الرد على من أجاز تهذيب اللحية

التويجري، حمود بن عبد الله

الرد على زعمه أن اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شئ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد رأيت مقالاً لبعض ذوي الجهل والجراءة نشرته جريدة السياسة الكويتية في عددها 5636 الصادر في يوم الثلاثاء 16 رجب سنة 1404 هـ الموافق 17/ 4/ 1984 م تحت عنوان «مبايعة الموظفين»، وقد ملأ الكاتب مقاله بالأباطيل والتقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمن ذلك قوله: إن اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شيء. والجواب أن يقال: هذا زعم باطل مردود؛ لأن إعفاء اللحية سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله. وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة. منها ما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:

ذكر الأحاديث في الأمر بإعفاء اللحى وإحفاء الشوارب

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنهكوا الشوارب، واعفوا اللحى» هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: «أحفوا الشوارب، واعفوا اللحى»، وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب»، وروى مالك في الموطأ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس»، ورواه الإمام أحمد مختصرًا ولفظه: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى»، ورواه البخاري في التاريخ الكبير ولفظه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كانت المجوس تعفي شواربها، وتحفي لحاها، فخالفوهم فجزوا شواربكم، وأعفوا لحاكم»، وروى البزار عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خالفوا المجوس، جزوا الشوارب، وأوفروا اللحى»، وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجوس فقال: «إنهم يوفون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم» - السبال: هو الشارب -. والأحاديث في الأمر بإعفاء اللحى، وإحفاء الشوارب كثيرة جدًا، وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن عن عائشة رضي الله

من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية

عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية» الحديث. قال الخطابي: فسر أكثر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة، وتأويله أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم لقوله سبحانه: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، وفي سنن النسائي عن طلق بن حبيب قال: «عشر من السنة»، وذكر منها قص الشارب، وتوفير اللحية، وروى ابن إسحاق، وابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجلين من المجوس دخلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظرة إليهما، وقال: «ويلكما، من أمركما بهذا؟» قال: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي». وقد جاء في أحاديث كثيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان كثّ اللحية»، وفي بعضها أنه «كان ضخم اللحية»، وفي بعضها أنه «كان عظيم اللحية»، وفي بعضها «أن لحيته قد ملأت نحره». وفي هذه الأحاديث، وما تقدم قبلها من الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على من زعم أن اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شيء. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ

إعفاء اللحى من سنن الأنبياء وهديهم

كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وإذا علم إن إعفاء اللحية ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله وأنه من هديه الذي هو خير الهدي، فليعلم أيضًا أن إعفاءها من سنن الأنبياء والمرسلين وهديهم، وقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، والأمر في هذه الآية الكريمة عام لجميع الأمة؛ لأنهم تبع لنبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا أشبه ولد إبراهيم به» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي الصحيحين، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم»، وفي رواية لأحمد: «نظرت إلى إبراهيم، فلم أنظر إلى أرب منه إلا نظرت إليه مني، حتى كأنه صاحبكم»، وهذا يدل على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان ذا لحية عظيمة تشبه لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ

صفة لحى بعض الأنبياء

عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن من رغب عن إعفاء اللحية ففيه من سفه النفس بقدر ما رغب عنه من ملة إبراهيم. وقد روى البيهقي في «دلائل النبوة» عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام - فذكر القصة بطولها وفيها أن هرقل أراهم صور الأنبياء في خرق من حرير، فذكر في صفة نوح عليه الصلاة والسلام أنه كان حسن اللحية. وفي صفة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه كان أبيض اللحية. وفي صفحة إسحاق عليه الصلاة والسلام أنه كان خفيف العارضين. وفي صفة يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه كان يشبه أباه إسحاق، وفي صفة عيسى عليه الصلاة والسلام أنه كان شديد سواد اللحية، قال ابن كثير: إسناده لا بأس به. وقد رواه أبو نعيم الأصبهاني في «دلائل النبوة» من طريق أخرى، وقال في صفة موسى عليه الصلاة والسلام: إنه كث اللحية. وقال في صفة هارون عليه الصلاة والسلام: إنه كان يشبه موسى. وقد جاء في بعض الروايات في حديث الإسراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى هارون في السماء الخامسة، وقال في نعته: نصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من

طولها، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما والبيهقي في «دلائل النبوة» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقد أخبر الله تعالى عن هارون أنه قال لأخيه موسى: {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} فدلت الآية الكريمة على أنه كان ذا لحية طويلة يتمكن موسى من الأخذ بها. وفي هذه الآية الكريمة وما ذكر قبلها من صفات الأنبياء المتقدمين أبلغ رد على من زعم أن اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شيء. والأنبياء كلهم على دين الإسلام وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم. وقد كان أهل الكتابين في زمن الجاهلية يعفون لحاهم متابعة لما كان عليه الأنبياء المتقدمون، وكذلك كان العرب في زمن الجاهلية، فإنهم كانوا يعفون لحاهم، وذلك مما تمسكوا به من ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أشياء تمسكوا بها من أفعال الحج وغيره، ولم يكن حلق اللحى معروفًا في زمن الجاهلية إلا عن المجوس، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بمخالفتهم، ونهاهم عن التشبه بهم والتزيي بزيهم. والمقصود هنا بيان أن إعفاء اللحية ليس رمزًا عربيًا كما زعم ذلك صاحب المقال الباطل، وإنما هو سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، وصفة من صفات المتمسكين بالسنة من المسلمين، وأما حلق اللحية وقصها فهو رمز للمجوس ولمن يتشبه بهم من المسلمين

وغير المسلمين، ولا يضر المسلمين كون الهندوس وغيرهم من الكفار يبالغون في إعفاء اللحى، فإن ذلك معدود من تشبههم بالمسلمين إما قصدًا وإما اتفاقًا، وهم في هذه الحالة أحسن من المجوس الذين يحلقون اللحى ويمثلون بها ويخالفون هدي الأنبياء المرسلين.

الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض

فصل: فيما حكاه ابن حزم من الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، وفيما حكاه من الإجماع أبلغ رد على من زعم أن اللحية ليست من الإسلام في شيء، وقد قال أبو عمر بن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلق اللحية، قال ابن عبد البر ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال انتهى، والمخنثون هم المتشبهون بالنساء، وقد روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال» وروى الإمام أحمد أيضًا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال» والأحاديث في لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال كثيرة.

الرد على زعم الكاتب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق لحيته بعد الإسلام

فصل: إدعاء صاحب المقال الباطل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق لحيته بعد الإسلام قال صاحب المقال الباطل: وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - لحية، ولم يطلقها بعد الإسلام. والجواب أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وفرّ لحيته، وكانت كثة ضخمة عظيمة كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثّ اللحية»، وقال ابن منظور في لسان العرب: لحية كثة وكثاء كثرت أصولها وشعرها، وأنها ليست بدقيقة ولا طويلة وفيها كثافة، وقال ابن دريد لحية كثة كثيرة النبات انتهى. وروى الإمام أحمد أيضًا والحاكم في مستدركه عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضخم الرأس، واللحية» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، قال الجوهري، وابن منظور في لسان العرب: الضخم الغليظ من كل شيء. وكذا قال صاحب القاموس، والمراد بضخامة اللحية عظمها لما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند بأسانيد جيدة عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظيم اللحية»، وروى الإمام أحمد، ومسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال:

«كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير شعر اللحية»، وروى النسائي عن البراء رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثّ اللحية»، وروى الترمذي في الشمائل، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، والآجري في كتاب الشريعة عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثّ اللحية»، وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر من صفته أنه كان كثّ اللحية، وروى الحاكم في مستدركه وصححه، والبيهقي، والآجري أن أم معبد الخزاعية قالت في نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وفي لحيته كثاثة. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من افترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم أنه لم يطلق لحيته بعد الإسلام.

الرد على زعمه أن اللحية لا تعني في الإسلام شيئا مميزا للمسلم

فصل: إدعاء صاحب المقال الباطل أن اللحية لا تعني في الإسلام شيئاً مميزاً وزعم صاحب المقال الباطل أن اللحية لا تعني في الإسلام شيئًا مميزًا للمسلم. والجواب أن يقال: بل إن في إعفاء اللحية تمييزًا بين المسلم المطيع لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية، وبين العصاة المخالفين لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى، ومخالفة المجوس الذين يحلقون لحاهم، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الرد على زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها

فصل: ادعاء صاحب المقال أن أمر النبي بحف الشوارب وإعفاء اللحى وإكرامها كان لمجرد أنه - صلى الله عليه وسلم - يتضايق منها وقال صاحب المقال الباطل: كل ما في الأمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها فقال: «حفوا الشوارب وأكرموا اللحى» أكرموها بمعنى هذبوها رتبوها امشطوها، وليست بمعنى أطلقوها لأنها مطلقة أصلاً. والجواب أن يقال: أما قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها، فهو من الافتراء على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بإعفاء اللحية وتوفيرها، وينهى عن التشبه بالمجوس الذين كانوا يحلقون لحاهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - كثّ اللحية ضخمها عظيمها قد ملأت نحره، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كره النظر إلى المجوسين اللذين دخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما وأنه أنكر عليهما، فهل يقول عاقل بعد هذا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها، كلا لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل. وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بإعفاء اللحية وتوفيرها، وهو مع ذلك يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها، وما كان يعفى لحيته حتى كانت كثة

ضخمة عظيمة، وهو مع ذلك يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها. وما كان ينهى عن التشبه بالمجوس الذين يحلقون لحاهم ويكره النظر إليهم وهو مع ذلك يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها. وعلى هذا فمن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها فقد نسبه إلى التناقض الذي يتنزه عنه آحاد العقلاء، فكيف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أعقل بني آدم على الإطلاق، فهو أحق بالتنزيه عن التناقض وعن كل ما لا يليق بالعقلاء. ومن ظن به شيئًا من التناقض فقد ظن به ظن السوء، وذلك من قواطع الإسلام. وقد تقدم في القصة التي رواها أبو نعيم في «دلائل النبوة» أن موسى عليه الصلاة والسلام كان كث اللحية وأن هارون كان يشبهه، وجاء في بعض أحاديث الإسراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى هارون في السماء الخامسة وقال في نعته: «نصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها» رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما، والبيهقي في «دلائل النبوة» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مر على هارون وهو في السماء الخامسة سلم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحبًا بالأخ

تقوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - والرد عليه

الصالح والنبي الصالح، ثم لما مر على موسى وهو في السماء السادسة سلم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم لما رجع من عند ربه وقد فرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فلم يزل يتردد بين ربه وبين موسى حتى جعلها الله تعالى خمس صلوات. ولم يذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تضايق من النظر إلى لحية موسى الكثة، ولا إلى لحية هارون الكثة الطويلة جدًا، ولا أنه كره النظر إليهما. وأما قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكرموا اللحى». فجوابه أن يقال: هذا من التقول على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يرو عنه أنه قال ذلك. وإنما الثابت عنه أنه قال: «اعفوا اللحى». وفي رواية: «وفروا اللحى»، وفي رواية: «أرخوا اللحى»، وفي رواية: «أوفوا اللحى». وأما قوله: إن معنى أكرموا اللحى هذبوها ورتبوها وليس بمعنى أطلقوها؛ لأنها مطلقة أصلاً فجوابه أن يقال: لو كان قوله أكرموا اللحى ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان معناه هذبوها ورتبوها وإنما معناه أعفوها ووفروها كما جاء ذلك في الأحاديث الثابتة عن

الرد على بعض أخطاء الكاتب

النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإكرام اللحية لا يكون بالأخذ منها كما زعم ذلك الكاتب، وإنما يكون بإعفائها وتوفيرها وعدم التعرض لها بالحلق أو القص أو النتف. وأما قوله: وليست بمعنى أطلقوها؛ لأنها مطلقة أصلاً. فجوابه أن يقال: إنما تكون اللحية مطلقة إذا أعفيت ووفرت، ولم يتعرض لها بالحلق، ولا بالقص، ولا بالنتف، ولا بالتهذيب والترتيب، ومن زعم أنها تكون مطلقة مع التهذيب والترتيب، أو مع الحلق أو القص، أو النتف، فقد جمع بين النقيضين وهذا هو ما وقع في كلام الكاتب.

