الرد على اللمع

شحاتة صقر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. * قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: « ... إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬1)، «عَضُّوا عليها بالنواجذ»: كناية عن شدة التمسك بها، و «النواجذ»: الأضراس. * قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم» (¬2). * قال الإمام مالك - رحمه الله -: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً» (¬3). * قال الإمام الزهري - رحمه الله -: «الاعتصام بالسنة نجاة؛ لأن السنة ـ كما قال مالك ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك». ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني، وروى الإمام مسلم لفظة: «كل بدعة ضلالة». (¬2) رواه الإمام الدارمي (175). (¬3) الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 54).

المقدمة

المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد .. فمن فضل الله على هذه الأمة أنه أكمل هذا الدين، وما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا وقد بلغ الرسالة، فكل ما يحتاجه الناس في دينهم فهو في كتاب الله - عز وجل - وسنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولذلك حذر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من البدع فقال: «كل بدعة ضلالة» (¬1)، وأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين (¬2). ولكن أهل البدع من حيث يشعرون أو لا يشعرون يحاولون زعزعة أصل من أصول أهل السنة والجماعة، وهو الاقتصار في أمور الدين على اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، واعتمادهم في ذلك إما على شبهات لا دليل فيها أو على آراء رجال يجب أن نترك أقوالهم إذا خالفت كتاب الله - عز وجل - أو سنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. والغرض من هذا الكتاب كشف البدع وأثرها السيئ في هدم دين الإسلام، والرد على كتاب (اللمع في تجلية البدع) لمؤلفه الأستاذ محمد حسين وهو أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين، وقد حاول فيه تبرير مقولة: «إن في الإسلام بدعة حسنة» وهذا ينتج عنه هدم الكثير من السنن وفتح باب الابتداع في الدين، وقد احتوى الكتاب على بعض البدع والأخطاء التي رد عليها العلماء وفندوا الشبهات التي اعتمد عليها من سبقوه في تلك البدع والأخطاء. ومن الواجب الرد على هذا الكتاب لسببين: 1 - كثرة الشبهات التي أوردها. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (867). (¬2) رواه الإمام أبو داود (4607)، وصححه الشيخ الألباني.

2 - أن مؤلفه أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين، ومعنى ذلك أن هذا الكتاب سيكون مصدراً من مصادرهم الثقافية التي يعتمدون عليها في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكياتهم ودعوتهم، بل إن بعضهم ينشره في أوساط الشباب ويعتبره حجة على أصحاب المنهج السلفي الذين يدْعون إلى هدم البدع. * ويحتوى هذا الرد على: 1 - منهج الأستاذ محمد حسين في كتابه. 2 - مقدمة بها قواعد أساسية في السنن والبدع. 3 - الرد على الشبهات التي استدل بها الأستاذ محمد حسين على أن في الإسلام بدعة حسنة. 4 - بيان موقف الأستاذ محمد حسين من الأحاديث الضعيفة. 5 - الرد على البدع والأخطاء التي ذكرها الأستاذ محمد حسين في كتابه. 6 - مناقشة بعض أراء الأستاذ محمد حسين في كتابه (سلوكيات وأحكام المرأة في المجتمع المسلم). ونسأل الله سبحانه أن يهدي المسلمين للتمسك بسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بفهم السلف الصالح، وأن يجعلنا لَبِنات صالحات في بنيان التمكين لدين الإسلام، وأن يرزقنا الانتصار على أنفسنا والتغلب على الهوا، وأن يؤلف بين قلوب العاملين للإسلام، وأن يوحد كلمتهم على كلمة التوحيد واتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، ونشكر كل من ساهم في نشر هذا الكتاب بإضافة شيء أو تصويب خطأ، ونسأل كل من له تعقيب على شيء في هذا الكتاب أن يبادر بإرساله؛ فالدين النصيحة.

* تنبيه: الاعتماد في الرد على كتاب (اللمع) على أول طبعة للكتاب وقد صدرت طبعة أخرى تزيد أربع صفحات، فإن كان لدى القارئ الطبعة الجديدة وأراد الرجوع إلى المصدر فليُضف إلى كل رقم صفحة أحيل إليها في الكتاب أربع صفحات فمثلاً إذا كانت الإحالة إلى (ص55) فسيجدها في نسخته (ص59) وهكذا. شحاتة محمد صقر أبو حمص في 26 من ذي القعدة 1426 هجرية [email protected]

كيف تناقش مبتدعا؟

كيف تناقش مبتدعاً؟ لسان حال المبتدع أنه مُفْترٍ على الله تعالى مُدَّعٍ أن الدين لم يكمل وأنه ببدعته يكمله، ويمكن ضَرْب مثل للمبتدع به تنقطع حجته ويسقط دليله وهذا المثل هو: أن المريض إذا ذهب إلى الطبيب يشكو إليه داء فإن الطبيب بعد أن يشخص الداء يصف الدواء، ويوصيه بأن يتناول الدواء بحسب وصْفة معينة مثلاً في الصباح مرة وفي المساء مرة، وهذا يبلعه وهذا يشربه، وثالث يأخذه في الوريد، ولا تجد المريض مهما بلغ حمقه معترضاً على الطبيب فيما وصفه له، ولا تجد عاقلاً يقول: لِمَ لا أتبع طريقة أخرا، فبدل أن آخذ الدواء كل صباح ومساء آخذه مرة واحدة، وبدل أن أكتفي بهذا النوع أزيد أنواعاً أخرا. . لا أحد من المرضى ولا من الناس يقول مثل ذلك، لماذا؟ لأن الكل يسلم للطبيب تخصصه، ويعلم أنه بدراسته وتجربته أعرَف بطرق العلاج. هذا التسليم من الناس جميعاً للطبيب لا نجد مثله منهم تجاه طبيب القلوب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فتجد كل من هب ودب يفترى ويقول: لِمَ لا أزيد هذه العبادة؟ لِمَ لا أخترع هذه العبادة؟ لِمَ لا أخترع هذه الكيفية؟ أليست كلها قربة إلى الله؟ فقل لمثل هذا: لِمَ لا تترك دواء الطبيب وتتناول دواء آخر؟ لِمَ لا تزيد على الدواء نوعاً آخر؟ لِمَ لا تغير كيفية تناول الدواء وتتناول الدواء مرة واحدة؟ لن يفعل من ذلك شيئاً، لأنه يرى الطبيب أدرى بما وصف، ونحن نرى أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أدرى بما شرع بإذن الله تعالا. وإنكار ابن مسعود - رضي الله عنه - للذكر الجماعي أبرز مثال لإنكار السلف لمثل هذه المحدثات.

منهج الأستاذ محمد حسين في كتابه

منهج الأستاذ محمد حسين في كتابه 1 - عدم الاعتماد في الترجيح على الكتاب والسنة بل الاعتماد على ما ينتقيه من أقوال العلماء والتي تؤيد رأيه، وبالتالي اعتبار المسألة خلافية ويجوز الأخذ بأي القولين، مع عدم اعتبار أن من الخلاف ما هو سائغ معتبر وما هو غير سائغ وغير معتبر لمخالفته الصريحة للكتاب والسنة. 2 - ينتقى من آراء العالم الواحد ما يشتهيه من آراء تؤيد قوله في مسألة ما، وقد يضرب بقوله عرض الحائط في مسألة أخرا، فقد نقل (ص75) نقولاً عن الأئمة مالك والشافعي وأحمد رأى أنها تؤيد رأيه ثم قال: «هؤلاء أئمة الإسلام والفقه ... فمن نأخذ عن غيرهم؟»، وفي مسألة أخرى (ص81) ترك قولهم جميعاً وأخذ بقول لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم قال: «انظر رعاك الله وشرح صدرك لقبول فقه العلماء إلى قول الإمام ابن تيمية ... » ثم لما كان كلام الإمام!!! ابن تيمية في التوسل بذات الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يخالف رأيه ضرب بكلام الإمام!!! عرض الحائط بل رد عليه (ص130 - 133) واتهم الإمام!!! ابن تيمية (ص130) برد الحديث الصحيح وأعمال الصحابة. 3 - الاستدلال بأحاديث ضعيفة وبناء أحكام عليها رغم أنه اشترط (ص32) ألا يعمل بالحديث الضعيف في الأحكام والعقائد، بل أحيانا يذكر أحاديث أو آثاراً ويبني عليها أحكاماً دون أن يذكر الذي أخرجها من أهل العلم ولا درجتها من الصحة أو الضعف اكتفاء بأن العالم الفلاني ذكرها حتى وإن كان هذا العالم لا يشترط ذكر ما هو صحيح في كتابه، فمثلاً ذكر حديثاً (ص108) ثم قال: «ذكره القرطبي في التفسير» ولم يذكر من الذي رواه أو درجته من الصحة أو الضعف، بل إنه ذكر أثراً عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ونسبه للإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين) ولم يذكر من

الذي أخرجه حتى يبني عليه حكماً، ومعلوم أن الإحياء مليء بالضعيف بل والموضوع وما لا أصل له. 4 - بتْر النقول التي ينقلها أحيانا وعدم ذكر بقية الكلام إن كان يخالف ما ذهب إليه، ومن أمثلة ذلك: أ- نقل (ص120 - 121) تعريف الإمام الشاطبي للبدعة الإضافية ثم قال: «وضرب ـ أي الشاطبي ـ لذلك أمثلة» اهـ، ولم يذكر الأمثلة لأنها تهدم كثيراً من البدع التي ذكرها في الكتاب، ولم يكمل شرح الإمام الشاطبي للتعريف وهو قوله: «والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العادات المحضة» (¬1) هذا الكلام يهدم كثيراً من البدع التي ذكرها الأستاذ محمد حسين في كتابه. ب- نقل (ص20) عن الحافظ ابن رجب الحنبلي ما يوهم أنه يؤيد رأيه ولم ينقل توضيح ابن رجب لهذا الكلام في نفس الكتاب (¬2). جـ- نقل (ص114) كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رأى أنه يؤيد رأيه ولم ينقل بقية الكلام لأنه يهدم ما ذهب إليه (¬3). د - نقل (ص103 - 104) كلاماً لابن الحاج في (المدخل) عن صيام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الاثنين اليوم الذي ولد فيه، ولم ينقل كلام ابن الحاج في الإنكار الشديد على بدعة المولد (¬4). هـ- ذكر (ص133) حديث الأعمى واستدل به على جواز التوسل بذات ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 276). (¬2) انظر ذلك في الرد على الشبهة (3) من الشبهات التي استدل بها على جواز الابتداع في الدين. (¬3) انظر تفصيل ذلك في الرد على البدعة (3): إحياء عشر ذي الحجة جماعة في المساجد. (¬4) انظر الرد على بدعة الاحتفال، الشبهة رقم (4).

الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وحذف منه قول الأعمى: «اللهم شفعني فيه»؛ لأنه دليل على أن الأعمى إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وليس بذاته (¬1). ونقل (ص35) عن الإمام ابن قيم الجوزية في كتاب (إعلام الموقعين) أن الإمام أحمد يعمل بالضعيف إذا لم يوجد غيره وفي رواية: ضعيف الحديث عندنا أحب مِنْ رَأْي الرجال، ولم يذكر توضيح الإمام ابن القيم لهذا الكلام في (إعلام الموقعين: 1/ 33) حيث قال «وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب في العمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من اقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب». ز- نقل (ص73) عن (الآداب الشرعية) لابن مفلح: «وقال صاحب المحيط من الحنفية: إن أبا حنيفة - رحمه الله - ارتدى برداء ثمين قيمته أربعمائة دينار وكان يجره على الأرض، فقيل له: أوَلَسْنا نُهينا عن هذا؟! قال: إنما ذلك لذوي الخيلاء ولسنا منهم»، وبالرجوع إلى مصدر نقله نجد أن صاحب المحيط - رحمه الله - قد نقل هذا الكلام بدون إسناد، بصيغة التمريض التي توحي بضعف الرواية، لا بصيغة الجزم كما ذكر الأستاذ محمد حسين، قال ابن مفلح - رحمه الله -: «وقال صاحب المحيط من الحنفية: ورُوِيَ أن أبا حنيفة - رحمه الله - ارتدى برداء ثمين قيمته أربعمائة دينار وكان يجره على الأرض، فقيل له: أوَلَسْنا نُهينا عن هذا؟! قال: إنما ذلك لذوي الخيلاء ولسنا منهم» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مسألة التوسل. (¬2) الآداب الشرعية (3/ 521).

أقوال للشيخ حسن البنا - رحمه الله - في وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهديها لأتباعه

أقوال للشيخ حسن البنا - رحمه الله - في وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهديها لأتباعه أولاً: « ... فأول واجباتنا نحن الإخوان أن نبين للناس حدود هذا الإسلام واضحة كاملة بينة لا زيادة فيها ولا نقص ولا لبس معها، وذلك هو الجزء النظري من فكرتنا، وأن نطالبهم بتحقيقها ونحملهم على إنفاذها ونأخذهم بالعمل بها، وذلك هو الجزء العملي من هذه الفكرة، وعمادنا في ذلك كله كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والسنة الصحيحة الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، والسيرة المطهرة لسلف هذه الأمة» (¬1). ثانياً: «القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعريف أحكام الإسلام ويفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكليف ولا تعسف ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات» (¬2). ثالثاً: «الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية» (¬3). رابعاً: «كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم - وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أولى بالاتباع» (¬4). خامساً: «العرف الخاطئ لا يغير حقيقة الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها» (¬5). ¬

_ (¬1) مجموعة الرسائل (ص83 - 84). (¬2) الرسائل (ص268). (¬3) الرسائل (ص268). (¬4) الرسائل (ص296). (¬5) الرسائل (ص270).

سادساً: «وإذا صح الحديث فقد وجب العمل به، وإن لم يخرجه الشيخان، ولا يترك العمل به لرأي ولا تقليد إمام ولا لتوهم اجتماع، قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): والذي ندين الله عليه، ولا يسعنا غيره، أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس، كائنا من كان، لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، ولا يحضره وقت الفتيا، أو يفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول تأويلاً مرجوحاً، أو يكون في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضاً في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قُدّر انتفاء ذلك كله ـ ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ـ لم يكن الراوي معصوماً» (¬1). ¬

_ (¬1) مباحث في علوم الحديث (ص57 - 58)، ط. دار التوزيع والنشر الإسلامية.

قواعد أساسية في السنن والبدع ينبغي معرفتها

قواعد أساسية في السنن والبدع ينبغي معرفتها القاعدة الأولى تعريف البدعة (¬1) قال الشيخ صالح الفوزان: «البدعة في اللغة: مأخوذة من البَدْع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله ـ تعالى ـ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] أي مخترعها على غير مثال سابق، وقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] أي: ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل. ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني: ابتدأ طريقة لم يُسبَق إليها. والابتداع على قسمين: ابتداع في العادات كابتداع المخترعات الحديثة، وهذا مباح؛ لأن الأصل في العادات الإباحة. وابتداع في الدين وهذا مُحرَّم؛ لأن الأصل فيه التوقيف، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬2)، وفي رواية: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعُلِم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وسواء ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي (4/ 108)، الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 42 - 46، 2/ 421 - 422، 438). محاضرات في العقيدة والدعوة (1/ 99 - 100) بتصرف. (¬2) رواه الإمام البخاري (2697)، والإمام مسلم (1718). (¬3) رواه الإمام مسلم.

كان هذا مفعولاً على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو لم يكن، فما فُعِل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته. ولهذا كان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يقول: سن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سننًا، الأخذ بها تصديقٌ لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله. ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا، فسنة خلفائه الراشدين هي: مما أمر الله به ورسوله، وعليه أدلة شرعية مفصلة». قال الإمام الشاطبي: «البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه، (تضاهى: تشابه). فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تُسَمّ بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم. * ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم، فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها، خُصّ منها القسم المخترع، أي طريقة ابتُدِعت على غير مثال تقدمها من الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترَع مما هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة، فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول، فأصولها موجودة في الشرع، إذ علوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة، فحقيقتها إذاً أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية كيف تُؤْخَذ وتُؤَدَّا. * البدعة تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها من أوجه متعددة، منها: 1 - وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار في المأكل والمشرب على صنف دون

صنف من غير علة. 2 - التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عيداً، وما أشبه ذلك. 3 - التزام العبادات المعيَّنة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صوم يوم النصف من شعبان (¬1) وقيام ليلته. فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة، لأنها تصير من باب الأفعال العادية». * هل البدع تدخل في العادات؟ قال الإمام الشاطبي: «العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يُتَعَبَّد بها أو توضع وضع التعبد ـ تدخلها البدعة، وأفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضَرْبين: أحدهما: أن تكون من قبيل التعبدات، والثاني: أن تكون من قبيل العادات. وثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة التعبد؛ لأن ما لم يُعقَل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي وما عُقِل معناه وعُرِفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي؛ لأن أحكامها معقولة المعنا، ومع أنها معقولة المعنى لابد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأُمور العادية من ذلك الوجه، صح دخوله في العاديات كالعبادات، وإلا فلا». ¬

_ (¬1) أما إن صامه على أنه أحد الأيام البيض (13، 14، 15) فهذا من السنة، فعن ملحان القيسي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: قال: «هن كهيئة الدهر»، رواه الإمام أبو داود (2449)، وصححه الشيخ الألباني.

فالأفعال العادية قد تدخل في نطاق البدع بنية صاحبها سواء في الفعل (كلبس الصوف بقصد التقرب إلى الله)، أو في الترك (كالتقرب إلى الله بالصمت الدائم، أو بالامتناع عن الخبز واللحم وشرب الماء البارد، أو بالقيام في الشمس وترك الاستظلال).

القاعدة الثانية الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة والتحذير من الابتداع

القاعدة الثانية الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة والتحذير من الابتداع قال الشيخ على محفوظ: * قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فإذا كان الله سبحانه قد أكمل لنا الدين بما أنزله في كتابه العربي المبين وعلى لسان نبيه الأمين وبين لنا من حلال وحرام، فمن اتبع غير سبيل المؤمنين فهو الحقيق بهذا الوعيد الشديد، قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. * قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] أي ما تركنا وما أغفلنا شيئاً يحتاج إليه من الأشياء المهمة، فقد نفى سبحانه التقصير فيما شرع من كتابه الحكيم الذي هو متن السنة، وقد أمر تعالى باتباع سبيله وما شرع من الدين القويم، ونهى عن اتباع غير سبيل المؤمنين فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فذكر تعالى أن له سبيلاً واحداً سماه صراطاً مستقيماً لأنه أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلاً متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط، وهي طرق الشيطان، وحث سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة حثاً مقروناً بالنهي عن اتباع السبل مبيناً أن ذلك سبب للتفرق، ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلاً واحداً أمروا بسلوكه وأما أهل البدع والأهواء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة. * قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قال العلماء: معناه: إلى الكتاب والسنة، فأمر سبحانه برد الأمر في حالة النزاع إلى كتابه

العزيز وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ففي حالة الوفاق أولا. * قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] فقد جعل سبحانه وتعالى علامة محبته اتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فمن لم يتبع الرسول وادعى محبة الله تعالى فهو كاذب في دعواه فإن عصيان الرسول عصيان لله تعالا، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80] وعصيان الله تعالى ينافي محبته، فالخيرة في اتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والشر في مخالفة سنته، فإذاً الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه في جميع أقواله وأفعاله والتأسي به في سائر أحواله، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وما أخبث رجلاً ترك سبيل السُنة الشارحة للكتاب واستبدل العذب بالعذاب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬1). * قال الحافظ ابن كثير: «{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائناً من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2) أي: فليحذر ولْيَخْش من خالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الدنيا، بقتل أو حد أو حبس، أو نحو ذلك» (¬3). * قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. قال مجاهد: «تبيانًا للحلال والحرام» (¬4). ¬

_ (¬1) الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ (ص17 - 19) بتصرف. (¬2) رواه الإمام البخاري (2697)، الإمام مسلم (1718). (¬3) تفسير القرآن العظيم (عند تفسير الآية 63 من سورة النور). (¬4) تفسير القرطبيّ (10/ 164).

قال الإمام القرطبيُّ: «أي ما تركنا شيئًا من أمر الدين إلاَّ وقد دللنا عليه في القرآن، إمَّا دلالة مبيَّنة مشروحة، وإمَّا مجملة يُتَلقَّى بيانُها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال: {وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. فأجْمَلَ في هذه الآية وآية النحل ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيءٍ إلاَّ ذكره، إمَّا تفصيلاً وإمَّا تأصيلاً، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]» (¬1). * قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنِّي قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين» (¬3). * قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: « ... ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬4). قال الإمام الشاطبي: «والرأيُ إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة» (¬5). * قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: « ... إنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬6)، عضوا عليها ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (6/ 420). (¬2) رواه الإمام الحاكم في المستدرك (1/ 93)، وصححه الشيخ الألبانِيُّ. (¬3) مجموع الفتاوى (20/ 163). (¬4) رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401). (¬5) الاعتصام (2/ 335). (¬6) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني، وروى الإمام مسلم لفظة: «كل بدعة ضلالة».

بالنواجذ: كناية عن شدة التمسك بها، والنواجذ: الأضراس. قال الإمام الشاطبي: «يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الخصوص مما لم يُنَصّ عليه في الكتاب العزيز، بل إنّ ما نُصَّ عليه من جهته - صلى الله عليه وآله وسلم - كان بياناً لما في الكتاب أولاً. ويُطلَق أيضاً في مقابلة البدعة، فيقال: فلان على سنة، إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويقال: فلان على بدعة، إذا عمل على خلاف ذلك. ويطلق أيضاً لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة - رضي الله عنهم -، وُجِد ذلك في الكتاب والسنة أو لم يوجد، لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم، لم تُنْقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم، فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع، من جهة حَمْل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم، فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان، كما فعلوا في حَدّ الخمر، وتضمين الصناع، وجمع المصحف، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين، وما أشبه ذلك، ويدل على هذا الإطلاق قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» (¬1) اهـ. قال الشيخ عبد الله دراز ـ تعليقاً على قول الإمام الشاطبي السابق ـ: «فقد أضاف - صلى الله عليه وآله وسلم - السنّة إليهم كما أضافها إلى نفسه، فسُنّتهم هي ما عملوه استناداً لسنته، وإن لم تطلع عليها منقولة عنه، وكذا ما استنبطوه بما اقتضاه نظرهم في المصلحة». * قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (¬2). قال الإمام النوويُّ: «قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به». وقال: «وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات»، وقال: «وهذا ¬

_ (¬1) الموافقات (4/ 3). (¬2) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).

الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به» (¬1). قال الحافظ ابن رجب: «فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود» (¬2). وقال الحافظ ابن حجر: «وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده؛ فإن من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه» (¬3). * قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلاَّ كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم» (¬4). قيل لسلمان - رضي الله عنه -: قد علَّمكم نبيُّكم - صلى الله عليه وآله وسلم - كلَّ شيء؛ حتى الخراءة!!. فقال: «أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم» (¬5). * قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعُمِل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً» (¬6). ¬

_ (¬1) شرح مسلم (12/ 16). (¬2) جامع العلوم والحكم (1/ 178). (¬3) فتح الباري (5/ 302). (¬4) رواه مسلم (1844). (¬5) رواه مسلم (262). (¬6) رواه الإمام ابن ماجه (209) وصححه الشيخ الألباني.

القاعدة الثالثة الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع

القاعدة الثالثة الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع (¬1) 1 - الجهل بأحكام الدين: كلما امتد الزمن وبعد الناس عن آثار الرسالة قَلّ العلم وفشا الجهل، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: « ... من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً» (¬2)، وقوله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (¬3) (انتزاعاً: أي محواً من الصدر). 2 - اتباع الهوى: من أعرض عن الكتاب والسنة اتبع هواه، كما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ} [القصص: 50] والبدع إنما هي من نسيج الهوى المتبع. 3 - التعصب للآراء والرجال يحول بين المرء واتباع الدليل ومعرفة الحق، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [البقرة: 170]، وهذا هو شأن المتعصبين اليوم من بعض اتباع المذاهب والصوفية والقبوريّين إذا دُعوا إلى اتباع الكتاب والسنة ونَبْذ ما هم عليه مما يخالفها، احتجوا بمذاهبهم ومشايخهم وآبائهم وأجدادهم. 4 - التشبه بالكفار: وهو من أشد ما يوقع في البدع، كما في حديث أبى واقد الليثى: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما خرج إلى حنين مرّ بشجرة للمشركين يقال لها ذات ¬

_ (¬1) محاضرات في العقيدة والدعوة للشيخ صالح الفوزان (1/ 105 - 107) البدع الحولية للشيخ عبد الله التويجري (51 - 59) بتصرف. (¬2) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الألباني. (¬3) رواه الإمام البخاري (100، 7307)، الإمام مسلم (2673).

أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، قالوا: «يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، والذي نفسي بيده لتركبُنَّ سنّة من كان قبلكم» (¬1). ففي هذا الحديث أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل وبعض أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يطلبوا هذا الطلب القبيح من نبيهم، وهو أن يجعل لهم آلهة يعبدونها ويتبرَّكون بها من دون الله، وهذا هو نفس الواقع اليوم، فإن غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات كأعياد الموالد، وإقامة الأيام والأسابيع لأعمال مخصصة، والاحتفال بالمناسبات الدينية والذكريات وإقامة التماثيل والنصب التذكارية، وإقامة المآتم وبدع الجنائز والبناء على القبور وغير ذلك. 5 - اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة من العلماء المبتدعين، وابتغاء تأويله من العلماء المتعالمين. 6 - الجهل بالسنة: ويشمل الجهل بمكانة السنة من التشريع، ويشمل الجهل بمصطلح الحديث، وعدم التفريق بين الأحاديث الصحيحة وبين الأحاديث الضعيفة والموضوعة. ¬

_ (¬1) رواه الإمام الترمذي (2285) وصححه الشيخ الألباني.

القاعدة الرابعة تقسيم السنة إلى فعلية وتركية

القاعدة الرابعة تقسيم السنة إلى فعلية وتركية (¬1) سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات، كذلك طالبنا باتباعه في تركه فيكون الترك سنة، وكما لا نتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعل، لا نتقرب إليه بفعل ما ترك فلا فرق بين الفاعل لما ترك والتارك لما فعل. والكلام في ترك شيء لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وآله وسلم - مانع منه وتوفرت الدواعي على فعله، كتركه الأذان للعيدين، والغسل لكل صلاة، وصلاة ليلة النصف من شعبان، والأذان للتراويح، والقراءة على الموتا، فهذه أمور تُركت في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السنين الطوال مع عدم المانع من فعلها ووجود مقتضيها، لأنها عبادات والمقتضي لها موجود وهو التقرب إلى الله تعالا، والوقت وقت تشريع وبيان للأحكام، فلو كانت ديناً وعبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى ما تركها السنين الطويلة مع أمره بالتبليغ وعصمته من الكتمان، فتركه - صلى الله عليه وآله وسلم - لها ومواظبته على الترك ـ مع عدم المانع ووجود المقتضي ومع أن الوقت وقت تشريع ـ دليل على أن المشروع فيها هو الترك، وأن الفعل خلاف المشروع، فلا يتقرب بها؛ لأن القربة لابد أن تكون مشروعة. وأما ما فعله الخلفاء ولم يكن موجوداً من قبلُ فهو لا يخرج عن أمور لم يوجد لها المقتضي في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بل في عهد الخلفاء كجمع المصحف، أو كان المقتضي موجوداً في عهد الرسول ولكن كان هناك مانع كصلاة التراويح في جماعة فإن المانع من ¬

_ (¬1) الإبداع (ص34 - 44) بتصرف. القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل (ص78 - 79).

إقامتها جماعة والمواظبة عليها خوف أن تُفْرَض، فلما زال المانع بانتهاء زمن الوحي صح الرجوع فيها إلى ما رسمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حال حياته. * ما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع قيام المقتضي على فعله فتركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يفارق الدنيا إلا بعد أن أكمل الله الدين وأتم نعمته على المسلمين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} [المائدة: 3]. * عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه مَنْ بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحاً، إذ لو كان صحيحاً لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهمه من بعدهم، كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلاً عليه؛ إذ لو كان دليلاً لعمل به السلف الصالح. *قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: «ولكنا نتبع السنة فعلًا وتركًا» (¬1). ¬

_ (¬1) فتح الباري (3/ 475).

القاعدة الخامسة الأصل في العبادات المنع

القاعدة الخامسة الأصل في العبادات المنع قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها دينًا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم. فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله» (¬1). وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دينًا إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله؛ فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرَعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها؛ ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين: وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه. وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله؛ فإن الحلال ما ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2582)

أحله الله والحرام ما حرمه وما سكت عنه فهو عفوٌ» (¬1). وقال أيضًا: «ولا حرام إلا ما حرمه الله كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله» (¬2) * التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بفعله وتركه هو من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه، ولو عوّلنا على العمومات وصرَفْنا النظر عن البيان لانفتح باب كبير من أبواب البدعة لا يمكن سده. مثال: قال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] لو صح الأخذ بالعمومات لصح أن يُتقرب إلى الله بالصلاة والسلام على النبي في قيام الصلاة وركوعها واعتدالها وسجودها إلى غير ذلك من المواضع التي لم يضعها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فيها، ومَن الذي يجيز التقرب إلى الله تعالى بمثل ذلك وتكون الصلاة بهذه الصفة عبادة معتبرة؟ وكيف هذا مع حديث «صلوا كما رأيتموني أصلا» (¬3)، فلا يقرب إلى الله إلا العمل بما شرع، وعلى الوجه الذي شرع. * كان الصحابة - رضي الله عنهم - يرون في ترك الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - للفعل، مع وجود المقتضي له، الحظر وأنه منهي عنه، دليل ذلك أنه لما قُدِّم الضب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رفع يده عنه وترك أكْله فقال خالد بن الوليد: «أحرامٌ الضبّ يا رسول الله؟» قال: «لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، قال خالد: «فاجتززته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينظر إلا» (¬4)، فلو لم يكن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - متبَّعاً في تركه كما هو متبع في فعله، لما كان لتوقف الصحابة وترْك الأكل من الضب وجه وقد فهموا، وهم أدرى الناس بالدين، ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (1/ 344).قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئا وتلا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}» (مريم: 64) أخرجه الأئمة الدارقطني والحاكم والبيهقي وحسنه الشيخ الألباني. (¬2) إعلام الموقعين (1/ 344) (¬3) رواه الإمام البخاري (631). (¬4) رواه الإمام البخاري (5391) والضب: حيوان من الزواحف.

أولاً أنه امتنع عنه فتركوه، وبعد أن أخبرهم بأن هناك سبباً أخر ـ وهو عدم الإلف ـ أكلوا منه ولم يروا بذلك بأساً (¬1). * قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: «أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون بلالاً وعماراً وصهيباً وخباباً - رضي الله عنهم - وأشباهم من المستضعفين والعبيد والإماء ... وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - هو بدعة، لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها» (¬2). قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم» (¬3). قال حذيفة - رضي الله عنه -: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً» (¬4). * يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم! وهذا خطأ كبير. فمثلاً: لو أن عدداً من الناس دخلوا مسجداً للصلاة فيه، فما أن دخلوا حتى اقترح أحدُهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة!! فجابهه بعض أصحابه بالإنكار والرد!! فاستدل عليهم المقترِح بأحاديث فضل صلاة الجماعة!! فافترقوا رأيين!! بعضهم وافق على هذا الاستدلال، والبعض الآخر خالف؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في غير هذا المقام! فما هو القول الفصل؟ قال الإمام الشاطبي رداً على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف ¬

_ (¬1) الإبداع (ص34 - 44) بتصرف. (¬2) تفسير القرآن العظيم (عند تفسير الآية 11 من سورة الأحقاف). (¬3) رواه الدرامي (175). (¬4) الأمر بالاتباع للسيوطي (ص62).

والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به ما ملخصه: «لو كان دليلاً عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارِض له، ولو كان ترك العمل. فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تجتمع على ضلالةٍ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدا، وليس ثَمَّ إلاَ صواب أو خطأ، فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ، وهذا كافٍ ... » (¬1). ثم قال: «فلهذا كله؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل» (¬2). وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله -: «ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر» (¬3) ا. هـ. فإذا وضحت هذه القاعدة، ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به (صلاة تحية المسجد جماعة)؛ إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف - رضي الله عنهم - أو فهمهم؛ استدلالاً به على الجماعة في غيرِ الوارد؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما، فهو جرى ـ إذاً ـ على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه. ومثال آخر: روى الإمام أبو داود في سننه بسند حسن عن مجاهد؛ قال: «كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهرِ أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة» (¬4). ¬

_ (¬1) الموافقات (3/ 72). (¬2) الموافقات (3/ 77). (¬3) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص318). (¬4) رواه الإمام أبو داود (538) وحسنه الشيخ الألباني.

ومعنى التثويب: هؤلاء الَذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة، الصلاة، فلو جاء أحد قائلاً: هل من ضيرٍ على من ذكّر بالصلاة والله يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]؟! لمَاَ قُبِلَ قولُه، بل رُدَّ عليه فهمُه، إذ لم يفهم السلف - رضي الله عنهم - من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم، ومعلوم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - شدة اتباعه، ودقة التزامه. مثال آخر: عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر - رضي الله عنهما -، فقال: «الحمد لله، والسلام على رسوله»، قال ابن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ» (¬1)، فقد أنكر ابن عمر - رضي الله عنهما - على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] تدخل فيه تلك الصلاة، ولكن ما هكذا فهمها الصحابة فمَن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح - رضي الله عنهم -، وفهمُهم أوْلا، ومرتبتهم أعلا. مثال آخر: رأى سعيد بن المسيب - رحمه الله - رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟ قال: «لا ... ولكن يعذبك على خلاف السنة» (¬2). مثال آخر: قال رجل للإمام مالك بن أنس: «يا أبا عبد الله، من أين أُحْرِم؟» فقال الإمام مالك: «من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» فقال: «إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر» قال: «لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة» فقال: «وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها!» قال: «وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقتَ إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ ¬

_ (¬1) رواه الإمام الترمذي (2894)، وحسنه الشيخ الألباني. (¬2) رواه الإمام عبد الرزاق (4755) وإسناده صحيح.

الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]» (¬1). ونلاحظ في هذه الأمثلة أن الدافع إلى البدعة ومخالفة السنة كان الحرص علا الخير والزيادة في الطاعة ومع ذلك فقد أكد الأئمة على ضرورة الوقوف عند حدود السنن، وهم في ذلك على قاعدة عظيمة في تجريد الاتباع ذكرها التابعي الجليل سعيد بن جبير - رحمه الله - وهي قوله: «قد أحسن من انتهى إلى ما سمع» (¬2). ¬

_ (¬1) ذكر الإمام الشاطبي في (الاعتصام 1/ 132) أن ابن العربي حكاه عن الزبير بن بكار. وقال الشيخ الألباني في (الضعيفة) (رقم 210): «قد روى البيهقي كراهة الإحرام قبل الميقات عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما -، وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت، وما أحسن ما ذكر الشاطبي ـ رحمه الله ـ في (الاعتصام) (1/ 167) ومن قبله الهروي في (ذم الكلام) ... (3/ 54 / 1) عن الزبير بن بكار قال: «حدثني سفيان بن عيينة قال: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: «لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة»، فقال: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصرعنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! إني سمعت الله يقول! {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]». (¬2) رواه الإمام مسلم في الإيمان (1/ 199).

القاعدة السادسة مفاسد البدع

القاعدة السادسة مفاسد البدع 1 - البدع ضلال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» (¬1). 2 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: «إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يُتاب منها، والمعصية يتاب منها»، ومعنى قولهم: «إن البدعة لا يتاب منها»: أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله قد زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب، ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال» (¬2). 3 - قال الإمام ابن القيم: «ومعلوم أن المذنب إنما ضرره على نفسه وأما المبتدع فضرره على النوع، وفتنة المبتدع في أصل الدين وفتنة المذنب في الشهوة، والمبتدع قد قعد للناس على صراط الله المستقيم يصدهم عنه والمذنب ليس كذلك، والمبتدع قادح في أوصاف الرب وكماله والمذنب ليس كذلك، والمبتدع مناقض لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والعاصي ليس كذلك، والمبتدع يقطع على الناس طريق الآخرة والعاصي بطيء السير ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 175).

بسبب ذنوبه» (¬1). 4 - يقول الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله -: «البدعة كيفما كانت صفتها استدراك على الشرع وافْتِيات عليه» (¬2). 5 - الطرد عن حوض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: « ... ألا ليُذادَنّ رجالٌ عن حوضي كما يُذَاد البعيرُ الضالّ، أناديهم: ألا هلُم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً» (¬3)، «أناديهم ألا هلم»: تعالوا، «سحقاً سحقاً»: بُعداً بعداً. 6 - القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيراً من العامة يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس (¬4). 7 - مصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وما يترتب على ذلك من جهالة الناس بدين المرسلين، وانتشار زرع الجاهلية (¬5). 8 - مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع، وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابورى - رحمه الله -: «ما ترك أحد شيئاً من السُنَّة إلا لكِبْر في نفسه» (¬6). 9 - قال التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي - رحمه الله -: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سُنَّتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة» (¬7). ¬

_ (¬1) الجواب الكافي (ص178). (¬2) مقدمة كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 12). (¬3) رواه الإمام مسلم (249). (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص264). (¬5) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص264). (¬6) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص264). (¬7) رواه الإمام الدرامي (1/ 45) وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح.

القاعدة السابعة أقسام البدع

القاعدة السابعة أقسام البدع (¬1) 1 - تنقسم البدع إلى فعلية وتركية: فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم، فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه بالحلف أو يتركه قصداً بغير حلف، فهذا الترك إما أن يكون لأمر يُعتبر مثله شرعاً أو لا: فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه، كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من اجل أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك، وكالذي يمنع نفسه من تناول اللحم لكونه مصاباً بمرض الكلى فإنه يهيجه عليه فلا مانع من الترك، بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض كان الترك هنا مطلوب، فهذا راجع إلى العزم على الحِمْيَة (¬2) من المضرات، وأصله قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فلْيتزوج، فإنه أغَض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (¬3) ذلك أنه يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت، وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس كترك الاستمتاع بما فوق الإزار من الحائض خشية الإتيان، فذلك من أوصاف المتقين، وكترك المتشابه حذراً من الوقوع في الحرام واستبراءً للدين والعرض، كما إذا وجد في بيته طعاماً لا يدرى أهو له أو لغيره. * وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تديناً أو لا: فإن لم يكن تديناً فالتارك ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 275 - 276)، الإبداع (ص51 - 60)، محاضرات العقيدة والدعوة (1/ 100) بتصرف. (¬2) الحِمْية: الإقلال من الطعام ونحوه مما يضر. (¬3) رواه الإمام البخاري (5066).

عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك، ولا يسمى هذا الترك بدعة لكن التارك يصير عاصياً بتركه أو اعتقاده التحريم فيما أحل الله. وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين إذ قد فرضنا الفعل جائزاً شرعاً فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل كترك كثير من العُبّاد والمتصوفة تناول الطيبات تنسكاً وتعبداً لله بتعذيب النفس وحرمانها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] فنهى أولاً عن تحريم الحلال وأشعر ثانياً بأن ذلك اعتداء وأن من اعتدى لا يحبه الله. * وكذلك ترك المطلوبات الشرعية وجوباً أو ندباً يسمى بدعة إن كان الترك تديناً، لأنه تدين بضد ما شرع الله، أما تركها كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهو راجع إلى المخالفة للأمر فإن كان في واجب فمعصية، وإلا فلا، مثال الترك تديناً: أهل الإباحة القائلون بإسقاط التكليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي حدُّوه وذلك هو الضلال البعيد فمن زعم أن التكليف قد يرفعه البلوغ إلى مرتبة ما من مراتب الكمال كما يزعمه أهل الإباحة كان اعتقاده هذا بدعة مخرجة من الدين. 2 - تنقسم البدع إلى اعتقادية وعملية: البدعة في الدين نوعان: النوع الأول: بدعة قوليّة اعتقاديّة: كمقالات الجهميّة والمعتزلة والرّافضة (الشيعة) وسائر الفرق الضّالّة واعتقاداتهم. النوع الثاني: بدعة في العبادات: كالتّعبّد لله بعبادة لم يشرعها، كالطواف حول الأضرحة والذكر أمام الجنائز وكصلاة الرغائب وصلاة ليلة النصف من شعبان، أو من أعمال القلب التي ليست اعتقادية كالنية في صلاة ركعتين بنية طول العمر مثلاً. وهذا النوع أقسام: أ- ما يكون في أصل العبادة: بأن يُحْدِث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يُحْدِث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع أصلًا، أو أعيادًا غير مشروعة كأعياد

الموالد وغيرها. ب- ما يكون من الزيادة في العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلاً. جـ - ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة؛ بأن يؤديها على صفة غير مشروعة وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مُطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. د- ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام، فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل. 3 - تنقسم البدع إلى حقيقية وإضافية: * البدعة الحقيقية: هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا استدلال معتبر عن أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل، ومن أمثلتها: - التقرب إلى الله بالرهبانية وترك الزواج مع وجود الداعي إليه وفقد المانع الشرعي كرهبانية النصارا. - نِحَل الهند في تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع والتمثيل الفظيع كالإحراق بالنار، ومن ذلك ما يفعله الشيعة يوم عاشوراء من خدش الرؤوس والوجوه واللطم والنواح لكون الحسين - رضي الله عنه - قتل في هذا اليوم، يفعلون تلك المآتم زاعمين أنها تقربهم من الله تعالا. - تحكيم العقل ورفض النصوص في دين الله وقد قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [الأنعام: 57، يوسف: 40، 67]. - الطواف بغير البيت كالأضرحة، والوقوف على غير عرفة بدل عرفة، ووضع

الهياكل على القبور وتعليق الشموع والمصابيح حول الأضرحة. * البدعة الإضافية: هي التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلَّق فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا مِثْل ما للبدعة الحقيقية، أي أنها بالنسبة لإحدى الجهتين سنة؛ لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة؛ لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى شيء. والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه، لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العادات المحضة. * من البدع الإضافية التي تَقْرُبُ من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعاً إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي، أو يطلق تقييدها، وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حُدَّ لها. ومثال ذلك: أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون وقت، ولا حد فيه زماناً دون زمان، ما عدا ما نهى عن صيامه على الخصوص كالعيدين، وندب إليه الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول، فإذا خص منه يوماً من الجمعة بعينه، أو أياماً من الشهر بأعيانها لا من جهة ما عينه الشارع، فلا شك أنه رأْيٌ محض بغير دليل، ضاهَى به تخصيص الشارع أياماً بأعيانها دون غيرها، فصار التخصيص من المكلف بدعة، إذ هي تشريع بغير مستند. ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصاً، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقَصْد يَقْصِد مثلَه أهلُ العقل والفراغ والنشاط، كان تشريعاً زائداً، وهذا كله إن فرضْنا أصل العبادة مشروعاً، فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة.

أمثلة على البدع الإضافية: - صلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة في ليلة الجمعة الأولى من رجب بكيفية مخصوصة. - صلاة ليلة النصف من شعبان وهي مائة ركعة بكيفية خاصة. - صلاة بر الوالدين وصلاة مؤنس القبر وصلاة ليلة ويوم عاشوراء، فأنت إذا نظرت إلى الصلاة تجدها مشروعة في الأصل وإذا نظرت إلى ما عرض لها من التزام الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة تجدها بدعة. - التأذين للعيدين أو للكسوف فإن الأذان من حيث هو: قربة، وباعتبار كونه للعيدين أو للكسوفين بدعة. - الاستغفار عقب الصلاة على هيئة الاجتماع ورفع الصوت، فالاستغفار في ذاته سنة وباعتبار هيئته من رفع الصوت واجتماع المستغفرين وفي المسجد بدعة. - تخصيص يوم لم يخصه الشارع بصوم، أو ليلة لم يخصها الشارع بقيام، كصيام يوم النصف من شعبان (¬1) وصيام يوم المولد النبوي ويوم السابع والعشرين من رجب وتخصيص لياليهم بالقيام فالصوم في ذاته مشروع وقيام الليل كذلك وتخصيصهما بيوم أو بليلة بدعة. - رفع الصوت بالذكر أو القرآن أمام الجنازة، فالذكر باعتبار ذاته مشروع، وكذا القرآن باعتبار ذاته مشروع وباعتبار ما عرض له من رفع الصوت غير مشروع وكذا وضعه في ذلك الموضع غير مشروع، فهو مبتدَع من جهتين: من جهة موضعه ومن جهة كيفيته. - خَتْم الصلاة المعروف على الوجه المعروف (في غير المساجد التي تلتزم بالسنة ¬

_ (¬1) أما إن صامه على أنه أحد الأيام البيض (13، 14، 15) فهذا من السنة، فعن ملحان القيسي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: قال: «هن كهيئة الدهر»، رواه الإمام أبو داود (2449)، وصححه الشيخ الألباني.

في إقامة العبادات) فإنه من جهة كونه قرآناً وذكراً ودعاء مشروع، ومن جهة ما عرض له من الاجتماع عليه بصوت واحد وترديده خلف أحدهم غير مشروع. - الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من المؤذن عقب الأذان مع رفع الصوت بهما وجعلهما بمنزلة ألفاظ الأذان فالصلاة والسلام مشروعان باعتبار ذاتهما ولكنهما بدعة باعتبار ما عرض لهما من الجهر وجعلهما بمنزلة ألفاظ الأذان.

القاعدة الثامنة هل في الدين بدعة حسنة؟

القاعدة الثامنة هل في الدين بدعة حسنة؟ * قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة» (¬1) * من قسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فهو مخطاء ومخالف لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» (¬2)، لأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة (¬3). * قال الإمام مالك: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً» (¬4). * قال الإمام الشاطبي ـ رحمة الله ـ: «ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها ... »، ثم قال: «الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه: أحدها: أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها شيء مما يقتضى أن منها ما هو هدا، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا، ولا شيء من هذه المعاني، فلو كان هناك محدثة يقتضى النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذكر ذلك في آية أو حديث، لكنه لا يوجد. والثاني: أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلى إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ولم يقترن ¬

_ (¬1) رواه اللالكائي (126) وابن بطة (205) والبيهقي في (المدخل إلى السنن) (191) وابن نصر في (السُنة70) بإسناد صحيح. (¬2) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني. (¬3) محاضرات في العقيدة والدعوة (1/ 102). (¬4) الاعتصام (1/ 54).

بها تقييد ولا تخصيص، مع تكرارها، وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: {أََلّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَا * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلا مَا سَعَا} [النجم: 38، 39] وما أشبه ذلك، فما نحن بصدده من هذا القبيل، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة أن كل بدعة ضلالة وأن كل محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة، ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها. والثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك وتقبيحها والهروب عنها، وعمن اتسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف، فهوـ بحسب الاستقراء ـ إجماع ثابت، فدل على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل. والرابع: أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادة الشرع واطراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يُمدح ومنه ما يُذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع» (¬1). * يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: « ... البدعة الحسنة ـ عند من يقسم البدع إلى حسنة وسيئة ـ لابد أن يستحبّها أحد من أهل العلم الذين يقتدى بهم، ويقوم دليل شرعي على استحبابها، وكذلك من يقول: البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح: «كل بدعة ضلالة» (¬2)، ويقول قول عمر في التراويح: ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 145، 146) بتصرف يسير. (¬2) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني.

«نعمت البدعة هذه» (¬1) إنما أسماها بدعة باعتبار وضع اللغة، فالبدعة في الشرع عند هؤلاء ما لم يقم دليل شرعي على استحبابه، ومآل القولين واحد، إذ هم متفقون على أن ما لم يستحب أو يجب من الشرع فليس بواجب ولا مستحب، فمن اتخذ عملاً من الأعمال عبادة وديناً وليس ذلك في الشريعة واجباً ولا مستحباً فهو ضال باتفاق المسلمين (¬2) وسيأتي إن شاء الله الرد على شبهات المبتدعة التي احتجوا بها. * يلزم من القول بالبدع الحسنة لوازم سيئة جدًا: أحدها: أن تكون هذه البدع المستحبة ـ حسب زعمهم ـ من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم. وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن الله تعالى لم يأمر عباده بتلك البدع، ولم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يفعلها ولا فعلها أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فمن زعم أنه توجد بدع حسنة في الدين فقد قال على الله - عز وجل - وعلى كتابه وعلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بغير علم. الثاني: أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - قد تركوا العمل بسنن حسنة مباركة محمودة، وهذا مما يُنَزَّه عنه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأصحابه - رضي الله عنهم -. الثالث: أن يكون القائمون بالبدع الحسنة المزعومة قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة لم تحصل للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا لأصحابه - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (2010). (¬2) مجموع الفتاوى (14/ 78).

