الرد على الكاتب المفتون

التويجري، حمود بن عبد الله

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م المملكة العربية السعودية - الرياض 11461 دار اللواء: ص. ب: 2856 شارع الملك فيصل هاتف: 4028084 - 4051754 - برقياً: نشر دار

«القسم الأول»

ذكر كلام المردود عليه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله الله رحمة للعالمين, وحجة على المعاندين, وأمره بجهاد الكفار والمنافقين, وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد فقد رأيت مقالاً سيئاً لبعض المفتونين ببعض البدع المحدثة في الإسلام, وقد نشرته جريدة الندوة في عددها 7845 الصادر في اليوم الثاني من شهر ربيع الثاني سنة 1405 هـ وقد تهجم الكاتب على خطباء المساجد وأنكر عليهم ما صرحوا به في خطبهم من إنكار الولائم التي يصنعها أهل الميت للعزاء, وتهجم أيضاً على الخطيب في المسجد الحرام وأنكر عليه ما صرح به من إنكار الاحتفال بالمولد النبوي, وقد قيل: «من أمن العقوبة أساء الأدب» , وبعد إيراد المقال السيء بنصه أذكر ما فيه من الأخطاء الكثيرة إن شاء الله تعالى. قال صاحب المقال: «خطب الجمعة وحوادث الساعة»:

ما بال خطباء المساجد عندنا يريدون أن يحجروا واسعاً ويتدخلوا حتى في خصوصيات الناس ويفتون بأن الولائم التي تقام للعزاء محرمة ومخالفة لسنة رسول الله, لماذا؟ وهل هذه الولائم أصبحت من الدين حتى تكون بدعة؟ وهل نجحنا في محاربة الرذائل والمفاسد في المجتمع الإسلامي وواجب علينا الكلام في هذه الأمور التي لا تمت إلى الدين أو العبادة من قريب أو بعيد. أيها الناس إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وليتنا نستطيع أن نطهر مجتمعنا من الحرام ونقنع الناس باجتنابه بدلاً من إكثار الممنوعات والمحرمات حتى نطفشهم وندفعهم للتمرد وعدم تصديقنا في أن كل شيء حرام حتى المأدبة التي يقيمها أهل الميت في اليوم الثالث من الوفاة حيث يجلسون لاستقبال المعزين والمعزيات ويطعمون الفقير والفقيرات. ماذا في ذلك؟ وهل كل ما لم يفعله الرسول وأصحابه حرام أو العكس هو الصحيح؟ أي إن الأصل في كل الأعمال هو الحل إلا ما ورد نص بالتحريم له, وأين النص الصريح في تحريم المآدب في المآتم؟. كذلك شغل خطيب المسجد الحرام جمعتين بالكلام عن الاحتفال بالمولد النبوي وتحريمه وتجريمه, وكان المفروض أن يتحدث عن أحداث الساعة, عن المجاعة التي تفتك بالمسلمين في عدد من بلادهم, عن حث إخوانهم المصلين على إغاثتهم قبل أن يسعفهم التبشير الصليبي والإغراء الصهيوني كما فعل بعض خطباء المساجد. أيها الناس ارحمونا من هذا الكلام الممل من كثرة التكرار وعظونا وبصرونا بالمفاسد والمحرمات الحقيقية وأنفذوا بكلامكم إلى أعماق نفوسنا بالحكمة والموعظة الحسنة واتركوا الكلام عن الموائد والمآتم إلا عما هو محرم فيها قطعاً لا مجال فيه للتأويل أو الحل, فقد كان من الملاحظ أنه

الجواب عن كلامه على طريق الإجمال

لم يبدأ الخطيب في الكلام عن مآدب المآتم وتحريمها حتى نهض المصلون وتركوا المسجد رغبة عن السماع لمثل هذا الكلام. انتهى كلامه. والجواب: أن يقال هذا الكلام كله خطأ من أوله إلى آخره لأنه يتضمن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف, ويتضمن أيضاً رؤية المعروف منكراً ورؤية المنكر معروفاً, وهذا من مصداق ما جاء في الحديث الذي رواه رزين عن علي رضي الله عنه مرفوعاً, وفيه: «كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف» قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن قال: «نعم وأشد, كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً» قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن قال: «نعم». وروى أبو يعلى والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً». وروى ابن وضاح عن ضمام بن إسماعيل المعافري عن غير واحد من أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً». وروى ابن وضاح أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «يأتي على الناس زمان تكون السنة فيه بدعة والبدعة سنة والمعروف منكراً والمنكر معروفاً» , وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً, وهي تنطبق على صاحب المقال وعلى أمثاله من المفتونين بالبدع. وما أكثرهم في زماننا لا كثرهم الله. فأما قول الكاتب ما بال خطباء المساجد عندنا يريدون أن يحجروا واسعاً ويتدخلوا حتى في خصوصيات الناس ويفتون بأن الولائم التي تقام للعزاء محرمة ومخالفة لسنة رسول الله, لماذا؟ فجوابه من وجوه, أحدها أن يقال: إن الخطباء الذين أشار إليهم الكاتب لم يحجروا شيئاً من الأمور الجائزة وهي التي لم يرد الشرع المطهر

ذكر الأحاديث في التحذير من المحدثات والأمر بردها

بالمنع منها. وإنما حجروا البدع والمحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها, وقد جاء في ذلك أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , منها ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم الذهبي وقال ابن عبد البر في كتابه: «جامع بيان العلم وفضله» حديث عرباض بن سارية في الخلفاء الراشدين حديث ثابت صحيح انتهى كلامه. ولم يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أمته بإقامة الولائم للعزاء, ولا أنه فعل ذلك, ولا أن أحداً من أصحابه فعل ذلك فأقره عليه, وكذلك لم يذكر عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه أقام وليمة للعزاء أو أنه أمر بذلك أو أن أحداً فعل ذلك في زمانهم فأقروه عليه, وعلى هذا فإن إقامة الولائم للعزاء يكون من المحدثات التي حذّر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنها بدعة وضلالة. ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضاً ومسلم وابن ماجه والدارمي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وقد رواه النسائي بإسناد جيد ولفظه «إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة

ذكر قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وأصوله

بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». ومنها ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما هما اثنتان الكلام والهدي فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقد رواه ابن وضاح وابن عبد البر وغيرهما موقوفاً على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وعلى تقدير صحة وقفه فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي وإنما يقال عن توقيف كما قد جاء ذلك في حديث جابر رضي الله عنه. وفي حديثي جابر وابن مسعود رضي الله عنهما دليل على المنع من إقامة الولائم للعزاء لأن ذلك لم يكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لم يكن من هديه فهو من المحدثات التي هي من شر الأمور ومن البدع والضلالات وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات غاية التحذير كما تقدم النص على ذلك في الأحاديث المذكورة. ومنها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقاً مجزوماً به: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». قال النووي في شرح مسلم قال أهل العربية الرد هنا بمعنى المردود ومعناه فهو باطل غير معتد به, قال: وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. وقال أيضاً: وهذا الحديث مما ينبغي حفظه

ذكر الهدي النبوي في صنع الطعام لأهل الميت

واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه. ثم ذكر قول النووي: إن هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك, قال وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع. قال الحافظ: وفيه رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها. قلت: ومن الأعمال المردودة إقامة الولائم للعزاء لأن ذلك لم يكن من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم ولا من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان إنما هو من المحدثات التي حذّر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنها بدعة وضلالة. وما كان كذلك فهو مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وبقوله أيضاً: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وقد كان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهل الميت مخالفاً لهدي أهل البدع فإنه كان يأمر أن يصنع الطعام لأهل الميت لشغلهم بالمصيبة عن صنع الطعام. قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما لما جاء نعي جعفر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم» رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم والذهبي. وقد ترجم أبو داود على هذا الحديث بقوله: «باب صنعة الطعام لأهل الميت» وترجم عليه

الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة وأمور الجاهلية

الترمذي بقوله: «باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت» وترجم عليه ابن ماجه بقوله: «باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت» وترجم عليه البيهقي بقوله: «باب ما يهيأ لأهل الميت من الطعام» وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها نحو حديث ابنها عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأهله: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لها طعاماً فإنه قد شغلوا بأمر صاحبهم». فهذا هو المشروع مع أهل الميت. فأما الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للذين يأتون إليهم للعزاء فهو من النياحة. قال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة - يعني ابن مصرف - قال قدم جرير على عمر فقال: هل يناح قِبَلكم على الميت؟ قال: لا, قال: فهل تجتمع النساء عندكم على الميت ويطعم الطعام؟ قال: نعم, فقال: تلك النياحة. وروى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة» وقد رواه ابن ماجه بإسنادين صحيحين أحدهما على شرط البخاري والآخر على شرط مسلم. وبوّب عليه بقوله: «باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام». وروى ابن أبي شيبة عن وكيع بن الجراح عن سفيان عن هلال بن خباب عن أبي البختري قال: الطعام على الميت من أمر الجاهلية والنوح من أمر الجاهلية. وقد ذكره عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن هلال بن خباب عن أبي البختري. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن فضالة بن حصين عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير قال: ثلاث عن أمر الجاهلية بيتوتة المرأة عند أهل المصيبة ليست منهم والنياحة ونحر الجزور عند المصيبة. وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن

منع عمر بن عبدالعزيز من الاجتماع إلى أهل الميت

سعيد بن جبير قال: ثلاث من عمل الجاهلية النياحة والطعام على الميت وبيتوتة المرأة عند أهل الميت ليست منهم. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن معن بن عيسى عن ثابت بن قيس قال: أدركت عمر بن عبد العزيز يمنع أهل الميت الجماعات يقول: ترزون وتغرمون. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة انتهى. ونقل العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في «عون المعبود» قول ابن الهمام: في «فتح القدير» شرح الهداية. يستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام لهم يشبعهم يومهم وليلتهم, ويكره اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل البيت لأنه شرع في السرور لا في الشرور وهي بدعة مستقبحة انتهى. قال أبو الطيب ويؤيده حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة» أخرجه ابن ماجه: وبوّب «باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام» وهذا الحديث سنده صحيح ورجاله على شرط مسلم قاله السندي. وقال أيضاً: قوله كنا نرى. هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعلى الثاني فحكمه الرفع وعلى التقديرين فهو حجة, وبالجملة فهذا عكس الوارد, إذ الوارد أن يصنع الناس الطعام لأهل الميت. فاجتماع الناس في بيتهم حتى يتكلفوا لأجلهم الطعام قلب لذلك. وقد ذكر كثير من الفقهاء أن الضيافة لأهل الميت قلب للمعقول لأن الضيافة حقاً أن تكون للسرور لا للحزن انتهى. وقوله: أن الضيافة لأهل الميت. معناه من أهل الميت وهي إقامتهم الولائم للعزاء. وقد نقل المباركفوري في «تحفة الأحوذي» قول ابن الهمام يكره

اتخاذ الضيافة من أهل الميت لأنه شرع في السرور لا في الشرور وهي بدعة مستقبحة. قال: وقال القاري واصطناع أهل الميت الطعام لأجل اجتماع الناس عليه بدعة مكروهة, بل صح عن جرير رضي الله عنه «كنا نعده من النياحة» وهو ظاهر في التحريم انتهى. ونقل النووي في الروضة وشرح المهذب عن صاحب الشامل أنه قال: وأما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمعهم الناس عليه فلم ينقل فيه شيء. قال: وهو بدعة غير مستحبة. قال النووي في الروضة وهو كما قال انتهى واستدل في «شرح المهذب» على كونه بدعة بحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الذي تقدم ذكره وقال: رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه بإسناد صحيح. ونقل الشيخ محمد الشربيني الخطيب في «مغني المحتاج. إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج» عن ابن الصباغ وغيره أنهم قالوا: أما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمع الناس عليه فبدعة غير مستحب, ثم استدل على كونه بدعة بحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الذي تقدم ذكره. وقال شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي في كتابه «نهاية المحتاج. إلى شرح المنهاج» ويكره كما في الأنوار وغيره أخذاً من كلام الرافعي والمصنف - يعني النووي - أنه بدعة لأهله صنع طعام يجمعون الناس عليه قبل الدفن وبعده لقول جرير: «كنا نعد ذلك من النياحة» انتهى. وقال ابن الحاج في «المدخل»: وأما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمع الناس عليه فلم ينقل فيه شيء وهو بدعة غير مستحب. قال: وقد سئل مالك رحمه الله عن جمع الناس على العقيقة فأنكر ذلك وقال: تشبه بالولائم. قال ابن الحاج: فإذا كان هذا قوله في العقيقة فما بالك به في

