الرد على من ينكر حجية السنة

عبد الغني عبد الخالق

[القِسْمُ الثَّالِثُ] (*): بَيَانُ الشُّبَهِ التِي أَوْرَدَهَا بَعْضُ مَنْ يُنْكِرُ حُجِيَّةَ السُنَّةِ وَالرَدِّ عَلَيْهَا: تأليف الدكتور / عبد الغني محمد عبد الخالق

_ (*) هذا هو القسم الثالث من كتاب (دفاع عن السنة، لأبي شهبة)، وهو فصل من الكتاب المهم (حجية السنة) لعبد الغني عبد الخالق، رحمهما الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم قد تبين مما تقدم (*) أن حُجِّيَّةَ السُنَّةِ [ضرورة] دينية. وتبين لك أدلة حجيتها بأجلى بيان: بحيث لا يبقى معه في قلب مؤمن شبهة أو شك. غير أن بعض من تظاهر بالإسلام والمحافظة عليه، وتطهيره مما طرأ عليه من تغيير وتبديل - يورد لضعاف العقول من المسلمين شبهًا يبطل بها حُجِّيَّةَ السُنَّةِ. وإن ممن تأثر بهذه الشبهة الدكتور محمد توفيق صدقي: حيث أخض ينشرها في مجلة " المنار " (¬1)، ويزكيها ويدافع عنها تحت عنوان «الإسلام هو القرآن وحده» ظنًا منه أنه بذلك يخدم دينه ويدافع عنه. ولو أننا ضربنا صفحًا عن حكاية هذه الشبه، وبيان فسادها، لكان منا رأيًا متينًا، ومذهبًا صحيحًا. إذ الإعراض عن القول المُطَّرَحِ أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجهال عليه. غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد هذه الشبهة، وَرَدِّ هذه الأقوال بقدر ما يليق بها من الرد، أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله» (¬2). فلا يتأثر بها شخص آخر مثله: ممن هو بعيد عن الفقه وأصوله ولا يدري م الدين وتعاليمه إلا القشور. ... ¬

_ (*) مما هو جدير بالتنويه إليه أن هذا البحث الماتع هو فصلة من كتاب يعد بحق مفخرة مصنفات القرن الرابع عشر الهجري، ألا وهو " حُجِّيَّةَ السُنَّةِ". الناشر. (¬1) ص 9 ع 7 ص 515 وع 12 ص 913، 914. (¬2) اقتباس (بتصرف يسير) من كلام مسلم بن الحجاج في مقدمة " صحيحه ": ج 1 ص 22.

الشبهة الأولى: قولهم بأن الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين:

الشُبْهَةُ الأُولَى: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الكِتَابَ قَدْ حَوَى كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ... : أن الله تعالى يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) ويقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬2). وذلك يدل على أن الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكل حكم من أحكامه، وأنه قد بينه بيانًا تامًا، وفصله تفصيلاً واضحًا: بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر مثل السُنَّةِ ينص على حكم من أحكام الدين أو يبينه ويفصله، وإلا: لكان الكتاب مفرطا فيه، ولما كان تبيانا لكل شيء، فيلزم الخلف في خبره تعالى. وهو محال. ... الجواب: أنه ليس المراد من الكتاب - في الآية الأولى -: القرآن، بل المراد به: اللوح المحفوظ، فإنه الذي حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام، كما قال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة عقب قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (¬3). فإن أظهر الأقوال - في معنى المثلية هنا: أن أحوال الدواب من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاء، موجودة في الكتاب المحفوظ مثل أحوال البشر في ذلك كله. ولو سلمنا أن المراد به القرآن - كما هو في الآية الثانية: فلا يمكن حمل الآيتين على ظاهرهما: من العموم، وأن القرآن اشتمل على بيان وتفصيل كل شيء، وكل حكم، سواء أكان ذلك من أمور الدين أم من أمور الدنيا، وأنه لم يفرط في ¬

_ (¬1) [سورة الأنعام، الآية: 38]. (¬2) [سورة النحل، الآية: 89]. (¬3) [سورة الأنعام، الآية: 38].

شيء منها جميعها. وإلا للزم الخلف في خبره تعالى. كما هو ظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية، وكما يعلم مما سبق في بيان أن القرآن يتعذر العمل به وحده بالنسبة للأحكام الدينية. فيجب العدول عن ظاهرهما، وتأويلهما. وللعلماء في تأويلهما وجوه: الوجه الأول: أن المراد: أنه لم يفرط في شيء من أمور الدين وأحكامه، وأنه بَيَّنَهَا جميعها دون ما عداها، لأن المقصود من إنزال الكتاب: بيان الدين، ومعرفة الله، ومعرفة أحكام الله إلا أن هذا البيان على نوعين: بيان بطريق النص، وذلك: مثل بيانه أصول الدين وعقائده، وبيانه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحل البيع والنكاح، وحرمة الربا والفواحش، وحل أكل الطيبات وحرمة أكل الخبائث. وبيان بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابة أدلة وَحُجَجًا على خلقه. فكل حكم - مما بينته السنة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة: فالقرآن مبين له. لأنه بين مدركه ووجهنا نحوه، وأرشدنا إليه، وأوجب علينا العمل به. ولولا إرشاده لهذا المدرك، وإيجابه العمل بمقتضاه: لما علمنا ذلك الحكم وعملنا به. فالقرآن إذن هو: أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية بهذا المعنى. قال الشافعي (¬1): " فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. قال الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬2) وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3)، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ¬

_ (¬1) في صدر " الرسالة ": ص 20. (¬2) [سورة إبراهيم، الآية: 1]. (¬3) [سورة النحل، الآية: 44].

وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬1) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). «والبيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشبعة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشبعة: أنها بيان لمن خوطب بها - ممن نزل القرآن بلسانه - متقاربة الاستواء عنده وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض. ومختلفة عند من يجهل لسان العرب». «فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم به بما مضى في حكمه جل ثناؤه - من وجوه: (فمنها): ما أبانه لخلقه نَصًّا. مثل جمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وَحَجًّا وَصَوْمًا، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وَبَيَّنَ لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بين نَصًّا». «ومنها: ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه». «ومنها: ما سن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابة طاعة رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والانتهاء إلى حكمه. فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل». «ومنها: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم. فغنه يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬3)، ¬

_ (¬1) [سورة النحل، الآية: 89]. (¬2) [سورة الشورى، الآية: 52]. (¬3) [سورة محمد، الآية: 31].

وقال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} (¬1)، وقال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (¬2)، إلى آخر ما قال. ثم قال: (¬3) «البيان الرابع: كل ما سَنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب. وفيما كتبنا في كتابنا هذا - من ذكر ما مَنَّ الله به على العباد: من تعلم الكتاب والحكمة - دليل على أن الحكمة سُنَّةُ رسول الله، مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله وبين من موضعه الذي وضعه الله به من دينه - الدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه: (منها): ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره. (ومنها): ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله. فبين رسول الله عن الله: كيف فرضه وعلى من فرضه؟ ومتى؟ يزول بعضه ويثبت ويجب؟ (ومنها): ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب، وكل شيء منها بيان في كتاب الله، فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه: قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته. فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبل بها عنهما. كما أحل وحرم وفرض وحد بأسباب متفرقة. كما شاء - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬4) [الأنبياء: 23]. اهـ. ومن هذا الكلام الأخير تعلم الجواب عما قاله الدكتور صدقي في مقاله (¬5): «لم كان بعض الدين قرآنا والبعض الآخر حديثا؟ وما الحكمة في ذلك؟». ¬

_ (¬1) [سورة آل عمران، الآية: 154]. (¬2) [سورة الأعراف، الآية: 129]. (¬3) ص 32. (¬4) [سورة الأنبياء، الآية: 23]. (¬5) س 9 ع 7 ص 515.

وقد حكي أن الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - كَانَ جَالِسًا فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ فَقَالَ: «لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَجَبْتُكُمْ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ»، فَقَالَ رَجُلٌ: «مَا تَقُولُ فِي المُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ الزُّنْبُورَ؟» فَقَالَ: «لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ»، فَقَالَ: «أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ؟» فَقَاَل: قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... }. ثم ذكر إسنادًا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» ثم ذكر إسنادًا إلى عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: «لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزَّنْبُورِ». فأجابه من كتاب الله مستنبطًا بثلاث درجات، وقد حكي عن ابن مسعود في لعنة الواشمة والمستوشمة نحو ذلك مما تقدم ذكره (*). قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَيْسَ [لِلْجَلْدِ] (**) وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَيْنُ كِتَابِ اللَّه وقد روي في حديث العسيف الزاني: " أن أباه قال للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقض بيننا بكتاب الله. فقال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: «وَلَيْسَ [لِلْجَلْدِ] (**) وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَيْنُ كِتَابِ اللَّه» (¬1). اهـ. ... الوجه الثاني: أن الكتاب لم يُفَرِّطْ في شيء من أمور الدين على سبيل الإجمال، وَبَيَّنَ جميع كليات الشريعة دون النص على جزئياتها وتفاصيلها. ومن المعلوم أنَّ ذلك لا يكفي في استنباط المجتهد مَا يُقَوِّمَ العبادة، وَيُحرِّرُ المُعَامَلَةَ. فَلاَ بُدَّ له من الرجوع إلى مَا يُبيِّنُ له المُجْمَلَ وَيُفَصِّلَهُ لَهُ، وَيُبيِّنُ جزئيات هذه الكليات. وسيأتي عند الكلام على كون السُنَّة مُسْتَقِلَّةٌٌ بالتشريع - بيان آراء العلماء في هذا الوجه. قال أبو سليمان الخطابي - في " معالم السُنن " (¬2) - «سمعتُ ابن الأعرابي ¬

_ (¬1) انظر " تفسير الفخر الرازي ": ج 4 ص 40، 41. (¬2) ج 1 ص 8. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر في قول عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ص 16 من هذا الكتاب. (**) في الكتاب المطبوع وردت كلمة (لِلْرَّجْمِ) بينما هي في " تفسير الرازي " (لِلْجَلْدِ) كما أثبتها، انظر " مفاتيح الغيب " للفخر الرازي: 12/ 528، الطبعة الثالثة: 1420 هـ، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.

يقول ونحن نسمع منه هذا الكتاب (يعني " سنن أبي داود ") فأشار إلى النسخة وهي بين يديه: «لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب: لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة. وهذا كما قال شك فيه: لأن الله تعالى أنزل كتابه تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَالَ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلا أن البيان على ضربين: بيان جَلِيٌّ تناوله الذكر نَصًّا، وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمنا، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولا إلى النبي وهو معنى قوله سبحانه: لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان». اهـ. الوجه الثالث - وقد حكاه الألوسي (¬2) عن بعضهم -: أن الأمور إما دينية أو دنيوية. والدنيوية لا اهتمام للشارع بها: إذ لم يبعث له. والدينية إما أَصْلِيَّةٌ أَوْ فَرْعِيَّةٌ. والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية: فإن المطلوب أولاً بالذات من بعثة الأنبياء هو التوحيد وما أشبهه، بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى، كما يشهد له قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (¬3) بناء على تفسير كثير " العبادة ": بالمعرفة. وقوله تعالى - في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية: «كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ. فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لأُعَرِّفَ» (*) والقرآن العظيم: قد تكفل بالأمور الدينية الأصلية على أتم وجه. فليكن المراد من «كُلِّ شَيْءٍ» ذلك. ¬

_ (¬1) [سورة الأنعام، الآية: 38]. (¬2) في " تفسيره ": ج 14 ص 197. (¬3) [سورة الذاريات، الآية: 56]. (*) قال ابن عراق في " تنزيه الشريعة ": ج 1 ص 148: قال ابن تيمية: «موضوع» [الناشر].

الشبهة الثانية: قولهم إن الله تكفل بحفظ القرآن دون السنة:

الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرْآنِ دُونَ السُنَّةِ ... : أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السُنَّةِ. كما يدل عليه قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) ولو كانت السُنَّةُ حُجَّةً ودليلاً مثل القرآن: لتكفل الله بحفظها اَيْضًا. ... الجَوَابُ: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الشريعة كلها: كتابها وسنتها. كما يدل عليه قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2). ونور الله: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الذي ارتضاه للعباد وكلفهم به وضمنه مصالحهم، والذي أوحاه إلى رسوله - من قرآن أو غيره -: ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وأما قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فللعلماء في ضمير الغيبة فيه - قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يصح التمسك بالآية حينئذ. ثانيهما: أنه يرجع إلى الذكر، فإن فسرناه بالشريعة كلها - من كتاب وسنة - فلا تمسك بها اَيْضًا. وإن فسرناه بالقرآن فلا نسلم أن في الآية حصرا حَقِيقِيًّا. أي: بالنسبة لكل ما عدا القرآن. فإن الله تعالى قد حفظ أشياء كثيرة مما عداه: مثل حفظه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الكيد والقتل، وحفظه العرش والسموات والأرض من الزوال إلى أن تقوم الساعة. والحصر الإضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص، يحتاج إلى دليل وقرينة على هذا الشيء المخصوص ولا دليل عليه سواء أكان سنة أم غيرها. ¬

_ (¬1) [سورة الحجر، الآية: 9]. (¬2) [سورة التوبة، الآية: 32].

فتقديم الجار والمجرور ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رؤوس الآي. بل: لو كان في الآية حصر إضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص: لما جاز أن يكون هذا الشيء هو السُنَّةُ. لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها، ومستلزم له: بما أنها حصنه الحصين، ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين: تفصل مجمله، وتفسر مشكله، وتوضح مبهمه، وتقيد مطلقه، وتبسط مختصره. وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما تمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانة له. ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن: فلم يذهب منها - وَللهِ الحَمْدُ - شيء على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة. قال الشافعي (¬1) في صدد الكلام على لسان العرب: «ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه». «والعلم به - عند العرب - كالعلم بالسنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلا جمع السنن: فلم يذهب منها عليه شيء». «فإذا جُمِعَ علم عامة أهل العلم بها: أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم: ذهب عليه الشيء منها. ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره». «وهم في العلم طبقات: (منهم): الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه ¬

_ (¬1) في " الرسالة ": ص 42، 43.

(ومنهم): الجامع الأقل مما جمع غيره. وليس قليل ما ذهب - من السنن - على من جمع أكثرها: دليلاً على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم. بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله (بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي): فيتفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها». اهـ. وكما أن الله تعالى قيض للكتاب العزيز، العدد الكثير والجم الغفير: من ثقات الحفظة، في كل قرن -: لينقلوه كاملاً من السلف إلى الخلف: كذلك قيض سبحانه للسنة الشريفة مثل هذا العدد - أو أكثر -: من ثقات الحفظة، فقصروا أعمارهم - وهي الطويلة - على البحث والتنقيب عن الصحيح من حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ينقلونه عمن كان مثلهم في الثقة والعدالة، إلى أن يصلوا إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. حتى ميزوا لنا الصحيح من السقيم، ونقلوه إلينا: سليمًا من كل شائبة، عَارِيًا عن أي شك وشبهة، واستقر الأمر، وأسفر الصبح لذي عينين. ولأن الله تعالى قد حفظ سنة رسوله كما حفظ القرآن، وجعلها حصنه ودرعه، وحارسه وشارحه -: كانت الشجي في حلوق الملحدين، والقذى في عيون المتزندقين، والسيف القاطع: لِشُبَهِ المنافقين، وتشكيكات الكائدين. فلا غرو إذا لم يألوا جُهْدًا، ولم يدخروا وُسْعًا: في الطعن في حجيتها، والتهوين من أمرها، والتنفير من التمسك بها، والاهتداء بهديها: لينالوا من القرآن ما يريدون، ومن هدم الدين ما ينشدون، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬1). ... ¬

_ (¬1) [سورة التوبة، الآية: 32].

الشبهة الثالثة: قولهم: لو كانت السنة حجة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها ولعمل الصحابة والتابعون على جمعها وتدوينها!!:

الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ السُنَّةُ حُجَّةً لأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَتِهَا وَلَعَمِلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عَلَى جَمْعِهَا وَتَدْوِينِهَا!!: [قَالُوا]: لو كانت السنة حجة لأمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابتها، ولعمل الصحابة والتابعون - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - من بعد على جمعها وتدوينها. فإن حجيتها تستدعي الاهتمام بها والعناية بحفظها والعمل على صيانتها حتى لا يعبث بها العابثون ولا يبدلها المبدلون - ولا ينساها الناسون ولا يخطئ فيها المقصرون. وحفظها وصيانتها إنما يكون بالأمر بتحصيل سبيل القطع بثبوتها للمتأخرين. فإن ظني الثبوت لا يصح الاحتجاج به كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬1) وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} (¬2) ولا يحصل القطع بثبوتها إلا بكتابتها وتدوينها كما هو الشأن في القرآن. لكن التالي باطل. فإن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقتصر على عدم الأمر بكتابتها بل تعدى ذلك إلى النهي عنها والأمر بمحو ما كتب منها. وكذلك فعل الصحابة والتابعون. ولم يقتصر الأمر منهم على ذلك بل امتنع بعضهم من التحديث بها أو قَلَّلَ منه ونهى الآخرين عن الإكثار منه. ولم يحصل تدوينها وكتابتها إلا بعد مضي مدة طويلة تكفي لأن يحصل فيها من الخطأ والنسيان والتلاعب والتبديل والتغيير ما يورث الشك في أي شيء منها وعدم القطع به ويجعلها جديرة بعدم الاعتماد عليها وأخذ حكم منها. فهذا الذي حصل من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن الصحابة والتابعين يدل على أن الشارع قد أراد عدم حصول سبيل القطع بثبوتها. وهذه الإرادة تدل على أنه لم يعتبرها وأراد أن لا تكون حجة. وإليك من الأحاديث والآثار ما يقنعك بما ادعينا حصوله من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة والتابعين: روى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي، وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». ¬

_ (¬1) [سورة الإسراء، الآية: 36]. (¬2) [سورة الأنعام، الآية: 116]، [سورة يونس، الآية: 66]، [سورة النجم، الآية: 23]، [سورة النجم، الآية: 28].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا نَكْتُبُ مَا نَسْمَعُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «مَا هَذَا تَكْتُبُونَ؟» فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ مِنْكَ، فَقَالَ: «أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللهِ؟» فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ، فَقَالَ: «أَكِتَابٌ [غَيْرُ] كِتَابَ اللهِ امْحِضُوا كِتَابَ اللهِ، [وَأَخْلِصُوهُ]» قَالَ: فَجَمَعْنَا مَا كَتَبْنَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَحْرَقْنَاهُ بِالنَّارِ، قُلْنَا: أَيْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَتَحَدَّثُ عَنْكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ تَحَدَّثُوا عَنِّي وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَحَدَّثُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: " نَعَمْ، تَحَدَّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَحَدَّثُونَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَعْجَبَ مِنْهُ». وروى أبو داود عَنِْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، [عَلَى] مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ [فَأَمَرَ إِنْسَانًا يَكْتُبُهُ]، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ لاَ نَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ». فَمَحَاهُ. وأخرج الحاكم عن القاسم بن محمد أنه قال: قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانت خمسمائة حديث. فبات ليلة يتقلب كثيرا. فغمني فقلت: تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك فلما؟ أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك. فجئته بها. فدعا بنار فأحرقها وقال: «خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ وَهِيَ عِنْدَكِ فَيَكُونُ فِيهَا أَحَادِيثٌ عَنْ رَجُلٍ اِئْتَمَنْتُهُ وَوَثِقْتُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَمَا حَدَّثَنِي. فَأَكُونُ قَدْ تَقَلَّدْتُ ذَلِكَ». وأخرجه اَيْضًا أبو أمية الأحوص بن المفضل الغلابي، عن القاسم أو ابنه عبد الرحمن. وزاد: «وَيَكُونُ قَدْ بَقِيَ حَدِيثٌ لَمْ أَجِدْهُ». (¬1) فيقال: لو كان قاله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما خفي على أبي بكر. «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ الحَدِيثَ وَلاَ أَدْرِي لَعَلِّي لَمْ أَسْمَعْهُ حَرْفًا حَرْفًا». ذكره في " منتخب كنز العمال ". وذكره الذهبي في " التذكرة " (*) عن الحاكم بنحو الرواية الأولى، وقال: «فَهَذَا لاَ يَصِحُّ» ¬

_ (¬1) قال ابن كثير: «هذا غريب من هذا الوجه جدًا، وعلي بن صالح [أحد رجال سند الروايتين] لا يعرف؛ والأحاديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من هذا المقدار بألوف، ولعله إنما اتفق له جمع تلك فقط، ثم رأى ما رأى لما ذكر». وتعقبه السيوطي: بأنه لعله جمع ما فاته سماعه من النبي وحدثه به بعض الصحابة والظاهر أنه لا يزيد على المقدار، ثم خشي أن يكون الذي حدثه وهم. --------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ذكر الذهبي في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 5 وأورده بسند الحاكم ثم عَقَّبَ على ذلك بفوله: «فَهَذَا لاَ يَصِحُّ»، قارن بما ورد في ص 179 من هذا الكتاب. ويقول الشيخ المعلمي اليماني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: « ... لَكِنَّ الخَبَرَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ»، انظر " الأنوار الكاشفة ": ص 38، طبعة سنة: 1406 هـ / 1986 م، نشر المطبعة السلفية ومكتبتها / عالم الكتب. بيروت - لبنان.

وقال الحافظ الذهبي في " التذكرة ": ومن مراسيل ابن أبي مليكة أَنَّ الصِدِّيقَ جَمَعَ النَّاسَ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهِمْ فَقَالَ: «إِنَّكُم تُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ تَخْتَلِفُونَ فِيهَا وَالنَّاسُ بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلاَفاً. فَلاَ تُحَدِّثُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئاً. فَمَنْ سَأَلَكُمْ فَقُولُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنكُمْ كِتَابُ اللهِ. فَاسْتَحِلُّوا حَلاَلَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ» (¬1). وروى ابن عبد البر عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ العِرَاقَ فَمَشَى مَعَنَا عُمَرُ إِلَى «صِرَارٍ» (¬2) فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: " أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ " قَالُوْا: " نَعَمْ نَحْنُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشَيْتَ مَعَنَا "، فَقَالَ: " إِنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَلاَ تَصُدُّوهُمْ بِالحَدِيثِ فَتَشْغَلُوهُمْ، [جَوِّدُوا] القُرْآنَ وَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَامْضُوا وَأَنَا شَرِيكُكُمْ "، فَلَمَّا قَدِمَ قَرَظَةُ قَالُوا: " حَدِّثْنَا "، قَالَ: " نَهَانَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ "» وذكره الذهبي مختصرًا. وروى الذهبي في " التذكرة ": أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ: أَكُنْتَ تُحَدِّثُ فِي زَمَانِ عُمَرَ هَكَذَا فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ أُحَدِّثُ فِي زَمَانِ عُمَرَ مِثْلَ مَا أُُحَدِّثُكُمْ لَضَرَبَنِي بِمِخْفَقَتِهِ» وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: «قَدْ أَكْثَرْتُمْ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وروى البيهقي في " المدخل "، وابن عبد البر، عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَنَ [فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ] أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهَا. فَطَفِقَ عُمَرُ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ اللَّهُ لَهُ، قَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ السُّنَنَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُبًا فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ [أَلْبَسُ] كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا». ¬

_ (¬1) انظر ما علقه الذهبي على هذا الأثر: ج 1 ص 3، 4. (¬2) هو (كما في " القاموس "): موضع بقرب المدينة. وورد في " مذكرة تاريخ الشريع: ص 87 هكذا: «حِرَاءٍ»: وهو خطأ بَيِّنٌ، لأن حراء: غار بمكة كان يتعبد فيه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعمر كان مقيمًا بالمدينة لأنها عاصمة الخلافة.

وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ البَرِّ (*) عَنْ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا، يُحَدِّثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ، أَوْ كَتَبَهَا، ثُمَّ قَالَ: «لاَ كِتَابَ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ». قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ -: «لَمْ يَكُنْ مَعَ ابْنِ شِهَابٍ كِتَابٌ إِلاَّ كِتَابٌ فِيهِ نَسَبُ قَوْمِهِ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَكْتُبُونَ إِنَّمَا كَانُوا يَحْفَظُونَ، فَمَنْ كَتَبَ مِنْهُمُ الشَّيْءَ فَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُهُ لِيَحْفَظَهُ. فَإِذَا حَفِظَهُ مَحَاهُ». وَرَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَّةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لاَ يَكْتُبَهَا، ثُمَّ كَتَبَ فِي الأَمْصَارِ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَمْحُهُ». وَرَوَى عَنْ جَابِرِ [عَنْ] عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَعْزِمُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابٌ إِلاَّ رَجَعَ فَمَحَاهُ، فَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ حَيْثُ تَتَبَّعُوا أَحَادِيثَ عُلَمَائِهِمْ وَتَرَكُوا كِتَابَ رَبِّهِمْ». وَرَوَى عَنْ أَبِي نَضْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ: لَوِ اكْتَتَبْتَنَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: «لاَ نُكْتِبُكُمْ خُذُوا عَنَّا كَمَا أَخَذْنَا عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْتُ لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَلاَ نَكْتُبُ مَا نَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مَصَاحِفَ!، إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُنَا فَنَحْفَظُ، فَاحْفَظُوا كَمَا كُنَّا نَحْفَظُ». وَرَوَى عَنْهُ اَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: إِنَّكَ تُحَدِّثُنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا عَجِيبًا، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ نَزِيدَ فِيهِ أَوْ نَنْقُصَ. قَالَ: «أَرَدْتُمْ أَنْ تَجْعَلُوهُ قُرْآنًا؟، لاَ، وَلَكِنْ خُذُوا عَنَّا كَمَا أَخَذْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَرَوَى عَنْ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «نَحْنُ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نُكْتِبُ». وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا لاَ نَكْتُبُ الْعِلْمَ وَلاَ نُكْتِبُهُ». وَرَوَى عَنْهُ اَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ: «إِنَّمَا [ضَلَّ] مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْكُتُبِ». ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) تصحيح الأخطاء ما بين [ ..... ] الواردة في كتاب " جامع بيان العلم وفضله " الذي نقل عنه المؤلف في هذه الصفحة وما بعدها، اعتمدت فيها على الكتاب المطبوع: " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. الرياض - المملكة العربية السعودية، 1 مج، 1548 صفحة.

وَرَوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ مَرْوَانَ، دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَوْمًا يَكْتُبُونَ وَهُوَ لاَ يَدْرِي، فَأَعْلَمُوهُ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ لَعَلَّ كُلَّ شَيْءٍ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ لَيْسَ كَمَا حَدَّثْتُكُمْ». وَرَوَى عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: «كَتَبْتُ عَنْ أَبِي كِتَابًا [كَبِيرًا] فَقَالَ: " ائْتِنِي بِكُتُبِكَ "، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَغَسَلَهَا». وَرَوَى عَنْ [سُلَيْمِ] بْنِ أَسْوَدَ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: «كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ [- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -] يَكْرَهُ كِتَابَةَ الْعِلْمِ». وَرَوَى عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ قَالَ: «أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ بِصَحِيفَةٍ فِيهَا حَدِيثٌ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَحَاهَا، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا [فَأُخْرِجَتْ]، ثُمَّ قَالَ: «أُذَكِّرُ بِاللَّهِ رَجُلاً يَعْلَمُهَا عِنْدَ أَحَدٍ إِلاَّ أَعْلَمَنِي بِهِ، وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهَا بِدِيرِ هِنْدٍ لَبَلَغْتُهَا، بِهَذَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَكُمْ حِينَ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ». وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ [الأَسْوَدِ]، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَصَبْتُ أَنَا وَعَلْقَمَةُ، صَحِيفَةً فَانْطَلَقَ مَعِي إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بِهَا وَقَدْ زَالَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ تَزُولُ، فَجَلَسْنَا بِالْبَابِ، ثُمَّ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: «انْظُرِي مَنْ بِالْبَابِ»، فَقَالَتْ: «عَلْقَمَةُ وَالأَسْوَدُ»، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُمَا، فَدَخَلْنَا فَقَالَ: «كَأَنَّكُمَا قَدْ أَطَلْتُمَا الْجُلُوسَ؟»، قُلْنَا: «أَجَلْ»، قَالَ: «فَمَا مَنَعَكُمَا أَنْ تَسْتَأْذِنَا؟» قَالاَ: «خَشِينَا أَنْ تَكُونَ نَائِمًا»، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنْ تَظُنُّوا بِي هَذَا إِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ كُنَّا نَقِيسُهَا بِصَلاَةِ اللَّيْلِ»، فَقُلْنَا: «هَذِهِ صَحِيفَةٌ فِيهَا حَدِيثٌ حَسَنٌ»، فَقَالَ: «يَا جَارِيَةُ هَاتِي الطَّسْتَ وَاسْكُبِي فِيهِ مَاءً»، قَالَ: «فَجَعَلَ يَمْحُوهَا بِيَدِهِ (¬1) وَيَقُولُ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (¬2)»، فَقُلْنَا: «انْظُرْ فِيهَا فَإِنَّ فِيهَا حَدِيثًا عَجَبًا»، فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَاشْغِلُوهَا بِالْقُرْآنِ وَلَا تَشْغَلُوهَا بِغَيْرِهِ». وَرَوَى عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُحَدِّثُنَا بِأَحَادِيثَ فَقُمْنَا لِنَكْتُبَهَا، فَقَالَ: «أَتَكْتُبُونَ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي؟» قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: «فَجِيئُونِي بِهِ»، فَدَعَا بِمَاءٍ فَغَسَلَهُ، ¬

_ (¬1) قال أبو عبيد (أحد رواة هذا الأثر): «يروى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد الله».النظر فيها: (انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: ج 1 ص 66 أو " مختصره ": ص 34) (¬2) [سورة يوسف، الآية: 3].

