلم (¬2). وقال علي بن شعيب, قال لي أبي: كنت قلْت عند فلان, قال: فقال لي: أكلت عنده؟ قلت: نعم قال: احْمِد ربك, أكلت ما لا تُسأل عنه, يعني عن كسبه (¬3). ¬

_ (¬1) الورع للإمام أحمد ص 10. (¬2) الورع للإمام أحمد ص 10. (¬3) الورع للإمام أحمد ص 10.

وقال أبو يوسف الغسولي: إنه ليكفيني في السنة اثنا عشر درهماً, في كل شهر درهم, وما يحملني على العمل إلا ألْسنَةُ هؤلاء القرَّاء, يقولون: أبو يوسف من أين يأكل؟ وكان يقول: أنا أتفقه في مطعمي من ستين سنة. وسأل خلف بن تميم, إبراهيم بن أدهم فقال: منذ كم قدمت الشام؟ قال: منذ أربع وعشرين سنة, ما جئت لرباط ولا لجهاد, جئت لأشبع من خبزٍ حلال. وقال ابن المبارك: رد درهمٍ من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم, ومائة ألف, حتى بلغ إلى ستمائة ألف (¬1). وتأمل في سؤال فقهي: ليس المراد الجواب .. بل في السؤال تحرز وبراءة للذمة! سُئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم لا يعرفه. قال رحمه الله: لا يأكل منها شيئاً حتى يعرفه. وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاماً إلى البصرة مع رجل, وأمره أن يبيعه يوم يدخل لسعر يومه, فأتاه كتابه أني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصاً فحبسته, فزاد الطعام, فازددت كذا وكذا, فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا, وصلت بخلاف ما أمرناك به, فإذا أتاك كتابي فتصدَّق بجميع ذلك الثمن -ثمن الطعام- على فقراء البصرة, فليتني أسلم إذا فعلت ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) الإحياء 2/ 103. (¬2) جامع العلوم والحكم ص 132.

وكانوا يتواصون بالحرص على القليل من الحلال؛ ففيه غنية وبركة .. قال بشر بن الحارث: ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال؛ لأنه إذا شبع من الحلال دعته نفسه إلى الحرام, فكيف على هذه الأقدار اليوم (¬1)؟ ! ومن يحمد الدنيا لعيش يسره ... فسوف لعمري على قليل يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً ... وأن أقبلت كانت كثيرة همومها (¬2) أخي المسلم: كان عمرو بن قيس الملائي إذا نظر إلى أهل السوق قال: ما أغفل هؤلاء عما أُعد لهم (¬3)! وكان يونس بن عبيد يشتري الإبرسيم في البصرة، فيبعث به إلى وكيله بالسوس، وكان وكيله يبعث إليه بالخز، فإن كتب وكيله إليه أن المتاع عندهم زائد لم يشتر منهم أبدًا، حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد (¬4). ¬

_ (¬1) الورع للإمام أحمد ص 7. (¬2) الإحياء 3/ 221. (¬3) صفة الصفوة 3/ 124. (¬4) حلية الأولياء 3/ 15.

أخي الحبيب: يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا جاء رجل من أهل الشام من سوق الخزازين, فقال المطرف بأربعمائة, فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتين, فنادى المنادي بالصلاة, فانطلق يونس إلى بني قشير؛ ليصلي بهم, فجاء وقد باع ابن أخته المطرف من الشامي بأربعمائة, فقال يونس: ما هذه الدراهم؟ قال: ذاك المطرف بعناه من ذا الرجل, قال يونس: يا عبدالله هذا المطرف الذي عرضت عليك بمائتي درهم فإن شئت خذه, وخذ مائتين وإن شئت فدعه (¬1). حدث: أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن. يعني إسماعيل. والد إبراهيم عبدالله البخاري عند موته, فقال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام ولا درهماً من شبهةٍ. قال أحمد: فتصاغرتْ إليَّ نفسي عند ذلك, ثم قال أبو عبدالله: أصدق ما يكون الرجل عند الموت (¬2). ورحم الله الصاحبي الجليل أبا الدّرداء إذ يقول: من فقه الرَّجل المسلم استصلاحه معيشته. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 15. (¬2) السير 12/ 447.

وقال رضي الله عنه صلاح المعيشة من صلاح الدين, وصلاح الدين من صلاح العقل. وقال: ليس من حُبِّك الدُّنيا التماسُك بما يصلحك منها (¬1). وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه موجِّهًا القرَّاء: يا معشر القرَّاء, استبقوا الخيرات, وابتغوا من فضل الله, ولا تكونوا عيالاً على الناس (¬2). ويحكى عن مبارك أبي عبدالله: أنه كان يعمل في بستان لمولاه, وأقام فيه زماناً, ثم أن مولاه صاحب البستان وكان أحد تُجار همذان جاءه يوماً, وقال له: يا مبارك, أريد رمانًا حلواً. فمضى مبارك إلى بعض الشجر, وأحضر منها رمانا, فكسره مولاه, فوجده حامضاً, فحرد عليه, وقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض! هات حلواً. فمضى وقطع من شجرة أخرى, فلما كسره سيده وجده أيضاً حامضاً, فاشتد حرده عليه, وفعل ذلك مرة ثالثة, فذاقه, فوجد أيضا حامضاً, فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: لا. فقال: وكيف ذلك؟ ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله 2/ 15. (¬2) جامع بيان العلم وفضله 2/ 15.