الطعام الذي اعتاد بعضهم عمله في بيت الميت وجمع الناس عليه. قال وقال أزهر بن عبد الله: من صنع طعاماً لرياء وسمعة ولم يستجب الله لمن دعا له ولم يخلف الله عليه نفقة ما أنفق. قال ابن الحاج: وإذا كان هذا في وليمة العرس والختان فما بالك بما اعتاده بعضهم في هذا الزمان من أهل الميت يعملون الطعام ثلاث ليال ويجمعون الناس عليه عكس ما حكي عن السلف رضي الله عنهم. فليحذر من فعل ذلك فإنه بدعة مكروهة انتهى. وكلام العلماء في المنع من إقامة الولائم في المآتم وتصريحهم بأن ذلك من البدع كثير جداً, وفيما ذكرته ههنا كفاية لمن أراد الله به خيراً, ومن يضلل الله فلا هادي له. وفيما ذكرته من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات والأمر بردها. وما رواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: في اجتماع النساء على الميت وإطعام الطعام تلك النياحة. وما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه ذكر عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يعدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. وما رواه ابن أبي شيبة عن أبي البختري وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز أنهم أنكروا الاجتماع إلى أهل الميت وإطعام الطعام, كل هذا فيه رد على الكاتب الذي تهجم على خطباء المساجد وأنكر عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من البدع والمحدثات, ومنها إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بالمولد النبوي, وفيما ذكرته أيضاً عن العلماء من الذم لإقامة الولائم في المآتم وتصريحهم أن ذلك بدعة مستقبحة وأنه من قلب المعقول. فيه أبلغ رد على الكاتب الذي بذل جهده في تقرير

من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه

بدعة المآتم والذب عنها. وبالجملة فالخطباء قد أحسنوا غاية الإحسان في نصيحتهم المسلمين وتوجيههم إلى الخير وتحذيرهم من البدع وأنواع المنكرات. وأما صاحب المقال فإنه قد أساء إلى نفسه وإلى غيره من الناس, فأما إساءته إلى نفسه فهو أنه قد وضعها في صف الذين أخبر الله عنهم أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف, وأما إساءته إلى الغير فهو أنه قد حسّن لهم بدعة المآتم والمولد ودعاهم بكتابته التي نشرها في جريدة الندوة إلى ارتكاب ما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات التي قد أمر بردها ووصفها بالضلالة وأخبر أنها من شر الأمور وأنها في النار, فلا يأمن الكاتب أن يكون له نصيب من قول الله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يرزون} وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد قرر النووي في شرح مسلم أن الإثم يكون لمن دعا إلى الضلالة سواء كان هو والذي ابتدأها أم كان مسبوقاً إليها. الوجه الثاني: أن يقال: أنه يجب التدخل في خصوصيات الناس وفي عمومياتهم إذا تركوا شيئاً مما أمر الله به أو أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ارتكبوا شيئاً مما نهى الله عنه أو نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك فعل البدع والمحدثات لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حذّر منها أشد التحذير. والدليل على وجوب التدخل في مخالفة الأوامر وارتكاب النواهي قول الله تعالى: {ولتكن

وجوب النصيحة

منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» والآيات والأحاديث في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعيد الشديد على ترك ذلك كثيرة جداً. وقد ذكرت طرفاً منها في كتابي المسمى بـ «القول المحرر, في الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر» فلتراجع هناك. والتدخل في خصوصيات الناس وعمومياتهم إذا تركوا شيئاً من الواجبات أو ارتكبوا شيئاً من المنهيات من أهم أمور الدين ومن النصيحة الواجبة على كل مسلم لإخوانه المسلمين لما جاء في الحديث الصحيح عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الدين النصيحة» قلنا لمن قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عمر وجرير وحكيم بن أبي يزيد عن أبيه وثوبان وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث تميم الداري رضي الله عنه. وقد ذكرت هذه الأحاديث بألفاظها في كتابي

الإفتاء بتحريم ولائم المآثم هو الصواب وذكر الحجة على ذلك

المسمى بـ «القول المحرر, في الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر» فلتراجع هناك. وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أنه يجب النهي عن إقامة الولائم للمآتم لأن إقامتها من البدع المستقبحة ومن النياحة المحرمة. وليس النهي عن البدع والنياحة من التدخل فيما لا يجوز التدخل فيه من خصوصيات الناس كما قد توهم ذلك صاحب المقال الباطل, وإنما هو من النهي عن المنكر. والنهي عن المنكر واجب بحسب القدرة. الوجه الثالث: أن يقال: إن خطباء المساجد الذين أفتوا بتحريم الولائم التي تقام للعزاء وقالوا إنها مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أصابوا فيما أفتوا به وفي قولهم إنها مخالفة للسنة. وحجتهم ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحذر أمته عن محدثات الأمور ويقول: «إن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وما جاء عنه أيضاً أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكرت هذه الأحاديث في الوجه الأول فلتراجع. ومن حججهم أيضاً ما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة» وقد تقدم قول السندي إن هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال وعلى التقديرين فهو حجة. وتقدم أيضاً قول القاري إن قول جرير رضي الله عنه ظاهر في التحريم. وتقدم أيضاً قول عمر رضي الله عنه إن اجتماع النساء على الميت وإطعام الطعام من النياحة, وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. قال وفي الباب عن الفضل بن العباس وأبي ذر وأبي هريرة انتهى. ولفظه عند ابن حبان: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به». وروى الإمام أحمد أيضاً وأبو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به». قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم, وروى الإمام أحمد أيضاً وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه». وروى الإمام أحمد

حديث «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»

أيضاً والترمذي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم والذهبي. وفي هذه الأحاديث دليل على المنع من الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام لأن عمر رضي الله عنه قد عد ذلك من النياحة وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه وأخبر أيضاً أنه يقول بالحق وأمر أمته بالاقتداء به وبأبي بكر رضي الله عنهما. وفي هذا مع ما تقدم ذكره من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ذكره جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن الصحابة رضي الله عنهم أبلغ رد على استنكار صاحب المقال الباطل للفتوى بتحريم ولائم العزاء واستنكاره للقول بأنها مخالفة للسنة, وقوله: لماذا؟.