القاعدة التاسعة حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها

القاعدة التاسعة حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها كل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: « ... وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬2)، وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬3)، فدل الحديث على أن كل محدث في الدين فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة مردودة، ومعنى ذلك أن البدع في العبادات والاعتقادات محرمة ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة: - فمنها ما هو كفر صراح كالطواف بالقبور تقرباً إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها والاستغاثة بهم، وكمقالات غلاة الجهمية والمعتزلة. - ومنها ما هو من وسائل الشرك، كالبناء على القبور والصلاة والدعاء عندها. - ومنها ما هو فسق اعتقادي، كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة في أقوالهم واعتقاداتهم المخالفة للأدلة الشرعية. - ومنها ما هو معصية، كبدعة التبتل والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع؟ (¬4) (أي تفرغاً للعبادة وتقرباً إلى الله) * قال الإمام الشاطبي: « ... البدع من جملة المعاصا، وقد ثبت التفاوت في المعاصى فكذلك يتصور مثله في البدع ... وإذا قلنا إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) رواه الإمام مسلم (1718). (¬3) رواه الإمام مسلم (1718/ 18). (¬4) محاضرات في العقيدة والدعوة للشيخ الفوزان (1/ 101).

بشروط: أحدها: أن لا يداوم عليها، فإن الصغيرة لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه؛ لأن ذلك ناشيء عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيّرها كبيرة، فكذلك البدعة من غير فرق. والشرط الثاني: ألا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه. والشرط الثالث: ألا تُفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو المواضع التي تقام فيها السنة، وتظهر فيها أعلام الشريعة، فأما إظهارها في المجتمعات ممن يُقتدى به أو ممن يُحسَن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام فإنها لا تعدو أمرين: إما أن يُقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أتباع كل ناعق، وإذا اقتُدى بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه؛ لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حَسَب كثرة الأتباع يعظم الوزر، وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنة فهو كالدعاء إليها بالتصريح؛ لأن عمل إظهار الشعائر الإسلامية يوهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر، فكأن المُظهِر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها. الشرط الرابع: ألا يستصغرها ولا يستحقرها ـ وإن فرضناها صغيرة ـ فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب، فكان ذلك سبباً لعظم ما هو صغير. فإذا تحصلت هذه الشروط فإن ذلك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة، فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة، كما أن المعاصي كذلك، والله أعلم» (¬1). ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 383 - 413) بتصرف.

* هل هناك بدعة مكروهة؟ قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح المتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبيلين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك. وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحاً أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام. ويتحامون العبارة خوفاً مما في الآية من قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، وحكى مالك عمن تقدم هذا المعنا، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها: أكره هذا، ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزية؟» (¬1). ومما يوضح كلام الإمام الشاطبي أن الإمام الترمذي قال في سننه: «باب كراهية إتيان الحائض»، وذكر فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أُنزِل على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬2) فهل يُعقل أن يستدل الإمام الترمذي بالحديث على الكراهة التنزيهية؟!! * الدليل على أن البدع لا تكون مكروهة تنزيهاً (¬3): 1 - قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني» (¬4) رداً على من قال من الصحابة: «أما أنا فأقوم ولا أنام» وعلى من قال: «أما أنا فلا أنكح النساء» فأتى ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 397، 398). (¬2) رواه الإمام الترمذي (135) وصححه الشيخ الألباني. (¬3) الاعتصام (1/ 165 - 169، 2/ 394، 398)، الإبداع (ص145 - 147) بتصرف. (¬4) رواه الإمام البخاري (5063)، الإمام مسلم (1401).

بهذه العبارة وهي أشد شيء في الإنكار، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب أخر. 2 - دخل أبو بكر - رضي الله عنه - على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: «ما لها لا تكلمّ؟» قالوا: «حجتْ مُصْمتة»، قال لها: «تكلمي فإن هذا لا يحل، وهذا من عمل الجاهلية»، فتكلمت (¬1). فتأمل كيف جعل ترك الكلام من المعاصي مع أنه في نفسه من المباحات، لأنه جرى مجرى ما يتشرع به ويدان لله به. 3 - قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» وكل ما ورد في ذم البدع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد، وهي خاصية المحرم. 4 - إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقَّتْ أو جلّت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة، وبيان ذلك: أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلاً على العفو اللازم فيه، ورفع الحرج الثابت في الشريعة، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب فهو يخاف الله ويرجوه، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان. ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال، فإنه يعد ما دخل فيه حسناً، بل يراه أولى بما حدَّ له الشارع، فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلاً، ونحلته أولى بالاتباع. * إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة، من جهة كون البدعة حقيقية أو اضافية، فإن الحقيقية أعظم وزراً؛ لأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر. ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (3834).

القاعدة العاشرة الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة

القاعدة العاشرة الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة * كثير من الناس عدّوا أكثر المصالح المرسلة بدعاً، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات (¬1). * قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «والمصالح منها ما شهد الشارع له بالاعتبار، ومنها ما شهد له بالإلغاء، ومنها ما سكت عنه، فالأُولى هي المصالح المعتبرة، والثانية هي المصالح الملغاة، والثالثة هي المصالح المرسلة: 1 - المصالح المعتبرة: وهي ما اعتبرها الشارع بأن شرع لها الأحكام الموصلة إليها: كحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فقد شرع الشارع الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحدّ الشرب لحفظ العقل، وحدّ الزنى والقذف لحفظ العرض، وحدّ السرقة لحفظ المال. وعلى أساس هذه المصالح المعتبرة وربطها بعللها وجوداً وعدماً جاء دليل القياس، فكل واقعة لم ينص على حكمها، وهي تساوي واقعة أخرا نص الشارع على حكمها في علة الحكم، فإنها تأخذ نفس الحكم المنصوص عليه. 2 - المصالح الملغاة: مصالح متوهمة غير حقيقية أو مرجوحة أهدرها الشارع ولم يعتد بها بما شرعه من أحكام تدل على عدم اعتبارها. ومن أمثلة هذا النوع مصلحة الأنثى في مساواتها لأخيها في الميراث فقد ألغاها الشارع بدليل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ومثل مصلحة الجبناء القاعدين عن الجهاد في حفظ نفوسهم من ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 449).

الهلاك، فقد ألغى الشارع هذه المصلحة المرجوحة بما شرعه من أحكام الجهاد، وهكذا، ولا خلاف بين العلماء في أن المصالح الملغاة لا يصح بناء الأحكام عليها. 3 - المصالح المرسلة: مصالح لم ينص الشارع على إلغائها ولا على اعتبارها، فهي مصلحة، لأنها تجلب نفعاً وتدفع ضرراً، وهي مرسلة؛ لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه، فهي إذن تكون في الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه، وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن وتدوين الدواوين وتضمين الصُنَّاع وقتل الجماعة بالواحد» (¬1). - جمع القرآن: اتفق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على جمع المصحف ولم يرد نص عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد عُلِم النهي عن الاختلاف في ذلك، وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنة وغيرها إذا خيف عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكَتْب العلم (¬2). - تضمين الصُنَّاع: قضى الخلفاء الراشدون بتضمين الصناع ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك على أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين. ¬

_ (¬1) الوجيز في أصول الفقه د/عبد الكريم زيدان (ص236، 237) ومن أوضح الأمثلة عليها في الوقت الحاضر: توثيق عقد الزواج حفظاً للنسب. (¬2) مثل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قيدوا العلم بالكتاب» رواه الإمام الطبراني والإمام الحاكم وصححه الشيخ الألباني.

- قتل الجماعة بالواحد إذ لا نص على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬1) ووجه المصلحة أن دم القتيل معصوم وقد قتل عمداً فإهداره داع إلى حزم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، وليس أصله قتل المنفرد، فإنه قاتل تحقيقاً والمشترك ليس بقاتل تحقيقاً، فإن قيل هذا أمر بديع في الشرع وهو قَتْل غير القاتل، قلنا: ليس كذلك، بل لم يقتل إلا القاتل وهم الجماعة من حيث الاجتماع، فهو مضاف إليهم تحقيقاً إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة، فلم يكن مبتدعاً مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء (¬2). * هل يعمل بالمصالح المرسلة في العبادات؟ قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «لا خلاف بين العلماء في أن العبادات لا يجري فيها العمل بالمصالح المرسلة، لأن أمور العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأي، والزيادة عليها ابتداع في الدين، والابتداع مذموم، فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما في المعاملات فقد اختلف العلماء في حجيتها وجعلها دليلاً من أدلة الأحكام، والقول الراجح هو القول بحجية المصالح المرسلة» (¬3). قال الدكتور محمد بن حسين الجيزاني عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية: «إن الاستصلاح أو المصلحة المرسلة نوع دقيق من أنواع الاجتهاد، وباب واسع من أبواب الرأي، وهذا الرأي ليس رأياً مجرداً عن الدليل، بل هو مقيد بضوابط، وذلك أن المصلحة المرسلة لا تعتبر حجة إلا إذا كانت مندرجة تحت مقاصد الشريعة، محققة لها. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في الموطأ وصححه الشيخ الألباني في الإرواء (2201). (¬2) الاعتصام (2/ 452 - 461) بتصرف. (¬3) الوجيز في أصول الفقه (ص238 - 242) بتصرف.

ومن هنا يمكن أن نقول: إن المصلحة المرسلة لا مدخل لها في التعبدات المحضة، كأفعال الصلاة وأفعال الحج وأنصبة المواريث ومقادير الكفارات والعِدَد والحدود. فجميع هذه المسائل تعبدية توقيفية، لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاجتهاد، إلا أن الاستصلاح ربما يقع في بعض العبادات، لكنه إنما يقع في وسائلها المطلقة لا في ذات العبادة وأصلها، ولا يقع أيضاً في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع. ومن الأمثلة على ذلك أن استقبال القبلة ودخول الوقت أمور تعبدية لابد من تحقيقها بالنسبة إلى الصلاة، وقد يستعان في معرفة القبلة بالبوصلة أو غيرها، وبالساعة في معرفة وقت الصلاة، فكل هذا من قبيل الوسائل التي أطلقها الشارع، وتندرج تحت قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به). ومن ذلك أيضاً: إنشاء طابق ثانٍ للطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، ومثل إنشاء جسر متعدد الأدوار للجمرات. وإذا تأملنا ما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - في المصلحة المرسلة وجدناه في أحد بابين: إما في أمور ليست من قبيل العبادات، وإنما هي مصالح عامة وأمور عادية، مثل تدوين الدواوين وتضمين الصناع، وإما في أمور تتعلق بالعبادة لكنها من قبيل الوسائل التي لا يتحقق مقصود الشارع إلا بها، كجمع القرآن وكتابة السنة المطهرة. وبهذا يظهر الفرق جلياً بين الاستصلاح والابتداع، حيث إن الابتداع إنما يكون في الأمور التعبدية» (¬1). * شروط العمل بالمصلحة المرسلة: 1 - أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشرع فلا تخالف أصلاً من أصوله، ولا ¬

_ (¬1) موقع الإسلام اليوم 27/ 2/1427هـ.

تنافي دليلاً من أدلة أحكامه، بل تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها, أو قريبة منها ليست غريبة عنها. 2 - أن تكون معقولة بذاتها، بحيث لو عرضت على العقول السليمة لتلقتها بالقبول. 3 - أن يكون الأخذ بها لحفظ ضروري أو لدفع حرج؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. 4 - أن تكون المصلحة التي تترتب على تشريع الحكم مصلحة حقيقية لا وهمية. 5 - أن تكون المصلحة عامة لا خاصة، أي أن يوضع الحكم لمصلحة عموم الناس لا لمصلحة فرد معين أو فئة معينة (¬1). * والضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة عن البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «والضابط في هذا ـ والله أعلم ـ أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين، فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه. وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، لكن تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث. فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً» (¬2) ا. هـ. ¬

_ (¬1) الوجيز في أصول الفقه (ص 242)، وانظر الاعتصام (2/ 264 - 269). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 594).

وخلاصةُ القول: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازم في الدين، وليست البدع ـ عند من يدعيها ـ هكذا بيقين؛ لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرب إلى الله وإن لم يكن هناك حاجة لإحداث ذلك الفعل. قال الإمام الشاطبي: «فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف؛ فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات؛ لأن البدع من باب الوسائل، لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف وهو مضاد للتخفيف. فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغي باتفاق العلماء، وبذلك كله يُعلم مِن قصْد الشارع أنه لم يَكِلْ شيئاً من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، والزيادة عليه بدعة؛ كما أن النقصان منه بدعة» (¬1). ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 469).

القاعدة الحادية عشرة الفرق بين البدع والاستحسان

القاعدة الحادية عشرة الفرق بين البدع والاستحسان لأهل البدع تعلق بالاستحسان، فإن الاستحسان لا يكون إلا بمُسْتَحْسِن، وهو إما العقل أو الشرع، أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فُرغ منهما؛ لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا فائدة لتسميته استحساناً، فلم يبق إلا العقل هو المستحسن، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تُستحسَن (¬1). * تعريف الاستحسان: الاستحسان له ثلاثة معان: 1 - العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة. 2 - ما يستحسنه المجتهد بعقله. 3 - دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه، وبطلان هذين التعريفين ـ الأخيرين ـ ظاهر، لأن المجتهد ليس له الاستناد على مجرد عقله في تحسين شيء، وما لم يعبر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتى يظهر ويعرض على الشرع (¬2). مثالان: - أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يُتَمَول به. - الإمام مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف، فإنه ردَّ الأيْمان إلى ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 469) بتصرف. (¬2) مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي (ص167) بتصرف.

العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف، كقوله: «والله لا دخلت مع فلان بيتاً»، فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتاً في اللغة، والمسجد يسمى بيتاً فيحنث على ذلك إلا أنّ عُرف الناس ألا يطلقوا هذا اللفظ عليه فخرج العرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث (¬1). * هل الاستحسان حجة؟ يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: «أخذ كثير من العلماء بالاستحسان واعتبروه دليلاً من أدلة الأحكام وأنكره بعضهم كالشافعية، حتى نقل عن الإمام الشافعي أنه قال: «الاستحسان تلذذ وقول بالهوا»، وقال: «من استحسن فقد شرّع». والظاهر أن إطلاق لفظ الاستحسان أثار عند بعض العلماء معنى التشريع بالهوى فأنكروه، ولم يتبينوا حقيقته عند القائلين به، فظنوه من التشريع بلا دليل فشَنّوا عليه الغارة وقالوا فيه ما قالوا، فالاستحسان بالهوى وبلا دليل ليس بدليل بلا خلاف بين العلماء، والاستحسان عند القائلين لا يعدو أن يكون ترجيحاً لدليل على دليل، ومثل هذا لا ينبغي أن يكون محل خلاف بين العلماء، ومع هذا فنحن نؤثر أن نسمى الحكم الثابت استحساناً بالنص: حكماً ثابتاً بالنص لا بالاستحسان» (¬2). قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «إن الاستحسان يراه معتبراً في الأحكام مالك وأبو حنيفة، بخلاف الشافعي فإنه منكر له جداً، حتى قال: «من استحسن فقد شرع» والذي يستقرئ من مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبى حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة؛ لأن الأدلة يقيد بعضها بعضاً، كما في الأدلة السُّنية مع القرآنية، ولا يردّ الشافعي مثل هذا أصلاً فلا حجة في تسميته استحساناً لمبتدع على حال» (¬3). ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 472 - 473) بتصرف. (¬2) الوجيز في أصول الفقه (ص234، 235). (¬3) الاعتصام (2/ 471 - 472).

القاعدة الثانية عشرة المبتدع يتبع المتشابه وينصر به بدعته

القاعدة الثانية عشرة المبتدع يتبع المتشابه وينصر به بدعته * قال الإمام الشاطبي: «لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها، قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] وقال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} [المدثر: 31] لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح» (¬1). * عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الآية: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الألْبَابِ} [آل عمران: 7]، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (¬2). * تفسير الآية: يخبر تعالى أن في القرآن {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى ومن عكس انعكس. {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}: أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه. ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 138، 139). (¬2) رواه الإمام البخاري (4547).

{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}: أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً أخر، من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد. {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل. {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}: أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، لأنه دامغ لهم وحجة عليهم. {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}: أي الإضلال لأتباعهم. {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}: أي تحريفه على ما يريدون (¬1). * قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: «أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم» (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير عند تفسير الآية (بتصرف). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص7، 8).

القاعدة الثالثة عشرة المبتدع يتخذ من زلات العلماء حجة لبدعته على الشرع

القاعدة الثالثة عشرة المبتدع يتخذ من زلات العلماء حجة لبدعته على الشرع * قال الدكتور جاسم محمد مهلل الياسين: «كثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرَدْ منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم» (¬1). * قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيراً له من رأي أو كشف أو نحو ذلك» (¬2). وقال أيضاً: «دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقاً، رواية وفقها، من غير تعيين شخص أو طائفة، غير الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬3). وقال أيضاً: «قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى: 21]، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله: فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً له، شرع له من الدين ما لم يأذن به الله، نَعَم قد يكون متأولاً في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يُعْفي فيه عن المخطاء، ويثاب أيضاً على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولاً قد عُلم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجوراً أو معذوراً» (¬4). وقال أيضاً: «من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسناً لفعله المتقدمون ولم يفعلوه وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب والسنة، وإجماع المتقدمين نصاً واستنباطاً» (¬5). العِلمُ قال اللهُ قال رسولُه ... قال الصحابةُ ليسَ بالتَمْويهِ ما العلمُ نصْبُك للخلافِ سفاهةً ... بينَ الرسولِ وبينَ قولِ فَقيهِ * قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: « ... الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة، حتى يتثبت ويسأل عن حكمه؛ إذ لعل المعتمَد على عمله يعمل على خلاف السُنّة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سَلْه يصْدُقْك، وقالوا: ضعف الروية أن يكون رأي فلاناً يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهياً» (¬6). * قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء، أو العبّاد، أو أكثرهم، ونحو ذلك ليس مما يصلح أن يكون معارضاً لكلام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يعارض به» (¬7). * قال الشيخ سلمان العودة: «ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن تكون العصمة لغير نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن الخطير الولوع بالغرائب والزلات والتعلق بها، باعتبارها رأي فلان أو فلان ممن يشار إليهم بالبنان، وما فتيء العلماء يحذّرون من مسقطة يجريها الشيطان على لسان فاضل عليم، فعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟» قال: قلت: «لا»، قال: «يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين» (¬8)، ولو أن إنساناً أخذ بكل شواذ الأقوال ¬

_ (¬1) ضوابط في العمل الإسلامى (ص95). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 315). (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم (ص8). (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم (ص242). (¬5) اقتضاء الصراط المستقيم (ص310). (¬6) الاعتصام (2/ 508). (¬7) اقتضاء الصراط المستقيم (ص245). (¬8) رواه الإمام الدارمي (1/ 71)، وصححه الشيخ الألباني في (مشكاة المصابيح).

وغرائبها لربما خرج من الدين وهو لم يخرج بعدُ من أقوال العلماء! ولذلك قيل: وَلَيْسَ كلُّ خِلافٍ جاءَ مُعتَبَراً ... إِلا خِلافٌ لَه حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ» (¬1) ¬

_ (¬1) ضوابط للدراسات الفقهية للشيخ سلمان العودة (ص118، 119) بتصرف.

القاعدة الرابعة عشرة هل كل خلاف معتبر؟

القاعدة الرابعة عشرة هل كل خلاف معتبر؟ * قال الشيخ ياسر برهامي: (¬1) «أنواع الاختلاف الواقع بين المسلمين: 1 - اختلاف التنوع: وهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال منافياً للأقوال الأخرى بل كل الأقوال صحيحة، وهذا مثل القراءات وأنواع التشهدات والأذكار، فمن يقرأ في التشهد بتشهد ابن مسعود لا يرى مانعاً من تشهد ابن عباس - رضي الله عنهما - أو تشهد عمر - رضي الله عنه - أو غيره من الصيغ، بل اتفق العلماء على جواز كل منها، وإنما اختلافهم في اختيار كل منهم لما يراه الأفضل لاعتبارات يراها. 2 - اختلاف التضاد: وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه، وهو يكون في الشيء الواحد يقول البعض بحرمته والبعض بحله ـ من جهة الحكم لا من جهة الفتوى ـ فالحكم بأن هذا الفعل حرام كشرب قليل النبيذ المسْكر كثيره غير عصير العنب، والمخالف يقول: قليله حلال، وليس من جهة الفتوى كإنسان في حالة ضرورة ومخمصة لم يجد إلا ذلك النبيذ ليسد رمقه فهو حلال في هذه الحالة كفتوا، أما الحكم العام فهو حرمته عند من يقول بذلك. وأما وقوع اختلاف التضاد بين المسلمين وأن الحق واحد في قول أحد المجتهدين، ومن خالفه مخطاء في الأصول والفروع، في العقائد والأعمال، في الأمور العلمية والأمور العملية، فهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - وعليه أئمة العلم. ¬

_ (¬1) فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي (ص10 - 66) بتصرف.

وينقسم اختلاف التضاد إلى: أولاً: اختلاف سائغ غير مذموم: وهو ما لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماعاً أو قياساً جلياً. أمثلة الاختلاف السائغ: - وجوب المضمضة والاستنشاق أو استحبابهما. - وجوب الترتيب في الوضوء أو استحبابه. - وضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الركوع أو إرسالهما. - النزول على الركبتين أو على اليدين في السجود. - قراءة الفاتحة خلف الإمام خاصة في الجهرية. ثانياً: اختلاف غير سائغ مذموم: وهو ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جَلاّ لا يختلف فيه. أمثلة للاختلاف غير السائغ: - القول بجواز شرب النبيذ المسْكِر كثيره من غير عصير العنب وهو خلاف نص الحديث الصحيح: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» (¬1). - القول بصحة النكاح دون ولاّ وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: «أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» ثلاثاً (¬2). - القول بجواز المعازف وسماعها وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف» رواه البخاري (¬3). - القول بجواز حلق اللحى في الواقع الحالي على سبيل الفتوى لعموم الملتزمين كما تقوله وتفعله بعض الجماعات؛ فإنه خلاف نص الحديث الصحيح في ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (2003). (¬2) رواه الإمام الترمذي (1114) وصححه الشيخ الألباني. (¬3) رواه الإمام البخاري (5590) والحر: الفرج.

وجوب إعفائها (¬1). - تهنئة الكفار من النصارى وغيرهم بأعيادهم الكفرية أو بمناصبهم الطاغوتية بزعم سماحة الإسلام أو مصلحة الدعوة؛ فإن هذا عند كل أهل العلم من موالاتهم وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع. - الاحتفال بالموالد والأعياد البدعية، والمشاركة فيها بزعم الاختلاط بالناس لدعوتهم، دون إنكار. - الصلاة بالمساجد التي بنيت على القبور، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المستفيضة في لعن من اتخذ القبور مساجد. - القول بجواز رسم ذوات الأرواح باليد وهو خلاف نص حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النمرقة، وهي غير مجسمة: «إن أشدّ الناسِ عذابا ً يومَ القيامة المصوّرون» (¬2). تنبيه هام جداً ليس معنى أن الخلاف في المسألة خلاف سائغ أنه يجوز لكل واحد أن ينتقي بالتشهي أياً من القولين دون اجتهاد، فهذا سبيل إلى الزندقة والانحلال، وقد أجمع العلماء فيما نقل الإمام أبو عمر بن عبد البر أنه: «لا يجوز تتبع رخص العلماء فضلاً عن الزلات والسقطات» (¬3) ا. هـ. فالواجب على الإنسان على حسب مرتبته في العلم: 1 - العالم المجتهد يلزمه البحث والاجتهاد وجمْع الأدلة والنظر في الراجح منها، فما ترجّح عنده قال به وعمل به وأفتا، وما أحراه في المسائل التي تعم بها البلوى أن يشير إلى الخلاف فيها مع بيان ما يراه صواباً. ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (5892). (¬2) رواه مسلم (219). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (ص360).

2 - طالب العلم المميِّز القادر على الترجيح عليه أن يعمل بما ظهر له دليله من أقوال العلماء. 3 - العامّيّ المقلد العاجز عن معرفة الراجح بنفسه عليه أن يستفتي الأوثق الأعلم من أهل العلم عنده ويسأله عن الراجح، فيعمل به في نفسه، ويجوز نقله لغيره من غير إلزام لهم به، ومن غير إنكار على من خالفه بأي من درجات الإنكار، أما ما يفعله يفعله كثير من أهل زماننا في مسائل الخلاف السائغ وغير السائغ، يأخذ ما يشتهي، بل يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم، ويفتي البعض بجواز التلفيق بين المذاهب، لا بحسب الأدلة والاجتهاد، بل بمجرد موافقته ما يظنونه مصلحة أو تيسيراً على الناس (¬1)، أو أن الرسول لم يُخَيَّر بين أمْرَيْن إلا اختار أيسرهما، فهذا من الجهل العظيم المخالف للإجماع القديم كما نقله أبو عمر بن عبد البر، فإن اختيار الأيسر هو في الأمور الاختيارية، أما ما كان فيه إثم وحلال وحرام وواجب ومندوب فلابد من الترجيح والاجتهاد على حسب درجة كل واحد كما سبق بيانه، وهذا في مسائل الخلاف السائغ، فما بالك بالخلاف غير السائغ. قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: «قال بعض أهل العلم: هذا المذهب ـ يعني أن الاجتهاد لا ينقسم إلى خطأ وصواب ـ أولُه سفسطة وآخرُه زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يُخَيِّر المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب أطيبها» (¬2). قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: «الاختلاف ليس بحجة عند أحد علِمْتُه من فقهاء الأمة إلا مَنْ لا بصرَ له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله. قال المزني: يقال لمن جوّز الاختلاف وزعم أن العالمِيْن إذا اجتهدا في الحادثة، فقال أحدهما: حلال، وقال ¬

_ (¬1) من الخطأ الواضح قول الأستاذ محمد حسين (ص6): ويستعان بمجموع الاجتهادات من الأئمة على التيسير على الناس، لأن جميع الأئمة المجتهدين على هدى من ربهم اهـ. ونقول: كيف تكون الآراء المتضادة صواباً مع أن الحق واحد لا يتعدد؟ (¬2) روضة الناظر: 198.

الآخر: حرام، فقد أدى كل واحد منهما جهده وما كُلّف به، وهو في اجتهاده مصيب للحق، يقال له: أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ فإن قال: بأصل، قيل: كيف يكون أصلا ً والكتاب أصل ينفي الخلاف؟ وإن قال: بقياس، قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يُجوّزه عاقل فضلاً عن عالم. ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في معنى واحد أحَلّه أحدهما وحَرّمه الآخر، وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - دليلٌ على إثبات أحدهما ونَفْي الآخر، أليس يَثْبُت الذي يُثْبِته الدليل ويَبْطُل الآخر ويبطل الحكم به؟ فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف، فإن قال: نعم ـ ولابد مِنْ نعم وإلا خالف جماعة العلماء ـ، قيل له: فلِمَ لا تصنع هذا برأي العالميْن المختلفَيْن فيثبت منهما ما يثبته الدليل ويبطل ما أبطله الدليل» (¬1) ا. هـ. * ليس من الاختلاف السائغ مصادمة السنة بآراء الرجال: قد تكون المسألة اجتهادية، وفيها جملة من الأدلة تختلف طرق الجمع بينها، وليس واحد من الأدلة قاطعاً على غيره فتكون المسألة من مسائل الخلاف السائغ، ولكن قد يكون البعض قد استبانت له فيها سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا يقول بها بل يعارضها بأقوال العلماء المجردة عن الدليل عنده، فهو يعرف السنة، ويعرف أن بعض أهل العلم خالفها، ولا يعرف وجهه ولا دليله فيعارض مَنْ خالفه بمجرد آراء العلماء، فهذا مخالف للإجماع، قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: «أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس». وقد تكون المسألة اجتهادية في حق عالم لعدم علمه بالسنة فيها؛ فيجتهد، ويكون مَن تبعه على اجتهاده غير معذور إذا كان قد علم السنة واستبانت له؛ لأنه في هذه الحالة خالف الإجماع بعد مخالفته لأدلة الكتاب والسنة بوجوب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله (ص 356).

القاعدة الخامسة عشرة أسباب الخطأ من أهل العلم

القاعدة الخامسة عشرة أسباب الخطأ من أهل العلم (¬1) إذا وُجِد لأحد من الأئمة ـ المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً ـ قولٌ قد جاء حديث بخلافه، فلابد له من عذر في تركه ومن أسباب الخطأ: 1 - أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه، أو بلغه على وجه لا يطمئن به. 2 - أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه. 3 - أن يكون الدليل بلغه ولكنه فهم منه خلاف المراد. 4 - أن يكون قد بلغه الحديث ولكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ. 5 - أن يعتقد أنه معارَض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع. 6 - أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً. ¬

_ (¬1) الخلاف بين العلماء، أسبابه وموقفنا منه للشيخ ابن عثيمين، رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية (بتصرف).

القاعدة السادسة عشرة أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها

القاعدة السادسة عشرة أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها (¬1) * الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: 1 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 2 - «إذا قلتُ قولاً يخالف كتاب الله وخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فاتركوا قولي». * الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: 1 - «إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». 2 - «ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». * الإمام الشافعي - رحمه الله -: 1 - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعوا ما قلت». 2 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 3 - «كل حديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو قولي، وإن لم تسمعوه منا». * الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: 1 - «لا تقلدني ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا». 2 - من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو على شفا هلكة. ¬

_ (¬1) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للشيخ الألباني (ص21 - 29) بتصرف.

القاعدة السابعة عشرة قواعد عامة لمعرفة البدعة

القاعدة السابعة عشرة قواعد عامة لمعرفة البدعة 1 - كل عبادة ليس لها مستندٌ إلاَّ حديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي بدعة مثل صلاة الرغائب. 2 - إذا ترك الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائماً ثابتاً، والمانع منتفياً؛ فإن فعلها بدعة. مثل التلفظ بالنية عند الدخول في الصلاة، والأذان لغير الصلوات الخمس، والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة. 3 - كل تقرب إلى الله بفعل شيء من العادات أو المعاملات من وجه لم يعتبره الشارع فهو بدعة، مثل اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقة إلى الله، والتقرب إلى الله بالصمت الدائم، أو بالامتناع عن الخبز واللحم وشرب الماء البارد، أو بالقيام في الشمس وترك الاستظلال. 4 - كل تقرب إلى الله بفعل ما نَهى عنه ـ سبحانه ـ فهو بدعة، مثل التقرب إلى الله تعالى بالغناء. 5 - قال الشيخ ابن عثيمين: الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشرع في ستة أمور، هي: 1 - السبب: فإذا تعبد الإنسان لله ـ تعالى ـ بعبادة مقرونة بسبب ليس شرعياً فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بالتهجد يدّعون أنها ليلة الإسراء والمعراج، فالتهجد في أصله عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة، لكونه بُنِيَ على سبب لم يثبت شرعاً. 2 - الجنس: فإذا تعبد الإنسان لله ـ تعالى ـ بعبادة لم يُشرع جنسها فهي غير

مقبولة، كالتضحية بفرس، لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام وهي الإبل ـ البقر ـ الغنم. 3 - القَدْر: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة، لأنها مخالفة للشرع في المقدار أو العدد. 4 - الكيفية: فلو نكس إنسان الصلاة لما صحت صلاته؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية. 5 - الزمان: فلو ضحى إنسان في رجب، أو صام رمضان في شوال، أو وقف بعرفات في التاسع من ذي القعدة لما صح ذلك منه، لمخالفته للشرع في الزمان. 6 - المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد أو وقف يوم التاسع من ذي الحجة بمزدلفة لما صح ذلك منه لمخالفته للشرع في المكان (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع للشيخ ابن عثيمين (ص21 - 22).

القاعدة الثامنة عشرة الخلاف في بعض البدع

القاعدة الثامنة عشرة الخلاف في بعض البدع قد يوجد خلاف معتبر في أمر ما هل هو من البدع أم لا؟ إما باعتبار الخلاف في فهم الأدلة مثل إهداء ثواب قراءة القرآن للأموات، أو باعتبار الخلاف في صحة الدليل أو ضعفه مثل استخدام الخطوط في المسجد لتسوية الصفوف ومثل الخلاف في السُّبْحة (المسبحة) أي الخرزات المنظومة لعد الأذكار. * مثال: مسألة التسبيح بالمسبحة: أولاً: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «عد التسبيح بالأصابع سنة» (¬1). * عن حميضة بنت ياسر عن جدتها يسيرة وكانت من المهاجرات قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات ولا تغفلن فَتَنْسَيْنَ الرحمة» (¬2). * التسبيح باليد أفضل، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه اتخذ مسبحة يسبح الله بها ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (1/ 653). (¬2) رواه الإمام الترمذي (3835) وحسنه الشيخ الألباني. (قَالَ لَنَا) أَيْ مَعْشَرِ النِّسَاءِ «عَلَيْكُنَّ» اِسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اِلْزَمْنَ وَأُمْسِكْنَ «بِالتَّسْبِيحِ» أَيْ بِقَوْلِ سُبْحَانَ الله ِ «وَالتَّهْلِيلِ» أَيْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا الله «وَالتَّقْدِيسِ» أَيْ قَوْلِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ أَوْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ. «وَاعْقِدْنَ» بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ اُعْدُدْنَ عَدَدَ مَرَّاتِ التَّسْبِيحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْه ِ «بِالْأَنَامِلِ» أَيْ بِعِقْدِهَا أَوْ بِرُءُوسِهَا يُقَالُ عَقَدَ الشَّيْءَ بِالْأَنَامِلِ عَدَّهُ. وَالْأَنَامِلُ جَمْعُ أُنْمُلَةٍ: الَّتِي فِيهَا الظُّفْرُ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَصَابِعُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ عَكْسُ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لِلْمُبَالَغَةِ «فَإِنَّهُنَّ» أَيْ الْأَنَامِلَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ «مَسْئُولَاتٌ» أَيْ يُسْأَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا اِكْتَسَبْنَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اُسْتُعْمِلْنَ «مُسْتَنْطَقَاتٌ» بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ مُتَكَلِّمَاتٌ بِخَلْقِ النُّطْقِ فِيهَا فَيَشْهَدْنَ لِصَاحِبِهِنَّ أَوْ عَلَيْهِ بِمَا اِكْتَسَبَهُ. «وَلَا تَغْفُلْنَ» بِضَمِّ الْفَاءِ. وَالْفَتْحُ لَحْنٌ، أَيْ عَنْ الذِّكْرِ يَعْنِي لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ «فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ» بِفَتْحِ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ مِنْ النِّسْيَانِ أَيْ فَتَتْرُكْنَ الرَّحْمَةَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ الْإِنْسَاءِ قَالَ الْقَارِي: وَالْمُرَادُ بِنِسْيَانِ الرَّحْمَةِ نِسْيَانُ أَسْبَابِهَا أَيْ لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ فَإِنَّكُنَّ لَوْ تَرَكْتُنَّ الذِّكْرَ لَحُرِمْتُنَّ ثَوَابَهُ فَكَأَنَّكُنَّ تَرَكْتُنَّ الرَّحْمَةَ. اهـ من (تحفة الأحوذي بتصرف)

فيما نعلم والخير كل الخير في اتباعه (¬1). ثانياً: من ذهب من العلماء إلى جواز التسبيح بالمسبحة قال إن التسبيح باليد أفضل. ثالثاً: من قال من العلماء بجواز العد بالنوى والحصى استدل بفعل الصحابة وإقرار الرسول على ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «عد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للنساء: «واعقدن بالأصابع فإنهن مسئولات مستنطقات» وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك، فحسن وكان من الصحابة - رضي الله عنهم - من يفعل ذلك، وقد رأي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أم المؤمنين تسبح بالحصى وأقرها على ذلك وروى أن أبا هريرة كان يسبح به (¬2). وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أُحسِنت فيه النية فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس مثل تعليقه في العنق أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك ـ فهذا إما رياء الناس، أو مظنة الرياء ومشابهة المرائين من غير حاجة. الأول محرم والثاني أقل أحواله الكراهة؛ فإن مراءاة الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب» (¬3). رابعاً: ذهب بعض العلماء إلى أن السُّبْحة بدعة مضافة في التعبد بالأذكار والأوراد لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وضعفوا الأحاديث والآثار التي استدل بها المجوّزون، واستدلوا بما رواه ابن وضاح القرطبي في البدع عن ابن مسعود أنه مر بامرأة معها تسبيح تسبح به فقطعه وألقاه، ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجْله ثم قال: «لقد سبقتم! ركبتم البدعة ظلما! ولقد غلبتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - علماً». وقالوا بأن التسبيح بالمسبحة مخالف لهديه - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث كان يعقد التسبيح بيمينه (¬4)، وقالوا بأن استعمال المسبحة يقضي على سنة العد بالأصابع (¬5). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 111). (¬2) رواه الإمام الترمذي (3807) وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمعروف. وقال الشيخ الألباني: منكر. (¬3) مجموع الفتاوى (11/ 653). (¬4) رواه الإمام أبو داود (1502) وصححه الشيخ الألباني. (¬5) انظر: السُّبْحة، تاريخها وحكمها للشيخ بكر أبو زيد، السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني (1/ 185 - 193)، السلسلة الصحيحة له أيضاً (1/ 48)، ضعيف الترمذي (711، 717)، ضعيف أبي داود (323).

القاعدة التاسعة عشرة الفرق بين البدعة والمبتدع

القاعدة التاسعة عشرة الفرق بين البدعة والمبتدع الحكم على العمل الحادث أنه بدعة إنما هو حكم جارٍ على وفق القواعد العلمية والضوابط الأصولية التي يصدر عن دراستها وتطبيقها ذلك الحكم بوضوح وبيان. أما صاحب هذه البدعة فقد يكون مجتهدًا، فمثل هذا الاجتهاد ـ ولو أنه خطأـ فإنه يدرأ عنه الوصف بالابتداع. وقد يكون جاهلًا فيُنفى عنه ـ لجهله ـ الوصف بسمة الابتداع، مع ترتيب الإثم عليه؛ لتقصيره في طلب العلم. وقد تكون هناك موانع أخرى من الحكم على مرتكب البدعة بالابتداع. أما من أصر على بدعته بعد ظهور الحق له؛ اتباعًا للآباء والأجداد، وجريًا وراء المألوف والمعتاد، فمثل هذا يليق به الوصف بالانتداع؛ لإعراضه عن الحق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى: 21]، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله: فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً له، شرع له من الدين ما لم يأذن به الله، نَعَم قد يكون متأولاً في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يُعْفي فيه عن المخطاء، ويثاب أيضاً على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولاً قد عُلم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجوراً أو معذوراً» (¬1). ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص242).

الرد على الشبهات التي استدل بها الأستاذ محمد حسين على جواز الابتداع في الدين وأن في الإسلام بدعة حسنة

الرد على الشبهات التي استدل بها الأستاذ محمد حسين على جواز الابتداع في الدين وأن في الإسلام بدعة حسنة الشبهة الأولى نقل (ص12) أن الأشياء المسكوت عنها على العفو حتى يرِدَ حكم بشأنها. الرد: هذا الكلام صحيح فيما يتعلق بالعادات، أما العبادات فالأصل فيها المنع لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ» (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كلُّ بدعة ضلالة» (¬2). الشبهة الثانية قال (ص12): «الأمور التي تتصل بالأحكام الشرعية من ناحية الحل والحرمة وما يجب فعله وما يجب تركه، فكل ما سكت عنه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مندرج في الأصول العامة التي تدرك بالتأمل والنظر في الشريعة ككل مترابط لا اختلاف فيه، وسواء في ذلك ما حدث في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - وما حدث بعد عصره، حيث اجتهد الصحابة وسعهم في مثل هذه الأمور ثم عرضوا اجتهادهم عليه فأخذه أو صححه، ولم يعنفهم أو ينهاهم علا (¬3) مثل هذا الاجتهاد ... »، وذكر أمثلة لذلك: ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (2697)، الإمام مسلم (1718/ 17). (¬2) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني، وراجع القاعدة الرابعة: تقسيم السنة إلى فعلية وتركية. (¬3) هكذا بالأصل، ولعله خطأ طباعي، والصحيح (ينههم عن).

1 - أخذ خالد بن الوليد - رضي الله عنه - الراية يوم مؤتة من غير انتظار أمر، لأنه رأي المصلحة في ذلك. 2 - تيمم عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في يوم برد وخشيته أن يغتسل بالماء البارد. 3 - صلاة بلال - رضي الله عنه - ركعتين بعد الأذان وبعد الوضوء ... الخ. 4 - قول أحد الصحابة في مجلس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ... الرد: 1 - قوله: «كل ما سكت عنه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مندرج في الأصول العامة التي تُدْرَك بالتأمل والنظر في الشريعة ككل مترابط لا اختلاف فيه»، هذا في أمور العادات أما العبادات فالأصل أن ما سكت عنه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - المنع (¬1). 2 - أما اجتهادات الصحابة فقد أقرها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا من قبيل السنة التقريرية وليست دليلاً على جواز الابتداع، لأن الدليل فيها ليس اجتهادهم، بل إقرار الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بدليل أن بعض الصحابة اجتهدوا ولم يقر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - اجتهادهم. قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث جابر - رضي الله عنه -: «كنا نعزل والقرآن ينزل» (¬2): «فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع ولو كان حراماً لم نُقَرّ عليه» ا. هـ. وفي أثر جابر - رضي الله عنه - دلالة واضحة على عصمة عصر التشريع من الإقرار على الخطأ، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وليست هذه الميزة لأحد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وانقطاع الوحي، وفي مقابل إقرار الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - للصحابة على العزل فقد أنكر - صلى الله عليه وآله وسلم - على الثلاثة الذين قال أحدهم: «أما أنا فأنا أصلى الليل أبداً»، وقال آخر: «أنا أصوم الدهر ولا أفطر»، وقال آخر: «أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً» فجاء إليهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له، لكنى ¬

_ (¬1) راجع القاعدة الرابعة: تقسيم السنة إلى فعلية وتركية. (¬2) البخاري: 4808.

أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1) رغم أن اجتهادهم كان في طاعة الله، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر. 3 - أخْذ خالد - رضي الله عنه - الراية يوم مؤتة ليس من باب العبادات أصلاً بل الأصل فيه تحقيق المصلحة فإن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «الحرب خدعة» (¬2). 4 - تيمم عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في يوم برد وخشيته أن يغتسل بالماء البارد ليس استناداً إلى سكوت الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بل استنباطاً من الآية الكريمة: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. 5 - قول أحد الصحابة - رضي الله عنهم - في مجلس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ... » لا يعدو أن يكون ثناءً عاماً على الله - عز وجل - وليس في ذلك حدّ يُنتَهى إليه لا يجوز تعديه بل الأصل فيه السعة بخلاف ما إذا كان هناك أثر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بصيغة مخصوصة في حال مخصوص كما روى الشيخان عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: «اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت»، فإن مُتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به»، قال: فرددتهُا على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلما بلغتُ «آمنت بكتابك الذي أنزلت» قلتُ: «ورسولك»! قال: «لا، ونبيك الذي أرسلت» (¬3)، قال الحافظ ابن حجر: «ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (5063). (¬2) رواه الإمام البخاري (3030)، والإمام مسلم (1739). (¬3) رواه الإمام البخاري (247)، والإمام مسلم (2710).

الشبهة الثالثة: تقسيم بعض العلماء البدع إلى حسنة وقبيحة

الثواب» (¬1). * سؤال: لو أن أحد العلماء استحب صلاة ركعتين أو أربع ركعات بعد كل أكل مثلاً شكراً لله على نعمة الأكل هل يجوز هذا على اعتبار أن هذا مسكوت عنه (حيث لم يرد في الشرع ما يبيح أو يمنع) وقياساً على فعل بلال - رضي الله عنه - في صلاة ركعتين بعد كل أذان ووضوء؟ الإجابة: هو بدعة، لأنه أحدث في الشرع ما لم يفعله الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا يقاس على فعل بلال - رضي الله عنه -، لأن فعل بلال - رضي الله عنه - أقره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو سنة. الشبهة الثالثة تقسيم بعض العلماء البدع إلى حسنة وقبيحة، أو محمودة ومذمومة: (من ص 18 - ص 20). الرد: 1 - ذكر الأستاذ محمد حسين أقوالاً للأئمة الشافعي وابن حزم وابن رجب الحنبلي وغيرهم، والكلام قد يكون فيه إجمال ويحتاج إلى تفصيل، وأحياناً ينقل الأستاذ محمد حسين من الكلام ما يؤيد رأيه ويترك باقي الكلام ويوضح ذلك أنه نقل كلام الإمام الشافعي ونقل كلام الحافظ ابن رجب في (جامع العلوم والحكم) وسأنقل هنا للقارئ الكريم كلاماً للحافظ ابن رجب الحنبلي وأيضاً في (جامع العلوم والحكم) يرد كلام الأستاذ محمد حسين في هذه الشبهة وغيرها. قال الحافظ ابن رجب: «فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين، ولم يكن ¬

_ (¬1) فتح الباري شرح حديث (247).

له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين برئ منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية» ثم ذكر أمثلة على ذلك، منها جمع عمر الناس في قيام رمضان، وجمع المصحف في كتاب واحد (¬1). 2 - قول الإمام الشافعي - رحمه الله -: «البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمود، وما خالف السنة، فهو مذموم» واحتج بقول عمر - رضي الله عنه - في قيام رمضان: «نعمت البدعة هذه» (¬2). وقوله: «المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه بدعة ضلالة، وما أحدث من الخير لا خلاف لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة، قد قال عمر في قيام رمضان: «نعمت البدعة هذه» يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى» (¬3). الرد: قال الشيخ سليم الهلالي (¬4) راداً على من يستدل بهذا القول للإمام الشافعي: «أولاً: بالنسبة لما أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 113) ففي سنده عبد الله بن محمد العطشي، ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه والسمعاني في (الأنساب) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وأما بالنسبة لما أخرجه البيهقي ففيه محمد بن موسى الفضل، لم أجد له ترجمة. ثانياً: قول الإمام الشافعي ـ إن صح ـ لا يصح أن يكون معارضاً أو مخصصاً لعموم حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والإمام الشافعي نفسه - رحمه الله - نقل عنه أصحابه أن قول ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم (ص466، 467). (¬2) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (9/ 113). (¬3) أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 469). (¬4) البدعة وأثرها السيئ في الأمة: ص (63 - 66).

الصحابي إذا انفرد ليس حجة، ولا يجب على من بعده تقليده، فكيف يكون قول الإمام الشافعي حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؟! ثالثاً: كيف يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - بالبدعة الحسنة وهو القائل: «من استحسن فقد شرع»، والقائل في (الرسالة: ص507): «إنما الاستحسان تلذذ»، وعقد فصلاً في كتابه (الأم: 7/ 293 - 304) بعنوان: «إبطال الاستحسان»، لذلك من أراد أن يفسر كلام الإمام الشافعي - رحمه الله - فلْيفعل ضمن قواعد وأصول الإمام الشافعي، وهذا يقتضي أن يفهم أصوله، وهذا الأمر مشهود في كل العلوم، فمن جهل اصطلاحات أربابها جهل معنى أقاويلهم، وإن المتأمل في كلام الإمام الشافعي - رحمه الله - لا يشك أنه قصد بالبدعة المحمودة البدعة في اللغة، وهذا واضح في احتجاج الشافعي - رحمه الله - بقول عمر - رضي الله عنه - وعلى هذا الأصل يفسر كلام الإمام الشافعي، وأنه أراد ما أراده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أي: البدعة اللغوية لا الشرعية؛ فإنها كلها ضلالة؛ لأنها تخالف الكتاب والسنة والإجماع والأثر» ا. هـ بتصرف. 4 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الكُليّة، وهي قوله: «كل بدعة ضلالة» بسلب عمومها، وهو أن يقال: «ليست كل بدعة ضلالة»، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل» (¬1). 5 - إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «كل بدعة ضلالة»، وقال بعض العلماء: «ليست كل بدعة ضلالة، هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة» فمع من تكون؟ قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعوا ما قلت». 6 - من قسم البدعة إلى مذمومة ومحمودة نقول له: ما مقياس الذم والحمد؟ ما ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص248).

مقياس أن هذه بدعة حسنة وهذه بدعة سيئة؟ المقياس هو الشرع وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» (¬1). 7 - كثيرٌ من الذين قالوا بالبدع الحسنة قد أنكروا أعمالا في ظاهرها الحُسْن، بل إنك تجد أحد العلماء يقول في بدعةٍ ما إنها حسنة بينما تجد عالماً آخر وهو ممن يقول بالبدع الحسنة ينكرها أشد الإنكار وإليك بعض الأمثلة على ذلك: أ- العز بن عبد السلام وهو من أشهر من قال بتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يقول: «فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها. فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه، فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربةً، إذا لم يكن لها سبب صحيح. وكذلك لا يتقرب إلى الله - عز وجل - بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون» (¬2) اهـ. وهذا الكلام صدر من العز بن عبد السلام - رحمه الله - أثناء إنكاره لصلاة الرغائب المبتدعة؛ وقد أنكر هذه الصلاة بالإضافة إلى العز بن عبد السلام كثير من العلماء القائلين بالبدعة الحسنة مثل الإمام النووي في فتاويه (ص57) مع العلم أن بعض العلماء قال باستحبابها وعدوها من البدع الحسنة. ب - الإمام أبو شامة - رحمه الله - أنكر في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) كثيراً من بدع الجنائز مثل قول القائل أثناء حمل الجنازة: استغفروا له غفر الله لكم، كما أنكر أن يكون للجمعة سنة قبلية (ص258 - 304)، وأنكر كذلك صلاة الرغائب (ص138 - 196)، وأنكر كذلك صلاة ليلة النصف من شعبان (ص134 - 138)، ¬

_ (¬1) راجع أيضاً: القاعدة الثامنة: هل في الإسلام بدعة حسنة؟ (¬2) الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة (ص7 - 8).