فقال: لآني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه. فقال: ولِمَ لم تأكل؟ قال: لأنك ما أذنت لي بالأكل منه. فعجب صاحب البستان من ذلك, ولما تبين له صدق عبده؛ عظم في عينه, وزاد قدره عنده. وكانت له بنتُ خطبت كثيراً, فقال له: يا مبارك, من ترى تزوج هذه البنت؟ فقال: أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب, واليهود للمال, والنصارى للجمال, وهذه الأمة للدين. فأعجبه عقله, وذهب فأخبر به زوجته, وقال لها: ما أرى لهذه البنت زوجاً غير مبارك. فتزوجها, وأعطاهما أبوها مالاً كثيراً, فجاءت بعبدالله بن المبارك, العالم, المحدث, الزاهد, المجاهد, الذي كان أكرم ثمرة زواجٍ على أبويه في آفاق زمانه, حتى قال فيه الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى ويقسم على قوله: "وربَّ هذا البيت, ما رأت عيناي مثل ابن المبارك" (¬1). واليوم وقد كثر الغش, والخداع, في واقع حياة بعض الناس, ندر أن تجد الصادق الصدوق في أداء الامانة, المبتعد عن الغش والخديعة! وإن كانت نتيجة المعصية واضحة معلومة في الآخرة, فإن ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان 2/ 237 والتبر المسبوك ص 85.

مآلها في الدنيا أقرب! ذُكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى في خلافته عن مَذق اللبن بالماء (أي مزجه به) , فخرج ذات ليلة في حواشي المدينة, فإذا بامرأة تقول لابنةِ لها: ألا تمذُقين لبنك فقد أصبحت؟ فقالت الجارية: كيف أمذُق وقد نهى أمير المؤمنين عن المَذق؟ فقالت: قد مذق الناس فامذُقي, فما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت: إن كان عمر لا يعلم, فإله عمر يعلم ما كنت لأفعله وقد نهى عنه. فوقعت مقالتها من عمر, فدعا عاصماً ابنه, فقال: يا بُني, اذهب إلى موضع كذا وكذا, فاسأل عن الجارية -ووصفها له-. فذهب عاصم, فإذا هى جارية من بني هلال, فقال له عمر: اذهب يا بُني, فتزوجها, فما أحراها أن تأتي بفارس يسود العرب. فتزوجها عاصم بن عمر, فولدت له أمُ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب, فتزوجها عبدالعزيز بن مروان بن الحكم, فأتت بعمر بن عبدالعزيز (¬1). واما أثر المال الحرام فواضح, حتى وإن كان المال قليلاً والرجل مجاهداً .. ¬

_ (¬1) سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن عبدالحكم ص 22.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: فلان شهيد, وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلا إني رأيته في النار في بُردةٍ غلها -أو عباءة-" (¬1). أين نحن من هؤلاء؟ قال بشر بن المفضل: جاءت امرأة بمطرف خز إلى يونس بن عبيد تعرضه عليه, فقال لها: بكم؟ قالت: بستين درهمًا, فألقاه إلى جاره, فقال: كيف تراه؟ قال بعشرين ومائة, قال: أرى ذلك ثمنه, أو نحواً من ثمنه, فقال لها: اذهبي فاستأمري أهلك في بيعه بخمسة وعشرين ومائة, قالت: قد أمروني أن أبيعه بستين, قال: ارجعي فاستأمريهم (¬2). وحُمل إلى الإمام البخاري بضاعة أنفذها إليه أبو حفص أحد أخص تلامذة أبيه, فاجتمع بعض التجار إليه بالمعيشة وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم. فقال لهم: انصرفوا الليلة. فجاءه الغد تجار آخرون فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف درهم, فردهم, وقال إني نويت البارحة أن أدفعها إلى الأولين, فدفعها إليهم وقال: لا أحب أن أنقض نيتي (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) السير 6/ 290 وحلية الأولياء 3/ 16. (¬3) مقدمة الفتح ص 749.

فكان رحمه الله يريد أن يعوِّد نفسه على الإيثار, والبعد عن حب المال الذي يعد من الصفات القبيحة. كم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به فأبقاه لغيره وأفنى نفسه كما قال الشاعر: كدودة القز ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع لما رأي المتيقِّظون سطوة الدنيا بأهلها, وخداع الأمل لأربابه, وتملك الشيطان, وقياد النفوس, ورأوا الدولة للنفس الأمارة, لجئوا إلى حصن التضرع والالتجاء كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده (¬1). أخي المسلم: ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً. والثانية: أن يكون عالماً بذلك, وأن من ترك شيئاً أعاضه خيراً منه, ولكن تغلب شهوته صبره, وهواه عقله. فالأول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته. قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده. قلت: إذا اجتمع عليه قلبُه, وصدقت ضرورته وفاقته, وقوي ¬

_ (¬1) الفوائد ص 62.