الرد على بعض شبه الكاتب

وأما قوله: وهل هذه الولائم أصبحت من الدين حتى تكون بدعة؟. فجوابه من وجهين أحدهما: أن يقال: لو كانت ولائم المآتم من الدين لما كانت من البدع ولكنها ليست من الدين فكانت من البدع التي ورد التحذير منها والأمر بردها في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد تقدم ذكرها قريباً فلتراجع. الوجه الثاني: أن يقال: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. وقد تقدم ذلك في قول عمر وجرير بن عبد الله رضي الله عنهما, والنياحة من أمر الجاهلية كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلة لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة» وإذا كانت الولائم في المآتم من أمر الجاهلية فلا يقول بجوازها ونفي البدعة عنها إلا أحد رجلين, إما جاهل لا يعرف الفرق بين أمور الإسلام وأمور الجاهلية, وإما معاند لا يبالي بمخالفة الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, ولا يبالي برد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات والأمر بردها. وأما قوله: وهل نجحنا في محاربة الرذائل والمفاسد في المجتمع الإسلامي وواجب علينا الكلام في هذه الأمور التي لا تمت إلى الدين أو العبادة من قريب أو بعيد. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال: إن محاربة البدع أهم من محاربة الرذائل والمفاسد الخُلُقية لأن البدع أحب إلى إبليس من المعاصي.

البدعة أحب إلى إبليس من المعصية

وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده إلى سفيان الثوري أنه قال: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية, المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها» , وأيضاً فإن البدع بريد الشرك وهي تؤول إليه. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: المبتدع يؤول إلى الشرك ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم انتهى. وقال السدي في تفسير هذه الآية استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. قلت: وهذا هو المطابق لحال أهل البدع فإنه استنصحوا الذين يدعونهم إلى البدع ويرغبونهم فيها ونبذوا كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم. ومن هذا الباب ما يفعله المفتونون بإقامة الولائم في المآتم فإنهم قد استنصحوا أدعياء العلم الذين يفتون بجواز إقامتها وحضورها ويحسّنون ذلك للعوام ولا يبالون بمخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برد المحدثات ولا يبالون بما ثبت عنه من التحذير منها والمبالغة في ذمها ووصفها بالصفات الذميمة. الوجه الثاني: أن يقال: إنه يجب على العلماء محاربة البدع والتحذير منها ومحاربة الرذائل والمفاسد وجميع المنكرات والتحذير منها, ولا يكتفى بمحاربة أحدها عن محاربة غيره ولكن يبدأ بالأهم فالأهم منها, فيبدأ بالنهي والتحذير من أشدها خطراً على الدين وهي البدع التي تمحو السنن وتهدم الإسلام كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن

حديث «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها»

غضيف بن الحارث الثمالي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها» وهذا يدل على شؤم البدع وعظم مضرتها على الإسلام فيجب التحذير منها والإنكار على من يذب عنها ويحسّنها للناس. الوجه الثالث: أن يقال: إن صاحب المقال قد اعترف أن إقامة الولائم في المآتم من الأمور التي لا تمت إلى الدين أو العبادة من قريب أو بعيد, ويجاب بأن ما كان كذلك فهو من المحدثات, والمحدثات كلها شر وضلالة كما تقدم النص على ذلك فيما رواه العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يجوز إقرار المحدثات ولا العمل بشيء منها, بل يجب ردها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». ويجب أيضاً التحذير منها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذّر منها وأخبر أنها شر وضلالة. وأيضاً فإن إقامة الولائم في المآتم من النياحة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم التصريح بذلك في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, وقد صرح بذلك أيضاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه ابن أبي شيبة عنه وتقدم ذكره, والنياحة من الأمور التي لا تمت إلى الدين أو العبادة من قريب أو بعيد وإنما هي من أمور الجاهلية وقد جاء الإسلام بتحريمها ولعن فاعلها, وما كان بهذه المثابة فإنه لا يجوز إقراره, بل يجب رده ومحاربته, ومن قال بجوازه فقد أخطأ خطأ كبيراً وشاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبع غير سبيل المؤمنين. وقال الله تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً».

الرد على بعض شبه الكاتب

وأما قوله إن الحلال بيّن والحرام بيّن. فجوابه أن يقال: إن من الحرام البيّن إقامة الولائم في المآتم لأنه من المحدثات التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن ذلك من سنة الخلفاء الراشدين ولا من عمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. بل كانوا يعدونه من النياحة كما تقدم فيما رواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. وقال أبو البختري إنه من أمر الجاهلية وقال سعيد بن جبير إنه من عمل الجاهلية. وكان عمر بن عبد العزيز يمنع منه وهو من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. وفي هذا أوضح البيان أن إقامة الولائم في المآتم من الحرام البيّن. ولا يخفى هذا إلا على إنسان لا يميّز بين الحلال والحرام. وأما قوله وليتنا نستطيع أن نطهر مجتمعنا من الحرام ونقنع الناس باجتنابه بدلاً من إكثار الممنوعات والمحرمات حتى نطفشهم وندفعهم للتمرد وعدم تصديقنا في أن كل شيء حرام حتى المأدبة التي يقيمها أهل الميت في اليوم الثالث من الوفاة حيث يجلسون لاستقبال المعزين والمعزيات ويطعمون الفقير والفقيرات. ماذا في ذلك. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن إقامة الولائم في المآتم من الأمور التي يجب منعها والتحذير منها لأن هذا العمل محدث في الإسلام وهو من النياحة كما تقدم بيانه. وما كان من المحدثات والنياحة فهو حرام يجب تطهير المجتمع منه. الوجه الثاني: أن يقال إن تطهير المجتمع من البدع أهم من تطهيره من جمع الأموال من الحرام لأن البدع بريد الشرك وهي تؤول إليه. وما كان بهذه المثابة فتطهير المجتمع منه أهم من تطهيره من