وَقَالَ: «احْفَظُوا عَنَّا كَمَا حَفِظْنَا». وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «[كَتَبَ إِلَيَّ] أَهْلُ الْكُوفَةِ مَسَائِلَ أَلْقَى فِيهَا ابْنَ عُمَرَ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ مَعِيَ كِتَابًا لَكَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ». وفي رواية أخرى: «كُنَّا نَخْتَلِفُ فِي أَشْيَاءَ [فَكَتَبْتُهَا] فِي كِتَابٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهَا ابْنَ عُمَرَ أَسْأَلُهُ عَنْهَا خُفْيًا فَلَوْ عَلِمَ بِهَا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ». وَرَوَى عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَلْقَمَةَ: «اكْتُبْ لِيَ النَّظَائِرَ»، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْكِتَابَ يُكْرَهُ؟»، قَالَ: «بَلَى، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أَحْفَظَهَا ثُمَّ أَحْرِقَهَا». وَرَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: «أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟»، قَالَ: «لاَ» قُلْتُ: «وَإِنْ وَجَدْتُ كِتَابًا أَقْرَأَهُ عَلَيْكَ؟»، قَالَ: «لاَ». وَرَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ [عِنْدَ] عَبِيْدَةَ، فَقَالَ لِي: «لَا تُخَلِّدَنَّ عَنِّي كِتَابًا». وَرَوَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمُرَادِيِّ قَالَ: «لَمَّا حَضَرَ عُبَيْدَةَ الْمَوْتُ دَعَا بِكُتُبِهِ فَمَحَاهَا». وَرَوَى عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ أَنَّهُ دَعَا بِكُتُبِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَمَحَاهَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَخْشَى أَنْ يَلِيَهَا قَوْمٌ يَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا». وَرَوَى عَنِْ الْقَاسِمِ (*): «أَنَّهُ كَانَ لاَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ». وَرَوَى عَنِْ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: «مَا مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا قَطُّ». وَرَوَى عَنِْ االشَّعْبِيَّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَطُّ وَلاَ اسْتَعَدْتُ حَدِيثًا مِنْ إِنْسَانٍ مَرَّتَيْنِ». وفي رواية أخرى زيادة: «وَلَقَدْ نَسِيتُ مِنَ [الْحَدِيثِ] مَا لَوْ حَفِظَهُ إِنْسَانٌ كَانَ بِهِ عَالِمًا». وَرَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ [النَّخَعِي]: «أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ الأَحَادِيثَ فِي الْكَرَارِيسِ» وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ تَكْتُبُوا فَتَتَّكِلُوا». ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) في الكتاب المطبوع ورد خطأ (عن القاسم به محمد)، والصواب (عَنِ الْقَاسِمِ) دون ذكر أبيه، انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال، ص 287، حديث رقم: 366.

الجواب:

وَرَوَى عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: " قُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي أَتَيْتُكَ وَقَدْ جَمَعْتُ الْمَسَائِلَ. فَإِذَا رَأَيْتُكَ كَأَنَّمَا تَخْتَلِسُ مِنِّي وَأَنْتَ تَكْرَهُ الْكِتَابَةَ. قَالَ: «لاَ عَلَيْكَ. فَإِنَّهُ قَلَّ مَا طَلَبَ إِنْسَانٌ عِلْمًا إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ، وَقَلَّ مَا كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إِلاَّ اتَّكَلَ عَلَيْهِ». وَرَوَى عنْ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّالْقَانِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِجَرِيرٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ، «أَكَانَ مَنْصُورٌ (يَعْنِي ابْنَ الْمُعْتَمِرِ) يَكْرَهُ كِتَابَ الْحَدِيثِ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، مَنْصُورٌ، وَمُغِيرَةُ، وَالأَعْمَشُ كَانُوا يَكْرَهُونَ كِتَابَ الْحَدِيثِ». وَرَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَهَابُونَ الكُتُبَ حَتَّى كَانَ الآنَ حَدِيثًا. قَالَ: وَلَوْ كُنَّا نَكْتُبُ لَكَتَبْتُ مِنْ عِلْمِ سَعِيدٍ وَرِوَايَتِهِ شَيْئًا كَثِيرًا». وَرَوَى عَنْ الأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيْئًا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَلاَقَوْنَهُ وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ». وروا هـ ابن الصلاح في " علوم الحديث " (¬1) مختصرًا بلفظ: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا يَتَلَقَّاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ». ... الجَوَابُ: قد اشتملت هذه الشبهة على عدة مسائل حاد فيها صاحبها عن سبيل الحق وتجنب طريق الصواب. فينبغي لنا أن نشرحها مسألة مسألة، ونبين ما في كل منها من خطأ وفساد رأي. حتى تنهار هذه الشبه من جميع نواحيها ويتضح لك بطلانها وتقتنع تمام الاقتناع بفسادها. فنقول: ¬

_ (¬1) ص 171.

إنما تحصل صيانة الحجة بعدالة حاملها:

إِنَّمَا تَحْصُلُ صِيَانَةُ الحُجَّةِ بِعَدَالَةِ حَامِلِهَا: المعول عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والخطأ هو أن يحمله الثقة العدل حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة. وهكذا. سواء أكان الحمل له على سبيل الحفظ للفظه أو الكتابة له أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة ما دامت صفة العدالة متحققة. فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة كان ذلك الغاية والنهاية في المحافظة. وإذا اجتمعت وانتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا ولم يغن فتيلا. ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة. ومن باب أولى ما إذا انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب. فإنا لا نثق حينئذ بشيء من المكتوب. ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة حتى لا يمكننا أن نجزم ولا أن نظن بصحة شيء منهما. بل قد نجزم بمخالفة لأصلهما. قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (¬1). الكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الحُجِّيَةِ: فإذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها - على أي وجه كان حملها - تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحُجِّيَةِ وأن صيانة الحجة غير متوقفة عليها. وأنها ليست السبيل الوحيد لذلك. وهذا أمر واضح كل الوضوح ولكنا نزيده بيانًا وتثبيتًا بما سنذكره من الأدلة. فنقول: أولاً: إنا نعلم أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرسل السفراء من الصحابة إلى القبائل المختلفة ليدعوا الناس إلى الإسلام ويعلموهم أحكامه ويقيموا بينهم شعائره. ولم يرسل مع ¬

_ (¬1) [سورة البقرة، الآية: 79].

كل سفير مكتوبًا من القرآن يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليهم ويلزمهم بها. ولا يستطيع أحد أن يثبت أنه كان يكتب لكل سفير هذا القدر من القرآن. والغالب فيما كان يفعله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أن يكتب للسفير كتابًا يثبت به سفارته ويصحح به بعثته. وفي بعض الأحيان كان يكتب له كتابًا مشتملاً على بعض الأحكام من السُنَّةِ وليس فيه نص قرآني أو فيه نص قرآني إلا أنه لا يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يراد تبليغها. فيتبين لنا من هذا أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرى في عدالة السفير وحفظه لما حفظه من القرآن والسنة - اللذين لم يكتبهما - الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم وإلزامهم اتباعه. وثانيًا: إنا نعلم أن الصلاة - وهي القاعدة الثانية من قواعد الإسلام - لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده. بل لا بد من بيان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولم يثبت أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بفعله وقوله. ولو كانت الكتابة من لوازم الحُجِّيَّةِ لما جاز أن يترك النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الأمر الخطير الذي لا يهتدي إليه المجتهدون من التابعين فمن بعدهم بمحض عقولهم أو باجتهادهم في القرآن - بدون أن يأمر بكتابته التي تقنعهم بالحُجِّيَةِ كما هو الفرض. وثالثًا: إنا قد بينا أن حجية السُنَّةِ ضرورية دينية وزدنا على ذلك أن أقمنا عليها من الأدلة ما لا سبيل إلى إنكار دلالته أو الشك فيه. ومع ذلك لم يأمر - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر منه. ولو كانت الحُجِّيَةُ متوقفة على الكتابة لما جاز له - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يهمل الأمر بها وإيجابها على الصحابة. ثم نقول: لو جاءت اليهود والنصارى لصاحب هذه الشبهة فقالوا له: إن القرآن ليس بحجة. فإنه لم ينزل من السماء مكتوبًا، ولو كان حجة لاهتم الشارع بأمره وأنزله مكتوبًا كما أنزل التوراة والإنجيل فماذا يكون جوابه وهو يذهب أن الكتابة من لوازم الحُجِّيَةِ؟ إن قال لهم: إن عصمة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الخطأ والتبديل

الكتابة لا تفيد القطع:

فيه تغني عن نزوله مكتوبًا. قالوا له: إن موسى وعيسى - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - كانا معصومين اَيْضًا مما ذكرت ومع ذلك اهتم الشارع بكتابيهما فأنزلهما مكتوبين وما ذلك إلا لأن العصمة وحدها لا تغني. وقلنا له نحن معاشر المسلمين من قبلنا: كما أغنت العصمة عن نزوله مكتوبًا تغنينا عدالة الراوي عن كتابة ما هو حجة قرآنًا أو سنة. كل ما في الأمر أن العصمة تفيدنا اليقين والعدالة تفيدنا الظن. والشارع قد تعبدنا بالظن في الفروع ولم يكلفنا بتلمس سبيل اليقين في كل حكم من الأحكام لما في ذلك من الحرج والتعذر {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1). على أن النقلة والحاملين للحجة إذا بلغوا حد التواتر أفادنا نقلهم اليقين، كالعصمة وإن لم يكن على سبيل الكتابة. وكثير من السنة قد نقل على هذا الوجه. وصاحب الشبهة يزعم: أنه لا شيء من السنة بحجة، وأن القرآن وحده هو الحجة. إذن لا بد لصاحب الشبهة - إن كان مسلمًا - أن يعترف معنا أن الكتابة ليست شرطًا في الحُجِّيَةِ. وأن بلوغ الرواة حد التواتر أو عدالتهم وقوة حفظهم - وإن كانوا آحَادًا - قائم كل منهما مقام عصمة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صيانة ما هو حجة وثبوت حجيته. حتى يمكنه أن يرد على اليهود والنصارى ما أوردوه. الكِتَابَةُ لاَ تُفِيدُ القَطْعَ: قد علمت أن كتابة غير العدل لا تفيدنا قطعًا ولا ظنًا. وكذلك إذا كتب العدل وحمل المكتوب إلينا غير عدل. فأما إذا حصلت من عدل وحمل المكتوب إلينا عدل مثله، فإنها لا تفيد القطع بل الظن، لأن احتمال التغيير والخطأ باق وإن كان ضعيفا لوجود العدالة. نعم إن بلغ كل من الكاتبين والحاملين عدد التواتر، استفدنا القطع، وكذلك إذا كتب واحد ¬

_ (¬1) [سورة البقرة، الآية: 286].

الكتابة دون الحفظ قوة:

وأقرا المكتوب جمع بلغ عدد التواتر وحمله عدد مثله. والقطع على كل حال لم نستفده من محض الكتابة وخصوصيتها، وإنما هو من التواتر الكتابي في الحالة الأولى، أو اللفظي بإقرارهم في الحالة الثانية. الكِتَابَةُ دُونَ الحِفْظِ قُوَّةً: ومع أن الكتابة تفيد الظن - على ما علمت فهي دون الحفظ في هذه الإفادة. ولذلك ترى: أن علماء الأصول إذا تعارض حديث مسموع وحديث مكتوب، يُرَجِّحُونَ الأول، قال الآمدي (¬1): «وَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَىَ الْمَرْوِيَِّ فَتَرْجِيحَاتٌ. الأَوَّلَ: أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ أَحَدِ الخَبَرَيْنِ عَنْ سَمَاعِ مِنَ الْنَّبِيِِّ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالرِّوَايَةُ الأُخْرَى عَنْ كِتَابٍ، فَرِوَايَةُ السَّمَاعِ أَوْلَى، لِبُعْدِهَا عَنْ تَطَرُّقِ الْتَّصْحِيْفِ وَالْغَلَطِ». وترى (اَيْضًا): أن علماء الحديث - بعد اتفاقهم على صحة رواية الحديث بالسماع - قد اختلفوا في صحة روايته بطريق المناولة أو المكاتبة. (فمنهم): من أجازها مُحْتَجًّا: بأن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب لأمير سرية كِتَابًا وقال: «لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا». فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في تعاليق البخاري في " صحيحه ". و (منهم): من لم يجزها دافعًا ما تقدم بأن الحجة إنما وجبت بكتاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المذكور، لعدم توهم التبديل والتغيير فيه، لعدالة الصحابي، بخلاف من بعدهم، حكاه البيهقي. وهو دفع ضعيف كما ترى. ولذلك كان الصحيح: صحة الرواية بأحدهما ما دامت العدالة متحققة، وانتفى ما يوجب الشك في المكتوب. قال ابن حجر (¬2): «وَأَقُولُ: شَرْطُ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَكُونَ الكِتَابُ مَخْتُومًا وَحَامِلهُ مُؤْتَمَنًا وَالْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ يَعْرِفُ خَطَّ الشَّيْخِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الدَّافِعَةِ لِتَوَهُّمِ التَّغْيِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ». اهـ. وبالجملة: فالمكاتبة فيها من الاحتمالات أكثر مما في التحديث شفاها. ¬

_ (¬1) في " الإحكام ": ج 4 ص 334. (¬2) في " الفتح ": ج 1 ص 115.

فلذلك وقع الخلاف فيها دونه، وإن كان الصحيح جواز الاعتماد عليها بالشروط التي صرح ببعضها ابن حجر. ... الكتابة دون الحفظ قوة خصوصا من العرب ومن على شاكلتهم: وذلك أنا نعلم: أن العرب كانوا أمة أمية، يندر فيهم من يعرف الكتابة، ومن يعرفها منهم قد لا يتقنها، فيتطرق إلى مكتوبه احتمال الخطأ احتمالا قويا، وإذا أتقنها الكاتب فقد لا يتقن قراءتها القارئ منهم: فيقع في اللبس والخطأ، خُصُوصًا قبل وضع قواعد النقط والشكل والتمييز بين الحروف المعجمة والمهملة، الذي لم يحدث قبل عهد عبد الملك (¬1) بن مروان، ولذلك كان جل اعتمادهم في تورايخهم وأخبارهم ومعاوضاتهم وسائر أحوالهم على الحفظ حتى قويت هذه الملكة عندهم، وندر أن يقع منهم خطأ أو نسيان لشيء مما حفظوه. بخلاف من يعتمد على الكتابة من الأمم المتعلمة المتمرنة عليها: فإنه تضعف فيهم ملكة الحفظ ويكثر عندهم الخطأ والنسيان لما حفظوه، وهذه الحال مشاهدة فيما بيننا: فإنا نجد الأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من البصير، لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ. بخلاف البصير فإنه يعتمد على الكتاب وأنه سينظر فيه عند الحاجة، وكذلك التاجر الأمي قد يعقد من الصفقات في اليوم الواحد نحو المائة ومع ذلك نجده يحفظ جميع ماله عند الغير وما عليه له بدون ما خطأ أو نسيان لدانق واحد. بخلاف التاجر المتعلم الذي اتخذ الدفاتر في متجره واعتمد عليها في معرفة الصفقات وما له وما عليه: فإنا نجده سريع النسيان لما لم يكتبه كثير الخطأ فيه. ونظير ذلك حاسة السمع عند الأعمى: فإنها أقوى منها بكثير عند البصير. لأن الأول لما فقد بصره استعمل سمعه في إدراك أشياء كثيرة كان يميزها بالبصر لو كان بصيرًا. فقوي عنده السمع وكذلك نجد حواس الحيوانات المفترسة من شم وسمع وبصر أقوى منها في الإنسان ¬

_ (¬1) انظر " الوسيط ": ص 133، و " تاريخ القرآن ": ص 67، 68.

بمراحل. لأنها تعتمد على هذه الحواس في حياتها أكثر من اعتماد الإنسان عليها. ولقد ساعد العرب على تقوية ملكة الحفظ عندهم طبيعة جوهم وبساطة معيشتهم، وَحِدَّةَ ذكائهم. وقوة فهمهم لما يحدث بينهم، وَسَعَةَ خِبْرَتِهِمْ بأساليب لسانهم وطرق بيانهم. ... وَخُصُوصًا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ: وهذه حالة العرب في جاهليتهم. فما بالك بالصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - الذين قَيَّضَهُمْ اللهُ لحفظ الشرع وصيانته وحمله وتبليغه لمن بعدهم. وملأ قلوبهم بالإيمان والتقوى والرهبة والخوف: أن يبلغوا من بعدهم شيئًا من أحكام الدين على خلاف ما سمعوا ورأوا من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن غير أن يتأكدوا ويتثبتوا أنه هو الحق من ربهم ومن رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والذين حصلت لهم بركة صحبة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتتلمذوا له وتخرجوا على يديه. واستنارت قلوبهم بنوره، وتأدبوا بأدبه واهتدوا بهديه واستنوا بسنته. ودعا لهم بالحفظ والعلم والفقه كما ورد في أبي هريرة وابن عباس. وقريب من الصحابة في هذا المقام: من اجتمع بهم وشاهد أحوالهم واتبع خطاهم واقتفى آثارهم من التابعين، كل ذلك يكاد ينفي عن سامع الحديث من أحدهم توهم خطأ أو نسيان أو تبديل أو اختلاق. والأخبار التي تدل على قوة الحفظ عند العرب كثيرة يعلمها الخاصة والعامة. ولقد كان كثير من الصحابة والتابعين مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك كابن عباس والشعبي وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِي وَقَتَادَةَ. فكان أحدهم يجتزئ بالسمعة، ألا ترى ما جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي أولها: أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ * ... * ... * غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهْجِرٌ؟ في سمعة واحدة , وهي خمسة وسبعون بيتًا. وما جاء عن الزهري أنه كان

الحفظ أعظم من الكتابة فائدة وأجدى نفعا:

يقول: «إِنِّي لأَمُرُّ بِالْبَقِيعِ فَأَسُدُّ آذَانِي مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الخَنَا. فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَ أُذُنِي شَيْءٌ قَطُّ فَنَسِيتُهُ» وقد جاء نحوه عن الشعبي. وبالجملة: فالحفظ والكتابة يتناوبان في المحافظة على الشيء. وفي الغالب يضعف أحدهما إذا قوي الآخر. ومن هنا نفهم سَبَبًا من الأسباب التي حملت الصحابة على حث تلاميذهم على الحفظ ونهيهم إياهم عن الكتابة، وذلك لأنهم كانوا يرون أن الاعتماد على الكتابة يضعف فيهم ملكة الحفظ. وهي ملكة قد طبعوا عليها , والنفس تميل إلى ما طبعت عليه وتكره ما يخالفه ويضعفه. الحِفْظُ أَعْظَمُ مِنَ الكِتَابِةِ فَائِدَةً وَأَجْدَى نَفْعًا: وبيان ذلك: أن الحفظ في الغالب لا يكون إلا مع الفهم وإدراك المعنى والتحقق منه، حتى يستعين بذلك على عدم نسيان اللفظ ثم إنه يحمل المرء على مراجعة ما حفظه واستذكاره آنًا بَعْدَ آنٍ حتى يأمن من زواله. ثم إن محفوظه يكون معه في صدره في أي وقت وفي أي مكان، فيرجع إليه في جميع الأحوال عند الحاجة ولا يكلفه ذلك الحمل مؤونة ولا مشقة. بخلاف الكتابة: فإنها كثيرا ما تكون بدون فهم المعنى عاجلا وآجلا. أو سببا في عدم الفهم في الحال اعتمادًا على ما سوف يفهم فيما بعد. وقد تضيع عليه الفرصة في المستقبل لضياع المكتوب أو عدم وجوده معه عند الحاجة إليه، أو عدم وجود من يفهمه المكتوب ويشرحه له. ثم إن الكاتب لا يجد في الغالب باعثًا يدعوه إلى مراجعة ما كتبه. ثم إنه يجد مشقة ومؤونة في حمل المكتوب معه في كل وقت ومكان. وبذلك كله يكون نقلة العلم جُهَّالاً. مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا. وأعظم به سببًا في ضياع العلم. وانتشار الجهل. يرشدك إلى ما قررنا قول إبراهيم النخعي المتقدم: «لاَ تَكْتُبُوا فَتَتَّكِلُوا». وقوله: « ... فَإِنَّهُ [قَلَّ مَا] طَلَبَ إِنْسَانٌ عِلْمًا إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ، [وَقَلَّ مَا] كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إِلاَّ اتَّكَلَ عَلَيْهِ». وقول الأوزاعي: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيْئًا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَلاَقَوْنَهُ وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ». وقول بعض

الأعراب: «حَرْفٌ فِي تَامُورِكَ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةٍ فِي كُتُبِكَ». وَقَوْلُ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ رَجُلاً يُنْشِدُ: اسْتَوْدَعَ الْعِلْمَ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ * ... * ... * وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ -: [فَقَالَ يُونُسُ]: «قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشَدَّ صِيَانَتَهُ لِلْعِلْمِ وَصَيَانَتَهُ لِلْحِفْظِ، إِنَّ عِلْمَكَ مِنْ رُوحِكَ، وَإِنَّ مَالَكَ مِنْ بَدَنِكَ، فَصُنْ عِلْمَكَ صِيَانَتَكَ رُوحَكَ، وَصُنْ مَالَكَ صَيَانَتَكَ بَدَنَكَ». وقول الخليل أحمد: لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى الْقِمَطْرُ * ... * ... * مَا الْعِلْمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ وقول محمد بن بشير: أَمَا لَوْ أَعِي كُلَّ مَا أَسْمَعُ * ... * ... * وَأَحَفْظَ مِنْ ذَاكَ مَا أَجْمَعُ وَلَمْ أَسْتَفِدْ غَيْرَ مَا قَدْ جَمَعْتُ * ... * ... * لَقِيلَ هُوَ الْعَالِمُ الْمَقْنَعُ وَلَكِنَّ نَفْسِي إِلَى كُلِّ فَنِّ * ... * ... * مِنَ الْعِلْمِ تَسْمَعْهُ تَنْزَعُ فَلاَ أَنَا أَحْفَظُ مَا قَدْ جَمَعْتُ * ... * ... * وَلاَ أَنَا مِنْ جَمْعِهِ أَشْبَعُ وَمَنْ يَكُ فِي عِلْمِهِ هَكَذَا * ... * ... * يَكُنْ دَهْرَهَ الْقَهْقَرِيَّ يَرْجِعُ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا * ... * ... * فَجَمْعُكَ لِلْكُتْبِ لاَ يَنْفَعُ أَأَحْضُرُ بِالْجَهْلِ فِي مَجْلِسٍ * ... * ... * وَعِلْمِي فِي الْكُتُبِ مُسْتَوْدَعُ وقول أبي العتاهية: مَنْ مُنِحَ الْحِفْظَ وَعَى * ... * ... * مَنْ ضَيَّعَ الْحِفْظَ وَهِمَ وقول منصور الفقيه: عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَّمْتُ أَحْمِلُهُ * ... * ... * بَطْنِي وِعَاءٌ لَهُ لاَ بَطْنَ صُنْدُوقِ إِنْ كُنْتُ فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ مَعِي * ... * ... * أَوْ كُنْتُ فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ

القطع بالقرآن إنما حصل بالتواتر اللفظي:

ومما ذكرنا لك من فضل الحفظ على الكتابة وأنه أجدى نَفْعًا وأعظم فائدة تفهم سَبَبًا آخر من الأسباب التي حملت كثيرًا من الصحابة والتابعين على كراهة كتابة الحديث. فإنهم خافوا ضياع العلم بالاتكال على الكتابة وعدم تفهم المكتوب عَلَى مَا بَيَنَّا. ... القَطْعُ بِالقُرْآنِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ: العمدة في قطعنا بالقرآن وبجميع ألفاظه إنما هو التواتر اللفظي وهو وحده كاف في ذلك. والكتابة لا دخل لها في هذا القطع ولم يتوقف عليها ولم ينشأ عنها. وإن حصل بها نوع من التأكيد لما علمت من أنها إنما تفيد الظن. فلو فرضنا أنه تواتر لفظه ولم يكتب لوجد هذا القطع بلا ريب. ولو فرضنا العكس لم يحصل لنا قطع بشيء منه. فإن النسخة أو النسخ التي سطرها كتاب الوحي ليست بأيدينا ولو فرض أنها بين أيدينا فمن أين نقطع أن هذا الخط هو خط كتاب الوحي ومن؟ أين نقطع أنه لم يحصل فيه تبديل أو زيادة أو نقص لا؟ يمكننا أن نقطع بشيء من ذلك إلا بإخبار قوم يؤمن تواطؤهم على الكذب بأن هذه الكتابة كتابة كتاب الوحي بدون زيادة ولا نقصان ولا تحريف. عن قوم مثلهم عن قوم مثلهم. وهكذا إلى أن نصل إلى قوم بهذه الصفة رأوا كتاب الوحي البالغين عدد التواتر المتفقين على كتابه كل حرف منه وهم يكتبون. ومع أن هذه السبيل لم تحصل لنا كما هو معلوم بالضرورة فإنا نجد أننا مع فرض وقوعها قد اعتمدنا نحن وجميع من قبلنا ما عدا الطبقة الذين رأوا كتاب الوحي وهم يكتبون. على التواتر اللفظي بأن هذه كتابة كتاب الوحي. ولولا هذا التواتر لما حصل القطع بشيء، كل ما في الأمر أننا نكون قد استبدلنا تواترا بلفظ القرآن بتواتر بلفظ أن هذا الخط خط كتاب الوحي. ولا يخفى أن الأول أقوى وأقطع، وأما الذين رأوا كتاب الوحي وهم يكتبون فليسوا في حاجة إلى كتابتهم ولا إلى تواتر لفظي ليقطعوا بلفظ القرآن. لأنهم مستغنون عن ذلك كله بالسماع من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفسه ككتاب الوحي أنفسهم.

فنخرج من ذلك بأن القطع بالقرآن لم يتوقف على الكتابة في طبقة من الطبقات. ولعل قائلا يقول: لسنا في حاجة إلى وجود النسخة أو النسخ التي كتبها كتاب الوحي، ولا إلى إخبار هؤلاء الأقوام - بما ذكرت. فإنه يغنينا عن ذلك كله التواتر الكتابي بعد عصر الخلفاء الراشدين وتعدد النسخ المكتوبة (المتفقة في جميع حروفه) في العصر الثاني وما بعده - تَعَدُّدًا يؤمن منه التواطؤ على زيادة أو نقص أو تحريف. فإن هذا يفيدنا القطع بأن المكتوب جميعه هو القرآن. فنقول: من أين لنا أن نثبت أن هذه النسخ المتأخرة قد نسخت من نسخ متعددة يؤمن تواطؤها على ما ذكرت؟ أليس من الجائز أن تكون جميعها مصدرها نسخة واحدة لزيد بن ثابت أو عثمان مثلا؟ بل الواقع كذلك كما هو معلوم لمن له إلمام بتاريخ كتابة القرآن. وإذا كان المصدر نسخة آحادية - فمن أين لنا أن نجزم بما فيها؟! وبما أخذا عنها؟!. فإن قال هذا القائل: نحن نجزم بما فيها: لأن الصحابة جميعهم قد أقروا ما في هذه النسخة واعترفوا بصحته. قلنا: فقد رجعت في النهاية إلى التواتر اللفظي بأن ما في هذه النسخة هو كل القرآن بلا زيادة ولا نقصان ولا تبديل، والتواتر اللفظي هو الذي تنكر دلالته على القطع، وتدعي أن الاعتماد كله - في القطع - إنما هو على الكتابة. هذا وإليك بعض ما ذكره الأئمة لتأييد ما قلنا: قال ابن حجر (¬1): «وَالْمُسْتَفَاد مِنْ [بَعْثِهِ] المَصَاحِفِ إِنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ إِسْنَادِ صُورَةِ الْمَكْتُوبِ فِيهَا إِلَى عُثْمَانَ، لاَ أَصْلَ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ ¬

_ (¬1) في " الفتح ": ج 1 ص 114.