الرد على زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتاح للوجوه النضرة واللحية المهذبة ويرعبه شكل الإنسان المشوه ومن هو كث اللحية

فصل: ادعاء صاحب المقال الباطل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتاح للوجوه المهذبة، ويكره شكل الإنسان المشوه أو كث اللحية قال صاحب المقال الباطل: وكان - صلى الله عليه وسلم - يرتاح للوجوه النضرة واللحية المهذبة ويرعبه شكل الإنسان المشوه، ولا أبلغ من قول الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم في سورة الكهف حينما بعث الله أهل الكف، وكان شكلهم مرعبًا لطول أظفارهم وكثافة لحاهم قال تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} شكلهم المخيف بسبب لحاهم التي غطت وجوههم وأظفارهم التي وصلت إلى الأرض، وليس لسبب آخر فهم بشر وطولهم متوسط، لذا بقيت صورة الرعب هذه في ذهن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان كلما رأى من هو كث اللحية تذكر شكل أهل الكهف، ولم يستطع - صلى الله عليه وسلم - صبرًا على ذلك، وقال ذلك الحديث المشهور الذي اعتقد جهلة الناس أن كثافة اللحية تعني الإسلام فقط، وتعني السلف الصالح، وتعني المسلمين الأوائل، وتعني أن من لا لحية له مارق زنديق، ولكي تثبت إسلامك عليك بإطلاق لحيتك. وهذا قشر واهٍ يتمسك به جهلة المفسرين. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: إن صاحب المقال الباطل قد خبط في هذه الجملة غاية التخبيط وأتى فيها

الإجماع على كفر من تنقص النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه وعلى وجوب قتله

بخمسة أشياء من كبائر الإثم. أحدها: الافتراء على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث زعم أنه كان يرتاح للوجوه النضرة، واللحية المهذبة، ويرعبه شكل الإنسان المشوه، وكذلك زعمه أن صورة الرعب من أهل الكهف بقيت في ذهن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان كلما رأى من هو كثّ اللحية تذكر شكل أهل الكهف. وكذلك زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستطع صبرًا على ذلك - أي على رؤية من هو كث اللحية - فهذا كله من الافتراء على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». الشيء الثاني: تنقصه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث وصفه بصفة الجبناء وضعاف العقول والقلوب، وذلك في زعمه أن صورة الرعب من أهل الكهف بقيت في ذهنه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كلما رأى من هو كث اللحية تذكر شكل أهل الكف ولم يستطع صبرًا على ذلك، ويلزم على هذا القول الباطل أن يكون كل واحد من أفراد القراء أقوى قلبًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم يقرءون قول الله تعالى مخبرًا عن أهل الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، وتتكرر منهم قراءة هذه الآية كلما قرءوا سورة الكهف فلا يصيبهم الرعب من أهل الكهف، فضلاً عن أن تبقى صورة الرعب منهم في أذهانهم. فهل يقول الكاتب الجاهل: إن

القراء من هذه الأمة كانوا أقوى قلوبًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم لم يصابوا بالرعب من أهل الكهف. أم ماذا يجيب به عن كلامه السيئ الذي لم يتثبت فيه، ولم ينظر إلى ما يلزم عليه من اللوازم السيئة التي تفضي بقائلها إلى الكفر ووجوب القتل. فقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على كفر من تنقص النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه وعلى وجوب قتله. ذكر ذلك عنهم القاضي عياض في كتابه «الشفاء»، وشيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في كتابه «الصارم المسلول، على شاتم الرسول»، وابن حجر المكي في كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر»، وذكره غيرهم من أكابر العلماء. وإذا علم هذا فلا يشك مسلم له عقل ودين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقوى البشر قلبًا، وأرجهم عقلاً، وأبعدهم عن كل ما فيه نقص وعيب، فلم يلحقه الرعب من أهل الكهف لما أخبره الله عنهم فضلاً عن أن تبقى صورة الرعب منهم في ذهنه. فهذا لا يتصوره من له أدنى مسكة من عقل ودين. وبالجملة فإنه يجب تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النقائص التي ألصقها به الكاتب الجاهل، وعن كل ما فيه نقص وعيب، ولو بطريق التضمن واللزوم.

والشيء الثالث: قوله في القرآن بغير علم حيث زعم أن قول الله تعالى مخبرًا عن أهل الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أن ذلك لشكلهم المخيف بسبب لحاهم التي غطت وجوههم وأظفارهم التي وصلت إلى الأرض، هكذا قال صاحب المقال الباطل إن لحى أهل الكهف غطت وجوههم، وأن أظفارهم وصلت إلى الأرض، وليس على هذا القول دليل من كتاب ولا سنة، ولم يذكر ذلك عن أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة العلم والهدى من بعدهم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير، والبغوي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي رواية له: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال: وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم انتهى. وقد قال ابن جرير في تفسير قول الله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} يقول: لو اطلعت عليهم في رقدتهم التي رقدوها في كهفهم لأدبرت عنهم هاربًا منهم فارًّا،

ولملئت منهم رعبًا. يقول: ولملئت نفسك من إطلاعك عليهم فزعًا لما كان الله ألبسهم من الهيبة؛ كي لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الوقت الذي أراد أن يجعلهم عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليهم من عباده ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها انتهى. وقال ابن الجوزي في تفسير قوله تعالى: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أي فزعًا وخوفًا وذلك أن الله منعهم بالرعب؛ لئلا يدخل إليهم أحد، وقيل إنها طالت شعورهم وأظفارهم جدًا فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبًا حكاه الزجاج انتهى. وقال الزمخشري في الكلام على قوله تعالى: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة. وقيل لطول أظفارهم وشعورهم، وعظم أجرامهم، وقيل لوحشة مكانهم انتهى. وقال البغوي في الكلام على قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله تعالى من

رقدتهم انتهى. وقال ابن كثير في الكلام على قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة، والرحمة الواسعة انتهى. فهذه أقوال أكابر المصنفين في التفسير فيما يتعلق بأصحاب الكهف، ولم يذكر أحد منهم أن لحاهم قد غطت وجوههم، وأن أظفارهم قد وصلت إلى الأرض، وإنما ذكر بعضهم قولاً ضعيفًا ذكروه بصيغة التمريض أن شعورهم وأظفارهم طالت جدًا. وهذا القول لا دليل عليه؛ ولهذا لم يذكره ابن جرير، ولا ابن كثير في تفسيريهما اللذين هما أحسن التفاسير وأبعدها عن الحشو بالأقوال الضعيفة. وإنما ذكرا القول الذي يدل عليه سياق الآية الكريمة وهو أن الله تعالى ألبسهم الهيبة حتى لا يدنو منهم أحد حتى تنقضي رقدتهم التي كتبها الله وقدرها عليهم.