المعاصي التي هي دون ذلك. وقد ذكرت قريباً قول سفيان الثوري إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. ومع هذا فإنه يجب السعي في تطهير المجتمع من البدع ومن ملابسة الأمور المحرمة واكتساب الأموال المحرمة وغير ذلك من المنكرات الظاهرة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بتغيير المنكرات الظاهرة بحسب القدرة ولم يفرق بينها. الوجه الثالث: أن يقال مما يدل على أهمية تطهير المجتمع من البدع والمحدثات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحذر منها في خطبته. والظاهر من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره في أول الكتاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك في كل جمعة. الوجه الرابع: أن يقال إنه يجب على العلماء تحذير الناس من المحدثات وإعلامهم بما فيها من الشر والضلالة. وذلك من التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يحذر أمته من المحدثات في خطبته يوم الجمعة ويبين لهم أنها شر الأمور وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. فعلى الخطباء أن يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات وبيان ما فيها من الشر والضلالة وإن لم تحصل القناعة بذلك من بعض الناس لأن الله تعالى قال بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فذكّر إنما أنت مذكّر. لست عليهم بمصيطر} وقال تعالى: {فذكّر إن نفعت الذكرى. سيذكر من يخشى. ويتجنبها الأشقى} وقال تعالى: {وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال تعالى: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ} وقال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}.

إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. وعلى هذا فالخطباء الذين أشار إليهم الكاتب لهم أسوة بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - في تذكير الناس وحثهم على التقوى ونهيهم عن البدع والمحدثات وتحذيرهم منها ومن سائر المنكرات وليس عليهم أن يقنعوا الناس بما يأمرون به وما ينهون عنه فإن ذلك ليس في قدرتهم. وإنما الهداية والإضلال بيد الله تعالى فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحجة البالغة والحكمة التامة. ولا ينبغي الالتفات إلى ما يحصل لبعض الناس من النفور والتضايق من سماع النهي والتحذير عما وجدوا عليه آباءهم وأشياخهم من البدع والمحدثات كما قد حصل ذلك لصاحب المقال الباطل. هدانا الله وإياه إلى الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وأعاذنا جميعاً من نزغات الشيطان وتضليله. بل ينبغي بذل النصيحة للمسلمين ودعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليمهم ما يجهلونه من أمور الدين, فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. الوجه الخامس: أن يقال إن الخطباء الذين أشار صاحب المقال الباطل إلى أنهم قد أكثروا من الممنوعات والمحرمات لم يبتدعوا شيئاً من الممنوعات والمحرمات ويأتوا بذلك من عند أنفسهم. وإنما كانوا يمنعون ويحرمون الأمور التي قد دل الكتاب والسنة على تحريمها والمنع منها, فتجدهم إذا نهوا عن شيء من العقائد أو الأقوال أو الأفعال يأتون بالأدلة الدالة على المنع مما نهوا عنه, وعلى هذا فلا لوم على الخطباء الذين ينهون عن البدع ويحذرون منها وإنما اللوم على من لامهم واعترض عليهم. الوجه السادس: أن يقال إنه لا يتضايق من سماع النهي عن المحدثات والتحذير منها ويتمرد عن قبول ما جاء عن النبي - صلى الله

عليه وسلم - من النهي عنها والأمر بردها إلا من كان في قلبه مرض من أمراض الشبهات والفتن. فهؤلاء هم الذي يغتاظون من سماع النهي عن المحدثات التي قد نشأوا على اعتيادها ووجدوا آباءهم وأشياخهم عليها. وهم الذين يصدون ويعرضون عن قبول الحق ولا يصدقون بتحريم البدع ولا يعبأون بالأحاديث الواردة في التحذير منها والأمر بردها. وينبغي لهؤلاء أن يتدبروا قول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}. الوجه السابع: أن يقال إنه ليس أحد من الخطباء الذين أشار إليهم الكاتب في كلامه الباطل يقول إن كل شيء حرام وإنما هذا من تمويه الكاتب وتلبيسه على الجهال ودندنته حول التشويه لسمعة الخطباء الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجاهدون أهل الباطل ويحذرون الناس مما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته منه. فجزى الله الخطباء الناصحين خير الجزاء وأعظم لهم الأجر والثواب. الوجه الثامن: أن يقال أن الخطباء الذين أشار إليهم الكاتب إنما كانوا يحرمون ما قامت الأدلة الشرعية على تحريمه, ومنه إقامة الولائم في المآتم لأن هذا العمل مخالف لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصنعة الطعام لأهل البيت, ولأنه من النياحة في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أجمع الصحابة رضي الله عنه على عده من النياحة كما تقدم في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, والنياحة حرام وهي من أمور الجاهلية. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وقد ذكرت هذا الحديث

جواب لشيخ الإسلام ابن تيمية فيه أن صنعة الطعام من أهل الميت بدعة

وغيره من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات في أول الكتاب فلتراجع. الوجه التاسع: أن يقال إن الله تعالى لم يشرع لأهل الميت أن يطعموا الفقراء في أيام العزاء ولم يأمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله ولم يأذن فيه. ولم يكن ذلك من سنة الخلفاء الراشدين. ولم يذكر عن غيرهم من الصحابة أنهم فعلوا ذلك, ولو كان خيراً لكانوا أسبق إليه من غيرهم. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وعلى هذا فمن خص إطعام الفقراء بأيام العزاء فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله, ومن أحب أن يطعم الفقراء ويتصدق عليهم فله مندوحة عن أيام المصائب والأحزان, ولا يجوز أن يجعل إطعام الفقراء وسيلة إلى إحياء بدعة المآتم لأن هذه الوسيلة من الحيل, والحيل لا تبيح المحرم. وقد سئل شيخ الإسلام أبو العباس أبو تيمية رحمه الله تعالى عن إطعام أهل الميت لمن هو مستحق؟ فأجاب بقوله: وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة, ثم استدل على كونه بدعة بحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الذي تقدم ذكره. قال وإنما المستحب إذا مات الميت أن يصنع لأهله طعام واستدل على ذلك بحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره. وأما قول الكاتب: ماذا في ذلك؟. فجوابه أن يقال فيه: أنه مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته في صنعة الطعام لأهل الميت, ومخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على عد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من