يجب العمل بظني الثبوت في الفروع:

عِنْدَهُمْ». اهـ. وقال ابن الجزري (¬1): «إِنَّ الاعْتِمَادَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ لاَ عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ خَصِيصَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ " مُسْلِمٌ " (*) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ فَقُلْتُ لَهُ: "رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً"، فَقَالَ: " مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلِي بِكَ وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَهُمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَأَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ ". فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ لاَ يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ، بَلْ يَقْرَءُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ: " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ "، وَذَلِكَ بِخِلاَفِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لاَ يَحْفَظُونَهُ لاَ فِي الْكُتُبِ وَلاَ يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إِلاَّ نَظَرًا لاَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ». «وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِهِ: أَقَامَ لَهُ أَئِمَّةً ثِقَاتٍ، تَجَرَّدُوا لِتَصْحِيحِهِ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي إِتْقَانِهِ وَتَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرْفًا حَرْفًا، لَمْ يُهْمِلُوا مِنْهُ حَرَكَةً وَلاَ سُكُونًا وَلاَ إِثْبَاتًا وَلاَ حَذْفًا، وَلاَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلاَ وَهْمٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَفِظَهُ كُلَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ أَكْثَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ بَعْضَهُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». اهـ. ... يَجِبُ العَمَلُ بِظَنِّيِّ الثُبُوتِ فِي الفُرُوعِ: قد فهم صاحب الشبهة أن الكتابة وحدها هي التي تفيد القطع بثبوت ما هو حجة، وقد علمت بطلان ذلك. ثم إنه فرع على هذا الفهم: أن النهي عن كتابة السُنَّةِ دليل على إرادة الشارع ¬

_ (¬1) في " النشر ": ج 1 ص 6. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: الحديث كما ورد في " صحيح مسلم ": « ... وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ» ... ، " الجامع الصحيح " للإمام مسلم، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (51) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (16) باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث رقم 2865، 4 / ص 2197، الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.

عدم القطع بثبوتها. ثم فهم أن هذه الإرادة دليل على إرادته عدم حجيتها في نفسها، وعلى عدم اعتبارها دليلاً على حكم شرعي، بَانِيًا فهمه هذا على أن القطع بالثبوت من لوازم الحُجِّيَةِ، وإرادة عدم حصول اللازم تستلزم إرادة عدم حصول الملزوم. ونقول له: لا نسلم لك ما بنيت عليه هذا الفهم الأخير: من أن القطع بالثبوت من لوزام الحُجِّيَةِ على عمومه، بل في العقائد وأصول الدين دون الأحكام الفرعية والمسائل الفقهية. وهذا أمر قد تقرر في علم الأصول: في مسألة التعبد بخبر الواحد. وهي خارجة عن موضوع رسالتنا. إلا أنه لا بأس من بيانها على سبيل الإجمال؛ لأنك قد جعلتها أساسا لإبطال حجية السُنَّةِ من حيث ذاتها. ... وقبل التكلم في هذه المسألة نقول لك: إنه لا نزاع بين المسلمين في أن التواتر (¬1) مفيد للعلم وإنما الذي خالف في ذلك السُّمْنِيَّةُ من البراهمة، وهم قوم ينكرون النبوة. ومع كون مخالفتهم هذه مكابرة صريحة على العقل: ضرورة علمنا بالبلاد النائية، والأمم الخالية، فهي لا تؤثر في حجية هذا الإجماع، لأنهم قوم غير مسلمين. فهذا الإجماع يبطل لك زعمك أن الكتابة وحدها هي المفيدة للعلم زيادة على ما قررناه لك فيما سبق. نعم: قد اختلف المسلمون في أن هذا العلم ضروري أو نظري واختلفوا في الشروط التي لا يتحقق التواتر إلا بها، وهذا خلاف لا يفيدك شيئًا. ¬

_ (¬1) الخبر المتواتر هو: ما أخبر به في جميع طبقاته جَمْعٌ يُؤْمَنُ تواطؤهم على الكذب. وقد اختلفوا في أقل عدد الجمع، والمتعمد: أن المدار على حصول الأمن مما ذكر، وأن العدد الذي يحصل به ذلك يختلف باختلاف الأحوال.

ولا نزاع (اَيْضًا) بين المسلمين: في وقوع التعبد بالخبر المتواتر عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا الإجماع يبطل لك ما زعمته من أن القرآن هو الحجة وحده، مستدلاً على ذلك بأنه هو المقطوع به فقط، إذ لا شك أن هناك أخبارًا متواترة عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ... فأما خبر الواحد (¬1): فإن لم يكن عَدْلاً لم يفد علمًا ولا ظنًا، لكن إذا انضم إليه قرينه أو أكثر تفيد شيئا منهما حصل هذا الشيء. وإن كان عَدْلاً: فالإجماع منعقد على أنه لا تسلب عنه الإفادة. إلا أنهم اختلفوا في المفاد: أهو العلم أم الظن؟. فالجمهور على أنه يفيد الظن لكن إذا انضم إليه قرينة تفيد العلم حصل. وذهب الإمام أحمد إلى أنه يفيد العلم. ولا نطيل الكلام في تحقيق ذلك، فالذي يغلب على ظننا هو أنك معنا في إفادته الظن. وإن أردت المكابرة وإنكار إفادته العلم والظن فالإجماع يرغمك. وإن ¬

_ (¬1) المراد به عند الجمهور: ما لم يبلغ حد التواتر؛ فمنه المستفيض (وقد يُسَمَّى المشهور) وهو الشائع عن أصل. وأقله من حيث عدد رواته: اثنان. وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة. (انظر " شرح جمع الجوامع ": ج 2 ص 88). وهو مفيد للظن كسائر أنواع خبر الواحد. وذهب الأستاذ أبو إسحاق وابن فورك إلى أنه يفيد عِلْمًا نَظَرِيًّا. وعند عامة الحنفية المشهور يقابل التواتر وخبر الواحد. وعرفوه بما كان آحاد الأصل متواترًا في القرن الثاني والثالث مع قبول الأمة. وقالوا: إنه يوجب ظنًا قويًا كأنه اليقين الذي لا مساغ للشبهة والاحتمال الناشئين عن الدليل فيه أصلاً. وسموا هذا العلم: علم الطمأنينة. وذهب أبو بكر الجصاص: إلى أنه قسم من المتواتر مفيد للعلم نظرًا، بخلاف بقية المتواتر، فإنه مفيد للعلم ضرورة. (انظر " شرح المُسَلَّمِ ": ج 2 ص 111). واعلم أنه يجب أن يقيد خبر الواحد بأن لا يكون خبر معصوم، لأنه يفيد اليقين جزمًا بالاتفاق.

ذهبت مذهب الإمام أحمد فقد أرحتنا وتقوضت شبهتك. ... فإذا تقرر أن خبر الواحد العدل يفيد الظن - على ما علمت - فاعلم أن التعبد بما اشتمل عليه من الأحكام جائز عقلاً عند الجمهور خِلاَفاً لِلْجُبَّائِي. واعلم أن النزاع في جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلا قد حكاه جمهور الكاتبين من الأصوليين، وخالفهم في ذلك صاحب " جمع الجوامع "، فلم يتعرض له. والذي ذكره - في مسألة التعبد بخبر الواحد - (¬1) عن الجُبَّائِي أنه يقول بوقوع التعبد به إذا كان من اثنين يرويانه أو اعتضد بشيء آخر، كأن يعمل به بعض الصحابة أو ينتشر فيهم (¬2). وهذا الذي نقله عن الجُبَّائِي قد نقله غيره - من الكاتبين - عنه في شرائط الرواية. ثم إن ابن السبكي - في " شرح المنهاج " - قد استشكل هذين النقلين بأنهما متنافيان، وأجاب حيث قال (¬3): «فإن قلت: ما وجه الجمع بين منع الجُبَّائِي هنا التعبد به عقلاً واشتراطه العدد. كما سيأتي النقل عنه. فإن قضية اشتراطه العدد القول به. قلت: قد يجاب بوجهين: أقربهما أنه أراد بخير الواحد الذي أنكره هنا ما نقله العدل منفردا به دون خبر الواحد المصطلح. (أعني الشامل لكل خبر لم يبلغ حد التواتر ولهذا) كانت عبارة إمام الحرمين: " ذهب الجُبَّائِي إلى أن خبر الواحد لا يقبل، بل لا بد من العدد وأقله اثنان. والثاني: أنه يجعله من باب الشهادة "». اهـ. ¬

_ (¬1) ص 160 (أو ج 2 ص 93 من " الشرح "). (¬2) قال السيوطي - في " تدريب الراوي ": ص 17 - : «وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: لاَ يُقْبَلُ الْخَبَرُ إِذَا رَوَاهُ الْعَدْلُ الْوَاحِدُ، إِلاَّ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ خَبَرُ عَدْلٍ آخَرَ، أَوْ عَضَّدَهُ مُوَافَقَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ، أَوْ ظَاهِرِ خَبَرٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونُ مُنْتَشِرًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَمِلَ بِهِ بَعْضُهُمْ، حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَأَطْلَقَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ إِلاَّ إِذَا رَوَاهُ أَرْبَعَةٌ». (¬3) ج 2 ص 197.

وأقول: إذا نظرت في شُبَهِ الجُبَّائِي التي أرودها للمنع من التعبد تجدها مانعة من التعبد بما يرويه الاثنان أو الأكثر ما لم يبلغوا حَدَّ التواتر فإن رواية هؤلاء إنما تفيد الظن. اللهم إلا أن يكون قد ذهب مذهب أبي إسحاق وابن فورك في أن المستفيض يفيد العلم النظري، فلا تطرد هذه الشبه فيه حينئذ كما هو ظاهر. ويؤيد أن الجبائي يذهب هذا المذهب أن العضد قد ذكره في الاستدلال له على اشتراط العدد في الرواية قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬1). ونحوه، فهذا الاستدلال يشعرنا أنه إذا وجد العدد أفاد العلم عنده. هذا ويمكن أن يجاب اَيْضًا بأن الجُبَّائِي كان يذهب إلى امتناع التعبد، ثم رجع عنه أخيرًا وقال بوقوع التعبد. إلا أنه اشترط فيه ما ذكر فنقل قوم مذهبه الأول ظانين أنه استمر عليه، ونقل آخرون المذهب الثاني، ثم جمع الكاتبون النقلين غير شاعرين بما بينهما من التضارب. ولعل هذا هو الذي حققه أخيرًا ابن السبكي وهو يؤلف " جمع الجوامع " فلذلك ترك حكاية الخلاف في جواز التعبد به عقلاً، حيث ثبت عنده أن الجُبَّائِي رجع عن القول بالامتناع. ويدل على الجواز أن التعبد به إيجاب للعمل بالراجح، لأنه يفيد غلبة الظن بأن ما اشتمل عليه حكم الله تعالى (كما علمت) وإيجاب العمل بالراجح معقول لا يلزمه محال لا لذاته ولا لغيره. وَلِلْجُبَّائِي ثلاث شبه: الأولى: أن التعبد به يؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال عن كذب المخبر أنه من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبره هذا. وبيان ذلك أنه قد تقرر أنه يفيد ¬

_ (¬1) [سورة الإسراء، الآية: 36].

ظن الصدق. وذلك يقتضي بقاء احتمال الكذب وإن كان مرجوحًا. فإذا فرض أن هذا الكذب المرجوح متحقق، وكان الخبر مشتملاً على حل شيء والذي في الواقع حرمته لزم تحليل الحرام. وإن كان بالعكس لزم تحريم الحلال. وتحليل الحرام وعكسه ممتنعان. فما أدى إليهما يكون ممتنعًا اَيْضًا (¬1). ... وأجيب (أولاً): بأنه منقوض بالتعبد بالمفتي والشاهدين الجائز بالإجماع كما حكاه في " جمع الجوامع " (¬2). فإنه يجوز كذبهم، فإذا فرضنا هذا الكذب مُتَحَقِّقًا لزم الجُبَّائِي ما ألزمنا به من تحليل الحرام وعكسه. وثانيا: أن المجتهد السامع لخبر العدل إذا اجتهد فغلب على ظنه عدالة المخبر وصدق خبره: فالحكم الذي اشتمل عليه الخبر هو حكم الله الذي كلفه به على رأي المصوبة. وليس في الواقع حكم يخالفه بالنسبة إلى هذا المجتهد على رأيهم. فلم يلزم تحليل حرام ولا عكسه وإن جرينا على رأي المخطئة: لزم تحليل الحرام وعكسه. إلا أنا لا نسلم امتناع ذلك إذا كان ناشئًا عن اجتهاد وغلبة ظن، فإن الحكم الذي في الواقع ساقط عنه بالإجماع. ألا ترى أن المكلف إذا وطئ أجنبية يظنها زوجته لا حرمة عليه؟ وإذا توضأ بمتنجس يظنه مُطَهِّرًا صح وضوءه؟ وإذا توجه في الصلاة إلى غير القبلة ظَانًّا أنه مستقبل لها صحت صلاته؟ إلى غير ذلك من المسائل المعلومة. ... الشبهة الثانية: أن التعبد به يؤدي إلى اجتماع النقيضين إذا أخبر عدلان متساويان بنقيضين. واجتماع النقيضين محال. فما أدى إليه محال اَيْضًا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر " شرح المختصر ": ج 2 ص 58، و " شرح المُسَلَّمِ ": ج 2 ص 131. (¬2) ص 159 (أو ج 2 ص 89 من " الشرح "). (¬3) انظر " شرح المُسَلَّمِ ": ج 2 ص 131.

وأجيب (أولاً): بأنه منقوض بما تقدم في المفتي والشاهدين. وثانيًا: بمنع استلزام اجتماع النقيضين، فإن المجتهد حينئذ لا يعمل بواحد منهما لتعارضهما، بل يكلف بالوقوف حتى يظهر له مرجح. ... الشبهة الثالثة: أنه لو جاز التعبد به في الفروع: لجاز التعبد به في العقائد، ونقل القرآن، وادعاء النبوة من غير معجزة، وهو باطل (¬1). وأجيب (أولاً): بمنع الملازمة، للفرق عادة بين الخبر في العمليات وبين الخبر في الأمور المذكورة فإن المقصود في العقائد تحصيل العلم - لأن الخطأ فيها يوجب الكفر والضلال - وخبر الواحد لا يفيده. والقرآن مما تتوفر الدواعي إلى نقله وحفظه. فإذا نقله واحد قطع بكذبه , وادعاء النبوة من غير معجزة مما تحيله العادة. ثم إن القطع في كل مسألة شرعية متعذر، بخلاف اتباع الأنبياء والاعتقاد. وثانيًا: بمنع بطلان اللازم. فإن امتناع التعبد بخبر الواحد في هذه الأمور شرعي لا عقلي، ولا يلزم الامتناع الشرعي الامتناع العقلي، وكلامنا إنما هو في الأخير. ... ثم إن القائلين بجوازه عقلا قالوا بوقوعه شرعا، ما عدا الروافض وأهل الظاهر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 131. (¬2) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 131، و " شرح المختصر ": ج 2 ص 59.

ويدل على الوقوع أدلة كثيرة. نذكر لك أهمها: الدليل الأول: خبر الواحد العدل يفيد غلبة الظن بأن ما اشتمل عليه هو حكم الله تعالى. فيجب العمل به قَطْعًا كظاهر الكتاب. وبيان أنه يفيد غلبة الظن المذكورة أنا قد بينا - بالأدلة التي لا تقبل الإنكار ولا الشك ولا الوهم - أن السُنَّةَ من حيث ذاتها حُجَّةٌ يجب العمل بها قَطْعًا. فالسنة المقطوع بها ملزومة ووجوب العمل بها قَطْعًا لازم. ووجوب العمل قَطْعًا يستلزم أن المعمول به حكم الله قَطْعًا، إذ لا يجب العمل إلا بحكم الله اتفاقًا، ولازم لازم الشيء لازم الشيء. فالسنة المقطوع بها ملزومة، وكون ما اشتملت عليه من الأحكام حكم الله قَطْعًا لازم. وكما أن القطع باللزوم يوجب القطع باللازم فظن الملزوم يوجب ظن اللازم. وخبر الواحد العدل يفيد ظن الملزوم - وهو أن المخبر به سُنَّةٌ - فيجب أن يفيد ظن اللازم. وهو كون ما اشتمل عليه من الأحكام حكم الله تعالى. وهذا الدليل قد انفرد بذكره صاحب " المُسَلَّمِ " ونقحه شارحه إلا أن الشارح اعترض عليه وأجاب. حيث قال (1): «فإن قلت: لا نسلم أن مطلق المظنونية ملزوم وجوب العمل قَطْعًا. بل المظنونية التي حدثت من قطعي المتن كظاهر الكتاب. قلت: الفرق تحكم، فإن مظنونية المتن إنما تحدث الظن في كون الثابت به حكم الله تعالى. ومثله ظاهر الكتاب. فهذه المظنونية إن أوجبت هناك توجب هنا اَيْضًا». اهـ. على أنا نقول: إن من يريد أن يعتمد في استنباط الأحكام على القرآن وحده، ويترك ما جاء في السنة من المعاني الشرعية والأخبار المفسرة للمراد من ألفاظه لا مفر له من ظنية الطريق في اجتهاده وفهم معاني القرآن على حسب ما وضعته العرب. وذلك لأن ألفاظه المشتملة على الأحكام لو فرضنا أنها مستعملة في معانيها

اللغوية - دون المعاني التي اصطلح الشارع عليها وأرادها منها - لا تدل على هذه المعاني اللغوية إلا بواسطة أوضاع العرب له. إذ ليست دلالتها عليها دلالة عقلية محضة. والعقل لا يستقل بمعرفة هذه الأوضاع، ولا يولد المرء عَالِمًا بها، بل إنما يتعلمها بواسطة النقل عن غيره. وأكثر معاني الألفاظ منقولة إلينا بطريق الآحَادِ سَمَاعًا أَوْ فِي الكُتُبِ. والمعنى المشتهر أو المتواتر في الأعصر الأخيرة هو في الغالب آحادي الأصل، يرجع إلى نقل فرد واحد مثل الأصمعي أو أبي عبيدة، وقد يستنبطه الواحد منهم من بيت رجل مثل أبي نواس وبشار وعمر بن أبي ربيعة ممن اشتهر بالمجون والفسق والاختلاق والكذب. فالقرآن - وإن كان مقطوعًا بلفظه - ففهم معانيه إذا ما تركنا مساعدة السنة يعتمد على ظنية طريق وضع اللفظ لمعناه اللغوي. وهذه الظنية - إن سلمنا نسبتها إلى الظن - أضعف بكثير من ظنية طريق السنة التي تفسر المعاني التي أرادها رب العالمين والحاكم على عباده ومن القرآن كلامه. والتي أنزلها على المعصوم عن الكذب ونقلها عنه الثقات الأتقياء المتمسكون بدينهم المخلصون له. فأين مثل الصحابة والزهري ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - من نقلة اللغة مثل خلف الأحمر الذي قيل فيه ما قيل. ومثله في الاشتهار بالكذب والاختلاق كثير كانوا يقصدون بمباحثهم اللغوية الدنيا والشهرة والتقرب من الحكام والتملق إليهم. فلا يمنع الواحد منهم دينه وخوفه من ربه أن يفسر اللفظ بتفسير من عنده، وأن يختلق البيت من الشعر وينسبه إلى امرئ القيس ونحوه ليدعم به دعواه على ما هو مشهور عنهم. ولذلك كثر الاضطراب والاختلاق في معاني الألفاظ اللغوية. فأين الأولون الثقات الورعون المخلصون لدينهم القاصدون وجه ربهم من الآخرين الذين هذا شأنهم؟ فَأَيْنَ الثُّرَيَّا وَأَيْنَ الثَّرَى * ... * ... * وَأَيْنَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَلِيٍّ (¬1). ¬

_ (¬1) رحم الله المصنف، فقد كان الأحرى به أن يتورع عن الاستشهاد بهذا البيت من الشعرب، لأن فيه =

لعمر الحق إن طريق المحدثين خير وأوجب للظن، وأسلم في العاقبة، وأهدأ للضمير إن صح أن يكون هناك مقارنة وتفضيل بين الطريقين. ثم إذا كان لا بد لنا من الاعتماد على ما نقل عن العرب فالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أفصح العرب وأبلغهم، وصحابته المهتدون بهديه أولى بالاعتماد على ما يقولون في تفسير كلام الله، من باقي العرب الذين كانوا يقولون أشعارهم وأحاديثهم وهم سكارى في مجالس النساء والولدان واللهو والفسق. هذا كلام ظاهر البيان. ولكن الهوى والشيطان قد يعميان الإنسان. ... ولنرجع إلى أصل الدليل فنقول: إن للخصم أن يقول: إن هذا قياس أصولي وأنا لا أرى حجيته، على أنه إن سلمنا حجيته فهو إنما يفيد الظن والمسألة قطعية. ولو جعل صاحب " المُسَلَّمِ " هذا الدليل قياسًا منطقيًا، هكذا: «ما اشتمل عليه خبر الواحد العدل يغلب على ظن المجتهد أنه حكم الله تعالى، وكل ما كان كذلك يجب العمل به قطعا». واستدل على الصغرى بنحو ما تقدم في ثبوت بيان العلة في الفرع، وعلى الكبرى بإجماعهم على وجوب العمل بما يغلب على ظن المجتهد - كما ذكروه في تعريف الفقه وحكاه الشافعي في " الرسالة " والغزالي في " المستصفى " (¬1) - لسلم من الاعتراضين. ... ¬

_ = طَعْنًا في معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - - أو في عَلِيٍّ - - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وهما من جِلَّةِ الصحابة وَكُتَّابَ الوحي، ومذهب أهل السنة السكوت عن الخوض في الفتنة. وإذا كان عَلِيٌّ أفضل من معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - كما هو مذهب أهل السنة إلا أن هذا لا يقتضي المقارنة بينه وبين معاوية للحط من قدر الأخير [الناشر]. (¬1) انظر " شرح التقي السبكي على المنهاج ": ج 1 ص 22.

الدليل الثاني: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - على وجوب العمل بخبر الواحد العدل وفيهم عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -. وذلك في وقائع شتى لا تنحصر آحادها إن لم تتواتر فالقدر المشترك منها متواتر. ولو أردنا استيعابها لطالت الأنفاس وانتهى القرطاس. وقد ذكرنا بعضها فيما سبق. فلا وجه لتعدادها، إذ نحن على قطع بالقدر المشترك منها وهو رجوع الصحابة إلى خبر الواحد إذا نزلت بهم المعضلات واستكشافهم عن أخبار النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وقوع الحادثات. وإذا روي لهم حديث أسرعوا إلى العمل به من غير نكير في ذلك كله. فهذا ما لا سبيل إلى جحده ولا إلى حصر الأمر فيه واستقصائه. فإن قيل: لئن ثبت عنهم العمل بأخبار الآحاد فقد ثبت عنهم ردها. فهذا أبو بكر قد رد خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى رواه ابن مسلمة. وعمر أنكر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخُدري، وَعَلِيٌّ أنكر خبر معقل بن سنان في المفوضة وكان يحلف غير أبي بكر. وعائشة أنكرت خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله (¬1). أجيب: بأنهم إنما توقفوا عند الريبة في صدق الراوي أو حفظه لا لأن الخبر من الآحاد. ألا ترى أنهم عملوا بعد انضمام رَاوٍ آخر أو الحلف؟ والخبر على كلتا الحالتين لا يزال خبر آحاد. (¬2) والخصم إذا أنكر وقوع التعبد بخبر الواحد ينكر خبر الاثنين وخبر الواحد مع اليمين ... فعمل أبي بكر وعمر وَعَلِيٌّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. ونحن إذا قلنا بقبول خبر الواحد فإنما نقبله عند عدم الريبة وعند السلامة من معارض أو قادح. الدليل الثالث: أنه قد تواتر: أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرسل الرُّسُلَ لتبليغ الأحكام وتفصيل الحلال والحرام. وربما كان يصحبهم الكتب. وكان نقلهم أوامر ¬

_ (¬1) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134. (¬2) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134.

رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سبيل الآحاد. ولم تكن العصمة لازمة لهم بل كان خبرهم في مظنة الظنون فلولا أن الآحاد حجة لما أفاد التبليغ بل يصير تضليلاً (¬1). فإن قيل: إن النزاع في وجوب عمل المجتهد. والمبعوث إليهم يجوز أن يكونوا مقلدين (¬2) أجيب: بأنه معلوم بالتواتر أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تبليغ الأحكام إلى الصحابة المجتهدين ما كان يفتقر إلى عدد التواتر بل يكتفي بالآحاد (¬3). فإن قلت: لو تم هذا الدليل لزم ثبوت العقائد بالدليل الظني أو إفادة خبر الواحد العلم. فإن من المبعوثين معاذ بن جبل وقد قال له النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ... » الحديث (¬4). قلت: الأمر بالشهادتين قد تواتر عند الكل ولم يكن عندهم ريب في أن ذلك مأمور به من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإنما أمر مُعَاذًا بالدعوة إليه أولاً. لأن دعوة الكفار إليه أمر حتم أو سُنَّةٌ. ولأنه يحتمل أن يؤمنوا فيثاب ثوابًا عظيمًا (¬5). ... واستدل الروافض ومن وافقهم: بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن. وكل ما كان كذلك يمتنع العمل به، لأن الله تعالى قد نهى عن اتباع الظن وذمه في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬6) وقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ ¬

_ (¬1) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134. (¬2) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134. (¬3) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 134. (¬4) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 134. (¬5) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 134. (¬6) [سورة الإسراء، الآية: 36].

لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬1). والنهي والذم يدلان على الحرمة (¬2). ... والجواب (أولاً): أن المسألة قطعية والآيتين ظنيتان. لأنهما من قبيل العام وهو ظني الدلالة عندكم وإن لم يدخله التخصيص. ولو ذهبتم مذهب الحنفية من أنه قطعي إذا لم يدخله التخصيص لم يفدكم اَيْضًا. لأنه قطعي بالمعنى الأعم وهو ما لا يحتمل احتمالاً ناشئًا عن دليل والمسألة قطعية بالمعنى الأخص وهو ما لا يحتمل احتمالاً ما، لا ناشئًا عن دليل ولا غير ناشئ. فلا يصح الاستدلال بالآيتين على فرض قطيعتهما بالمعنى الأعم على ما هو قطعي بالمعنى الأخص. إذ لا زال الاحتمال يطرقهما فلا يثبت بهما ما لا احتمال فيه أصلاً. وثانيًا: أنه لو صح أن الآيتين يبطلان العمل بالظن لأدى ذلك إلى بطلان العمل بظاهر الكتاب، فإنه عمل بالظن , وهو باطل إجماعًا. بل نقول: إن من ظاهر الكتاب هاتين الآيتين، فإذا أبطلا العمل بظاهر الكتاب فقد رجعا على نفسيهما بالبطلان فلم يصح الاستدلال بهما. وثالثًا: أن تحريم العمل بالظن المدلول عليه بالآيتين مخصوص بالعقائد وأصول الدين. كوحدانية الله. وذلك لأن واجب الاعتبار في العمليات والمسائل الفقهية بالدلائل القاطعة المتقدمة. فوجب التخصيص بما تقدم. رابعًا: أنا لا نسلم أن الآيتين تدلان على تحريم العمل بالظن بالنسبة إلينا، فإن الآية الأولى خطاب لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا يلزم من حرمة اتباعه الظن مع كونه قادرًا على تحصيل اليقين بانتظار الوحي الحرمة لنا مع عدم قدرتنا على تحصيل اليقين. وأيضًا يحتمل أن يراد بالعلم فيها مطلق التصديق الشامل للظن، فإن إطلاق ¬

_ (¬1) [سورة النجم، الآية: 28]. (¬2) انظر " شرح المختصر ": ج 2 ص 60، و" شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 136.