رجاؤه, فلا يكاد يرد دعاؤه (¬1). قال الحسن: إن هذه المكاسب قد فسدتْ, فخذوا منها القوت, أي شبه المضطر (¬2). ¬

_ (¬1) الفوائد ص 62. (¬2) الورع لابن أبي الدنيا ص 111.

كثرة المال ونتاجه

كثرة المال ونتاجه قال عز وجل: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26]. فالأموال والدور والقصور متاع قليل .. سنوات تمضي, وأيام تنتهي, وأنفاس لا تعود! ثم الحساب والجزاء .. قال خالد بن صفوان: بتّ ليلتي, أتمنى, فكسبت البحر الأخضر, والذهب الأحمر, فإذا يكفيني من ذلك رغيفان, وكوزان, وطمران (¬1). وقال إسحاق بن جبلة: دخل الحسن بن صالح يوماً السوق, وأنا معه, فرأى هذا يخيط, وهذا يصبغ, فبكى وقال: انظر إليهم يتعللون حتى يأتيهم الموت (¬2). قال الحسن: والله, ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله, وعجز رأيه, وما أمسكها الله عن عبد, فلم يظن أنه خير له فيها, إلا كان قد نقص عمله, وعجز رأيه (¬3). وكان همهم الآخرة وعيونهم تجاه يوم عظيم .. قال موسى بن المغيرة: رأيت محمداً بن سيرين يدخل السوق نصف النهار, يكبر ويسبح ويذكر الله عز وجل فقال له رجل: يا ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين ص 121. (¬2) السير 7/ 270. (¬3) الجامع لأحكام القرآن 6/ 274.

أبا بكر في هذه الساعة؟ قال: إنها ساعة غفلة (¬1). وقال مالك بن دينار: اتخذْ طاعةَ الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة (¬2). أخي المسلم: فَرِّغْ خاطرك للهمِّ بما أُمرتَ به, ولا تشغله بما ضُمن لك, فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام الأجل باقياً, كان الرزق آتياً. وإذا سد عليك بحكمته طريقاً من طرقه, فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه. فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السرة, فلما خرج من بطن الأم وانقطعت تلك الطريق فتح له طريقين اثنين, وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول لبناً خالصاً سائغاً. فإذا تمت مدة الرضاع, وانقطعت الطريقان بالفطام, فتح طرقاً أربعة أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشاربان من المياه والألبان, وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة لكنه -سبحانه - فتح له- إن كان سعيداً - طرقاً ثمانية, وهى أبواب الجنة الثمانية, يدخل من أيها شاء. فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا, إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به؛ ليعطيه الحظ الأعلى النفيس. ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 245. (¬2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 27.

والعبد لجلهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ذُخِر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً, وبقله الرغبة في الآجل وإن كان علياً. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له ذلك؟ لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها, أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه إلا ليعطيه, ولا ابتلاه إلا ليعافيه, ولا امتحنه إلا ليصافيه, ولا أماته إلا ليحييه, ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه, وليسلك الطريق الموصلة إليه. قال تعالى: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] , {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 99]. والله المستعان (¬1). قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع كم واثق بالعمر واريتيه ... وجامع بدّدت ما يجمع (¬2) قال سعيد بن مسعود: إذا رأيت الرجل تزداد دنياه على آخرته وهو به راض, فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر (¬3). وكان ابن السماك يقول: يا بن آدم إنما تغدو في كسب ¬

_ (¬1) الفوائد ص 75. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 66. (¬3) الإحياء 3/ 223.

الأرباح, فاجعل نفسك فيما تكسبه أنَّك لم تكسب مثلها (¬1). ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر (¬2) ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 174. (¬2) مفتاح دار السعادة 1/ 100.

فوائد المال

فوائد المال فوائد المال تنقسم إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية, فالخلق يعرفونها, ولذلك تهالكوا في طلبها. وأما الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع: أحدها: أن ينفقه على نفسه, إما في عبادة, كالحج والجهاد, وإما في الاستعانة على العبادة, كالمطعم, والملبس, والمسكن, وغيرها من ضرورات المعيشة, فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر, لم يتفرغ القلب للدين والعبادة, وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به, فهو عبادة, فأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية, لا يدخل في هذا التوسع والزيادة على الحاجة, فإن ذلك من حظوظ الدنيا. النوع الثاني: ما يصرفه إلى الناس, وهو أربعة أقسام: أحدها: الصدقة وفضائلها كثيرة مشهورة. القسم الثاني: المروءة, نعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية, وإعانة ونحو ذلك, وهذا من الفوائد الدينية, إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء. القسم الثالث: وقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء, وثلب السفهاء, وقطع ألسنتهم, وكف شرهم, فهو من الفوائد الدينية, فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما وقى الرجل به عرضه فهو صدقة" وهذا لأنه يمنع العتاب من معصية الغيبة, ويحرز مما يثير كلامه من العداوة التي تحمل في الانتقام على مجاوزة حدود