الرد على بعض شبه الكاتب

النياحة, وما كان بهذه المثابة فإنه غير جائز. وفيه أيضاً أنه من المحدثات والأعمال التي ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - , والمحدثات كلها شر وضلالة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره, وقد قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} وقال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو قول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}. وأما قوله وهل كل ما لم يفعله الرسول وأصحابه حرام أم العكس هو الصحيح, أي إن الأصل في كل الأعمال هو الحل إلا ما ورد نص بالتحريم له. وأين النص الصريح في تحريم المآدب في المآتم. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى مربوطة بالأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمن عمل عملاً ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعمله مردود لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها, وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقاً «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي هذا الحديث نص صريح على رد الأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها إقامة الولائم في المآتم

لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع ذلك لأمته, ولأنه مخالف للسنة في بعث الطعام إلى أهل الميت. وما خالف السنة فهو مردود بنص حديث عائشة رضي الله عنها. وفي هذا النص أبلغ رد على ما لفقه صاحب المقال الباطل من التمويه والتلبيس على ضعفاء البصيرة. الوجه الثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته أن يأخذوا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ونهاهم عن محدثات الأمور وحذرهم منها بأبلغ التحذير وأخبرهم أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وأن شر الأمور محدثاتها. وفي هذه النصوص أبلغ رد على من أباح بدعة الولائم في المآتم وعلى من أباح غيرها من المحدثات. الوجه الثالث: أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم قد عدوا الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. وهذا إجماع منهم على تحريم إقامة المآدب في المآتم لأن النياحة من أمر الجاهلية وهي حرام وملعون فاعلها, وإجماع الصحابة رضي الله عنهم حجة على كل مبطل. ومن خالف إجماعهم فقد تعرض للوعيد الشديد الذي ذكره الله في قوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}. وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفرقة الناجية من أمته بأنهم من كان على مثل ما كان عليه هو وأصحابه. وقد كان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أصحابه على خلاف ما يفعله أهل البدع من إقامة الولائم في المآتم: وكل خير في اتباع من سَلَف ... وكل شيء في ابتداع من خَلَف الوجه الرابع: أن يقال إنه لا يتم الإيمان لأحد حتى يحقق الشهادة

حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»

بالرسالة وذلك بتحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواضع الاختلاف والتمسك بسنته ولزوم متابعته وتقديم هديه على هدي غيره. وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» قال النووي في الأربعين له, حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح. ثم قال في الكلام على هذا الحديث. يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - , وهذا نظير قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فليس لأحد مع الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر ولا هوى انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في بعض فتاويه: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له. والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نعبده بالأهواء والبدع, فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من واجب ومستحب ولا يعبده بالأمور المبتدعة انتهى. وقال شيخ الإسلام أيضاً ولا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة. وقال أيضاً من طلب بعبادته الرياء والسمعة فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله, ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله ولم يخرج عن شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي بلغها عن الله انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

هدينا مخالف لهدي المشركين

وإذا عرض المسلم الخالي من اتباع الهوى إقامة الولائم في المآتم على ما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة وجده مخالفاً لذلك كله, فهو مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث الطعام إلى أهل الميت, ومخالف لأقواله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات ومبالغته في ذمها والتنفير منها والأمر بردها, ومخالف لإجماع الصحابة على أن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. والنياحة من أمر الجاهلية وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين, رواه الحاكم في مستدركه عن حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه, وما كان بهذه المثابة فإنه لا يتوقف عن القول بتحريمه إلا من هو جاهل بحدود الشريعة المحمدية. وأما قوله كذلك شغل خطيب المسجد الحرام جمعتين بالكلام عن الاحتفال بالمولد النبوي وتحريمه وتجريمه. فجوابه من وجهين أحدهما: أن يقال إن خطيب المسجد الحرام قد أحسن فيما فعله من النهي عن بدعة المولد والتحذير منها لأنها ليست من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين ولم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم بإحسان, وإنما هي من المحدثات التي أحدثها الجهال بعد القرون الثلاثة المفضلة. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكرت كلام العلماء على هذا الحديث في أول الكتاب فليراجع فإنه مهم جداً , وليراجع أيضاً ما تقدم من حديث العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله

الرد على بعض شبه الكاتب

وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي هذه الأحاديث الثلاثة أبلغ تحذير من المحدثات والنص على أن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وفيها مع حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه الأمر برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبلغ رد على الكاتب الذي اعترض على خطيب المسجد الحرام وتضايق من نهيه عن بدعة المولد وتحذيره من مخالفة الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. الوجه الثاني: أنه يقال إن خطيب المسجد الحرام لم يبتدع شيئاً من عند نفسه وإنما كان مقتدياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومتبعاً للأحاديث الثابتة عنه في التحذير من المحدثات والمبالغة في ذمها, وعلى هذا فلا لوم على خطيب المسجد الحرام وإنما اللوم على من لامه واعتراض عليه وتضايق من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وعمله بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته. وأما قوله: وكان المفروض أن يتحدث عن أحداث الساعة. عن المجاعة التي تفتك بالمسلمين في عدد من بلادهم. عن حث إخوانهم المصلين على إغاثتهم قبل أن يسعفهم التبشير الصليبي والإغراء الصهيوني كما فعل بعض خطباء المساجد. فجوابه أن يقال: إن التحذير من البدع أهم من التحدث عن المجاعة وأحداث الساعة لأن البدع تفتك بالدين. وأما المجاعة فإنها تفتك بالأبدان. وما كان يفتك بالدين فالتحذير منه أهم مما يفتك بالأبدان لأن المصيبة في الدين أعظم من المصيبة في الأبدان, وقد تكون المصيبة في الدين سبباً لدخول النار وحرمان الجنة. وأما المصيبة في