الحكمة في أمره - صلى الله عليه وسلم - بكتابة القرآن وحده:

العلم عليه شائع. فيكون المعنى: ولا تقف ما شككت فيه أو توهمته أو جهلته. وأيضًا يحتمل أن يكون المراد بقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ما يكون خلافه معلومًا لك. فلا يشمل الظن لأنه لا يعلم خلافه وإنما يتوهم. وأما الآية الثانية فليس الذم فيها على اتباعهم الظن في بعض الأوقات , بل على انحصار حالهم في اتباع الظن وأنهم لا يتبعون علمًا ما. ولا شك أنه مذموم لأن فيه ترك ما هو معلوم قطعًا. ... الحِكْمَةُ فِي أَمْرِهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَةِ القُرْآنِ وَحْدَهُ: فإن قال قائل: إذا كان أمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة القرآن ليس منشؤه حجيته ولا أن الكتابة مفيدة للقطع، فما الحكمة إذن في هذا الأمر؟ وما الحكمة في أنه لم يأمر بكتابة السُنَّةِ؟. قلت: الحكمة في أمره بكتابة القرآن هي بيان ترتيب الآيات ووضع بعضها بجانب بعض، فإنه بالاتفاق بين العلماء توقيفي نزل به جبريل في آخر زمنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد كان القرآن ينزل من قبل نُجُومًا على حسب الوقائع. وبيان ترتيب السور، فإنه اَيْضًا توقيفي على الراجح، وزيادة التأكيد، فإنا لا ننكر أن الكتابة طريق من طرق الإثبات وهي وإن كانت أضعف من السماع - فضلاً عن التواتر اللفظي - إذا انضمت إلى ما هو أقوى منها في الإثبات زادته قوة على قوة. وإنما احتيج إلى زيادة التأكيد في القرآن لكونه كتاب الله تعالى وأعظم معجزة لسيدنا محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبعوث إلى الخلق كافة إلى يوم القيامة. ولكونه المعجزة الباقية من بين سائر معجزاته إلى يوم الدين. لتكون للمتأخرين دليلاً ساطعًا على نبوته وبرهانًا قاطعًا على رسالته. ولكونه أساس الشريعة الإسلامية وإليه ترجع سائر الأدلة الشرعية في ثبوت اعتبارها في نظر الشارع. وثبتت به جميع العقائد الدينية التي لا بد منها

وأمهات الأحكام الفرعية. ويترتب على ضياعه ضياع هذه الأمور كلها وتقويض الشريعة جميعًا. ولكونه قد تعبدنا الله بتلاوة لفظه في الصلاة وغيرها ولم يجز لنا أن نبدل حَرْفًا منه بحرف آخر. فلكون القرآن مشتملاً على هذه الأمور الجليلة العظيمة الخطر اهتم الشارع بأمره أعظم اهتمام وأحاطه بعناية أجل إحاطة، فأثبته للناس إلى يوم الدين بجميع الطرق الممكنة التي يتأتى بها الإثبات قويها وضعيفها، جليلها وحقيرها. للمحافظة على لفظه ونظمه. وليتأكد عند الناس ثبوته تمام التأكيد. كما أنه قد حافظ على معناه بِالسُنَّةِ المُبَيِّنَةِ لَهُ الدافعة لعبث العابثين به. ولما لم تكن السنة بهذه المثابة فلا ترتيب بين الأحاديث بعضها مع بعض. وليست بمعجزة ولم يتعبدنا الله بتلاوة لفظها. وأجاز لنا أن نغيره ما دامت المحافظة على المعنى متحققة. حيث إن المقصود من السُنَّةِ بيان الكتاب وشرح الأحكام. وهذا المقصود يكفي فيه فهم المعنى والتأكد منه سواء أكان بنفس اللفظ الصادر عن رسول الله أم بغيره. ولما كان القرآن يغنينا في إثبات حجية سائر الأدلة وإثبات العقائد الدينية وأمهات الأحكام الفرعية، لما كان الأمر كذلك لم يعطها الشارع هذه العناية وهذا الاهتمام، واكتفى بقيام دليل واحد على ثبوتها، فإن اجتمعت الطرق كلها على ثبوت شيء منها فلا بأس. هذا كله مع ملاحظة الفرق الشاسع بين حجم القرآن وحجم السنة التي من وظيفتها الشرح والبيان له. وعادة الشرح أن يكون أكبر حجما من المشروح. وما كان صغير الحجم أمكن في العادة نقله بجميع الطرق. بخلاف كبيره: فإنه من المتعذر تحصيل جميع الطرق فيه خصوصًا من أمة أمية كالعرب. وخصوصا إذا لاحظنا أن السنة قول أو فعل أو تقرير منه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وليس من اللازم بل ولا من الممكن أن يجتمع معه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل أحواله جمع من الصحابة يمكنهم الكتابة ويؤمن تواطؤهم على الكذب. فيؤدون كل ما يسمعون ويشاهدون إلى من بعدهم أو من غاب عنهم بجميع الطرق من تواتر لفظي وكتابة. بل قد يصدر قوله أو فعله أمام صحابي واحد

لا يدل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة السنة على عدم حجيتها:

أمي ولا يتكرر ذلك منه فيما بعد. بخلاف القرآن: فإن الآية منه أو السورة كان يقرأها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمام أقوام مختلفة منهم الكاتبون ومنهم الأميون. ويتكرر ذلك منه وفي أزمنة وأمكنة مختلفة بعبارة واحدة لا تغيير فيها ولا تبديل. فمن ذلك كله يتأتى وجود جميع طرق النقل فيه. ... لاَ يَدُلُّ نَهْيُهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كِتَابَةِ السُنَّةِ عَلَى عَدَمِ حُجِّيَّتِهَا: فإن قال قائل: لو كان الأمر قد اقتصر على أن لا يأمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة السُنَّةِ لكان فيما ذكرته مقنع لنا ومدفع لشبهتنا. لكن الأمر لم يقتصر على ذلك. بل تعداه إلى نهيه عن كتابتها وأمره بمحو ما كتب منها. وذلك يدلنا على رغبته في عدم نقلها إلى من بعده، وتلك الرغبة تستلزم عدم حُجِّيَّتِهَا، إذ لو كانت حجة لما منع من نقلها بأي طريق من طرق النقل. قلت: لا يجوز بأي حال أن يكون نهيه عن الكتابة دليلاً على رغبته في عدم نقلها وعلى عدم حُجِّيَّتِهَا. لما بيناه لك فيما سبق من أن الكتابة ليست من لوازم الحُجِّيَّةِ. ومن أنها لا تفيد القطع ومن أنه ليس من الضروري في الحُجَّةِ أن تثبت بطريق قطعي على تسليم أن الكتابة تفيد القطع. وكيف نهيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليلا على عدم الحُجِّيَّةِ والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب هذا النهي مباشرة يأمر أصحابه بالتحديث عنه الذي هو أبلغ في النقل وأقوى على ما علمت. وفي الوقت نفسه يتوعد من يكذب عليه متعمدًا أشد الوعيد كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه " مسلم ". ويقول فيما رواه " البخاري " و " مسلم " عن أبي بكرة: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» , وفيما رواه أحمد عن زيد بن ثابت: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ». وفيما رواه الترمذي عن ابن مسعود: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا [سَمِعَ]، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». وفيما رواه أحمد عن جُبَيْرِ

ابْنِ مُطْعِمٍ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، [فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ]، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ». وفيما رواه البخاري من قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوفد عبد القيس - بعد أن أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: «احْفَظُوهُ [وَأَخْبِرُوهُ] مَنْ وَرَاءَكُمْ». ويقول فيما رواه الشافعي وغيره عن أبي رافع: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ , يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ أو أَمَرْتُ بِهِ فَيَقُولُ: " لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ». وما إلى ذلك من الأحاديث التي ذكرناها في أدلة الحُجِّيَةِ. أليس الأمر بالتحديث والتبليغ والحفظ، والإيعاد على الكذب عليه أشد الوعيد، والنهي عن عدم الأخذ بالسنة دليلاً على أن السنة لها شأن خطير وفائدة جليلة للسامع والمبلغ؟ فما هذه الفائدة وما هذا الشأن العظيم؟ أليس هو أنها حجة في الدين وبيان للأحكام الشرعية. كما يدل عليه تعقيبه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأمر بالتبليغ - في الروايات السابقة - بقوله: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ [إِلَى مَنْ هُوَ] أَفْقَهُ مِنْهُ» ونحو هذه المقالة. ألا يشعرك هذا القول أن القصد من تبليغ السامع الحديث لمن بعده، أن يأخذ الغائب ما اشتمل عليه الحديث من فقه وحكم شرعي؟ وهل يكون ذلك إلا إذا كان الحديث حُجَّةً ودليلاً تثبت به الأحكام التي تضمنها؟ وهل يصح أن يذهب من عنده ذرة من عقل وإيمان إلى أن أمره - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتحديث والتبليغ إنما كان لمجرد التسلية والمسامرة في المجالس كما يفعل تواريخ الملوك والأمراء؟ كَلاَّ: فإن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجل وأعظم وأشد عصمة من أن يأمر أمته بما لا فائدة فيه وبما هو مدعاة للهوهم وعبثهم. وإليك ما قَالَ الشَّافِعِيُّ - تعليقًا على حديث ابن مسعود المتقدم - مما فيه تأييد لما ذكرنا لك: قال - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (¬1): «فَلَمَّا نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اسْتِمَاعِ مَقَالَتِهِ ¬

_ (¬1) في " الرسالة ": ص 402.

وَحِفْظِهَا وَأَدَائِهَا امْرَأً يُؤَدِّيهَا، وَالامْرُؤُ وَاحِدٌ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ يَأْمُرُ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ إِلاَّ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ أُدِّيَ إِلَيْهِ , لأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَدَّى عَنْهُ حَلاَلٌ يُؤْتَى , وَحَرَامٌ يُجْتَنَبُ , وَحَدٌّ يُقَامُ , وَمَالٌ يُؤْخَذُ وَيُعْطَى , وَنَصِيحَةٌ فِي دَيْنٍ وَدُنْيَا. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الفِقْهَ غَيْرُ فَقِيهٍ».اهـ. ثم نقول: لم كان الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخصوصه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة مستحقًا عليها هذا الوعيد الشديد. بخلاف الكذب على غيره: فإنه مع حرمته ليس بهذه المثابة. إذا لو كان مساويًا له لما كان هناك حكمة في النص على الكذب على نفسه بخصوصه مع دخوله في عموم الكذب المعلومة حرمته للجميع. لا شك في أنه إنما نص على خصوص الكذب عليه وخصه بهذا الوعيد الشديد: لأنه مستلزم لتبديل الأحكام الشرعية واعتقاد الحلال حرامًا والحرام حلالاً. وهذا الاستلزام لم يتفرع إلا عن حُجِّيَّةِ السُنَّةِ وأنها تدل على الأحكام الشرعية. وإذا أردت أن تتحقق مما قلناه فعليك بما رواه الشيخان عن المغيرة أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». ثم انظر إلى ما رواه " مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلاَ آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لاَ يُضِلُّونَكُمْ، وَلاَ يَفْتِنُونَكُمْ». وأخبرني بربك إذا لم يكن الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة فعلام هذا التحذير من الأحاديث المكذوبة عنه؟ ولم يحصل بها الضلال والفتنة؟ ولو كان المقصود من التحديث بأحاديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجرد التسلية واللهو كرواية الأشعار وأخبار العرب وغيرهم أفلا يستوي الصادق منها والكاذب في هذا المعنى؟ ولو كان هناك فرق بينهما أفيستحق هذا الفرق التحذير الشديد من الضلال والفتنة؟ كَلاَّ. وبالجملة: فكل ما نقلناه لك من هذه الأحاديث ونحوها ينادي أن السُنَّةَ

الحكمة في النهي عن كتابة السنة:

حجة. وهو بمثابة التصريح من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك عند من له سمع يسمع وعقل يدرك وهو في الوقت نفسه صريح في رغبته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نقل السُنَّةِ والمحافظة عليها. فكيف مع هذا يزعم زاعم أن نهيه عن كتابتها دليل على رغبته في عدم نقلها والمحافظة عليها وعلى عدم حجيتها {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَمَا أَنْتَ بِهَادِ (*) الْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1)؟. ... الحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتَابَةِ السُنَّةِ: فإن قيل: قد أبنت فيما سبق الحكمة في الأمر بكتابة القرآن وعدم الأمر بكتابة السُنَّةِ ولكن ما ذكرته في ذلك لا يستلزم النهي عن كتابتها، إذ كونها غير معجزة، وغير مُتَعَبَّدٍ بِتِلاَوَتِهَا، وكونها شارحة للقرآن، مُبَيِّنَةٍ للمراد منه، كل ذلك لا يكون باعثًا على هذا النهي وإنما يصلح حكمة لترك الصحابة وشأنهم في كتابتها وعدم كتابتها. ثم إنك قد أبنت (اَيْضًا) أنه لا يصح أن يكون عدم حجيتها باعثًا على هذا النهي، لما تقرر من حجيتها. فلا بد وأن يكون هناك باعث آخر عليه، فلتبين لنا ما هو؟ قلت: للعلماء في بيان حكمة هذا النهي، أقوال: القول الأول: أنه نهاهم عن كتابتها خشية اختلاطها بالقرآن، واشتباهه بها (¬2). فإن قيل: لا ضرر من هذا الاشتباه، حيث إن كُلاًّ منهما حجة مفيدة للأحكام الشرعية، ويكفينا في إثبات الحكم الشرعي أن يكون اللفظ صَادِرًا عن الرسول ¬

_ (¬1) [سورة الروم، الآيتان: 52، 53]. (¬2) انظر " توجيه النظر ": ص 5. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ ... } [سورة الروم، الآية: 53]. وآية أخرى شبيهة بها (بإثبات الياء بعد كملة [بِهَادِ] وردت في سورة النمل {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ ... } [سورة النمل، الآية: 81].

سواء أكان قرآنًا أم سُنَّةً، والمهم أنه لا يخرج عن أحدهما (¬1). قلت: إن القرآن قد امتاز عن السنة بأشياء كالتعبد بتلاوته، ودلالته على الرسالة بإعجازه دلالة باقية إلى يوم القيامة. فهو - وإن شارك السنة في الحُجِّيَةِ - يجب تمييزه عنها: لهذه الأمور التي امتاز بها. فإن قيل: إن إعجازه كاف في تمييزه عنها (¬2) فلا حاجة إلى التمييز بخصوص الكتابة. قلت: إعجازه إنما يدركه أساطين البلغاء من العرب أيام أن كانت بلاغة العرب في أوجها. وذلك في عصره - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأعصر القريبة منه. فأما غير البلغاء منهم في هذه الأعصر - وهم الأكثرون - وجميع العرب فيما وبعد ذلك، وجميع الأعاجم والمستعربين في جميع العصور فلا يمكنهم تغييره عن السُنَّةِ، خُصُوصًا إذا لاحظنا: أن السنة القولية كلام أفصح العرب وأبلغهم، وأنها تكاد تقرب من درجة القرآن في البلاغة. ولا يستطيع أن يقف موقف المميز بينهما إلا من كان من فرسان البلاغة والبيان، وممن يشار إليهم بالبنان. ولا يتمكن غير البلغاء (اَيْضًا) من إدراك إعجاز القرآن بأنفسهم، وإنما يدركونه: بواسطة عجز من تحداهم النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أساطين البلاغة، وأمراء الفصاحة - عن الإتيان بأقصر سورة منه. وإذا ما ثبت إعجازه: ثبتت لهم رسالته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا ثبتت رسالته: ثبت صدقه في إخباره أن هذه السورة، أو هذه الآية، أو هذه الكلمة، أو هذا الحرف من القرآن , فبهذا الإخبار: يتميز لجميع الأمة عربيها وأعجميها بليغها وغير بليغها - القرآن من غيره ¬

_ (¬1) انظر مجلة " المنار ": السَنَةُ 9، العدد 12 ص 912. (¬2) انظر مجلة " المنار ": السَنَةُ 9، العدد 7 ص 515.

ولما كان هذا الإخبار لا يحصل لكل الأمة بالضرورة، بل إنما يحصل لبعض من في عصره - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يخشى على هؤلاء السامعين، قبل استقراره في القلوب وشيوعه بين الناس الاشتباه بطول الزمن وعدم تمام الحفظ للفظه - خصوصًا الاشتباه في الآية الواحدة، والكلمة الواحدة، والحرف الواحد - حرص النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد الحرص على تمييزه جميعه بالكتابة عن سائر ما يصدر عنه، وتخصيصه بها إلى أن يطمئن إلى كمال تميزه عن غيره عند سائر الناس، وإلى استقراره في القلوب وشيوعه بين الناس، وإلى أنه إذا أخطأ فرد من الأمة - فخلط بينه وبين غيره - رده سائر الأمة أو القوم الذين يؤمن تواطؤهم على الكذب إلى الصواب. ولذلك لما اطمأن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى تميزه تمام التميز أذن في كتابة السنة. كما سيأتي. ... القول الثاني: أنه نهي عن كتابتها خوف اتكالهم على الكتابة، وإهمالهم للحفظ الذي هو طبيعتهم وسجيتهم وبذلك تضعف فيهم ملكته (¬1). ولا يخفى عليك ما في الاتكال على الكتابة، وإهمال الحفظ من ضياع العلم، وذهاب الفهم. على ما علمت بيانه فيما سبق: (¬2) ولذلك: كان النهي خَاصًّا بمن كان قوي الحفظ، آمنًا من النسيان (¬3)، فأما من كان ضعيفه: فقد كان يجيز له الكتاب كما سيأتي في أبي شاه. وكذلك أجاز كتابتها لمن قوي حفظه، لما كثرت جِدًّا، وفاتت الحصر والعد، وضعفت عن حفظ جميعها. كما حصل لعبد الله بن عمرو. ¬

_ (¬1) انظر " تدريب الراوي ": ص 150. (¬2) ص 409. (¬3) انظر " تدريب الراوي ": ص 150.

فإن قيل: إن خوف الاتكال على الكتابة - الذي يضعف معه الحفظ، ويذهب به العلم - متحقق اَيْضًا بالنسبة للقرآن، فلم لم يكن بَاعِثًا على النهي عن كتابته اَيْضًا؟. قلت: هناك أسباب أخرى بالنسبة للقرآن عارضت هذه الحكمة، واستدعت الأمر بكتابته، بل تقوت على هذه الحكمة، وتغلبت عليها، وأبطلت مفعولها وما ينشأ عنها من الضرر إذا كتب القرآن، وهذه الأسباب هي ما علمته من التعبد بتلاوته وإعجازه، وغير ذلك مما سبق، وقد علمت وجه استدعائها للأمر بكتابته. أما وجه إزالتها للضرر الناشئ عن الكتابة فهو أن التعبد بالقرآن يتطلب من المكلف حفظه وإن كتبه وإعجازه وسلاسة نظمه، وغرابة أسلوبه كل هذه الأشياء تغري كاتبه على الحفظ، وتحمله عليه. ... القول الثالث: أن العارفين بالكتابة كانوا في صدر الإسلام قليلين، فاقتضت الحكمة قصر مجهودهم على كتابة القرآن، وعدم اشتغالهم بكتابة غيره. تقديمًا للأهم على المهم (¬1). ولذلك لما توافر عددهم أذن - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتابة الحديث. كما حدث لعبد الله بن عمرو، وكما حدث في مرض وفاته من همه بالكتابة. كما سيأتي. القول الرابع: أنه نهاهم خشية الغلط فيما يكتبون من السُنَّةِ لضعفهم في الكتابة، وعدم إتقانهم لها وإصابتهم في التهجي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر " مفتاح السنة ": ص 17. (¬2) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 366، و " توجيه النظر ": ص 10.

ثبوت إذنه - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنة:

وعلى هذا: فالذين نهاهم كانوا لا يحسنون الكتابة. فأما من كان يحسنها: فقد أذن له، كما حصل لعبد الله بن عمرو. لكن يرد على هذا القول: أن العمدة - في ثبوت النهي - حديث أبي سعيد الخدري، والمتبادر منه: أنه أجاز كتابة القرآن لمن نهاه عن كتابة السنة فلو كانت علة النهي خوف الخطأ في الكتابة، فكيف يجيز لهم كتابة القرآن؟ اللهم إلا أن يثبت خلاف هذا المتبادر. ... ثُبُوتُ إِذْنِهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَةِ السُنَّةِ: ثم إنه مما يذهب بالشبهة ويقوضها من أساسها، ثبوت إذنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة السُنَّةِ: لقد روى ابن عبد البر (¬1) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، [أُقَيِّدُ] الْعِلْمَ؟»، قَالَ: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ» قَالَ عَطَاءٌ: «وَمَا تَقْيِيدُ الْعِلْمِ؟»، قَالَ: [الْكِتَابُ] (*). وفي رواية أخرى (¬2): فقال له: «يا رسول الله، وما تقييده؟ قال: الكتاب ". ورواه ابن قتيبة (¬3) (اَيْضًا) من طريق ابن جريج، عن عطاء، والمراد من «الْعِلْمِ»: خصوص الحديث (¬4). وروى أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أنه قال: " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ (**) حِفْظَهُ، ¬

_ (¬1) في " جامع بيان العلم ": ج 1 ص 73. (¬2) ج 2 ص 27. (¬3) في " تأويل مختلف الحديث ": ص 365. (¬4) ج 2 ص 27. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) في كلا الحديثين وردت كلمة (الكتاب) ولم ترد كلمة (كتابته)، انظر: " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، ص 317، حديث رقم 412 وكذلك ص 763، حديث رقم 1409، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. الرياض - المملكة العربية السعودية (**) في الكتاب المطبوع وردت «أَزِيدُ أُرِيدُ حِفْظَهُ»، في حين ورد في " مسند الإمام أحمد "، حيث قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (س): «ثم أريد أحفظه». و «أحفظه» وردت في هامش (ص) و (ظ).ورمز الشيخ شعيب الأرناؤوط بـ (س) إلى أصل العلامة عبد الله بن سالم البصري، انظر " المسند " للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط - عادل مرشد، وآخرون، 11/ 406، حديث رقم 6802، الطبعة الأولى: 1421 هـ - 2001 م، نشر مؤسسة الرسالة.

فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلاَّ حَقٌّ». ورواه ابن عبد البر (¬1) - من هذا الطريق اَيْضًا - مختصرًا، بلفظ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَإِنِّي لاَ أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ حَقًّا». ... فإن قيل: «إن طريقي ابن المؤمل وابن شعيب لا يصح الاحتجاج بهما» فابن المؤمل قال فيه ابن معين والنسائي والدارقطني والمنذري: هو ضعيف. وقال أبو حاتم وأبو زُرعة: ليس بقوي. وروي عن ابن معين اَيْضًا أنه قال: ليس به بأس، عامة حديثه منكر، وقال أحمد: أحاديثه مناكير. وقال ابن عدي: عامة حديثه الضعف عليه بَيِّنٌ. وابن شعيب قال فيه أبو داود - حين سئل: عمرو عن أبيه عن جده حجة؟ -: لا، ولا نصف حجة. وقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل الحديث إذا شاؤا احتجوا بعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإذا شاؤا تركوه. يعني لترددهم في شأنه. وقال عبد الملك الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، له أشياء مناكير، وإنما نكتب حديثه لنعتبر به. فأما أن يكون حجة: فلا، وقال يحيى بن سعيد القطان: حديث عمرو بن شعيب عندنا واه. وروى عباس عن ابن معين أنه قال: إذا حدث عن أبيه، عن جده: فهو كتاب، (فمن ههنا جاء ضعفه) وإذا حدث عن سعيد أو سليمان بن يسار أو عُروة: فهو ثقة، أو نحو هذا. وقال ابن أبي شيبة: سألت ابن المديني عن عمرو بن شعيب فقال: ما روى عنه أيوب وابن جريج فذلك كله صحيح، وما روى عمرو، عن أبيه، عن جده فإنما هو كتاب وجده، فهو ضعيف. اهـ. ولم يحتج بهذا الطريق إلا بعض المتأخرين وهو تساهل منهم - ولا طريق ¬

_ (¬1) ج 1 ص 70، 71.

ثالثة (فيما نظن) لهذا الحديث فهو: غير صحيح» (¬1). قلنا: أما ابن المؤمل فقد قال فيه (اَيْضًا) ابن سعد: هو ثقة. وصحح له ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ووثقه ابن معين في روايتين وضعفه في رواية (¬2). فها أنت ترى أنهم قد اختلفوا في تجريحه ولم يجمعوا عليه، وأن بعض من جرحه لم يترك أحاديثه بالكلية، بل أخذ منها وترك. ثم إنه يقوي روايته لهذا الحديث بخصوصه، رواية ابن عبد البر (¬3) والذهبي (¬4) له من طريق عبد الحميد بن سليمان، عن عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس مرفوعا، بلفظ: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ». ولا يؤثر في ذلك تضعيف ابن معين وابن المديني والنسائي والدارقطني، لعبد الحميد، فقد وثقه أبو داود وغيره، ويقوي حديث أنس رواية الحكيم الترمذي وسمويه له عنه مرفوعًا اَيْضًا. ... وأما ابن شعيب فقد قال فيه اَيْضًا (الذهبي) (¬5): هو «أَحَدُ عُلَمَاءُ زَمَانِهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَصَالِحُ جَزَرَةٌ». اهـ. وقال الأوزاعي: «مَا رَأَيْتُ قُرَشِيًّا أَكْمَلَ مِنْ عَمْرُو بْنَ شُعَيْبٍ» وقال: «حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنَ شُعَيْبٍ وَمَكْحُولٌ جَالِسٌ». اهـ. وقال إِسْحَاقُ بْنِ رَاهَوَيْهِ: «عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ كَأَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ». اهـ. وقال أبو حاتم: «عَمْرُو عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ¬

_ (¬1) انظر مجلة " المنار ": السنة 10، العدد 10، ص 765، 766. (¬2) انظر " الترغيب والترهيب ": ج 4 ص 286. (¬3) ج 1 ص 72. (¬4) في " الميزان ": ج 2 ص 95. (¬5) في " الميزان ": ج 2 ص 289.

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ» وَقَالَ: «سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ عَمْرُو بْنَ شُعَيْبٍ، فَقَالَ: «مَا شَأْنُهُ -؟». وَغَضِبَ - وَقَالَ: «مَا أَقُولُ فِيهِ؟ قَدْ رَوَى عَنْهُ الأَئِمَّةَ». اهـ. وروى عباس ومعاوية بن صالح عن ابن معين اَيْضًا، أنه قال: «ثِقَةٌ» وروى الكوسج عنه أنه قال: «يُكْتَبُ حَدِيثُهُ». اهـ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: «وَعَامَّةُ [هَذِهِ] المَنَاكِيرِ الَّتِي تُرْوَى عَنْهُ، إِنَّمَا هِيَ عَنِ المُثَنَّى بْنِِ الصَّبَّاحِ وَابْنِ لَهِيْعَةَ, [وَالضُّعُفَاءِ]، [وَهُوَ ثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ]». اهـ. وقال يحيى القطان: «إِذَا رَوَى عَنْ ثِقَةٍ فَهُوَ حُجَّةٌ». اهـ. (¬1) وما نقل عن أحمد: مما يفيد عدم احتجاجه به - إِنْ صَحَّ - فإنما نشأ عن تردد - لا عن يقين - ثم زال تردده وقال بحجيته. يدل على التردد قول الأثرم: «سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرٍو بْنَ شُعَيْبٍ، فَقَالَ: رُبَّمَا اِحْتَجَجْنَا بِحَدِيثِهِ، وَرُبَّمَا وَجَسَ فِي القَلْبِ مِنْهُ» (¬2). اهـ. ويدل على زواله، وقوله بحجيته، قول البخاري في " التاريخ ": «رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ المَدِينِي، وَإِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ وَالحُمَيْدِيَّ، وَأَبَا عُبَيْدٍ وَعَامَّةَ أَصْحَابِنَا يَحْتَجُّوْنَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، [عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ] مَا تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، فَمَنِ النَّاسُ بَعْدَهُم?.» (¬3). اهـ. وَإِلاَّ: فَنَقْلُ البُخَارِيِّ أَصَحُّ وَأَقْوَى. وما نقل عباس بن يحيى بن معين: من تضعيفه لهذا الطريق: فمحمول (اَيْضًا) على أنه كان مُتَرَدِّدًا فيه ثم زال تردده وقال بحجيته. وإلا فهو معارض بما نقله عنه أبو حاتم والكوسج ومعاوية بن صالح وعباس نفسه (وقد تقدم) وبما قاله أبو عبد الله البخاري: «اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ ¬

_ (¬1) انظر " الميزان ": ج 2 ص 289 - 291. (¬2) انظر " الميزان ": ج 2 ص 289 - 291. (¬3) انظر " فتح المغيث ": ج 4 ص 68 و " الميزان ": ج 2 ص 290.

وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَشُيُوخٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، فَتَذَاكَرُوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَثَبَّتُوهُ وَذَكَرُوا أَنَّهُ حُجَّةٌ» (¬1). اهـ. وَنَقْلُ البخاري وحده أقوى - بلا شك - من نقل عباس. وكذلك: القول فيما نقله ابن أبي شيبة عن ابن المديني. وما نقل عن أبي داود من التضعيف - فمعارض بأنه نفسه قد أخرج من حديث حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب - بهذا الطريق - أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يَحْضُرُ الجُمُعَةَ ثَلاَثَةٌ: دَاعٍ، أَوْ لاَغٍ، أَوْ مُنْصِتٍ» (¬2) (*). وبالجملة فتجريح مَنْ جَرَّحَ - وهو ضعيف قليل - معارض بتوثيق مَنْ وَثَّقَ، وهو قوي كثير. ومن الغريب أن صاحب الاعتراض لا يشير إلى شيء منه، كأنه أمن أن أحدًا يرجع إلى ما نقل هو التجريح عنه، وفيه الكثير من التوثيق. ... هذا ثم إن تردد من تردد، أو تجريح مَنْ جَرَّحَ إنما نشأ عن أحد أمرين، أو عنهما مجتمعين: أولهما: أنه فهم أن الحديث من هذا الطريق مُرْسَلٌ. (فلا يحتج به، أو يتوقف فيه) قال ابن عدي: «عَمْرُو بْنَ شُعَيْبٍ فِي نَفْسِهِ ثِقَةٌ، إِلاَّ إِذَا رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ مُرْسَلاً». اهـ. قال الذهبي: «لأَنَّ جَدَّهُ - عِنْدَهُ - مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وَلاَ صُحْبَةَ لَهُ " (¬3). اهـ. وقال ابن حبان: «وَالصَّوَابُ فِي عَمْرٍو بْنَ شُعَيْبٍ أَنْ يُحَوَّلَ إِلَى الثِّقَاتِ، لأَنَّ عَدَالَتَهُ قَدْ ¬

_ (¬1) انظر " فتح المغيث ": ج 4 ص 68. (¬2) انظر " الميزان ": ج 2 ص 289. أو " السنن ": ج 1 ص 291 (وبلفظ فيها مختلف عما في " الميزان "). وأخرج له اَيْضًا من هذا الطريق حديثًا في دية الذمي: (ج 4 ص 194). (¬3) في " الميزان ": ج 2 ص 289، 290. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) رواية أبي داود التي وردت في " السنن " كما يلي: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالاَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ". انظر " السنن " لأبي داود السجستاني، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، (2) كتاب الصلاة (235) باب الكلام والإمام يخطب، حديث رقم 1113، 2/ 464، الطبعة الأولى: 1418 هـ - 1997 م، نشر دار ابن حزم. بيروت - لبنان.

تَقَرَّرَتْ (¬1). فَأَمَّا المَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ إِذَا كَانَتْ فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثِّقَاتِ إِذَا رَوَوُا المَقَاطِيعَ وَالمَرَاسِيلَ بِأَنْ يُتْرَكَ مِنْ حَدِيْثِهِمُ المُرْسَلُ وَالمَقْطُوعُ، وَيُحْتَجَّ بِالخَبَرِ الصَّحِيحِ». اهـ. ثانيهما: أن ما رواه من هذا الطريق إنما هو عن صحيفة رواها وِجَادَةً، أو بعضها وِجَادَةً والبعض سَمَاعٌ. (والتصحيف على الرواية من التصحف، بخلاف المشافهة بالسماع) فلا يصح الاعتماد عليها. قَالَ مُغِيْرَةُ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ صَحِيْفَةَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو عِنْدِي بِتَمْرَتَيْنِ، أَوْ بِفِلْسَيْنِ» (¬2). وانظر ما تقدم نقله - في الاعتراض - عن ابن معين وابن المديني. ... وَكِلاَ الأمرين باطل: أما الأول: فقد قال الذهبي: «هَذَا لاَ شَيْءَ، لأَنَّ شُعَيْبًا ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي رَبَّاهُ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ عَبْدُ اللهِ، وَكَفَلَ شُعَيْبًا جَدُّهُ عَبْدُ اللهِ. فَإِذَا قَالَ: عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ: عَنْ جَدِّهِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِالضَّمِيرِ فِي جَدِّهِ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى شُعَيْبٍ» (¬3). اهـ. وقال علي بن المديني: «سَمِعَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، شُعَيْبٌ بْنُ مُحَمَّدٍ». اهـ. قال الذهبي: «يَعْنِي حَفِيدُهُ» (¬4). اهـ. وقال الحافظ العراقي: «قَدْ صَحَّ سَمَاعُ شُعَيْبٍ مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، كَمَا صَرَّحَ بِهِ البُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " وَأَحْمَدُ، وَكَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ» (¬5). اهـ. وقال ابن الصلاح: «اِحْتَجَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الحَدِيثِ بِحَدِيثِهِ حَمْلاً لِمُطْلَقِ الجَدِّ عَلَى الصَّحَابِيِّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو دُونَ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَالِدِ ¬

_ (¬1) في " الميزان ":ج 2 ص 291: «تَقَدَّمَتْ». (¬2) في " الميزان ":ج 2 ص 289 - 290. (¬3) في " الميزان ":ج 2 ص 289 - 290. (¬4) في " الميزان ":ج 2 ص 289 - 290. (¬5) في " الميزان ":ج 4 ص 68 - 69.

شُعَيْبٍ، لِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ إِطْلاَقِهِ ذَلِكَ» (¬1). اهـ. وأما الثاني: فقد قال الذهبي: «أَمَّا كَوْنُهَا وِجَادَةً أَوْ بَعْضُهَا سَمَاعٌ وَبَعْضُهَا وِجَادَةٌ فَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ. وَلَسْنَا نَقُولُ: إِنَّ حَدِيثَهُ مِنْ أَعْلَى أَقْسَامِ الصَّحِيحِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ» (¬2). اهـ. أقول: ولو سلمنا أن روايته إنما كانت عن الصحيفة وحدها دون المشافهة فالذي يغلب على الظن أن عمروًا أو أباه شُعَيْبًا - وكل منهما ثقة - لا يروى عن الصحيفة شيئًا إلا إذا وثق أن المكتوب لا تصحيف فيه، وأنه بخط عبد الله بن عمرو نفسه، ولم يدخله تغيير ولا تبديل. فلا جرم أن قال بصحتها والاحتجاج بها جمهور الثقات إن لم نقل جميعهم. قال أحمد بن صالح: «أَجْمَعَ آلُ عَبْدِ اللهِ عَلَى أَنَّهَا صَحِيفَةُ عَبْدِ اللهِ» (¬3). اهـ. وقال ابن القيم (¬4): «وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ، وَكَانَ مِمَّا كَتَبَهُ صَحِيفَةٌ تُسَمَّى الصَّادِقَةَ، وَهِيَ الَّتِي رَوَاهَا حَفِيدُهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، وَهِيَ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ، وَكَانَ بَعْضُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَجْعَلُهَا فِي دَرَجَةِ أيوب عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمُ احْتَجُّوا بِهَا». وقال اَيْضًا (¬5): «وَقَدْ احْتَجَّ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَالفُقَهَاءُ قَاطِبَةً بِصَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلاَ يُعْرَفُ فِي أَئِمَّةِ الْفَتْوَى إلاَّ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا وَاحْتَجَّ بِهَا، وَإِنَّمَا طَعَنَ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَحَمَّلْ أَعْبَاءَ الفِقْهِ وَالفَتْوَى كَأَبِي حَاتِمٍ الْبُسْتِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا». اهـ. ولك أن تقول: إن الحديث الذي نستدل به ليس من الصحيفة وإنما هو حديث تضمن الإذن بكتابة الصحيفة المشتملة على أحاديث أخرى. ولا يلزم من ¬

_ (¬1) انظر " فتح المغيث ": ج 4 ص 68، 68. (¬2) انظر " الميزان ": ج 2 ص 291. (¬3) في " إعلام الموقعين ": ج 1 ص 116و 317. (¬4) في " زاد المعاد " بهامش " شرح المواهب ": ج 4 ص 352، 353. (¬5) في " إعلام الموقعين ": ج 1 ص 116و 317.

كونه مَرْوِيًّا من طريقها أن يكون منها. وأما أنه لم يحتج بهذا الطريق إلا بعض المتأخرين، وأن هذا تساهل منهم فهو باطل كما يدل عليه أقوال البخاري وابن القيم وابن الصلاح المتقدمة، وقول أحمد بن سعيد الدارمي (¬1): «احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِهِ». اهـ. وقول المنذري (¬2): «وَالجُمْهُورُ عَلَى تَوْثِيقِهِ وَعَلَى الاِحْتِجَاجِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ». اهـ. وأما أنه لا طريق ثالثة لهذا الحديث فهو باطل اَيْضًا. فقد أخرجه أبو داود (¬3) وأحمد اَيْضًا من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن الأخنس، عن الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو - وهي طريق في غاية الصحة - بلفظ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ». وأخرجه اَيْضًا البيهقي في " المدخل " والدارمي في " السنن " بهذا اللفظ، قال " في الفتح الرباني " (¬4): «وَرَوَاهُ الحَاكِمُ اَيْضًا وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، أَصْلٌ فِي نَسْخِ الحَدِيثِ (يَعْنِي الكِتَابَةَ) عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَقَدْ اِحْتَجَّا بِجَمِيعِ رُوَاتِهِ إِلاَّ عَبْدَ الوَاحِدِ بْنَ قَيْسٍ، وَهُوَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَابْنُهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الوَاحِدِ الدِّمِشْقِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ. اهـ. وأقره الذهبي». اهـ. ثم نقول: ويزيد ذلك كله قوة ما رواه أحمد والبخاري والترمذي، عن وهب ¬

_ (¬1) كما نقله عنه في " فتح المغيث ": ج 4 ص 68. (¬2) في " الترغيب والترهيب ": ج 3 ص 289. (¬3) في " السنن ": ج 4 ص 289. (¬4) ج 1 ص 172، 173.

ابن منبه، عن أخيه همام، أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً منِّيْ إلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، فإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أكْتُبُ».ورواه عبد الرزاق اَيْضًا من طريق معمر عن همام بن منبه. قال العيني (¬1): «إن عبد الله بن عمرو - من أفاضل الصحابة - كان يكتب ما يسمعه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولو لم تكن الكتابة جائزة لما كان يفعل ذلك. فإذا قلنا: فعل الصحابي حجة فلا نزاع فيه. وإلا فالاستدلال على جواز الكتابة يكون بتقرير الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابته». ثم قال (¬2): «أخرج حديث أبي هريرة " الترمذي " - في العلم وفي المناقب - عن سفيان بن عيينة به، وقال: حسن صحيح. وأخرجه " النسائي " في العلم عن إسحاق بن راهوية عن سفيان به». اهـ. أقول: قد ورد الإذن منه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بالكتابة، فيما رواه أحمد والبيهقي من طريق عمرو بن شعيب، عن مجاهد والمغيرة بن حكيم، أنهما قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: «مَا كَانَ أَحَد أَعْلَم بِحَدِيثِ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي، مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ، [وَيَعِيهِ] بِقَلْبِهِ، وَكُنْتُ [أَعِيهِ بِقَلْبِي]، وَلاَ أَكْتُبُ [بِيَدِي]، وَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ عَنْهُ، فَأَذِنَ لَهُ». قال ابن حجر (¬3): «إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الْعُقَيْلِيُّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن [سَلْمَان] (*) عَنْ عَقِيل عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ». اهـ. وأخرجه الدارمي، - في النقض - (¬4) من هذا الطريق اَيْضًا. وروى " البخاري " (¬5) " ومسلم " (¬6) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ¬

_ (¬1) في " عمدة القاري ": ج 2 ص 168. (¬2) ج 2 ص 169. (¬3) في " الفتح ": ج 1 ص 148، 149. (¬4) ص 131. (¬5) ج 3 ص 125. (¬6) ج 4 ص 110. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في المطبوع من الكتاب (سليمان) والصواب (سلمان) وهو: عَبْد الرَّحْمَن بن سلمان الحجري الرعيني المِصْرِي، رَوَى عَن: سلمة بْن كهيل الكوفي، وعقيل بْن خالد الأيلي، وعَمْرو بْن أَبي عَمْرو مولى المطلب، ويزيد بْن عَبد الله بْن الهاد (مد س). رَوَى عَنه: عَبد اللَّهِ بن وهب. قال أَبُو سَعِيد بْن يونس: وهو قريب السن من ابن وهب، يروي عَنْ عقيل غرائب انفرد بها، وكان ثقة. وقَال البُخارِيُّ: فيه نظر. انظر " تهذيب الكمال " للمزي، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، 17/ 148، ترجمة رقم: 3837، الطبعة: الأولى، 1400 هـ - 1980 م، نشر مؤسسة الرسالة - بيروت.

، عن يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: [حَدَّثَنِي] أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ (أوْ القَتْلَ)، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي. وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ»، فَقَالَ العَبَّاسُ: إِلاَّ الإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلاَّ الإِذْخِرَ». فَقَامَ أَبُو شَاهٍ - رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ - فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ [رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]: «اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ»، قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ (*) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [وأخرج الشيخان] مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: «أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ». وباختلاف يسير في ألفاظه (¬1). وَرَوَى البيهقي (**) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [فِي رَجُلٍ] مِنَ الأَنْصَارِ شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ وَلاَ أَحْفَظُهُ فَقَالَ: «اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ لِلْخَطِّ. ورواه الترمذي اَيْضًا وصححه. إلا أن بعضهم ذكر أنه قال (¬2): «وَهَذَا الإِسْنَادُ لَيْسَ بِالْقَائِمِ وَالْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ» (¬3) ( ... ). وروى أحمد والبخاري ومسلم - واللفظ له - عن يزيد بن شريك التَّيْمِيِّ أنه قال: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابَ ¬

_ (¬1) انظر " صحيح مسلم ": ج 4 ص 111، و " صحيح البخاري ": ج 1 ص 29، 30. (¬2) انظر التعليقة رقم (1) في " تيسير الوصول ": ج 3 ص 176. (¬3) ولكن يقويه رواية البيهقي له، وما سيأتي في ص 446 من حَدِيثَيْ رافع وعلي [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) في الكتاب المطبوع ورد خطأ طباعي (هَذِهِ الخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ الشَّيْخاَنِ ... ) والصواب ما أثبته من " الصحيحين "، وما يليه في ظني ما جاء بعده ووضعته بين [ ..... ]. (**) في " المدخل إلى السنن الكبرى "، تحقيق الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي: (29) باب من رخص في كتابة العلم وأحسبه حين أمن من اختلاطه بكتاب الله - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -، 2/ 238، حديث رقم: 764، الطبعة الثانية: عام 1420 هـ، نشر مكتبة أضواء السلف. المملكة العربية السعودية. ( ... ) المصدر السابق: 2/ 765، حديث رقم 765. وانظر فيه رأي البيهقي. اا

اللهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ - قَالَ: وَصَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ - فَقَدْ كَذَبَ، فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ، وَأَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَفِيهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المَدِينَةُ [حَرَمٌ] مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلاَ عَدْلاً، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلاَ عَدْلاً». وروى " أحمد " و " البخاري " - واللفظ له - عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ (¬1) قَالَ: «لاَ، إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. [قَالَ]: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». وروى " مسلم " عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ، أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً، إِلاَّ مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا. [قَالَ]: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً [مَكْتُوبٌ] فِيهَا: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الأَرْضِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ [آوَى] مُحْدِثًا». وروى " النسائي " عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي كِتَابِي هَذَا. فَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، فَإِذَا فِيهِ «الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلاَ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلاَ ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». وروى " أحمد " بسند حسن - كما قال الحافظ ابن حجر - عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، [وَهُوَ يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ]: «وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ إِلا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ - مُعَلَّقَةً بِسَيْفِهِ - أَخَذْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهَا فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ». ¬

_ (¬1) قال في " الفتح ": ج 1 ص 146: «وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ ذَلِكَ، لأَنَّ جَمَاعَة مِنْ الشِّيعَة كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِنْد أَهْل الْبَيْت - لاَ سِيَّمَا عَلِيًّا - أَشْيَاء مِنْ الوَحْي خَصَّهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لَمْ يُطْلِع غَيْرهمْ عَلَيْهَا».

قال ابن حجر: «وَالْجَمْع بَيْن هَذِهِ الأََحَادِيث أَنَّ الصَّحِيفَة كَانَتْ وَاحِدَة وَكَانَ جَمِيع ذَلِكَ مَكْتُوبًا فِيهَا، فَنَقَلَ كُلّ وَاحِد مِنْ الرُّوَّاةِ عَنْهُ مَا حَفِظَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَتَادَة فِي رِوَايَته لِهَذَا الْحَدِيث عَنْ أَبِي حَسَّان عَنْ عَلِيّ، وَبَيَّنَ اَيْضًا السَّبَب فِي سُؤَالهمْ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلاَئِل " مِنْ طَرِيق أَبِي حَسَّان أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُر [بِالأَمْرِ] فَيُقَال: قَدْ فَعَلْنَاهُ. فَيَقُول: " صَدَقَ اللَّه وَرَسُوله ". فَقَالَ لَهُ الأَشْتَر: " هَذَا الَّذِي تَقُول أَهُوَ شَيْء عَهِدَهُ إِلَيْك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة دُون النَّاس؟ " فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ». اهـ. وروى ابن عبد البر عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: وُجِدَ فِي قَائِمِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحِيفَةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ مَنْ أَضَلَّ أَعْمَى عَنِ [السَّبِيلِ]، مَلْعُونٌ مَنْ سَرَقَ تُخُومَ الأَرْضِ، مَلْعُونٌ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ» أَوْ قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ جَحَدَ نِعْمَةَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ» (¬1). وروى أبو داود (¬2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «مَا كُنَّا نَكْتُبُ غَيْرَ التَّشَهُّدِ، وَالْقُرْآنِ». والتشهد من السنة. فقد ثبتت كتابتها في الجملة عن أبي سعيد الذي روى حديث النهي عنها. وَرَوَى الرَّامَهُرْمُزِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَنَكْتُبُهَا؟ قَالَ: " اكْتُبُوا ذَلِكَ وَلاَ حَرَجَ "» (¬3). وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «إِذَا كَتَبْتُمُ الْحَدِيثَ فَاكْتُبُوهُ بِسَنَدِهِ» (¬4). وروى البخاري (¬5) من ثلاث طرق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس بألفاظ متقاربة أنه قال: لَمَّا حُضِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

_ (¬1) انظر " مختصر جامع بيان العلم ": ص 36، 37. (¬2) في " السنن ": ج 3 ص 319. (¬3) انظر " تدريب الراوي ": ص 150. (¬4) انظر " تدريب الراوي ": ص 150. (¬5) [ج 1 ص 30. ج 6 ص 9، 10. ج 9 ص 111، 112].

قَالَ، وَفِي البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الوَجَعُ. وَعِنْدَكُمُ القُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ البَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ (¬1)، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالاِخْتِلاَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قُومُوا عَنِّي». قَالَ [عُبَيْدُ اللَّهِ]، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الكِتَابَ مِنَ اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ». (إلا أن إحدى هذه الطرق لم يصرح فيها باسم عمر أو غيره) ورواه اَيْضًا " أحمد " و " مسلم " و " الإسماعيلي " و " ابن سعد ". وفي رواية أحمد: أن المأمور بذلك عَلِيٌّ. وروى الشيخان (¬2) من طريق سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (واللفظ للبخاري)، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، فَقَالَ: «ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَتَنَازَعُوا وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ. فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، أَهَجَرَ؟ (¬3) اسْتَفْهِمُوهُ؟ فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ» وَأَوْصَاهُمْ بِثَلاَثٍ. الحديث. قال ابن حجر (¬4): «قَدَّمَ (يعني البخاري) حَدِيثَ عَلِيٍّ - أَنَّهُ كَتَبَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَطْرُقهُ اِحْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا كَتَبَ ذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، وَثَنَّى بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة [وَفِيهِ الأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ] وَهُوَ بَعْدَ النَّهْيِ فَيَكُونُ نَاسِخًا، وَثَلَّثَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ إِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ أَقْوَى فِي الاسْتِدْلاَل لِلْجَوَازِ مِنَ الأَمْرِ أَنْ يَكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ لاحْتِمَالِ اِخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِمَنْ يَكُونُ أُمِّيًّا أَوْ أَعْمَى، وَخَتَمَ بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ أَنْ يَكْتُبَ لأُمَّتِهِ كِتَابًا ¬

_ (¬1) انظر في " الفتح ": ج 1 ص 149، 150 أقوال العلماء في قول عمر هذا. (¬2) " صحيح البخاري ": ج 6 ص 9. و " صحيح مسلم ": ج 5 ص 75. (¬3) انظر في " الفتح ": ج 8 ص 93، 94 ما قاله العلماء في ذلك فهو الغاية. (¬4) ج 1 ص 150.

الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن:

يَحْصُلُ مَعَهُ الأَمْنُ مِنَ الاخْتِلاَف وَهُوَ لاَ يَهُمُّ إِلاَّ بِحَقٍّ». اهـ. وقد ثبت أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كُتُبًا كثيرة في بيان ديات النفس والأطراف والفرائض وغير ذلك من الأحكام. كما وقع لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران ومعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن، وغيرهما. ولولا خشية الإطالة عليك، ولحوق الملل بك لأتيت بها من مراجعها الصحيحة، ونقلتها عن مصادرها الوثيقة. فإن كنت من الحريصين على الوقوف عليها، والراغبين في قراءتها فارجع إليها (¬1). ... الجَمْع بَيْنَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ وَأَحَادِيثِ الإِذْنِ: فإن قيل: إن أحاديث النهي تتعارض مع أحاديث الإذن فكيف يمكن الجمع بينهما؟ وهل يصح أن يكون النهي ناسخًا للإذن كما ذهب إليه بعض (¬2) من كتب في الموضوع؟. قلت (إجابة عن السؤال الأول): إن للعلماء في الجمع بين هذين النوعين من الأحاديث أقوالاً: أولها: أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره. والإذن في غير ذلك الوقت (¬3). ثانيها: أن النهي خاص بكتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة. لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها فنهوا عن ذلك خوف الاشتباه. والإذن ¬

_ (¬1) في " الطبقات ": ج 2. و " جمهرة رسائل العرب ": ج 1. و " الأموال ": ص 27 و 125 و 358 وغيرها. و " الخراج لأبي يوسف: ص 85 وغيرها. و " الخراج " للقرشي: ص 116 و 119. وكتب السيرة والتاريخ و" سنن النسائي " و " أبي داود " و " الدارمي " و " الدارقطني " و " المُحَلَّى " وغيرها. (¬2) هو صاحب مجلة " المنار ": السنة 10، العدد 10، ص 767. (¬3) انظر " تدريب الراوي ": ص 151. و " فجر الإسلام ": ج 1 ص 246.

إنما كان بكتابة الحديث في صحف مستقلة ليس فيها شيء من القرآن (¬1). ولهذا الاشتباه الذي يحصل من كتابة تأويل الآية معها ذهب بعض العلماء إلى أنه يحتمل أن تكون القراءة الشاذة نشأت من أن الصحابي كتب تفسير كلمة من القرآن معها. فظن التابعي أن ذلك التفسير قرآن. أو من أن الصحابي ذكر التفسير للتابعي فكتبه هذا مع القرآن. فظن من بعده أنه منه. ثالثها: أن النهي خاص بكتاب الوحي المتلو (القرآن) الذين كانوا يكتبونه في صحف لتحفظ في بيت النبوة. فلو أنه أجاز لهم كتابة الحديث لَمْ يُؤْمَنْ أن يختلط القرآن بغيره. والإذن لغيرهم (¬2). رابعها: أن النهي لمن أمن عليه النسيان ووثق بحفظه وخيف اتكاله على الخط إذا كتب. والإذن لمن خيف نسيانه ولم يوثق بحفظه أو لم يخف اتكاله على الخط إذا كتب (¬3). خامسها: أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص بالإذن عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئًا للكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية. وكان غيره من الصحابة أُمَّيِّينَ لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي. فلما خشى عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم ولما أَمِنَ على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له. قاله ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " (¬4). وأقول: المستفاد من قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ». وقوله: «امْحِضُوا كِتَابَ اللهِ، [وَأَخْلِصُوهُ]»، أن من نهاهم عن كتابة السُنَّةِ أذن لهم في كتابة القرآن. ولا يعقل أن يكون قد نهاهم عن كتابتها خشية الغلط ¬

_ (¬1) انظر " تدريب الراوي ": ص 150، 151. و " فتح المغيث ": ج 2 ص 18. (¬2) انظر " مذكرة تاريخ التشريع ": ص 197، 198. و " علوم الحديث ": ص 171. (¬3) انظر " تدريب الراوي ": ص 150. و " فتح المغيث ": ج 2 ص 18. و " علوم الحديث ": ص 171. (¬4) ص 365، 366.

ويأذن لهم أنفسهم في الوقت نفسه بكتابة القرآن مع أنه يستدعي احتياطًا أعظم. ويظهر لك من تقرير هذه الأقوال المتقدمة أن أصحابها لا يقولون بنسخ شيء بشيء. ولم يقل بالنسخ إلا أصحاب القول السادس الآتي. سادسها: أن يكون النهي من منسوخ السُنَّةِ بِالسُنَّةِ كأنه نهي في أول الأمر عن أن يكتب قوله ثم رأى - لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ - أن تكتب وتقيد. قاله ابن قتيبة اَيْضًا. ومثله في " معالم السنن " للخطابي حيث قال: «يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُتَقَدِّمًا وَآخِرُ الأَمْرَيْنِ الإِبَاحَةُ». وظاهر كلامهما أن كُلاًّ من النهي والإذن عام للصحف والأشخاص والأزمنة لا تخصيص فيه بشيء مما تقدم في الأقوال السابقة. وظاهره اَيْضًا أنه نهي في أول الأمر سَوَاءًا خِيفَ اللُّبْسُ أَوْ لاَ. ثم أذن مطلقًا كذلك. فيرد عليهما أَوَّلاً: أنه لا حكمة في النهي عند أمن اللبس. اللهم إلا أن يقول: إنه تَعَبُّدِي. وَثَانِيًا: أنه لا يصح الإذن بحال إذا خيف اللبس. اللهم إلا أن يقال: إن القرآن من وقت صدور الإذن تقرر عندهم وتواتر بينهم، وميزوه تمام التمييز عن غيره، وستستمر هذه الحالة بين الأمة إلى يوم القيامة، فلا يمكن حصول الاشتباه فالخوف قد انقطع زمنه وانقضى حكمه. وفيه بعد، فإنه يمكن حصول الاشتباه لمن يكون حديث عهد بالإسلام بعيدًا عمن يرجع إليه ويهديه إلى الصواب إذا اشتبه. فيجب أن لا يكتب له شيء من غير القرآن معه إذا ما طلب منا كتابة القرآن له. فالحق أن الإذن يجب أن يكون مُقَيَّدًا بحالة الأمن، ولذلك قال السيوطي في تقرير هذا المذهب: «(أَوْ نَهَى) عَنْهُ (حِينَ خِيفَ اخْتِلاَطُهُ بِالْقُرْآنِ، وَأَذِنَ) فِيهِ (حِينَ أَمِنَ) ذَلِكَ. فَيَكُونُ النَّهْيُ مَنْسُوخًا». اهـ. ومثله في " شرح مسلم للنووي " (¬1). وقال ¬

_ (¬1) ج 18 ص 130.