ومما يدل على بطلان القول بأن شعورهم وأظفارهم قد طالت جدًا، أن الله تعالى منعهم بالمهابة والرعب في حال رقدتهم، فلم يطلع عليهم أحد من الناس، وعلى هذا فمن ذكر عنهم طول الشعور والأظفار، فإنما يقول ذلك عن طريق الظن والتوهم، لا عن طريق المشاهدة لهم ورؤية شعورهم وأظفارهم. ومما يدل على ذلك أيضًا أن الله تعالى لما بعثهم من رقدتهم لم ينكر أحد منهم منظر أصحابه، وقالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، ولو كانت شعورهم وأظفارهم قد طالت جدًا لوقع الإنكار من بعضهم لبعض، ولما لم يقع ذلك منهم دل على أنهم بعثوا على حالهم وهيئتهم التي كانوا عليها قبل رقدتهم، ولم يتغير شيء من شعورهم وأظفارهم. ومما يدل على ذلك أيضًا أن أصحاب الكهف لما استيقظوا من رقدتهم بعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بطعام منها فلم يستنكر أهل المدينة منظر الرجل، وإنما استنكروا الدراهم التي كانت معه وظنوا أنه أصابها من كنز قديم. ولو كانت لحيته قد غطت وجهه وكانت أظفاره قد وصلت إلى الأرض كما زعم ذلك صاحب المقال الباطل؛ لرعب أهل المدينة من منظره غاية الرعب ونفورا منه، ولما لم يقع ذلك دل على أن أصحاب الكهف قد بعثوا على حالهم

وهيئتهم التي كانوا عليها قبل رقدتهم، ولم يتغير شيء من شعورهم وأظفارهم والله أعلم. الشيء الرابع: افتراؤه على المفسرين وعلى غيرهم من الناس حيث زعم أن منهم من يعتقد أن كثافة اللحية تعني الإسلام فقط وتعني أن من لا لحية له مارق زنديق، قال: ولكي تثبت إسلامك عليك بإطلاق لحيتك. وهذا كذب وبهتان ومحاولة للتشنيع على الذين يعفون اللحى ويأمرون بإعفائها، وينهون عن حلقها، والتمثيل بها. ولا يظن بمسلم له عقل ودين أنه ينفي الإسلام عن الذين يحلقون لحاهم، ولا يقول إنهم مارقون زنادقة من أجل أنهم كانوا يحلقون لحاهم، وإنما يقال إنهم عصاة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يمتثلوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى ومخالفة المجوس الذين يحلقون لحاهم ويمثلون بها، وقد حذر الله تعالى من مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتوعد من خالف أمره بأشد الوعيد فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. الشيء الخامس: استخفافه بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى

وتسميته ذلك قشرًا واهيًا يتمسك به جهلة المفسرين، هكذا زعم الكاتب الجريء على مخالفة هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اللحى، ومعارضة أمره بإعفائها ومخالفة المشركين الذين يمثلون باللحى. وإنه ليخشى على صاحب المقال أن يصاب بزيغ القلب وتقليبه من أجل مجازفته وتهوره في الكلام الباطل، فقد قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. فأما تجهيله للمفسرين الذين يتمسكون بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى فهو به أولى. ومن تأمل مقاله السيئ علم أنه من أشد الناس جهلاً وتخبيطًا، وأنه يهرف بما لا يعرف. الوجه الثاني: أن الكاتب قال في صفة أهل الكهف: إن طولهم متوسط، وهذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وإنما هو من التخرص واتباع الظن، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وفي الحديث الصحيح: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد تقدم ما ذكره الزمخشري من صفات أهل الكهف ومنها عظم أجرامهم، وهذا القول لا دليل عليه أيضًا،

ولكنه يعارض ما توهمه الكاتب من توسطهم في الطول. الوجه الثالث: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير أهل الكهف لا في حال رقدتهم، ولا حينما بعثهم الله من رقدتهم؛ لأنهم كانوا قبل زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بدهر طويل. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرهم فمن أكبر الخطأ وأقبح ظنون السوء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما ألصقه به صاحب المقال السيئ، حيث زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - أصيب بالرعب من أهل الكهف، وأن صورة الرعب منهم قد بقيت في ذهنه فكان كلما رأى من هو كثّ اللحية تذكر شكل أهل الكهف، ولم يستطع صبرًا على ذلك، ولا يخفى ما في هذا القول الوخيم من الجراءة العظيمة على سيد البشر وصفوتهم. والله المسئول أن يقيض للكاتب الجاهل ولأمثاله الذين لا يحترمون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يوقرونه، من ينفذ فيهم الحكم الشرعي الذي يجب اتباعه في كل من تنقص النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه، وقد قال ابن كثير في «البداية والنهاية» في الكلام على قول الله تعالى مخبرًا عن أهل الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أي لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه، ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} أي أيها الإنسان، وذلك لأن طبيعة

البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالبًا، ولهذا قال: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة كما جاء في الحديث؛ لأن الخبر قد حصل ولم يحصل الفرار ولا الرعب انتهى. وهو كلام حسن جدًا، وفيه رد على ما ألصقه الكاتب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الرعب من أهل الكهف، وأن صورة الرعب منهم قد بقيت في ذهنه - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الرابع: أن يقال: إن الكاتب قد أخطأ خطأ كبيرًا في زعمه أن الله تعالى قال لنبيه حينما بعث أهل الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، وهذا من القول في القرآن بغير العلم، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك كما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي أول الآية التي ذكر الكاتب آخرها ما يكفي في الرد عليه، فإن الله تعالى قال: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، فدلت الآية الكريمة على أن أصحاب الكهف إنما ألبسوا الهيبة في حال رقدتهم؛ لئلا يدنو منهم أحد، وأنه لو اطلع عليهم أحد في

حال رقدتهم لولى منهم فرارًا، ولملئ منهم رعبًا، فأما بعد بعثهم من رقدتهم فإن الله تعالى أعثر عليهم أي أطلع الناس عليهم، وذلك حين بعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بطعام منها، ولم يذكر عن أهل المدينة أنهم فروا من أصحاب الكهف وأصيبوا بالرعب منهم حين اطلعوا عليهم بعد بعثهم من رقدتهم، وإذا كان أهل المدينة لم يصابوا بالرعب من أصحاب الكهف حين اطلعوا عليهم بعد بعثهم من رقدتهم، فمن باب أولى نفي الرعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخبره الله تعالى بقصة أصحاب الكهف وتنزيهه عما ألصقه به الكاتب الجاهل بقدره - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال ابن كثير في الكلام على قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي أطلعنا عليهم الناس {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}، وقال ابن كثير أيضًا، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} وقد ذكر ابن إسحاق، وابن جرير وغيرهما من المفسرين، وأصحاب السير والآثار قصة أصحاب الكهف مطولة، وفيها أبلغ رد على تخرصات الكاتب وإساءة أدبه فيما نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرعب من أصحاب الكهف، وأن صورة

اللحى جمال للرجال وفرق بينهم وبين النساء

الرعب منهم قد بقيت في ذهنه - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الخامس: أن يقال: ليس في إعفاء اللحية وكثافتها تشويه للإنسان كما قد توهم ذلك صاحب المقال الباطل، وإنما فيه الجمال للرجال والتفريق بينهم وبين النساء. وإمام أهل اللحى وقدوتهم في إعفائها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت أنه كان كث اللحية ضخمها عظيمها قد ملأت نحره، وكان مع ذلك أجمل البشر وأحسنهم وجهًا، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}. فأما حلق اللحى فإنه يشوه وجوه الرجال بحيث يصير وجه الشاب شبيهًا بوجه المرأة الشابة، ويصير وجه الشيخ شبيهًا بوجوه العجائز، وحلق اللحى ونتفها من التمثيل الذي ورد الوعيد الشديد عليه، كما في الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مثّل بالشعر فليس له عند الله خلاق». قال الزمخشري: قيل معناه حلقه في الخدود، وقيل نتفه، وقيل: خضابه، وقال ابن الأثير في «النهاية» فيه أنه نهى عن المثلة، يقال: مثلت بالحيوان إذا قطعت أطرافه وشوهت به، قال ومنه الحديث: «من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق يوم القيامة» مثلة الشعر حلقه

من الخدود، وقيل: نتفقه أو تغييره بالسواد، وكذا قال ابن منظور في لسان العرب. وقد تقدم ما رواه ابن إسحاق، وابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره النظر إلى المجوسيين اللذين دخلا عليه، وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، وقال لهما: «ويلكما، من أمركما بهذا؟»، وإنما أنكر عليهما حلق اللحية وإعفاء الشارب؛ لأن ذلك يشوه الوجه ويجعله قبيح المنظر. وإذا علم هذا فليعلم أيضًا أنه لا يستحسن حلق اللحية، وإعفاء الشارب إلا من استزله الشيطان، وزين له تشويه وجهه، وقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، وقال تعالى مخبرًا عن المخالفين لدعوة الرسل: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ومن حلق لحيته وشاربه، أو حلق لحيته وأعفى شاربه، أو حلق لحيته فقط فله نصيب من هذه الآية بقدر مخالفته لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب، ورغبته عن هديه الذي هو خير الهدي على الإطلاق. الوجه السادس: أن يقال لصاحب المقال الباطل: إذا كنت ترى أن في إعفاء اللحية وكثافتها تشويهًا للإنسان، فماذا تقول في

لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي قد ثبت أنها كانت كثة ضخمة عظيمة، فهل تقول إنها قد شوهت وجهه، أم ماذا نجيب به عن كلامك الباطل الذين لم تتثبت فيه ولم تنظر إلى ما يترتب عليه من اللوازم السيئة التي قد تفضي بقائلها إلى الخروج من الإسلام، فاتق الله أيها الكاتب، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب على أقوالك الباطلة، وحاول الخروج من المأزق الذي أوقعت نفسك فيه، ولا تكن من الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

حملة الكاتب على أهل اللحى وتخليطه وتمويهه وتلبيسه والرد عليه

فصل: ادعائه أن الدين المعاملة والأخلاق لا اللحية فقط؛ ولأن القسس والأحبار والرهبان في هذا الزمان كلهم ملتحون وقال صاحب المقال الباطل: في هذه الأيام برز جيل من الملتحين لا يعرفون أن الدين المعاملة، ويجهلون أن الدين النصيحة، ويتناسون أن الإسلام جملة من المحبة، والمودة، والفضائل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان، والزكاة، والصدقة، وقول المعروف، وصلة الرحم، والتودد، والتعاون، والأخلاق، لا يعرفون أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ونسوا أن الإسلام ينهى عن التفريق بين المرء وزوجه، والأخ وأخيه، نسوا كل محاسن الإسلام، وسلوك الإسلام، وتمسكوا باللحية وكأن الإسلام لحية. لا يعرفون أن اللحية تعبر عن الأمة العربية أحسن تعبير، ونسوا أن أحبار اليهود، ورهبان النصارى، وكفار قريش، والهندوس، والشيوعيين يلتحون، وكذلك البدائيون من الخلق. والجواب أن يقال: إن صاحب المقال الباطل قد شن الحملة على أهل اللحى وأجلب عليهم بتخليطه الذي حاصله التمويه والتلبيس على ضعفاء البصيرة. فأما قوله: لا يعرفون أن الدين المعاملة. فجوابه من وجوه: أحدها أن يقال: ليس الدين المعاملة كما