الشريعة. القسم الرابع: ما يعطيه أجراً على الاستخدام, فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمهنة أسبابها كثيرة, ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته, وتعذر عليه سلوك الآخرة بالفكر, والذكر, اللذين هما أعلى مقامات السالك, ومن لا مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه بنفسه, فكل ما يتصور أن يقوم به غيرك, ويحصل بذلك غرضك, فإن تشاغلك به غبن؛ لان احتياجك إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرك من العلم والعمل والذكر والفكر أشد. النوع الثالث: ما لا يصرفه الإنسان إلى معين, لكن يحصل به خيراً عاماً, كبناء المساجد والقناطر, والوقوف المؤبدة. فهذه جملة فوائد المال في الدين, سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة ومن الخلاص من ذلك السؤال, وحقارة الفقر, والعز بين الخلق والكرامة في القلوب, والوقار (¬1). أخي المسلم: كان السلف يخشون النعم أن تكون استدراجاً لهم, ولهذا قال بعضهم: من سأل الله الدنيا فإنما يسأل طول الوقوف للحساب (¬2). وكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل نفق مالاً (¬3). ¬

_ (¬1) منهاج القاصدين ص 214 وما بعدها. (¬2) الإحياء 2/ 224. (¬3) صفة الصفوة 1/ 639.

والكنز ورأس المال في هذه الدنيا, ما قاله علي بن الحسين: من قنع بما قسم الله له فهو من أغنى الناس (¬1). نصيبك مما تجمع الدهر كله ... ردان تلوى فيهما وحنُوط أخي المسلم: الدراهم أربعة: درهم اكتُسِب بطاعة الله وأُخرج في حق الله, فذاك خير الدراهم, ودرهم اكتسب بمعصية الله, وأُخرج في معصية الله, فذاك شرُّ الدراهم, ودرهم اكتسب بأذى مسلم وأُخرج في أذى مسلم, فهو كذلك, ودرهم اكتسب بمُباح وأُنفق في شهوة مباحة, فذاك لا له ولا عليه. هذا أصول الدراهم, ويتفرع أُخَر: منها درهم اكتسب بحق وأُنفق في باطل, ودرهم اكتسب بباطل وأنفق في حق, فإنفاقه كفارته, ودرهم اكتسب من شبهة فكفارته أن ينفق في طاعة. وكما يتلق الثواب والعقاب, والمدح والذم بإِخراج الدرهم, فكذلك يتعلق باكتسابه. وكذلك يسأل عن مستخرجه ومصروفه من أين اكتسبه, وفيم أنفقه؟ (¬2). قال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام جزءاً من الحلال (¬3). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 135. (¬2) الفوائد ص 222. (¬3) الورع لإمام أحمد بن حنبل ص 44.

قال زبير بن الحارث: ألف بعرة أحب إليّ من ألف دينار (¬1). والدنيا على كبرها في أعيننا إلا أنها في الواقع حقيرة صغيرة. قال أبو الدرداء: أهل الأموال يأكلون ونأكل, ويشربون ونشرب, ويلبسون ونلبس, ويركبون ونركب, ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم, وحسابهم عليها ونحن براء (¬2). لقد ورث الإمام البخاري تركة عظيمة من أبيه العلامة إسماعيل, ولم يكن إسماعيل في تجارته كسائر الناس من التجار الذين قد لا يتورعون عن بعض الأمور, أو يقع من عمالهم ومساعديهم شيء من التساهل والخطأ, فيقعون في أمور يلزم اجتنابها والحذر منها, وهكذا تصبح الأموال المكتسبة منها موضع شك وارتياب, ولكن إسماعيل كان حذراً في تجارته, محتاطاً في اكتسابه فقد كان مجتنباً بعيداً كل البعد عن جميع مواضع الشبهات, وقد قال ذلك لأحيد بن حفص, وكان من أخص تلاميذه, عند وفاته: لا أعلم من مالي درهماً من حرام, ولا درهماً من شبهة (¬3). وتعجب أبو حفص لهذا القول الذي يدل على أن إسماعيل كان مبالغاً في الاحتياط واتقاء الشبهات, وفي الوقت نفسه كان يريد أن يوضح لوارثه الذي كانت الأقدار تيهئه ليكون إمام الدنيا, ويلقب بإمام المحدثين, أن لا يقع في قلبه أدنى شك فيجتنبه, أو ¬

_ (¬1) السير 5/ 296. (¬2) السير 2/ 350. (¬3) مقدمة الفتح 479.

يتنازل عنه, بل يستفيد منه في مشاكله؛ لأنه طاهر وطيب من كل وجه. وقال محمد بن أبي حاتم عن الإمام البخاري: إنه كان يعطي هذا المال مضاربة, وهى نوع من أنواع التجارة؛ لكي يتفرغ لخدمة العلم النبوي, وكان الله سبحانه وتعالى قد أغناه من كل جهة. وكان سمحاً, رحيماً, قد اُعطى حظاً وافراً منهما, فذات مرة قطع له أحد الغرماء خمسة وعشرين ألفاً, فقيل له بأن الغريم قد وصل إلى آمل, وبإمكانك أن تأخذ منه الدراهم, فقال لهم: لا ينبغي لي أن أتعبه. قال محمد بن أبي حاتم: فلما عرف الغريم جهودنا انتقل إلى خوارزم, فقلنا له: استعن بكتاب الوالي إلى حاكم خوارزم (لأن الغريم ليس بعيداً, وبإمكانهم أن يلحقوه بكل سهولة) فقال لهم: إن أخذت منهم كتاباً طمعوا, ولن أبيع ديني بدنياي. قال محمد بن حاتم: وكان لأبي عبدالله غريم قطع عليه مالاً كثيراً, فبلغه أنه قدم آمل ونحن بفربر, فقلنا له: ينبغي أن تعبر وتأخذه بمالك, فقال: ليس لنا أن نروعه. ثم بلغ غريمه, فخرج إلى خوارزم فقلنا: ينبغي أن تقول لأبي سلمة الكشاني, عامل آمل؛ ليكتب إلى خوارزم في أخذه, فقال: إن أخذت منهم كتاباً طمعوا مني في كتاب, ولست أبيع ديني بدنياي. فجهدنا فلم نأخذه حتى كلمنا السلطان عن أمره, فكتب إلى والي خوارزم, فلما بلغ أبا عبدالله ذلك وجد وجداً شديداً, وقال لا