ابن حجر (¬1) في تقريره: «إِنَّ النَّهْيَ مُتَقَدِّمٌ وَالإِذْنَ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَ الأَمْنِ مِنَ الاِلْتِبَاسِ». اهـ. لكن عبارة ابن حجر يظهر فيها القول بالنسخ فإنه جعل النهي في أول الأمر متوجهًا في حالتي الخوف والأمن كما هو ظاهر من إطلاقه ثم جاء الإذن في حالة الأمن نَاسِخًا النَّهْيَ في هذه الحالة. وبقي النهي في حالة الخوف مستمرًا وأما عبارة السيوطي والنووي فلا يعقل فيها نسخ لأن النهي كان من أول الأمر خَاصًّا بحالة الخوف. والإذن في حالة الأمن. فلا يرفعه إذ لم يَرِدَا في حالة واحدة بل هما في حالتين مختلفتين وَلِعِلَّتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ. فيستمران هكذا إلى يوم القيامة: إن وجد الخوف توجه النهي، وإن وجد الأمن حصلت الإباحة. فمن أين النسخ؟. اللهم إلا أَنْ يَدَّعِي أن النهي إنما كان في زمن لا يوجد فيه إلا الخوف من الاشتباه لعدم تقرر القرآن في النفوس وتميزه تمام التمييز. وأنه من حين الإذن إلى يوم القيامة , لا يوجد إلا الأمن لتواتر القرآن وكمال تميزه عند الأمة. ولو فرض أنه حصل لبس لأحد رجع إلى الكثير من الناس فيبينون له الصواب فهو آمن من اللبس في النهاية. وحيث إن النهي قد انتهت علته ولا يمكن وجودها من وقت الإذن فقد انتهى هو اَيْضًا. وهذا نسخ. وفيه نظر: فإن الإذن لا يقال: إنه ناسخ لهذا النهي على تقدير صحة كلامهم هذا. وكل ما في الأمر أنه قد انتهى تعلق الحكم لانتهاء علته وعدم وجودها فيما بعد. ولا يقال لنحو هذا: نسخ. لأن النسخ رفع حكم شرعي بخطاب شرعي. وفيه نظر آخر يعلم مما تقدم في مسألة حديث العهد بالإسلام. فالنسخ إنما يعقل في كلام ابن قتيبة والخطابي - على ما فيهما من المناقشة ¬

_ (¬1) في " الفتح ": ج 1 ص 149.

المتقدمة - وفي كلام ابن حجر. إلا أن النسخ في كلاميهما عام لحالتي الأمن والخوف. وفي كلامه خاص بحالة الأمن. وقد قال بالنسخ جمهور العلماء (¬1)، واختاره بعض المتأخرين (¬2) والحق أنه لا نسخ أصلاً. وأن النهي دائر مع الخوف، والإذن دائر مع الأمن وُجُودًا وَعَدَمًا. وأن الخوف قد يحصل في أي زمن فيتوجه النهي، والأمن قد يحصل في أي زمن فيتوجه الإذن. فإنه يجب أن لا نقول بالنسخ إلا عند عدم إمكان الجمع بغيره، وقد أمكننا الجمع بتخصيص النهي بحالة الخوف والإذن بحالة الأمن. وهو جمع معقول المعنى. فما الذي يضطرنا إلى القول بالنسخ؟ ثم إنه لا داعي للتخصيصات بالصحف أو الأشخاص أو الأزمنة كما ذكر في الأقوال السابقة. بل المدار في النهي على حصول الاشتباه من كتابة السُنَّةِ مع القرآن أو مستقلة ومن كاتب الوحي أو من غيره. وفي زمن نزول الوحي أو في غيره. والمدار في الإذن على الأمن من الاشتباه في هذه الأحوال كلها. وقلت (إجابة عن السؤال الثاني): إنه لا يصح بحال أن يكون النهي نَاسِخًا للإذن. لأمور ثلاثة: الأول: ما تقدم لك في إبطال أن الإذن ناسخ للنهي من أنه يجب أن لا يصار إلى القول بالنسخ إلا عند العجز عن الجمع بين الدليلين المتعارضين بغيره. وقد أمكن الجمع كما تقدم. فلا يصح أن يكون أحدهما ناسخا للآخر. الثاني: أن أحاديث الإذن متأخرة، فحديث أبي شاه عام الفتح وذلك في أواخر حياة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحديث أبي هريرة في المقارنة بينه وبين عبد الله بن عمرو متأخر اَيْضًا لأن أبا هريرة متأخر الإسلام. وهو يدل اَيْضًا على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة. وحديث [هَمِّهِ]- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة كتاب لن تضل الأمة بعده كان في ¬

_ (¬1) على ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في جوابه في صحة مذهب أهل المدينة: ص 36. (¬2) كصاحب " مفتاح السنة " (*): ص 17. والأستاذ أحمد شاكر في تعليقه على " الباعث الحثيث ": ص 155. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " مفتاح السنة " أو " تاريخ فنون الحديث النبوي "، صنفه العَلاَّمَةُ الشيخ محمد عبد العزيز الخولي، حققه وعلق عليه الشيخان محمود الأرناؤوط ومحمد بدر الدين القهوجي، قدم له: الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م، دار ابن كثير: بيروت - لبنان. دمشق - سورية، (307 صفحة).

الكلام على كتابة السنة وتدوينها في عهد الصحابة:

مرض موته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويبعد جِدًّا أن يكون حديث أبي سعيد قد تأخر عن هذه الأحاديث كلها خصوصًا حديث الهَمِّ. ولو كان متأخرًا عنها لعرف ذلك عند الصحابة يقينًا صريحًا. الثالث: إجماع الأمة القطعي بعد عصر الصحابة والتابعين على الإذن وإباحة الكتابة وعلى أن الإذن متأخر عن النهي. كما سنبينه. وهو إجماع ثابت بالتواتر العملي عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول (¬1). حتى ممن كان يقول في عصرنا هذا بأن النهي ناسخ للإذن فإنا نجده قد ملأ الصحف بالحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ... الكَلاَمُ عَلَى كِتَابَةِ السُنَّةِ وَتَدْوِينِهَا فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ: فإن قيل: بقي علينا أن ننظر فيما كان عليه الصحابة والتابعون- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بعد وفاة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من امتناعهم عن كتابة السُنَّةِ وتدوينها، ومنعهم الغير من ذلك وإحراقهم ما كتب منها، واستدلالهم على ذلك كله بنهيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كتابتها. أفلا يدلنا ذلك كله على عدم حُجِّيَّةِ السُنَّةِ، وعلى أن نهيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان متأخرًا عن الإذن وناسخًا له؟ وإلا لعملوا بمقتضى الإذن: قلنا: إنهم يكونوا مجمعين على هذه الأمور المذكورة. فقد كان أكثرهم يبيح الكتابة (¬2) ويحتفظ بالمكتوب منها والبعض يكتب بالفعل (¬3). وإليك ما ورد في ذلك من الآثار: لما وجه أبو بكر الصديق أنس بن مالك إلى البحرين عاملاً على الصدقة كتب ¬

_ (¬1) كما قال الأستاذ أحمد شاكر في " شرح الباعث الحثيث ": ص 159. (¬2) كما نقله العيني: ج 2 ص 167 عن القاضي عياض. (¬3) كما حققه الدارمي في " النقض ": ص 130 - 132.

لهم: «إِنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِ، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلاَ يُعْطِ» الكتاب. أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. وروى ابن عبد البر عن عبد الملك بن سفيان عن عمه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» .. ورواه اَيْضًا الحاكم والدارمي. وروى مثله ابن عبد البر من طريق يحيى بن أبي كثير عن ابن عباس. وروي عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ». وروي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيثَ، فَيَكْتُبُهُ فِي وَاسِطَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا نَزَلَ نَسَخَهُ». وروى مسلم عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابًا، وَيُخْفِي عَنِّي، فَقَالَ: «وَلَدٌ نَاصِحٌ أَنَا أَخْتَارُ لَهُ الأُمُورَ اخْتِيَارًا، وَأُخْفِي عَنْهُ»، قَالَ: فَدَعَا بِقَضَاءِ عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ مِنْهُ أَشْيَاءَ، وَيَمُرُّ بِهِ الشَّيْءُ، فَيَقُولُ: «وَاللهِ مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ضَلَّ». وروي من طريق سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، [عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ]، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: «أُتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ فِيهِ قَضَاءُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَمَحَاهُ إِلاَّ قَدْرَ»، وَأَشَارَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِذِرَاعِهِ. وروى أحمد عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنِ ارْفَعْ إِلَيَّ حَاجَتَكَ، [قَالَ]: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: «" إِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ "، وَلَسْتُ أَسْأَلُكَ شَيْئًا، وَلاَ أَرُدُّ رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ مِنْكَ». وقال ابن حجر في " الفتح ": «وَجَدْتُ فِي كِتَابِ " الوَصِيَّة " لأَبِي الْقَاسِم بْن مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ البُخَارِيِّ بِسَنَدٍ لَهُ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بِكِتَابٍ فِيهِ أَحَادِيثٌ فَقَالَ: اُنْظُرْ فِي هَذَا الكِتَاب، فَمَا عَرَفْتَ مِنْهُ اُتْرُكْهُ وَمَا لَمْ تَعْرِفهُ اُمْحُهُ».

ثم قال (ابن حجر): «وَعَبْد اللَّه يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هُوَ اِبْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، فَإِنَّ الْحُبُلِيّ سَمِعَ مِنْهُ. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِي، فَإِنَّ الْحُبُلِيّ مَشْهُور بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ». وروى ابن عبد البر عن مجاهد: أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «مَا يُرَغِّبُنِي فِي الحَيَاةِ إِلاَّ خَصْلَتَانِ: الصَّادِقَةُ وَالوَهْطُ. فَأَمَّا الصَّادِقَةُ فَصَحِيفَةٌ كَتَبْتُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْوَهْطُ فَأَرْضٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ [كَانَ يَقُومُ عَلَيْهَا]». وروي عن عَنِ [الْفَضْلِ] بْنِ حَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَحَدَّثْتُ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثٍ فَأَنْكَرَهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي [قَدْ] سَمِعْتُهُ مِنْكَ، قَالَ: «إِنْ كُنْتَ سَمِعْتَهُ مِنِّي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدِي»، فَأَخَذَ بِيَدِي إِلَى بَيْتِهِ فَأَرَانَا كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فَقَالَ: «قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنِّي إِنْ كُنْتُ قَدْ حَدَّثْتُكَ بِهِ فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدِي».وأخرج ابن حجر نحوه. قال ابن عبد البر: «هَذَا خِلاَفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَكْتُبُ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَتَبَ، وَحَدِيثُهُ بِذَلِكَ أَصَحُّ فِي النَّقْلِ مِنْ هَذَا؛ لأَنَّهُ أَثْبَتُ إِسْنَادًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، إِلاَّ أَنَّ الحَدِيثَيْنِ قَدْ يَسُوغُ التَّأَوُّلُ فِي الجَمْعِ [بَيْنَهُمَا]»: بأنه لم يكن يكتب في عهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كتب بعده. وبأنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبًا عنده أن يكون بخطه. وقد ثبت أنه لم يكن يكتب. فتعين أن يكون المكتوب عنده بغير خطه. وروى ابن عبد البر عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ قَالَ: «كُنْتُ أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُفَارِقَهُ أَتَيْتُهُ بِكِتَابِي فَقُلْتُ: هَذَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ» وروى " مسلم " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ (محمود): قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيتُ عِتْبَانَ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ، قَالَ: أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْءِ، فَبَعَثْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِي وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَسْنَدُوا عُظْمَ ذَلِكَ وَكُبْرَهُ

إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ، قَالُوا: وَدُّوا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، وَدُّوا أَنَّهُ أَصَابَهُ شَرٌّ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ، وَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟»، قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ: «لاَ يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَيَدْخُلَ النَّارَ، أَوْ تَطْعَمَهُ»، قَالَ أَنَسِ: فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ لابْنِي: اكْتُبْهُ فَكَتَبَهُ. وروى ابن عبد البر عَنْ ثُمَامَةَ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَقُولُ لِبَنِيهِ: «يَا بَنِيَّ قَيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ» ورواه الحاكم اَيْضًا. وروى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «رَأَيْتُ جَابِرًا يَكْتُبُ عِنْدَ [ابْنِ سَابِطٍ] (*) فِي أَلْوَاحٍ». وروى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ حَنَشٍ] قَالَ: «رَأَيْتُهُمْ عِنْدَ الْبَرَاءِ يَكْتُبُونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالْقَصَبِ». وروى عَنْ مَعْنٍ قَالَ: «أَخْرَجَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كِتَابًا وَحَلَفَ لِي: إِنَّهُ خَطُّ أَبِيهِ بِيَدِهِ». وروى عن عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا أُمَامَةَ، عَنْ كِتَابِ الْعِلْمِ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا». وروى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ [أُحْرِقَتْ] كُتُبُهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ: «وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ عِنْدِي كُتُبِي بِأَهْلِي وَمَالِي». وروى عَنْ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الْحَسَنِ «أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بِكِتَابِ الْعِلْمِ بَأْسًا، وَقَدْ كَانَ أَمْلَى التَّفْسِيرَ فَكُتِبَ». وروي عَنِ الأَعْمَشِ [قَالَ: قَالَ] الْحَسَنُ: «إِنَّ لَنَا كُتُبًا نَتَعَاهَدُهَا». وروي عن عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي قَالَ: «لاَ بَأْسَ [بِكِتَابِ] الأَطْرَافِ» ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (ابن ساباط) وليس كذلك، إنما هو (ابن سابط)، وهو: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْد اللَّهِ بْن سابط بْن أَبِي حميضة بْن عمرو بْن أهيب بْن حذافة بْن جمح القرشي الجمحي. انظر: " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، ص 310، حديث رقم 397، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. الرياض - المملكة العربية السعودية. " أسد الغابة " لابن الأثير: 3/ 148، طبعة سنة 1409هـ - 1989م، نشر دار الفكر. بيروت - لبنان. " تهذيب التهذيب " لابن حجر العسقلاني، بعناية إبراهيم الزيبق وعادل مرشد،، ص 509، مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، 1416 هـ - 1995 م، نشر مؤسسة الرسالة]. " تقريب التهذيب "، تحقيق الشيخ محمد عوامة، ص 340، ترجمة رقم 3867، الطبعة الأولى: 1406 هـ - 1986 م، نشر دار الرشيد - سوريا

وَرَوَى عَنْ أَبِي كِبْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتَ شَيْئًا، فَاكْتُبْهُ وَلَوْ فِي حَائِطٍ». وَرَوَى عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ: «أَمْلَى عَلَيَّ الضَّحَّاكُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ». وَرَوَى عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: «الكِتَابُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ النِّسْيَانِ». وَرَوَى هو والسيوطي - في " التدريب " - عَنْ أَبِي المَلِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «يَعِيبُونَ عَلَيْنَا [أَنْ نَكْتُبَ الْعِلْمَ وَنُدَوِّنَهُ]، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى} (¬1)». وَرَوَى (*) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: «كُنْتُ سَيِّئَ الْحِفْظِ فَرَخَّصَ لِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي الْكِتَابِ». وَرَوَى عَنْ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: «لأَنْ أَكُونَ كَتَبْتُ كُلَّ مَا [كُنْتُ] أَسْمَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ مَالِي». وَرَوَى عَنْ سَوَادَةَ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَكْتُبِ الْعِلْمَ فَلاَ تَعُدُّوهُ عَالِمًا». وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا نَكْتُبُ الحَلاَلَ وَالحَرَامَ، وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ». وَرَوَى عَنْ [عَبْدِ الْعَزِيزِ] الدَّرَاوَرْدِيِّ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ العِلْمَ وَكَتَبَهُ ابْنُ شِهَابٍ». وَرَوَى عن مالك نحوه. وَرَوَى عن معمر عن الزهري أنه قال: «كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ، حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءُ فَرَأَيْنَا أَنْ لاَ نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ». وَرَوَى عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «اسْتَكْتَبَنِي الْمُلُوكُ فَأَكْتَبْتُهُمْ، فَاسْتَحْيَيْتُ اللَّهَ إِذْ كَتَبْتُهَا المُلُوكَ أَلاَّ أَكْتُبَهَا لِغَيْرِهِمْ». وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَابْنُ شِهَابٍ، وَنَحْنُ نَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى أَنْ نَكْتُبَ السُّنَنَ فَكَتَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ سَمِعْنَا ¬

_ (¬1) [سورة طه، الآية: 52]. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) يعود المؤلف فينقل عن " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر.

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ [بِنَا] مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَقُلْتُ: لاَ، لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَقَالَ هُوَ: بَلْ هُوَ سُنَّةٌ، وَكَتَبَ وَلَمْ أَكْتُبْ، فَأَنْجَحَ وَضَيَّعْتُ». وَرَوَى عَنْ خَالِدِ بْنِ نِزَارٍ قَالَ: «أَقَامَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَاتِبَيْنِ يَكْتُبَانِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَأَقَامَا سَنَةً يَكْتُبَانِ عَنْهُ». وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٌ قَالَ: [حَدَّثْتُ] يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ بِأَحَادِيثَ، فَقَالَ: «اكْتُبْ لِي حَدِيثَ كَذَا وَحَدِيثَ كَذَا»، فَقُلْتُ: أَمَا تَكْرَهُ أَنْ تَكْتُبَ الْعِلْمَ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ كَتَبْتَ فَقَدْ ضَيَّعْتَ» أَوْ قَالَ: «عَجَزْتَ». وَرَوَى عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «الْكِتَابُ قَيْدُ الْعِلْمِ». وَرَوَى عَنْ وَهْبٍ بْنِ جَرِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وَجَدْتُهُ مَكْتُوبًا عِنْدِي فِي الصَّحِيفَةِ». قَالَ: وَسَمِعْتُ شَبَابَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمُونِي أَثُجُّ (¬1) الحَدِيثَ فَاعْلَمُوا أَنِّي تَحَفَّظْتُهُ مِنْ كِتَابٍ». وَرَوَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: «يَجْلِسُ إِلَى العَالِمِ ثَلاَثَةٌ: رَجُلٌ يَأْخُذُ كُلَّ مَا [يَسْمَعُ] فَذَلِكَ حَاطِبُ لَيْلٍ، وَرَجُلٌ لاَ يَكْتُبُ وَيَسْمَعُ فَيُقَالُ لَهُ جَلِيسُ العَالِمِ، وَرَجُلٍ يَنْتَقِي وَهُوَ خَيْرُهُمْ»، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: «وَذَلِكَ الْعَالِمُ». وَرَوَى عَنْ سُفْيَانُ، [قَالَ]: قَالَ بَعْضُ الأُمَرَاءِ لابْنِ شُبْرُمَةَ، مَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تُحَدِّثُنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «كِتَابٌ عِنْدَنَا». وَرَوَى عَنْ حَاتِمٍ الْفَاخِرُ، [وَكَانَ ثِقَةً] قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكْتُبَ الحَدِيثَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ، حَدِيثٌ أَكْتُبُهُ أُرِيدُ أَنْ أَتَّخِذَهُ دِينًا، وَحَدِيثُ رَجُلٍ أَكْتُبُهُ فَأُوقِفُهُ لاَ أَطْرَحُهُ وَلاَ أَدِينُ بِهِ، وَحَدِيثُ [رَجُلٍ] ضَعِيفٍ أُحِبُّ أَنْ أَعْرِفَهُ وَلاَ أَعْبَأَ بِهِ». وَرَوَى عَنْ خَالِدٍ بْنَ خِدَاشٍ قَالَ: وَدَّعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَوْصِنِي فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي السَّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَكِتَابَةِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ». ¬

_ (¬1) أي أصب الكلام صبًا.

وَرَوَى عَنْ إِسْحَاقٍ بْنَ مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْتُ لأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مَنْ كَرِهَ كِتَابَ الْعِلْمِ؟ قَالَ: «كَرِهَهُ قَوْمٌ وَرَخَّصَ فِيهِ آخَرُونَ»، قُلْتُ لَهُ: لَوْ لَمْ يُكْتَبِ العِلْمُ لَذَهَبَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَوْلاَ كِتَابَةُ الْعِلْمِ أَيُّ شَيْءٍ كُنَّا نَحْنُ؟». قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: وَسَأَلْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ: كَمَا قَالَ أَحْمَدُ سَوَاءً. وَرَوَى عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ: [سَمِعْتُ] أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، يَقُولاَنِ: «كُلُّ مَنْ لاَ يَكْتُبِ الْعِلْمَ لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ». وَرَوَى عَنْ الرِّيَاشِيُّ [قَالَ]: قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، «اجْعَلْ مَا تَكْتُبُ بَيْتَ مَالٍ، وَمَا فِي صَدْرِكَ لِلنَّفَقَةِ». وَرَوَى عَنْ المُبَرِّدِ، [قَالَ]: قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، «مَا سَمِعْتُ شَيْئًا إِلاَّ كَتَبْتُهُ، وَلاَ كَتَبْتُهُ إِلاَّ حَفِظْتُهُ، وَلاَ حَفِظْتُهُ إِلاَّ نَفَعَنِي». ... وأما حصول هذه الأمور من بعض الصحابة: فلو سلمنا أن عمل هذا البعض حجة فلا دلالة فيه على عدم حُجِّيَّةَ السُنَّةِ، لما علمته في الكلام على نهي النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكتابة: حيث بينا هناك عدم دلالته على عدم الحُجِّيَةِ، وأن الكتابة ليست من لوازمها، وأن النهي إنما كان لعلل أخرى يمكن مجيئها هنا. ولا دلالة فيه اَيْضًا على أن النهي متأخر عن الإذن وناسخ له. لأنا إذا ذهبنا مذهب ابن قتيبة والخطابي (المذكور في القول السادس في البحث المتقدم) من أن كُلاًّ من النهي والإذن عام في جميع الأحوال والأشخاص - نقول: إنهم إنما استمروا على هذه الأمور بعد وفاته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأنهم لم يطلعوا على إذنه فاعتقدوا استمرار الحكم وعدم نسخه. لا لأن النهي في الواقع متأخر عن الإذن وناسخ له. وإلا لما حصل إجماع من بعدهم على الإذن والإباحة. وإذا ذهبنا مذهب المخصصين لكل من النهي والإذن بأي نوع من أنواع التخصيص المتقدمة - نقول: إن امتناع من امتنع من الصحابة أو التابعين عن الكتابة،

ومنعه الغير منها وإحراقه لما كتب - إنما كان عند تحقق حالة من حالات النهي المتقدمة التي يمكن وجودها في عصرهم. كأن كان يخشى اشتباه القرآن بالسنة إذا كتبت معه في صحيفة واحدة أو مطلقا. أو يخشى الاتكال على الكتابة وترك الحفظ الذي يميل إليه بطبعه، ويرى في تركه مضيعة للعلم وذهابا للفقه والفهم. ومثل ذلك يقال في التدوين وجمع السُنَّةِ في كتاب واحد كالقرآن. ونزيد كون التدوين من لوازم الحُجِّيَةِ بطلانًا فنقول: لو كان عدم التدوين دليلاً على عدم الحُجِّيَةِ لصح أن يقال: إن أبا بكر وزيد بن ثابت لما امتنعا عن جمع القرآن في أول الأمر كانا يفهمان أن القرآن ليس بحجة. وذلك ما لا يمكن أن يتصور في أبي بكر وزيد. ولكن الواقع أنهما إنما امتنعا عن جمعه أول الأمر: لأنه عمل لم يعمله الرسول قبلهما ولم يأمر به. ثم لما وجدا أن المصلحة والخير كل الخير في جمعه قاما به. روى " البخاري " من طريق ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ،: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: «كَيْفَ [تَفْعَلُ] شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، «فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ»، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، «فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ»، قُلْتُ: «كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟»، قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، " فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ

غَيْرِهِ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (¬1) [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ". فهذا يدلك على أن عدم التدوين ليس دليلاً على عدم الحُجِّيَةِ. بل قد يكون لسبب آخر من الأسباب المتقدمة أو التي سنذكرها. ثم إنا نجد أن عمر كان مترددًا في تدوين السُنَّةِ وجمعها في كتاب واستشار الصحابة في ذلك. فمنهم من أشار عليه بتدوينها. ولو كان التدوين متلازمًا مع الحُجِّيَةِ: للزم من تردده في حُجِّيَّةَ السُنَّةِ. أفيصح أن يظن ظان أن تردده هذا ناشئ عن تردده في حجيتها؟ لا يمكن أن يظن أن عمر يمضي عليه الزمن الطويل - من وقت إسلامه إلى أن تردد في تدوينها زمن خلافته - وهو متردد في كونها حُجَّةً. ولقد كان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حريصًا أشد الحرص على معرفة ما دون هذا الأمر الخطير - من الأحكام - من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والبحث عنه. وقد كان يسارع في إبداء رأيه في كثير من المواقف مع الصراحة المتناهية. فلا يخلو حاله إذن من أحد أمرين: إما يكون مُعْتَقِدًا حُجِّيَّتَهَا، أَوْ مُعْتَقِدًا عَدَمَهَا. وعلى كل فلا يصح أن يكون تردده في التدوين ناشئًا عن تردده في حُجِّيَّةَ السُنَّةِ. بل لا بد أن يكون قد نشأ عن تردده فيما جد من الأسباب التي حملته على البحث في أمر تدوين السُنَّةِ. ثم نزيد امتناع بعضهم عن التدوين، وإحراقهم لما دَوَّنُوهُ - سببين آخرين: أولهما: أنه لشدة ورعه وخوفه من الله تعالى خشي أن يتمسك أحد بعده بحديث يدونه ويكون هذا الحديث المدون قد رواه له رجل ظاهره الثقة وهو كذوب، أو ظاهره أنه قوي الحفظ وهو ضعيفه. أو أنه إذا لم يكن هناك واسطة بينه وبين الرسول يحتمل أن يكون هو نفسه قد بدل حَرْفًا بحرف فيه سَهْوًا. وإلى هذا أشار أبو بكر في قوله لعائشة مبينا سبب إحراقه ما دونه من الأحاديث الذي ذكره صاحب الشبهة «خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ وَهِيَ عِنْدَكِ فَيَكُونُ فِيهَا أَحَادِيثٌ عَنْ رَجُلٍ ¬

_ (¬1) [سورة التوبة، الآية: 128].

اِئْتَمَنْتُهُ وَوَثِقْتُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَمَا حَدَّثَنِي. فَأَكُونُ قَدْ تَقَلَّدْتُ ذَلِكَ» (*). وقوله في الرواية الأخرى: «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ الحَدِيثَ وَلاَ أَدْرِي لَعَلِّي لَمْ أَسْمَعْهُ حَرْفًا حَرْفًا». وثانيهما: أنه من المعلوم أن الواحد منهم أو الاثنين أو العشرة أو المائة لا يمكنهم أن يجمعوا كل ما صدر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب واحد. كما حصل في القرآن. لأنه لا يوجد أحد منهم قد لازم النبي ملازمة تامة في جميع لحظات رسالته. ولو فرض ذلك فلا يمكنه أن يقوم بحفظ كل ما صدر منه واستذكاره وتدوينه. ولا يمكن اَيْضًا أن يجتمع عدد معين منهم قد وزعوا زمنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم وتقاسموه وتناوبوا ملازمته حتى لا يخرج عن حفظهم شيء مما صدر منه. ولقد تكون صحبة الواحد منهم له - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعة واحدة ويكون منفردًا فيها ويصدر منه في هذه الساعة ما لم يطلع عليه غيره أصلاً. ولذلك وجب القول بأن كل فرد من الصحابة يحتمل أنه قد حمل شيئًا من السُنَّةِ لم يحمله غيره. ولا يمكن لأحد مهما أوتي من السلطان أن يجمع جميع الصحابة (وهم ألوف) (¬1) بعد وفاته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأخذ منهم جميع ما حملوه وَيُدَوِّنُهُ. فلما رأوا أنهم غير قادرين على هذا امتنعوا عن التدوين وأحرقوا ما دونوا، مخافة ¬

_ (¬1) قال في " تدريب الراوي ": ص 206: قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ يُقَالُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةُ آلاَفِ حَدِيثٍ؟ [قَالَ]: وَمَنْ قَالَ ذَا، قَلْقَلَ اللَّهُ أَنْيَابَهُ، هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ، وَمَنْ يُحْصِي حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمِعَ مِنْهُ) فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلاَءِ أَيْنَ كَانُوا وَأَيْنَ سَمِعُوا؟ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ بَيْنَهُمَا، وَالأَعْرَابُ، وَمَنْ شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الوَدَاعِ، كُلٌّ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ بِعَرَفَةَ ... قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا أَسْنَدَهُ الْمَدِينِيُّ عَنْهُ قَالَ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ زِيَادَةٌ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَهَذَا لاَ تَحْدِيدَ فِيهِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الاطِّلاَعُ عَلَى تَحْرِيرِ ذَلِكَ مَعَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي البُلْدَانِ وَالبَوَادِي وَالقُرَى، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ عَنْ تَبُوكَ: وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ لاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يَعْنِي الدِّيوَانَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَى السَّاجِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ سِتُّونَ أَلْفًا، ثَلاَثُونَ أَلْفًا بِالْمَدِينَةِ، وَثَلاَثُونَ أَلْفًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَجَمِيعُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَبْلُغْ مَجْمُوعُ مَا فِي تَصَانِيفِهِمْ عَشْرَةَ آلاَفٍ، مَعَ كَوْنِهِمْ يَذْكُرُونَ مَنْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ عَاصَرَهُ، أَوْ أَدْرَكَهُ صَغِيرًا. اهـ. --------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن بما ورد حول أحراق أبي بكر ما دَوَّنَهُ، ما ذكر في صفحة 407 من هذا الكتاب.