ومع كل ذلك قال (ص95) بأن الاحتفال بالمولد النبوي يعتبر بدعة حسنة!! جـ - الإمام النووي - رحمه الله - وهو من القائلين بتقسيم البدع، فقد قال: «قال الشيخ أبو محمد الجويني: رأيت الناس إذا فرغوا من السعي؛ صلوا ركعتين على المروة، قال: وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، هذا كلام أبي محمد!! وقال أبو عمرو بن الصلاح: ينبغي أن يكره ذلك؛ لأنه ابتداء شعار، وقد قال الشافعي - رحمه الله -: ليس في السعي صلاة»، ثم قال الإمام النووي: «وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر، والله أعلم» (¬1) ا. هـ. وقال أيضاً: «قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله يكرهون الجلوس للتعزية؛ قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيتٍ ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها ... إلخ» (¬2). د- الإمام السيوطي - رحمه الله - فقد أنكر في كتابه (الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع) الصلاة في المساجد المبنية على القبور! وكذلك إيقاد السرج على القبور والمزارات (ص134) وأنكر صلاة الرغائب (ص166) وأنكر الاجتماع للعزاء (ص288) وأنكر التلفظ بالنية قبل الصلاة (ص295) وغير ذلك من البدع مع أنه قرر في كتابه هذا بأن البدع تنقسم إلى بدع حسنة وبدع سيئة! يظهر بهذه النقول أنه لا يوجد ضابط معين يميز بين البدعة الحسنة ـ المزعومة ـ والبدعة السيئة؛ حتى عند القائلين بهذا التقسيم، ولا يَسْلم الشخص من الوقوع في هذا الاضطراب إلا بمتابعة السنة وترك الابتداع في الدين. ¬

_ (¬1) المجموع (8/ 102). (¬2) الأذكار (ص136).

الشبهة الرابعة: البدعة الضلالة ما اجتمع فيها شروط أربعة

الشبهة الرابعة قوله (ص20): البدعة الضلالة ما اجتمع فيها شروط أربعة: 1 - ما أحدث مما لم يكن في زمن التشريع. 2 - أن تكون في الدين ويقصد بها القربة إلى الله تعالا. 3 - أن تخالف الشرع. 4 - ألا تكون واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. الرد: 1 - اشتراطه أن تكون مخالفة للشرع مجرد تحصيل حاصل فإذا كانت البدعة قد أُحدثت بعد التشريع، وفي الدين، ويقصد بها القربة إلى الله تعالى فهي مخالفة للشرع؛ لأنها استدراك على الشرع، وقد أكمل الله لنا الدين. 2 - اشتراطه كونها مخالفة للشرع لا يعدو أحد أمرين: أ- إما أن يكون مراده أن يأتي النهي الخاص عنها وهذا يكون من باب الذنوب والمعاصي لا من باب البدع ولا يُتَصَوَّر أن يتقرب بها أحد إلى الله، وهذا يتعارض مع قصد التقرب المذكور في الشرط الثاني. ب- أن يكون مراده مخالفة دليل عام أو قاعدة كلية وهذا حاصل؛ لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: « ... إياكم ومحدثاتِ الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬1) فإن من أوجه مخالفة الشرع التزام الكيفيات والهيئات المعينة التي لم ترد في الشرع كالذكر الجماعي بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عيداً (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني، وروى الإمام مسلم لفظة: «كل بدعة ضلالة». (¬2) راجع القاعدة الأولى: تعريف البدعة، والقاعدة السابعة، فقرة 3: انقسام البدع إلى حقيقية وإضافية.

3 - قوله في الشرط الرابع: «ألا تكون واقعه تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -»، وهذا اشتراط منه لمحل الخلاف فإن أصل الخلاف واقع في البدع الإضافية، فمراد الأستاذ محمد حسين من هذا الشرط إخراج البدع الإضافية عن إطار البدع المذمومة، وأكد هذا المعنى بقوله (ص20): « ... ولا تكون بدعة ضلالة ما أُحدث في الدين من تجديد سنة اندرست أو هيئة فيها مصلحة تندرج تحت عموم وأصل ندب إليه الشرع من أفعال المعروف». ونقول: إن تجديد ما اندرس من السنة مشروع بل مندوب إليه لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعُمِل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً» (¬1). أما إحداث هيئة فيها مصلحة لم يدل عليها الشرع فهذا هو محل الخلاف كإحداث جماعة الإخوان المسلمين لما يسمى بورد الرابطة ــ[ووقته ساعة الغروب تماماً من كل ليلة، وفيه: «ثم يستحضر صورة من يعرف من إخوانه في ذهنه ويستشعر الصلة الروحية بينه وبين من لم يعرفه منهم ثم يدعو لهم بمثل هذا الدعاء: «اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك ... فوثق اللهم رابطتها ... إلخ» (¬2)]ـ فإن الدعاء من حيث الأصل مندوب، ولكن هذا الورد إحداث لهيئة معينة من حيث الوقت والصيغة والكيفية؛ تحقيقاً لترسيخ معاني الترابط بين أفراد الجماعة. فنقول: سواءً كانت المصلحة هذه أو غيرها، فهل كانت مطلوبة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالقدر نفسه أم لا؟ والجواب: إن هذه المصلحة كانت مطلوبة بلا شك بل كانت الحاجة إليها أشد؛ فهي أمة ناشئة ودولة وليدة، ومع ذلك لم يرد مثل هذا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذا استدراك على الشرع، وقد أكمل الله لنا الدين، ¬

_ (¬1) رواه الإمام ابن ماجه (209) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) انظر صفته في مجموعة الرسائل للشيخ حسن البنا - رحمه الله - (ص377 - 378).

الشبهة الخامسة: بجمع عمر الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد

ونقول: التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ بفعله وتركه ـ هو من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه ولو عولنا على العمومات، وصرفنا النظر عن البيان لانفتح باب كبير من أبواب البدع لا يمكن سده. أمثلة توضح ذلك: - لو تمسكنا بعموم فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهل يجوز لنا أن نصلى عليه عند الطعام والشراب والعطاس وقبل دخول الخلاء؟ - لو تمسكنا بعموم فضل الصلاة هل يجوز لنا تحديد صلاة ركعتين أو أربعة أو خمسة لليلة معينة لم يحددها الشرع كليلة النصف من شعبان أو ليلة السابع والعشرين من رجب أو ليلة المولد النبوي، أو تحديد صلاة ركعتين لليلة السبت وأربعة لليلة الأحد وهكذا؟ الشبهة الخامسة استدل الأستاذ محمد حسين بجمْع عمر الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وقوله: «نِعْمَت البِدْعَةُ هذه»، ثم قال: «وهذا لم يكن في زمن التشريع، بل صرح بقوله أن ذلك بدعة ولكنها محمودة، فقال: «نعمت البدعة هذه»، وأنها تكون بدعة أفضل، وأفضل لو كانت آخر الليل (ص21 - 23). الرد: 1 - إن هذا منه على سبيل الرد والمناظرة، ومعناه: إذا كان هذا الفعل بدعة، فنعم البدعة هذه، كأنه كان جوابًا على معترض، وهذا مثل قوله تعالا: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف:81). أو أنه قصد البدعة اللغوية، أي أنها بدعة باعتبار إحيائها وإعادة العمل بها بعد أن توقف.

وسبق أن نقلنا في الرد على الشبهة الثالثة قول الحافظ ابن رجب الحنبلي (الذي نقل الأستاذ محمد حسين بعضه ولم ينقله كله): «وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع إنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: «نعمت البدعة هذه»، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول في الشريعة يُرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يحث على قيام رمضان ويُرغّب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحداناً، وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع بعد ذلك معللاً بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به (¬1)، وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - وروى عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (¬2)، ومنها أنه أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلا». (¬3) 2 - قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «فإن قيل كيف سماها عمر - رضي الله عنه - بدعة وحسنها بقوله: نعمت البدعة هذه، وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع. فالجواب: إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، واتفق أنها لم تقع في زمان أبي بكر - رضي الله عنه - لا أنها بدعة في المعنا، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك لا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه» (¬4) ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (2012). (¬2) رواه الإمام أبو داود (1375) وصححه الشيخ الألباني. (¬3) جامع العلوم والحكم (ص366، 367). (¬4) الاعتصام (1/ 190).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وأما قول عمر - رضي الله عنه -: «نعمت البدعة هذه» فأكثر ما فيه تسمية عمر تلك بدعة، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية، لا تسمية شرعية. وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية: فما لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا كان نص رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد دل على استحباب فعل، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقا، ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة، الذي أخرجه أبو بكر - رضي الله عنه -، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمي بدعة في اللغة، لأنه عمل مبتَدَأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يسمى بدعة، ويسمى محدثا في اللغة. ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة: ليس بدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة. فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة. وقد علم أن قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» لم يُرَدْ به كل عمل مُبتَدَأ، فإن دين الإسلام ـ بل كل دين جاءت به الرسل ـ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتُدِئ من الأعمال التي لم يشرعها هو - صلى الله عليه وآله وسلم -. وإذا كان كذلك فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادي، وقد قال لهم في الليلة الثالثة، أو الرابعة، لما اجتمعوا: «إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم، إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» (¬1) فعلل - صلى الله عليه وآله وسلم - عدم الخروج بخشية الافتراض، فعُلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم، فلما كان في عهد عمر - رضي الله عنه - جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد. فصارت هذه الهيئة، وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمام واحد مع الإسراج عملًا لم يكونوا يعملونه من قبل، فسُمِّي بدعة؛ ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (2012، 7290)

لأنه في اللغة يسمى بذلك. ولم يكن بدعة شرعية، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح، لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته - صلى الله عليه وآله وسلم - فانتفى المعارض» (¬1). * قال الأستاذ محمد حسين ص (22 - 23): «لعل قائل (¬2) يقول: صلاة التراويح جماعة في المسجد خلف إمام واحد ليست بدعة لقيام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جماعة في رمضان، فأقول: فما الأمر الذي تخلف في اليوم الرابع حيث لم يخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كالأيام الثلاثة الأولا؟» * الرد: هذا الأمر ذكره الأستاذ محمد حسين نفسه (ص21) وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أما بعد فإنه لم يَخْفَ عليّ مَكانُكم، ولكن خشِيتُ أن تُفتَرض عليكم فتعجزوا عنها». وقال الحافظ ابن حجر: «فلما مات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حصل الأمن من ذلك» (¬3). * قال الأستاذ محمد حسين (ص23): «فبجانب قول عمر - رضي الله عنه - أنها بدعة فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال: «سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول: «إن الله كتب عليكم صيام رمضان , ولم يكتب عليكم قيامه , وإنما القيام شيء ابتدعتموه فدوموا عليه ولا تتركوه , فإن ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله فعاتبهم الله بتركها , فقال: {وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها}» فقد سمّى الصحابي الجليل أبو أمامة الباهلي قيام رمضان جماعة في المسجد بدعة واستحسنها وطلب المداومة عليها. انتهى كلامه. الرد: 1 - لم أجد هذا الأثر في سنن الإمام سعيد بن منصور، وإنما وجدته في تفسير الإمام الطبري (برقم 26063) عند تفسير الآية 27 من سورة الحديد، قال الإمام ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ص 250) (¬2) هكذا بالأصل، والصواب: قائلاً. ولعله خطأ طباعي. (¬3) فتح الباري، شرح حديث (2010).

الطبري: «حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال: حدثنا هشيم , قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم , قال: سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول: «إن الله كتب عليكم صيام رمضان, ولم يكتب عليكم قيامه , وإنما القيام شيء ابتدعتموه , وإن قوما ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم , ابتغوا بها رضوان الله , فلم يرعوها حقّ رعايتها , فعاتبهم الله بتركها , فقال: {وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقّ رِعايتِها}» (الحديد:27) ا. هـ. قال الإمام ابن أبي حاتم الرازي في كتاب (الجرح والتعديل) عن زكريا بن أبي مريم: «روى عن أبي أمامة، روى عنه هشيم، سمعت أبى يقول ذلك، حدثنا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل نا علي يعنى بن المديني قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وذكر زكريا بن أبي مريم الذي روى عنه هشيم، فقال: قلنا لشعبة: لقيتَ زكريا سمع من أبى أمامة، فجعل يتعجب ثم ذكره، فصاح صيحة، قال أبو محمد: دلت صيحة شعبة أنه لم يرض زكريا. قال الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان ترجمة رقم (1942): «زكريا بن أبي مريم شيخ، حدّث عنه هشيم، قال النسائي: ليس بالقوي، وقال عبد الرحمن بن مهدي: ذكرناه لشعبة فصاح صيحة، قال ابن أبي حاتم عقب حكاية بن مهدي: فدلت صيحة شعبة أنه لم يرضه، وقال الساجي: تكلموا فيه، وقال أبو داود: لم يرو عنه إلا هشيم، وقال الدارقطني: يعتبر به، وقد ذكره ابن حبان في الثقات» ا. هـ. هل يُعتمد على توثيق ابن حبان؟ قال الشيخ الألباني في كتابه (تمام المنة في التعليق على فقه السنة: ص20 - 21): « ... المجهول بقسميه لا يُقبل حديثه عند جمهور العلماء، وقد شذّ عنهم ابن حبان فقبل حديثه، واحتج به وأورده في (صحيحه)، قال الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان): «قال ابن حبان: من كان منكر الحديث على قلته لا يجوز تعديله إلا بعد السبر، ولو كان ممن يروي المناكير، ووافق الثقات في الأخبار، لكان عدلا مقبول الرواية، إذ

الناس أقوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح [فيُجرح بما ظهر منه من الجرح]، هذا حكم المشاهير من الرواة، فأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء فهم متروكون على الأحوال كلها». (الضعفاء: 2/ 192 - 193) والزيادة من ترجمة عائذ الله المجاشعي. ثم قال الحافظ: «قلت: وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من (أن الرجل إذا انتفت جهالة عَيْنِه كان على العدالة حتى يتبين جرحه) مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا مسلك ابن حبان في (كتاب الثقات) الذي ألفه، فإنه يذكر خلقا نص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون، وكأنّ عند ابن حبان أنّ جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره». هذا كله كلام الحافظ. ومن عجيب أمر ابن حبان أنه يورد في الكتاب المذكور ـ بناء على هذه القاعدة المرجوحة ـ جماعة يصرح في ترجمتهم بأنه «لا يعرفهم ولا آباءهم»! فقال في الطبقة الثالثة: «سهل، يروي عن شداد بن الهاد، روى عنه أبو يَعْفور، ولست أعرفه، ولا أدري مَنْ أبوه». ومن شاء الزيادة في الأمثلة فليراجع (الصارم المُنْكي: ص 92 - 93)، وقد قال بعد أن ساقها: «وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقا كثيرا من هذا النمط، وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولا لم يعرف حاله، وينبغي أن ينتبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق». ولهذا نجد المحققين من المحدثين كالذهبي والعسقلاني وغيرهما لا يوثقون من تفرد بتوثيقه ابن حبان. انتهى كلام الشيخ الألباني (بتصرف). 2 - على فرض صحة الأثر ـ وقد تبين ما فيه ـ فإن كلام أبي أمامة - رضي الله عنه - لا يعدو أن يكون مثل كلام عمر - رضي الله عنه - وقد سبق بيان معناه.

3 - تفسير الآية: قال الحافظ ابن كثير: «يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحا - عليه السلام - لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته وكذلك إبراهيم - عليه السلام - ـ خليل الرحمن ـ لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بَشَّرَ مَنْ بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ} وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وهم الحواريون {رَأْفَةً} أي رقة وهي الخشية {وَرَحْمَةً} بالخلق، وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعتها أمة النصارى {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير وقتادة. والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم رضوان الله. وقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله - عز وجل -. 4 - ليس في الآية دليل على جواز الابتداع في الدين أو أن في الإسلام بدعة حسنة فقد تبين من كلام الحافظ ابن كثير أن الله قد ذمّ ابتداعهم في دين الله ما لم يأمر به الله، ولو فُرِضَ أن هذا جائز في شرع من قبلنا (النصارا) فقد جاء شرعُنا بنسخه لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (867).

الشبهة السادسة: إن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - استحسن صلاة الضحى جماعة في المسجد وسماها بدعة حسنة

الشبهة السادسة قال (ص23، 24) إن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - استحسن صلاة الضحى جماعة في المسجد وسماها بدعة حسنة. الرد: سنذكر الآثار التي استدل بها الأستاذ محمد حسين ونرد على كلامه بالتفصيل: * أولاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص23 - 24): «عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلون الضحى في المسجد فسألناه عن صلاتهم، فقال: «بدعة» رواه البخاري (¬1)، ففي الحديث تسمية ابن عمر لصلاة الضحى جماعة في المسجد بدعة ولم يذمها ولم ينه عنها ومثله ومثل مجاهد وابن الزبير لا يترك بدعة ضلالة أمامه ويقرها». * الرد: قوله إن ابن عمر لم يذمها ولم ينه عنها ... إلخ، أقول: ألم يقل ابن عمر إنها بدعة؟ وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة»، أليس هذا إنكاراً لها أم لابد أن ينكر عليهم باليد؟ ويدل على إنكار ابن عمر - رضي الله عنه - قول الإمام النووي: «وأما ما صح عن ابن عمر أنه قال في الضحى: هي بدعة، محمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونه بدعة، لا أن أصلها في البيوت ونحوها مذموم» (¬2)، ويدل على ذلك أيضاً ما قاله الحافظ في فتح الباري ـ بعد عدة أسطر من المكان الذي نقل منه الأستاذ محمد حسين ـ: «قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المسجد، وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة، ويؤيده ما رواه ابن أبى شيبة عن ابن ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (1775). (¬2) شرح صحيح الإمام مسلم حديث (7/ 7).

مسعود أنه رأي قوماً يصلونها فأنكر عليهم، وقال: إن كان ولابد ففي بيوتكم» اهـ. * ثانياً: قال الأستاذ محمد حسين (ص24): «جاء في (فتح الباري) لابن حجر عن الحكم بن الأعرج عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحا، فقال: «بدعة ونعمت البدعة» كما روى عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح كما ذكره أيضاً صاحب فتح الباري ... عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: «لقد قُتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئاً أحب إليَّ منها»، فقد استحسن ابن عمر صلاة الضحى جماعة في المسجد وسماها بدعة ومحدثة». * الرد: 1 - أطلب من القارئ الكريم أن يقرأ النص مرة أخرى فقد سئل ابن عمر عن صلاة الضحى (لم يُسأل عن صلاة الضحى جماعة وفي المسجد)، فقال: «بدعة ونعمت البدعة»، فمن أين جاء بهذا الاستدلال العجيب. 2 - أما قوله: «نعمت البدعة» و «وما أحدث الناس شيئاً أحب إليَّ منها» فليس دليلاً على جواز الابتداع في الدين؛ فقد تقدم كلام ابن رجب الحنبلي: «وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية» (¬1) فيكون قوله - رضي الله عنه - كقول أبيه في صلاة التراويح: «نعمت البدعة» من حيث المداومة عليها كما سبق الرد عليه. ويدل لذلك قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلى سُبْحة الضحى قط، وإني لأُسبّحها، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لَيَدَع العمل وهو يحب أن يَعْمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم» (¬2). قال الإمام البيهقي: «عندي أن المراد بقولها: «ما رأيته سبحها» أي داوم ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم (366). (¬2) رواه الإمام مسلم (718).

الشبهة السابعة: ما روي أن النبي ص قال: ومن ابتدع بدعة ضلالة

عليها، وقولها: «وإني لأسبحها» أي أداوم عليها» (¬1). قال الإمام النووي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يواظب عليها خشية أن تفرض، وهذا في حقه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد ثبت استحباب المحافظة في حقنا بحديث أبى الدرداء وأبى ذر (¬2). فقول ابن عمر - رضي الله عنه - عن صلاة الضحى: «نعمت البدعة»، ليس دليلاً على الابتداع في الدين، فسنة الضحى ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من فعله ومن قوله (¬3). بل ثبت في السنة ما يدل على جواز صلاة الضحى في المسجد ـ فرادى وليس في جماعة ـ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سريَّة فغنموا وأسرعوا الرجعة، فتحدث الناس بقُرْب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رَجْعتهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ألا أدلكم على أقرب منه مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة؟ من توضأ ثم غدا إلى المسجد لِسُبحة الضحا، فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة» (¬4). قال الحافظ ابن حجر: «وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر ما يدفع مشروعية صلاة الضحا؛ لأن نفيَه محمول على عدم رؤيته لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة» (¬5). الشبهة السابعة استدلال الأستاذ محمد حسين (ص24، 25) بهذا الحديث: عن بلال بن ¬

_ (¬1) فتح الباري شرح حديث (1177). (¬2) شرح صحيح الإمام مسلم حديث (717 - 721). (¬3) انظر: البخاري (1176، 1178)، ومسلم (718، 719، 720، 721). (¬4) رواه الإمام أحمد (6638) وقال الشيخ الألباني: «حسن صحيح»، وقال الشيخ أحمد شاكر: «إسناده صحيح». (¬5) فتح الباري، شرح حديث (1175)، وانظر المسألة بالتفصيل في زاد المعاد (1/ 341 - 360).

الحارث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال له: «اعلم»، قال: «ما أعلم يا رسول الله؟»، قال: «إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ومن ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضاها الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً»، ثم قال الأستاذ محمد حسين: «فقد قيد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - البدعة هنا بكونها ضلالة وقابل بها السنة، وهذا بمفهومه يفيد أن من البدع ما ليس بضلالة، وهو ما لا يقابل السنة الحسنة، بل يساويها ويكون مثلها». الرد: 1 - الحديث أخرجه الإمام الترمذي (2830)، والإمام ابن ماجة (210) وهو حديث ضعيف؛ حيث إن فيه كثير بن عبد الله، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في (جامع العلوم والحكم) عنه: فيه ضعف، وقال عنه الإمام الشافعي والإمام أبو داود: أحد الكذابين، وقال عنه الإمام أحمد: منكر الحديث، ليس بشيء ولذلك ضعفه الشيخ الألباني (¬1) وغيره. 2 - على فرض صحة الحديث ـ وقد تبين أنه ضعيف ـ فإن الأستاذ محمد حسين استدل بمفهوم المخالفة، وإذا قلنا بمفهوم المخالفة على رأي طائفة من أهل الأصول، فإن الدليل دل على تعطيله في هذا الموضع وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل بدعة ضلالة» (¬2)، فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - إن صح الحديث: «ومن ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضاها الله ورسوله» - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر لبيان الواقع فكل بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وليس معناه أن هناك بدعاً ضلالة يرضاها الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبدعاً ضلالة لا يرضاها الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن الضلالة لازمة للبدعة على الإطلاق. ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} ¬

_ (¬1) انظر ضعيف سنن الترمذى (500) وضعيف سنن ابن ماجه (37). (¬2) رواه الإمام أبو داود (4607) وصححه الشيخ الألباني.

الشبهة الثامنة حديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة

[آل عمران: 30] فإنه لا يعمل بمفهوم المخالفة وهو: جواز أكل الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، لأن الدليل دل على تحريم الربا قليله وكثيره (¬1). 3 - يقول الأستاذ محمد حسين: «من البدع ما ليس بضلالة وهو ما لا يقابل السنة، بل يساويها ويكون مثلها» ا. هـ. ولنا سؤال: كيف نعرف أن هذه بدعة ضلالة وتلك بدعة ليست ضلالة وتساوى السنة؟ لمن نرجع في التمييز بينهما؟ هل نرجع للأستاذ محمد حسين أم لغيره؟ ولو تُرك الأمر هكذا لكان لكل مسلم بدعه الخاصة به التي يرى أنها ليست ضلالة ويرى أنها تساوى السُّنة وتكون مثلها، وتكون النتيجة أن يكون لكل مسلم ديناً يختلف عن الأخر. ونقول للأستاذ محمد حسين: المرجع في ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي قال: «كل بدعة ضلالة». الشبهة الثامنة استدلاله بحديث: «من سَنّ في الإسلام سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنّ في الإسلام سُنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم، ثم قال: «فالحديث يثبت الابتداع الحسن في الإسلام ويقره ويثبت الابتداع السيئ في الإسلام ولا يقره ... » إلخ (ص25 - 26). الرد: 1 - قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «ليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع ¬

_ (¬1) انظر الاعتصام (1/ 181)، الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان (ص370).

وإنما المراد العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك من وجهين: أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة بدليل ما ثبت في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في صدر النهار فجاء قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مُضر بل كلهم من مضر، فتمعّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما رأي بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: «{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] والآية التي في الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره»، حتى قال: «ولو بشق تمرة»، قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومَين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ... » إلخ الحديث (¬1). فتأملوا أين قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة ... » تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسُرَّ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة ... » الحديث، فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة. الوجه الثاني من وجهي الجواب: أن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة ... » لا يمكن حمله على الاختراع من أصل، لأن كونها حسنة أو سيئة لا ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (1017) مجتابى النمار: خرقوها وقوروا وسطها، النمار: ثياب صوف، تمعر: تغير.

يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة، أعنى: التحسين والتقبيح بالعقل، فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة، وما أشبهها من السنن المشروعة وتبقى السنة السيئة مُنَزّلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي، كالقتل في حديث ابن آدم حيث قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لأنه أول من سَنَّ القتل» (¬1) وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم» (¬2). 2 - يقول الأستاذ محمد حسين: «فالحديث يثبت الابتداع الحسن في الإسلام ويقره». ونقول له: من أين لك هذا؟ وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة»، ولم يقل: «من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة». ومما يدل على تناقضه قوله بعد سطور: «وأما حسنة وسيئة فهو مما دل عليه أصل في الدين يحسنه أو يصححه» ا. هـ. ونسأله: لِمَ ردّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قول الثلاثة الذين قال أحدهم: «أما أنا فأنا أصلى الليل أبداً»، وقال آخر: «أنا أصوم الدهر ولا أفطر» وقال آخر: «أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً»، وقال لهم: «من رغب عن سنتي فليس مني» (¬3) مع أن لفعلهم هذا أصلاً في الشرع من الصلاة والصيام؟ ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (3335). (¬2) الاعتصام (1/ 179 - 181) بتصرف. (¬3) رواه الإمام البخاري (5063).

الشبهة التاسعة: قول غضيف بن الحارث: فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة

الشبهة التاسعة قوله (ص26 - 27): إن البدعة الحسنة في الدين قد يكون في الدين ما هو أحسن منها، وهذا لا ينفي حسنها وإن أثبت ما هو أفضل منها ... واستدل بقول غضيف بن الحارث الثمالى: «بعث إلاّ عبد الملك بن مروان، فقال: «يا أبا سليمان إنا قد جمعنا الناس على أمرين»، فقال: «وما هما؟» قال: «رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر»، فقال: «أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منها، قال: «لم؟» قال: «لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رُفِعَ مثلها من السنة»، فتمسُّك بسنة خيرٌ من إحداث بدعة». ثم قال الأستاذ محمد حسين: «فغضيف - رضي الله عنه - أثبت أن الدعاء يوم الجمعة ورفع الأيدي على المنابر وكذلك الدرس الديني ـ القصص ـ بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر بدعة، سماها أمثل بدعكم فوصفها بالحسن، كما أن التمسك بما كان عليه الأمر قبل البدعة التي استحسنها بقوله: «خير من إحداثها»، فقال: «خير من إحداث بدعة»، و «خير» أفعل تفضيل بين خيرين». الرد: أولاً: هذا الأثر رواه الإمام أحمد في المسند (16907) وقال محققه: إسناده ضعيف ـ وقال محقق جامع العلوم والحكم: وفي الإسناد (بقية) وهو مدلس وقد عنعن، وفيه أبو بكر بن أبى مريم وهو ضعيف. اهـ فهذا الأثر لا يثبت، بل هو ضعيف؛ لأن في إسناده أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف، ضعفه الأئمة أحمد، وأبو داود، وأبو حاتم، وابن معين وأبو زرعة، وابن سعد، وابن عدي، والدارقطني، انظر ترجمته في (تهذيب التهذيب: 12/ 28 - 29)، و (تقريب التهذيب: 2/ 398)، و (ميزان الاعتدال: 4/ 498)، و (سير أعلام النبلاء: 7/ 64). ثانياً: على افتراض صحة هذا الأثر، فإنه لا يجوز أن يعارَض كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بكلام أحد من الناس كائناً من كان.

ثالثاً: على فرض صحة الحديث فإنه لا يصح للاستدلال به على أن هناك بدعة حسنة في الدين وفي الشرع أفضل منها، وذلك لما يأتي: 1 - أن غضيفاً بن الحارث - رضي الله عنه - رفض الاستجابة لهذه البدع، وردها، ولو كانت حسنة، لما امتنع من الأخذ بها، بل لم يُجِبْهم إلى هذه البدعة حيث قال: «ولست بمجيبكم إلى شيء منها»، وهذا إنكار منه وإلا لو كانت بدعة حسنة لكان هو أول من يفعلها لأنه راوي الحديث ولم يفهم منه مثل ما فهم الأستاذ محمد حسين. 2 - استدلال غضيف - رضي الله عنه - بعدم إجابتهم إلى شيء منها بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما أحدث قوم بدعة إلا رُفع من السنة مثلها» فبدعتهم بنص الحديث سبب في رفع السنة، فلو كانت هذه البدعة حسنة، لم يرفع من السنة مثلها؛ لأن رفع السنة عقوبة، والحسَن لا يعاقَب عليه. فهل يُعقل أن تكون هناك بدعة حسنة مع كونها سبباً في رفع السنة، فالحديث حجة على الأستاذ محمد حسين؛ لأن الحديث يدل على العموم «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة» فكل بدعة سبب في رفع مثلها من السنة، فكيف يمكن أن تكون هناك بدعة حسنة؟ رابعاً: يقول الأستاذ محمد حسين: سماها «أمثل بدعكم» فوصفها بالحسن كما ذكر أن التمسك بما كان عليه الأمر قبل البدعة التي استحسنها بقوله: «خير من إحداثها»، فقال: «خير من إحداث بدعة»، و «خير» أفعل تفضيل بين خيرين» اهـ. * الرد: هذا استدلال عجيب جداً فهل قول: «تمسك بسنة خير من إحداث بدعة» دليل على أن إحداث البدعة فيه خير ولكن التمسك بالسنة فيه خير أفضل منه؟ سبحان الله العظيم!!! هل قولنا إن الجنة خير من النار دليل على أن النار فيها خير وأن الجنة أفضل منها؟ قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] هل قولنا إن محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - خير من أبى جهل دليل على أن أبا جهل فيه خير ولكن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل منه؟ ومن أوضح الأدلة على ذلك أيضاً قول

الشبهة العاشرة: بجمع أبي بكر وعثمان م للمصحف

يوسف - عليه السلام -: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] وهذا تفضيل لا يدل على اشتراكهما في الصفة، وليس دليلاً على أن أصنامهم فيها خير. * وكذلك قول غُضَيفٍ - رضي الله عنه -: «إنهما أمثل بدعتكم عندي» أمر نسبي، أي هي بالنسبة للبدع الأخرى أخف شراً، وأقل مخالفة. وليس معناه أنه استحسنهما، بل معناه أن هاتين أخف بدعكم ضرراً كما يقال: «المريض اليوم أمثل»، أي: أحسن حالاً، وليس معناه أنه شفي تماماً، وهذا مثال للتوضيح: لو أن مدرساً عقد امتحاناً لطلابه وعددهم 50 طالباً مثلاً وحصل أفضل الطلاب على 15 ? فمن الطبيعي أن يقول له المدرس: أنت أفضل طالب في الفصل، فهل يعنى ذلك أن هذا الطالب جيد؟ كلا، بل يعنى أن هذا الطالب هو أقلهم سوءاً. ملحوظة: هناك فرق بين كون الشيء بدعة وكونه مخالفاً للسنة فمثلاً إطالة الخطيب في خطبة الجمعة مخالف للسنة ولكنه ليس ببدعة اصطلاحاً، وكذلك إرسال اليدين وعدم وضعهما على الصدر أثناء القيام الذي قبل الركوع مخالف للسنة وليس ببدعة. فكذلك كون القصص بعد الفجر والعصر مخالف للسنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم، ولكن ليس معنى ذلك أن تحديد موعد للدرس بدعة لا عندنا ولا عند الأستاذ محمد حسين. وكذلك رفع اليدين على المنابر في الدعاء فإنه ليس بدعة ولكن الكلام في المواظبة عليها. الشبهة العاشرة استدلاله (ص27 - 30) بجمع أبي بكر وعثمان - رضي الله عنهما - للمصحف. الرد: أولاً: القرآن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكتوباً في الصحف؛ لقوله تعالى: {يَتْلُو

صُحُفاً مُطَهَّرَة} [البينة: 2] وقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» (¬1)، لكنها كانت مفرقة، كما يدل على ذلك قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في قصة جمع القرآن التي رواها الإمام البخاري: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال». ثانياً: إن جمع القرآن لم يأت به الصحابة من تلقاء أنفسهم، بل هو تحقيق لوعد الله تعالى أيضاً بجمعه؛ كما وعد بحفظه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]، فإذا جمعنا بين الآيتين؛ تبين لنا يقيناً أصل عظيم وهو أن الذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة، فكما أن حفظ القرآن غاية شرعها الله، كذلك جَمْعه وسيلة بيّنها الله، فكان على عهد النبوة مكتوباً في الصحف التي هي العسب واللخاف (¬2) وكذلك صدور الرجال، فلما رأى الصحابة أن القتل استحرَّ بالقراء يوم اليمامة؛ لجؤوا إلى الوسائل الأخرى التي كان القرآن مكتوباً فيها، فجمعوها، وكان ذلك إيذاناً من الله بتحقيق جمع القرآن وحفظه. ثالثاً: إن اتفاق الصحابة وقع على جمع القرآن وذلك إجماع منهم وهو حجة بلا ريب كيف وهم القوم لا يجتمعون على ضلالة؟! وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ ـ تعالى ـ لا يَجمعُ أُمَّتي على ضلالةٍ» (¬3). رابعاً: إن حاصل ما فعله الصحابة وسائل لحفظ أمر ضروري، أو دفع ضرر اختلاف المسلمين في القرآن، والأمر الأول من باب «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، والأمر الثاني من باب «درء المفاسد، وسد الذرائع» وهي قواعد أصولية مستنبطة من الكتاب والسنة. فإن قيل: فلماذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قيل: لوجود المانع، وهو أن القرآن ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (3004). (¬2) العسب جمع عسيب وهو جريد النخل، و (اللخاف) كلِحاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة، كسمكة. (¬3) رواه الإمام الحاكم في المستدرك، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (1848).

كان يتنزل عليه طيلة حياته، وقد ينسخ الله سبحانه منه ما يريد، فلما انتفى المانع؛ فعله الصحابة - رضي الله عنهم - باتفاق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «المانع من جمعه كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الوحي كان لا يزال ينزل، فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد. فلو جمع في مصحف واحد، لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته، واستقرت الشريعة بموته - صلى الله عليه وآله وسلم - أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعمل المسلمون بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى في اللغة بدعة» (¬1). خامساً: قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «هذا من قبيل المصالح المرسلة، لا من قبيل البدعة المحدثة، والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول وإن كان فيها خلاف بينهم، ولكن لا يعد قدحاً على ما نحن فيه، فقد اختلف الناس في القراءة فخاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ اختلاف الأمة في ينبوع الملة، فقصروا الناس على ما ثبت في مصاحف عثمان - رضي الله عنه - وطرحوا ما سوى ذلك، علماً بأن ما طرحوه مضمن في ما أثبتوه؛ لأنه من قبيل القراءات التي يؤدى بها القرآن» (¬2). وقال أيضاً: «وهذا له أصل يشهد له في الجملة، وهو الأمر بتبليغ الشريعة، وذلك لا خلاف فيه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67] وأمته مثله» (¬3)، وقال الحافظ ابن رجب: «وقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يكتب مفرقاً أو مجموعاً، بل جمعه صار أصلح» (¬4). ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ص 250) (¬2) الاعتصام (1/ 181، 182) بتصرف. (¬3) الاعتصام (1/ 182) بتصرف. (¬4) جامع العلوم والحكم (476).

الشبهة الحادية عشرة: تشكيل المصحف وتنقيطه

* قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «لا خلاف بين العلماء في أن العبادات لا يجرى فيها العمل بالمصالح المرسلة، لأن أمور العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأْي، والزيادة عليها ابتداع في الدين، والابتداع مذموم فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» (¬1)، وقد قال الأستاذ محمد حسين (ص29): «اقتضت المصلحة ذلك ... » وقال (ص30): «رأي الصحابة والمسلمون المصلحة في ذلك» ا. هـ. فهذا من قبيل المصالح المرسلة (¬2) فليس في جمع الصحابة للقرآن دليل على أن في الإسلام بدعة حسنة (¬3). سادساً: قد أمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - باتباع سنة الخلفاء الراشدين وهذا من سنة خلفائه الراشدين. الشبهة الحادية عشرة استدلاله (ص30) بتشكيل المصحف وتنقيطه ووضع الأعشار والأرباع والأحزاب. الرد: الرد على هذه الشبهة كالرد على الشبهة السابقة فهذا من المصالح المرسلة وقد اتفق المسلمون على ذلك للمصلحة كما قال الأستاذ محمد حسين (ص30) (¬4)، فليس فيها دليل على ما ذهب إليه؛ لدخوله تحت عموم الأدلة الدالة على وجوب حفظ ¬

_ (¬1) الوجيز في أصول الفقه (ص238 - 242) بتصرف. (¬2) الوجيز في أصول الفقه (ص237). (¬3) راجع للأهمية: القاعدة التاسعة: الفرق بين البدع والمصالح المرسلة. (¬4) راجع القاعدة التاسعة: الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة.

الشبهة الثانية عشرة: الأذانين لصلاة الجمعة في عهد عثمان لما اتسعت المدينة

القرآن وإتقانه تلاوةً وتعلمًا وتعليمًا. والظاهر دخول النقط والشكل في عموم النصوص الدالة على وجوب حفظ القرآن كما أنزل. الشبهة الثانية عشرة استدلاله (ص30، 31) بالأذانين لصلاة الجمعة في عهد عثمان لما اتسعت المدينة وسوقها وهذا محدث في صلاة الجمعة ولم يخالف في ذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (ص30، 31). الرد: 1 - هذا من سنة الخلفاء الراشدين وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - باتباع سنتهم، فهذه سنة شرعية نحن مأمورون باتباعها. 2 - لم يسنه عثمان - رضي الله عنه - إلا لسبب لم يكن موجوداً في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو سعة المدينة وتباعد الناس (¬1) فقد زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقرَّهُ عليّ - رضي الله عنه -، واستمر عمل المسلمين عليه (¬2). 3 - يقول الأستاذ محمد حسين (ص31): «وهذا محدث ولم يخالف أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». ونقول: عدم مخالفة الصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك إجماع منهم على هذا الأمر، والإجماع أحد أدلة الأحكام الشرعية، فالدليل الإجماع وليس أنه بدعة محدثة حسنة. تنبيه: الهدف من الأذان الذي زاده عثمان - رضي الله عنه - تنبيه الناس أن اليوم يوم جمعة حتى ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (3/ 573) بتصرف. (¬2) جامع العلوم والحكم (467).

الشبهة الثالثة عشرة: اختيار خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

يستعدوا ويبادروا للصلاة قبل الأذان المعتاد المعروف بعد الزوال (¬1). الشبهة الثالثة عشرة قوله (ص31): «اختيار خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم الوصية لأمير المؤمنين عمر، ثم لجنة محددة لاختيار أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ثم خلافة علي، ثم خلافة الحسن ثم خلافة معاوية، ثم خلافة عبد الله بن الزبير ــ رضي الله عنهم أجمعين ــ خلال عصور الإسلام، محدث بعد محدث، وهذه أمور الدين الأصلية رُوعِيَتْ فيها مصالح المسلمين». الرد: 1 - دلت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على الخلافة مثل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يزالُ هذا الأمرُ عزيزاً إلى اثنَاْ عشرَ خليفة» (¬2) وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سيكون خلفاء فيكثرون»، قالوا: «فما تأمرنا؟»، قال: «فُوا ببيعة الأول فالأول» (¬3)، (فُوا: فعل أمر بالوفاء). فاختيار الخليفة ليس بدعة حسنة بل أصل من أصول الشرع لا تنتظم حياة المسلمين إلا به، فلا يحق للأستاذ محمد حسين أن يقول: «محدث بعد محدث». قال إمام الحرمين الجوينى: «فنصب الإمام عند الإمكان واجب بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة وغاربة، واتفاق المذاهب قاطبة، أما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رأوا البدار إلى نصب الإمام حقاً، وتركوا ـ بسبب التشاغل به ـ تجهيز رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودفنه» (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (12/ 348) وانظر الأجوبة النافعة للشيخ الألباني (ص20 - 22). (¬2) رواه الإمام مسلم (1821/ 8). (¬3) رواه الإمام البخاري (3455). (¬4) غياث الأمم في التيات الظلم (ص55) بتصرف.

الشبهة الرابعة عشرة: اتخاذ تأريخ للمسلمين وتدوين الدواوين

2 - إن لم يكن اختيار الخليفة دليله السنة فدليله إجماع الصحابة، وإن لم يكن إجماع الصحابة فسنة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهي سنة واجبة الاتباع بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإن لم يكن الدليل أياً مما سبق فالمصلحة المرسلة. هذه أدلة أربعة على أن هذا الحكم (اختيار خليفة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -) ليس من البدع الحسنة. 3 - اختيار أبي بكر - رضي الله عنه - كان بإجماع الصحابة ومن سنة الراشدين وكذلك عمر وعثمان وعليّ - رضي الله عنهم - وليس من البدع الحسنة. قال الإمام النووي: «مات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يستخلف أحداً بنص صريح، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة لأبي بكر وتقديمه لفضيلته» (¬1). 4 - هذا الكلام من الأستاذ محمد حسين لا علاقة له إطلاقاً بموضوع البدعة الحسنة؛ لأن أدلة الشرع إنما دلت على وجوب نصب الخلفاء ولم تتعرض لكيفية ذلك، فكيف تُوصَف طرق التنصيب المختلفة التي أجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم - بكونها محدث بعد محدث. الشبهة الرابعة عشرة استدلاله (ص31) باتخاذ تأريخ للمسلمين وتدوين الدواوين في عهد أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -. الرد: ¬

_ (¬1) شرح صحيح الإمام مسلم (حديث 2384).

الشبهة الخامسة عشرة: هل تطلق البدعة على كل ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

1 - هذان فعلهما عمر - رضي الله عنه - وهو خليفة راشد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باتباع سنته، وحذرنا من كل بدعة فقال: «كل بدعة ضلالة». 2 - هذان فعلهما عمر - رضي الله عنه - وهما من المصالح المرسلة وهي أحد أدلة الأحكام. فليس في ذلك دليل على أن في الإسلام بدعة حسنة (¬1). الشبهة الخامسة عشرة ذكر الأستاذ محمد حسين (ص136 - 142) تحت عنوان: «هل تطلق البدعة على كل ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟» 76 سؤالاً من شاكلة: - هل فرش المساجد بدعة؟ فلم يكن ذلك معروفاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ - هل توصيل الكهرباء وإضاءة المساجد بدعة؟ - هل وضع الساعات لمعرفة الأوقات بالمساجد بدعة؟ - هل استخدام المراوح في المساجد بدعة؟ - هل الخطبة والأذان في الميكروفون بدعة؟ - هل نقل الحجاج بالطائرات والسفن والسيارات بدعة؟ ثم قال: «كل هذه المسائل وغيرها تحتاج إلى بحث لمن قال: إن كل ما لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدين بدعة، وهذه كلها أمور تدخل في هذا الإطار وذلك المفهوم، أما من يعتبر ذلك من المصالح المرسلة والاستحسان والبدع الحسنة فلا ينكر من ذلك شيئاً». الرد: ¬

_ (¬1) راجع: القاعدة التاسعة: الفرق بين البدع والمصالح المرسلة.

أولاً: على فرض أن هذه الأشياء من المصالح المرسلة فليس فيها دليل على البدعة الحسنة وقد تقدم في أول هذا الرد الفرق بين البدع والمصالح المرسلة، والفرق بين البدع والاستحسان. قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «لا خلاف بين العلماء في أن العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأي، والزيادة عليها ابتداع في الدين، والابتداع مذموم، فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (¬1)، فالفرق شاسع بين المصالح المرسلة والبدع. ثانياً: قال الدكتور محمد بن حسين الجيزاني ـ عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية ـ: «إن المصلحة المرسلة لا مدخل لها في التعبدات المحضة، كأفعال الصلاة وأفعال الحج وأنصبة المواريث ومقادير الكفارات والعِدَد والحدود. فجميع هذه المسائل تعبدية توقيفية، لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاجتهاد، إلا أن الاستصلاح ربما يقع في بعض العبادات، لكنه إنما يقع في وسائلها المطلقة لا في ذات العبادة وأصلها، ولا يقع أيضاً في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع. ومن الأمثلة على ذلك أن استقبال القبلة ودخول الوقت أمور تعبدية لابد من تحقيقها بالنسبة إلى الصلاة، وقد يستعان في معرفة القبلة بالبوصلة أو غيرها، وبالساعة في معرفة وقت الصلاة، فكل هذا من قبيل الوسائل التي أطلقها الشارع، وتندرج تحت قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به). ومن ذلك أيضاً: إنشاء طابق ثانٍ للطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، ومثل إنشاء جسر متعدد الأدوار للجمرات» (¬2) ا. هـ. ¬

_ (¬1) الوجيز في أصول الفقه (ص238 - 242) بتصرف. (¬2) موقع الإسلام اليوم 27/ 2/1427هـ.

وينطبق هذا الكلام على معظم الأمثلة التي ذكرها الأستاذ محمد حسين، فمثلاً استخدام الناس المراوح في المساجد، وتوصيل الكهرباء إليها، وإضاءتها وفرشها، وغير ذلك، كلها وسائل لعمارة المساجد، حيث إن الشرع قد حثّ على عمارتها وهذه وسائل لعمارتها، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين} [التوبة: 18] فقد أثبت الإيمان في الآية لمن عمر المساجد بالصلاة فيها، وتنظيفها وإصلاح ما وَهَى منها (¬1). واستخدام الميكروفون في الخطبة والأذان مجرد وسيلة لتبليغ صوت الخطيب والمؤذن، ووضع الساعات لمعرفة الأوقات مجرد وسيلة لتحديد وقت الصلاة، وما ذُكِر من الأمثلة ليس له علاقة من بعيد أو قريب بمسألة البدعة الحسنة. ثالثاً: من العجيب أن يسأل الأستاذ محمد حسين: «هل نقل الحجاج بالطائرات والسفن والسيارات بدعة؟». ونقول له: هل يعتقد أحد من المسلمين أن الحج عن طريق الطائرة أفضل في الثواب من الحج عن طريق الإبل؟ إن طريقة انتقال الحاج لأداء الفريضة يرجع إلى العادة وليس العبادة، وهذا أمر مسلّم به، فليس فيما ذكره الأستاذ محمد حسين دليل على وجود البدعة الحسنة. رابعاً: بعض الأمثلة التي ذكرها الأستاذ محمد حسين تحتاج إلى بحث؛ لأن بعض العلماء قد يعتبرها من المكروهات كالزخرفة للمساجد (¬2)، أو من البدع كالدعاء الجماعي في الطواف. (¬3) خامساً: بعض الأمثلة التي ذكرها الأستاذ محمد حسين أخطأ وقال إنها لم تكن ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي. (¬2) انظر فقه السنة (1/ 297)، صحيح فقه السنة (1/ 565). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 358)، فتاوى أركان الإسلام للشيخ ابن عثيمين (ص544 - 545).