تكونوا أشفق عليَّ من نفسي, وكتب كتاباً, وأردف تلك الكتب بكتب وكتب إلى بعض, فرجع غريمه, وقصد ناحية مرو فاجتمع التجار وأخبروا السلطان, فأراد التشديد على الغريم, فكره ذلك أبو عبدالله, وصالح غريمه على أن يعطيه كل سنة عشرة دراهم شيئاً يسيراً, وكان المال خمس وعشرين ألفاً, ولم يصل من ذلك إليَّ درهم ولا إلى أكثر منه (¬1). وكان يهدف الإمام البخاري من تجارته هذه (أي المضاربة) أن ينفع خلق الله, فكان يساعد أهل العلم, وطلبة العلم, والشيوخ المحدثين, وكان ينفق من دخله خمسمائة درهم على الفقراء والمساكين, وطلبة العلم, وأصحاب الحديث كل شهر, فكان يعين طلبة العلم, ويشجعهم على الانهماك في طلب العلوم النبوية, ويحسن إلى أهل العلم كثيراً, ولم يكن يعرف الترف والبذخ في حياته في المأكل والمشرب, فكان الصبر والاحتمال قد أصبحا طبيعةً له. هب أنك قد ملكت الأرض طُراً ... ودان لك البلاد فكان ماذا؟ أليس غدًا مصيرك تُرب؟ ... ويحثو التراب هذا ثم هذا قال الحسن: إذا أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية, ثم ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى للسبكي 2/ 226.

يمسك فإذا نفد أعاد عليه, وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً. وقال أبو حازم سلمة بن دينار: إن وقينا شر ما أعطينا لم ننل ما فاتنا (¬1). وعن حميد الطويل قال: خطب رجل إلى الحسن, وكنت أنا السفير بينهما, قال: فكأن قد رضيته يوماً اثنى عليه بين يديه, فقلت: يا أبا سعيد وأزيدك أن له خمسين ألف درهم, قال: له خمسون ألف ما اجتمعت حلال, قلت: يا أبا سعيد إنه كما علمت ورع مسلم, قال: إن كان جمعها من حلال فقد ضن بها عن حق, لا والله, لا أجري بيننا صهراً أبدا (¬2). وحال الناس مع الأموال, وزيادتها ونقصانها عجيب, ومن أعجب العجيب أنه يهتم بالنقص من ماله, ولا يهتم بالنقص مما هو أعظم من أموال الدنيا! قال يحيى بن معاذ: عجبت ممن يحزن على نقصان ماله. كيف لا يحزن على نقصان عمره؟ ! (¬3). وعندما مرض قيس بن سعد بن عبادة, استبطأ إخوانه, فقيل له: إنهم يستحون مما لك عليهم من الدين, فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة, ثم أمر منادياً: من كان عليه لقيس حقٌ فهو منه في حل, قال: فانكسرت درجته بالعش؛ لكثرة من ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 2/ 158. (¬2) حلية الأولياء 2/ 156. (¬3) صفة الصفوة 4/ 95.

عاده (¬1). وكتب غلامٌ لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز: أن قصب السكر أصابته آفة, فاشتر السكر فيما قبلك. قال: فاشتراه من رجل فلم يأت عليه إلا قليل, فإذا فيما اشترى ربح ثلاثين ألفاً, فأتى صاحب السكر, فقال: يا هذا إن غلامي كان كتب إلي ولم أعلمك, فأقلني فيما اشتريت منك, فقال الآخر: فقد أعلمتني الآن وطيَّبته لك. قال: فرجع فلم يحتمل قلبه, قال فأتاه فقال: يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه, فأحب أن يسترد هذا البيع, قال فما زال به حتى ردَّ عليه (¬2). قال سلمة الفراء: كان رأس مال عتبة الغلام فلساً يشتري به خوصاً -الخوص: ورق المقل والنخل والنارجيل وما شاكلها, واحدته خوصة- يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس, فيتصدق بفلس ويتعشى بفلس, وفلس رأس ماله. أخي المسلم: دع التهافت في الدنيا وزينتها ... ولا يغرنك الاكثار والجشع واقنع بما قسم الرحمن وارض به ... إن القناعة مال ليس ينقطع ¬

_ (¬1) منهاج القاصدين ص 221. (¬2) الورع لابن أبي الدنيا ص 105.