أن يعتقد من بعدهم أنهم بذلوا كل الجهد وأمكنهم استيعاب كل السُنَّةِ - كما فعلوا في القرآن - وجمعوها في هذا الكتاب المدون. ويعتقد أن ما عدا ما فيه - مما يتحدث به الرواة - ليس منها. أو لا يعتقد ذلك لكنه يقدم ما دونوه على ما يروى مشافهة عند التعارض. وقد يكون في الواقع المروي مشافهة نَاسِخًا لِلْمُدَوَّنِ. وفي ذلك كله ما فيه: من الخطر وضياع جزء كبير من الأحكام الشرعية. ولا يخفى أن هذا الاعتقاد محتمل الوقوع من المتأخرين إذا كان المدون للسنة أكابر الصحابة الذين كانوا أكثر ملازمة له - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غيرهم وخصوصًا نحو أبي بكر وعمر. وأنت إذا نظرت فيما رواه صاحب الشبهة من قول أبي بكر: «وَيَكُونُ قَدْ بَقِيَ حَدِيثٌ لَمْ أَجِدْهُ» (*) فيقال: لو كان قاله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما خفي على أبي بكر ". تتأكد مما قلناه. فأما إذا قام بالتدوين صحابي لم تعلم عنه الملازمة له - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمثل هذا الاحتمال بعيد جِدًّا. وأبعد منه أن يتوهم متوهم أن إمامًا مثل الزهري أو البخاري أو مسلم - ممن بذلوا كل الجهد في استقصاء الأحاديث وتدوينها - أمكنه أن يجمع جميع السنة وذلك لبعد العهد واتساع رقعة الإسلام، وموت الصحابة أو معظمهم، وتزايد عدد الحَمَلَةِ من التابعين ومن بعدهم تزايدًا يجعل العقل يحكم لأول وهلة أن نحو الزهري لا يمكنه أن يقابلهم جميعًا ولا أن يأخذ عنهم جميع ما حملوا. وإذا كان الاحتمال بالنسبة لهؤلاء مندفعًا بالبداهة فلا بأس من تدوينها منهم ومن نحوهم. بل هو مطلوب لطول العهد وموت الحَمَلَةِ الثقات ولضعف الحفظ واختلاط العجم بالعرب وانتشار مدنيتهم بينهم وتعلم أكثرهم الكتابة وخروجهم عن طبيعتهم الأولى من الاعتماد على الحفظ. ولانتشار الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - بسبب تعدد المذاهب ونشوء الفرق وكثرة الإلحاد والزندقة - انتشارا احتيج معه إلى تأكيد ثبوت ما صح عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة الثقات النقدة وتدوينهم، حتى يتميز الصحيح ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن بما ورد في صفحة 407 من هذا الكتاب.

تمام التميز من المكذوب. قال الحافظ ابن حجر - في مقدمة الفتح (¬1) - «اعلم علمني الله وإياك أن آثار النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تكن في عصر أصحابه وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين (أحدهما): أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهُوا عن ذلك - كما ثبت في " صحيح مسلم " - خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم. (وثانيهما) لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم ولأن أكثرهم لا يعرفون الكتابة. ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار. لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار». اهـ. ولذلك كله أمر عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الولاة والعلماء بجمع الحديث وتدوينه. وأرسل صورة من المكتوب إلى كل مصر. قال أبو عبد الله البخاري - في تعاليقه: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: «انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ العُلَمَاءِ، وَلاَ تَقْبَلْ إِلاَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، وَلْتُفْشُوا العِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ، فَإِنَّ العِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا». ورواه مالك في " الموطأ " (رواية محمد بن الحسن) مختصرًا (¬2). وأخرج الهروي في " ذم الكلام " من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار قال: «[لَمْ يَكُونُوا يَكْتُبُونَ] الْحَدِيثَ إِنَّمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا لَفْظًا وَيَأْخُذُونَهَا حِفْظًا إِلاَّ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ وَالشَّيْءَ اليَسِيرَ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْبَاحِثُ بَعْدَ الاسْتِقْصَاءِ، حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ الدُّرُوسُ وَأَسْرَعَ فِي الْعُلَمَاءِ الْمَوْتُ أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ [الأُمَوِيُّ] أَبَا بَكْرٍ الْحَزْمِيَّ - فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ - " أَنِ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةٍ أَوْ [حَدِيثِ عُمَرَ] فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي أَخَافُ دروس الْعلم» (¬3). وأخرجه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " بلفظ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الآفَاقِ: ¬

_ (¬1) ج 1 ص 4. (¬2) انظر " قواعد التحديث ": ص 46، 47. (¬3) انظر " قواعد التحديث ": ص 46، 47.

«انْظُرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْمَعُوهُ [وَاحْفَظُوهُ؛ فَإِنِّي أَخَافُ دُرُوسَ الْعِلْمِ، وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ]» (¬1). وروى عبد الرزاق (*) عَنْ ابْنَ وَهْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا، يَقُولُ: «إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَكْتُبُ إِلَى الأَمْصَارِ يُعَلِّمُهُمُ السُّنَنَ وَالْفِقْهَ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُهُمْ عَمَّا مَضَى، وَيَعْلَمُ مَا عِنْدَهُمْ، وَيَكْتُبُ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ السُّنَنَ، وَيَكْتُبُ إِلَيَّ بِهَا، فَتُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَتَبَ ابْنُ حَزْمٍ كُتُبًا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ» (¬2). وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ زِيَادٍ مَوْلَى [الزُّبَيْرِيِّينَ] قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ [قَالَ]: «أَمَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِجَمْعِ السُّنَنِ. فَكَتَبْنَاهَا دَفْتَرًا دَفْتَرًا، فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ دَفْتَرًا». قال ابن حجر في مقدمة " الفتح " - بعد قوله المتقدم -: «فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما. وكانوا يصنفون كل باب على حِدَةٍ. إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام: فصنف الإمام مالك " الموطأ " وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم. وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْجٍ بمكة. وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام. وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة وأبو سلمة حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بن دينار بالبصرة. ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم. إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وذلك على رأس المائتين. فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي " مُسْنَدًا ". وصنف مسدد بن مسرهد البصري " مُسْنَدًا ". وصنف أسد بن موسى الأموي " مُسْنَدًا ". وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر " مُسْنَدًا ". ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم. فَقَلَّ إمام إلا وصنف حديثه على المسانيد: كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء». ¬

_ (¬1) انظر " قواعد التحديث ": ص 46، 47. (¬2) انظر " قواعد التحديث ": ص 47. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم أجده في " مصنف عبد الرزاق الصنعاني ". ولكن وجدته في " فوائد ابن منده "، تحقيق مجدي السيد إبراهيم، ص 94، نشر مكتبة القرآن. القاهرة - مصر. وما أثبته لفظًا لابن منده.

«ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معا: كأبي بكر بن أبي شيبة». «فلما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها، وانتشق ريها، واستجلى محياها - وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين. فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين، وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه:. . . إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح». اهـ. باختصار. قال في " قواعد التحديث ": قال السيوطي: «وَهَؤُلاَءِ الْمَذْكُورُونَ فِي أَوَّلِ مَنْ جَمَعَ، كُلُّهُمْ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا ابْتِدَاءُ تَدْوِينِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَقَعَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَأَفَادَ الحَافِظُ فِي " الفَتْحِ " اَيْضًا (¬1): أَنَّ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ الحَدِيثَ ابْنُ شِهَابٍ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ بْنِ الحَسَنِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ العِلْمَ ابْنُ شِهَابٍ». يَعْنِي الزُّهْرِيُّ». ... ولذلك اَيْضًا: انعقد الإجماع بعد عصر التابعين على إباحة الكتابة وتدوين السُنَّةِ. بل ذهب بعضهم إلى ندبها ووجوبها (¬2). قال القاضي عياض: (¬3) «كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اِخْتِلاَفٌ كَثِيرٌ فِي كِتَابَةِ العِلْمِ: فَكَرِهَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ وَأَجَازَهَا أَكْثَرُهُمْ. ثُمَّ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهَا وَزَالَ ذَلِكَ الخِلاَفُ». اهـ. ¬

_ (¬1) ج 1 ص 146. وانظر: ص 149. (¬2) انظر: " عمدة القاري ": ج 2 ص 158. (¬3) كما نقله النووي في " شرح مسلم ": ج 18 ص 129، 130.

امتناع الصحابة عن التحديث بالسنة ونهيهم عنه:

وقال ابن الصلاح (¬1): «اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الأَوَّلُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ، وَالْعِلْمِ، وَأَمَرُوا بِحِفْظِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ ... ثُمَّ إِنَّهُ زَالَ ذَلِكَ الخِلاَفُ وَأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى تَسْوِيغِ ذَلِكَ وَإِبَاحَتِهِ، وَلَوْلاَ تَدْوِينُهُ فِي الكُتُبِ لَدُرِسَ فِي الأَعْصُرِ الآخِرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ». اهـ. وقال ابن حجر: (¬2) « ... [لأَنَّ] السَّلَفَ اِخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَمَلاً وَتَرْكًا، وَإِنْ كَانَ الأَمْرُ اِسْتَقَرَّ وَالإِجْمَاعُ اِنْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ كِتَابَةِ العِلْمِ، بَلْ عَلَى اِسْتِحْبَابهِ، بَلْ لاَ يَبْعُدُ وُجُوبَهُ عَلَى مَنْ خَشِيَ النِّسْيَانَ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ العِلْمِ». اهـ. ... اِمْتِنَاعُ الصَّحَابَةِ عَنْ التَّحْدِيثِ بِالسُنَّةِ وَنَهْيِهِمْ عَنْهُ: فإن قيل: قد ظهرت الحكمة في امتناعهم عن كتابة السُنَّةِ وتدوينها. ولكن ماذا تقول في امتناعهم عن التحديث بها ونهيهم عنه؟ أفلا يدل حصول ذلك منهم على أن عدم حُجِّيَّةَ السُنَّةِ كان متقررًا عندهم، وأنهم علموا إرادة الشارع أن لا تنقل حتى لا يتخذها الناس دليلاً على الأحكام الشرعية؟. قلت: لا يصح بحال أن يتوهم متوهم أنهم امتنعوا عن التحديث في جميع الأحوال. ولا أن يتوهم أن امتناعهم في بعض الأحوال كان ناشئًا من عدم حجيتها. وكيف يصح هذا الوهم وقد ثبت أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بالتحديث وتبليغ ما يصدر منه إلى من بعدهم كما تقدم. وأنه قال فيما يرويه ابن عباس عنه: «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ». وقد تواتر عن الصحابة أنفسهم - سواء منهم من كان ينهى ويمتنع عن ¬

_ (¬1) في " علوم الحديث ": ص 169 - 171. (¬2) ج 1 ص 146. وانظر: ص 149.

التحديث ومن كان لا يحصل منه ذلك - أنهم جميعًا كانوا أحرص الناس على التمسك بالسنة وعلى تبليغها والتحدث بها إذا لم يطرأ شيء من الموانع التي سنذكرها. وعلى الاحتجاج بها على الغير. وعلى الاقتناع بها إذا احتج بها الغير عادلين عن آرائهم حينئذ. وعلى الرجوع إليها فيما يطرأ بها من الحوادث وعلى حث غيرهم على العمل بها كل ذلك بدون نكير. فهذا أبو بكر يحتج بحديث «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» على الأنصار يوم السقيفة فيقتنعون به. ويحتج بحديث «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» على فاطمة فتقتنع به. ويقضي بحديث ميراث الجدة الذي رواه المغيرة بعد أن تأكد ثبوته برواية محمد بن مسلمة له. ويحتج عليه عمر بحديث «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» فيرد عليه بقوله في آخر الحديث: «إِلاَّ بِحَقِّهَا». وهذا عمر يقول - وهو يقبل الحجر الأسود -: « ... وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ». ويتحدث على ملأ من الناس فوق منبر رسول الله - بحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». ويقتنع بحديث الاستئذان الذي يرويه له أبو موسى بعد أن شهد بصحته أبو سعيد. وهو الناشد للناس في غير موقف - بل في مواقف شَتَّى: من عنده علم عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كذا. (نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها وفي الجنين يسقط عند ضرب بطن أمه وغير ذلك مما تقدم). وهو الكاتب إلى عُمَّالِهِ: «تَعَلَّمُوا [الْفَرَائِضَ] وَالسُّنَّةَ وَاللَّحْنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ». وهو القائل: «إِيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا». والقائل: «خَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». والقائل: «سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». وَهَذَا عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - يَقُولُ: «إِذَا حَدَّثْتُمْ - وفي رواية «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ» - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي [هُوَ] أَهْنَأُ وَأَهْدَى وَأَتْقَى. وفي رواية: «فَظُنُّوا بِرَسُولِ اللهِ أَهْنَاهُ وَأَتْقَاهُ وَأَهْدَاهُ».

وهذا عبد الله بن مسعود يحتج بحديث: «لَعَنَ اللَّهُ ... وَالوَاشِمَةَ» ويحدث عثمان بحديث رسول الله فيما رواه أبو داود عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: إِنِّي لأَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِمِنًى إِذْ لَقِيَهُ عُثْمَانُ فَاسْتَخْلاَهُ. فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ، أَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ قَالَ لِي: تَعَالَ يَا عَلْقَمَةُ. فَجِئْتُ فَقَالَ لَهُ: عُثْمَانُ أَلاَ نُزَوِّجُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِجَارِيَةٍ بِكْرٍ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». وهذا أبو هريرة يمدحه ابن عمر ويقول له: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْرَفُنَا بِحَدِيثِهِ». ويترحم عليه في جنازته ويقول: «كَانَ يَحْفَظُ عَلَى المُسْلِمِينَ حَدِيثَ نَبِيِّهِمْ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». ويروي البخاري في " التاريخ " والبيهقي في " المدخل " عن مُحَمَّدٍ بْنَ عُمَارَة [بْن عَمْرُو] بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ قَعَدَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ مَشْيَخَة مِنْ الصَّحَابَة بِضْعَة عَشَر رَجُلاً، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَة يُحَدِّثهُمْ عَنْ رَسُول اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالحَدِيثِ فَلاَ يَعْرِفهُ بَعْضهمْ، فَيُرَاجِعُونَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفُوهُ، ثُمَّ يُحَدِّثهُمْ بِالْحَدِيثِ كَذَلِكَ حَتَّى فَعَلَ مِرَارًا. [يَقُولُ مُحَمَّدٌ]: «فَعَرَفْت يَوْمَئِذٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة أَحْفَظ النَّاس». ويقول - فيما يرويه البخاري: «إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، [ثُمَّ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى]: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬1) إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ». ويجلس إلى جنب حجرة عائشة يتلو الحديث ويقول (¬2): «اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ». وهذا أبو ذر يقول: «لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ - ثُمَّ ظَنَنْتُ ¬

_ (¬1) [سورة البقرة، الآيتان: 159، 160]. (¬2) كما في " سنن أبي داود ": ج 3 ص 320.

أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُهَا». وهذا البراء بن عازب يقول فيما يرويه أحمد: «مَا كُلُّ الحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ، كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ». وَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَحْكِي عَنْهُ مُجَاهِدٌ - فِيمَا رَوَاهُ " مُسْلِمٌ " - فَيَقُولُ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ، وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَالِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي، أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ تَسْمَعُ؟، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ، وَالذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَا نَعْرِفُ». والآثار في ذلك عن كثير من الصحابة كثيرة تفوت الحصر والعد. وقد سبق كثير منها في حُجِّيَّةَ السُنَّةِ. ومجموعها يفيدنا إفادة قطعية أنهم ما كانوا يمتنعون عن التحديث لذات التحديث. ولا لأن الحديث ليس بحجة في نظرهم. بل لبعض الموانع التي تطرأ. ويفيدنا اَيْضًا أن حُجِّيَّةَ السُنَّةِ متقررة في نفوسهم مجمعون عليها. وهذا يحملنا على أن نبحث عن أسباب أخرى غير ما ذكر صاحب الشبهة تكون قد حملتهم في بعض الأحوال على الامتناع عن التحديث وعلى النهي عنه (وهذا ما سنبحثه بعد) إذ لا يصح بعد أن ثبت أمر النبي بالتبليغ والتحديث. وبعد ما ثبت من إجماعهم على حُجِّيَّةَ السُنَّةِ، وعلى حرصهم على امتثال ذلك الأمر. وبعد قيام الأدلة القاطعة على حُجِّيَّتِهَا - أن يتوهم أنهم إنما امتنعوا ونهوا لعدم حجيتها في نظرهم. ولو فرضنا أن امتناعهم ونهيهم قد ثبت. وفرضنا كذلك دلالتهما على عدم الحُجِّيَةِ - أفيسوغ لك يا هذا الذي له رأس بين كتفيه وعقل في ذلك الرأس - يا من تذهب إلى أن الإسلام هو القرآن وحده وأنه لا دليل على الأحكام سواه ولو كان هذا الدليل قول أو عمل ذلك النبي الذي كان ينزل عليه الوحي من السماء وكان

الأسباب التي حملتهم على الامتناع والنهي:

لا ينطق عن الهوى - أفيسوغ لك ويمكنك أن تتصور ما لا يتصوره الطفل أن امتناع أو نهي صحابي واحد أو اثنين أو عدد من الصحابة - عن التحديث يكون دليلاً لك - صحيحًا معتبرًا في نظر الشارع - على عدم الحُجِّيَةِ في الوقت الذي تهدر فيه قول الرسول والإجماع ودلالة القرآن نفسه والأدلة الأخرى على الحُجِّيَةِ. لا يجوز لك يا هذا أن تفعل ذلك، لأنه مخالف لقاعدتك من أن الإسلام هو القرآن وحده، كما هو مخالف لقاعدتنا من أن السُنَّةَ وإجماع الصحابة حُجَّتَانِ كالقرآن، وأن عمل الصحابي أو قوله ليس بحجة وأنه لو فرضنا أنه حجة فامتناعه ونهيه محتملان لأن يكونا لغير عدم الحُجِّيَةِ احتمالاً راجحًا على الاحتمال الذي ذهبت إليه. كما تدل عليه آثارهم المتقدمة وما سيأتي، وأنه لو فرضنا أنهما لا يحتملان إلا ما ذهبت إليه فهو معارض بما ثبت عن هؤلاء الممتنعين الناهين من تحدثهم بالسنة وعملهم بها وبما ثبت عن غيرهم وهم الأكثرون، بل بإجماعهم في الحقيقة، وبما ثبت عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ونكون قد تساهلنا معك في التعبير بالتعارض، إذ لا يصح لنا نحن أن نقول بالتعارض بين قول صحابي وبين قول النبي والإجماع، فإنهما مقدمان عندنا ولو كرهت ذلك وكان هذا مما لا يرتضيه عقلك. وحيث إن استدلالك لا ينطبق على قاعدتك ولا على قاعدتنا كان لغوا من الكلام، لا يصلح للاستدلال ولا للإلزام. ... الأَسْبَابُ التِي حَمَلَتْهُمْ عَلَى الاِمْتِنَاعِ وَالنَّهْيِ: ثم إنا سنبين لك الأسباب الحقيقية التي حملتهم على الامتناع والنهي، والتي تدل عليها آثارهم، حتى لا يكون هناك أدنى شبهة في كلامك. فنقول: السبب الأول: أن بعض الآثار التي تمسكت بها إنما كانوا يمتنعون فيها أو ينهون عن الإكثار من التحديث، لا عن التحديث بالكلية. وذلك منهم خشية وقوع المكثر

في الخطأ وهو لا يشعر , فيتخذ حديثه الذي أخطأ فيه حجة يعمل بها إلى يوم القيامة. وذلك: لأن الإكثار مظنة للخطأ. والخطأ وإن كان لا إثم فيه إلا أن تعمد مظنته يوجب النسبة إلى التفريط، لأنه في قوة تعمد الكذب «وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ». فلذلك كانوا يتحرزون أشد التحرز، وَيُقِلُّونَ من التحديث، ولا يحدثون إلا بما يثقون به من أنفسهم. ومن كان منهم واثقًا من نفسه مع الإكثار فقد أكثر من التحديث. وهذه الخشية منهم دليل على عظم شأن السُنَّةِ في نفوسهم، وأنها حجة في الدين يجب العمل بها على عكس ما ذهبت إليه. وهي في الوقت نفسه تملأ قلوبنا احترامًا لهم وثقة بهم واطمئنانًا لما يَرْوُونَهُ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإليك الأحاديث والآثار التي تدل على أن خشيتهم من الخطأ كانت سببًا في امتناعهم ونهيهم عن الإكثار. وعلى أنهم ما كانوا يحدثون أو يعملون إلا بما وثقوا به واطمأنوا إليه. روى أحمد عن ابن عباس أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اتَّقُوا الحَدِيثَ عَنِّي إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». وروى هو و" ابن ماجه " و " الدارمي " عن أبي قتادة أنه قال: سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على هذا المنبر: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي، مَنْ قَالَ عَلَيَّ فَلاَ يَقُولَنَّ إِلاَّ حَقًّا، أَوْ صِدْقًا، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ورواه الحاكم اَيْضًا وقال على شرط مسلم. وأخرج أحمد عن سمرة بن جندب أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ» (¬1). وفي رواية: «الكَذَّابِينَ». وأخرجه ¬

_ (¬1) أو «الكَاذِبِينَ». كما رواه أبو نعيم في كتابه " التخريج على صحيح مسلم ".

اَيْضًا " مسلم " و" الترمذي " و " ابن ماجه " وغيرهم. وأخرجوا مثله من طريق المغيرة بن شعبة. وروى" مسلم " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ». وأخرج ابن عبد البر من طريق مالك ومعمر وغيرهما عن عمر بن الخطاب - في حديث السقيفة - أنه خطب يوم الجمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا، مَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا وَحَفِظَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا [حَيْثُ] تَنْتَهِي بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لاَ يَعِيَهَا فَإِنِّي لاَ أُحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ. إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ مَعَهُ [آيَةُ] الرَّجْمِ».وذكر الحديث. وذكر ابن عبد البر: [ذَكَرَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، فِي كِتَابِ " التَّمْيِيزِ "] ... عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: «مَنْ سَمِعَ حَدِيثًا، فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَ فَقَدَ، سَلِمَ». وروى " مسلم " عن عمر أنه قال: «بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ». وروي عن عبد الله مثل قول عمر. وأخرج من طَرِيق ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ رَجَاءَ بْنَ أَبِي سَلمَةَ، قَالَ: بَلغنِي أَن مُعَاوِيَة كَانَ يَقُول: «عَلَيْكُمْ مِنَ الحَدِيثِ بِمَا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَخَافَ النَّاسَ فِي الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ. ذكره الذهبي في " التذكرة ". وأخرج " أحمد " و " البيهقي " عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أنه قال: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ -، [قَالَ]: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ لَهُ». وأخرج البيهقي، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةُ «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

سَكْتَتَيْنِ: سَكْتَةٌ إِذَا كَبَّرَ , وَسَكْتَةٌ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ». فَكَتَبَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فِي ذَلِكَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. فَكَتَبَ بِصِدْقِ سَمُرَةَ يَقُولُ: «إِنَّ سَمُرَةَ حَفِظَ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وأخرج أحمد عَنْ مُطَرِّفٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: «أَيْ مُطَرِّفُ، وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَرَى أَنِّي لَوْ شِئْتُ حَدَّثْتُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لاَ أُعِيدُ حَدِيثًا، ثُمَّ لَقَدْ زَادَنِي بُطْئًا عَنْ ذَلِكَ وَكَرَاهِيَةً لَهُ أَنَّ: رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، - أَوْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَهِدْتُ كَمَا شَهِدُوا، وَسَمِعْتُ كَمَا سَمِعُوا يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ مَا هِيَ كَمَا يَقُولُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَأْلُونَ عَنِ الخَيْرِ، فَأَخَافُ أَنْ يُشَبَّهَ لِي كَمَا شُبِّهَ لَهُمْ»، فَكَانَ أَحْيَانًا يَقُولُ: «لَوْ حَدَّثْتُكُمْ أَنِّي سَمِعْتُ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ صَدَقْتُ».، وَأَحْيَانًا يَعْزِمُ فَيَقُولُ: «سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا». وروى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». وأخرج أحمد عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِذَا حَدَّثَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَغَ مِنْهُ، قَالَ: «أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». قال في " الفتح الرباني ": «هذا الأثر إسناده جيد وأورده الحافظ السيوطي في " الكبير " وعزاه لأبي يعلى والبيهقي في " السنن " وابن عساكر». اهـ. وقال في " الفتح ": «وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَتَّابٍ مَوْلَى هُرْمُز، سَمِعْت أَنَسًا يَقُول: " لَوْلاَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ أُخْطِئ لَحَدَّثْتُك بِأَشْيَاء قَالَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وروى " البخاري " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: «إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

وَرَوَى " مُسْلِمٌ " عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: جَاءَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - يَعْنِي بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ - فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ، فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَأَنْكَرْتَ هَذَا؟ أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ». وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ كُلُّنَا كَانَ يَسْمَعُ حَدِيثَ النَّبِيِِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَتْ لَنَا ضَيْعَةٌ وَأَشْغَالٌ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوْا يَكْذِبُونَ فَيُحَدِّثُ الشَّاهِدُ الغَائِبَ». وروى اَيْضًا عن قتادة: أَنَّ [أَنَسًا] (*) حَدَّثَ بِحَدِيثٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: «أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟»، قَالَ: «نَعَمْ، أَوْ حَدَّثَنِي مَنْ لَمْ يَكْذِبْ، وَاللهِ مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَلاَ كُنَّا نَدْرِي مَا الكَذِبُ». وروى " البخاري " و " مسلم " عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، [قَالَ]: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، مَارٌّ بِنَا إِلَى الحَجِّ، فَالْقَهُ [فَسَائِلْهُ]، فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا كَثِيرًا، قَالَ: فَلَقِيتُهُ [فَسَاءَلْتُهُ] عَنْ أَشْيَاءَ يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [قَالَ عُرْوَةُ]: فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، وَيُبْقِي فِي النَّاسِ رُؤُوسًا جُهَّالاً، يُفْتُونَهُمْ [بِغَيْرِ عِلْمٍ]، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ» قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا حَدَّثْتُ عَائِشَةَ بِذَلِكَ، أَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَتْهُ، قَالَتْ: أَحَدَّثَكَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ عُرْوَةُ: حَتَّى إِذَا كَانَ قَابِلٌ قَالَتْ [لَهُ]: إِنَّ ابْنَ عَمْرٍو قَدْ قَدِمَ، فَالْقَهُ، ثُمَّ فَاتِحْهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَكَ فِي الْعِلْمِ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ [فَسَاءَلْتُهُ]، فَذَكَرَهُ لِي نَحْوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، فِي [مَرَّتِهِ] الأُولَى، [قَالَ عُرْوَةُ]: فَلَمَّا أَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: مَا أَحْسَبُهُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ، أَرَاهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يَنْقُصْ. وفي رواية البخاري أنها قالت: «وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ [بْنُ عَمْرٍو]». ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (أَنَّ إِنْسَانًا حَدَّثَ بِحَدِيثٍ) وهو خطأ طباعي ورد في " مفتاح الجنة " للسيوطي، والصواب (أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَ بِحَدِيثٍ ... )، انظر: " المستدرك " للحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، 3/ 665، حديث رقم 6458، الطبعة الأولى: 1411 هـ - 1990 م، نشر دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان. و " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمود الطحان، 1/ 117، حديث رقم 100، نشر مكتبة المعارف - الرياض. المملكة العربية السعودية.