موجودة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، رغم وجودها على عهده - صلى الله عليه وآله وسلم - أو أن لها أصلاً من هديه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإليك بعض الأمثلة: - قال الأستاذ محمد حسين (ص138 رقم 26): «هل خلْع جميع الناس لأحذيتهم لأداء الصلوات بدعة؟ فقد كانوا يصلون بأحذيتهم ولا يخلعونها في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟» * تعليق: قال الشيخ الألباني: «وكان يقف حافياً أحياناً ويتنعل أحياناً (¬1) وأباح ذلك لأمته فقال: «إذا صلى أحدكم فلْيَلْبس نعليه أو ليخلعهما بين رجليه ولا يؤذ بهما غيره» (¬2) وأكد عليهم الصلاة فيهما أحياناً فقال: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» (¬3)» ا. هـ (¬4). وعن عبد الله بن السائب قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلى يوم الفتح، ووضع نعليه عن يساره» (¬5)، فقد ثبت جواز خلع الأحذية لأداء الصلوات من قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعله. - قال الأستاذ محمد حسين (ص139 رقم 3): «هل الالتزام بدرس ديني في يوم وموعد محدد مقرر بدعة؟ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يتخوّل الناس بالموعظة». * تعليق: ذكر الإمام البخاري في كتاب العلم، باب 12: باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة (الحديث رقم 70): عن أبي وائل قال: كان عبد الله (يعنى ابن مسعود) يذكّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: «يا أبا عبد الرحمن لوَدِدْتُ أنك ذكّرتنا كل يوم»، قال: «أما إنه يمنعنى من ذلك أنّي أكره أنْ أُمِلَّكُم وإني أتخَوَّلُكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يتخَوَّلُنا بها مخافةَ السَّآمةِ علينا». ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (653) وهو حديث متواتر كما ذكر الإمام الطحاوا. (¬2) رواه الإمام أبو داود (655) والبزار وصححه الإمام الحاكم ووافقه الإمام الذهبى وصححه الشيخ الألباني. (¬3) رواه الإمام أبو داود (652) وصححه الإمام الحاكم ووافقه الإمام الذهبا، وصححه الشيخ الألباني. (¬4) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (ص 54). (¬5) رواه الإمام أبو داود (648) وصححه الشيخ الألباني.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «قوله: «باب من جعل لأهل العلم يوماً معلوماً» وكأنه أخذ من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس أو من استنباط عبد الله (يعني ابن مسعود) ذلك من الحديث الذي أورده» اهـ. وروى الإمام مسلم (2633) عن أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: «يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله»، قال: «اجتَمِعْنَ يوم كذا وكذا»، فاجتمَعْنَ فأتاهُن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعلمَهُنّ مما علمه الله، ورواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب: هل يُجعل للنساء يومٌ على حدة في العلم؟ حديث رقم (101) - قال الأستاذ محمد حسين (ص136 رقم 1): «هل فرش المساجد بدعة فلم يكن ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟» * تعليق: ثبت في صحيح البخاري كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير (رقم 380) أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى على حصير. قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على هذا الحديث: «بل سيأتي عنده ـ البخاري ـ من طريق أبي سلمة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان له حصير يبسطه ويصلي عليه»، وكأن الحافظ - رحمه الله - يشير إلى ما رواه البخاري (730) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل، فثاب إليه ناس فصلوا وراءه. قال الحافظ: «يحتجره: أي يتخذه مثل الحجرة، فثاب: أي اجتمعوا». وروى البخاري أيضاً (731) عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - اتخذ حجرة وقال: حسبت أنه قال: «من حصير» في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم فقال: «قد عرفتُ الذي رأيتُ من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة».

وقال الحافظ ابن حجر أيضاً تعليقاً على الحديث رقم 380: «وفي مسلم من حديث أبى سعيد أنه رأي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلى على حصير». خامساً: ملحوظة: كرر الأستاذ محمد حسين بعض الأمثلة كما في مسألة المراحيض ودورات المياه في المساجد ذكرها تحت رقم (25، 43)، وذكر المراوح تحت رقم (13) ثم ذكر تكييف المسجد تحت رقم (46)، وذكر فرش المساجد تحت رقم (1) ثم ذكر فرش السجاجيد تحت رقم (47). سادساً: في المقابل نسأل الأستاذ محمد حسين عن بعض ما نعتقده بدعة، ونظن أنه يعتقده كذلك، مثل إضافة لفظ (سيدنا) في الأذان بأن يقول المؤذن: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يَنْهَ المؤذنين عن ذلك، ولم يرِدْ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - دليل خاص في قَصْر المؤذنين على ذلك، مع كون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو سيدنا بحكم الواقع وبحكم الشرع (انظر سنن أبي داود 4806)، وقد اشترط الأستاذ محمد حسين (ص20) في كون الشيء بدعة (ألا تكون واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -) لكي يُخْرج بذلك البدع الإضافية من بدع الضلالة، وبالتالي ـ حسب كلامه ـ لا يكون قول المؤذن: (أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله) من البدع، وبهذه الطريقة ينفتح الباب لكثير من البدع مثل قول الشيعة: (أشهد أن علياً وليّ الله) في الأذان فإنه من أولياء الله بلا شك، وكذلك ما يحدث في دولة كسوريا من الأذان الجماعي، حيث يؤذن مجموعة من الناس معاً ويردد مجموعة أخرى خلفهم. وهذه بعض الأمثلة لبدع إضافية نعتقد أن الأستاذ محمد حسين يوافقنا على أنها من البدع الضلالة، فإما أن يقول إن هذه البدع الإضافية بدع حسنة، وإما أن يقول إنها بدع ضلالة وعندئذ يُقِر بأن «كل بدعة ضلالة» كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويقر بأنه ليس في الدين بدعة حسنة: 1 - الأذان لصلاة العيدين. 2 - قول كثير من المصلين بين ركعات التراويح: «أبوبكر الصديق - رضي الله عنه -»

وغيرها من الأذكار بصوت واحد. 3 - الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من المؤذن عقب الأذان مع رفع الصوت بهما وجعلهما بمنزلة ألفاظ الأذان. 4 - صلاة تحية المسجد جماعة. 5 - صلاة سنة الظهر جماعة في المسجد. 6 - صيام يوم ذكرى غزوة بدر والخندق وفتح مكة ...

موقف الأستاذ محمد حسين من الأحاديث الضعيفة

موقف الأستاذ محمد حسين من الأحاديث الضعيفة أصول ينبغي معرفتها قبل مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: أثر الأحاديث الضعيفة في الابتداع في الدين: قال الشيخ الألباني: «إن تساهل العلماء برواية الأحاديث الضعيفة ساكتين عنها قد كان من أكبر الأسباب القوية التي حملت الناس على الابتداع في الدين، فإن كثيراً من العبادات، التي عليها الناس اليوم، إنما أصلها اعتمادهم على الأحاديث الواهية، بل والموضوعة، كمثل التوسعة يوم عاشوراء، وإحياء ليلة النصف من شعبان، وصوم نهارها وغيرها وهي كثيرة جداً». (¬1) ذكر الإمام الشاطبي أن من طرق المبتدعة في الاستدلال: اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة، والمكذوب فيها على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم قال: «والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قالها، فلا يمكن أن يُسنَد إليها حكم، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟ ... وهذا على فرض ألا يعارض الحديثَ أصلٌ من أصول الشريعة، وأما إذا كان له معارض فأحرى ألا يُؤخَذ به» (¬2). ثانياً: قال الشيخ الألباني: «لا يجوز ذكر الحديث الضعيف إلا مع بيان ضعفه، وإلا دخل تحت الوعيد في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من حدَّث عنِّي بحديث يُرى أنه كذب فهو أحدُ الكاذبيْن» رواه مسلم. واعلم أن من يفعل ذلك فهو أحد رجلين: إما أن يعرف ضعف تلك الأحاديث ولا يُنبّه على ضعفها فهو غاشّ للمسلمين وداخل حتماً في الوعيد المذكور، وإما أن لا ¬

_ (¬1) صحيح الترغيب والترهيب للشيخ الألباني (ص23) (المقدمة). (¬2) الاعتصام (1/ 217 - 218).

يعرف نسبتها فهو آثم أيضاً لإقدامه على نسبتها إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - دون علم وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع» (¬1)، وقد صرح النووي بأن من لا يعرف ضعف الحديث لا يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن لم يكن عارفاً» (¬2). * قال الشيخ أحمد شاكر: «من نقل حديثاً صحيحاً بغير إسناده وجب أن يذكره بصيغة الجزم فيقول مثلاً: «قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» وأما إذا نقل حديثاً ضعيفاً أو حديثاً لا يعلم حاله، أصحيح أم ضعيف، فإنه يجب أن يذكره بصيغة التمريض كأن يقول: «رُوِى عنه كذا» أو «بلغنا كذا». وإذا تيقن ضعفه وجب عليه أن يبين أن الحديث ضعيف؛ لئلا يغتر به القارئ أو السامع، ولا يجوز للناقل أن يذكره بصيغة الجزم، لأنه يوهم غيره أن الحديث صحيح، خصوصاً إذا كان الناقل من علماء الحديث الذين يثق الناس بنقلهم» (¬3). * هل تكفي كلمة «رُوي» أو «بلغنا» ونحوهما؟ قال الشيخ الألباني: «أرى أن هذا لا يكفي اليوم لغلبة الجهل، فإنه لا يكاد يفهم أحد من كتب المؤلف أو قول الخطيب على المنبر: «رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كذا وكذا» أنه حديث ضعيف، فلابد من التصريح بذلك كما جاء في أثر على - رضي الله عنه - قال: «حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه» أخرجه البخاري (¬4). ثالثاً: لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يُحتج به، فإن ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (5). (¬2) تمام المنة في التعليق على فقه السنة للشيخ الألباني (ص33 - 34). (¬3) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (ص90). (¬4) صحيح الترغيب والترهيب (ص21) (المقدمة).

الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع» (¬1). رابعاً: معنى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «مراد العلماء من العمل بالحديث الضعيف في الفضائل: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع، كتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء والصدقة والعتق والإحسان إلى الناس، وكراهة الكذب والخيانة ونحو ذلك، فإذا رُوي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها، وكراهة بعض الأعمال وعقابها، فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا رُوي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب، أو تخاف ذلك العقاب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحاً كثيراً فهذا إن صدق نفعه، وإن كذب لم يضره» (¬2). خامساً: لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل الضعيفة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديراً وتحديداً، مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة لم يجُز ذلك، لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي» (¬3). سادساً: شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند القائلين به: 1 - أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (9/ 328). (¬2) مجموع الفتاوى (9/ 328). (¬3) مجموع الفتاوى (9/ 329).

2 - أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يُخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. 3 - أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لم يَقُله (¬1). * قال الشيخ الألباني: «هذه الشروط توجب على أهل العلم والمعرفة بصحيح الحديث وسقيمه أن يميزوا للناس شيئين هامين: الأول: الأحاديث الضعيفة من الصحيحة، والآخر: الأحاديث الشديدة الضعف من غيرها» (¬2). سابعاً: هل هناك إجماع من العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟ قال الشيخ الألباني: «الخلاف في ذلك معروف، فإن بعض العلماء المحققين على أنه لا يعمل به مطلقاً، لا في الأحكام ولا في الفضائل، قال الشيخ القاسمى - رحمه الله - في (قواعد التحديث) (ص94): «حكاه ابن سيِّد الناس في عيون الأثر عن يحيى بن معين، ونسبه في (فتح المغيث) لأبي بكر بن العربي، والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضاً ... وهو مذهب ابن حزم ... » قلت: وهذا هو الحق الذي لا شك فيه عندي» (¬3). * قال الحافظ ابن حجر: «لا فرق في العمل بالحديث الضعيف في الأحكام أو في الفضائل إذا الكل شرع» (¬4). * قال الشيخ أحمد شاكر: «لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من حديث صحيح أو حسن» (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح الترغيب والترهيب (ص18) المقدمة، عن القول البديع للإمام السخاوى (195). (¬2) صحيح الترغيب والترهيب (ص18) المقدمة. (¬3) تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص34). (¬4) تبيين العجب (ص3، 4) (¬5) الباعث الحثيث (ص91).

مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين

مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين أولاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص34) أن الاستحباب يثبت بالضعيف غير الموضوع، فناقض نفسه حيث قال (ص32): «جواز العمل بالحديث الضعيف في غير الأحكام والعقائد»، ونقل نحو هذا الكلام (ص33)، مع العلم أن «الاستحباب حكم من الحكام الخمسة التي لابد لإثباتها من دليل تقوم به الحجة» (¬1)، وقد سبق نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الأصل الثالث فراجعه. ثانياً: نقل (ص34) أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقاً (راجع الأصل السابع: هل هناك إجماع من العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟) حيث نقلنا أنه خالف في ذلك الأئمة يحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبو بكر بن العربي ونقلنا كلام الحافظ ابن حجر والشيخين الألباني وأحمد شاكر. ثالثاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص35) عن الإمام ابن قيم الجوزية (في كتاب إعلام الموقعين) أن الإمام أحمد يعمل بالضعيف إذا لم يوجد غيره وفي رواية: ضعيف الحديث عندنا أحب مِنْ رَأْي الرجال. * الرد: 1 - بتر الأستاذ محمد حسين ما نقله، وكان الواجب عليه ـ من باب الأمانة العلمية ـ نقل الكلام كاملاً. قال الإمام ابن القيم عند بيان ترجيح الإمام أحمد الحديث الضعيف والمرسل على القياس بشرطه ما نصه: «وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ¬

_ (¬1) تمام المنة في التعليق على فقه السنة للشيخ الألباني (ص35).

ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب في العمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من اقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب» (¬1). 2 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو شيخ ابن قيم الجوزية: «من نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه، ولكن كان في عُرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح وضعيف، والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مخوّف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعيف خفيف لا يمنع من ذلك. وأول من عُرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام ـ صحيح وحسن وضعيف ـ هو أبو عيسى الترمذي في جامعه، والحسن عندهم ما تعددت طرقه، ولم يكن في رواته متهم، وليس بشاذ، فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به؛ ولهذا مثّل أحمد بن حنبل الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما» (¬2). 3 - قال الإمام الشاطبي: «روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: الحديث الضعيف خير من القياس، وظاهره يقتضى العمل بالحديث غير الصحيح؛ لأنه قدّمه على القياس المعمول به عند جمهور المسلمين، بل هو إجماع السلف - رضي الله عنهم -، فدل على أنه عنده أعلى رتبة من العمل بالقياس. والجواب عن هذا: أنه كلام مجتهد يُحتمل في اجتهاده الخطأ والصواب، إذ ليس له على ذلك دليل يقطع العذر، وإن سَلِم فيمكن حمله على خلاف ظاهره، لإجماعهم على طرح الضعيف الإسناد، فيجب تأويله على أن يكون أراد به الحسن السند، وما ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين: (1/ 33). (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 180).

قاربه، على القول بإعماله، أو أراد «خير من القياس» لو كان مأخوذاً به، فكأنه يرد القياس بذلك الكلام مبالغة في معارضة من اعتمده أصلاً حتى رد به الأحاديث ... أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ففضّل عليه الحديث الضعيف وإن لم يعمل به» (¬1). رابعاً: نقل (ص35) أن الفقيه قد يعلم صحة الحديث ـ إذا لم يكن في سنده كذاب ـ بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به. * الرد: 1 - إذا كان الحديث ضعيفاً ويوافق آية من كتاب الله فما يمنعه من الاستدلال بالآية وكذلك إذا كان يوافق بعض أصول الشريعة، فليستدل بأصول الشريعة، أما أن ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لم يصح نسبته إليه فلا. قال الإمام مسلم: « ... الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثماً بفعله ذلك غاشَّاً لعوام المسلمين، إذ لا يُؤْمَن على من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة». (¬2) 2 - إذا فرض أن كل فقيه صحح الأحاديث لموافقتها لآية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة، فما فائدة علم الحديث أصلاً. خامساً: قوله (ص35) وجوب العمل بالحديث الضعيف إذا تلقاه الناس بالقبول وعملوا بمدلوله ويكون ذلك تصحيحاً له. ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 218 - 219). (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 82).

* الرد: عمل العلماء بالحديث ليس لأنهم صححوه بل لعملهم بمدلوله بدليل آخر وهو الإجماع، ويوضح ذلك قول الإمام الصنعانى في (سبل السلام) بعد أن ذكر حديث «الماء الطهور إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه»: «قال النووي: «اتفق المحدِّثون على تضعيفه» والمراد تضعيف رواية الاستثناء (¬1) لا أصل الحديث (¬2) فإنه قد ثبت في حديث بئر بضاعة، ولكن هذه الزيادة قد أجمع العلماء على القول بحكمها، قال ابن المنذر: «أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس»، فالإجماع هو الدليل على نجاسة ما تغير أحد أوصافه، لا هذه الزيادة» (¬3) ا. هـ. ويؤيد ذلك أيضاً ما نقله الأستاذ محمد حسين (ص38): «هذا الحديث ضعيف بالاتفاق مع ثبوت حكمه بالإجماع» ا. هـ.، فالإجماع دليل على صحة المعنا، وليس على صحة لفظ الحديث، فلا يكون تصحيحًا له. تنبيه: بعض الأحاديث ـ التي ذكر الأستاذ محمد حسين أنها ضعيفة واستدل بها على هذا الرأي ـ صححها بعض العلماء فمثلاً: - حديث «لا وصية لوارث» نقل الأستاذ محمد حسين نفسه (ص35) عن الكوثرى أن بعض المحققين صحح سنده، وذكر الشيخ الألباني - رحمه الله - في (الإرواء): قول الترمذي عن هذا الحديث: «حسن صحيح»، وقول البوصيرى في الزوائد: «إسناده صحيح»، وذكر قول ابن عباس - رضي الله عنه - في البخاري (2747): «كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع، ¬

_ (¬1) وهي قوله: إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه. (¬2) وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الماء طهور». (¬3) سبل السلام شرح بلوغ المرام (1/ 22).

وللزوج الشطر والربع»، ثم قال الشيخ الألباني: «الحديث صحيح لا شك فيه بل هو متواتر كما جزم بذلك السيوطى وغيْره» (¬1). - حديث «مَنْ ذَرَعَه القَيءُ وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فَلْيَقْضِ»، قال الإمام الدارقطني: «رواته ثقات كلهم»، وقال الإمام الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين»، ووافقه الإمام الذهبا، وصححه الشيخ الألباني (¬2). - حديث «القاتل لا يرث» صححه الشيخ الألباني (¬3). - حديث صلاة التسابيح: قال الحافظ المنذرى: وقد صححه جماعة منهم الحافظ أبو بكر الآجُرّى وشيخنا أبو محمد عبد الرحمن المصري، وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسى (¬4) وقد صححه الشيخ الألباني (صحيح الترغيب: 677، 678). أما قول الأستاذ محمد حسين: «ولا يزال من يقول إن صلاة التسابيح بدعة محدثة» (ص39) فالرد عليه: أن من قال هي بدعة فالحديث عنده غير صحيح. قال الشيخ ابن عثيمين: صلاة التسابيح لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال الإمام أحمد - رحمه الله - في حديثها: «لا يصح»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «إنه كذب». (¬5) * تنبيه: الرد على ما ذكره (ص36، 37) فيما يتعلق ببدعة تلقين الميت في قبره، سيأتي إن شاء الله أثناء الرد على البدع. ¬

_ (¬1) انظر إرواء الغليل (1655). (¬2) انظر إرواء الغليل (923). (¬3) الإرواء (167، 172). (¬4) الترغيب والترهيب كتاب النوافل باب 17. (¬5) فتاوى أركان الإسلام (ص363).

تجلية بدع وأخطاء (اللمع)

تجلية بدع وأخطاء (اللمع) أولاً: الذكر الجماعي (¬1) قواعد: 1 - الذكر عبادة والعبادات توقيفية لا مجال للابتداع فيها أو للاستحسان، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم يشرعه. 2 - الذكر من أفضل العبادات، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]. فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت بقلبه ولسانه وجوارحه، لكن ينبغي للمسلم أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها وهدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، لأن الاتباع شرط لصحة العمل. 3 - الذكر الجماعي: هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في أدبار الصلوات المكتوبة أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد. 4 - الذكر الجماعي لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا حث عليه، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك؛ وكذلك لم ينقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه. 5 - إنكار الصحابة: عن أبي البختري قال أخبر رجل ابن مسعود - رضي الله عنه - أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول: «كبّروا الله كذا وسبحوا الله كذا ¬

_ (¬1) راجع كتاب (الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع) للدكتور محمد عبد الرحمن الخميس.

وكذا واحمدوه كذا وكذا»، قال عبد الله: «فإذا رأيتَهم فعلوا ذلك فأْتِنى فأَخْبِرنى بمجلسهم»، فلما جلسوا أتاه الرجل فأخْبَره، فجاء عبد الله بن مسعود فقال: «والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماً أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً» فقال عمر بن عتبة: «نستغفر الله»، فقال: «عليكم الطريق فالزموه، ولئن أخذتم يمناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً» (¬1). وأيضاً أنكر عمر - رضي الله عنه - (¬2)، وأنكر أيضاً خباب بن الأرت - رضي الله عنه - (¬3). 6 - مفاسد الذكر الجماعي: - مخالفة هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. - التشويش على المصلين. - في هذا الذكر بصوت واحد تَشَبُّه بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد. * تنبيه: ذكر الأستاذ محمد حسين (ص83) حديث افتراق الأمة ثلاثاً وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: «ومن هي يا رسول الله؟»، قال: «ما أنا عليه وأصحابي». ونقول: تبين من إنكار عبد الله بن مسعود وخباب وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - أن الذكر الجماعي ليس مما عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه. الاجتماع على الذكر غير الذكر الجماعي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ ¬

_ (¬1) رواه الإمام الدارمي (1/ 68 - 69) بإسناد جيد، وابن وضاح في البدع (ص8 - 13) من عدة طرق عن ابن مسعود. قال محقق كتاب (الأمر بالاتباع للإمام السيوطى) والأثر صحيح بمجموع طرقه. (¬2) البدع لابن وضاح (ص45)، وابن أبى شيبة في المصنف (558) وسنده حسن. (¬3) ابن وضاح في البدع (ص 32 رقم 32)، وابن أبى شيبة في المصنف (559).

إِسْمَاعِيلَ وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً» (¬1). قد يفهم البعض من هذا الحديث استحباب الذكر الجماعي، وليس هذا بصحيح، وإنما فيه استحباب الاجتماع على الذكر، بمعنى أن يُعِينَ بعضنا بعضاً عليه بالتواجد في مكان واحد، ويوضح ذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما طبّق ذلك عملياً لم يكن يذْكُر الله - عز وجل - مع أصحابه ذكرا جماعياً، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا (¬2). ورواه الإمام أبو داود بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ» (¬3) وفي رواية للإمام مسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه -: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا. كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ. وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬4)، فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يذكر الله - عز وجل - ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يرددون خلفه أومعه - صلى الله عليه وآله وسلم -. ويكون فائدة الاجتماع عندئذ أنه أنشط للنفس لكونها مجبولة على التأسي، كما قالت الخنساء: وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي ... عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (3667)، وحسنه الشيخ الألباني. (¬2) رواه الإمام مسلم (670). (¬3) سنن أبي داود (4850)، وصححه الشيخ الألباني. (¬4) صحيح مسلم (2322).

الرد على الشبهات التي تعلق بها الأستاذ محمد حسين في استحباب الذكر الجماعي نذكر أولاً أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - في إنكار الذكر الجماعي، والذي ذكره الأستاذ محمد حسين في كتابه (ص16) روى الإمام الدارمي في سننه بسند صحيح (باب: 23، باب في كراهية أخذ الرأي): أخبرنا الحكم بن المبارك أخبرنا عمر بن يحيى بن عمرو بن سلمة قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: «كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفًا أمرا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرًا. قال: فما هو؟ فقال: إن عشتَ فستراه. قال: رأيتُ في المسجد قوماً حِلَقا جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجُل وفي أيديهم حصا فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلتَ لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الله حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وآله وسلم - متوافرون وهذه ثيابه لم تَبْلَ وآنيته لم تُكسر. والذي نفسي بيده إنكم لعلي ملة هي أهدي من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حدثنا أن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة

أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج» (سنن الدارمي 1/ 79/204) أولاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص16) عن أثر ابن مسعود - رضي الله عنه -: «فمثله لا يخفى عليه الأحاديث الصحيحة بكثرتها عن فضل حلق الذكر، إنما الناس كانوا زمن فتن أيام الخوارج، فهؤلاء قوم مخصوصون خشي عليهم ومنهم الفتنة»، وقال أيضاً: «قال العلماء: هذا يدل على أن هؤلاء كانوا مشهورين بالتشدد والخروج على الجماعة». * الرد: 1 - نعم لا يخفي على ابن مسعود - رضي الله عنه - الأحاديث الصحيحة عن فضل حلق الذكر ولكنه فهم منها ما لم يفهمه الأستاذ محمد حسين، فليس في تلك الأحاديث ما يدل على الذكر الجماعي بأن يردد بعض الأشخاص بصوت جماعي وراء شخص معين ولذلك أنكر عليهم ابن مسعود - رضي الله عنه - هذه الكيفية، وهي بعينها التي يدافع عنها الأستاذ محمد حسين. فمثل ابن مسعود - رضي الله عنه - لا يجهل كونهم يذكرون الله، ولكنه أنكر عليهم إضافتهم لهيئة أو مقدار معين لم يأذن به الله ولا شرعه رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. 2 - قال الأستاذ محمد حسين: «قال العلماء: هذا يدل على أن هؤلاء كانوا مشهورين بالتشدد والخروج على الجماعة». ونحن نسأله: من هم هؤلاء العلماء؟ فإن من خرّج هذا الأثر كالدارمي وابن وضاح ـ رحمهما الله ـ ذكروه في باب ذم الرأي والنهي عن البدع، ولم يفهموا منه ما فهمه الأستاذ محمد حسين. والعلة المذكورة في نَصّ الأثر كما ذكر ذلك الأستاذ محمدحسين (ص16) هي (اجتماعهم في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحاً معلوماً) فهذه هي المخالفة التي وقعوا فيها. 3 - قوله: «فهؤلاء قوم مخصوصون ... وكانوا مشهورين بالتشدد ... » إلخ،

نقول: ما دليلك على هذا الكلام؟ وكل من روى هذه الواقعة فهم منها إنكار ابن مسعود للذكر الجماعي، ومثله إنكار خباب وإنكار عمر - رضي الله عنهم - وكون هؤلاء المُنْكَر عليهم حاربوا الصحابة مع الخوارج ليس دليلاً على أن إنكار ابن مسعود - رضي الله عنه - كان لأنهم من الخوارج، بل ليس في أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يعلم أصلاً أنهم من الخوارج أو من غيرهم، فقد كان ظهور أنهم من الخوارج بعد إنكار ابن مسعود عليهم. بل إن ابن مسعود - رضي الله عنه - توفي سنة 32 هـ أي قبل وفاة عثمان - رضي الله عنه - بثلاث سنوات فأي فتن كانت في هذا العصر؟ وكلام ابن مسعود - رضي الله عنه - ليس فيه أنه خشي الفتنة عليهم ومنهم، وإنما نص على أنها بدعة وأنهم ليسوا أفضل علماً من الصحابة الذين لم يفعلوا مثل ما فعل هؤلاء، وأرشدهم أن يلزموا طريق الصحابة حتى لا يضلوا، وكل ذلك يفيد أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك ولا يعرفونه. ثم إن ابن مسعود - رضي الله عنه - أشار في آخر الحديث إلى وصف الخوارج، وأخبرهم أنه يتخوف أن يكون أكثرهم منهم، وهذا إشارة منه - رضي الله عنه - إلى أن البدع يجر صغيرها إلى كبيرها. وقد حدث ما خافه - رضي الله عنه - عليهم، ويدل على ذلك قول عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. ثانياً: قال (ص16، 109): «روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله بن مسعود كان ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسا ً قط إلا ذكر الله فيه». * الرد: في هذا الأثر ـ إن صح ـ أن ابن مسعود كان يذكر الله، ولكن ليس فيه أنه كان يذكر الله والقوم يرددون وراءه، فتنبه!! ثالثاً: استدلاله بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس

الذكر مثل أحاديث: «إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة يبتغون مجالس الذكر ... » (¬1)، «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ... » (¬2). * الرد: 1 - هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله، وهناك فرق كبير بين هذا وذاك فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به، فقد كانوا يجتمعون على الذكر كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: «كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والناس يستمعون، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول لأبى موسى - رضي الله عنه -: ذكِّرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون لقراءته» (¬3)، وليس في الأحاديث أن في مجالس الذكر هذه أن أحد الأشخاص يذكر الله وبقية المجلس يرددون وراءه، وليس فيه أنهم يرددون بصوت جماعي. 2 - ذكر الإمام الشاطبي أن البدعة مضادة للطريقة الشرعية من عدة أوجه، وذكر منها: «التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد» (¬4). رابعاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص112) عن شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم): «قال المروزى: «سألت أبا عبد الله عن القوم يبيتون فيقرأ قاريء ويدعو حتى يصبحوا؟»، قال: «أرجو ألا يكون به بأس» ا. هـ. ثم قال: «وأقول: أليس هذا إقرار (¬5) من الإمام أحمد - رضي الله عنه - بالبدعة الإضافية؟» ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (6408)، والإمام مسلم (2689). (¬2) رواه الإمام مسلم (2699). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 290) (الطبعة القديمة (11/ 533). (¬4) الاعتصام (1/ 44). (¬5) هكذا بالأصل ولعله خطأ طباعي، والصواب: إقراراً.

* الرد: 1 - ليس في هذا إقرار من الإمام أحمد - رضي الله عنه - بالبدعة الإضافية كما ظن الأستاذ محمد حسين حيث قال في (اللمع: ص112): «إنه لم يعُرف عن الصحابة ومعهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم فعلوا ذلك ولكن أصل الذكر والتلاوة والاجتماع مقرر في الشرع، والإضافة الحسنة التي لا تدفع سنة هي مبيتهم معاً طول الليل يقرؤون ويذكرون» ا. هـ. * ونقول: هذه ليست إضافة بل الليل وقت من الأوقات التي يجوز فيها الاجتماع على ذكر الله (ولكن ليس بالكيفية المبتدعة التي يرددون فيها بصوت جماعي) فلو اجتمعوا بالنهار لقال الأستاذ محمد حسين: حددوا وقت النهار. 2 - اشترط الإمام أحمد في الاجتماع على الذكر (وليس الذكر الجماعي): - ألا يكون على عمد. - ألا يتخذ عادة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) قبل ثلاثة أسطر من الموضع الذي نقل منه الأستاذ محمد حسين: «روى أبو بكر الخلال في كتاب الأدب عن إسحاق بن منصور الكوْسَج: أنه قال لأبي عبد الله ـ الإمام أحمد ـ: «يُكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم؟» قال: «ما أكره للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يُكْثِروا»، وقال إسحاق بن راهوية كما قال الإمام أحمد، وإنما معنى: «ألا يكثروا»، ألا يتخذوها عادة حتى يكثروا، هذا كلام إسحاق». ثم قال شيخ الإسلام بعد أسطر: «فقيَّد أحمد الاجتماع بما إذا لم يتخذ عادة» (¬1) ا. هـ. 3 - مرة أخرى نذكّر أنه ليس في هذه النقول عن الإمام أحمد ولا في أحاديث ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص274 - 275).

الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الذين يجتمعون على الذكر يرددون بصوت جماعي وراء شخص معين، أو يرددون بصوت جماعي بدون قائد. خامساً: استدلاله (ص112) بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع من غير أن يُتخذ جماعة عامة متكررة تشبه المشروع من الجمعة والعيدين والصلوات الخمس، فكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء جماعة وفرادا، وتطوع قصد بعض المشاهد ونحو ذلك كله من نوع واحد، يفرق بين الكثير الظاهر منه والقليل الخفي والمعتاد وغير المعتاد وكذلك كل ما كان مشروع الجنس لكن البدعة اتخاذه عادة لازمه حتى يصير كأنه واجب» (¬1)، ثم قال الأستاذ محمد حسين: «أليس ذلك موافقة وإقراراً بالذكر الجماعي وصلاة التطوع جماعة بشرط ألا يعتاد خوف الاعتقاد بأنه لازم وواجب؟». * الرد: كان الأوْلى بالأستاذ محمد حسين أن ينقل كلام شيخ الإسلام قبل الموضع الذي نقل منه بصفحتين حيث قال: « ... وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع، أو استماع قرآن، أو ذكر الله ونحو ذلك إذا كان يفعل ذلك أحياناً، فهذا أحسن فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه صلى التطوع في جماعة أحياناً (¬2) وخرج إلى أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم يستمع (¬3) وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحداً يقرأ وهم يستمعون وقد ورد في القوم الذين يجلسون يتدارسون كتاب الله وسنة رسوله وفي القوم الذين يذكرون الله من الآثار ما هو معروف ... فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرار الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة: فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس، وللجمعة، والعيدين ¬

_ (¬1) اقتصاء الصراط المستقيم (ص277) (لم يذكر الأستاذ محمد حسين المصدر). (¬2) انظر صحيح البخاري (727)، وصحيح مسلم (33، 658 - 660). (¬3) روى الإمام ابن أبي حاتم عن يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري، عن أبيه قال: وكان أبي ممن صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أتاهم في بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قارئاً فقرأ ... »، وقال الشيخ أحمد شاكر: «إسناده صحيح».

والحج وذلك هو المبتدع المحدث» (¬1). * هذا الكلام لشيخ الإسلام مفسر للذي نقله الأستاذ محمد حسين (ص112) وليس فيه ما يدل على الذكر الجماعي حيث إن فيه أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - جلس معهم يستمع والصحابة كان يقرأ منهم واحد والباقون يستمعون، وليس في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم كانوا يقرؤون بصوت واحد أو يقرأ واحد والباقون يرددون وراءه، فأين في كلام شيخ الإسلام الموافقة والإقرار بالذكر الجماعي؟ * توضيح: المشاهد عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية في نفس الكتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) بأنها الأمكنة التي قام فيها الأنبياء أو الصالحون أو أقاموا فيها أو عبدوا الله سبحانه فيها، لكنهم لم يتخذوها مساجد (¬2) (كجبل ثور وجبل أحد وجبل حراء)، وليس المقصود ـ كما يتبادر لذهن بعض الناس ـ الأضرحة والمقامات التي على قبور الصالحين والتي اتخذها الناس مساجد مخالفين قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا فيها وعبدوا الله سبحانه فيها، لكنهم لم يتخذوها مساجد فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين: أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته، وأنه لا يستحب قصْد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصْدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قصَدها للعبادة كما قصَد الصلاة في مقام إبراهيم، وكما كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة (¬4) وكما كان يقصد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص274)، وقد ذكر الأستاذ محمد حسين بعضه (ص114). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص347). (¬3) رواه البخاري (1330). (¬4) رواه الإمام البخاري (502)، الاسطوانة: السارية والغالب أنها تكون من بناء بخلاف العمود فإنه من حجر واحد، ويقال: إنها السارية المتوسطة من الروضة الشريفة.

والقول الثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نُقِل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬1) وإن كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد سلكها اتفاقاً لا قصداً ... »، ثم قال شيخ الإسلام إن عمر - رضي الله عنه - لما رجع من حجته رأي الناس ابتدروا المسجد، فقال: «ما هذا؟» قالوا: «مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً، من عرضت له الصلاة فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض (¬2)»، وفي رواية عنه: أنه رأي الناس يذهبون مذاهب فقال: «أين يذهب هؤلاء؟»، فقيل: «يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهم يصلون فيه»، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها» (¬3)، وروى ابن وضاح وغيره أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بيعة الرضوان؛ لأن الناس كانوا يذهبون تحتها، فخاف عمر عليهم الفتنة (¬4)، ثم قال شيخ الإسلام: «إن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحداً منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزل فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قَصَد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العبادة في مكان كان قَصْد العبادة فيه متابعة له، كقصْد المشاعر والمساجد. وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (483). (¬2) رواه سعيد بن منصور وعبد الرزاق وأشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 708) (حديث 483) أن ذلك ثابت عن عمر. (¬3) صحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في التوسل والوسيلة (ص102). (¬4) أخرجه ابن سعيد في الطبقات الكبرى (2/ 100) وصحح إسناده الحافظ ابن حجر.

يُعلم أنه لم يتحرّ ذلك المكان: فإذا (¬1) تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له؛ فإن الأعمال بالنيات ... فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقاً فهذا لم يُنقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعليّ وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، يذهبون إلى مكة حجاجاً وعماراً ومسافرين، ولم يُنقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا ًلكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته وأتْبع لها من غيرهم، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬2). وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتُدع، وقول الصحابي إذا خالف نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد عن جماهير الصحابة؟ أيضاً فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد، والتشبه بأهل الكتاب مما (¬3) نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد: فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سداً للذريعة، فكيف يستحب قصد الصلاة فيه من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟ ولو ساغ هذا لاستُحب قصْد جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه» (¬4). تنبيه: قال الأستاذ محمد حسين (ص 8): «ما فعله ابن عمر ليس إلا من قِبَل ¬

_ (¬1) في طبعة أخرى: فإنا إذا ... (¬2) سنن أبي داود (4607)، وسنن الترمذي (2676)، وسنن ابن ماجه (42)، والمسند (17076)، وصححه الشيخ الألباني وروى الإمام مسلم (867) لفظة: كل بدعة ضلالة. (¬3) هكذا بالأصل ولعل الصواب: فيما. (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم (347 - 352) بتصرف.

التبرك بالآثار، وليس على سبيل العمل بالسنة المتبعة». الرد: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا من ابن عمر تحرٍّ لمثل فعله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها (¬1). * تنبيه هام: الأذكار والأوراد الثابتة في النصوص توقيفية: عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: «اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيّك الذي أرسلت»، فإن مُتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به»، قال: فرددتهُا على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلما بلغتُ «آمنت بكتابك الذي أنزلت» قلتُ: «ورسولك»! قال: «لا، ونبيّك الذي أرسلت» رواه البخاري ومسلم، قال الحافظ ابن حجر: «ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب» (¬2). قال الشيخ الألباني: «فيه ـ أي في هذا الحديث ـ تنبيه قوي على أن الأوراد والأذكار توقيفية وأنه لا يجوز التصرف فيها بزيادة أو نقص، ولو بتغيير لفظ لا يفسد المعنا، فإن لفظ «الرسول» أعم من لفظة «النبي» ومع ذلك رده النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع أن البراء - رضي الله عنه - قاله سهواً لم يتعمده! فأين منه أولئك المبتدعة الذين لا يتحرجون من أي زيادة في الذكر أو نقص منه؟» (¬3) وقال الإمام النووي: « ... واختار المازري أن سبب الإنكار أن هذا ذكر ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 330). (¬2) فتح الباري شرح حديث (247). (¬3) صحيح الترغيب والترهيب، التعليق على حديث رقم (602).

ودعاء، فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه» (¬1). * وبعد هذا الرد تتضح مخالفات الإخوان المسلمين في الذكر: 1 - الذكر الجماعي حيث يجتمعون أحياناً ويقول أحدهم أذكار الصباح أو المساء ويردد الآخرون خلفه في صوت واحد. 2 - في رسالة (المأثورات) للشيخ حسن البنا - رحمه الله - تخصيص بعض الأذكار بالصباح والمساء رغم أن ذلك لم يَرِد عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل الفاتحة، والكافرون، والزلزلة، والنصر ... إلخ (¬2) 3 - الاعتماد في بعض الأذكار على الأحاديث الضعيفة. 4 - تحديد أذكار معينة بأعداد محددة في أوقات محددة لم يرد في الشرع تحديدها بهذه الكيفية مثل ورد الدعاء (¬3). 5 - ورد الرابطة ووقته ساعة الغروب تماماً من كل ليلة، وفيه: «ثم يستحضر صورة من يعرف من إخوانه في ذهنه ويستشعر الصلة الروحية بينه وبين من لم يعرفه منهم ثم يدعو لهم بمثل هذا الدعاء: «اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك ... فوثق اللهم رابطتها ... إلخ» (¬4) وتحديد هذا الوقت بمثل هذا الدعاء وبهذه الكيفية من استحضار صورة الناس في ذهنه لم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع. ولو كان خيراً لسبقنا إليه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -. والدعاء عبادة، وألفاظ الأذكار توقيفية، فهذه المخالفات تُعدّ من البدع الإضافية. ¬

_ (¬1) شرح صحيح الإمام مسلم (حديث 2710). (¬2) مجموعة الرسائل (ص343 - 352). (¬3) انظر صفته في مجموعة الرسائل (ص377)، وراجع كلام شيخ الإسلام في الرد على الشبهة رقم 5. (¬4) انظر صفته في مجموعة الرسائل (377 - 378).

ثانيا: صلاة النافلة مطلقا جماعة وفي المساجد

ثانياً: صلاة النافلة مطلقاً جماعة وفي المساجد استدل الأستاذ محمد حسين (ص22) بفعل عمر - رضي الله عنه - بإحياء سنة التراويح ـ وهو خليفة راشد أُمِرنا باتباع سنته ـ استدل على أن صلاة النافلة مطلقا وفي المساجد متفق عليها وليست من البدع المحدثة. * الرد: 1 - يرد الأستاذ محمد حسين على نفسه حيث اشترط (ص112) ألا يُعتاد خوف الاعتقاد بأنه لازم وواجب، ونقل (ص114) كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: أن الاجتماع لصلاة، أو استماع قرآن أو ذكر، ونحو ذلك إذا كان يفعل ذلك أحياناً فهذا أحسن (¬1). 2 - ما ذهب إليه الأستاذ محمد حسين إنما هو نتيجة لاستدلاله بالعمومات دون النظر إلى بيان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بفعله وتركه، ويدل على ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قال بعد هذا الكلام الذي نقله الأستاذ محمد حسين (ص114): «فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة: فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات، وللجمعة وللعيدين والحج، وذلك هو المبتدع المحدث» (¬2). 3 - قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «روى ابن وهب عن مالك أنه لا بأس أن يؤم النفر في النافلة، فأما أن يكون مشتهراً ويجمع له الناس فلا» (¬3). 4 - قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - بعد أن تحدث عن فضل صلاة النافلة في البيوت: ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص274). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص274). (¬3) فتح الباري شرح البخاري، باب صلاة النوافل جماعة (حديث 1186).

« ... ومع ذلك فلم يَثْبُت فيها إذا عُمِل بها في البيوت دائماً أن تقام جماعة في المساجد البتة ـ وما عدا رمضان ـ ولا في البيوت دائما، وإن وقع ذلك في الزمان الأول في الفرط كقيام ابن عباس - رضي الله عنهما - مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما بات عند خالته ميمونة (¬1)، وما ثبت من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قوموا فلْأُصل لكم» (¬2) ... فمن فعله في بيته وقتاً ما فلا حرج، ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور ... فإذا اجتمع في النافلة أن تُلتَزَم التزام السنن الرواتب إما دائما وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع، والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا عن أصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعاً، وإن أتى مطلقاً من غير تلك التقييدات فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها: رأي في التشريع، فكيف إذا عارضه الدليل، وهوالأمر بإخفاء النوافل مثلاً» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (6316)، الإمام ومسلم (763). (¬2) رواه الإمام البخاري (380)، الإمام مسلم (658). (¬3) الاعتصام (1/ 330 - 331).

ثالثا: إحياء عشر ذي الحجة جماعة في المساجد

ثالثاً: إحياء عشر ذي الحجة جماعة في المساجد أولاً: استدل الأستاذ محمد حسين على ذلك (ص113) بالتعريف بالأمصار وهو قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر، وذكر أنّ العلماء اختلفوا فيه، ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين، ورخص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبه، هذا هو المشهور عنه وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم، ومن كرهه قال: «هو من البدع»، ومن رخص فيه قال: «فعله ابن عباس - رضي الله عنهما - بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولم ينكر عليه، وما يفعله في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة» (¬1). * الرد: 1 - ذكر الأستاذ محمد حسين (ص113) أن الذي كان يفعله ابن عباس في مسجد البصرة بالعراق عشية عرفة هو قراءة سورة البقرة يفّسرها آية آية، والفرق كبير بين تفسير القرآن عشية عرفة (فقط) وإحياء العشر جماعة في المساجد (العشر وليس عشية عرفة فقط). 2 - هذا الذي استدل به ـ الأصل الذي بنى عليه رغم أنه ليس له فيه دليل ـ اختلف فيه العلماء فمنهم من قال إنه بدعة. ثانياً: نقل (ص114) عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «أن الاجتماع لصلاة تطوع أو استماع قرآن، أو ذكر الله ونحو ذلك إذا كان يفعل ذلك أحياناً فهذا أحسن، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه صلى التطوع في جماعة أحياناً ... » ثم ذكر بعض الأحاديث ¬

_ (¬1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (ص280).

التي ترغب في الاجتماع على الذكر ثم قال الأستاذ محمد حسين: «انتهى كلام ابن تيمية - رحمه الله -». * الرد: 1 - لم ينته كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان على الأستاذ محمد حسين ـ من باب الأمانة العلمية ـ أن ينقل باقي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وها هو بنَصِّه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس وللجمعة والعيدين والحج، وذلك هو المبتدع المحدث». (¬1) ونسأل الأستاذ محمد حسين: أليس إحياء العشر جماعة في المساجد اجتماعاً راتباً يتكرر بتكرر الأعوام؟ أليس يضاهي صلاة التراويح؟ أليس يضاهي الاجتماعات المشروعة للصلوات الخمس وللجمعة والعيدين والحج؟ أليس ذلك هو المبتدع المحدث؟ 2 - راجع كلام الإمام الشاطبي الذي سبق في الرد على البدعة الثانية حيث قال: «إن صلاة النافلة لم يثبت فيها أن تقام جماعة في المساجد البتة ما عدا رمضان». ثالثاً: استدل (ص114) بقول الحكم وحماد عن اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد: «هو محدث». * الرد: هذا استدلال عجيب حيث إنه إنكار لاجتماع الناس يوم عرفة في المساجد وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. فكيف يستدل به على أنهم سكتوا عن الإنكار. أما قوله (ص113): «كل ما فعلوه أنهم لم يشاركوهم في ذلك وكرهوه» فيرده ما نقله عن الحكم وحماد حيث قالوا: «هو محدث». ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص274).

* لم ينقل الأستاذ محمد حسين أن أحدًا من العلماء أجاز إحياء العشر جماعة في المسجد فهو قول شاذ محدث؛ حيث إنه أول من قال بهذا القول فيما نعلم، فمن أين له هذا القول؟ ولو كان خيراً لسبقنا إليه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - حيث إن فضل هذه الأيام معلوم منذ زمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومع ذلك فقد تركه - صلى الله عليه وآله وسلم - مع وجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فهذا الترك دليل على أنه بدعة. * تنبيه: ثبت فضل العمل الصالح في أيام العشر من ذى الحجة من صيام وصدقة وصلاة وذكر وتكبير وقراءة قرآن، وصلة أرحام وغير ذلك، انظر: البخاري (969)، سنن أبى داود (2438)، وهذا يختلف عن بدعة إحياء العشر جماعة في المسجد.

رابعا: الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

رابعاً: الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - * قواعد: 1 - لا يجوز الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين (¬1)، ويرجع ذلك ـ كما يقول الشيخ رشيد رضا ـ إلى ذلك الاجتماع المخصوص بتلك الهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص وإلى اعتبار ذلك العمل من شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص شرعي بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنة أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعاً، وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه تُعَد مِن شرْع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم (¬2). 2 - بدعة المولد النبوي حدثت بعد القرون الثلاثة المفضلة، نقل ذلك أيضاً الأستاذ محمد حسين (ص102) عن الحافظ ابن حجر، و (ص104) عن الحافظ السخاوي. 3 - أول من أحدث بدعة المولد هو الحاكم العبيدي الملقب بالمعز لدين الله في القرن الرابع الهجري، ومعلوم ما يكنه العبيديون لأهل الإسلام من كراهية وحقد، وما يبطنونه من عقائد فاسدة يسترونها بإظهار محبة آل البيت والولاء لهم. 4 - الاحتفال بالمولد مخالف لأمر الله ـ تعالى ـ بطاعة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومخالف لأمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وفيه وقوع في المحدثات التي حذر منها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبيّنَ أنها طريق إلى النار. 5 - الاحتفال بالمولد فيه مشابهة للنصارى في احتفالهم بميلاد المسيح - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 18). (¬2) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاري (ص113) وعزاه لفتاوى رشيد رضا الجزء الخامس.

الرد على الشبهات التي تعلق بها الأستاذ محمد حسين في أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة أولاً: نقل (ص102، 103، 105) عن بعض العلماء أن الاحتفال بالمولد بدعة حسنة، ونقل (ص103) عن السبكي أنه من البدع الحسنة إذا خلا عن المنكرات شرعاً. * الرد: 1 - من المعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى وقرر بأن كل بدعة ضلالة، ولم يرِدْ نَصّ من كتاب أو سنة يمكن أن يُستَنَد إليه في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، وقد سبق توضيح ذلك بالتفصيل. 2 - الاحتفال نفسه من المنكرات شرعاً لأنه بدعة وكل بدعة ضلالة. ثانياً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص102) عن الحافظ ابن حجر العسقلانى تخريج الاحتفال بالمولد على صيام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم عاشوراء حيث إن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم فقالوا: «هذا يوم أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه موسى فنحن نصومُه شكراً لله تعالا»، فقال: «أنا أحقُّ بموسى منكم فَصامَه وأمَرَ بصيامِه» فيستفاد من فعل ذلك شكراً لله تعالى على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر يحصل بأنواع العبادات والسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي الكريم نبي الرحمة في ذلك اليوم. * الرد: 1 - تخريج الحافظ ابن حجر عمل المولد على صيام عاشوراء لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه بأن ذلك بدعة لم تُنقل عن أحد من السلف من القرون الثلاثة ـ كما نقل

ذلك الأستاذ محمد حسين (ص 102) ـ فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه مَنْ بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحاً، إذ لو كان صحيحاً لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهمه من بعدهم، كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلاً عليه إذ لو كان دليلاً لعمل به السلف الصالح، فاستنباط الحافظ ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي ـ ما دام الأمر كذلك ـ من حديث صوم يوم عاشوراء أو من أي نص آخر، مخالف لما أجمع عليه السلف الصالح من ناحية فهمه ومن ناحية العمل به، وما خالف إجماعهم فهو خطأ، لأنهم لا يجتمعون إلا على هدا، وقد بسط الإمام الشاطبي الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتابه (الموافقات) وأتى في كلامه بما لا شك في أن الحافظ ابن حجر العسقلانى لو تنبه له لما خرّج عمل المولد على حديث صوم يوم عاشوراء ما دام السلف لم يفهموا تخريجه عليه منه ولم يعملوا به على ذلك الوجه الذي فهمه منه (¬1). 2 - حديث صوم يوم عاشوراء لنجاة موسى - عليه السلام - فيه وإغراق فرعون فيه ليس فيه سوى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صامه وأمر بصيامه (¬2). 3 - الشرط الذي شرطه الحافظ ابن حجر للاحتفال بالمولد النبوى وهو تحري ذلك اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى - عليه السلام - لا سبيل إليه (¬3)، حيث إن يوم عاشوراء يوم محدد معروف أما يوم ميلاد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فغير محدد حيث اختلف العلماء في تعيينه على أقوال كثيرة. 4 - نقل الأستاذ محمد حسين (ص103) أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يزِدْ فيه على غيره من الشهور شيئاً من العبادات، فهل نحن أعلم وأحرص على الدين من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه؟ وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. ¬

_ (¬1) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل (ص78 - 79). (¬2) القول الفصل (ص80). (¬3) القول الفصل (ص80).