وخل عنك فضول العيش أجمعها فليس فيها إذا حققت منتفع (¬1) ولو تأمل الناس اليوم في كلمات يسيرة لهانت الدنيا .. قال شميط بن عجلان: إنما بطنك يا بن آدم شبر في شبر فلِمَ يدخلك النار (¬2)؟ لا يومك ينساك ... ولا رزقك يعدوكا ومن يطع في الناس ... يكن للناس مملوكا فليكن سعيك لله ... فإن الله يكفيكا (¬3) كان داود الطائي قد ورث عن أمِّه أربعمائة درهم, فمكث يتقوتها ثلاثين عاماً, فلما نفذت جعل ينقض سقوف الدويرة (تصغير الدار* فيبيعها حتى باع الخشب, والبواري (مفردها البورية): وهى الحصير المنسوج من القصب واللبن حتى بقى في نصف سقفه, وجاءه صديقٌ له فقال: يا ابا سليمان لو أعطيتني هذه فأبضعها لك؛ لعلنا نستفضل لك فيها شيئاً ينتفع به, فما زال به حتى دفعها إليه, ثم فكر فيها فلقيه بعد العشاء الآخرة فقال: أرددها ¬

_ (¬1) مكاشفة القلوب ص 285. (¬2) الإحياء 3/ 254. (¬3) طبقات الحنابلة ص 419.

عليّ فقال: ولم ذاك يا أخي؟ قال: أخاف أن يدخل فيها شيء غير طيب فآخذها (¬1). تقنع بما يكفيك واستعمل الرضى ... فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي (¬2) قال الحسن: بئس الرفيقان, الدينار والدرهم لا ينفعانك حتى يفارقاك (¬3). وقال مالك بن دينار: وددت أن الله عز وجل جعل رزقي في حصاة أمصها, لا ألتمس غيرها حتى أموت (¬4). وقال محمد بن سوقة: أمران لو لم نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما لعذاب الله؛ أحدنا يزاد الشيء من الدنيا فيفرح فرحاً ما علم أنه فرحه بشيءٍ زاده قط في دينه, وينقص الشيء من الدنيا فيحزن عليه حزناً ما علم أنه حزنه على شيء نقصه قط في دينه (¬5). قال الشافعي: ما فزعت من الفقر قط, طلب فضول الدنيا عقوبة, عاقب بها الله أهل التوحيد (¬6). عجبت لمن يخاف حُلول فقر ... ويأمن ما يكون من المنون ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 139. (¬2) التذكرة ص 55. (¬3) السير 4/ 576. (¬4) حلية الأولياء 2/ 370. (¬5) صفة الصفوة 3/ 117. (¬6) السير 10/ 97.

أتأمن ما يكون بغير شك وتخشى ما ترجحه الظنونُ (¬1) قال أبو صالح حمدون بن احمد: كفايتك تساق إليك من غير تعب ولا نصب, وإنما التعب في الفضول (¬2). وما يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل قال عطاء بن مسلم: عاش داود الطائي عشرين سنة بثلاثمائة درهم (¬3). خذ القناعة من دنياك, وارض بها ... لو لم يكن لك إلا راحة البدن (¬4) أخي المسلم: أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة تركُ ما فيها فلا الإقامة تنجي النفس من تلف ... ولا الفرار من الأحداث ينجيها ¬

_ (¬1) جنة الرضا 1/ 63. (¬2) صفة الصفوة 4/ 122. (¬3) السير 7/ 424. (¬4) موارد الظمآن 3/ 493.

وكل نفس لها زرو يصبِّحها من المنية يوماً أو يمسيها قال عمرو بن دينار: ما رأيت الدينار والدرهم عند احد أهون منه عند الزهري, كأنها بمنزلة البعر (¬1). وعن النعمان بن حميد قال: دخلت مع خالي على سلمان الفارسي بالمدائن, وهو يعمل الخوص, فسمعته يقول: اشتري خوصاً بدرهم, فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم, فأعيد درهماً فيه, وأنفق درهماً على عيالي, وأتصدق بدرهم (¬2). العيش ساعات تمرّ وخطوب أيام تكرّ اقنع بعيشك ترضه واترك هواك تعيش حرّ فلرب حتف ساقه ذهب وياقوت ودرّ (¬3) قال سفيان الثوري: العالم طبيب الدين, والدرهم داء الدين, فإذا اجترَّ الطبيب الداء إلى متى يداوي غيره؟ (¬4). وفي الحكم المنثورة: بشر مال البخيل بحادث, أو وارث (¬5). كان المسور بن مخرمة قد احتكر طعاماً كثيراً, فرأى سحاباً في الخريف فكرهه, فقال: ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين؟ فإلى, ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ 1/ 109. (¬2) صفة الصفوة 1/ 541. (¬3) الإحياء 3/ 25. (¬4) تذكرة الحفاظ 1/ 204. (¬5) مكاشفة القلوب ص 124.