ذكر أركان الإسلام الخمسة

زعمه الجاهل بالدين، وإنما الدين الإسلام قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقد جاء تفسير الإسلام في سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام أن تشهد أن لا إله الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» قال: صدقت. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروى البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان» فهذه أركان الإسلام التي بني عليها، وليست منها المعاملة التي يهذوا بها جهلة الكتاب. الوجه الثاني أن يقال: لو كان الدين المعاملة كما زعمه الكاتب وكما يزعمه كثير من جهلة الكتاب في زماننا؛ لكان أهل الأرض كلهم

على الإسلام لأن المعاملة جارية بينهم في كثير من الأمور الدنيوية كالبيع، والشراء، والإجارة، والمضاربة، والمصارفة، والإيداع، والتوكيل وغير ذلك من المعاملات الجارية بينهم، ومنها المعاملات الربوبية في البنوك وغيرها، وكذلك المعاقدات بين الشركات من المسلمين، وغير المسلمين وكذلك المعاهدات بين الملوك، والرؤساء من المسلمين، وغير المسلمين، ومع وجود المعاملة بين سائر الأمم، فإن أكثرهم ليسوا على دين الإسلام، وبهذا يعلم فساد القول بأن الدين المعاملة. الوجه الثالث أن يقال: إن المعاملة منها ما هو جائز في الإسلام، ومنها ما هو غير جائز فيه كالمعاملة الربوبية، والعقود المحرمة، ويلزم على قول من قال إن الدين المعاملة أن تكون المعاملات الربوية والعقود المحرمة كلها من الدين. وهذا لا يقوله عاقل. فإن قال الكاتب: إنه يقصد بالمعاملة مخالقة الناس بالخلق الحسن. فالجواب أن يقال: إن مخالقة الناس بالخلق الحسن أمر حسن جدًا، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حيث قال لأبي ذر رضي الله عنه: «اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس

بيان النصيحة الواجبة

بخلق حسن» رواه الإمام أحمد والترمذي والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد والترمذي أيضًا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وليعلم أن مخالقة الناس بالخلق الحسن، وإن كانت من الخصال الحسنة التي يأمر بها الدين فليست هي الدين، ولا يكون المتصف بها مسلمًا حتى يلتزم بأركان الإسلام الخمسة. وما أكثر الذين يخالقون الناس بالأخلاق الحسنة، وهم مع ذلك ليسوا بمسلمين، وكثير من دول النصارى يجد المسلمون عندهم من المخالقة الحسنة ما لا يجدونه عند بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام. وهم مع ذلك ليسوا بمسلمين، وبهذا يعلم فساد قول من قال إن الدين المعاملة. وأما قوله: ويجهلون أن الدين النصيحة. فجوابه أن يقال: لا بد من تقييد النصيحة بما جاء في الأحاديث الصحيحة وهي أنها «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث تميم الداري رضي الله عنه، ورواه الإمام أحمد، والنسائي أيضًا والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي:

حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الدارمي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقد قال النووي في الكلام على هذا الحديث: إن من النصيحة لله تعالى القيام بطاعته، واجتناب معصيته، ومن النصيحة للرسول - صلى الله عليه وسلم - طاعته في أمره، ونهيه، وإحياء طريقته وسنته. ومن النصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، ومن النصيحة لعامة المسلمين تعليمهم ما يجهلونه من دينهم وأمرهم ونهيهم عن المنكر، انتهى المقصود من كلامه ملخصًا. وإذا علم هذا فليعلم أيضًا من طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته التي دلت عليها أقواله وأفعاله إعفاء اللحية ومخالفة المشركين الذين يحلقون لحاهم، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان كث اللحية ضخمها عظيمها. وجاء في عدة أحاديث صحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بإعفاء اللحى ومخالفة المشركين الذين يحلقون لحاهم، فتجب طاعته في ذلك واجتناب معصيته كما يجب أيضًا التأسي به وإحياء طريقته وسنته، وذلك كله من النصيحة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله تعالى قد أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة من القرآن، وقرن طاعته

بطاعته، وحث على اتباعه والتأسي به، وحذر من مخالفة أمره، وأخبر أن طاعة الرسول طاعة له، وعلق الهداية على طاعته فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}. ومن النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم تعليمهم ما يجهلونه من دينهم. ومن ذلك تعليمهم وجوب إعفاء اللحى، وتحريم حلقها، وقصها، ونتفها. فأما نصيحة الكفار بعضهم لبعض في أمور دينهم ودنياهم فليست من الدين في شيء. وكذلك نصيحة الكفار للمسلمين ليست من الدين في شيء، ولكنها حسنة ومحمودة عند العقلاء. وأما قوله: ويتناسون أن الإسلام جملة من المحبة والمودة والفضائل - إلى أخر كلامه -.

أركان الشهادة بالرسالة

فجوابه أن يقال: إن الإسلام مبني على خمسة أركان: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وقد تقدم ذكر هذه الأركان في سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتفق على صحته، وأعظم أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والشهادة بالرسالة مبنية على أربعة أركان أحدها: طاعة أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وثانيها: اجتناب نواهيه، وثالثها: تصديق أخباره، ورابعها: متابعته والتمسك بشريعته، فمن جاء بهذه الأركان الأربعة فقد حقق الشهادة بالرسالة، ومن ترك العمل بها فليس بمسلم، ومن أعرض عن شيء منها فهو ممن يشك في إسلامه، ومما يدخل في طاعة أمره - صلى الله عليه وسلم - إعفاء اللحى، وإحفاء الشوارب، ومخالفة المشركين الذين يحلقون لحاهم ويوفرون شواربهم، ومن حلق لحيته، أو أعفى شاربه فقد عصى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتعرض للفتنة، والعذاب الأليم. فأما ما ذكره الكاتب ليس فيه من أركان الإسلام شيء سوى الزكاة، وما سوى ذلك ففيه تفصيل، فأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان والصدقة، وقول المعروف وصلة الرحم، فهي من أعظم الفضائل التي يحبها الله، وليست من أركان الإسلام، وإنما