ونُذَكّر هنا بما نقله الأستاذ محمد حسين (ص108) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - علماً أو إنكم لتمسكون بذَنَبِ ضلالة». ثالثاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص103) قول الإمام السيوطى إن الاحتفال بالمولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف. * الرد: 1 - ما الدليل على أن الاحتفال بالمولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها؟ وما هو مقدار هذا الثواب؟ وهل نحن أحرص من الصحابة والتابعين على هذا الثواب؟ وهل نحن أكثر تعظيماً لقدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم؟ فهم لم يحتفلوا، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. 2 - تعظيم قدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون باتباع هديه وليس باختراع عبادات لم يشرعها فإن ذلك فيه اتهام له بأنه قصَّر في تبليغ الرسالة أو أن الرسالة لم تكتمل، وإذا كان الصحابة لم يفعلوا المولد فهل معنى ذلك أنهم كانوا لا يعظمون قدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ 3 - قال ابن الحاج: توفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الاثنين 12ربيع الأول سنة 11هجرية (¬1) في نفس الشهر الذي ولد فيه فكيف يحتفلون ويأكلون ويشربون، ولا يبكون ولا يحزنون من أجل فَقْد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك اليوم، مع أنهم لو فعلوا ذلك والتزموه لكان بدعة أيضاً، وإن كان الحزن عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - واجباً على كل مسلم دائماً لكن لا يكون على سبيل الاجتماع لذلك (¬2). رابعاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص103 - 104) عن ابن الحاج في المدخل أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أشار إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم (ص554) وانظر البداية والنهاية (3/ 323 - 325) حيث ذكر الحافظ ابن كثير أن هذا هو المشهور. (¬2) القول الفصل (ص62) عن المدخل لابن الحاج (ج2 ص 16 - 17) بتصرف.

الاثنين: «ذاك يوم وُلِدتُ فيه» رواه مسلم، فتشريف هذا اليوم متضمن تشريف هذا الشهر الذي ولد فيه، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ولد فيه؟ * الرد: 1 - كلام ابن الحاج عن صيام يوم الاثنين وليس إقراراً للمولد ولكن الأستاذ محمد حسين لم ينقل الكلام كاملاً؛ فابن الحاج له كلام شديد في الإنكار على بدعة المولد فراجع ما نقلناه عنه قبل أسطر، وقال أيضاً بعد أن ذكر المفاسد المترتبة على عمله ما نصه: «فإن خلا ـ أي عمل المولد النبوى ـ منه ـ أي من السماع ـ وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان وسَلِم من كل ما تقدم ذكره ـ أي من المفاسد ـ فهو بدعة بنفس نيته فقط إذ إن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل الماضين، واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعظيماً له ولسنته ... ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم» (¬1). 2 - صوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الاثنين ليس دليلاً على بدعة الاحتفال بالمولد فقد سُئِل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بُعِثْتُ، أو أُنزِلَ عليَّ فيه» (¬2)، فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يصوم ذلك اليوم من كل أسبوع وعلى طول الشهر، وعلى مدى العام كله، ولم يكن ذلك مرة واحدة في العام، فأين هذا مما يفعله المسلمون اليوم؟ ولو كان احتفالاً كما يزعم الزاعمون لاختلفت الكيفية، كأن يجتمع الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويتسابقون في إلقاء الخطب والأناشيد كما هو حال الكثير من المسلمين اليوم، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. خامساً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص103) عن الإمام السيوطى أن النبي ¬

_ (¬1) القول الفصل (ص57) عن المدخل (2/ 11 - 12). (¬2) رواه الإمام مسلم (1162).

- صلى الله عليه وآله وسلم - عقّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن هذا فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - إظهاراً للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين، فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات. * الرد: 1 - ما روى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عق عن نفسه غير صحيح ولم يثبت، فقد ضعفه الأئمة مالك، وأحمد بن حنبل، والبزار، والبيهقي ـ الذي نقل عنه السيوطي هذا الحديث ـ، والنووي، والحافظ المزي والحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر (¬1). 2 - لو ثبت هذا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان هذا الحكم يخصه بل لاستُحِبَّ لكل مسلم أن يعق عن نفسه شكراً لله على نعمة الخلق والإيجاد، حتى ولو لم يكن المخلوق نبياً. 3 - على فرض صحة الحديث ـ رغم وضوح ضعفه ـ فإنه لا يزيد أن يكون مثل حديث صيام يوم الاثنين وقد سبق الرد عليه. سادساً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص105) أن وجود الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب النجاة لمن اتبعه، وتقليل حظ جهنم لمن أُعدّ لها، لفرحه بولادته - صلى الله عليه وآله وسلم -، فمن المناسب إظهار السرور. * الرد: 1 - اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب النجاة وليس ابتداع أعياد ما أنزل الله بها من سلطان. 2 - يشير بقوله: «تقليل حظ جهنم لمن أعد لها لفرحه بولادته - صلى الله عليه وآله وسلم -» إلى قول عروة ابن الزبير: « ... وثويبة مولاة لأبى لهب وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما مات أبو لهب أُريه بعض أهله بشرّ حِيبَة (أي سوء حال)، قال له: «ماذا ¬

_ (¬1) راجع نص كلامهم في القول الفصل (ص80 - 84).

لقيتَ؟» قال أبو لهب: «لم ألق بعدكم غير أني سُقِيَتْ فيَّ هذه بعتاقتى ثويبة». - هذا الخبر رواه البخاري (5101)، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به» (والمقصود الجزء الذي ذكرناه، أما المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي لم نذكره فلا). - ذلك الخبر لو كان موصولاً لا حجة فيه لأنه رؤيا منام فلا حجة فيه كما قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري). - ما في مرسل عروة هذا من أن إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبى لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (¬1). 3 - نُذكّر الأستاذ محمد حسين بقول شيخه الشيخ حسن البنا - رحمه الله - حيث قال: «الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية» (¬2). سادساً: نقل (ص16) عن الحافظ ابن كثير أن أول من أحدث ذلك من الملوك صاحب إربل، وكان شهماً شجاعاً عاقلاً عادلاً. * الرد: البدعة في الدين لا تقبل من أي أحد كان، وعدالته لا توجب عصمته (¬3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك ليس يصلح أن يكون معارضاً لكلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يعارض به» (¬4). وأبو بكر ومَن بعده من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - سنتهم أولى بالاتباع من صاحب إربل. ¬

_ (¬1) القول الفصل (ص84 - 87) وانظر فتح الباري حديث (5101). (¬2) مجموعة الرسائل (ص268). (¬3) القول الفصل (ص87 - 88) عن رسالة للشيخ محمد بن إبراهيم في حكم الاحتفال بالمولد النبوى (ص77). (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم (ص245).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام -، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتعظيماً، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد ــ لا على البدع ــ من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيراً، ولو كان هذا خيراً محضا، أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حُرَّاصاً على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حُسن القصد، والاجتهاد الذي يُرجَى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أُمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد، ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها» (¬1). قال الشيخ عطية سالم في تفسير سورة الإنسان من (تتمة أضواء البيان): «من المسلمين من يقول: نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ولا طريقاً سلفياً ولا عمل القرون المشهود لها بالخير، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة والذكريات بالذكرا، لنجمع شباب المسلمين على سيرة سيد المرسلين. وهنا يمكن أن يقال: إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وآله وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين، مع كل ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم ص404 - 405.

أذان على كل منارة من كل مسجد، وفي كل إقامة لأداء صلاة، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهراً وسراً، جهراً يملأ الأفق، وسراً يملأ القلب والحس. ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة في المأكل باليمين، لأنه السنة، وفي الملبس في التيامن لأنه السنة، وفي المضجع على الشق الأيمن لأنه السنة، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإن كان المراد التعبير عن المحبة، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين» (¬1) فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب، وفعل ما يحبه وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه. وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة. فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور. ومع ذلك، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية». ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (15).

خامسا: احتفال الشخص بعيد ميلاده أو عيد ميلاد أولاده

خامساً: احتفال الشخص بعيد ميلاده أو عيد ميلاد أولاده * قواعد: 1 - الأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بما لم يشرعه الله، وأعياد الموالد نوع من العبادات المحدثة في دين الله فلا يجوز عملها لأي أحد من الناس مهما كان مقامه أو دوره في الحياة فأكرم الخلق وأفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُحفظ عنه أنه أقام لمولده عيداً ولا أرشد إليه أمته، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها خلفاؤها وأصحابه - رضي الله عنهم - ولم يُحفظ عنهم أنهم أقاموا عيداً لمولده أو لمولد أحدٍ منهم رضوان الله عليهم، والخير في اتباع هديهم وما استقوه من مدرسة نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم -، يضاف إلى ذلك ما في هذه البدعة من التشبه باليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة فيما أحدثوه من الأعياد (¬1). 2 - قال الشيخ ابن عثيمين عن الاحتفال بعيد الميلاد للأطفال: «كل شيء يتخذ عيداً يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعاً، فهو من البدع، والدليل على ذلك أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئاً بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوه بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحا، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة» (¬2). * وقال أيضاً: «ليس هذا من باب العادات، لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة فوجد للأنصار يومين يلعبون فيهما فقال: «ما هذان اليومان؟» قالوا: ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 83 - 84). (¬2) لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده» رواه الإمام أحمد في المسند (8012) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.

«كنا نلعب فيهما في الجاهلية»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يومَ الأضحى ويومَ الفطر» (¬1) مع أن هذا من الأمور العادية عندهم» (¬2). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: قال (ص43): «عادة الاحتفال بيوم الولادة للشخص أو للولد يفعلها الناس عادة وليست من أمور الدين». الرد: اعتبارها كل عام في نفس اليوم يجعلها عيداً والأعياد من شعائر الدين وإحداث هذا اليوم إحداث لعيد جديد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع» (¬3)، وقال أيضاً: «العيد اسم لما يعاد من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد: إما بِعَوْد السنة، أو بعود الأسبوع أو الشهر، أو نحو ذلك فالعيد يجمع أموراً منها: يوم عائد كيوم الفطر، ويوم الجمعة، ومنها: اجتماع فيه، ومنها: أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً. فالزمان كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليوم الجمعة: «إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً» (¬4)، والاجتماع والأعمال: كقول ابن عباس: «شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬5)، والمكان كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تتخذوا قبرى عيداً» (¬6)، وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب، كقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (1134) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 302 - 303). (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم (ص266). (¬4) رواه الإمام ابن ماجه (1097) بلفظ: «إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين» وحسنه الشيخ الألباني. (¬5) رواه الإمامان البخاري (962)، ومسلم (884). (¬6) رواه الإمام أبو داود (2042) بلفظ: لا تجعلوا قبرى عيداً. وصححه الشيخ الألباني.

عيداً وإن هذا عيدنا»» (¬1). * فالعيد يطلق على: - زمان العيد. - مكان العيد. - الاجتماع والأعمال من العبادات أو العادات. - مجموع اليوم والعمل فيه. * وعندما نطبق كلام شيخ الإسلام على الاحتفال بأعياد الميلاد نجدها عيداً وليست عادة فقط فهو: 1 - يوم عائد بِعَوْدِ السنة (يتكرر كل سنة). 2 - يحدث فيه اجتماع للأهل والأقارب والأصدقاء وغيرهم. 3 - يحدث فيه أعمال مثل إيقاد الشموع وتناول الطعام والشراب. فالاحتفال بهذا الشكل يجعله عيداً يتكرر كل سنة على وجه مخصوص وهو بهذه الكيفية عيد مبتدع لم يكن عليه عمل السلف الصالح. وفي الاحتفال بأعياد الميلاد مخالفة أخرى وهي التشبه بالكفار، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬2)، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: «يا رسول الله، اليهود والنصارا؟» قال: «فمن؟» (¬3) ثانياً: قول الأستاذ محمد حسين (ص43): «إن ذلك مثل سائر أمور الدنيا ليس فيها تشبه بالكفار ولكن فيها ما يراه كل أحد ومصلحته». ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص169) والحديث رواه الإمام مسلم (892)، البخاري (952) دون لفظ: «دعهما يا أبا بكر». (¬2) رواه الإمام أبو داود (4031) وقال الشيخ الألباني حسن صحيح. (¬3) رواه الإمام البخاري (7320)، فمن؟: فمن غير أولئك؟

الرد: بل فيه تشبه بالكفار حيث إن هذه البدعة لم يكن المسلمون يعرفونها، وانتقلت إليهم عن الكفار، وهذه ليست كالأمور العادية من الاختراعات والمأكولات التي لا تخالف شرع الله، فتكرارها كل عام في نفس اليوم يجعلها عيداً من أعياد الكفار، وليس للمسلمين التشبه بهم في أعيادهم وإن لم تكن أعياداً دينية. ثالثاً: قول الأستاذ محمد حسين (ص43): «من قال: إن هذا الحفل عيد؟!! وهل عيد المسلمين يعتاده كل شخص على حدة؟ بل كل المسلمين يعلمون أن عيدَاْ المسلمين هما عيد الفطر والأضحى وأنهما دين، أما هذا فهو حفل». الرد: 1 - كل الناس يسمونه عيداً، فيقولون عيد ميلاد فلان. 2 - أما قوله: «وهل عيد المسلمين يعتاده كل شخص على حدة؟» فالرد عليه أن هذا الشخص لا يعتاده وحده بل يكون معه أصحابه والجيران وغيرهم، ولنفترض أن شخصاً حدد يوماً يتكرر بتكرار السنين واحتفل فيه وحده فهو بدعة لتخصيصه هذا اليوم بعادات معينة وليس أدل على ذلك من إنكار الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على الأنصار لعبهم في يومين من أيام الجاهلية، ولم يكونوا يحتفلون بهما على أنهما عبادة. 3 - أما قوله: «بل كل المسلمين يعلمون أن عيدَيْ المسلمين هما عيد الفطر والأضحا، وأنهما دين»، فالرد عليه بأن تخصيص هذا اليوم يجعله كعيد الفطر والأضحى كما سبق في تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية. 4 - أما قوله: «أما هذا فحفل» فنقول: هذا عيد يتكرر كل سنة وكل الناس تسميه عيداً أما الأستاذ محمد حسين فيسميه حفلاً، ولنفترض أنه حفل فهل الحفل يتكرر كل سنة في يوم معين لا يتقدم عنه ولا يتأخر؟

سادسا: الاحتفال بعيد الأم

سادساً: الاحتفال بعيد الأم لا يجوز الاحتفال بما يسمى بعيد الأم ولا نحوه من الأعياد المبتدعة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1)، وليس الاحتفال بعيد الأم من عمله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا من عمل أصحابه - رضي الله عنهم -، ولا من عمل سلف الأمة، وإنما هو بدعة وتشبه بالكفار (¬2). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: قوله (ص44) إن عادة الاحتفال بعيد الأم عادة ليست حسنة وإن لم تكن بدعة ضلالة. * الرد: 1 - هذا الاحتفال ليس عادة بل تكراره كل عام في يوم محدد تقليداً للكفار في هذا الأمر يجعله شبيهاً بأعياد المسلمين ويجعله من البدع التي لا يجوز الاحتفال بها. 2 - ذكر الأستاذ محمد حسين (ص44 - 45) بعض مفاسد هذه البدعة ومنها قوله: «فلسنا في حاجة مثل اعتياد الغرب غير المسلمين أن يجعلوا يوماً واحداً كل عام لرعاية الأم ودون الأب ... »، ونقول: - الأستاذ محمد حسين يعترف أن هذه البدعة مأخوذة من الغرب ويحتفلون بها كل عام في يوم محدد، ورغم ذلك يقول عنها: إنها عادة ليست حسنة وإن لم تكن بدعة ضلالة. - هذه المفاسد ليست أسباباً لكي نعتبرها عادة ليست حسنة ـ كما ذكر هو ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (2697)، الإمام مسلم (1718/ 17). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 86).

ص 44 ـ بل هي نتائج لبدعة تخالف شرع الله - عز وجل - وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. ثانياً: ذكر الأستاذ محمد حسين (ص45) أن الدوام على هذا الاحتفال كل عام قد يؤدى إلى اعتقاد أنها قربة من القربات وأن هذا واجب دينا، وعند ذلك تصبح بدعة في الدين، فتدخل في باب سد الذرائع. الرد: الدوام على الاحتفال كل عام في ذاته بدعة وإن لم يقصد القربة لأن فيه تشبهاً بالكفار وابتداعاً في الدين ما ليس منه، فالإسلام أمر ببر الوالدين ـ وهذا البر عبادة ـ وتحديد يوم معين لهذا البر بكيفية معينة هو تخصيص لعبادة بكيفية معينة في يوم معين. سؤال: لو أن الكفار جعلوا يوماً للأب ويوماً للأم ويوماً للأخ ويوماً للأخت، وهكذا وقلدهم المسلمون في ذلك، هل سيظل الأستاذ محمد حسين على رأيه أن تلك الأشياء عادة ليست حسنة؟!!!

سابعا: الاحتفال بعيد شم النسيم

سابعاً: الاحتفال بعيد شم النسيم وهو ما يسمى زوراً في مصر بعيد الربيع، وهو عادة ابتدعها أهل الأوثان لتقديس بعض الأيام تفاؤلاً به أو تزلفاً لما كانوا يعبدون من دون الله (¬1) وهو معدود في أعياد الفراعنة، وقيل أحدثه الأقباط، ولا مانع أنه لكليهما، وأنه انتقل من أولئك إلى هؤلاء، ولازال الأقباط يحتفلون به ويشاركهم فيه كثير من المسلمين، وفي الآونة الأخيرة أصبح عيداً رسمياً إحياءً لتراث الفراعنة (¬2). * قال الشيخ على محفوظ: «مما ابتلى به المسلمون وفشا بين العامة والخاصة مشاركة أهل الكتاب من اليهود والنصارى في كثير من مواسمهم ... فانظر ما يقع من الناس اليوم من العناية بأعيادهم وعاداتهم، فتراهم يتركون أعمالهم ـ من الصناعات والتجارات والاشتغال بالعلم ـ في تلك المواسم، ويتخذونها أيام فرح وراحة يوسعون فيها على أهليهم، ويلبسون أجمل الثياب ويصبغون فيها البيض لأولادهم كما يصنع أهل الكتاب من اليهود والنصارا، فهذا وما شاكله مصداق قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح: «لَتَتَّبِعُنَّ سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب لتبعتموهم»، قلنا: «يا رسول الله، اليهود والنصارا؟»، قال: «فمن غيرهم؟!» رواه البخاري، وناهيك ما يكون من الناس من البدع والمنكرات والخروج عن حدود الدين والأدب في يوم شم النسيم» (¬3). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: يقول الأستاذ محمد حسين (ص45 - 46): «هناك موروث من طقوس ¬

_ (¬1) الإبداع (275). (¬2) أعياد الكفار وموقف المسلم منها (ص21) بتصرف. (¬3) الإبداع في مضار الابتداع (ص275).

الفراعنة لا يزال بين المصريين من مسلمين ونصارا، منها الاحتفال بيوم إله الحياة والمسمى عند العامة بشم النسيم، حيث يكون من مراسمه إنبات الحلبة والترمس وغيرها مما يكون فيه مظاهر بدء الحياة في النباتات، ومثله تلوين البيض رمز بدء الحياة في الحيوانات، ومثله أكل الفسيخ والأسماك رمز الحياة في الأسماك، وبرغم أن الذين يحتفلون بهذا اليوم لا يتقربون بذلك إلى الله ولا يعتبرونه قربة ولا عبادة سواء المسلمين أو النصارا، فإن الاحتفال به كموروث ديني وثني يجعل في الاحتفال شبهة البدعة المذمومة، فيجب التحرز من الاحتفال به والمشاركة فيه، إلا أن ينتفع بيوم الأجازة فيه للفسح والتنزه الخالي من المظاهر المورثة». التعليق: 1 - كنا نتوقع من الأستاذ محمد حسين بعد أن ذكر أن لذلك الاحتفال أصلاً من دين الفراعنة أن يقول الاحتفال به بدعة مذمومة، ولكنه قال إن فيه شبهة البدعة المذمومة!!! رغم وضوح أن فيه تشبها بالفراعنة فيما هو من خصائص دينهم، فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬1)، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن مشابهة الأمم الكافرة في أعيادهم من الأمور المحرمة (¬2) والتشبه بالكفار في الشرع هو: مشاكلة الكافرين في عقائدهم، أو عباداتهم أو عاداتهم، أو أخلاقهم وسلوكياتهم التي هي من خصائصهم، سواء قصد التشبه بهم أم لم يقصد، ما دام يعلم أن ذلك من خصائصهم (¬3). ثانياً: قوله (ص46) إن الذين يحتفلون بهذا اليوم لا يتقربون بذلك إلى الله ولا يعتبرونه قربة وعبادة سواء المسلمون والنصارا. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (4031) وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. (¬2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (ص17). (¬3) أعياد الكفار (ص63).

الرد: 1 - لا يشترط لكون الفعل تشبهاً بالكفار أن يقصد به القربة والعبادة فلو أن مسلماً لبس صليب النصارى ولم يقصد العبادة والقربة فهل يقول الأستاذ محمد حسين إن ذلك جائز مع أنه شعار النصارى ودليل على أن لابسه راضٍ بانتسابه إليهم، والرضا بما هم عليه كفر (¬1)؟ فكذلك الاحتفال بأعيادهم محرم ولا يشترط فيه قصد القربة والعبادة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار، كما يرخص في أعياد المسلمين ... فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين ... ومن المعلوم أن هؤلاء ـ أي اليهود والنصارى والفرس ـ كانت لهم أعياد يتخذونها، ومن المعلوم أيضاً أن المقتضي لما يُفعل في العيد: من الأكل والشرب، واللباس والزينة، واللعب والراحة ونحو ذلك، قائم في النفوس كلها إذا لم يوجد مانع خصوصاً نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس. ثم من كان له خبرة بالسِّيَر عَلِم يقيناً أن المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين، بل ذلك اليوم عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يختصونه بشيء أصلاً إلا ما قد اختُلف فيه من مخالفتهم فيه، كصومه» (¬2). 2 - هذا اليوم مرتبط بأعياد النصارى بدليل أنه ليس له يوم محدد في السنة بالتقويم الميلادا، فشم النسيم هو اليوم التالى لعيد القيامة ـ يوم الأحد ـ ويسبق هذا العيد سبت النور ويسبقه الجمعة الحزينة، فيوم شم النسيم ليس مرتبطاً فقط بأعياد الفراعنة بل له علاقة بأعياد النصارى ورغم ذلك يقول الأستاذ محمد حسين: «في الاحتفال به شبهة البدعة المذمومة». ¬

_ (¬1) انظر فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 119). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (174 - 174) بتصرف.

3 - لو أن إخواننا المسلمين في فلسطين المحتلة احتفلوا كل عام يوم (15أبريل) بعيد الفصح (عيد اليهود) ولم يتقربوا إلى الله بذلك ولم يعتبروه قربة وعبادة فهل هذا الاحتفال بدعة ومحرم كما يقول علماء الإسلام أم أنه فيه شبهة البدعة كما يقول الأستاذ محمد حسين؟ فكذلك الاحتفال بشم النسيم. 4 - قال الأستاذ محمد حسين (ص46): «عمل سنوية أو أربعين أو عمل خميس أول للميت من موروثات الوثنية الفرعونية ... بدع مذمومة يجب القضاء عليها بنشر تعاليم الدين الحنيف»، ونسأله: ما الفرق بين ذلك وبين الاحتفال بشم النسيم؟ فالأعياد عبادة والجنائز عبادة. ثالثاً: قوله (ص46) إنه «يجب التحرز من الاحتفال به والمشاركة فيه، إلا أن يُنتفَع بيوم الأجازة (يقصد: العطلة) فيه للفسح والتنزه الخالي من المظاهر الموروثة». الرد: 1 - كيف يُنتفَع بيوم العطلة (الأجازة) فيه للفسح والتنزه الخالي من المظاهر الموروثة وطبيعة الاحتفال أصلاً هي التنزه حيث يخرج الناس للمزارع والحدائق للاحتفال بهذا اليوم. 2 - كيف يتميز المسلم الذي يريد أن يتنزه بعيداً عن المظاهر الموروثة عن المسلم الآخر الذي يحتفل بهذه البدعة؟ هل يأخذ معه في الحدائق التونة بدلاً من الفسيخ، والفول السوداني بدلاً من الترمس، والبيض غير الملون بدلاً من الملون، أم ماذا يفعل ليتميز؟ فمجرد الخروج للتنزه في هذا اليوم مشاركة في هذا الاحتفال وتكثير لسواد النصارى ومن يتشبهون بهم. 3 - أليس حضور المسلم الملتزم هذه الأماكن فتنة للآخرين الذين يحتفلون بهذا اليوم بالطريقة المبتدعة؟ فكيف يعرف الناس أن هذا يتنزه بالمظاهر الموروثة وذاك يتنزه بالمظاهر غير الموروثة؟ وماذا لو رأي الناس معهم في الحدائق في هذا اليوم بالذات شخصاً تظهر عليه علامات التمسك بالدين؟ هل سيعتقدون أن هذا الاحتفال الذي يقومون به فيه شبهة البدعة المذمومة أم سيعتقدون أنه لا شيء فيه؟

ثامنا: مسألة اللحية

ثامناً: مسألة اللحية قال الشيخ على محفوظ - رحمه الله -: «ومن أقبح العادات: ما اعتاده الناس اليوم من حلق اللحية وتوفير الشارب، وهذه البدعة سَرَتْ إلى المصريين من مخالطة الأجانب، واستحسان عوائدهم حتى استقبحوا محاسن دينهم وهجروا سنة نبيهم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «خالفوا المشركين وفّروا اللحى وأَحْفُوا الشوارب» وكان ابن عمر إذا حَجَّ أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه (¬1) ورواه مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أحفوا الشوارب وأعفُوا اللحا» (¬2) وروى أيضاً عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفروا اللحا» (¬3) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحا، وخالفوا المجوس» (¬4). التوفير: الإبقاء، وأحفوا (بهمزة قطع): من الإحفاء وهو المبالغة في الجز، وأعفوا: من أعفيته إذا تركته كثر وزاد، فإعفاء اللحية تركها لا تُقص حتى تعفو أي تكثر، وإرخاؤها وإيفاؤها بمعنى الإعفاء، والأحاديث في ذلك كثيرة وكلها نَصّ في وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ منها. ولا يخفي أن قوله: «خالفوا المشركين»، وقوله: «خالفوا المجوس»، يؤيدان الحرمة؛ فقد أخرج أبو داود وابن حبان وصححه عن ابن عمر قال: قال ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (5892). (¬2) رواه الإمام مسلم (259/ 53). (¬3) رواه الإمام مسلم (259/ 53). (¬4) رواه الإمام مسلم (260).

رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬1) وهو غاية في الزجر عن التشبه بالفساق أو الكفار في أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو هيئة. فهذان الحديثان (¬2) ـ بعد كونهما أمرين ـ دالان على أن هذا الصنع من هيئات الكفار الخاصة بهم، إذ النهي إنما يكون عما يختصون به، فقد نهانا - صلى الله عليه وآله وسلم - عن التشبه بهم نهياً عاماً في قوله: «من تشبه ... » ومن أفراد هذا العام حلق اللحية، ونهياً خاصاً في قوله: «وفروا اللحى خالفوا المجوس، خالفوا المشركين». وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ القريب منه»، ثم نقل الشيخ علي محفوظ نصوص المذاهب الأربعة على التحريم ثم قال: «ومما تقدم تعلم أن حرمة حلق اللحية هي دين الله وشرعه الذي لم يشرع لخلقه سواه، وأن العمل على غير ذلك سفه وضلالة أو فسق وجهالة أو غفلة عن هدى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬3). * لا يجوز الأخذ من عرض اللحية ولا من طولها إذا كانت أقل من قبضة، ولم يصح حديث: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها» (¬4)، قال الترمذي: «هذا حديث غريب»، وقال ابن الجوزى: «حديث لا يثبت»، وقال النووي: «رواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به»، وضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح، ونسب تضعيفه إلى البخاري أيضاً، وقال المباركفوري: «حديث ضعيف جداً» (¬5). * إذا زادت اللحية عن قبضة: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (4031) وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. (¬2) (خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب)، و (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس). (¬3) الإبداع في مضار الابتداع (ص408 - 410) بتصرف. (¬4) سنن الترمذي (2924) وقال الشيخ الألباني: موضوع. (¬5) انظر أدلة تحريم حلق اللحية للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم (ص81).

ثبت أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه (¬1)، وكان ابن عمر يفعل ذلك في الحج والعمرة، ولم يثبت عن غيره من الصحابة، ولا عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مع ما هو معلوم من كثة لحاهم. ولا شك أن قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعله أولى بالاتباع من قول غيره كائنا من كان، فالصحيح عدم الأخذ منها حتى لو زادت عن القبضة. قال الإمام النووي: «والمختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً» (¬2). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: حاول الأستاذ محمد حسين (ص64 - 67) انتقاء أقوال بعض العلماء ليعارض بها الأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم والتي فيها الأمر بإعفاء اللحية ومخالفة المشركين والمجوس. * الرد: 1 - على فرض أن المسألة فيها خلاف ـ رغم أن نصوص المذاهب الأربعة تدل على حرمة حلق اللحية ـ، فإلى من نحتكم عند الاختلاف؟ قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]. والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر بإعفاء اللحية مخالفة للمشركين والمجوس والأصل في أوامره - صلى الله عليه وآله وسلم - الوجوب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وغيره من الأدلة، والخروج عن هذا الأصل لا ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (5892). (¬2) شرح صحيح الإمام مسلم (2614).

يجوز إلا بدليل تقوم به الحجة (¬1) وحلق اللحية فيه تشبه بالكافرين، وقد نهانا - صلى الله عليه وآله وسلم - عن التشبه بهم، وأمرنا بمخالفتهم في هذا الأمر بعينه فدل ذلك على وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها. 2 - الأحاديث التي فيها الأمر بإعفاء اللحية صحيحة رواها الشيخان: البخاري ومسلم، فلا نردها لقول عالم كائناً من كان. وننقل للأستاذ محمد حسين ـ هنا ـ قول شيخه، الشيخ حسن البنا - رحمه الله -: «وإذا صح الحديث فقد وجب العمل به وإن لم يخرجه الشيخان، ولا يترك العمل به لرأي، ولا تقليد إمام، ولا لتوهم إجماع. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: والذي ندين الله عليه، ولا يسعنا غيره، أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يصح حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد كائناً من كان، لا راويه، ولا غيره، إذْ من الممكن أن ينسى الراوى الحديث، ولا يحضره وقت الفتيا، أو يفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأولاً مرجوحاً، أو يكون في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضاً في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه، لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالف لما هو أقوى منه. ولو قُدر انتفاء ذلك كله ـ ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ـ لم يكن الراوي معصوماً ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته» انتهى كلام الشيخ حسن البنا (¬2) وفيه رد واضح على منهج الأستاذ محمد حسين في الاستدلال. 3 - قال الشيخ السيد سابق - رحمه الله - عن قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خالفوا المشركين وفروا اللحا»: «حمل الفقهاء هذا الأمر على الوجوب وقالوا بحرمة حلق اللحية بناء ¬

_ (¬1) تمام المنة في التعليق على فقه السنة للشيخ الألباني (80) وانظر: الوجيز في أصول الفقه د/عبد الكريم. زيدان (ص294). (¬2) مباحث في علوم الحديث للشيخ حسن البنا (57 - 58).

على هذا الأمر» (¬1). وقد كتب الشيخ حسن البنا مقدمة لكتاب (فقه السنة) وكان ذلك أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، فهل حالنا الآن أشد من أيام الاحتلال؟ فالواجب علينا تغيير الواقع بأحكام الشرع، وليس تطويع أحكام الشرع لتبرير الواقع. 4 - قال الدكتور عبد الله ناصح علوان ـ وهو من رموز الإخوان المسلمين في العالم ـ: «وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية، وحرمة حلقها» (¬2). ثانياً: قال الأستاذ محمد حسين (ص69): «الأمر في الحديث بجز الشوارب وإنهاكها وفَعَله بعض الصحابة، وترَك القص بعض الصحابة، بل إن عمر بن الخطاب كان يترك سباليه أي يطيل طرفي شاربه ـ وأحاديث الفطرة بإعفاء اللحية هي هي بقص الشارب، والاختلاف حاصل وبلا نكير، فلماذا ينكر البعض الخلاف في حلق اللحية والخلاف حاصل من قديم». الرد: 1 - فيما يتعلق بالشارب ورد في السنة: - قص الشارب (من الفطرة) (مسلم 261) - أنهكوا الشوارب. (البخاري 5893) - أحفوا الشوارب. (البخاري 5892) - جزّوا الشوارب. ... (مسلم 260) فالسنة دلت على الأمرين (أي القص والإحفاء) ولا تعارض فإن القص يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت (¬3). ¬

_ (¬1) فقه السنة: (1/ 44). (¬2) تربية الأولاد في الإسلام (2/ 899). (¬3) فتح الباري، (شرح حديث 5889).

و «أنهكوا»: بالغوا في القص، ومثله «جزوا»، فاختلاف الصحابة إنما هو في العمل بأحد الأمرين وكلاهما وارد قولًا عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالصحابة لم يخالفوا أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فما الدليل في ذلك على الاختلاف في أمر اللحية؟ وهل ثبت في الأحاديث التخيير بين حلق اللحية أو توفيرها؟ وهل ثبت أن أحد الصحابة حلق لحيته؟ فالأمر في الحديث يدل على وجوب إعفاء اللحية ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة. 2 - استدل الأستاذ محمد حسين (ص69) بأن عمر - رضي الله عنه - كان يترك سباليه أي يطيل طرفي شاربه والأمر بإعفاء اللحية هو الأمر بقص الشارب وقد خالفه عمر، فظن الأستاذ محمد حسين أن هذا دليل على عدم وجوب إعفاء اللحية. والرد من وجوه: أ- العجيب أن الأستاذ محمد حسين أراد أن يترك العمل بحديث رواه البخاري ومسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لفعل عمر، ولكن الأعجب: من الذي روى هذا الأثر عن عمر؟ يجيب الأستاذ محمد حسين (ص69): «قال الإمام الغزالى في الإحياء: ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب، فعل ذلك عمر وغيره» (¬1) هذا هو تخريج الحديث مع العلم بأن إحياء علوم الدين مليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة فالغزالي ليس محدثاً (¬2)، والغزالي لم يذكر من رواه من علماء الحديث. ونقول للأستاذ محمد حسين: ذكرتَ (ص32) أن الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام والعقائد، فهل هذا الأثر الذي ذكرتَه عن (إحياء علوم الدين) صحيح أم لا؟ وإذا كان صحيحاً فلماذا لم تذْكُر من أخرجه؟ وإذا كنت لا تعرف من أخرجه ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (1/ 166). (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن أبا المعالا، وأبا حامد الغزالي، وابن الخطيب وأمثالهم، لم يكن عندهم من المعرفة بعلم الحديث ما يعدون به من عوام اهل الصناعة فضلاً عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف البخاري ومسلماً وأحاديثهما، إلا بالسماع كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك ففيها عجائب. (مجموع الفتاوى 2/ 307) (الطبعة القديمة 4/ 72، 73).

ولا تعرف درجته من الصحة فكيف تحث الناس على ترك العمل بحديث في البخاري ومسلم لأثر لا تعرف من أخرجه ولا تعرف ما إذا كان صحيحاً أم ضعيفاً؟ ب- إن صح ذلك عن عمر - رضي الله عنه - فليس معناه أنه كان لا يقص شاربه بل معناه أنه كان يترك جانبيه. قال الحافظ ابن حجر: « ... وأما الشارب فهو الشعر النابت على الشفة العليا، واختلف في جانبيه وهما السبالان فقيل: هما من الشارب ويشرع قصهما معه، وقيل: هما من جملة شعر اللحية» (¬1). ثالثاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص69): «ذهب بعض العلماء المعاصرين ... إلى أن حكم اللحية مثل أحكام النظافة كتقليم الأظافر وحلق العانة لأنها من أحكام الفطرة كما جاء في الحديث». الرد: 1 - نترك الرد هنا للأستاذ محمد حسين فننقل هنا ما نقله (ص65) عن الإمام النووي حيث قال: «لا يمنع قرن الواجب بغيره كما قال تعالى: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، والإيتاءُ واجب والأكل ليس بواجب» (¬2). ونقول: اللحية واجبة ولا يمتنع قرنها مع سنة، وقد دل على الوجوب أحاديث الأمر بها مخالفةً للمشركين والمجوس، فاشتراكها مع تقليم الأظافر وحلق العانة في أنهم من أحكام الفطرة لا يمنع أنها واجبة. 2 - إذا كان حكم اللحية مثل أحكام النظافة فلماذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بتوفيرها وأمر في نفس الحديث بمخالفة المشركين؟ 3 - بالنسبة لسنن الفطرة مثل تقليم الأظافر وحلق العانة: ¬

_ (¬1) فتح الباري، شرح حديث (2889). (¬2) شرح صحيح الإمام مسلم (حديث 259).

قال أنس - رضي الله عنه -: «وُقِّت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا نَتْرُك أكثر من أربعين ليلة» (¬1)، وفي رواية: «وَقَّت لنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حلق العانة وتقليم الأظافر ... » (¬2). قال الإمام النووي: «معناه: لا تترك تركاً يتجاوز به أربعين لا أنهم وقّت لهم الترك أربعين». قال الإمام الشوكاني: «بل المختار أنه يضبط بالأربعين التي ضبط بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا يجوز تجاوزها، ولا يعد مخالفاً للسنة مَنْ ترك القص ونحوه بعد الطول إلى انتهاء تلك الغاية». (¬3) * ونسأل الأستاذ محمد حسين: هل يأخذ هؤلاء العلماء المعاصرون بحديث أنس - رضي الله عنه - أم يجوز عندهم ترك العانة والإبط والأظافر أكثر من أربعين يوماً؟ رابعاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص67): «نقل النووي في (شرح مسلم)، قال: قال القاضي عياض (المالكي المذهب - رحمه الله -) يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها ... انتهى كلام القاضي. وأقول (القائل الأستاذ محمد حسين): وهذا أيضاً فقه المذهب المالكي ينص عليه هذا الإمام القاضي عياض من أنه يكره حلق اللحية فلم يوجبها ويحرم حلقها، ولكنها الكراهة التي من فعلها لم يؤجر ولم يأثم بحلقها، وأعيد القول: إن هذا مذهب أي آلاف الأئمة العلماء على مدار تاريخ المذهب». الرد: 1 - لا يُعرف الحق في مسألة ما بكثرة القائلين به، بل يعرف الحق بالدليل من الكتاب والسنة، وقد تقدم كلام الشيخ حسن البنا - رحمه الله - ومن الأفضل إعادته هنا، حيث قال: «وإذا صح الحديث فقد وجب العمل به وإن لم يخرجه الشيخان، ولا يترك ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (258). (¬2) رواه الإمام أبو داود (4200) وصححه الشيخ الألباني. (¬3) نيل الأوطار (1/ 163).

العمل به لرأي، ولا تقليد إمام، ولا لتوهم إجماع». 2 - القول بكراهة حلق اللحية ليس مذهب المالكية وإنما قال به بعضهم أو القليل منهم. وننقل هنا بعض أقوال علماء المذهب المالكي: قال الإمام ابن عبد البر في (التمهيد): «ويحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال»، وقال الإمام القرطبي: «لا يجوز حلق اللحية ولا نتفها ولا قصها»، وقال النفراوي في شرحه على رسالة أبي زيد: «فما عليه الجند في زماننا من أمر الخدم بحلق لحاهم لا شك في حرمته عند جميع الفقهاء»، وقال العلامة الدسوقي في حاشيته على شرح خليل: «يحرم على الرجل حلْق لحيته أو شاربه، ويُؤدَّب من يفعل ذلك». 3 - لم يكمل الأستاذ محمد حسين كلام الإمام النووي حيث قال: «هذا آخر كلام القاضي، والمختار ترك اللحية على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً» (¬1) قال الحافظ ابن حجر بعد أن نقل كلام القاضي عياض السابق: «كذا قال وتعقبه النووي بأنه خلاف الخبر في الأمر بتوفيرها، قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره» (¬2). 4 - هناك ملاحظات على كلام القاضي: أ- يُفهم من تعقب الإمام النووي أن كلام القاضي عن التقصير وليس الحلق. ب- هل القاضي عياض يريد بالكراهة الكرهة التحريمية أم التنزيهية، قال الإمام الشوكاني: «والمكروه يقال بالاشتراك على أمور ثلاثة: الأول: على مانهي عنه نهي تنزيه، وهو الذي أشعر فاعله أن تركه خير من فعله، الثاني: على ترك الأولا، الثالث: على المحظور وهو المحرم» (¬3). ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (2614). (¬2) فتح الباري: (10/ 422). (¬3) إرشاد الفحول: (ص 6).

* تنبيه: قال الإمام ابن القيم: «قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: لم يكن من أمر الناس ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدركتُ أحداً ممن أقتدي به يقول في شيء: «هذا حلال، وهذا حرام» وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسناً، فينبغي هذا، ولا نرى هذا، ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد: ولا يقولون حلال ولا حرام، أمَا سمعت قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ماحرمه الله ورسوله. قلت (القائل الإمام ابن القيم): وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أَطلق عليه الأئمة لفظ الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفّت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولا، وهذا كثير جداً في تصرفاتهم» (¬1). ثم ذكر الإمام ابن القيم أمثلة كثيرة منها قول الإمام أحمد: لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة وكل شيء لغير الله، قال الله - عز وجل -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3]، فتأمل كيف قال: «لا يعجبني: فيما نَصّ الله ـ سبحانه ـ على تحريمه واحتج بتحريم الله له في كتابه» ا. هـ. خامساً: قال الأستاذ محمد حسين (ص124): «ومن البدع التَّرْكِية ترك سنة إعفاء اللحى من غير سبب شرعي عند من يراها سنة» ا. هـ. الرد: سبق أن حلق اللحية حرام لأن إعفاءها واجب. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين: (1/ 40).

وهل الأستاذ محمد حسين يرى أنها سنة فيكون تركها بدعة تركية طبقاً لكلامه؟ أم أنه يرى رأياً غير ذلك؟ * توضيح: البدعة التَّرْكِية: ترك المطلوبات الشرعية وجوباً أو ندباً إن كان الترك تديناً، لأنه تدين بضد ما شرع الله، أما تركها كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك فهو راجع إلى المخالفة للأمر، فإن كان في واجب فمعصية، وإلا فلا (¬1). * سؤال: لو تخيلنا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءنا وأمرنا بهذا الأمر: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحا»، هل نقول له ما قاله الأستاذ محمد حسين في كتاب (اللمع): «قال فلان وقال فلان، يا رسول الله، فالمسألة فيها خلاف»، أم نقول: «سمعاً وطاعة يا رسول الله؟». * سؤال آخر: لو فرضنا أن كل مسلم حليق ينفق على (تنعيم) لحيته في الشهر جنيهاً واحداً ثمن المعجون والأمواس فكم من الملايين ينفقها المسلمون في معصية الله؟ أليس إخواننا المستضعفون في شتى بقاع الأرض أولى بتلك الملايين؟ ¬

_ (¬1) الإبداع (ص53) بتصرف (وانظر أقسام البدع في هذا الرد).

تاسعا: مسألة طول الملابس وقصرها

تاسعاً: مسألة طول الملابس وقِصَرِها * عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري عن الإزار، فقال: على الخبير سقطتَ! قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إزْرَةُ المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج ـ أو لا جناح ـ فيما بين الكعبين، ما كان أسفل الكعبين فهو في النار، من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه» (¬1). قسم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - طول القميص إلى أربعة أقسام: 1 - السُّنة: إلى نصف الساق. 2 - الرخصة: ما نزل من نصف الساق إلى الكعب. 3 - كبيرة من كبائر الذنوب: ما نزل عن الكعبين. 4 - من جر ثوبه خيلاء أو بطراً؛ وهو أشد من الذي قبله. وفي هذا دليل على أن من أنزل ثوبه: إزاراً أو قميصاً أو سروالاً أو (مشلحاً) إلى أسفل من الكعبين فإنه قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب سواء فعل ذلك خيلاء أو لغير الخيلاء، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرّق في هذا الحديث بين ما كان خيلاء وما لم يكن كذلك فالذي جعله خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة. وإذا ضممنا هذا الحديث إلى حديث أبي ذر (¬2) - رضي الله عنه - قلنا: لا ينظر الله إليه ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم. أما ما دون الكعبين فإنه يعاقب عليه بالنار فقط، ولكن لا تحصل له العقوبات ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (4093) وصحح الإمام النووي إسناده، وصححه الشيخ الألباني. (¬2) عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثلاث مِرَار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: «المسبل والمنان والمنَفِّق سلعته بالحلف الكاذب» رواه الإمام مسلم (106).

الأربع (¬1). * قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (¬2). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -: «إنك لَسْتَ ممن يفعلُه خُيَلاء». * الرد: 1 - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: «يا رسول الله، إن أحد شقى إزارى يسترخى إلا أن أتعاهد ذلك منه»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لستَ ممن يفعله خيلاء» (¬3). قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث من فتح الباري: «(الشق): الجانب، (يسترخا): ... وكان سبب استرخائه نحافة جسم أبي بكر، (إلا أن أتعاهد ذلك منه): أي يسترخى إذا غفلتُ عنه، فكأن شدّه كان يَنْحَلّ إذا تحرك بمشْى أو غيره بغير اختياره. قوله: «لست ممن يصنعه خيلاء»: فيه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصد مطلقاً» (¬4). يتضح من كلام الحافظ ابن حجر أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يُرخ ثوبه اختياراً منه، بل كان ذلك يسترخا، ومع ذلك فهو يتعاهده، ومع ذلك فإن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يبرّئ نفسه ابتداءً عند سماع الحديث، وسؤاله يدل على أنه اتهم نفسه وخاف عليها، والذين يسبلون ويزعمون أنهم لم يقصدوا الخيلاء يرخون ثيابهم عن قصد، فنقول لهم؛ إن قصدتم ¬

_ (¬1) شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين (1/ 634). (¬2) رواه الإمام أبو داود (4094) وصححه الشيخ الألباني. (¬3) رواه الإمام البخاري (5784). (¬4) فتح الباري (10/ 308 - 309).

إنزال ثيابكم إلى أسفل من الكعبين بدون قصد الخيلاء عُذبتم على ما نزل فقط بالنار، وإن جررتم ثيابكم خيلاء عُذبتم بما هو أعظم من ذلك: لا يكلمكم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليكم، ولا يزكيكم ولكم عذاب أليم. 2 - أبو بكر - رضي الله عنه - زكاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وشهد له أنه ليس ممن يفعل ذلك خيلاء، فهل نال أحد من هؤلاء تلك التزكية والشهادة؟! (¬1) 3 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: مررت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي إزاري استرخاء فقال: «يا عبد الله، ارفع إزارك ... » (¬2)، فهل الذين يسبلون ويزعمون أنهم لم يقصدوا الخيلاء أفضل من عبد الله بن عمر، فقد أمره الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يرفع إزاره، ولم يسأله: هل تفعل ذلك خيلاء أم لا؟ 4 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، فقالت أم سلمة: «فكيف يصنع النساء بذيولهن؟»، قال: «يرخين شبراً»، فقالت: «إذاً تنكشف أقدامهن»، قال: «فيرخينه ذراعاً، لا يزدن عليه» (¬3). فلو كان التحريم مختصاً بالخيلاء لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنا، بل فهمَتْ الزجر عن الإسبال مطلقاً سواء كان عن مخيلة أم لا، فسألَتْ عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال؛ لتقريره - صلى الله عليه وآله وسلم - أم سلمة على فهمها، إلا أنه بيّن لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال وتبيينه القدر الذي يمنع ¬

_ (¬1) فتاوى أركان الإسلام للشيخ ابن عثيمين (ص298 - 299) بتصرف. (¬2) رواه الإمام مسلم (2086). (¬3) رواه الإمام الترمذي (1801) وصححه الشيخ الألباني.

ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال. والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك النساء حالان: حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع. (¬1) * قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «قال ابن العربي: «لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجُرّه خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول لا أمتثله لأن تلك العلة ليست فيّ، فإنها دعوى غير مسَلَّمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبُّره» ا. هـ ملخصاً، ثم قال الحافظ: «وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء ويؤيده ما أخرجه أحمد عن ابن عباس في أثناء حديث رفعه (¬2): «وإياك وجر الإزار، فإن جر الإزار من المخيلة» (¬3). ثانياً: كالعادة اعتمد الأستاذ محمد حسين (ص73 - 75) على أقوال وأفعال لبعض العلماء. * الرد: 1 - معظم هذه الأقوال معتمدة على قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي بكر: «لست ممن يفعله خيلاء» وقد سبق الرد على ذلك. 2 - سبق الرد على منهج المؤلف في ترك الأحاديث لأقوال العلماء (أنظر مسألة اللحية). 3 - فعل الصحابي أو قوله إذا خالف قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يؤخذ به فمن دونه من باب أولا. ¬

_ (¬1) فتح الباري (شرح حديث 5788) (10/ 312). (¬2) رفعه: أي رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أي أن النبي هو الذي قال ذلك. (¬3) فتح الباري (شرح حديث 5791) (10/ 318).

4 - العلماء الذين نقل عنهم ـ إن صح النقل ـ أمروا بترك أقوالهم وأفعالهم إذا خالفت قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬1). ثالثاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص73) أن الشيخ تقي الدين ـ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ اختار عدم تحريمه ولم يتعرض للكراهة ولا عدمها. * توضيح: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن طول السراويل إذا تعدى عن الكعب هل يجوز؟ فأجاب: «طول القميص والسراويل وسائر اللباس، إذا تعدى ليس له أن يجعل ذلك أسفل الكعبين، كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقال: «الإسبال في السراويل والإزار والقميص» (¬2)، يعنى نهى عن الإسبال» (¬3)، وقال أيضاً: «الإسبال والجر منهي عنه بالاتفاق، وهو محرم على الصحيح» (¬4). سؤال: لو تخيلنا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءنا وقال لنا ـ كما قال لابن عمر ـ: «ارفع إزارك»، فهل ننقل له أقوال العلماء كما ذكر الأستاذ محمد حسين في (اللمع) أم نقول: «سمعاً وطاعة يا رسول الله»؟ * الدين كله لُباب لا قشور فيه: قال الدكتور عمر الأشقر ـ وهو أحد رموز الإخوان المسلمين في الأردن ـ: «يجب الاعتناء بفعل الأعمال التي فرضها الله علينا أو حبَّب إلينا القيام بها، وبترك ما نهى عنه من أعمال؛ لأن ذلك جزء من الإيمان، فالعمل المتروك ـ وإن كان قليلاً ـ يُنقِص من الإيمان بذلك المقدار. ومن هنا يجب أن ينتبه الذين يهوّنون من شأن العمل بسنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ¬

_ (¬1) راجع أقوالهم في بداية هذا الكتاب. (¬2) رواه الإمام أبو داود (2094) بلفظ: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة» وصححه الشيخ الألباني. (¬3) مجموع الفتاوى (11/ 446) الطبعة القديمة (22/ 144). (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم (ص118).

والتزامها إلى خطورة موقفهم، وقد يتعدى بعض هؤلاء طوره فيصف أموراً من السنن أو الدين بأنها قشور، ونسأل الله أن يعفو عن هؤلاء، فإن الدين كله لباب لا قشور فيه، وإن تفاوتت أمور الدين في الأهمية ... وكم يؤثر في نفسي مشهد عمر - رضي الله عنه - عندما طُعِن ودخل عليه شاب وقال لعمر قولاً حسناً، فلما أدبر الشاب ليخرج، إذا إزاره يمس الأرض، فدعاه عمر - رضي الله عنه - وقال له: «يا ابن أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك»، ولم يمنعه الموت الذي نزل به من أن يرشد ذلك الرجل إلى أمرٍ يَعُدَّه كثير من الناس اليوم من القشور التي لا يجوز أن يُعنَى بها» (¬1). مثال لإنكار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لهذا المنكر (الإسبال): أبصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلاً يجر إزاره فأسرع إليه أو هرول، فقال: «ارفع إزارك واتق الله»، قال: إني أحنف تصطك ركبتاي، فقال: «ارفع إزارك فإن كل خلق الله - عز وجل - حسن». فما رُؤيَ ذلك الرجل بعدُ إلا إزاره يصيب أنصاف ساقيه أو إلى أنصاف ساقيه (¬2). الحَنَف: إقْبال القدَم بأصابعها على القَدم الأخْرَا. الصَّكَكُ: ان تَضْرِب إحْدى الركْبتَين الأُخْرى عند العَدْو. فتأمل إنكار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على هذا الصحابي رغم ما رأيتَ من حاله - رضي الله عنه -، وتأمل امتثاله لأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقارن بينه وبين من يسبلون ثيابهم اليوم بحجج واهية. ¬

_ (¬1) العقيدة في الله في ضوء الكتاب والسنة (1/ 23 - 24)، والأثر رواه الإمام البخاري (3700). (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند 19367، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة 1441.

عاشرا: معاملة أهل الذمة

عاشراً: معاملة أهل الذمة * قال الشيخ السيد سابق: «الذمة هي العهد والأمان، وعقد الذمة هو أن يقر الحاكم أو نائبه بعض أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار على كفرهم بشرطين: 1 - أن يلتزموا أحكام الإسلام في الجملة. 2 - أن يبذلوا الجزية (¬1). والأصل في هذا العقد، قول الله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وهذا العقد دائم غير محدود بوقت، ما دام لم يوجد ما ينقضه. - وإذا تم عقد الذمة، ترتب عليه حرمة قتالهم والحفاظ على أموالهم، وصيانة أعراضهم والكف عن أذاهم. - وتجرى أحكام الإسلام على أهل الذمة في ناحيتين: 1 - المعاملات المالية، فلا يجوز أن يتصرفوا تصرفاً لا يتفق مع تعاليم الإسلام كعقد الربا وغيره من العقود المحرمة. 2 - العقوبات المقررة فيقتص منهم وتقام الحدود عليهم متى فعلوا ما يوجب ذلك، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رجم يهوديين زنيا بعد إحصانهما (¬2). - أما ما يتصل بالشعائر الدينية، من عقائد وعبادات وما يتصل بالأسرة ¬

_ (¬1) قال الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في مقالة له في صحيفة (الدستور) العدد 38 في 7/ 12/2005 بعنوان: «رسالة الإخوان المسلمين إلى أقباط مصر»: «في عام 1856 اسقطت الجزية نهائياً وكان هذا تطوراً طبيعياً في سياق التطور التاريخي الذي شهدته الدولة المصرية الحديثة في القرن التاسع عشر بتحقيق دولة المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين المصريين جميعاً». (¬2) رواه الإمام البخاري (6841)، الإمام مسلم (1699).

من زواج وطلاق فلهم فيه الحرية المطلقة، وإن تحاكموا إلينا، فلنا أن نحكم لهم بمقتضى الإسلام أو نرفض ذلك. - الجزية: مبلغ من المال، يوضع على من دخل في ذمة المسلمين وعهدهم. - يشترط فيمن تُؤخذ منهم: 1 - الذكورة. 2 - التكليف. 3 - الحرية. فلا تجب على امرأة، ولا صبا، ولا عبد، ولا مجنون، كما أنها لا تجب على مسكين يُتَصدق عليه، ولا على من لا قدرة له على العمل، ولا الأعمى أو المقعد، وغيرهم من ذوي العاهات، ولا المترهبنين في الأديرة، إلا إذا كان غنياً من الأغنياء. - تسقط الجزية عمن أسلم. - ينتقض عهد الذمة بالامتناع عن الجزية، أو إباء التزام حكم الإسلام إذا حكم حاكم به، أو تعدى على مسلم بقتل، أو بفتنة عن دينه، أو زنى بمسلمة أو أصابها بزواج، أو عمل عمل قوم لوط، أو قطع الطريق، أو تجسس أو آوى الجاسوس، أو ذكر الله أو رسوله أو دينه بسوء. - وإذا انتقض عهده، كان حكمه حكم الأسير» (¬1). - فينتقل من الذمة إلى الحرابة، وإذا صار حربياً يخير فيه الإمام بين أربعة أشياء: إما القتل أو الاسترقاق، أو المن بدون شيء، يعنى مجاناً، أو المن بفداء: إما بمال أو بمنفعة (¬2). ¬

_ (¬1) فقه السنة (3/ 403 - 411) بتصرف. (¬2) الشرح الممتع (3/ 502).

الولاء والبراء من أصول العقيدة الإسلامية أنه يجب على كل مسلم أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (¬1). * من مظاهر موالاة الكفار: (¬2) 1 - إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذب عنهم وهذا ـ في بعض صوره ـ من نواقض الإسلام وأسباب الردة. 2 - يحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم، من عاداتهم وعباداتهم، سمتهم وأخلاقهم، كحلق اللحى وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة وفي هيئة اللباس، والأكل والشرب وغير ذلك، لأن التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدل على محبة المتشبه به، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬3). 3 - السفر إلى بلاد الكفار محرم إلا عند الضرورة كالعلاج، والتجارة والتعليم للتخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم ـ فيجوز بقدر الحاجة ـ، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين. ويشترط كذلك لجواز السفر أن يكون مظهراً لدينه معتزاً بإسلامه، مبتعداً عن ¬

_ (¬1) محاضرات في العقيدة والدعوة د. صالح الفوزان (1/ 221). (¬2) انطر: محاضرات في العقيدة والدعوة (1/ 223 - 229) بتصرف، الولاء والبراء في الإسلام للشيخ محمد بن سعيد القحطاني (ص235/، 241) بتصرف، منة الرحمن في نصيحة الإخوان للشيخ ياسر برهامي (ص34). (¬3) رواه الإمام أبو داود (4031) وقال الشيخ الألباني: (حسن صحيح).

مواطن الشر، حذِراً من دسائس الأعداء ومكائدهم. وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام. 4 - لا يجوز أن يُوَلّى الكافر ولاية فيها سلطان على المسلمين أو إطلاع علا أسرارهم كاتخاذهم وزراء ومستشارين (¬1)، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً (¬2) وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. قال الإمام ابن القيم: «ولما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتهم نوعاًَ من ¬

_ (¬1) ومع ذلك يقول الأستاذ محمد مهدي عاكف مرشد (الإخوان المسلمين) إن كلمة الولاية مقصود بها الرئاسة فقط، أما باقي الوزارات والهيئات فهي مناصب وليست ولاية، ويحق للأقباط العمل وتولي المسئولية بها، وقال أيضاً: العلاقة بيننا وبينهم (الأقباط) أكثر من ممتازة ودائماً نضعهم على قوائم انتخاباتنا في النقابات ومجلس الشعب والشورى (جريدة الغد 8/ 6/2005، العدد 14، ص 6) وقال الأستاذ محمد مهدي عاكف في تصريحات خاصة لـ (المصري اليوم بتاريخ 9/ 10/2005): «إن الجماعة عادة ما تنسق مع منير فخري عبد النور (نصراني) في دائرة الوايلا، ولا نكتفي بترك الدائرة له بدون منافسة وإنما نساعده فيها» اهـ. وهذا الكلام ما هو إلا ثمرة التنازلات، ونطلب منه أن يقرأ الآية المذكورة (آل عمران: 118) وتفسيرها في الظلال (1/ 452)، ونطلب منه أيضاً أن يقرأ قول الدكتور عبد الكريم زيدان: «من شروط أهل الحل والعقد العدالة الجامعة لشروطها ... ومن شروط العدالة الإسلام فيشترط أن يكون الشخص مسلماً» ا. هـ (أصول الدعوة: ص209). بل قال الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح - أحد كبار الإخوان المسلمين- في تصريحات لجريدة العربي الناصري العدد 879 السنة 11 الأحد 5/ 10/2003: «نحن لا نعترض على اختيار مسيحي رئيساً لمصر بالانتخاب؛ لأن هذا حق لأي مواطن بغض النظر عن ديانته وعقيدته السياسية فحتى لو كان زنديقا فمن حقه أن يرشح نفسه وإذا اختاره الشعب فهذه إرادته؛ لأن البديل في هذه الحالة هو أن تحارب الشعب وتصبح مستبداً وهذا نرفضه تماماً، فنحن مع ما يختاره الشعب أيا كان ... ». وأكد د. محمد السيد حبيب النائب الأول للمرشد العام أن مكتب الإرشاد طلب من بعض الأقباط ترشيح أنفسهم في الانتخابات (انتخابات مجلس الشعب 2005) إلا أنهم رفضوا مشيراً إلى أن الجماعة قررت دعم أحد الشخصيات القبطية المرشحين في الانتخابات (جريدة الجمهورية 18/ 10/2005 ص5). وتأمل الآتي: قال منتصر الزيات ـ محامي الجماعات الإسلامية ـ أمام أبناء دائرة بولاق الدكرور أنه رغم تمثيله للتيار الإسلامي إلا أن الإخوان المسلمين تعمدوا ترشيح أحد قيادات الإخوان أمامه في الدائرة وقد كان الأجدر بالإخوان المسلمين أن يُخلو الدائرة لأخٍ لهم يرفع نفس الشعارات التي يرفعونها. وقال: لم أكن أتصور أن الإخوان الذين أخلوا بعض الدوائر من أجل الأقباط والحزب الوطني يرفضون إخلاء دائرتي. (جريدة الجمهورية 8/ 10/1426هـ، 10/ 11/2005). (¬2) بطانة الرجل: خاصته، لا يألونكم خبالاً: لا يقصرون في عمل ما يضركم.

توليهم وقد حكم تعالى بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع الولاية والبراءة أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع ومعاداة الكافر أبداً» (¬1). 5 - الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين، لأن الهجرة بهذا المعنا ولهذا الغرض واجبة على المسلم، لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين، ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة. 6 - التأريخ بتاريخهم، خصوصاً التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم كالتاريخ الميلادي. 7 - مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة أو الإعجاب بمهاراتهم وأخلاقهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَا} [طه: 131]، وليس معنى ذلك أن المسلمين لا يتخذون أسباب القوة من تعلم الصناعات، والأساليب العسكرية، بل ذلك مطلوب. 8 - مشاركتهم في أعيادهم أو مساعدتهم في إقامتها أو تهنئتهم بمناسبتها أو حضور إقامتها (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (1/ 242).ورغم وضوح هذا الأمر سُئل الدكتور حمدي حسن المتحدث الإعلامي باسم نواب الإخوان المسلمين الـ 88في مجلس الشعب المصري ـ سُئل ـ: يتّهِمُكم البعض بعدم الوضوح في مسألة الأقباط خاصةً في مسألة ترشيح قبطي لمنصب رئاسة الجمهورية؟ فأجاب: «نحن نقول: إن الأصل عندنا هو المواطنة، ولا فارق بين مواطن مصري وآخر. وإذا ترشح قبطي لمنصب الرئاسة واختاره الشعب فنحن مع خيار الشعب» (الأسرة العربية العدد2924، 9رمضان1427هـ2/ 10/2006) ويعجب المرء حينما يجد نيجيريا ذلك البلد المسلم يحكمها نصراني رغم أن أكثر من90% من سكانها مسلمون. وما هذا إلا ثمرة من ثمار الديمقراطية الخبيثة التي تسوي بين المسلم والكافر. (¬2) والعجيب أن يذكر د. محمد جمال حشمت مرشح الإخوان المسلمين عن دائرة دمنهور ـ في إحدى نشرات دعاياته الانتخابية لانتخابات (عام 2005) ـ أن من إنجازاته في الفترة التي قضاها في مجلس الشعب: مشاركة الإخوة الأقباط في جميع مناسباتهم الدينية.

9 - التسمى بأسمائهم. 10 - الاستغفار لهم والترحم عليهم. 11 - الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الباطلة، فالذي يحب الكافر لأجل كفره، فهو كافر بإجماع الأمة، فالمحبة والرضا أمران جازمان لا يخرجان عن كونهما كفراً إذا كانا للكفار، أو إيماناً إذا كانا للمؤمنين. 12 - مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين: إن المداهنة والمجاملة قد تبدأ بأمر صغير ثم تكبر وتنمو حتى تؤدى إلى الخروج من الملة. 13 - تعظيم وإطلاق الألقاب عليهم مثل السادة والحكماء. 14 - مبادأتهم بالسلام، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام» (¬1). 15 - مودتهم ومحبتهم قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. 16 - مصاحبتهم واتخاذهم أصدقاء قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الرجل على دين خليله فَلْينظر أحدكم من يخالل» (¬2). * معاملات جائزة لا تدخل ضمن الموالاة (¬3): لا محبة، ولا أخوة، ولا صداقة، ولا مودة، ولا موالاة بين المسلمين والكفار، وهذا لا يمنع جواز المعاملات الآتية: ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم (2167). (¬2) رواه الإمام أبو داود (4833) وحسنه الشيخ الألباني. (¬3) دعوة أهل الكتاب للشيخ سعيد عبد العظيم (278 - 280)، منة الرحمن (ص35) (بتصرف).

1 - البيع والشراء والإجارة مع الكفار، فيما يحل مثله بين المسلمين من غير مهانة للمسلم. 2 - قبول الهدية منهم وإهداؤهم في غير أعيادهم تأليفًا لهم أو دفعاً لمفسدتهم أو لمصلحة أخرى راجحة. 3 - عيادة مريضهم لدعوته إلى الإسلام. 4 - الزواج من الكتابية العفيفة ـ يهودية أو نصرانية ـ ولكن بشرط بغضها على دينها، ولا يحل للمؤمنات الزواج بالكافر مطلقاً، ولا البقاء تحته إذا أسلمت ولم يسلم هو. 5 - البر والإقساط وصلة الرحم والأقارب منهم في غير مودة ومحبة. 6 - الانتفاع بما عندهم من علوم الدنيا حين تنعدم الاستفادة من هذه العلوم من مسلم تقي. 7 - عدم أذيته في ماله، أو دمه، أو عرضه إذا كان غير محارب. 8 - تشميته إذا عطس وحمد الله بأن يقول له: يهديكم الله ويصلح بالكم. 9 - يرحمه بالرحمة العامة كإطعامه إذا جاع، وسقيه إن عطش، ومداواته إن مرض، وكإنقاذه من تهلكة. 10 - رد السلام عليهم لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (¬1). * تنبيه: هناك فرق بين البر والصلة والعدل معهم بشرع الله، وبين المحبة والموالاة التي هي من أعمال القلب أصلاً (¬2)، قال الحافظ ابن حجر: «البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهى عنه في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] فإنها عامة في ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (6258). (¬2) منة الرحمن (ص35).

حق من قاتل ومن لم يقاتل» (¬1). يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: «إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيء أخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين ... فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة، ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم، وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة، وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر» (¬2). * موقف المسلم من أعياد الكفار (¬3): أولاً: اجتناب حضورها: اتفق أهل العلم على تحريم حضور أعياد الكفار والتشبه بهم فيها. ثانياً: اجتناب موافقتهم في أفعالهم: قد لا يتسنى لبعض المسلمين حضور أعياد الكفار لكن يفعل مثل ما يفعلون فيها، وهذا من التشبه المذموم المحرم، قال شيخ الإسلام: «لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ¬

_ (¬1) فتح الباري كتاب الهبة باب 29 (قبل شرح حديث 2619) ورغم وضوح الآية في النهي عن محبة الكافرين ومودتهم نجد في البرنامج الانتخابي للمستشار مأمون الهضيبي، والذي نشرته جريدة (أفاق عربية) يوم الخميس 28/رجب 1421 هـ 26/ 10/2000 (ص 7) تحت بند حادي عشر: في مجال الأخوة الأقباط تحت رقم 6: الحرص على روح الأخوة المصرية التي أظلت أبناء مصر على مر القرون مسلمين وأقباط وإشاعة الأصول الداعية إلى المحبة والمودة بينهم (وقد أصبح الأستاذ الهضيبي - فيما بعد - المرشد السادس (للإخوان المسلمين). وقد نادى الإخوان المسلمون بنفس هذه المقولة في مبادرتهم حول الإصلاح في مصر (ص37 - 38) التي أعلنت في 12 محرم 1425 هـ/3 مارس 2004 م. (¬2) في ظلال القرآن (2/ 909 - 910) بتصرف. (¬3) أعياد الكفار وموقف المسلم منها لإبراهيم الحقيل (ص71 - 78) بتصرف.

ولا لباس ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة، وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام» (¬1). ثالثاً: اجتناب المراكب التي يركبونها لحضور أعيادهم: قال مالك: «يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم لنزول السخطة واللعنة عليهم» (¬2). رابعاً: عدم الإهداء لهم أو إعانتهم على عيدهم ببيع أو شراء، قال أبو الحفص الحنفي: «من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالا» (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: « ... لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئاً من مصلحة عيدهم، لا لحماً ولا إداماً ولا ثوباً ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من عيدهم، لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره لم أعلمه اختلف فيه» (¬4). خامساً: عدم إعانة المسلم المتشبه بهم في عيدهم على تشبهه: قال شيخ الإسلام: «وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تُجَب دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تُقبل ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 175) الطبعة القديمة (25/ 329). (¬2) اللمع في الحوادث والبدع (1/ 294). (¬3) فتح الباري (2/ 294). (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم (ص208) ونقله عن عبد الملك بن حبيب في الواضحة (كتاب في الفقه المالكي).

هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر» (¬1). سادساً: عدم تهنئتهم بعيدهم: وسيأتي كلام الإمام ابن القيم في الرد على قول الأستاذ محمد حسين: «ويهنيها في عيدها». * مسألة: لو أراد المسلم أن يحتفل مثل احتفالهم لكنه قدم ذلك أو أخره عن أيام عيدهم فراراً من المشابهة؟ الجواب: هذا نوع من التشبه وهو حرام؛ لأن المحرك له على إحداث احتفاله وجود عيدهم، ولأن حريم الشيء يدخل فيه، وحريم العيد ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال، فهذه حكمها حكمه فلا يُفعل شيء من ذلك؛ فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم كيوم الخميس والميلاد، ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع أو الشهر الآخر، وإنما المحرك على إحداث ذلك وجود عيدهم، ولولا هو لم يقتضوا ذلك، فهذا أيضاً من مقتضيات المشابهة (¬2). سابعاً: اجتناب استعمال تسمياتهم ومصطلحاتهم التعبدية: إذا كانت الرطانة لغير حاجة مما يُنهى عنه لعلة التشبه بهم فاستخدام تسميات أعيادهم أو مصطلحات شعائرهم مما هو أولى في النهي عنه وذلك مثل استخدام لفظ المهرجان على كل تجمع كبير وهو اسم لعيد ديني عند الفرس. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص204). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص201).

* مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص93 - 94): « ... عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حق الجار: إن مرض عدته وإن مات شيعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أعوز سترته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزّيته، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها» رواه الطبراني، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «الجيران ثلاثة جار له حق، وهو الجار الكافر، وجار له حقان هو الجار المسلم ... » الحديث، فجعل للكافر حقاً هو حق الجوار، فيكون له كل حقوق الجار. * الرد: الحديثان ضعيفان (¬1) ورغم ذلك بنى عليهما المؤلف هذا الحكم رغم تقريره أن الحديث الضعيف لا يجوز العمل به في الأحكام والعقائد (اللمع) ص32. وإنما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست» قيل: «ما هن، يا رسول الله؟»، قال: «إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتّبِعه» (¬3). * الإحسان إلى الجار الكافر يدخل في باب البر والإقساط إليه في غير مودة ومحبة، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (¬4). قال الحافظ ابن حجر: «واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد ¬

_ (¬1) انظر ضعيف الجامع الصغير (2728، 2674) للشيخ الألباني والسلسلة الضعيفة (3493) له أيضاً. (¬2) رواه الإمام البخاري (1240)، الإمام مسلم (2162). (¬3) رواه الإمام مسلم (2162/ 5). (¬4) رواه الإمام البخاري (6014).

والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأُوَل كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌ حقه بحسب حاله وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي، وقد حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم فأمر لما ذبحت له شاة يهدى منها لجاره اليهودي أخرجه في الأدب المفرد، والترمذي (¬1) وحسّنه» (¬2) ا. هـ. فإهداء الجار الكافر تأليفاً له يدخل في باب البر والإقساط إليه وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام على تشيع جنازتهم وتهنئتهم بأعيادهم. ثانياً: ذكر (ص94): «عن شقيق بن وائل قال: ماتت أمي نصرانية فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فقال: «اركب دابة وسِرْ أمام جنازتها» ... ففيه تشييع جنازة أهل الذمة». * الرد: 1 - قال الأستاذ محمد حسين نفسه (ص96 - 97): «سئل ابن تيمية - رحمه الله -: «هل يجوز للمسلم إذا مرض النصراني أن يعوده؟ وإذا مات أن يتبع جنازته؟»، فقال في الفتاوى الكبرى (¬3) الجزء الرابع والعشرين: «لا يتبع جنازته، وأما عيادته فلا بأس بها فإنه قد يكون في ذلك مصلحة لتأليفه على الإسلام». 2 - يوضح هذا الأثَرَ ـ الذي ذكره الأستاذ محمد حسين ـ ما قاله الإمام ابن القيم بعد أن ذكره: «وقال حنبل: سألت أبا عبد الله عن المسلم تموت له أم نصرانية أو أبوه أو أخوه أو ذو قرابته، ترى أن يَلِيَ شيئاً من أمره حتى يواريه؟ قال: إن كان أبا أو أما ¬

_ (¬1) رواه الإمام الترمذي (2024) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) فتح الباري (10/ 533) شرح حديث (6014). (¬3) مجموع الفتاوى (12/ 377) الطبعة القديمة (24/ 265) وليس الفتاوى الكبرى فالفتاوى الكبرى خمسة أجزاء فقط.

أو أخا أو قرابة قريبة وحضره فلا بأس، قد أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يواري أبا طالب (¬1)، قلت: فترى أن يفعل هو ذلك؟ قال: أهل دينه يلونه وهو حاضر يكون معهم، حتى إذا ذهبوا به تركه معهم وهم يلونه» (¬2). 3 - جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: س: ما حكم الله في حضور جنائز الكفار، الذي أصبح تقليداً سياسياً وعرفاً متبعاً؟ ج: إذا وجد من الكفار من يقوم بدفن موتاهم فليس للمسلمين أن يتولوا دفنهم، ولا أن يشاركوا الكفار ويعاونوهم في دفنهم أو يجاملوهم في تشييع جنائزهم، عملاً بالتقاليد السياسية، فإن ذلك لم يعرف عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن الخلفاء الراشدين، بل نهى الله رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقوم على قبر عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول، وعلل ذلك بكفره، قال تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَاَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، وأما إذا لم يوجد من يدفنه دفنه المسلمون كما فعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقتلى بدر، وبعمه أبي طالب لما توفي قال لعليّ: «اذهب فَوَارِه» (¬3). 4 - عن علي قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن عمك الشيخ الضال قد مات»، قال: «اذهب فَوَارِ أباكَ، ثم لا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتى تأتيَني» فذهبت فواريتُه، وجئتُه، فأمرني فاغتسلتُ ودعا لي (¬4). فهذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يحضر جنازة عمه، رغم أنه كان يحميه ويدافع عنه، وأمر ابنه علياً أن يواريه ولما جاء أمره بالاغتسال. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود كتاب الجنائز باب (7) الرجل يموت له قرابة مشرك حديث (3214) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) أحكام أهل الذمة (1/ 159 - 160). (¬3) فتاوى اللجة الدائمة (9/ 10 - 11). (¬4) رواه الإمام أبو داود (3214) وصححه الشيخ الألباني. لا تحدثن: لا تفعلن.

ثالثاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص98): «هل يعقل أن يبيح الإسلام أن يتزوج المسلم بالكتابية ولا يعاملها بالحسنى كسائر الزوجات؟ هل تكون له زوجة وأم أولاده ولا يحبها ويواسيها ويهنيها في أعيادها؟ إن فقه الإسلام يأمر الزوج أن يحترم مشاعرها؟ بل لها أن تذهب إلى الكنيسة وتتعبد على دينها ولا يمنعها من ذلك». * الرد: 1 - قوله: «هل يعقل ... ؟» نقول: العقل ليس مصدراً من مصادر التشريع، وإنما يجب علينا اتباع الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «لو كان الدين بالرَأْي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يمسح على ظاهر خُفَيْهِ» (¬1). 2 - قال الشيخ السيد سابق: «يحل للمسلم أن يتزوج الحرة من نساء أهل الكتاب ... والزواج بهن، وإن كان جائزاً، إلا أنه مكروه لأنه لا يؤمن أن يميل إليها، فتفتنه عن الدين، أو يتولى أهل دينها، فإن كانت حربية (¬2) فالكراهية أشد لأنه يكثّر سواد أهل الحرب، ويرى بعض العلماء حرمة الزواج من الحربية، فقد سئل ابن عباس عن ذلك فقال: «لا تحل»، وتلا قول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (¬3). * ومما يدل على كراهة التزوج منهن ما ثبت أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر: «طلِّقها»، فكتب إليه: «لمَ؟ أحرام هي؟»، فكتب إليه: «لا، ولكنى ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود (162) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) الحربية: المقيمة في غير ديار الإسلام. (¬3) فقه السنة (2/ 378 - 279) بتصرف.

خفت أن تعاطوا المومسات منهن» (¬1). * اشترط الجمهور وهم الذين يقولون بحل زواج الكتابيات عدة شروط ينبغي توافرها في الكتابية قبل الزواج بها: أ- أن تكون عفيفة. ب- أن تكون متمسكة بدينها (¬2). جـ- وأن تكون ذمية عند بعض العلماء بمعنى أنّها خاضعة لسيطرة المسلمين. ومع ذلك فقد اتفقوا على أن الأوْلى ترك التزوج بالكتابية مخافة أن تؤَثّر على ولدها، وأن تلتبس البغي بالعفيفة كما قال عمر بن الخطاب لحذيفة بن اليمان (¬3) - رضي الله عنهما -، وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد حث على الزواج بذات الدين من المسلمات فكيف بغير المسلمات أصلاً. * تنبيه: هذا الزواج لابد أن يظل معه بغض هذه المرأة على دينها، ولا مانع من استمرار النكاح مع وجود البغضاء، فكم من بيوت تقوم على غير الحب من مصالح ومنافع أخرى (¬4). 3 - قال الإمام ابن القيم: «وأما الخروج إلى الكنيسة والبيعة، فله أن يمنعها منه، نص عليه ـ أي نص عليه الإمام أحمد ـ وفي رواية يعقوب بن بختان في الرجل تكون له المرأة النصرانية: لا يأذن لها في الخروج إلى عيد النصارى أو البيعة، وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال وأبي الحارث في الرجل تكون له الجارية النصرانية تسأله الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم: لا يأذن لها في ذلك». قال الإمام ابن القيم: «وإنما وجه ذلك أنه لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ¬

_ (¬1) تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة للشيخ عادل العزازا، وعزا الأثر لسعيد بن منصور (716) وصححه، المومسات: الزوانى البغايا. (¬2) أي تكون على دين النصارى حقًا، ليست علمانية أو ملحدة أو فيها كفر إعراض عن التدين بالكلية. (¬3) جريمة الزواج بغير المسلمات فقها وسياسة لعبد المتعال الجبري (ص 90). (¬4) فضل الغني الحميد تعليقات مهمة على كتاب التوحيد للشيخ ياسر برهامي (ص116).

ولا يأذن لها فيه» (¬1). 4 - قول الأستاذ محمد حسين: «ويهنيها في أعيادها»: قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه» (¬2). * ولا يخفى أن من الحكم الظاهرة لإباحة الزواج بالكتابية أن يكون ذلك سبباً في إسلامها، لا أن يكون سبباً وعوناً لها على التمسك بدينها. وبنفس منطق الأستاذ محمد حسين: هل يُعقل أن يكون المسلم مطالَباً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة لكل أحد، ثم هو لا يبذل قصارى جهده في دعوة زوجته وأم ولده إلى الإسلام. ثم هل يُعقل أن يخاف المسلم على أبنائه من معاشرة الكفار والفجار حتى لا يتأثر بهم، ثم هو يأتي لهم بأم كافرة يسمح لها بالذهاب إلى الكنيسة ويهنئها في عيدها، رغم تمسكها بكفرها. * سؤال: نقل الأستاذ محمد حسين (ص98) عن الإمام أحمد المنع من الدخول على الكفار بِيَعهم في أعيادهم، فما رأيه فيما يفعله الإخوان المسلمون من الدخول على النصارى الكنائس لتهنئتهم بعيدهم؟ راجع كلام الإمام ابن القيم السابق قبل أسطر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «روى البيهقي بإسناد صحيح، في باب: كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم، والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم: عن ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (1/ 314). (¬2) أحكام أهل الذمة (1/ 161 - 162).

عطاء بن دينار، قال: قال عمر: لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم» (¬1). تنبيه: قال الأستاذ محمد حسين (ص98): «جاء في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) للإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: قيل للإمام أحمد بن حنبل: هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون ويشهدون الأسواق، ويجلبون الغنم فيه والبقر والرقيق والبر والشعير وغير ذلك، إلا أنهم إنما يدخلون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بِيَعَهم؟ قال: إذا لم يدخلوا عليهم بِيَعَهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس».اهـ. توضيح: قال شيخ الإسلام ابن تيمية (في نفس الكتاب 1/ 228): «فما أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها، من غير دخول الكنيسة ليس فيه شهود منكر، ولا إعانة على معصية، لأن نفس الابتياع منهم جائز، ولا إعانة فيه على المعصية، بل فيه صرف لما لعلهم يبتاعونه لعيدهم عنهم، فيكون فيه تقليل الشر، وقد كانت أسواق في الجاهلية، كان المسلمون يشهدونها، وشهد بعضها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج، ومنها ما كان يكون لأعياد باطلة وأيضاً، فإن أكثر ما في السوق، أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية، فهو كما لو حضر الرجل سوقاً يباع فيها السلاح لمن يقتل به معصوماً أو العصير لمن يخمره، فحضرها الرجل ليشتري منها، بل هذا أجود؛ لأن البائع في هذه السوق ذمي، وقد أقروا على هذه المبايعة. ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها، جاز عندنا، كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر - رضي الله عنه -، في حياة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أرض الشام، وهي دار حرب، مع أنه لا بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم ص306 - 308 بتصرف.

فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم، فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم وهو مبني على أصل وهو أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنبًا أو عصيرًا يتخذونه خمرًا وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا». رابعاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص99): «يقول الله - عز وجل -: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فقد نُهينا عن سب الكفار والمشركين وعذرهم الله بجهلهم، ونبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - عذر قومه المخالفين له في العقيدة فقال: «اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون»». الرد: 1 - الجهل نوعان: أ- جهل يُعذر صاحبه وهو الجهل الناشيء عن عدم البلاغ، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. ب- جهل لا يُعذر صاحبه وهو الجهل الناشيء عن الإعراض عن قبول الحجة، فكل المشركين جهلة من هذا الباب، وقد وصفهم الله بالجهل وعدم العلم في مواضع كثيرة من كتابه الكريم قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، وقال سبحانه في شأن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]. والمقصود بعدم العلم في الآية والحديث: اعتقاد الأمر على غير ما هو عليه، وهذا ليس عذراً لهم لأن الحجة أقيمت عليهم بإرسال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وبلوغهم الدعوة. 2 - أخطأ الأستاذ محمد حسين في تفسير الآية، ولو كلف نفسه الرجوع إلى أحد التفاسير ما قال ذلك.

قال الحافظ ابن كثير: «يقول الله تعالى ناهيا لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن سبّ آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسَبّ إله المؤمنين» (¬1). ويجوز سب آلهتهم عند أمن الفتنة كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - في صلح الحديبية (¬2). 3 - قال الأستاذ محمد حسين: «وعذرهم الله بجهلهم»: الرد: عذر من؟! المشركين الذين يسبون الله - عز وجل - ويعبدون الأصنام؟! فلماذا يدخلهم النار؟! وإذا كان الله - عز وجل - قد عذر الكافر المشرك أبا لهب بجهله فلِمَ قال: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]؟! ولماذا قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72]؟! بل لماذا قال الله تعالى في حق النصارى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 88 - 93] وقال - عز وجل -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [سورة المائدة: 72] وقال - عز وجل -: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة: 17]. وإذا كان الله قد عذرهم بجهلهم وإذا كان نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - قد عذرهم، فلماذا حاربهم ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم عند تفسير الآية 108من سورة الأنعام. (¬2) رواه البخاريُّ (2529).

- صلى الله عليه وآله وسلم - ولماذا قتلهم؟! وقول الأستاذ محمد حسين: «إن الله عذرهم بجهلهم» ـ وهم مشركون ـ هل معناه أنهم سيدخلون الجنة؟ ولو فتح الأستاذ محمد حسين (في ظلال القرآن) أو أي كتاب تفسير؛ ما وقع فيما وقع فيه، يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في تفسير الآية: « ... لقد أُمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله ـ سبحانه ـ وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه، فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الجليل العظيم» (¬1). ولو أكمل الأستاذ محمد حسين الآية ما قال ذلك، قال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]. يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية: «وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ}، أي: من الأمم الخالية على الضلال {عَمَلَهُمْ} الذي كانوا فيه، ولله الحكمة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره، {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ} أي معادهم ومصيرهم، {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي يجازيهم بأعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر» (¬2)، فإذا كان الله قد عذرهم فَلِمَ توعّدهم على شركهم بمجازاتهم بأعمالهم؟ ويقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها، أن كل من عمل عملاً، فإنه يستحسنه ويدافع عنه ... وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق» (¬3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر هذه الآية ونظائرها: «فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل وعدم العلم بكونها تضرهم ضرراً راجحاً أو ظن أنها تنفعهم نفعاً ¬

_ (¬1) الظلال (2/ 1169). (¬2) تفسير القرآن العظيم عند تفسير الآية 108 من سورة الأنعام. (¬3) في ظلال القرآن (2/ 1169) بتصرف.

راجحاً» (¬1). * يتضح مما سبق أن قول الأستاذ محمد حسين أن الله عذر الكفار والمشركين بجهلهم ـ قول خطير لأنه ينافي قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» (¬2). قال الإمام النووي في شرح الحديث: «فيه نسْخ الملل كلها برسالة نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفي مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور ... وإنما ذكر اليهود والنصارى تنبيهاً على من سواهما وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أوْلا» (¬3). وانظر أيضاً البداية والنهاية للحافظ ابن كثير، (2/ 73 - 79) باب مجادلة المشركين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - واعترافهم في أنفسهم بالحق وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً. 4 - قول الأستاذ محمد حسين: ونبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - عذر قومه المخالفين له في العقيدة، فقال: «اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون». توضيح: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضَربَه قومه فأَدْمَوْهُ، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬4). قال الحافظ ابن حجر: «يحتمل أن ذلك لما وقع للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر لأصحابه أنه وقع لنبي آخر قبله، وذلك فيما وقع له يوم أحد لما شُج وجهه وجرى الدم منه، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (7/ 392) الطبعة القديمة (14/ 290 - 291). (¬2) رواه الإمام مسلم (240). (¬3) شرح صحيح الإمام مسلم (حديث 240). (¬4) رواه البخاري (3477، 6929)، ورواه مسلم (1792) بنحوه.

فاستحضر في تلك الحالة قصة ذلك النبي الذي كان قبله فذكر قصته لأصحابه تطييباً لقلوبهم ... وفي صحيح ابن حبان من حديث سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، قال ابن حبان: «معنى هذا الدعاء الذي قال يوم أحد لما شج وجهه: أي اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقاً»» (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... وكذلك ينفع دعاؤه (أي دعاء الرسول) لهم (أي للكفار) بألا يعجل عليهم العذاب في الدنيا كما كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يحكى نبِيّاً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، ورُوي أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّا} [فاطر: 5]» (¬2). خامساً: قال الأستاذ محمد حسين (ص100): «إن الله أثبت أخوّة بين المخالفين في العقيدة هي أخوة القومية والوطنية والمصالح المشتركة بين المتخالفين في العقيدة، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود: 50]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [هود: 61]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود: 84]، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106]، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 161]، فهذه أخوة خلاف أخوة العقيدة في قوله تعالى: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] فلا مشاحة في أن نقول: إخواننا النصارا، أو نقول: إخواننا وأبناء وطننا من النصارا، ولا عيب أن نتناصح ونتشارك في المصالح الوطنية المشتركة». * الرد: ¬

_ (¬1) فتح الباري (6/ 630 - 631) بتصرف. (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 109)، الطبعة القديمة (1/ 144).

1 - من أصول الإيمان أن الأخوّة لا تكون إلا للمسلمين يقول الله تعالا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فحصرالإخوة في المؤمنين دون غيرهم من الكافرين (¬1). قال الإمام القرطبي: «إنما المؤمنون إخوة أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوَّة الدين أَثْبَتُ من أخوَّة النسب فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب» (¬2). وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا برءاؤاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. قال الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: «فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم، وهو الكفر بهم والإيمان بالله وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده وهي المفاصلة الحاسمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان» (¬3). وقال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «الكافر ليس أخاً للمسلم والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فليس الكافر يهوديا أو نصرانيا أو غيرهم أخاً للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحباً وصديقاً» (¬4). وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «أما قول: «يا أخي» لغير المسلم فهذا حرام ¬

_ (¬1) معالم التيار الفكرى عند القرضاوي لإبراهيم عبده الشرفاوى (ص55) ومما ذكره من أخطاء للدكتور القرضاوي: رفضه لبعض الأحاديث زاعماً معارضتها للقرآن، وقوله أن الكفار إخوان لنا، واعتراضه على مسمى الجزية، وقوله بجواز مودة الكفار، وقوله بجواز أن تمثل المرأة المسلمة، وقوله بجواز لمس المرأة الأجنبية، وتحليله الأغانا، وتحليله أكل الحيوانات التي ذبحها أهل الكتاب بطريقة الصعق الكهربا، وقوله بجواز دخول السينما ... .الخ. (¬2) تفسير القرطبي (سورة الحجرات، الآية 10). (¬3) في ظلال القران (6/ 3542). (¬4) فتاوى نور على الدرب (1/ 370).

ولا يجوز، إلا أن يكون أخاً له من النسب أو الرضاع، وذلك لأنه إذا انتفت أخوة النسب والرضاع لم يبق إلا أخوة الدين والكافر ليس أخاً للمؤمن في الدين» (¬1). ورغم ذلك يقول الأستاذ محمد حسين: «لا مشاحة أن نقول: «إخواننا»، أو نقول: «إخواننا وأبناء وطننا من النصارا»»!! 2 - معنى الأخوة في الآيات التي ذكرها الأستاذ محمد حسين أن الله قد أخبر بأنه قد بعث هؤلاء الأنبياء إلى أقوامهم، وأن بينهم نسباً فليسوا هم غرباء عنهم، وإنما ذوو قرابة، فلا حرج أن يسمى المسلم الكافر أخاً إذا كان أخاً له في النسب أو الرضاعة، وهؤلاء الأنبياء المذكورون ذوو نسب مع قومهم، فبينهم أخوة نسب لا أخوة دين. قال الإمام الألوسي: «معنى كونه - عليه السلام - أخاهم أنه منهم نسباً، وهو قول الكثير من النسابين» (¬2). وقال الإمام القرطبي: «قيل له أخوهم لأنه منهم وكانت القبيلة تجمعهم كما تقول: يا أخا تميم» (¬3). 3 - ما ذكر في الآيات حكاية عن أنهم من قومهم، ولم يذكر القرآن أنهم قالوا لهم: يا إخوتنا، أو أنتم إخواننا، ولم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك، بل ثبت العكس عن إبراهيم - عليه السلام - حيث قال هو والذين آمنوا معه: {إِنَّا برءاؤاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ}. 4 - بنى الأستاذ محمد حسين على فهمه من هذه الآيات أن الله أثبت أخوة بين المتخالفين في العقيدة هي أخوة القومية والوطنية والمصالح المشتركة بين المتخالفين في العقيدة، ونقول ما المصالح المشتركة التي كانت بين إبراهيم - عليه السلام - وقومه والتي ¬

_ (¬1) المجموع الثمين (3/ 113). (¬2) روح المعاني (8/ 154). (¬3) تفسير القرطبي (تفسير الآية 50 من سورة هود).

ضحى بها بقوله هو والذين آمنوا معه لقومهم: {إِنَّا برءاؤاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]؟ وما المصالح المشتركة التي كانت بين نوح - عليه السلام - وقومه التي ضحى بها بقوله: {رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] وما المصالح المشتركة التي كانت بين لوط - عليه السلام - وقومه والتي ضحوا بها بقولهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]. هل كان بين الأنبياء عليهم السلام وأقوامهم إلا العداوة والصدّ عن سبيل الله ومحاربة دين الله - عز وجل - {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] فهل بعد ذلك يقول الأستاذ محمد حسين: «أخوة القومية والوطنية والمصالح المشتركة»؟!! وأين كانت أخوة القومية والوطنية والمصالح المشتركة عندما كانت قريش ـ قوم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ يعذبون رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه وهم قرشيون مثلهم من بني قومهم؟ 5 - اتضح مما سبق أن أنبياء الله عليهم السلام كانوا محارَبين من أقوامهم ورغم ذلك قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود: 50] وغيرها من الآيات، واتضح مما سبق أنها أخوة النسب ومثلها أخوة القومية والوطنية، وهذه الأخوة التي ذكرها الله اقتضت مزيد النصح والشفقة عليهم من الخلود في النار وإقامة الحجة وليس المودة والموالاة، أما التي تقتضي المودة والموالاة فهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ونسأل الأستاذ محمد حسين: هل يقول إخواننا الفلسطينيون عن اليهود العرب الذين يحاربونهم: «إخواننا اليهود»؟ وهل يقول إخواننا المسلمون المقيمون في أمريكا عن الأمريكان: إخواننا الأمريكان (أخوة المصالح المشتركة)؟ وإذا قال بجواز ذلك، هل يجوز له أن يقول: الأخ شارون والأخ بوش والأخت كونداليزا؟

6 - أما قول الأستاذ محمد حسين: «ولا عيب أن نتناصح ونتشارك في المصالح الوطنية المشتركة»، فنترك الرد للأستاذ سيد قطب - رحمه الله - حيث يقول: «إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه مَنْهِاّ عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم، وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقى مع طريق أهل الكتاب، (¬1) ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه (¬2) ولن يكُفَّهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له ... وسذاجة أي سذاجة وغفلة أي غفلة، أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين! أمام الكفار والملحدين! فهم مع الكفار والملحدين، إذا كانت المعركة مع المسلمين!!! وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منا في هذا الزمان وفي كل زمان ... ناسين تعاليم القرآن كله، وناسين تعليم التاريخ كله ... إن هؤلاء لا يقرؤون القرآن وإذا قرؤوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام، فظنوها دعوة الولاء التي يحذِّر منه القرآن» (¬3). 7 - وبينما نسمع من الأستاذ محمد حسين هذا القول فيما يتعلق بالنصارى نجده في كتابه (سلوكيات وأحكام المرأة في المجتمع المسلم) (ص34) يصف علماء المسلمين ـ المخالفين له في مسألة شرعية ـ بأنهم قَليلوا الصلة بالقرآن والعلم، مع أن رأيهم هو الراجح، فهل هذا نصيب إخوانك المسلمين من التناصح؟ فهلا قلت عنهم مثل ما قلت عن النصارا. ¬

_ (¬1) قال الدكتور جابر قميحة: أعلن الإخوان أن الحزب الذي يدعون إلي إنشائه يتسع لعنصري الأمة المسلمين والأقباط. (أفاق عربية 8/ 10/1426 - 10/ 11/2005) وللقاريء أن يتخيل حزباً إسلامياً بهذا الشكل. (¬2) وصدق - رحمه الله - فقد أعلن النصارى الذين يلمعهم (الإخوان المسلمون) أمثال ميلاد حنا رفضهم للشريعة الإسلامية، بل قال ميلاد حنا: «في اليوم الذي يفوز فيه الإخوان المسلمون بأكثر من 50? من المقاعد، فإن الأقباط الأغنياء سيغادرون البلاد وسيبقى الأقباط الأفقر، وربما يغير بعضهم دينه وأتمنى أن أموت قبل أن يأتي هذا اليوم» (الشرق الأوسط 22/ 11/2005)، وانظر: (الأهرام 25/ 10/1426 - 27/ 11/2005). (¬3) في ظلال القرآن (2/ 910) عند تفسير الآية 51 من سورة المائدة.