وروى " مسلم " عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ (¬1)، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَحَدَّثْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ فَأَنْكَرَهُ عَلَيَّ، فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَنَزَلَ بِقَنَاةَ (¬2) [فَاسْتَتْبَعَنِي] إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُهُ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا جَلَسْنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ. السبب الثاني: أنهم كانوا يمتنعون أو ينهون عن أن يحدثوا قومًا حديثي عهد بالإسلام ولم يكونوا قد أحصوا القرآن. فخافوا عليهم الاشتغال بغيره عنه: إذ هو الأهم والأصل لكل علم. وقد يشير إلى هذا السبب قول عمر: «إِنَّكُمْ تَأْتُونَ [أَهْلَ قَرْيَةٍ] لَهُمْ دَوِيٌّ بِالقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَلاَ تَصُدُّوهُمْ بِالحَدِيثِ ... ». يعني: أن أهل هذه البلدة اعتنقوا الإسلام حديثًا، وأخذوا يحفظون القرآن ولما ينتهوا من حفظه. فلا تشغلوهم عن الأهم بالمهم. ... السبب الثالث: أنهم إنما نهوا أو امتنعوا عن الإكثار من الحديث، خوف اشتغال سامح الكثير منهم بحفظه عن تدبر شيء منه وتفهمه، لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه. ... ¬

_ (¬1) حواري الرجل: خاصته من أصحابه وأنصاره. (¬2) واد من أودية المدينة المنورة.

السبب الرابع: أنهم كانوا ينهون أو يمتنعون عن تحديث العامة وضعاف العقول بالأحاديث المتشابهة التي يعسر عليهم فهمها فيحملونها على خلاف المراد منها، ويستدلون بظاهرها على ما يبتدعه السفهاء منهم. أو يكون معناها غير مقبول لعقولهم القاصرة فيعترضون عليها، ويؤدي ذلك إلى تكذيب الله ورسوله. ولذلك يقول ابْنُ مَسْعُودٍ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً». رواه " مسلم ". ويقول عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - «حَدِّثُوا النَّاس بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ». رواه " البخاري " قال ابن حجر: «وَزَادَ آدَم بْن أَبِي إِيَاس فِي " كِتَاب الْعِلْم " لَهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن دَاوُدَ عَنْ مَعْرُوف فِي آخِره " وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ " أَيْ: يَشْتَبِه عَلَيْهِمْ فَهْمه ... وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيث بِبَعْضٍ دُون بَعْض أَحْمَد فِي [الأَحَادِيث] الَّتِي ظَاهِرهَا الْخُرُوج عَلَى السُّلْطَان، وَمَالِك فِي أَحَادِيث الصِّفَات، وَأَبُو يُوسُف فِي الْغَرَائِب، وَمِنْ قَبْلهمْ أَبُو هُرَيْرَة». حيث يروي " البخاري " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «حَفِظْتُ [مِنْ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ» ... قال ابن حجر: «وَحَمَلَ الْعُلَمَاء الْوِعَاء الَّذِي لَمْ يَبُثّهُ عَلَى الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا تَبْيِين أَسَامِي أُمَرَاء السُّوء وَأَحْوَالهمْ وَزَمَنهمْ ... [وَيُؤَيِّد ذَلِكَ أَنَّ الأَحَادِيث المَكْتُومَة لَوْ كَانَتْ مِنْ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَا وَسِعَهُ كِتْمَانهَا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيث الأَوَّل] مِنْ الآيَة الدَّالَّة عَلَى ذَمّ مَنْ كَتَمَ الْعِلْم. [وَقَالَ غَيْره]: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ مَعَ الصِّنْف الْمَذْكُور مَا يَتَعَلَّق بِأَشْرَاطِ السَّاعَة وَتَغَيُّر الأَحْوَال وَالْمَلاحِم فِي آخِر الزَّمَان، فَيُنْكِر ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَأْلَفهُ، وَيَعْتَرِض عَلَيْهِ مَنْ لاَ شُعُور لَهُ بِهِ» (¬1) (*). أو يكون النهي متعلقًا بالأحاديث التي يخشى من العامة الاتكال عليها. مثل حديث الشيخين عَنْ أَنَسٍ: أَنَسٍ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، - وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ -، قَالَ: «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ»، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: «يَا مُعَاذُ»، قَالَ: لَبَّيْكَ ¬

_ (¬1) في " الفتح ": ج 1 ص 216، 217 من الطبعة السلفية. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) التصحيح ما بين [ ..... ] استنادًا إلى " فتح الباري بشرح صحيح البخاري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار المعرفة - بيروت، طبعة سَنَةَ 1379 هـ].

يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاَثًا، قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا» وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. أي: خروجا من الإثم، وهو إثم كتم العلم ممن يؤمن عليه الاتكال. وكان سكوته إلى ذلك الحين امتثالاً للنهي عن الإشاعة كما ينبئ عنه ترجمة البخاري هذا الحديث بباب: (بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا) كذا قال بعضهم. وقال ابن حجر (¬1) بعد أن ذكر نحو هذا وما أورد عليه: «بِأَنَّ مُعَاذًا اِطَّلَعَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُود مِنْ الْمَنْع التَّحْرِيم بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا هُرَيْرَة أَنْ يُبَشِّر بِذَلِكَ النَّاس، فَلَقِيَهُ عُمَر فَدَفَعَهُ وَقَالَ: اِرْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَة، وَدَخَلَ عَلَى أَثَره فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه لَا تَفْعَل، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِل النَّاس، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. فَقَالَ: فَخَلِّهِمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِم. فَكَأَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: " أَخَاف أَنْ يَتَّكِلُوا " كَانَ بَعْد قِصَّة أَبِي هُرَيْرَة، فَكَانَ النَّهْي لِلْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ مُعَاذ لِعُمُومِ الْآيَة بِالتَّبْلِيغِ».اهـ. ... ¬

_ (¬1) في " الفتح ": ج 1 ص 228 من الطبعة السلفية.

الشبهة الرابعة: قولهم بوجود أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على عدم حجية السنة

الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ بِوُجُودِ أَخْبَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حُجِّيَّةِ السُنَّةِ: روي أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فصعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر، فخطب الناس فقال: «إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي، وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي». وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة، وهو يفيد وجوب عرض ما ينسب إليه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الكتاب، وأنه لا يصح التمسك إلا بما ساواه إجمالاً وتفصيلاً دون ما أفاد حكمًا استقلالاً، ودون ما بين حُكْمًا قد أجمله الكتاب، لأن كُلاًّ منهما ليس موجودًا فيه. فتكون وظيفة السُنَّةِ محض التأكيد. وعلى ذلك: لا تكون حجة على حكم شرعي، لأن دلالة ما هو حجة على شيء، لا تتوقف على ثبوت ذلك الشيء بحجة أخرى. بل لك أن تمنع التأكيد اَيْضًا. فإنه فرع صلاحية الدليل للتأسيس مفردا فهي لا توصف إلا بالموافقة. ... وروي أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ، وَلاَ تُنْكِرُونَهُ، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ، فَصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنِّي أَقُولُ مَا يُعْرَفُ، وَلاَ يُنْكَرُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلاَ تَعْرِفُونَهُ، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ، فَلاَ تُصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنِّي لاَ أَقُولُ مَا يُنْكَرُ، وَلاَ يُعْرَفُ». وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة وهذا يفيد عرض ما نسب إليه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

على المستحسن المعروف عن الناس من الكتاب أو العقل. فلا تكون السنة حجة، كما تقدم. ... وروي أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنِّي لاَ أُحِلُّ إِلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ أُحَرِّمُ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ». ذكر السيوطي (¬1): أن الشافعي والبيهقي أخرجاه من طريق طاوس هكذا. والذي في " جماع العلم " (¬2): أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ، فَإِنِّي لاَ أُحِلُّ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلاَ أُحَرِّمُ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ». وأشار بعد ذلك إلى أنه من طريق طاوس اَيْضًا. فالرواية الأولى: تدل على أن ما يصدر منه يكون موافقًا لكتاب الله. فلا يكون حجة كما سبق. والرواية الثانية: نهى فيها عن التمسك بالسنة والاحتجاج بها. ... وروي: أن بعض الصحابة سأل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل يجب الوضوء من القيء؟ فأجاب - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَوَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى». فدل ذلك: على أنه لا يجب إلا ما في الكتاب ولا توجب السُنَّةُ شَيْئًا. ... ¬

_ (¬1) في " مفتاح الجنة ": ص 19. (¬2) ص 113.

الجواب:

الجواب: أما عن أحاديث العرض على كتاب الله: فكلها ضعيفة لا يصح التمسك بها. (فمنها) ما هو منقطع. (ومنها) ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول. (ومنها) ما جمع بينهما. وقد بين ذلك ابن حزم في " الإحكام " (¬1)، والسيوطي في " مفتاح الجنة " (¬2) - نقلاً عن البيهقي - بالتفصيل. وقال الشافعي - في " الرسالة " (¬3) -: «ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر فيقال لنا: قد أثبتم حديث من روى هذا، في شيء. وهذه اَيْضًا رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء». اهـ. وقال ابن عبد البر - في " جامعه " (¬4) -: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: «الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ». ثم قال (¬5): وَهَذِهِ الأَلْفَاظُ لاَ تَصِحُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِصَحِيحِ النَّقْلِ مِنْ سَقِيمِهِ وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَنَعْتَمِدُ عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فَلَمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلاَّ نَقْبَلَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ وَجَدْنَا كِتَابَ اللَّهِ يُطْلِقُ التَّأَسِّيَ بِهِ والأَمْرَ بِطَاعَتِهِ وَيُحَذِّرُ الْمُخَالَفَةَ عَنْ أَمْرِهِ جُمْلَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ». اهـ. , فقد رجع على نفسه بالبطلان. ¬

_ (¬1) ج 2 ص 76 - 79. (¬2) ص 6 و 14 - 19. (¬3) ص 225. (¬4) ج 2 ص 191. (¬5) ج 2 ص 191.

ثم إنه ورد في بعض طرقه عن أبي هريرة مرفوعا أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عَنِّي أَحَادِيثٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا [جَاءَكُمْ] مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي , وَمَا [جَاءَكُمْ] مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». وهذه الرواية - وإن كانت ضعيفة اَيْضًا - ليست أضعف من غيرها وهي - كما ترى - لنا لا علينا. ومما يدل على أن الخبر موضوع أنه صح عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ». قال الشافعي - في " الرسالة " - بعد أن روي هذا الحديث: «فقد ضيق رسول الله على الناس أن يردوا أمره. بفرض الله عليهم اتباع أمره». ... وعلى تسليم صحة خبر العرض فلا نعتقد أن أحدًا من المسلمين، يذهب إلى أن معنى الحديث: «أن ما يصدر عن رسول الله على نوعين: ما يوافق الكتاب - وهذا يعمل به - وما يخالفه. وهذا يرد». ألا ترى قوله - في الرواية المذكورة - «فَهُوَ عَنِّي». بالنسبة للأول وقوله: «فَلَيْسَ عَنِّي». بالنسبة للثاني وقوله في بعض الروايات التي رواها ابن حزم: «وَمَا لِرَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَقُولَ مَا لاَ يُوَافِقُ القُرْآنَ، وَبِالقُرْآنِ هَدَاهُ اللهُ!؟». وكيف يكون هذا معنى الحديث ورسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معصوم - بالاتفاق - عن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن، وهو أبلغ الناس حفظًا، وأعظمهم لآياته تدبرًا، وأكثرهم لها ذِكْرًا؟ وقد قال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (¬1) فكل مسلم يعتقد أن كل ما يصدر عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخالف القرآن. ¬

_ (¬1) [سورة يونس، الآية: 15].

قال الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في " جماع العلم " (¬1): «إن الله عز وجل، وضع نبيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه. فالفرض على خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقول - فيما أنزل الله عليه - إلا بما أنزل عليه، وأنه لا يخالف كتاب الله، وأنه بين عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - معني ما أراد الله». ثم قال (¬2): «ولا تكون سنة أبدًا تخالف القرآن والله تعالى الموفق». اهـ. فمعنى الحديث - إن صح -: «إذا روي لكم حديث فاشتبه عليكم وجه الحق فيه فاعرضوه على كتاب الله فإذا خالف فردوه فإنه ليس من مقولي». ثم إنه لا يلزم من عدم مخالفة ما يصدر عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للكتاب بطلان حُجِّيَّةَ السُنَّةِ، وأن لا يبين حُكْمًا قد أجمله القرآن، وأن لا يبين تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو انتهاء حكم ونسخه، وأن لا يوضح مشكلا فيه. (كما فهمه صاحب الشبهة)، فإن هذا البيان موافق، تمام الموافقة لمراد الله تعالى، وإذا نظرنا لظاهر لفظ الكتاب فلو سلمنا أنه غير موافق، وغير محتمل له فهو غير مخالف له. والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر برد المخالف، ولا يلزم من ذلك رَدَّ ما ليس بموافق ولا بمخالف. ويدلك على هذا رواية أخرى لحديث العرض على الكتاب (رواها ابن حزم): أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحَدِيثُ عَنِّي عَلَى ثَلاَثٍ، فَأَيُّمَا حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي تَعْرِفُونَهُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاقْبَلُوهُ، وَأَيُّمَا حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي لاَ تَجِدُونَ فِي القُرْآنِ مَا تُنْكِرُونَهُ بِهِ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مَوْضِعَهُ فِيهِ فَاقْبَلُوهُ، وَأَيُّمَا حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُكُمْ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَجِدُونَ فِي القُرْآنِ خِلاَفَهُ - فَرُدُّوهُ» (*). فأنت تراه قد جعل ما لم يوافق ولم يخالف واجب القبول. وهذه ¬

_ (¬1) ص 118. (¬2) ص 134. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قال ابن حزم: الحديث مرسل، والأصبغ (أحد رواة الحديث): مجهول، انظر " الإحكام في أصول الأحكام "، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، 2/ 76، نشر دار الآفاق الجديدة، بيروت - لبنان.

الرواية - وإن كانت ضعيفة -: فهي من نوع ما يحتج به صاحب الشبهة. وعلى ذلك فلا دلالة في هذه الروايات على بطلان الاستدلال بالسنة على حكم لم يتعرض له القرآن، ودلت عليه مستقلة، فإنه حكم لم يخالف القرآن، حيث إنه قد سكت عنه. بل نقول: إن القرآن قد تعرض له على وجه الموافقة إجمالاً، حيث قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) وعمم ذلك، ولم يخصصه: بكونه موافقًا للقرآن إجمالاً وتفصيلاً، ومن كل وجه. على أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يفهم من القرآن ما لا يفهمه غيره فنظنه نحن ليس فيه، وهو فيه. أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الحُمُرِ، قَالَ: «مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}؟ (¬2)». فانظر - يا من تريد: أن تستقل باستنباط الأحكام من القرآن، بدون اعتماد على السُنَّةِ - أيستطيع عقلك أن يستنبط هذا الحكم من هذه الآية؟. قال ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «مَا مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ بُيِّنَ لَنَا فِي القُرْآنِ وَلَكِنَّ فَهْمُنَا يَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، فلذلك قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬3)».فانظر هذا من ابن مسعود أحد أجلاء الصحابة، وأقدمهم إسلامًا. ... وأما حديث العرض على ما يعرفه الناس فرواياته اَيْضًا ضعيفة منقطعة، (كما قال البيهقي وابن حزم وغيرهما) فضلاً عما فيه: من نسبة الكذب إليه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: «مَا أَتَاكُمْ مِنْ خَبَرٍ فَهُوَ عَنِّي قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ». قال البيهقي - في " المدخل " (*): «وَأَمْثَلُ إِسْنَاٍد رُوِيَ فِي هَذَا المَعْنَى رِوَايَةَ ¬

_ (¬1) [سورة الحشر، الآية: 7]. (¬2) [سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8]. (¬3) [سورة النحل، الآية: 44]. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم يرد في " المدخل إلى السنن الكبرى " للبيهقي وإنما ورد ذكر قول البيهقي نقلاً عن "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " للسيوطي: ص 25، الطبعة الثالثة: 1409 هـ / 1989 م، نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - المملكة العربية السعودية.

رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، أَوْ أَبِي أُسَيْدٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا سَمِعْتُمْ الحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلاَكُمْ بِهِ. إِذَا سَمِعْتُمْ الحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ». وَرَوَى بُكَيْرٌ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ بْنَ سَهْلٍ عَن أَُُبٍّي قََالَ: «إِذا بَلغَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُعْرَفُ وَتَلِينُ لَهُ الجُلُودُ فَقَدْ يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخَيْرَ وَلاَ يَقُولُ إِلاَّ الخَيْرَ». [قَالَ البَيْهَقِيُّ]: قَالَ البُخَارِيُّ: «وَهَذَا أَصَحُّ - يَعْنِي أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ أَبِي حُمَيْدٍ، أَوْ أَبِي أُسَيْدٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْن لَهِيعَةَ عَنْ بُكَيْرٍ بْنِ الأَشَجِّ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ القَاسِمِ بْنَ سُهَيْل عَنْ أُبَيٍّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ ذَلِك بِمَعْنَاهُ فَصَارَ الحَدِيثُ المُسْنَدُ مَعْلُولاً. وَعَلى الأَحْوَالِ كُلِّهَا حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتُ عَنْهُ قَرِيبٌ مِنَ العُقُولِ مُوَافق لِلأُصُولِ لاَ يُنكره عقلُ من عقلَ عَن الله الْموضع الَّذِي وضع بِهِ رَسُول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دِينِهِ وَمَا افْتَرَضَ عَلَى النَّاسِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَلاَ يَنْفُرُ مِنْهُ قَلْبُ مِنْ اِعْتَقَدَ تَصْدِيقَهُ فِيمَا قَالَ وَاِتِّبَاعِهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَكَمَا هُوَ جَمِيلٌ حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ جَمِيلٌ فِي الأَخْلاَقِ حَسَنٌ عِنْدَ أُولِي الأَلْبَابِ. هَذَا هُوَ المُرَاد مِمَّا عَسَى يَصِحُّ مِنْ أَلْفَاظِ هَذِهِ الأَخْبَارِ» (*). انتهى كلام البيهقي. فكل ما يصدر عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو حسن وجميل، معروف عند العقل السليم، وقد يقصر عقلنا عن إدراك حسنه وجماله فلا يكون ذلك سببًا في إبطال صدوره عنه، أو حجيته. بل إذا رواه لنا الثقات وجب علينا قبوله، وحسن الظن ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) نقلاً عن "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " للسيوطي: ص 25، 26، الطبعة الثالثة: 1409 هـ / 1989 م، نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - المملكة العربية السعودية.

به، والعمل بمقتضاه، واتهام عقولنا. قال ابن عبد البر: وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَيَّارٍ يَقُولُ: «بَلَغَنِي وَأَنَا حَدَثٌ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنِ اخْتِنَاثِ فَمِ الْقِرْبَةِ وَالشُّرْبِ مِنْهُ» قَالَ: فَكُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَشَأْنًا وَمَا فِي الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ هَذَا النَّهْيُ؟ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً شَرِبَ مِنْ فَمِ قِرْبَةٍ فَوَكَعَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ، وَإِنَّ الحَيَّاتِ والأَفَاعِي تَدْخُلُ فِي أَفْوَاهِ الْقِرَبِ عَلِمْتُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لاَ أَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ مِنَ الحَدِيثِ أَنَّ لَهُ مَذْهَبًا وَإِنْ جَهِلْتُهُ». وروى ابن عبد البر عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ]: قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، «ثَلاَثٌ أَنَا فِيهِنَّ رَجُلٌ، [يَعْنِي] كَمَا يَنْبَغِي، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَأَنَا رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا قَطُّ إِلاَّ عَلِمْتُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ، وَلاَ كُنْتُ فِي صَلاَةٍ قَطُّ فَشَغَلْتُ نَفْسِي بِغَيْرِهَا حَتَّى أقْضِيَهَا وَلاَ كُنْتُ فِي جِنَازَةٍ قَطُّ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا تَقُولُ وَيُقَالُ لَهَا حَتَّى أَنْصَرِفَ عَنْهَا». قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: «هَذِهِ الْخِصَالُ مَا كُنْتُ أَحْسَبُهَا إِلاَّ فِي نَبِيٍّ». ... وأما حديث طاوس: فهو منقطع في كلتا روايته، كما قال الشافعي والبيهقي وابن حزم. وقد رواه من غير طريق طاوس. ولو فرضنا صحته: فليس - في الرواية الأولى - دلالة على عدم حُجِّيَّةَ السُنَّةِ، ولا على أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأتي إلا بما في الكتاب: من تحليل أو تحريم. فإنه ليس المراد من الكتاب: القرآن، بل المراد به - كما قال البيهقي - ما أوحي إليه، ثم ما أوحي إليه نوعان: (أحدهما): وحي يتلى. (والآخر): وحي لا يتلى. والذي حملنا على هذا التأويل والتجوز، نحو قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ

مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ ... ». الحديث. (وقد تقدم): فإنه يدل على أن الرسول يُحِلُّ أَوْ يُحَرِّمُ ما ليس في الكتاب. وقد ورد في السُنَّةِ استعمال الكتاب في عموم ما أنزل عليه، فقد روي - في " الأم " -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لأَبِي الزَّانِي بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْخَادِمِ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ [- عَزَّ ذِكْرُهُ -] أَمَا إنَّ الْغَنَمَ وَالْخَادِمَ رَدَّ عَلَيْك وَإِنَّ امْرَأَتَهُ تُرْجَمُ إذَا اعْتَرَفَتْ» وَجَلَدَ ابْنَ الرَّجُلِ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا». فأنت ترى أنه جعل حكم الرجم والتغريب في كتاب الله، فدل ذلك على أنه أراد به: ما أنزل مطلقًا. ... ويمكن أن يكون المراد من الكتاب: اللوح المحفوظ. كما قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1). ... ولو سلمنا أن المراد من الكتاب: القرآن، فما أحله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حرمه، ولم ينص القرآن عليه -: فهو حلال أو حرام في القرآن، يقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2) [الحشر: 7]. وقد تقدم ذلك في الشبهة الأول، فارجع إليه (¬3). وأما الرواية الثانية: فليس معنى قوله: «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ»: تحريم التمسك بشيء مما يصدر منه، والمنع من الاحتجاج به. وإنما معناه: لا يتمسكن الناس عَلَىَّ بشيء من الأشياء التي خصني الله بها، ¬

_ (¬1) [سورة الأنعام، الآية: 38]. (¬2) [سورة الحشر، الآية: 7]. (¬3) ص 387 - فما بعدها.

وجعل حكمي فيها مخالفًا لحكمهم، ولا يعترض علي معترض فيقول: لم يفعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا , ويحرمه علينا؟ ولم يمنع نفسه من كذا، ويبيحه لنا؟ أو لاَ يَقِسْ أحد نفسه عَلَيَّ في شيء من ذلك: فإني لم أحل لي أولهم، أو أحرم عَلَيَّ أو عليهم شيئًا من نفسي، ولم أفرق بيني وبينهم، وإنما الحاكم في ذلك كله هو الله تعالى: فهو الذي سوى بيني وبينهم في بعض الأحكام، وهو الذي فَرَّقَ بيني وبينهم في بعضها الآخر. قال الشافعي (¬1) - بعد أن روى حديث طاوس -: «هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ فِقْهَ طَاوُسٍ وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ عَلَى مَا وَصَفْت إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ» وَلَمْ يَقُلْ لاَ تُمْسِكُوا عَنِّي بَلْ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُمْسَكَ عَنْهُ وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ». أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لاَ أَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الأَمْرَ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: مَا نَدْرِي. [هَذَا] وَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] اتَّبَعْنَاهُ». وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَنَا، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَفَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ عَلَى خَلِيقَتِهِ وَمَا فِي أَيْدِي النَّاس مِنْ هَذَا إلاَّ تَمَسَّكُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، ثُمَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَنْ دَلاَلَتِهِ». ولكن قوله - إن كان قاله -: «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ». يدل على أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كان بموضع القدوة: فقد كان له خواص أبيح له فيها ما لم يبح للناس، وحرم عليه منها ما لم يحرم على الناس - فقال: «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ» من الذي لي أو عَلَيَّ دونهم، فإن كان عَلَيَّأو لي دونهم: لا يمسكن به». اهـ. ... ¬

_ (¬1) في " جماع العلم ": ص 113 - 115.

وأما خبر السؤال عن الوضوء من القيء -: فلم تنظره أعيننا إلا في مجلة " المنار " (¬1) في مقال الدكتور صدقي. ولم يبين لنا سنده، ولا الكتاب الذي نقل منه. ولعله من وضع العصر الحديث (¬2). وعلى فرض صحته: فقد علمت جوابه من الكلام على حديث طاوس في الرواية الأولى. وأما قول الدكتور: «فهذا الحديث - صح أو لم يصح -: فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ للمسلمين لا يحيدون عنه»: ففي غاية السقوط بعد ما تبين: من الحجج، ودفع الشبه. وعقول المسلمين - وهي سليمة، والحمد لله: توجب الأخذ بما جاء به الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حيث إنه سفير ورسول بين الله وبين خلقه، وإن لم يكن قد جاء في كتاب. كما أن رعية الملك - يلزمهم الأخذ بقول رسوله - بعد أن تثبت رسالته - وإن لم يأت لهم بكتاب - بما يقول - من الملك. وهذا أمر متقرر في بداهة العقول، ولعل العقل الذي وافقه ظاهر خبر القيء، هو: عقل الدكتور فقط. وأما عقول المسلمين: فنظيفة من خبر القيء ولم تتلوث به. هدانا الله لما فيه الخير والرشاد والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ¬

_ (¬1) السنة 9، العدد 7، ص 515. (¬2) ليس الأمر كذلك فالحديث وارد وقد كتب المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ - بهامش نسخته الأصلية ما لفظه: «بعد كتابة هذا الكلام وتقديم الرسالة، عثرت على هذا الحديث في " المجموع الفقهي الكبير " لزيد بن علي، من " نيل الأوطار " للشوكاني. فتعين أن نغير بعض هذا الرد بما يتلاءم مع ثبوت هذا الحديث. إن شاء الله. ولكنه - عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ - قد توفي قبل أن يغير رده هذا فليعمل» ط.

الفهرس التحليلي

الفهرس التحليلي مقدمة ......................................................................... 396 * الشُبْهَةُ الأُولَى: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الكِتَابَ قَدْ حَوَى كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر مثل السُنَّةِ، لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ................... 397 - الجواب .................................. 397 - تأويل العلماء للآية المذكورة .......... 398 - الوجه الثاني ........................... 401 - الوجه الثالث ........................... 402 * الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرْآنِ دُونَ السُنَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ السُنَّةُ حُجَّةً وَدَلِيلاً مِثْلَ القُرْآنِ لَتَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهَا أَيْضًا: - الجواب ............................... 403 * الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ السُنَّةُ حُجَّةً لأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَتِهَا وَلَعَمِلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عَلَى جَمْعِهَا وَتَدْوِينِهَا!!: الجواب الإجمالي .................... 406 الجواب التفصيلي ................... 412 - إنما تحصل صيانة الحجة بعدالة حاملها .............. 413 - الكتابة ليست من لوازم الحجية ....................... 413 - الكتابة لا تفيد القطع ................................... 415 - الكتابة دون الحفظ قوة ................................ 416 - الكتابة دون الحقظ قوة خصوصًا من العرب ومن على شاكلتهم ........ 417 - وخصوصًا الصحابة والتابعين منهم .................. 418 - القطع بالقرآن إنما حصل بالتواتر اللفظي ............ 419 - يجب العمل بظني الثبوت في الفروع ................. 423 - الحكمة في أمره - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة القرآن وحده ......... 436 - لا يدل نهيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كتابة السنة على عدم حجيتها .......... 438 - الحكمة في النهي عن كتابة السُنَّةِ ..................................................... 441

- ثبوت إذنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة السُنَّةِ ..................................... 445 - الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن ............................................... 458 - الكلام على كتابة السُنَّةِ وتدوينها في عهد الصحابة ................................... 463 - امتناع الصحابة عن التحديث بالسنة ونهيهم عنه ..................................... 477 الأسباب التي حملتهم على الامتناع ونهيهم عنه ......................................... 481 * الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ بِوُجُودِ أَخْبَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حُجِّيَّةِ السُنَّةِ!!: الجواب ........................... 491 الخاتمة ........................... 499 الفهرس التحليلي ***

§1/1