تحريم موالاة أعداء الله والتشبه بهم

هي من مكملات الإيمان، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب، والنهي عن توفير الشوارب وحلق اللحى، وقصها، ونتفها. وأما المحبة والمودة فإنما تكون لأولياء الله، ولا تكون لأعدائه، ولا لمن يتولاهم، أو يتشبه بهم لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وقوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم التشبه بأعداء الله. ويدل على ذلك أيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وإسناده جيد، وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى»، ومن التشبه بأعداء الله تعالى حلق اللحى وتوفير الشوارب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا

الشوارب»، وقد تقدم هذا الحديث، وأحاديث كثيرة في معناه. وأما الدليل على أن المحبة والمودة إنما تكون لأولياء الله، ولا تكون لأعداء الله تعالى ففي آيات كثيرة من القرآن منها قول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فأخبر تبارك وتعالى أن رحمة نبيه ورأفته خاصة بالمؤمنين، وأخبر عنه، وعن أصحابه أنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وقد جاء في أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله»، وفي هذه الأحاديث مع ما ذكر قبلها من الآيات أبلغ رد على الذين يوالون الكفار والمنافقين ويحبونهم.

الرد على عدة أشياء من تخليط الكاتب

وأما التعاون فإنما هو مشروع في أفعال الخير، ولا يجوز في أفعال الشر لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وقد ذكر الكاتب كلمة التعاون على وجه الإطلاق الذي يدخل فيه التعاون الذي أمر الله به والتعاون الذي نهى الله عنه. وهذا خطأ وجهل إذ لا بد من تقييد التعاون بما أمر الله به من التعاون على البر والتقوى. وأما الأخلاق فإن الإسلام قد رغب في محاسنها، ونهى عن مساويها وسفسافها، وقد ذكر الكاتب كلمة الأخلاق على وجه الإطلاق الذي يدخل فيه محاسن الأخلاق ومساويها، وهذا خطأ وجهل إذ لا بد من تقييد الأخلاق بما هو مأمور به ومرغب فيه من التحلي بالأخلاق الحسنة، والبعد عن الأخلاق السيئة. وأما قوله: لا يعرفون أن المسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده. فجوابه أن يقال: إن التحذير من إطلاق اللسان واليد على المسلمين إنما هو فيما كان من باب الظلم والعدوان. فأما الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي المسيئين وأطرهم على الحق فهي من الأمور التي أمر الشارع بها ورغب فيها،

والآيات والأحاديث في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا، وليس هذا موضع ذكرها. وتغيير المنكر يكون باليد واللسان والقلب كما في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى مسلم أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»، وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا

يعتدون، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا»، وفي رواية أبي داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو لتقصرنه على الحق قصرًا». وإذا علم أن تغيير المنكر واجب على حسب القدرة، فليعلم أيضًا أن من اقتصر على التغيير بلسانه، وهو قادر على التغيير بيده فقد ترك الواجب عليه، ومن اقتصر على التغيير بقلبه، وهو قادر على التغيير بلسانه، فقد ترك الواجب عليه. وقد يظن بعض الجاهلين أن التحذير من إطلاق اللسان واليد على المسلمين يتناول إنكار المنكرات الظاهرة وتغييرها باليد أو اللسان لمن قدر على ذلك، وهذا هو الظاهر من فحوى كلام الكاتب حيث شن الحملة على الذين ينكرون حلق اللحى. وما علم الكاتب وأمثاله من ضعفاء البصيرة أن إعفاء اللحى فرض، وأن حلقها من المنكرات التي يجب تغييرها بحسب القدرة. وما علموا أيضًا أن من ترك تغيير المنكرات وهو قادر على تغييرها فقد تعرض لسخط الله ومقته وأليم عقابه. وأما قوله: نسوا أن الإسلام ينهى عن التفريق بين المرء

وزوجه، والأخ وأخيه. فجوابه أن يقال: إن الإسلام إنما ينهى عن التفريق بين المرء وزوجه، وبين الأخ وأخيه إذا كان كل منهما ملتزمًا بأحكام الإسلام، فأما من كان يتسمى بالإسلام وهو مع ذلك يترك الصلاة، أو يفعل شيئًا من نواقض الإسلام التي تبيح الدم والمال، فإنه يجب التفريق بينه وبين زوجته الملتزمة بأحكام الإسلام، ويجب تحذير إخوانه وغيرهم منه حتى يتوب ويلتزم بأحكام الإسلام. وأما قوله: نسوا كل محاسن الإسلام وسلوك الإسلام. فجوابه أن يقال: من محاسن الإسلام وسلوك الإسلام إعفاء اللحى، والبعد عن مشابهة المجوس وأمثالهم من المشركين الذين يحلقون لحاهم، والأدلة على أن إعفاء اللحى من محاسن الإسلام وسلوك الإسلام كثيرة جدًا، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع، وأما حلق اللحى فإنه من سلوك المجوس ومساوئ أفعالهم، والمسلم مأمور بمخالفتهم والبعد عن مشابهتهم، وعلى هذا فالذين يتشبهون بالمجوس في حلق اللحى هم الذين نسوا محاسن

الإسلام وسلوك الإسلام في إعفاء اللحى والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك والتمسك بهديه وامتثال أمره. وأما قوله: وتمسكوا باللحية، وكأن الإسلام لحية. فجوابه أن يقال: أما إعفاء اللحية فإنه من خصال الفطرة كما جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن وتقدم ذكره. والفطرة هي السنة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليها الأنبياء والمرسلون من قبله، وقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كثير شعر اللحية، وأن لحيته كانت كثة ضخمة عظيمة، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، وقال تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بإعفاء اللحى، ومخالفة المشركين الذين يحلقون لحاهم، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ

عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فليحذر الكاتب وأمثاله من المتهاونين بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم. وأما قوله: لا يعرفون أن اللحية تعبر عن الأمة العربية أحسن تعبير، ونسوا أن أحبار اليهود، ورهبان النصارى، وكفار قريش، والهندوس، والشيوعيين يلتحون. فالجواب عنه قد تقدم في أول الكتاب فليراجع. وأما قوله: وكذلك البدائيون من الخلق. فجوابه أن يقال: إذا كان الكاتب يرى أن من أعفى لحيته فهو من البدائيين، فمعناه أنه يرى أن الراقين هم الذين يحلقون لحاهم. وهذا لا يقوله إنسان يعقل ما يقول، وقد ذكرت فيما تقدم أن إعفاء اللحى من سنن الأنبياء والمرسلين وهديهم الذي أمر الله تبارك وتعالى بالاقتداء بهم فيه، وعلى هذا فهل يقول الكاتب إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من البدائيين؛ لأنه قد أعفى لحيته، وأن الأنبياء والمرسلين كانوا بدائيين لأنهم كانوا يعفون لحاهم، وأن الراقين هم الأكاسرة وقومهم المجوس، ومن يتشبه بهم ويحذو حذوهم

في حلق اللحى وإعفاء الشوارب. أما ماذا يجيب به عن كلامه الباطل الذي لم يتثبت فيه، ولم ينظر إلى ما يترتب عليه من اللوازم السيئة التي قد تفضي بقائلها إلى الردة والخروج من الإسلام.

الرد على عدة أشياء من هذيان الكاتب وافترائه على النبي - صلى الله عليه وسلم -

فصل: ادعاء صاحب المقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ما يفيد أن اللحية من الإسلام في شيء، وإنما عنف الذين يشوهون مناظرهم بإطلاق لحاهم وقال صاحب المقال الباطل: النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ما يفيد بأن اللحية من الإسلام في شيء، وإنما قال حديثا يزجر به الذين شوهوا مناظرهم بلحاهم الكثة التي كانوا ينتفونها بأيديهم، ويقضمون شواربهم بأسنانهم، ويشوهون منظرهم الإنساني الجميل، فقال - صلى الله عليه وسلم - ما معناه: يا جماعة هذبوا لحاكم، وحفوا شواربكم بالمقص، وليس بأسنانكم، الجهلة اعتقدوا أن هذا هو الحديث الوحيد الذي يرمز إلى إسلام المرء. ومن حقك إذا أطلقت لحيتك أن تشتم الناس، وتكفرهم، وتفرق بينهم، وتحلل دماءهم، ونساءهم. والجواب أن يقال: إن صاحب المقال الباطل قد تقول على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث زعم أنه لم يقل ما يفيد بأن اللحية من الإسلام في شيء. وهذا الزعم الكاذب مردود بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى وتوفيرها. وقد تقدم ذكر ذلك في عدة أحاديث صحيحة فلتراجع، وتقدم أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر من الفطرة»، وذكر منها قص الشارب وإعفاء اللحية، والفطرة هي السنة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليها الأنبياء والمرسلون من قبله، وتقدم أيضًا ما حكاه ابن حزم من الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، وفي كل ما تقدم ذكره من الأحاديث والإجماع أبلغ رد على ما في كلام الكاتب من التقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما فيه أيضًا من التخبيط والتلبيس على ضعفاء البصيرة. وأما زعمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حديثا يزجر به الذين شوهوا مناظرهم بلحاهم الكثة، فهو أيضًا من التقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». وأما زعمه أن اللحى الكثة تشوه مناظر أهلها فهو من قلب الحقيقة؛ لأن الذي يشوه وجوه الرجال على الحقيقة هو التمثيل باللحى بالحلق أو النتف، بحيث يصير وجه الشاب شبيهًا بوجه المرأة الشابة، ويصير وجه الشيخ شبيهًا بوجوه العجائز، وقد ورد الوعيد الشديد على التمثيل بالشعر، وتقدم ذكره في أثناء الكتاب

فليراجع، فأما إعفاء اللحى فإنه جمال للرجال، ولا ينكر ذلك إلا من أعمى الله بصيرته، وقد جعل الله اللحى فرقًا بين الرجال والنساء. وقد تقدم في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان كث اللحية ضخمها عظيمها، وكان مع ذلك أجمل الناس وأحسنهم منظرًا، وكان يشبه أباه إبراهيم خليل الرحمن، وتقدم في صفة موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان كث اللحية. وفي صفة هارون عليه الصلاة والسلام أنه كان يشبه أخاه موسى، وفي بعض الروايات في حديث الإسراء أن لحية هارون تكاد تصيب سرته من طوله، وعلى هذا فهل يقول مسلم عاقل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شوه منظره بلحيته الكثة الضخمة العظيمة، وأن إبراهيم، وموسى، وهارون قد شوهوا مناظرهم بلحاهم الكثة العظيمة، كلا لا يقول ذلك من له مسكة من عقل ودين. وإذا علم هذا فليعلم أيضًا أن أهل اللحى الكثة من المسلمين لهم أسوة بالخليلين وبغيرهما من الأنبياء والمرسلين، وقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو

اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وأما قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما معناه، يا جماعة هذبوا لحاكم، وحفوا شواربكم بالمقص، وليس بأسنانكم. فجوابه أن يقال: هذا من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بإعفاء اللحى وتوفيرها، وذلك ينافي الحلق والتهذيب منها. وأما قوله: إن الجهلة اعتقدوا أن هذا هو الحديث الوحيد الذي يرمز إلى إسلام المرء. فجوابه أن يقال: ليس الكلام الذي ذكره حديثًا مرويًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كذب أتى به الكاتب من كيسه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، ولا يظن بأحد له أدنى مسكة من عقل ودين أنه يصدق بالحديث الذي وضعه الكاتب ونسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضلاً عن أن يعتقد أنه يرمز إلى إسلام المرء، فكل هذا من مجازفات الكاتب وتهوره في كتابة ما يمليه عليه قرينه.

وأما قوله: ومن حقك إذا أطلقت لحيتك أن تشتم الناس، وتكفرهم، وتفرق بينهم، وتحلل دماءهم ونساءهم. فجوابه أن يقال: هذا هذيان يشبه هذيان المجانين، ولا يكتبه وينشره إلا من هو مصاب في دينه وعقله. وهذا آخر ما يتيسر إيراده، والله المسئول أن يريني وإخواني المسلمين الحق حقًا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد كان الفراغ من كتابة هذه النبذة في يوم الخميس سابع شهر شوال من سنة أربع وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

§1/1