ولنا سؤال: أليس بينكم وبين إخوانكم المسلمين من العاملين للإسلام مصالح مشتركة وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نجد منكم الحرص على هذه المصالح؟ بل نجد من البعض التحذير والتنفير منهم بحجة أنهم متشددون؟ أليس هؤلاء الإخوة أقرب إليكم من النصارا؟ سادساً: قال الأستاذ محمد حسين (ص100): «إن العقيدة والعبادة لا إكراه فيها، والقاعدة التي سنّها الصحابة رضوان الله عليهم هي (اتركوهم وما يدينون)» تعليق: قاعدة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ليس معناها تصحيح مذهب الكافرين، أو السكوت عن ما هم عليه من باطل أو إقرارهم عليه، أو التهاون في جهادهم ودعوتهم إلى الإسلام، ولو أن الصحابة فعلوا ذلك لما فتحوا البلاد ولا نشروا الإسلام، ولا وصل الإسلام إلينا في مصر، قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية (256) من سورة البقرة: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَاَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بيّن واضح جليّ دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحدٌ على الدخول فيه، بل مَن هداه الله للإسلام وشرَح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فانه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسوراً، وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبَى أحد منهم الدخول فيه ولم ينْقَدْ له أو يبذل الجزية قوتل حتى يقتل، وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وقال تعالا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أمير المؤمنين، عمر في الصحابة - رضي الله عنهم -، ثم عامة الأئمة بعده، وسائر الفقهاء ـ جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، فيما شرطوه على أنفسهم: «أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء، من لباسهم: قلنسوة، أو عمامة أو نعلين، أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كان، وأن نشد الزنانير (¬1)، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليباً، ولا كتباً (¬2)، في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفياً، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين» رواه حرب بإسناد جيد. وفي رواية أخرى رواها الخلال: «وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيّاً، في جوف كنائسنا، ولا نُظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في كنائسنا، فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليباً، ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثا ًـ والباعوث: يخرجون يجتمعون كما يخرج يوم الأضحى والفطر ـ ولا شعانينا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور»، إلى أن قال: «وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين، في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا». ¬

_ (¬1) الزُّنّار: حزام يشده النصارى على أوساطهم. (¬2) أي: من كتب دينهم.

وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة، بين العلماء من الأئمة المتبوعين، وأصحابهم، وسائر الأئمة، ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة فيها (¬1). تنبيه هام: قال الشيخ الألباني في (السلسلة الصحيحة رقم 303) عند قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك (فقد) حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»: «صحيح، وفيه دليل على بطلان الحديث الشائع على ألسنة الخطباء والكتاب أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال في أهل الذمة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». وهذا مما لا أصل له عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -»، انظر الضعيفة رقم (1103)، وللحديث شاهد بلفظ آخر وهو التالي رقم (304): «من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا»: (حسن) ا. هـ. سابعًا: مسألة الصلاة في الكنيسة: إذا تيسر وجود غير الكنائس ليصلي فيها لم تجز الصلاة في الكنائس ونحوها، لأنها معبد للكافرين يعبدون فيه غير الله، ولما فيها من التماثيل والصور وإلا جاز للضرورة، قال عمر - رضي الله عنه -: «إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها والصور» وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يصلى في البيعة إلا بيعة فيها التماثيل والصور (¬2). * تنبيه: الصلاة في الكنيسة تختلف عن دخولها لتهنئة الكفار بأعيادهم، وقد سبق بيان أن هذا لا يجوز. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم 217 - 218. (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 272) والأثران أخرجهما البخاري تعليقاً في الصلاة، باب الصلاة في البيعة. (والبيعة: كنيسة النصارى).

ثامنًا: تعزية أهل الكتاب والكفار: * قال ابن قدامة في المغنى (2/ 212): «وتوقف أحمد - رحمه الله - عن تعزية أهل الذمة وهي تُخَرَّج على عيادتهم وفيها روايتان: إحداهما: لا نعودهم، فكذلك لا نعزيهم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تبدؤوهم بالسلام» وهذا في معناه. والثانية: نعودهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أتى غلاماً من اليهود كان مرض يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: «أَسْلِم»، فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له: «أَطِعْ أبا القاسم»؛ فأسلم، فقام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» رواه الإمام البخاري» ا. هـ. * سئل الشيخ ابن عثيمين: ما حكم تعزية أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار إذا مات لهم ميت؟ وما حكم حضور دفنه والمشي في جنازته؟ فأجاب: «لا يجوز تعزيته بذلك، ولا يجوز أيضاً شهود جنائزهم وتشييعهم، لأن كل كافر عدو للمسلمين، ومعلوم أن العدو لا ينبغي أن يواسَى ولا يُشَجَّع للمشي معه، كما أن تشييعنا لجنائزهم لا ينفعهم، ومن المعلوم أيضاً أنه لا يجوز لنا ندعو لهم لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬1) [التوبة: 113]» (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام وفتاوى التعزية والمآتم (ص40). (¬2) والعجيب أن يقدم الدكتور يوسف القرضاوي العزاء في بابا الفاتيكان الهالك يوحنا بولس الثاني، ويُثْني على نشاطه في نشر دينه ويدعو الله أن يرحمه ويثيبه (كما جاء في برنامج (الشريعة والحياة) الذي عُرض على قناة الجزيرة بتاريخ 3/ 4/2005 وها هي مقتطفات من كلامه: قال - هدانا الله وإياه-: نقدم عزاءنا في هذا البابا الذي كان له مواقف تُذكر وتُشكر له ... مواقف الرجل العامة وإخلاصه في نشر دينه ونشاطه حتى رغم شيخوخته وكبر سنه، فقد طاف العالم كله وزار بلاداً ومنها بلاد المسلمين نفسها، فكان مخلصاً لدينه وناشطاً من أعظم النشطاء في دعوته والإيمان برسالته ... لا نستطيع إلا أن ندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه بقدر ما قدم من خير للإنسانية، وما خلف من عمل صالح أو أثر طيب ... ونسأل الله أن يعوض الأمة المسيحية فيه خيراً. ا. هـ كلام الدكتور القرضاوي. * تعليق: كان البابا مخلصاً لدعوته في نشر دينه وكان يحاول رد المسلمين عن دينهم في إندونسيا وبنجلاديش وفي غيرها من بلاد المسلمين مستغلاً الفقر المدقع الذي يعانونه، فهل هذا من الخير الذي قدمه للإنسانية والذي يدعو الدكتور القرضاوي الله تعالى أن يثيبه عليه؟! وهل هذه الأفعال ترضي الدكتور القرضاوي حتى يدعو الله أن يرحمه؟ وإذا كان لا يجوز للمسلم أن يدعو بالرحمة للكافر ولو كان من أهل الذمة - حتى ولو كان أباً أو أخاً أو عماً - فهل يجوز - من وجهة نظر الدكتور القرضاوي - الدعاء بالرحمة لرجل قضى حياته في نشر الكفر والصد عن سبيل الله ومحاولة رد المسلمين عن دينهم بشتى الوسائل؟ ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ مهدي عاكف - مرشد الإخوان المسلمين - قد نعى وفاة البابا وأشار إلى دوره في الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والمنكوبين. ا. هـ[آفاق عربية (702) الخميس 7/ 4/2005)] وبالطبع كان للبابا دور في صد المنكوبين المسلمين عن سبيل الله ومحاولة تنصيرهم.

قال الشيخ الألباني في حاشية (ص169) من (أحكام الجنائز) تعليقاً على حديث موت أبي طالب: «ومن الملاحظ في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُعَزِّ علياً بوفاة أبيه المشرك، فلعله يصلح دليلاً لعدم شرعية تعزية المسلم بوفاة قريبه الكافر، فهو من باب أولى دليل على عدم جواز تعزية الكفار بأمواتهم أصلاً» اهـ.

حادي عشر: تلقين الميت بعد دفنه

حادي عشر: تلقين الميت بعد دفنه * الصحيح من قولي العلماء في التلقين بعد الموت أنه غير مشروع، بل بدعة وكل بدعة ضلالة، وليس مذهب إمام من الأئمة الأربعة حجة في إثبات حكم شرعي، بل الحجة في كتاب الله وما صح من سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي إجماع سلف الأمة ولم يثبت في التلقين بعد الموت شيء من ذلك فكان مردوداً. أما تلقين من حضرته الوفاة كلمة «لا إله إلا الله» ليقولها وراء من لقنه إياها فمشروع، ليكون آخر قوله في حياته كلمة التوحيد، وقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع عمه أبي طالب، لكنه لم يستجب له، بل كان آخر ما قال: «إنه على دين عبد المطلب» (¬1). * المستحب بعد الدفن هو الدعاء للميت بالمغفرة والتثبيت عند السؤال؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل» (¬2). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: استدل (ص36، 49) بحديث أبى أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فلْيَقُم أحدكم على رأس قبره ثم يقول: يا فلان ابن فلانة ... اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً ... » إلخ. * الرد: ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 338 - 339، 9/ 92 - 93) والحديث رواه مسلم (39/ 24). (¬2) رواه الإمام أبو داود (3221) وصححه الشيخ الألباني.

1 - الحديث ليس حجة لأنه ضعيف كما نقل الأستاذ محمد حسين عن ابن القيم (ص36، 49) ونقل (ص49) عن ابن تيمية قوله فيه: «لا يحكم بصحته»، وقد نصّ على ضعفه الحافظ ابن حجر العسقلاني وابن الصلاح والنووي (¬1). 2 - قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: «ولم يكن ـ يعني الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ يجلس يقرأ عند القبر ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم» (¬2) وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. 3 - طالما أن الحديث ضعيف فإنه لا يعمل به في الأحكام ولا يبنى عليه حكم بالاستحباب، فقد ذكر الأستاذ محمد حسين (ص32) أن الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام والعقائد. 4 - التلقين بعد الدفن ورد فيه أثر رواه سعيد بن منصور في سننه عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب وحكيم بن عمير من التابعين وهذا الأثر جزم ابن حزم بضعف راشد وهو أحد رواته، ومن هذا نعلم أن التلقين بعد الدفن ليس فيه حديث أو أثر خال من القدح في سنده (¬3). ثانياً: استدل بأقوال بعض العلماء وبعمل الناس لهذه البدعة حيث نقل (ص49) أن تلقين الميت في قبره جرى عليه عمل الناس، وقال به بعض العلماء. * الرد: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء أو العبّاد، أو أكثرهم ونحو ذلك، ليس مما يصلح أن يكون معارضاً لكلام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناءً على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها، فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل ولا يزال في كل ¬

_ (¬1) الإبداع (241). (¬2) زاد المعاد (1/ 532 - 533). (¬3) الإبداع (241) بتصرف.

وقت من ينهى عن عامة العبادات المحدثة المخالفة للسنة، ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟ وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم، ومع ما أُوتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن على عادات أكثر من اعتادها عامة ... أو قوم مترئسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم ... أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل من غير رويّة، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين» (¬1). ثالثاً: نقل (ص49) أنه: قيل: إن التلقين ينفعه كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن قال: «إنه ليسمع قرع نعالهم». *الرد: 1 - قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «الأمور ليست بالقياس وإنما العبادة توقيفية، وسماع قرع النعال لا ينفعه ولا يضره، والميت إذا مات انتقل من الدنيا دار العمل وختم على عمله وانتقل إلى دار الجزاء» (¬2). 2 - قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «استغفروا لأخيكم وسَلُوا له التثبْيت فإنه الآن يُسْأَل» (¬3)، ولم يقل: «لقنوا أخاكم»، ولو كان التلقين مشروعاً ما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السنين الطوال مع عدم المانع من فعله ووجود المقتضي له وهو التقرب إلى الله تعالا، والوقت وقت تشريع وبيان للأحكام، فلو كان ديناً وعبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى ما تركه السنين الطويلة مع أمره بالتبليغ وعصمته من الكتمان. رابعاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص50): «وأقول: وعلى هذا القول فإن ترك ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص245) بتصرف. (¬2) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (13/ 207). (¬3) رواه الإمام أبو داود (3221) وصححه الشيخ الألباني.

التلقين هذا يعتبر بدعة تَرْكِيّة». * الرد: 1 - يجب أن نُثْبِتْ أولاً أنه سُنّة ثم نقول هذا القول، وأنّى لنا ذلك ولم يَثْبُتْ فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا أثر عن الصحابة، ولا التابعين وقد سبق نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على من يستدل بعمل الناس فالتلقين بدعة وليس تركه بدعة. 2 - الآن فقط تذكر الأستاذ محمد حسين تَرْك السنن رغم أن كتابه (اللمع) فيه هدم لكثير من السنن والتحايل لتركها اعتماداً على أقوال بعض العلماء. والعجيب جداً أن الأستاذ محمد حسين لم يقل إن ترك ما صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (من الاستغفار للميت وسؤال التثبيت له) لم يقل إن تركه بدعة تركية، بل تعلق بالحديث الضعيف في التلقين وبعمل بعض الناس به وقال إن ترك العمل بالتلقين يُعَدّ بدعة تركية!!! وما هذا إلا ثمرة لترك المحكَم والتعلق بالمتشابه. * توضيح: البدعة التَّرْكِية: ترك المطلوبات الشرعية وجوباً أو ندباً إن كان الترك تديناً؛ لأنه تدين بضد ما شرع الله، أما تركها كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك فهو راجع إلى المخالفة للأمر فإن كان في واجب فمعصية، وإلا فلا (¬1).وعلى فرض أن التلقين سنة، فإنا لا نعلم أن أحداً من الذين يتركون التلقين يتركونه تديناً، فكيف يوصف ذلك بكونه بدعة تركية؟ ¬

_ (¬1) الإبداع (ص53) بتصرف، وانظر أقسام البدع من هذا الرد.

ثاني عشر: إقامة السرادقات لأخذ العزاء

ثاني عشر: إقامة السرادقات لأخذ العزاء * قال الشيخ السيد سابق - رحمه الله -: «السنة أن يُعزَّى أهلُ الميت وأقاربه، ثم ينصرف كلٌ في حوائجه، دون أن يجلس أحد، سواء أكان معزَّى أو معزِّياً، وهذا هو هدي السلف الصالح؛ قال الشافعي في (الأم): أكره المآتم، وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء؛ فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من الأثر (¬1)، قال النووي: قال الشافعي وأصحابه ـ رحمهم الله ـ: يكره الجلوس للتعزية، قالوا: ويعنى بالجلوس أن يجلس أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهية الجلوس لها» (¬2). * قال الشيخ ابن باز: «الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة، وإنما يؤتى أهل الميت للتعزية والدعاء لهم والترحم على ميتهم، أما أن يجتمعوا لإقامة مأتم بقراءة خاصة أو أدعية خاصة أو غير ذلك فذلك بدعة، ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه سلفنا الصالح» (¬3). وقال أيضاً: «يشرع لكل مسلم أن يُعَزّي أخاه بعد خروج الروح في البيت أو في الطريق أو في المسجد أو في المقبرة» (¬4). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: قال الأستاذ محمد حسين (ص52، 53): «إقامة السرادقات لأخذ العزاء من ¬

_ (¬1) كأنه يشير إلى حديث جرير بن عبد الله البجلا؛ قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة» رواه الإمام ابن ماجه (1612) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) فقه السنة (2/ 91). (¬3) مجوع فتاوى الشيخ ابن باز (13/ 383). (¬4) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (13/ 382).

العادات وليست من العبادات والحكم عليها من قِبَل المصالح أي النفع والضر، والحسن والقبح، فإن احتيج إليها للإيواء من الشمس والبرد وللجلوس لعدم وجود مكان يتسع لمن يجئ للعزاء فهي من المصالح المرسلة يفعلها الناس عادة ولا يتقربون بها إلى الله ... وقد ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جلس لأخذ العزاء في قتلى مؤتة». الرد: أولاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص46): «أما عمل سنوية أو عمل أربعين أو عمل خميس أول للميت، فإنها من موروثات الوثنية الفرعونية، فهي لا تُعمَل إلا في مصر أيضاً، وهذه تُعمل وتُؤَدَّى باعتبارها دِيناً وواجباً دينياً، ويُلامُ مَنْ يتركه، لذلك فهي بدع مذمومة يجب القضاء عليها بنشر تعاليم الدين الحنيف» انتهى كلامه. ونحن نتفق معه في أنها بدع مذمومة يجب القضاء عليها بنشر تعاليم الدين الحنيف، ولكن الواقع أن الناس يتعاملون مع الخميس والأربعين والسنوية بنفس الطريقة التي يتعاملون بها مع إقامة السرادقات لأخذ العزاء، فإما أن يكون ذلك كله من قبيل العادات وإما أن يكون من قبيل العبادات. ثانياً: كلام الأستاذ محمد حسين عن سرادقات يجلس فيها الناس يحتاجها الناس للإيواء من الشمس والبرد وللجلوس، هل هذا هو الواقع؟ أم أن الواقع (كما يحدث في مصر مثلاً) شيء آخر؟ قال الشيخ السيد سابق: «ما يفعله بعض الناس اليوم من الاجتماع للتعزية، وإقامة السرادقات وفرش البسط، وصرف الأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة، من الأمور المحدثة والبدع المنكرة التي يجب على المسلمين اجتنابها، ويحرم عليهم فعلها، لاسيما وأنه يقع فيها كثير مما يخالف هدي الكتاب ويناقض تعاليم السنة، ويسير وفق عادات الجاهلية، كالتغني بالقرآن، وعدم التزام آداب التلاوة،

وترك الإنصات، والتشاغل عنه بشرب الدخان وغيره» (¬1). ثالثاً: استدلاله بالحديث على جواز السرادقات ليس في محله وذلك لما يلي: 1 - نص الحديث: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «لما جاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قَتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن» (¬2). 2 - قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح الحديث: «جلس»: زاد أبو داود من طريق سليمان بن كثير عن يحيى «في المسجد»، وفي الحديث جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار. 3 - ليس في الحديث اجتماع على التعزية وليس فيه سرادقات ولا قراءة قرآن ولا غير ذلك من البدع التي تحدث في المآتم، فلا علاقة للحديث بهذه السرادقات. قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «فقد قتل جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم - في معركة مؤتة فجاءه الخبر ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الوحي بذلك فنعاهم للصحابة وأخبرهم بموتهم وترضّى عنهم ودعا لهم ولم يتخذ لهم مأتماً» (¬3). ¬

_ (¬1) فقه السنة (2/ 91). (¬2) رواه البخاري (299)، مسلم (935). (¬3) مجموع فتاوى ابن باز (13/ 383).

ثالث عشر: قراءة القرآن على القبر

ثالث عشر: قراءة القرآن على القبر * قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «قراءة القرآن على القبور بدعة ولم ترد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن أصحابه، وإذا كانت لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن أصحابه فإنه لا ينبغي لنا نحن أن نبتدعها من عند أنفسنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال فيما يصح عنه: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (¬1) ... وأما الدعاء للميت عند قبره فلا بأس به فيقف الإنسان عند القبر ويدعو له بما يتيسر مثل أن يقول: «اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم أدخله الجنة، اللهم أفسح له في قبره»، وما أشبه ذلك» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من قال: «إن الميت ينتفع بسماع القرآن ويؤجر على ذلك» فقد غلط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬3) فالميت بعد الموت لا يثاب على سماع ولا غيره وإن كان يسمع قرع نعالهم، ويسمع سلام الذي يسلم عليه ويسمع غير ذلك لكن لم يبق له عمل غير ما اسْتُثْني» (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام النسائى (1577) وصححه الشيخ الألباني. (¬2) فتاوى أركان الإسلام (ص413 - 414) بتصرف. (¬3) رواه الإمام مسلم (1631) بلفظ: إذا مات الإنسان. (¬4) مجموع الفتاوى (12/ 406، 407).

رابع عشر: مسألة التوسل

رابع عشر: مسألة التوسل * التوسل المشروع (¬1): 1 - التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنا، أو صفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: «اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني»، أو يقول: «أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي»، ومثله قول القائل: «اللهم إني أسألك بحبك لمحمد»، فإن الحب من صفاته تعالا. 2 - التوسل إلى الله بعمل صالح قام به الداعي: كأن يقول المسلم: «اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك اغفر لي ... »، أو يقول: «اللهم إني أسألك بحبي لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وإيماني به أن تفرج عني»، ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بال، فيه خوفه من الله سبحانه وتقواه إياه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه. 3 - التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الحي الحاضر: كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالا، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله تعالا، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوا، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج عنه كربه ويزيل عنه همه. * التوسل غير المشروع (¬2) وله ثلاث مراتب: 1 - أن يدعو غير الله ويستغيث به، أو يطلب منه المدد، وهو ميت أو غائب، ¬

_ (¬1) التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني (32 - 46) بتصرف، وانظر الأدلة على ذلك هناك. (¬2) فضل الغنى الحميد تعليقات مهمة على كتاب التوحيد للشيخ ياسر برهامى (ص104 - 106) بتصرف.

سواء كان من الأنبياء، أم الصالحين، أم الملائكة، أم الجن، أم غيرهم كأن يقول: «يا سيدى فلان أغثنى أو اقض حاجتا، أو اشف مريضي» ونحو هذا، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وإن سماه صاحبه توسلاً، فهو توسل شركى من جنس توسل المشركين بعبادة غير الله، القائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفا} [الزمر: 3]. 2 - أن يقول للميت والغائب: ادْعُ الله لي أو اشفع لي في كذا، فهذا لا خلاف بين السلف أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يقل بها أحد من علماء الأمة وهو من ذرائع الشرك، فهو من الشرك الأصغر، والفرق بينه وبين الذي قبله أن الأول دعاء غير الله، والثاني مخاطبة الميت بما لم يرد في الكتاب والسنة، ولكنه لم يَدْعُه، ولم يسأله قضاء الحاجات وتفريج الكربات؛ فلم يصرف له العبادة. 3 - أن يقول في دعائه لله - عز وجل -: «أسألك يا رب بفلان»، يقصد بذاته أو بحقه أو بجاهه، ونحو ذلك، وليس هذا مشهوراً عن الصحابة - رضي الله عنهم - بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس - رضي الله عنه - وتَرْكهم لهذا النوع، مع وجدود المقتضي له وانتفاء الموانع منه، واستحضارهم له، يدل على أنهم تركوه تعبداً لله ففِعْله بدعة، ولا يصح عن أحد من الصحابة خلافه. وهذا النوع الأخير فيه خلاف بين أهل العلم لكن الصحيح النهي عنه. * قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل للأمر الدينى إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلاً سبب لاستجابة الدعاء لرُدَّ ذلك عليه إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل، لأنه كلام ينقض بعضه بعضاً، إذ إنك تسميه توسلاً، وهذا لم يثبت شرعاً وليس له طريق آخر في إثباته ... فحين يقال: بأن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها، فما الذي يحمل المسلم على اختياره هذا التوسل الذي لم يرد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة

فهي بدعة ضلالة اتفاقاً، فهذا التوسل من هذا القبيل فلم يجز التوسل به ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب» (¬1). * مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين: أولاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص130) أنه: «لا يوجد ما يمنع شرعاً من السؤال بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو ذات غيره من الصالحين مما لا يعبد من دون الله تعالى وذلك له دليله الشرعي». * الرد: 1 - اشترط أن يكون المتوَسَّل به مما لا يُعبد من دون الله تعالا، فعلى كلامه يجوز التوسل بأبي بكر الصديق ولا يجوز التوسل بعيسى - عليه السلام -؛ لأن عيسى يُعبد من دون الله. 2 - من الناس من يَدْعُون غير الله - عز وجل - من الأنبياء والصالحين وهذا الدعاء عبادة وصرفها لغير الله شرك، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] (¬2). فعلى ما نقله الأستاذ محمد حسين لا يجوز التوسل بهم لأن الناس عبدوهم وهو قد اشترط أن يكون المتَوَسَّل به مما لم يعبد من دون الله، وما يحدث عند الأضرحة من الاستغاثة بالمقبورين ودعائهم والتمسح بقبورهم دليل على اعتقادهم الضر والنفع بهم، ودعائهم والاستغاثة بهم من الشرك الأكبر فعلى هذا لا يجوز التوسل بهم حسب ما اشترط هو. 3 - قوله: «وذلك له دليله الشرعي»، سيتبين من الصفحات التالية إن شاء الله أن هذا القول ليس له أي دليل شرعي. ¬

_ (¬1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص150 - 151) بتصرف. (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند (18299) والإمام أبو داود (1479) وصححه الشيخ الألباني.

ثانياً: قال الأستاذ محمد حسين (ص130): «يقول ابن تيمية في قاعدة جليلة: «السؤال بذات الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يجوِّزه طائفة من الناس ونُقِلَ في ذلك آثار عن السلف وهو موجود في دعاء كثير من الناس لكن ما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك ضعيف بل موضوع وليس عنه حديث ثابت قد يُظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى ودعاء عمر في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار» انتهى كلام ابن تيمية، وأقول: إنه أثبت حجية ذلك بحديث الأعمى واستسقاء الصحابة وبرغم رده على ذلك فهو رد للحديث الصحيح ولأعمال الصحابة - رضي الله عنهم -». * الرد: 1 - أطلب من القارئ الكريم أن يراجع النقل السابق ويركز على ما فوق الخط فشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «قد يُظن أن لهم فيه حجة»، والأستاذ محمد حسين يقول إن شيخ الإسلام أثبت حجية ذلك، فها هو منهج الأستاذ محمد حسين في النقل والاستنباط وفهم أقوال العلماء. 2 - هذا الذي نقله الأستاذ محمد حسين موجود بنصه في مجموع الفتاوى (1/ 162 - 163) (وفي الطبعة القديمة التي يحيل عليها الأستاذ محمد حسين (1/ 222 - 223) وبتر منه الأستاذ محمد حسين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ينفي فيه أن فيما ذكره حجة وهاك نصه: « ... السؤال به فهذا يُجَوِّزه طائفة من الناس، ونُقِلَ في ذلك آثار عن بعض السلف وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكن ما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك ضعيف بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول: «أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه فإنه صريح في أنه توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وشفاعته، وهو طلب من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الدعاء، وقد أمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقول: «اللهم شَفِّعْهُ فيَّ» ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله، ودعاء أمير

المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار، وقوله: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا»، يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته؛ إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس». 3 - اتهم الأستاذ محمد حسين شيخ الإسلام ابن تيمية بهتاناً وزوراً بأنه يرد الحديث الصحيح وأعمال الصحابة - رضي الله عنهم -، وشيخ الإسلام ابن تيمية بريء من ذلك، بل كان - رحمه الله - من منهجه أن يسير وراء الدليل وسيتضح ـ إن شاء الله ـ من الرد على حديث الأعمى واستسقاء الصحابة بالعباس أنهما ليس فيهما دليل على ما ذهب إليه الأستاذ محمد حسين لأن غاية ما فيهما هو التوسل إلى الله بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبدعاء العباس. 4 - العجيب أن يتهم الأستاذ محمد حسين شيخ الإسلام بذلك ـ وهو منه بريء ـ رغم أن كتابه (اللمع) مليء بشبهات واهية يرد بها أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصحيحة كما مر بك سابقاً، بل غالباً ما يترك الحديث الصحيح ويأخذ بقول يخالفه لأحد العلماء. ثالثاً: حديث استسقاء الصحابة بالعباس - رضي الله عنهم -: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قَحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا،» قال: «فيُسقون» (¬1). التوضيح: 1 - معنى قول عمر - رضي الله عنه -: «إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - فتسقيَنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا»: أننا كنا نقصد نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1010، 3710).

بدعائه، والآن وقد انتقل - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الرفيق الأعلا، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: «اللهم بجاه نبينا اسقنا» ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهم بجاه العباس اسقنا»؛ لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولم يفعله أحد من السلف الصالح (¬1). 2 - لو كلف الأستاذ محمد حسين نفسه النظر في شرح الحديث في فتح الباري للحافظ ابن حجر لفهم معنى الحديث حيث قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «وقد بيّن الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة ... فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: «اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث»» (¬2). 3 - لماذا لم يتوسلوا مباشرة بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو في قبره وتوسلوا بعمه؟ يجيب الأستاذ محمد حسين (ص132): «صلاة الاستسقاء عبادة مشروعة تكون من حي مكلف وهو العباس». * الرد: عاد الأستاذ محمد حسين وناقض نفسه فإذا كانت صلاة الاستسقاء عبادة مشروعة تكون من حي مكلف وهو العباس، فما الذي قام به العباس - رضي الله عنه -؟ هل قال: «اللهم بحق جاهي عندك» أم ماذا قال؟! وإذا كان هو يستدل بهذا الحديث على أن الصحابة توسلوا بذات العباس فكيف نصدق ذلك وهو يقول إن العباس هو الذي قام بهذه العبادة المشروعة وهو حي مكلف وليس الصحابة، يعني ـ بفهمه هو ـ أن العباس هو الذي توسل، فبمن توسل ¬

_ (¬1) التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني (ص44 - 45). (¬2) فتح الباري (2/ 605) شرح حديث (1010).

العباس؟ هل قال العباس اللهم بحق جاهي عندك اسقنا؟! * إن ما فعله العباس - رضي الله عنه - هو أنه دعا لهم كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر كما سبق. 4 - مرة أخرى لماذا لم يتوسلوا مباشرة بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو في قبره وتوسلوا بعمه؟ * يجيب عن ذلك الشيخ الألباني - رحمه الله - فيقول: لأن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمّنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلا. ولذلك لجأ عمر - رضي الله عنه - وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواطن عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس - رضي الله عنه - لقرابته من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من ناحية، ولصلاحه وتقواه من ناحية أخرا، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا، وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ممكناً، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عمر على ذلك أبداً» (¬1). 5 - قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما - أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: «إن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا، استسقى بالعباس بن عبد المطلب»، ففي هذا إشارة إلى تكرر استسقاء عمر بدعاء العباس - رضي الله عنهما - ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى التوسل بعمه - رضي الله عنه -، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقا». رابعاً: حديث الأعمى: ¬

_ (¬1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص61 - 62).

عن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «ادع الله أن يعافينا»، قال: «إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئت أخرتُ ذاك فهو خير»، وفي رواية: «وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك»، فقال: «ادْعُه»، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلى ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتُقضَى لي، اللهم فشفعه فيَّ، وشفعني فيه»، قال: ففعل فبرأ (¬1). * قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «هذا الحديث لا حجة فيه على التوسل بالذات بل هو دليل على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه؛ لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها: 1 - أن الأعمى إنما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليدعو له، وذلك قوله: «ادع الله أن يعافيني» فهو قد توسل إلى الله بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبيَ - صلى الله عليه وآله وسلم - ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً «اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني وتجعلني بصيراً» ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذْكر فيها اسم المتوسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له. 2 - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ فهو خيرٌ لك». 3 - إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: «فادْعُ» فهذا يقتضي أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا له؛ لأنه خير من وفي بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد ¬

_ (¬1) رواه الإمامان أحمد (17174، 17175) وابن ماجة (1385) وصححه الشيخ الألباني.

شاء الدعاء وأصر عليه فإذن لابد أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا له، فثبت المراد، وقد وجّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه على أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجّهه إلى النوع الثانى من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه، وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له، وهي تدخل في قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. 4 - أن الدعاء الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إياه أن يقول: «اللهم فشفعه في» وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته - صلى الله عليه وآله وسلم - أو جاهه أو حقه إذ إن المعنى: «اللهم اقبل شفاعته - صلى الله عليه وآله وسلم - فيّ»، أي اقبل دعاءه في أن ترد علي بصري، والشفاعة لغةً: الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له - صلى الله عليه وآله وسلم - ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة. 5 - أن مما علمّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الأعمى أن يقوله: «وشفعنى فيه» أي: اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته - صلى الله عليه وآله وسلم - أي دعاءه في أن ترد على بصري، هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه، ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد؛ لأنها تنسف بيانهم من القواعد وتجتثه من الجذور (¬1)، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه، ذلك أن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. 6 - أن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعائه المستجاب وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم - لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره. يتبين مما سبق أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنه لا ¬

_ (¬1) لم يذكر الأستاذ محمد حسين هذه الجملة في كتابه فلماذا؟ أليس من الأمانة العلمية أن يذكر الحديث بنصه ولا يبتر الجزء الذي هو حجة عليه؟

علاقة له بالتوسل بالذات، وأن قول الأعمى في دعائه: «اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -» إنما المراد به: «أتوسل إليك بدعاء نبيك»، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] أي: أهل القرية وأصحاب العير» (¬1). * تنبيه: قال الأستاذ محمد حسين (ص133): «روى الطبراني بطرق صحيحة عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان أمير المؤمنين في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين، ثم قل: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي»، وتَذْكُر حاجتك فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب أمير المؤمنين عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: «ما حاجتك؟» فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: «ما ذَكَرْتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة»، وقال: «ما كانت لك حاجة فائتنا»، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقِيَ عثمان بن حنيف فقال له: «جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتى ولا يلتفتُ إليّ حتى كلمتَه فيّ»، فقال عثمان بن حنيف: «والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ... » (وذكر حديث الأعما)». * الرد: قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «قصة الرجل مع عثمان بن عفان وتوسله به - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى قضى حاجته أخرجها الطبراني في المعجم الصغير (ص10 - 104) وفي الكبير (3/ 2/1/ 201) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكى عن روح بن ¬

_ (¬1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص76 - 82) بتصرف.

القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عثمان بن حنيف». وذكر الشيخ الألباني أن القصة ضعيفة منكرة لأمور ثلاثة: 1 - ضعف حفظ المتفرد بها وهو شبيب بن سعد. 2 - الاختلاف عليه فيها فقد أخرج الحديث ابن السنى في عمل اليوم والليلة (ص202) والحاكم (1/ 526) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة. 3 - مخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث (حديث الأعما). وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة فكيف بها مجتمعة؟ (¬1) * تنبيه آخر: قد يتعلق بعضهم بقول الطبراني بعد أن أخرج القصة والحديث: «وقد روى هذا الحديث شعبة ... والحديث صحيح». قال الشيخ الألباني: «الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة بدليل قوله: «قد روى شعبة الحديث ... والحديث صحيح»، فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو القصة، فلم يصححها إذن الطبراني فلا حجة لهم في كلامه» (¬2). * تنبيه أخير: قال الشيخ الألباني - رحمه الله - وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الكبرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به - رضي الله عنه - من رفقه بالناس وبره بهم ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه لأنه ظلم يتنافى مع شمائله ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ» (¬3). ¬

_ (¬1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص92 - 96) بتصرف. (¬2) التوسل أنواعه وأحكامه (ص96 - 97). (¬3) التوسل أنواعه وأحكامه (ص99).

خامساً: قال الأستاذ محمد حسين (ص131): «وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار وكان خازن عمر بن الخطاب قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «يا رسول الله استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا»، فأتى الرجل في المنام فقال له: «ائت عمر فقال له: إنكم مستسقون فعليك الكفين»، قال: فبكى عمر وقال: «يا رب ما آلوا إلا ما عجزتُ عنه»، ذكره وأقره أيضاً ابن حجر العسقلاني في فتح الباري الجزء الثالث». * الرد: قال الشيخ الألباني: «والجواب من وجوه: 1 - عدم التسليم بصحة هذه القصة لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح، ولا ينافي هذا قول الحافظ ابن حجر: «بإسناد صحيح من رواية أبى صالح السمان ... » لأننا نقول: إنه ليس نصاً في تصحيح جميع السَّنَد بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح، ولقال رأساً: «عن مالك الدار ... وإسناده صحيح» ولكن تعمد ذلك ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئاً ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لا سيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبى صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبى حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. 2 - أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة وأخذ به جماهير الأئمة وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم قحط أن يصلوا ويدعوا ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً

لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة. 3 - هَبْ أن القصة صحيحة فلا حجة فيها لأن مدارها على رجل لم يسم فهو مجهول أيضاً «جاء رجل إلى قبر النبي ... » وتسميته بلالاً في رواية سيف (¬1) لا يساوي شيئاً؛ لأن سيفاً هذا ـ وهو ابن عمر التميمى ـ متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه: «يروى الموضوعات عن الأثبات»، وقال أنه كان يضع الحديث، فمن كان هذا شأنه لا تُقبل روايته ولا كرامة، ولا سيما عند المخالفة. * تنبيه: سيف هذا يرد ذكره كثيراً في تاريخ ابن جرير وابن كثير وغيرهما، فينبغي على المشتغلين بعلم التاريخ ألا يغفلوا عن حقيقة أمره حتى لا يعطوا الروايات ما لا تستحق من المنزلة» (¬2). * تنبيه آخر: على فرض صحة القصة (وقد عُلِمَ أنها ليست صحيحة) فإن مدارها على رؤيا، والرؤى ليست مصدراً من مصادر التشريع. وعلى فرض صحة القصة فإن قوله: «إنكم مستسقون، فعليك الكفين» إرشاد إلى عمل مشروع وهو الاستسقاء، أي: اذهبوا فاستسقوا أنتم، فإنه ليس في (الرؤيا) أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رفع يديه إلى السماء أو قال: «اللهم اسقِ أمتي». سادساً: قال الأستاذ محمد حسين (ص132): «روى الدارمي أن أهل المدينة لما قحطوا أشارت عليهم عائشة ـ رضي الله عنها ـ بأن يجعلوا من قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كوى (¬3) ـ أي فتحة ـ إلى السماء حتى لا يكون بينه وبينها سقف ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت فسمى عام التفتق». * الرد: ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (2/ 603): وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأي المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزنا، أحد الصحابة. (¬2) التوسل أنواعه وأحكامه (ص131 - 133) بتصرف. (¬3) هكذا بالأصل والصواب: كوة.

1 - بيّن الشيخ الألباني - رحمه الله - ضعف سند هذا الحديث في كتابه القيم (التوسل أنواعه وأحكامه) (ص140 - 141) فراجعه إن شئت. 2 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري: ص86 - 74): «وما رُوِيَ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ من فتح الكوة من قبره - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصلى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء بعد، ولم تزل الحجرة كذلك في مسجد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ... ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه بُني حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جُعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف، وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بيّن» (¬1). سابعاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص132): «القول بعدم التوسل بمخلوق يناقض عقيدة ابن تيمية - رحمه الله - حيث يجيز التوسل بالعمل الصالح، ومن عقيدة أهل السنة أن الأعمال مخلوقة، فلا فرق بين العمل الصالح المخلوق لله وبين العبد الصالح المخلوق لله». * الرد: 1 - ثبتت مشروعية أن يتوسل الداعي بعملٍ صالح قام به، مع أن عمله مخلوق، ولم يثبت جواز التوسل بذات أو جاه مخلوق، سواء كان الداعي أو غيره، والأصل في العبادات التوقيف. 2 - قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «والجواب من وجهين: ¬

_ (¬1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص141 - 142).

الوجه الأول: أن هذا قياس والقياس في العبادات باطل. الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة؛ لأننا لم نقل ـ كما لم يقل أحد من السلف قبلنا ـ إنه يجوز أن يتوسل بعمل غيره الصالح (¬1)، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته» (¬2). ثامناً: اعتمد الأستاذ محمد حسين (ص134) على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: «أن السؤال بذات الرسول يجوزه طائفة من الناس ونقل في ذلك آثاراً عن بعض السلف» واعتمد الأستاذ محمد حسين على ذلك في جعل المسألة خلافية. * الرد: ليس معنى أن المسألة خلافية أن القولين صواب، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية قد أبطل القول الآخر فقال: «وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أن نهى عنه فتكون مسألة نزاع ... فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ويبدي كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع ... وقد ثبت أنه لا يجوز القَسَم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم ... وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا النذر شرك لا يوفي به، وكذلك الحلف بالمخلوقات لا تنعقد به اليمين ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي لم تنعقد يمينه ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء ... فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الله جل جلاله؟ وأما السؤال به من غير إقسام فهذا أيضاً مما منع منه غير واحد من العلماء، والسنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلفائه الراشدين تدل على ذلك، فإن هذا إنما يفعله على أنه قربة وطاعة، وأنه مما يستجاب به الدعاء وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحباً، وكل ما كان واجباً ¬

_ (¬1) كأن يتوسل الداعي بصلاة أو صيام أحد الصالحين الأحياء. (¬2) التوسل أنواعه وأحكامه (ص152).

أو مستحباً في العبادات والأدعية فلابد أن يشرعه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجباً ولا مستحباً ولا يكون قربة وطاعة ولا سبباً لإجابة الدعاء ... فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة، وما استُقريء من أحوال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعاً عندهم. وأيضاً فقد تبين أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، وأنه كالسؤال بالكعبة والطُور والكرسي والمساجد وغير ذلك من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس مشروعاً كما أن الإقسام بها ليس مشروعاً بل هو منهي عنه، فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق، ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء» (¬1). تاسعاً: ما نسب إلى الإمام أحمد من جواز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. * الرد: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 530 - 531): «ما نقل عن الإمام أحمد في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بصيغة التمريض (¬2) فلا نعلم له طريقاً صحيحاً عن الإمام أحمد - رحمه الله -، ولو صح عنه لم يكن حجة، بل الصواب ما قال غيره في ذلك وهم جمهور أهل السنة، لأن الأدلة الشرعية في ذلك معهم». عاشراً: قال الأستاذ محمد حسين (ص135): «لم يأمر الإمام حسن البنا باتباع رأي من آراء المختلفين في المسألة». ونقول له: فلماذا يأمر الأستاذ محمد حسين باتباع الرأي المرجوح الذي ترده الأدلة؟ وما المصلحة التي تعود على المسلمين في اتباعهم لهذا الرأي المرجوح؟ وهل يعمل كل المسلمين بأنواع التوسل المشروع الثلاثة حتى نحثهم على العمل بهذا التوسل البدعي؟ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (1/ 201 - 202) الطبعة القديمة (1/ 285 - 287). (¬2) صيغة التمريض كأن يقول: روى عنه كذا أو نقل عن كذا، أو بلغنا عن كذا. وصيغة الجزم كأن يقول: قال كذا.

خامس عشر: مسألة إخراج القيمة في زكاة الفطر

خامس عشر: مسألة إخراج القيمة في زكاة الفطر (¬1) *قال الشيخ محمد إسماعيل المقدم: «لقد شاع القول بإخراج القيمة مطلقاً وذاع فشب عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، واستفاض في الناس، وجرى عليه عامتهم وخاصتهم حتى كاد الفرع ـ الذي هو إخراج القيمة ـ يعود على الأصل ـ والذي هو إخراج الأعيان المنصوصة ـ بالبطلان والنسيان، الأمر الذي أدى ببعض الناس إلى أن ينكروا على من يخرج الأعيان المنصوصة في الأحاديث الشريفة، رغم اتفاق العلماء على أن الأعيان تجزيء، وإنما كان الذي اختلفوا عليه هو (القيمة) هل تصلح بدلاً عن الأعيان المنصوصة أم أنها لا تجزئ؟ وقد نشأ اختلافهم هذا عن اختلافهم في النظر إلى حقيقة الزكاة هل هي عبادة وقربة إلى الله تعالا؟ أم هي حق مرتب في مال الأغنياء للفقراء أي: (ضريبة مالية) مفروضة على من وجبت عليه الزكاة؟ (¬2) * جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 380): «لا يجوز توزيع زكاة الفطر نقداً على الصحيح فيما نعلم، وهو قول جمهور العلماء» اهـ. * قال الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم: «لعل أقرب الأقوال إلى الأدلة، وأنسبها لواقعنا وأبعدها عن إيرادات المخالفين ـ فيما يتعلق بزكاة الفطر خاصة ـ: إخراج الزكاة من غالب قوت البلد مما يُكال ويُدخر بناء على توسع بعض الأئمة ¬

_ (¬1) انظر المسألة بالتفصيل في كتاب (هل تجزيء القيمة في الزكاة؟) للشيخ محمد إسماعيل المقدم (ص4 - 5). وقال في المقدمة: مقصود البحث هو: 1 - تنبيه المسلمين إلى أن إخراج الأعيان هو الأصل أولاً. 2 - بل هو الراجح ثانياً. 3 - ثم التخفيف من غُلَواء بعض من يشتدون في النكير على من يخرج القيمة ببيان أنه خلاف فقهي ذهب إليه أئمة أجِلّة، اعتماداً على بعض الأدلة، وليس اتباعاً لهوى ـ حاشاهم ـ أو قصداً إلى مخالفة من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وآله وسلم -. 4 - ثم شحذ همم محبي السنة أن يحيوها بتجديد هذه الشعيرة الإسلامية، قبل أن تطوى في عالم النسيان. (¬2) هل تجزيء القيمة في الزكاة؟ للشيخ محمد إسماعيل المقدم (ص4 - 5).

في مدلول كلمة (طعام) التي وردت في حديث أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه -: «كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام ... » (¬1) الحديث. فإنه لا يوجد أحد يستغنى عن القوت الغالب، وإذا كثر عنده فإنه يصلح لادخاره، وبالتالي لا يضطر لبيعه بثمن بخس، وربما إذا أعطى الفقير مالاً قد ينفقه في منفعة شخصية أو كمالية، فضلاً عن أمور محظورة شرعاً كالتدخين، فدفع الطعام أولى وأجدى له ولأولاده» (¬2). * قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: « ... زكاة الفطر عبادة بإجماع المسلمين والعبادات الأصل فيها التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأي عبادة إلا بما ثبت عن المشرع الحكيم عليه صلوات الله وسلامه الذي قال عنه ربه تبارك وتعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَا} [النجم: 3 - 4] وقال هو في ذلك: «من أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬3)، وقال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬4)، وقد بيّن هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة: «صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط» (¬5) ... فهذه سنة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - في زكاة الفطر. ومعلوم أن وقت هذا التشريع وهذا الإخراج يوجد بيد المسلمين ـ وخاصة مجتمع المدينة ـ الدينار والدرهم اللذان هما العملة السائدة آنذاك ولم يذكرهما صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولو فعل ذلك لنقله أصحابه - رضي الله عنهم - ... ولا نعلم أن أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخرج النقود في زكاة الفطر، وهم أعلم الناس بسنته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأحرص الناس على العمل بها، ولو وقع منهم ¬

_ (¬1) رواه الإمام لبخاري (1506). (¬2) هل تجزى القيمة (ص70). (¬3) رواه الإمام البخاري (2697)، الإمام مسلم (1718). (¬4) رواه الإمام مسلم (1718). (¬5) رواه الإمام البخاري (1503، 1506)، الإمام مسلم (985).

شيء من ذلك لنُقل كما نُقل غيره من أقوالهم وأفعالهم المتعلقة بالأمور الشرعية، ... ومما ذكرنا يتضح لصاحب الحق أن إخراج النقود في زكاة الفطر لا يجوز ولا يجزئ عمن أخرجه؛ لكونه مخالفاً لما ذُكر من الأدلة الشرعية» (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن باز (14/ 208 - 211) بتصرف.

سادس عشر: مسألة الأسماء والصفات

سادس عشر: مسألة الأسماء والصفات * العقيدة الصحيحة عقيدة السلف: من الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. * أنواع التحريف: 1 - التحريف اللفظي: كقول بعض المعتزلة: «وكلم اللهَ موسى تكليماً» لينفي صفة الكلام عن الله ويجعله من فعل موسى - عليه السلام - وإن كان يعجز عن ذلك في قوله تعالا: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]. 2 - التحريف المعنوي: أي تحريف المعنى مع بقاء صورة النظر كقول من قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَا} [طه: 5] أي: استولا، ومن قال: «اليد: القدرة». * التعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات كقولهم: «لم يستو على العرش، ولم يكلم موسى تكليماً». * التكييف: اعتقاد كيفية معينة لصفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقد قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] والمنفي هنا إدراك الكيفية فالكيف مجهول، أي هناك كيفية وحقيقة لصفات الله لكن نحن لا نعلمها، مثلاً نعلم أنه استوى على العرش ولكن لا نعلم كيف استوا، نعلم أنه يسمع ولا نعلم كيف يسمع. * التمثيل: أن يعتقد أن الله يشبه خلقه في صفاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. انظر: (العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية وشرحها للشيخ ابن عثيمين، القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى له أيضاً، أسماء الله وصفاته في

معتقد أهل السنة والجماعة للدكتور عمر الأشقر، منة الرحمن للشيخ ياسر برهاما). * نقل الأستاذ محمد حسين (ص90 - 91) عن الإمام أبي حامد الغزالي قوله: «سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون: إن أحمد بن حنبل صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط ... » إلخ. * الرد: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/ 238) الطبعة القديمة (5/ 398): «وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» (¬1) و «قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن» (¬2) و «إني لأجد نَفَس الرحمن من قِبَل اليمن» (¬3): فهذه الحكاية كذب على أحمد لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يُعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف، لا علمه بما قال ولا صدقه فيما قال» اهـ. * توضيح: قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة في نصوص الكتاب والسنة في الصفات أدعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه، وقال كيف تنكرون علينا تأويل ما أولنا مع ارتكابكم لمثله فيما أوّلتموه؟ ونحن نجيب ـ بعون الله تعالى ـ عن هذه الشبهة بجوابين: مجمل ومفصل، أما المجمل فيتلخص في شيئين: أحدهما: أننا لا نُسَلِّم أن تفسير السلف لها صرْف عن ظاهرها فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه من الكلام، فإن ¬

_ (¬1) ضعفه الإمام السيوطي والشيخ الألباني [ضعيف الجامع (2772)]. (¬2) رواه الإمام مسلم (2654) بلفظ: إن قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء. (¬3) رواه الإمام أحمد في المسد (10920) بلفظ: «وأجد نفس ربكم ... » وقال محققه: إسناده صحيح وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غيرشبيب وهو ثقة، وقال العراقي: رجاله ثقات.

الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات وجمل يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض. ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف عن ظاهرها فإن لهم في ذلك دليلاً من الكتاب والسنة إما متصلاً وإما منفصلاً وليس شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها على نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأما المفصل: فعلى كل نص ادُّعى أن السلف صرفوه عن ظاهره ... »، ثم نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق ذكره وردّ على هذه الأحاديث كالآتي: «الحديث الأول: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» الجواب عنه أنه حديث باطل لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يصح»، وقال ابن العربي: «حديث باطل فلا يُلتفت إليه»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإسناد لا يثبت». الحديث الثاني: «قلوبُ العبادِ بين إصبَعَيْنِ من أصابع الرحمن» والجواب أن هذا الحديث صحيح رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يُصَرِّفُه حيث يشاء» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهم مُصَرِّفَ القلوب صَرِّف قلوبنا على طاعتك» وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا إن لله تعالى أصابع حقيقية نثبتها له كما أثبتها له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين إصبعين منها أن تكون مماسة لها حتى يقال: إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفها عن ظاهره، فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا يمس الأرض، ويقال: بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينهما، فقلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول. الحديث الثالث: «إني أجد نَفَس الرحمن مِنْ قِبَل اليمن» والجواب: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«ألا إن الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية وأجد نَفَسَ ربكم من قِبَل اليمن». قال في مجمع الزوائد: «رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة»، وهذا الحديث على ظاهره، والنَفَس فيه اسم مصدر نفّس تنفيساً مثل فرّج يُفرّج تفريجاً وفرجاً، قال في مقاييس اللغة: «النَفَس كل شيء يفرج به عن مكروب» فيكون معنى الحديث أن تنفيس الله تعالى عن المؤمنين يكون من أهل اليمن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة وفتحوا الأمصار فبهم نَفّس الرحمن عن المؤمنين الكربات» اهـ. (ص 398 جـ 6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام لابن قاسم» (¬1). ¬

_ (¬1) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص43 - 45) بتصرف.

مناقشة بعض آراء الأستاذ محمد حسين في كتابه (سلوكيات وأحكام المرأة في المجتمع المسلم)

مناقشة بعض آراء الأستاذ محمد حسين في كتابه (سلوكيات وأحكام المرأة في المجتمع المسلم) خرج علينا الأستاذ محمد حسين صاحب كتاب (اللمع) في كتابه (سلوكيات وأحكام المرأة في المجتمع المسلم) بآراء غريبة ما كنا نتوقع أن تصدر من مثله، فإن بعض ما قاله الأستاذ محمد حسين في كتابه المذكور تكرار لما سبق أن نادى به قاسم أمين ـ عدو المرأة المسلمة ـ في كتابه (تحرير المرأة) وتعرض وقتها لهجوم شديد من علماء المسلمين، بل إنه قال أقوالاً لم يجرؤ قاسم أمين أن يقولها في كتابه المذكور. منهج الأستاذ محمد حسين في كتابه (سلوكيات وأحكام المرأة في المجتمع المسلم) سار الأستاذ محمد حسين في هذا الكتاب على نفس المنهج الذي سار عليه في كتابه (اللمع) حيث انتقاء الآراء التي تؤيد آراءه ـ تماماً مثلما كان يفعل قاسم أمين ـ وبَتْر بعض ما ينقله عن علماء المسلمين والاعتماد على بعض الأحاديث التي تؤيد آراءه دون تمييز بين صحيح وضعيف، ويتضح ذلك من الأمثلة الآتية: 1 - قال (ص28) إن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن تغطية وجه المرأة عادة وأنه مباح ليس من الدين. وننقل هنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوا) (11/ 425، والطبعة القديمة التي يحيل عليها الأستاذ محمد حسين 22/ 111): « ... فإذا كُنّ مأمورات بالجلباب لئلا يُعْرَفْنَ، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه

واليدان من الزينة التي أُمِرَتْ ألا تظهرها للأجانب» ا. هـ. وقال شيخ الإسلام في تفسير الجلباب: « ... وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها» (¬1). وقال شيخ الإسلام أيضاً: «الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين، بخلاف ما كان قبل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب» (¬2).وقال أيضاً: «المرأة كلها عورة» (¬3). 2 - قال (ص79): «عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جميعاً» رواه البخاري ... » ثم قال الأستاذ محمد حسين: «وظل الأمر حتى أتى زمن عمر بن الخطاب فجعل حياضاً للرجال وحياضاً للنساء أمام المسجد ... » واستدل على ذلك بأثر رواه الإمام عبد الرزاق ولم يبين درجة صحة الأثر (¬4)، وجعله دليلاً على اختلاط الرجال بالنساء، والعجيب قوله بعد ذكر الأثر المنسوب إلى عمر - رضي الله عنه -: «وذلك منه - رضي الله عنه - دفعاً للتزاحم ومفسدته وليس لتواجد النساء مع الرجال». ونقول له: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب وضوء ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (11/ 424)، الطبعة القديمة (22/ 111). (¬2) حجاب المرأة ولباسها في الصلاة (ص23). (¬3) مجموع الفتاوى (22/ 120). (¬4) هذا الأثر رواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه (رقم 246) وفي إسناده إسرائيل بن يونس وسماك بن حرب. قال الإمام العقيلي عن إسرائيل بن يونس: مختلف فيه، قال يحيى بن معين: كان يحيى بن سعيد لا يروي عن إسرائيل. (الضعفاء 1/ 131). وقال الإمام الذهبي عن إسرائيل بن يونس: ثقة إمام ضعفه ابن حزم ورد أحاديثه. وقال ابن سعد: منهم من يستضعفه وقال ابن معين: كان يحيى القطان لا يروي عنه. (من تكلم فيه 1/ 44). وقال الحافظ ابن حجر: وأما سماك بن حرب فالمعروف عن الثوري أنه ضعفه. وقال ابن حبان في الثقات: يخطيء كثيراً ... وقال النسائي: كان ربما لُقِّن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة لأنه كان يلقن فيتلقن. (تهذيب التهذيب 4/ 234). وقال الإمام ابن الجوزي: سماك بن حرب كان شعبة والثوري يضعفانه. قال ابن عمار: كانوا يقولون إنه يغلط ويختلفون في حديثه. (الضعفاء والمتروكين 2/ 26).

الرجل مع امرأته (حديث 193) وعلى فرض أن المقصود من الحديث اجتماع الرجال والنساء الأجانب فليس هذا دليلاً على اختلاط الرجال بالنساء؛ لأن هذا كان قبل نزول آية الحجاب. قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: «لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم» (¬1) ا. هـ. ونقول للأستاذ محمد حسين: طالما جعلت هذا الحديث دليلاً على جواز اختلاط الرجال بالنساء ـ مع أنه ليس فيه دليل ـ فهل يرضى مسلم حريص على دينه وعرضه أن تتوضأ ابنته أو زوجته أمام الرجال الأجانب؟ وقل لي ـ بالله عليك ـ: كيف تتوضأ المرأة المسلمة أمام الرجال الأجانب؟ كيف تغسل قدميها وذراعيها وجزءاً من ساقيها وتمسح شعرها؟ لقد قلت شيئاً لم يجرؤ قاسم أمين أن يقوله، فالواجب علينا أن نتقي الله في نساء المسلمين. 4 - استدل (ص108) على حق المرأة في انتخاب الخليفة بقصة ذكرها الحافظ ابن كثير في كتاب (البداية والنهاية) وهو كتاب تاريخ، وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى ضعفها بتصديرها بصيغة التمريض «يُروا» وبالطبع لم يذكر الأستاذ محمد حسين ذلك، بل بنى على تلك القصة أن هذا يكاد يكون إجماعاً من الصحابة. 5 - استدل أيضاً على حق المرأة في انتخاب الخليفة بحديث «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» وهو حديث ضعيف (¬2)، وإن صح فليس فيه حجة لما ذهب إليه. 6 - قال (ص103): «فقد رُوي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولى امرأة الحسبة في السوق، وهي نظام يشبه نظام النيابة العامة، فلم يمنع الصحابة - رضي الله عنهم - المرأة من تولى ¬

_ (¬1) فتح الباري شرح حديث (193). (¬2) انظر ضعيف الجامع الصغير (5429)، السلسلة الضعيفة (310 - 311) للشيخ الألباني.

الوظائف العامة منذ زمن عمر بن الخطاب ولم يعرف له مخالف من بينهم» اهـ. ومرة أخرى بنى إجماع الصحابة على أثر ذكره هو نفسه بصيغة التمريض التي تدل على ضعفه، ولم يذكر من أخرجه من علماء الحديث. 7 - قال ص (74) تحت عنوان: «النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضر الأفراح وغناء النساء»: عن خالد بن ذكوان: قال قالت الربيع بنت معوذ بن عفراء: جاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فدخل حين بُنِيَ علاّ فجلس على فراشي كمجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من أبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن: «وفينا نبي يعلم ما في غد»، فقال: «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين» (¬1). ثم نقل أجزاء من شرح الحافظ ابن حجر للحديث، ومعنى ذلك أنه قرأ شرح الحديث، ورغم ذلك قال (ص75): «ففي هذا الحديث والذي قبله يحضر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عرس إحدى النساء الأجنبيات من غير محارمه ويجلس مع العروس على فراشها» اهـ. ورغم قراءته لشرح الحديث ونقله أجزاء منه لم ينقل قول الحافظ ابن حجر: «قوله: «كمجلِسك» بكسر اللام أي: مكانك، قال الكرماني: «هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة أو عند الأمن من الفتنة» اهـ. ثم قال الحافظ ابن حجر: «والأخير هو المعتمد، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية» (¬2). 8 - قال (ص75): «عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (5147). (¬2) رجح الإمام النووي أنها كانت من محارمه [شرح صحيح الإمام مسلم (حديث 2332)].

بين الأستاذ محمد حسين والشيخ حسن البنا. . مقارنة

مسعود الأنصاري في عُرْس وإذا جواري يُغَنِّين، فقلت: «أنتما صاحبا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن أهل بدر، يفعل هذا عندكم؟» فقالا: «اجلس إن شئت فاسمع معنا وإن شئت اذهب، قد رُخِّصَ لنا في اللهو عند العرس» رواه الإمام النسائي، وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح، فالأمر استمر فيه الرخصة والحضور والاجتماع الرجال والنساء في العرس حتى بعد عصر النبوة» اهـ. ونقول للقارئ الكريم: أين النساء في الأثر الذي ذكره؟ إنهن جوارٍ صغار، فالجارية هي البنت الصغيرة، وهي غير مأمورة بالحجاب. * تنبيه: ما ثبت في هذا الحديث وغيره من غناء الجواري الصغار لا يدل على جواز الغناء الذي تصحبه المعازف (آلات الموسيقا)؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن المعازف (¬1). 9 - خلط بين عورة المرأة في الصلاة وعورة النظر إليها حيث نقل (ص20 - 21) أقوال بعض العلماء في عورة المرأة في الصلاة واستدل بها على جواز كشف المرأة لوجهها ويديها خارج الصلاة. بين الأستاذ محمد حسين والشيخ حسن البنا. . مقارنة ننقل هنا بعض الكلمات للشيخ حسن البنا تخص المرأة المسلمة، ننقلها هنا حتى يتبين الفرق بينه وبين الأستاذ محمد حسين: قال الشيخ حسن البنا - رحمه الله - (¬2): * «يرى الإسلام في الاختلاط بين المرأة والرجل خطراً محققاً فهو يباعد بينهما ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري شرح حديث (949، 5590). (¬2) المرأة المسلمة وواجباتها (ص13 - 25) بتصرف.

إلا بالزواج، ولهذا فإن المجتمع الإسلامي مجتمع انفرادي لا مجتمع مشترك». * «يقول دعاة الاختلاط أن في ذلك حرماناً للجنسين من لذة الاجتماع وحلاوة الأنس التي يجدها كل منهما في سكونه للآخر، والتي توجِد شعوراً يستتبع كثيراً من الآداب الاجتماعية، من الرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطبع ... ونحن نقول لهؤلاء: مع أننا لا نسلّم بما ذكرتم ... نقول لكم: إن ما يعقب لذة الاجتماع وحلاوة الأنس من ضياع الأعراض وخبث الطوايا وفساد النفوس، وتهدم البيوت، وشقاء الأسر، وبلاء الجريمة، وما يستلزم هذا من طراوة الأخلاق ولين في الرجولة لا يقف عند حد الرقة، بل هو يتجاوز ذلك إلى حد الخنوثة والرخاوة، وكل ذلك ملموس لا يماري فيه إلا مكابر. كل هذه الآثار السيئة التي تترتب على الاختلاط تربو ألف مرة على ما ينتظر منه من فوائد، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة أولا، ولا سيما إذا كانت المصلحة لا تعد شيئاً بجانب هذا الفساد». * «يزيد الاختلاط قوة الميل، وقديماً قيل: إن الطعام يقوى شهوة النهم ... والمرأة التي تخالط الرجال تتفنن في إبداء ضروب زينتها، ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها». * « ... ولهذا نحن نصرح بأن المجتمع الإسلامى مجتمع فردي لا زوجي، وأن للرجال مجتمعاتهم وللنساء مجتمعاتهن، ولقد أباح الإسلام للمرأة شهود العيد وحضور الجماعة، والخروج في القتال عند الضرورة الماسة، ولكنه وقف عند هذا الحد، واشترط لها شروطاً شديدة: من البعد عن كل مظاهر الزينة، ومن ستر الجسم، ومن إحاطة الثياب به، فلا تصف ولا تشف، ومن عدم الخلوة بأجنبي مهما تكن الظروف وهكذا». * «عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لأن يُطْعَن في رأس أحدِكم بِمِخْيَطٍ مِن حديد خيرٌ له مِن أن يَمَسَّ امرَأَةً لا تحلُّ لَه» رواه الطبراني والبيهقي

ورجال الطبراني ثقات من رجال الصحيح، كذا قال الحافظ المنذري» (¬1). * «ما نحن عليه ليس من الإسلام في شيء، فهذا الاختلاط بيننا في المدارس والمعاهد والمجامع والمحافل العامة، وهذا الخروج إلى الملاهي والمطاعم والحدائق، وهذا التبذل والتبرج الذي وصل إلى حد التهتك والخلاعة، كل هذه بضاعة أجنبية لا تمت إلى الإسلام بأدنى صلة، ولقد كان لها في حياتنا الاجتماعية أسوأ الآثار». * «يقول كثير من الناس: إن الإسلام لم يحرّم على المرأة مزاولة الأعمال العامة وليس هناك من النصوص ما يفيد هذا، فأْتوني بنص يحرّم ذلك. ومثلُ هؤلاء من يقول: إن ضرب الوالدين جائز؛ لأن المنهي عنه في الآية أن يقال لها: «أُفّ» ولا نص على الضرب. إن الإسلام يحرّم على المرأة أن تكشف عن بدنها، وأن تخلو بغيرها وأن تخالط سواها، ويحبب إليها الصلاة في بيتها، أفيقال بعد هذا: إن الإسلام لا ينص على حرمة مزاولة المرأة للأعمال العامة؟ إن الإسلام يرى أن للمرأة مهمة طبيعية أساسية هي المنزل والطفل، فهي كفتاة يجب أن تتهيأ لمستقبلها الأسرا، وهي كزوجة يجب أن تخلص لبيتها وزوجها، وهي كأم يجب أن تكون لهذا الزوج ولهؤلاء الأبناء، وأن تتفرغ لهذا البيت، فهي ربته ومدبرته وملكته. ومتى فرغت المرأة من شئون بيتها لتقوم على سواه ... ؟ وإذا كان من الضرورات الاجتماعية ما يُلْجِئُ المرأة إلى مزاولة عمل آخر غير هذه المهمة الطبيعية لها، فإن من واجبها حينئذ أن تراعي هذه الشرائط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن المرأة، ومن واجبها أن يكون عملها بقدر ضرورتها، لا أن يكون هذا نظاماً عاماً، من حق كل امرأة أن تعمل على ¬

_ (¬1) صححه الشبخ الألباني في صحيح الجامع (5045)، والسلسلة الصحيحة (226).

أساسه» انتهى كلام الشيخ حسن البنا - رحمه الله -. * ولْيُقارن القارئ الكريم بين هذا الكلام وبين دعوة الأستاذ محمد حسين إلى: 1 - أن تستقبل الزوجة الضيوف في غيبة زوجها (ص63). 2 - مشاركة المرأة الطعام مع زوجها والضيف (ص66). 3 - مخالطة النساء مع الرجال مع المؤانسة (ص68) (¬1). 4 - دخول المسلم بيت أخيه في غيبته إذا أمنت الفتنة (ص70). 5 - اعتياد الدخول (أي دخول الرجال الأجانب) على النساء (ص71). 6 - وضوء النساء مع الرجال (ص79 - 80). 7 - حق المرأة في تولي الوظائف العامة (ص102). 8 - حق المرأة في انتخاب الخليفة (ص108). 9 - حق المرأة في انتخاب أهل الحل والعقد أو أن تكون من أهل الحل والعقد (حق المرأة في الترشيح بمجالس الشورا) (ص110 - 111) (¬2). ¬

_ (¬1) نُذَكّر الأستاذ محمد حسين ببيان الإخوان المسلمين عن المرأة المسلمة حيث قالوا (ص26): نحن لا ندعو للتبرج ولا للاختلاط ولا نقول بالتسامح فيه. (¬2) نادى الإخوان المسلمون في مبادراتهم للإصلاح في مصر بحق المرأة في المشاركة في انتخابات المجالس النيابية وما في مثلها وبحقها في تولى عضوية هذه المجالس في نطاق ما يحفظ لها عفتها وكرامتها!!! بل إنهم نادوا بحق المرأة في تولى الوظائف العامة عدا الإمامة الكبرى أو رئاسة الدولة في أوضاعنا الحالية ا. هـ (ص36) وبناءً على كلامهم للمرأة الحق في تولى الوزارة بل في تولي رئاسة الوزارة.

رد مجمل على بعض الأخطاء الواردة في كتابه (¬1) * الرد على قوله في الحجاب ودعوته إلى الاختلاط بين الرجال والنساء: 1 - تمسك الأستاذ محمد حسين بالمتشابه وترك المحكم فاستدل بأقوال أو أفعال للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والصحابة كانت قبل الأمر باحتجاب النساء عن الرجال، فمثله كمثل من يستدل على جواز شرب الخمر بقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَا} [النساء: 43] مع أن ذلك كان قبل تحريم الخمر. 2 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان ـ حينئذ ـ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله - عز وجل - آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] فحجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر، ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفى صفية بنت حُيَيّ بعد ذلك ـ عام خيبر ـ قالوا: «إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه»، فحجبها، فلما أمر الله ألا يسألن إلا من وراء حجاب وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء، وتسميه العامة: الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها (¬2) وقد حكى أبو عبيد وغيره: أنها تُدْنِيه من فوق رأسها ¬

_ (¬1) نرجو الله - عز وجل - أن يوفق أحد العلماء المخلصين للرد المفصل على الشبهات الواردة في الكتاب. (¬2) والعجيب قول الأستاذ محمد حسين في كتابه (سلوكيات المرأة: ص46) والجلابيب جمع جلباب وهو الرداء الذي يستر البدن ثم فسرها بالعباءة والملاءة والبالطو، وهو ما تلبسه المرأة فوق ملابسها لستر جميع البدن إلا الوجه كما تفعله الريفيات في عصرنا وبعض سكان الحضر بما يسمى الملاية.

فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب فكن النساء ينتقبن، وفي الصحيح أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين (¬1)، فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن، وهوستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب (¬2) اهـ. وجوب ستر الوجه والكفين: قال الشيخ بكر أبوزيد: «معلوم أن العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة - رضي الله عنهم - فمَن بعدَهُم حجة شرعية يجب اتباعها، وتلقيها بالقبول، وقد جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه ولا حاسرات عن شيء من الأبدان، ولا متبرجات بزينة، واتفق المسلمون على هذا العمل، المتلاقي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة، فمنعوا النساء من الخروج، سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن. فهذان إجماعان متوارثان معلومان من صدر الإسلام وعصور الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حكى ذلك جمع من الأئمة، منهم الحافظ ابن عبد البر، والإمام النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم يرحمهم الله تعالا، واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في (الفتح) (9/ 224): «لم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً أن يسترن وجوههن عن الأجانب» انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري (1838). (¬2) مجموع الفتاوى (11/ 424 - 425) الطبعة القديمة (22/ 110 - 111). (¬3) حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد (ص29 - 30).

قال الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم بعد أن نقل أقوالاً لكثير من علماء المذاهب الأربعة (¬1): تنبيهات: الأول: نستطيع أن نخلص مما تقدم بأن علماء المذاهب الأربعة متفقون على وجوب تغطية المرأة جميع بدنها عن الأجانب، سواء من يرى أن الوجه والكفين عورة، ومن يرى أنهما غير عورة لكنه يوجب تغطيتهما في هذا الزمان لفساد أكثر الناس ورِقّة دينهم، وعدم تورعهم عن النظر المحرم إلى وجه المرأة الذي هو مجمع المحاسن، ومعيار الجمال، ومصباح البدن (¬2). الثاني: أجمع العلماء على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب فقد نقل الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): «عن ابن المنذر أنه قال: «أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن تغطى رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاًخفيفاً تستتر به عن نظر الأجانب» ا. هـ. وهذا يقتضى أن غير المحرمة مثل المحرمة فيما ذكر، بل أوْلا» ا. هـ (¬3) وفيه دليل واضح، وكشف فاضح لجهل من ادعى أن النقاب بدعة لا أصل لها في الإسلام. الثالث: أنه رغم الخلاف القديم بين الفقهاء في هذه المسألة إلا أنه بَقِيَ خلافاً نظرياً إلى حد بعيد، حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان أحد معالم سبيل المؤمنين في شتى العصور: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «كانت سنة المؤمنين في زمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز» (¬4) ونقل ¬

_ (¬1) عودة الحجاب (3/ 417 - 433). (¬2) قال الدكتور عبد الله ناصح علوان: بعد أن ذكر الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء المتعلقة بموضوع تغطية الوجه: ويتضح مما قاله الأئمة المجتهدون أن وجه المرأة عورة وأن ستره واجب وأن كشفه حرام ... حتى فقهاء الحنفية الذين ذهبوا إلى جواز الكشف فإنهم قيدوه بأمن الفتنة ... وهل أحد ينكر إشاعة الفساد والفتنة في المجتمع الذي نتخبط فيه، وفي المحيط الذي نتعايش معه؟ (إلى كل أب غيور يؤمن بالله ص28). (¬3) السرد القوى للشيخ التويجري (ص248 - 249). (¬4) تفسير سورة النور (ص56).

الإمام ابن رسلان - رحمه الله - اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات (¬1) اهـ. وقال الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله -: «لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات» (¬2). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: «إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال» (¬3). بعض أدلة وجوب تغطية المرأة وجهها وكفيها: الدليل الأول: قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، قال الدكتور عبد الله ناصح علوان: «وإذا كانت هذه الآية نزلت في أمهات المؤمنين ... فالعبرة ـ كما يقول الأصوليون ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كانت أمهات المؤمنين المقطوع بعفتهن وطهارتهن مأمورات بالحجاب، وعدم الظهور أمام الأجانب فالنساء المسلمات بشكل عام مأمورات بالستر وعدم الظهور من باب أولا، وهذا يسمى بالمفهوم الأولوي عند الفقهاء وعلماء الأصول (¬4). قال الشيخ بكر أبو زيد: «في قوله ـ تعالى ـ في آية الحجاب هذه: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} علة لفرض الحجاب في قوله ـ سبحانه ـ: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} بمسلك الإيماء والتنبيه وحكم العلة عام لمعلولها هنا؛ لأن طهارة قلوب الرجال والنساء وسلامتها من الريبة، مطلوبة من جميع المسلمين، فصار فرض الحجاب على نساء المؤمنين من باب الأولى من فرضه على أمهات المؤمنين، وهن الطاهرات المُبَرَأَىت من كل عيب ونقيصة ـ رضي الله عنهن ـ. ¬

_ (¬1) عون المعبود (4/ 106). (¬2) احياء علوم الدين (4/ 729). (¬3) فتح الباري (9/ 337). (¬4) تربية الأولاد في الإسلام (1/ 278).

فاتضح أن فرض الحجاب حكم عام على جميع النساء لا خاص بأزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأن علة الحكم دليل على عموم الحكم فيه، وهل يقول مسلم: إن هذه العلة: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} غير مرادة من أحد من المؤمنين» (¬1). قال الدكتور عبد الله ناصح علوان (وهو أحد رموز الإخوان المسلمين في العالم): «وإذا كانت هذه الآية نزلت في أمهات المؤمنين فالعبرة ـ كما يقول الأصوليون ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كانت أمهات المؤمنين المقطوع بعفتهن وطهارتهن مأمورات بالحجاب، وعدم الظهور أمام الأجانب فالنساء المسلمات بشكل عام مأمورات بالستر وعدم الظهور من باب أولا». (¬2) الدليل الثاني: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]، قال الإمام السيوطي - رحمه الله -: «هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن» (¬3)، قال الشيخ بكر أبو زيد: «وهذه الآية صريحة على أنه يجب على جميع نساء المؤمنين أن يغطين ويسترن وجوههن وجميع أبدانهن وزينتهن، وفي هذا تميز لهن عن اللائى يكشفن من نساء الجاهلية حتى لا يتعرضن للأذى ولا يطمع فيهن طامع، ومعنى الجلباب في الآية هو معناه في لسان العرب، وهو اللباس الواسع الذي يغطى جميع البدن، وهو بمعنى الملاءة والعباءة، فتلبسه المرأة فوق ثيابها من أعلى رأسها مُدْنية ومُرخية له على وجهها وسائر جسدها، وما على جسدها من زينة مكتسبة، ممتداً إلى ستر قدميها» (¬4). قال الدكتور عبد الله ناصح علوان: «المرأة المسلمة مأمورة بمقتضى آية {يُدْنِينَ ¬

_ (¬1) حراسة الفضيلة (ص36 - 37). (¬2) تربية الأولاد في الإسلام (1/ 278). (¬3) نقله عنه الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (حراسة الفضيلة: ص39). (¬4) حراسة الفضيلة (39 - 40) بتصرف.

عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} بارتداء الجلباب وستر وجهها عن الأجانب». (تربية الأولاد في الإسلام 1/ 199) الدليل الثالث: قال الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31]، قال الشيخ بكر أبو زيد: «تعددت الدلالة في هاتين الآيتين الكريمتين على فرض الحجاب وتغطية الوجه من وجوه أربعة مترابطة، هي: الوجه الأول: الأمر بغض البصر وحفظ الفرج من الرجال والنساء على حد سواء في الآية الأولى وصدر الآية الثانية وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنا، وأن غض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأبعد عن الوقوع في هذه الفاحشة، وإن حفظ الفرج لا يتم إلا ببذل أسباب السلامة والوقاية ومن أعظمها غض البصر، وغض البصر لا يتم إلا بالحجاب التام لجميع البدن، ولا يرتاب عاقل أن كشف الوجه سبب للنظر إليه والتلذذ به، والعينان تزنيان وزناهما النظر، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولهذا جاء الأمر بالحجاب صريحاً في الوجه بعده: الوجه الثاني: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} منها: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب عن عمد وقصد، إلا ما ظهر منها اضطراراً لا اختياراً، مما لا يمكن اخفاؤه كظاهر الجلباب ـ العباءة ويقال: الملاءة ـ الذي تلبسه المرأة فوق القميص والخمار، وهي مالا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية؛ فإن ذلك معفو عنه، وتأمل سراً من أسرار التنزيل في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}

كيف أسند الفعل إلى النساء في عدم إبداء الزينة متعدياً وهو فعل مضارع: {يُبْدِينَ} ومعلوم أن النهي إذا وقع بصفة المضارع، يكون آكد في التحريم، وهذا دليل صريح على وجوب الحجاب لجميع البدن وما عليه من زينة مكتسبة، وستر الوجه والكفين من باب أولا. وفي الاستثناء {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} لم يسند الفعل إلى النساء؛ إذ لم يجاء متعدياً، بل جاء لازماً، ومقتضى هذا أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقاً غير مخيرة في إبداء شيء منها وأنه لا يجوز لها أن تتعمد إبداء شيء إلا ما ظهر اضطراراً بدون قصد فلا إثم عليها، مثل انكشاف شيء من الزينة من أجل الرياح أو لحاجة علاج لها ونحوه من أحوال الاضطرار، فيكون معنى الاستثناء رفع الحرج، كما في قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. الوجه الثالث: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والخُمُر جمع خمار، مأخوذ من الخَمْر، وهو الستر والتغطية، ومنه قيل للخَمْر: خَمْراً؛ لأنها تستر العقل وتغطيه، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في (فتح الباري: 8/ 489): «ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها» انتها. فيكون معنى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: أمر من الله لنساء المؤمنين، أن يلقين بالخمار إلقاءً محكماً على المواضع المكشوفة وهي الرأس والوجه، والعنق، والنحر، والصدر، وذلك بلفّ الخمار الذي تضعه المرأة على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهذا هو التقنع؛ وهذا خلافاً لما كان عليه أهل الجاهلية من سدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما هو قدامها، فأُمِرْن بالاستتار، ويدل لهذا التفسير المتسق مع ما قبله، الملاقي للسان العرب كما ترا، أن هذا هو الذي فهمه نساء الصحابة ـ رضي الله عن الجميع ـ فعملن به، وعليها ترجم الإمام البخاري في صحيحه فقال: «باب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}» وساق بسنده حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «يرحم الله نساء المهاجرين الأُوَل، لما أنزل

الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها». قال ابن حجر في (الفتح: 8/ 489) في شرح هذا الحديث: «قوله: «فاختمرن»: أي غطين وجوههن وذكر صفته كما تقدم» انتها. ومن نازع فقال بكشف الوجه؛ لأن الله لم يصرح بذكره هنا، فإنا نقول له: إن الله ـ سبحانه ـ لم يذكر هنا الرأس، والعنق، والنحر، والصدر، والعضدين، والذراعين والكفين، فهل يجوز الكشف عن هذه المواضع؟ فإن قال: لا، قلنا: والوجه كذلك لا يجوز كشفه من باب أولا؛ لأنه موضع الجمال والفتنة، وكيف تأمر الشريعة بستر الرأس والعنق والنحر والصدر، والذراعين والقدمين، ولا تأمر بستر الوجه وتغطيته، وهو أشد فتنة وأكثر تأثيراً على الناظر والمنظور إليه؟ وأيضاً ما جوابكم عن فهم نساء الصحابة ـ رضي الله عن الجميع ـ في مبادرتهن إلى ستر وجوههن حين نزلت هذه الآية؟ الوجه الرابع: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} وفي هذا الوجه ثلاث دلالات: الأولى: يحرم على نساء المؤمنين ضرب أرجلهن ليعلم ما عليهن من زينة. الثانية: يجب على نساء المؤمنين ستر أرجلهن وما عليهن من الزينة، فلا يجوز لهن كشفها. الثالثة: حرّم الله على نساء المؤمنين كل ما يدعو إلى الفتنة، وإنه من باب الأولى والأقوى يحرم سفور المرأة وكشفها عن وجهها أمام الأجانب عنها من الرجال؛ لأن كشفه أشد داعية لإثارة الفتنة وتحريكها، فهو أحق بالستر والتغطية وعدم إبدائه أمام الأجانب، ولا يستريب في هذا عاقل» (¬1). الدليل الرابع على وجوب تغطية وجه المرأة وكفيها: عن أم سلمة ـ رضي الله ¬

_ (¬1) حراسة الفضيلة (ص43 - 49) بتصرف.

عنها ـ قالت: «لما نزلت {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية» (رواه الإمام أبو داود 4101 وصححه الشيخ الألباني) وقال بعد أن أورده في كتابه (حجاب المرأة المسلمة): «والجلباب هو الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها على أصح الأقوال»، ونقل عن الإمام ابن حزم قوله: «والجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو ما يغطي جميع الجسم لا بعضه» ا. هـ (¬1)، قال الشيخ بكر أبو زيد أن ستر الجلباب للوجه وجميع البدن وما عليه من الثياب ـ الزينة المكتسبة ـ هو الذي فهمه نساء الصحابة - رضي الله عنهم - (¬2). الدليل الخامس: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «المرأة عورة» (¬3) قال الشيخ التويجري: «وهذا الحديث دالٌّ على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب سواء في ذلك وجهها وغيره من أعضائها» (¬4). تحريم اختلاط المرأة بالرجال الأجانب: قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: «اختلاط الرجال بالنساء له ثلاث حالات: الأولى: اختلاط النساء بمحارمهن من الرجال وهذا لا إشكال في جوازه. الثانية: اختلاط النساء بالأجانب لغرض الفساد، وهذا لا إشكال في تحريمه. الثالثة: اختلاط النساء بالأجانب في دور العلم، والحوانيت، والمكاتب، والمستشفيات، والحفلات، ونحو ذلك، فهذا في الحقيقة قد يظن السائل في باديء الأمر أنه لا يؤدي إلى افتتان كل واحد من النوعين بالأخر، ولكشف حقيقة هذا القسم فإنا نجيب عنه من طريق مجمل ومفصل: ¬

_ (¬1) حجاب المرأة المسلمة (ص38). (¬2) حراسة الفضيلة (ص41). (¬3) رواه الإمام الترمذى (1189)، وصححه الشيخ الألباني. (¬4) الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور (ص96).

أما المجمل: فهو أن الله ـ تعالى ـ جبل الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط نشأ عنه آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيء؛ لأن النفوس أمارة بالسوء، والهوى يعمى ويُصِمّ، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر. وأما المفصل: فالشريعة مبنية على المقاصد ووسائلها، ووسائل المقصود الموصلة إليه لها حكمه، فالنساء مواضع قضاء وطر الرجال. وقد سد الشارع الأبواب المُفضية إلى تعلق كل فرد من أفراد النوعين بالآخر ... » ثم ذكر الأدلة على تحريم هذا النوع من الاختلاط (¬1). بعض الأدلة على تحريم اختلاط المرأة بالرجال الأجانب: الدليل الأول: قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] قال الدكتور عبد الله ناصح علوان: «وإذا كانت هذه الآية نزلت في أمهات المؤمنين فالعبرة ـ كما يقول الأصوليون ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كانت أمهات المؤمنين المقطوع بعفتهن وطهارتهن مأمورات بالحجاب، وعدم الظهور أمام الأجانب فالنساء المسلمات بشكل عام مأمورات بالستر وعدم الظهور من باب أولا» (¬2). الدليل الثاني: قال الله - عز وجل -: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا ¬

_ (¬1) فتوى الشيح محمد بن إبراهيم في حكم الاختلاط بين الرجال والنساء. (¬2) تربية الأولاد في الإسلام (1/ 278).

يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31] قال الدكتور عبد الله ناصح علوان: «فإذا كان الأمر ـ في هذه الآية ـ يشمل غض البصر ووضع الخمار على الرأس وفتحة الصدر، وعدم إبداء الزينة والمفاتن إلا للمحارم ... أفليس يدل هذا الشمول على أن المرأة المسلمة مأمورة بالستر والحشمة والعفة وعدم الاختلاط بالأجانب؟» (¬1) وقال أيضاً: «فكيف نتصور غض البصر لكل من الرجل والمرأة وهما مجتمعان في مكان واحد فالآية إذن في مدلولها تنهى عن الاختلاط وتحرمه» (¬2). الدليل الثالث: روى الإمام البخاري والإمام مسلم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فقال رجل: «يا رسول الله، أفرأيتَ الحَمْو؟ (¬3)»، قال: «الحمو الموت» (¬4)، قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله -: «فسمى - صلى الله عليه وآله وسلم - دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير مَحْرَم لها باسم الموت، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير، وهذا دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} عام في جميع النساء؛ إذ لو كان حكمه خاصاً بأزواجه - صلى الله عليه وآله وسلم - لَمَا حذر الرجالَ هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء. وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريماً شديداً بانفراده» (¬5). الدليل الرابع: عن أبي أسيد الأنصارى - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو خارج من المسجد، فاختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اسْتَأْخِرْنَ، فإنه ليس لَكُنّ أن تحْقُقْنَ الطريق، عليكن بحافاتِ الطريق» فكانت المرأة ¬

_ (¬1) تربية الأولاد في الإسلام (1/ 278 - 279). (¬2) تربية الأولاد في الإسلام (1/ 204). (¬3) أي أقارب الزوج والزوجة ممن ليسوا محارمها مثل أخي الزوج وابن عم الزوجة. (¬4) البخاري 5232، مسلم 2172. (¬5) أضواء البيان (6/ 592 - 593) عن عودة الحجاب (3/ 308 - 309).

تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (¬1). قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتى الديار السعودية سابقاً: «قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث): «يحققن الطريق»: هو أن يركبن حُقَّها وهو وَسَطُها»، ووجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا منع الاختلاط في الطريق لأنه يؤدى إلى الافتتان، فكيف يقال بجواز الاختلاط في غير ذلك؟!» الدليل الخامس: عن أبي سعيد الخُدْري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَة، وإن الله مُسْتَخلِفُكم فيها، لينظرَ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أولَ فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء» رواه الإمام مسلم (2742). قال الشيخ محمد إبراهيم: «ووجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر باتقاء النساء، وهو يقتضي الوجوب، فكيف يحصل الامتثال مع الاختلاط؟ هذا لا يجوز». الدليل السادس: قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضَرُّ على الرجال من النساء» (رواه الإمام مسلم: 2741). قال الشيخ محمد بن إبراهيم: «ووجه الدلالة: أنه وصفهن بأنهن فتنة فكيف يُجمع بين الفاتن والمفتون؟ هذا لا يجوز». الدليل السابع: قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «خيرُ صفوفِ الرجالِ أوَّلُها وشرُّها آخرُها وخيرُ صفوفِ النساءِ آخرُها وشرُّها أوَّلُها» رواه الإمام مسلم (440). قال الشيخ محمد بن إبراهيم: «ووجه الدلالة أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - شرع للنساء إذا أتَيْن إلى المسجد فإنهن ينفصلن عن الجماعة على حدة، ثم وصف أول صفوفهن بالشر، والمؤخر منهن بالخير، وما ذلك إلا لبُعد المتأخرات عن الرجال عن مخالطتهم ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم، وذمّ أول صفوفهن لحصول عكس ذلك، ووصف آخر صفوف الرجال بالشر إذا كان معهم نساء في المسجد؛ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أبو داود 5272 وحسنه الشيخ الألباني.

لفوات التقدم والقُرْب من الإمام وقربه من النساء اللاتى يشغلن البال، وربما أفسدن به العبادة وشوشن النية والخشوع. فإذا كان الشارع توقع حصول ذلك في مواطن العبادة مع أنه لم يحصل اختلاط فحصول ذلك إذا وقع اختلاط من باب أولى فيمنع الاختلاط من باب أولا» (¬1). قال الدكتور عبد الله ناصح علوان (بعد أن ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة على حرمة الاختلاط): «فهذه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية تحرم اختلاط الرجال بالنساء بشكل قاطع جازم لا يحتمل الشك ولا الجدل!! فالذين يبيحون الاختلاط ويبررونه بتعويدات اجتماعية ومعالجات نفسية، وحجج شرعية، فإنهم في الواقع يفترون على الشرع ويتجاهلون الفطرة الغريزية ويتجاهلون الواقع المرير الذي آلت إليه المجتمعات الإنسانية قاطبة» (¬2). رد مجمل على شبهات دعاة السفور: قال الشيخ بكر أبو زيد: «ونقول لكل مؤمن ومؤمنة: فيما هو معلوم من الشرع المطهر، وعليه المحققون، أنه ليس لدعوة السفور دليل صحيح صريح، ولا عمل مستمر من عصر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن حدث في المسلمين حادث السفور في بدايات القرن الرابع عشر، وأن جميع ما يستدل به دعاة السفور عن الوجه والكفين لا يخلو من حال من ثلاث حالات: 1 - دليل صحيح صريح لكنه منسوخ بآيات فرض الحجاب كما يعلمه من حقق تواريخ الأحداث، أي قبل عام خمس من الهجرة، أو في حق القواعد من النساء، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. 2 - دليل صحيح لكنه غير صريح لا تثبت دلالته أمام الأدلة القطعية الدلالة من الكتاب والسنة على حجب الوجه والكفين كسائر البدن والزينة، ومعلوم أن رد ¬

_ (¬1) فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم في حكم الاختلاط بين الرجال والنساء. (¬2) تربية الأولاد في الإسلام (1/ 279).

المحكم إلى المتشابه هو طريق الراسخين في العلم. 3 - دليل صريح لكنه غير صحيح لا يُحتج به، ولا يجوز أن تعارض به النصوص الصحيحة الصريحة والهدي المستمر من حَجْب النساء لأبدانهن وزينتهن ومنها الوجه والكفان، هذا مع أنه لم يقل أحد في الإسلام بجواز كشف الوجه واليدين عند وجود الفتنة ورقة الدين وفساد الزمان، بل هم مجمعون على سترهما، كما نقله غير واحد من العلماء، وهذه الظواهر الإفسادية قائمة في زماننا، فهي موجبة لسترهما، لو لم يكن أدلة أخرا. وإن من الخيانة في النقل نسبة هذا القول إلى قائل به مطلقاً غير مقيد؛ لتقوية الدعوة إلى سفور النساء عن وجوههن في هذا العصر، مع ما هو مشاهد من رقة الدين والفساد الذي غشي بلاد المسلمين» (¬1). قال الشاعر: لا يَأْمَنَنَّ على النساءِ أخٌ أخاً ... ما في الِرجالِ على النساءِ أمينُ إنَّ الأمِينَ وإنْ تَعَفَّفَ جهْدَهُ ... لابُدَّ أنْ بِنَظْرَةٍ سَيَخُونُ هل للمرأة حق في انتخاب الخليفة؟ قال الأستاذ محمد حسين في كتابه عن المرأة (ص108): «ومن أعظم الأدلة على حق المرأة في إبداء الرأي في اختيار الخليفة ما كاد يكون إجماعاً من الصحابة لعدم الاعتراض على قيام عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - بعد وفاة الخليفة عمر بن الخطاب، وقد أصبح له الأمر في اختيار أحد الرجلين ليكون خليفة المسلمين: عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب. قال ابن كثير في البداية والنهاية: «ثم نهض عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يستشير فيهما حتى خلص إلى النساء في رحالهن»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج ¬

_ (¬1) حراسة الفضيلة (ص61 - 62).

السنة النبوية: «بقي عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهن»»، ثم قال الأستاذ محمد حسين: «فإذا كانت العذراء قد أبدت برأيها في اختيار الخليفة، فلابد وأن رأْي النساء يكون معمولاً به منذ عهد الصحابة - رضي الله عنهم - وأن لرأيهن تأثيراً في اختيار الخليفة» ا. هـ. * الرد: أولاً: بنى الأستاذ محمد حسين إجماع الصحابة على قصة وردت في أحد كتب التاريخ، ونقول: أثبِت العرش ثم انقش، أثبِت أولاً أن هذا صحيح ثم ابنِ عليه إجماع الصحابة، وأنّى لك ذلك، فقد ذكر الحافظ ابن كثير هذا الكلام في كتابه (البداية والنهاية) وهو كتاب تاريخ، ومتى كانت كتب التاريخ والقصص مصدراً من مصادر الأحكام الشرعية؟ ثم إن الحافظ ابن كثير ذكر هذه القصة بصيغة التمريض مما يدل على ضعفها فقال: «ويُروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليهم ... ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم، جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادا، ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدّرات في حجابهن وحتى سأل الولدان في المكاتب» (¬1). فتأمل أخي القارئ كيف جعل الأستاذ محمد حسين الدليل على حق المرأة في اختيار الخليفة رواية لا سَنَدَ لها ذكرها الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) وأشار إلى ضعفها بأن ذكرها بصيغة التمريض، ونقول: يجب علينا أن نجعل الدليل أمامنا ولا نجعله وراءنا، وألا نصدر أحكاماً ثم نبحث عن دليل عليها، بل ننظر أولاً في الآثار ونتأكد من صحتها ثم ننظر إن كانت تصلح دليلاً أم لا. ثانياً: يقول الإمام الجويني في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم: ص80 - 81): ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (4/ 192)، والمكاتب: الكتاتيب.

«والآن نبدأ بتفصيل صفات أهل العقد والاختيار، فليقع البداية بمحل الإجماع في صفة أهل الاختيار، ثم ينعطف على مواضع الاجتهاد والظنون، فما نعلمه قطعاً أنَّ النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة، فإنهن ما رُوجِعن قط، ولو اسْتُشِير في هذا الأمر امرأة لكان أحرى النساء وأجدرهن بهذا الأمر فاطمة ـ رضي الله عنها ـ، ثم نسوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، أمهات المؤمنين، ونحن بابتداء الأذهان نعلم أنه ما كان لهن في هذا المجال مخاض في منقرض العصور ومَكَرّ الدهور» اهـ. ثالثاً: بنى الأستاذ محمد حسين على هذه القصة الضعيفة أن العذراء الصغيرة قد أبدت رأيها في اختيار الخليفة فلابد أن لرأي النساء تأثيراً في اختيار الخليفة. ونقول له: في هذه القصة (الضعيفة) أيضاً أنه شاور الولدان في المكاتب (أي الكتاتيب) فهل ـ من وجهة نظر الأستاذ محمد حسين ـ للصبيان في المدارس الإبتدائية الحق في اختيار الخليفة بناء على استدلاله بهذه القصة الضعيفة. هل للمرأة حق في انتخاب أهل الحل والعقد؟ استدل الأستاذ محمد حسين على ذلك بما اعتقد أنه حق لها في انتخاب الخليفة ـ وقد تبين بطلان ذلك ـ فبنى هذا الحكم على أصل باطل حيث قال (ص110): «أهل الحل والعقد اصطلاح إسلامي يطلق على من يُكْتَفَى بمشاورتهم دون الأمة، وتعتبر مشاورتهم بمنزلة مشاورة جميع أفراد الأمة، فتتبعهم الأمة فيما يرون وتثق بهم لما تعرفه من حسن الرأي والمعرفة بالأمور، ومن الحرص على مصالح الأمة، مع تقوى وعدالة ومخافة الله تعالا، فهؤلاء هم الذين تفوضهم الأمة في انتخاب الخليفة ومشاورته في الأمور، فهم أهل الشورى وهم في اصطلاح العصر يطلق عليهم: مجلس الشورى أو مجلس الأمة، أو نواب الشعب، وقد تبين فيما سبق أن للمرأة حق انتخاب الخليفة بطريقة مباشرة مع جميع أفراد الأمة مثل ما يسمى بالاستفتاء العام، وأما حق المرأة في انتخاب أهل الحل والعقد فهذا يثبت لها من باب الأولا؛ لأنها تملك انتخاب الخليفة فيكون لها من باب الأولى انتخاب من ينتخب الخليفة» اهـ كلامه.

* الرد: تبين فيما سبق ضعف الأدلة التي اعتمد عليها في حق المرأة في انتخاب الخليفة، ونقلنا عن الإمام الجويني الإجماع على أن النساء لا مدخل لهن في اختيار الخليفة، فإذا كان الأصل باطلاً فالفرع من باب أولا؛ حيث لا يستقيم الظل والعود أعوج. هل للمرأة حق في الترشيح لمجالس الشورا؟ بنى هذا الحكم أيضاً على ما اعتقد أنه حق لها في انتخاب الخليفة وقد تبين بطلان ذلك، فبنى هذا الحكم على أصل باطل، وقد سبق أن قال (ص110): إن «أهل الحل والعقد هم الذين تفوضهم الأمة في اختيار الخليفة، وهم في اصطلاح العصر يطلق عليهم مجلس الشورى أو مجلس الأمة، أو نواب الشعب» ا. هـ. وفي (ص111) قال: «إن لها الحق بل واجب عليها أو جائز لها حسب الحال أن تشارك في الترشيح لمجلس الشورى أو مجلس الأمة ـ الشعب ـ أو أي مجلس يكون اشتراكها فيه يحقق المصلحة العامة للمسلمين» ا. هـ. وقد سبق أن نقلنا عن الإمام الجويني أن النساء لا مدخل لهن في اختيار الخليفة، وبناء عليه لا مدخل لهن في الترشيح لمجلس الشورى الذي يختار الخليفة. * تنبيه: من مفاسد ترشيح المرأة لمجالس الشورى والشعب اختلاطها بالرجال من غير المحارم داخل المجلس واختلاطها أثناء حملتها الانتخابية بمن ستطلب منهم أن يؤيدوها (¬1). ¬

_ (¬1) رشح الإخوان المسلمون نساءً في انتخابات مجلس الشعب عامي 2000، 2005، بل إنهم قالوا في مبادرتهم حول الإصلاح التي أعلنت يوم 12 محرم 1425هـ (ص15) بحق كل مواطن ومواطنة في تولي عضوية المجالس النيابية، متى توافرت فيه الشروط العامة التي يحددها القانون ا. هـ، وبذلك جعلوا للرجل الكافر والمرأة الكافرة الحق في أن يكونوا من أهل الحل والعقد، حيث إنهم لم يشترطوا الإسلام بل ذكروا أن هذا حق لكل مواطن ومواطنة، رغم ما سبق بيانه من أن المرأة المسلمة ليس لها الحق في ذلك فضلاً عن الكافر والكافرة، قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «من شروط أهل الحل والعقد العدالة الجامعة لشروطها ... ومن شروط العدالة الإسلام فيشترط أن يكون الشخص مسلماً» ا. هـ (أصول الدعوة: ص209).

وختاما

وختاماًً .. * نذكّر الأستاذ محمد حسين، ونذكّر كل مسلم، بحديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحيا سُنَّةً من سنتي فعمل بها الناس، كان له مِثلُ أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعُمل بها كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً» (¬1). * واللهَ نسأل أن يوفقنا لاتباع سنته، واجتناب البدع وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يوفق المسلمين لما فيه عزهم ومجدهم وأن يذل أعداء الإسلام، وأن يمكِّن لأهل طاعته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام ابن ماجه (209) وصححه الشيخ الألباني.

§1/1