أن لا يربح فيه شيئاً, فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر: جزاك الله خيراً (¬1). المرء يجمع, والزمان يفرق ... ويظل يرقع والخطوب تمزق كان حماد بن سلمة في سوقه, فإذا ربح في ثوب حبة أو حبتين شد جيوبه وقام (¬2). سهرت أعين ونامت عيون ... لأمور تكون أو لا تكون فاطرد الهم ما استطعت عن الـ ... ـنفس فحملانك الهموم جنون إن رباً كفاك بالأمس ما كا ... ن سيكفيك في غدٍ ما يكون عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ضُرب الدينار, والدرهم, أخذه إبليس ووضعه على عينيه وقال أنت ثمرة قلبي وقُرة عيني بك أطغي, وبك أكفر, وبك أدخل الناس النار, رضيت من ابن آدم بحب الدنيا أن يعبدني (¬3). وقال بعض البلغاء: خير الأموال, ما أخذته من الحلال, وصرفته في النوال, وشر الأموال, ما أخذته من الحرام وصرفته في ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم ص 132. (¬2) شذرات الذهب 1/ 262. (¬3) صفة الصفوة 1/ 757.

الآثام (¬1). كان الليث بن سعد يستغل عشرين ألف درهماً في كل سنة وقال: ما وجبت عليَّ زكاة قط. وقال حسان بن أبي سنان: لولا المساكين ما اتَّجرت (¬2). وقال يونس بن عبيد: إنما درهمان, درهم أمسكت عنه حتى طُلب لك فأخذته, ودرهم وجب لله تعالى عليك فيه حق فأديته (¬3). ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين ص 214. (¬2) حلية الأولياء 3/ 116. (¬3) حلية الأولياء 3/ 17.

ترك التجارة للعبادة

ترك التجارة للعبادة قال -عز وجل- محذرًا من الانشغال عن الطاعة والعبادة بأمور الدنيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. قيل لبشر بن الحارث: بالله يا أبا نصر أيهما أحلى، الدنانير أو الدراهم؟ قال: الطاعة والله أحلى منهما جميعًا (¬1). وقال خلف بن حوشب: كنت مع الربيع بن أبي راشد في الجبانة فقرأ رجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج: 5] فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير من التجارة، فلو فارق ذكر الموت قلبي ساعة، لخشيت أن يفسد عليَّ قلبي. ولولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت (¬2). قال أبو الدرداء: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا تاجر، فأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة، والذي نفس أبي الدرداء بيده، ما احب أن أملك حانوتًا على باب المسجد لا يخطئني فيه صلاة، وأربح فيه كل يوم أربعين دينارًا، وأتصدق بهما كلها في سبيل الله، قيل له: يا أبا الدرداء ما ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 421. (¬2) صفة الصفوة 3/ 109.

تكره من ذلك؟ قال: شدة الحساب (¬1). قال أبو الدرداء اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أن قليلاً يغنيكم، خير من كثير يلهيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وإن الإثم لا ينسى. وكان الفضيل بن عياض يقول: أصلح ما أكون أفقر ما أكون، وأني لأعصي الله أعرف ذلك في خلق حماري وخادمي (¬2). وقال أبو علي الثقفي: يا من باع كل شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء. وقال: أف من أشغال الدنيا إذا أقبلت، وأف من حسرتها إذا أدبرت (¬3). فلو كانت الدنيا تنال بقطنة ... وفضل ونقل نلت أعلى المراتب ولكنما الأرزاق حظ وقسمة ... بفضل مليك لا بحلية طالب قال أبو حازم سلمة بن دينار: يسير الدنيا يشغل عن كثرة الآخرة (¬4). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 209. (¬2) صفة الصفوة 2/ 238. (¬3) السير 15/ 282. (¬4) صفة الصفوة 2/ 166.

يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما ... أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس إكرامًا (¬1) وقال مالك بن دينار: السوق مكثرة للمال، مذهبة للدين (¬2). أخي المسلم: قال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر في التجارة والإمارة، حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه؛ فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فظل يتطير بقوله: سبني فلان وأهانني فلان. وما هو إلا فضل الله -عز وجل- (¬3). قال أبو حازم سلمة بن دينار: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها في أوان كسادها، فإنه لو جاء يوم نفاقها لم تصل منها إلى قليل ولا كثير (¬4). وقال عبد الرحمن بن مهدي: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا عللاً كثيرة، فدخل قلبي من ذلك شيء، فتركته لله، وخرجت منه، فما خرجت من الدنيا حتى رد الله علي ذاك المال، عامته إليَّ وإلى ولدي، زوج أخي ¬

_ (¬1) السير 17/ 20. (¬2) حلية الأولياء 2/ 385. (¬3) جامع العلوم والحكم ص 228. (¬4) صفة الصفوة 2/ 163.

ثلاث بنات من بني، وزوجت ابنتي من ابنه، ومات أخي فورثه أبي، ومات أبي فورثته أنا فرجع إليَّ وإلى ولدي في الدنيا (¬1). تجرد من الدنيا فإنك إنما ... خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد (¬2) أخي المسلم: قال الحسن: مسكين ابن آدم رضي بدار حلالها حساب، وحرامها عذاب، إن أخذه من حله حوسب به، وإن أخذه من حرام عذب به، ابن آدم يستقل ماله، ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه، ويجزع من مصيبته في دنياه (¬3). وقيل لعبد الله بن عمر: توفي فلان الأنصاري. قال رحمه الله. فقيل: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه (¬4). أموالنا لذي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها تلك المنازل في الآفاق خاوية ... أضحت خرابًا وضاق الموت بانيها قال أبو الدرداء: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ، ما أنصفنا إخواننا ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 4/ 6. (¬2) وفيات الأعيان 5/ 54. (¬3) الإحياء 3/ 224. (¬4) الزهد لابن السري 10/ 335.

الأغنياء، يحنوننا على الدين، ويعاودوننا على الدنيا (¬1). أخي المسلم: غوائل المال وآفاته، تنقسم إلى دينية ودنيوية: أما الدينية فثلاث: الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالبًا؛ لأن من استشعر القدرة على المعصية، انبعثت داعيته إليها. والمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي، ومتى يئس الإنسان من المعصية، لم تتحرك داعيته إليها. ومن العصمة أن لا تجد، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهي هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء. الثانية: أنه يحرك إلى التنعم في المباحات، حتى تصير له عادة وإلفًا، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى آفات من المداهنة والنفاق؛ لأن من كثر ماله خالط الناس، وإذا خالطهم لم يسلم من نفاق وعداوة وحسد وغيبة، وكل ذلك من الحاجة إلى إصلاح المال. الثالثة: وهي التي لا ينفك عنها أحد، وهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله -تعالى- والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلبًا فارغًا. وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكرًا في خصومة الفلاحين، ¬

_ (¬1) السير 2/ 350.

ومحاسبتهم وخيانتهم، ويتفكر في منازعة شركائه في الحدود والماء، وأعوان السلطان في الخراج، والأجراء على التقصير في العمارة، ونحو ذلك. وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكرًا في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وتضييعه المال. وكذا سائر أنواع المال، حتى صاحب المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه، وفي الخوف عليه. ومن له قوت يوم بيوم فهو سلامة من جميع ذلك، وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا، من الخوف، والحزن، والهم، والغم، والتعب. فإذا ترياق المال أخذ القوت منه، وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وآفات (¬1). قال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما في ماله (أي في مال الإنسان) عند موته، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله. يريد المرء أن يعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا ... يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أكرم ما استفادا (¬2) ¬

_ (¬1) مختصر منهاج القاصدين 4/ 2 وما بعدها. (¬2) طبقات الشافعية 2/ 184.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أبو الدرهمين أشد حبسًا، أو قال أشد حسابًا من ذي الدرهم (¬1). ¬

_ (¬1) الإحياء 4/ 210.

بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي تكتسب به صفة القناعة

بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي تكتسب به صفة القناعة اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان: الصبر، والعلم، والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور: الأول: الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، فمن أراد القناعة، فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخرج ما أمكنه، ويرد نفسه إلى ما لا بد له منه، فيقنع بأي طعام كان، وقليل من الإدام، وثوب واحد، ويوطن نفسه على ذلك، وإن كان له عيال، فيرد كل واحد إلى هذا القدر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما عال من اقتصد» (¬1) وفي حديث آخر: «التدبير نصف العيش»، وفي حديث آخر: «ثلاث منجيات: خشية الله -تعالى- في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضى والغضب». الثاني: إذا تيسر له في الحال ما يكفيه، فلا يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين، بأن رزقه لا بد أن يأتيه، وليعلم أن الشيطان يعده الفقر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي، أنه ليس من نفس تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا ¬

_ (¬1) رواه أحمد.

يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله -عز وجل-، إنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته». وإذا انسد عنه باب كان ينتظر الرزق منه، فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فإن في الحديث: «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب». الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الطمع والحرص من الذل. وليس في القناعة إلا الصبر عن المشتهيات والفضول، مع ما يحصل له من ثواب الآخرة، ومن لم يؤثر عز نفسه عن شهوته، فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان. الرابع: أن يكثر تفكره في تنعم اليهود والنصارى وإرذال الناس، والحمقى منهم، ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والصالحين، ويسمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم، ويخير عقله بين مشابهة أرذال العالمين، أو صفوة الخلق عند الله -تعالى- حتى يهون عليه الصبر على القليل، والقناعة باليسير، وأنه إن تنعم بالأكل فالبهيمة أكثر أكلاً منه، وإن تنعم بالوطء فالعصفور أكثر سفادًا منه. الخامس: أن يفهم ما في المال من الخطر، كما ذكرنا في آفات المال، وينظر إلى ثواب الفقر، ويتم ذلك بأن ينظر أبدًا إلى من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين، كما جاء في الحديث من رواية مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله

عليكم» (¬1). وعماد الأمر: الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل لتمتع دائم، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لما يرجو من الشفاء. كان الأوزاعي الفقيه كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات: المال ينفذ حله وحرامه ... يومًا ويبقى بعده آثامه ليس التقي بمتق لإلهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يجني ويكسب آجله ... ويطيب من لفظ الحديث كلامه نطق النبي لنا به عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه (¬2) رزقنا الله جميعًا الرزق الحلال الطيب المبارك، وجعل ما في أيدينا عونًا على الطاعة، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. *** ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) طبقات الحنابلة 1/ 405، أدب الدنيا ص 214.

§1/1