الأبدان فإنها مع الإيمان والصبر والرضا بقضاء الله وقدره قد تكون سبباً لتكفير السيئات والفوز بالجنة والنجاة من النار. وقد قال الله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}. ومما يدل على أهمية التحذير من البدع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. والمراد بالجماعة أهل السنة المتمسكون بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. وقد جاء وصف الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنه. رواه الترمذي ومحمد بن نصر المروزي وابن وضاح والحاكم والآجري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى الطبراني في الصغير نحوه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. وروى الطبراني أيضاً والآجري نحو ذلك عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك رضي الله عنهم. وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه} قال: «تبيضّ وجوه أهل السنة والجماعة وتسودّ وجوه أهل البدعة والضلالة» وقد ذكر هذا الأثر البغوي وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير في تفاسيرهم. وذكره غيرهم من المفسرين, وله حكم المرفوع لأنه فيه إخباراً عن أمر من أمور الآخرة وذلك لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف. وفيه دليل على شؤم

الرد على بعض شبه الكاتب وتضايقه من النهي عن الولائم في المآثم

البدع وسوء عاقبتها. وحيث كانت البدع بهذه المثابة فالتحذير منها أهم من التحدث عن المجاعة وأحداث الساعة, وإذا حصل الجمع بين التحذير من البدع وبين التحدث عن المجاعة وأحداث الساعة وحث الأغنياء على الصدقة وبذل المعونة للمحتاجين من المسلمين فهو حسن جداً. وقد فعل ذلك خطباء المسجد الحرام وفعله غيرهم من الخطباء. وأما قوله أيها الناس ارحمونا من هذا الكلام الممل من كثرة التكرار وعظونا وبصرونا بالمفاسد والمحرمات الحقيقية وانفذوا بكلامكم إلى أعماق نفوسنا بالحكمة والموعظة الحسنة واتركوا الكلام عن الموائد والمآتم إلا عما هو محرم فيها قطعاً لا مجال فيه للتأويل. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال من أعظم الرحمة بالناس نهيهم عن البدع التي تفتك بالدين وتكون ضرراً على أصحابها في الدار الآخرة, وهي مع ذلك تزاحم السنن التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتكون سبباً في رفعها والحلول في محلها. ومن هذه البدع إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بالمولد النبوي. فأما إقامة الولائم في المآتم فهو من النياحة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم. وما كان عن النياحة فهو محرم قطعاً ولا مجال فيه للتأويل, وأما الاحتفال بالمولد النبوي فهو من الزيادة على الأعياد المشروعة للمسلمين. والزيادة على ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - محرمة قطعاً ولا مجال في ذلك للتأويل لأن الله تعالى يقول: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} فهذه الآية الكريمة شاملة لجميع المحدثات التي شرعها الشيطان وأولياؤه للجهال. ومنها إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بالمولد النبوي لأن كلاً منهما من المحدثات التي لم يأذن الله بها ولم تكن من سنة

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين ولا من عمل الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. الوجه الثاني: أن يقال إن أرحم الناس بالناس عامة وبالمؤمنين خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} وكان - صلى الله عليه وسلم - مع اتصافه بالرحمة للمؤمنين يكثر تكرار التحذير من المحدثات في خطبه ويصفها بالشر والضلالة ويقول إنها في النار كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره. ويظهر من سياقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك في كل جمعة. وخير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو منصوص عليه في حديث جابر الذي تقدم ذكره. ونحوه في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره. وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} وعلى هذا فلا لوم على الخطباء الذين يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعملون بسنته في تكرار التحذير من المحدثات وإنما اللوم على من لامهم في ذلك وضجر من نصيحتهم للمسلمين وتحذيرهم مما يضرهم في دينهم ويكون وبالاً عليهم في الدار الآخرة. الوجه الثالث: أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعظم الناس تمسكاً بالسنة واتباعاً لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم يذكر عن أحد منهم أنه كان يملّ من كثرة تكرار النبي - صلى الله عليه وسلم - للتحذير من المحدثات في خطبه. وخير الأمور ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. ومن رغب

عما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الإصغاء إلى النصيحة والتحذير من المحدثات وعدم الملل من كثرة التكرار لذلك فلا خير فيه. الوجه الرابع: أن يقال من أعظم المفاسد والمحرمات الحقيقية إظهار البدع بين المسلمين لأن إظهارها يدعو العوام إلى قبولها والافتتان بها وذلك من أعظم ما يفتك بالدين. وأعظم من ذلك مفسدة وفتكاً في الدين تحسين البدع للعوام والذب عنها بالكتابة في الصحف والكتب التي لا خير فيها. ولا يخفى ما في هذا الفعل الذميم من معارضة أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع والمبالغة في ذمها والأمر بردها. من هذا الباب بدعة الاحتفال بالمولد النبوي وبدعة إقامة الولائم في المآتم. فقد افتتن بهما كثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام. وافتتن بهما أيضاً كثير من الكتّاب والأدعياء في العلم ومن لا بصيرة لهم في الدين وبذلوا جهدهم في تحسين هاتين البدعتين والذب عنهما ومعارضة من ينهى عنهما ويحذّر منهما. وهذا من الدعاء إلى الضلالة. ومن كان سبباً في إضلال الناس فله نصيب من أوزار الذين يضلون بسببه لقول الله تعالى: {ليحلموا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون} وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الوجه الخامس: أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم الداعين إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. وكان يكثر أن يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي

محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وكان يقول: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وفي هذين الحديثين دليل على أن التحذير من البدع والمبالغة في ذمها من أعظم الحكمة وأبلغ الموعظة الحسنة, وعلى هذا فلا لوم على الخطباء الذين يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتمسكون بسنته وهديه, وإنما اللوم على من لامهم واعترض عليهم وطلب منهم أن يأتوا بحكمة وموعظة ليست من الحكم والمواعظ المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه السادس: أن يقال إن النهي عن موائد المآتم والاحتفال بالمولد النبوي واجب من واجبات الشرع لأنهما من المحدثات, والمحدثات كلها شر وضلالة بالنص الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلها في النار كما هو منصوص عليه في حديث جابر الذي تقدم ذكره في أول الكتاب, وما كان بهذه المثابة فهو من المنكرات التي يجب النهي عنها عملاً بما أمر الله به في كتابه وأمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فأما ترك الكلام عن الموائد في المآتم الذي قد دعا إليه صاحب المقال الباطل فهو في الحقيقة من المداهنة والسكوت عن إنكار المنكر ولا يجوز فعل ذلك ولا الدعاء إليه لأن الله تعالى قد لعن بني إسرائيل وذمهم على المداهنة والسكوت عن إنكار المنكر فقال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا كانوا يعتدون, كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وإنما قص الله علينا ما فعله بنو إسرائيل من ترك التناهي عن المنكر وأنه لعنهم على ذلك وذمهم على المداهنة لنعتبر بذلك ولا نفعل كما فعلوا فيصيبنا

الرد على بعض شبه الكاتب ومجازفاته

مثل ما أصابهم, والسعيد من وعظ بغيره, والشقي من كان عبرة وعظة للناس. وأما قوله: فقد كان من الملاحظ أنه لم يبدأ الخطيب في الكلام عن مآدب المآتم وتحريمها حتى نهض المصلون تركوا المسجد رغبة عن السماع لمثل هذا الكلام. فجوابه: أن يقال لا يخفى ما في هذا الكلام من المجازفة التي يكذبها الواقع, فإن كان الكاتب قد أراد المسجد الحرام وأن المصلين فيه قد نهضوا وتركوا المسجد الحرام رغبة عن سماع الكلام في مآدب المآتم فهذا لا يقوله إلا إنسان قد فقد شعوره, وإن كان قد أراد غيره من المساجد فوقوع ذلك بعيد جداً, بل يبعد أن يقع ذلك من جزء قليل من المصلين فضلاً عن الجميع, ولو وقع نهوض المصلين من بعض المساجد أو نهوض بعضهم منها وتركهم الصلاة فيها رغبة عن سماع الكلام في مآدب المآتم لكان لذلك نبأ عند الناس ولسارع أهل الصحف إلى ذكره, وفي انفراد الكاتب بذكر ذلك دليل على أنه لا صحة لهذه الخبر. فأما وقوع ذلك من أفراد قليلين من المفتونين بإقامة المآدب في المآتم فهو غير مستبعد ولكن لا عبرة بأفعال الجهال والمفتونين بالبدع. وقد ورد التشديد في الخروج من المسجد بعد الأذان وذلك فيما رواه مسلم عن أبي الشعثاء - واسمه سليم بن أسود - قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فاتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -» وفي رواية له عن أبي الشعثاء قال: سمعت أبا هريرة ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجاً بعد الأذان فقال:

«أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -» وقد رواه الإمام أحمد وأهل السنن بنحوه وقال الترمذي حديث حسن صحيح, وزاد أحمد في رواية له من طريق شريك عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي» قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على جامع الترمذي: في رواية شريك التي روى أحمد فائدة جليلة وهي التصريح برفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن قول الصحابي, من فعل كذا فقد عصى الرسول ونحو ذلك مما اختلف في أنه مرفوع أو موقوف والصحيح الراجح أنه مرفوع انتهى. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث بقوله: «التشديد في الخروج من المسجد بعد الأذان» قال الترمذي وفي الباب عن عثمان, قلت حديث عثمان رضي الله عنه قد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد ضعيف ولفظه, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق» وروى مالك في الموطأ أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: «يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء إلا أحد يريد الرجوع إليه إلا منافق». قال ابن عبد البر هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفاً وقد صح مرفوعاً عن أبي هريرة برجال الصحيح, وروى الدارمي في سننه عن أبي المغيرة حدثنا الأوزاعي حدثنا عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة فقال له: لا تبرح حتى تصلي فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد» فقال: إن أصحابي بالحرة قال: فخرج قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه. وهذا مرسل صحيح

ذم الذين يعرضون عن سماع المواعظ والتذكير

الإسناد إلى سعيد بن المسيب وهو يؤيد حديث عثمان رضي الله عنه ويشهد له. قال الترمذي: في الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه عنه أبو الشعثاء, وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر: أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه انتهى وقال النووي في شرح مسلم: فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر انتهى وقال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي: في: «عون المعبود» قال الحافظ: وفيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان, وهذا محمول على من خرج بغير ضرورة وأما إذا كان الخروج من المسجد للضرورة فهو جائز وذلك مثل أن يكون محدثاً أو جنباً أو كان حاقناً أو حصل به رعاف أو نحو ذلك أو كان إماماً بمسجد آخر انتهى. وإذا علم ما تقدم ذكره من التشديد في الخروج من المسجد بعد الأذان إلا من حاجة وضرورة فليعلم أيضاً أن الله تعالى قد ذم الذين يعرضون عن سماع المواعظ والتذكير وشبههم بالحمر التي قد فرت من الصيادين أو من الأسد فقال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين, كأنهم حمرٌ, مستنفرة, فرت من قسورة} فليحذر العاقل الناصح لنفسه أن يكون من هؤلاء المذمومين أو أن يتشبه بهم فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وصححه ابن حبان وغيره, وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا».

فصل وإذا عُلِم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يَعُدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة, وعُلِم أيضاً أن النياحة من أمر الجاهلية كما هو منصوص عليه في حديث أبي مالك الأشعري الذي تقدم ذكره, وعُلِم أيضاً ما تقدم عن أبي البختري أنه قال: الطعام على الميت من أمر الجاهلية, وما تقدم عن سعيد بن جبير أنه قال إنه من أمر الجاهلية وعملهم, فليُعْلم أنه لا يجوز التشبه بأهل الجاهلية ولا العمل بشيء من أمورهم وسننهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين, رواه الحاكم في مستدركه من حديث محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد رواه الشافعي في مسنده من حديث محمد بن قيس بن مخرمة مرسلاً, ولفظه «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك». وقد ورد التشديد في التشبه بأهل الجاهلية وغيرهم من أعداء الله تعالى والتشديد في ابتغاء سنة الجاهلية في الإسلام, فأما التشديد في التشبه بهم فقد رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» صححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية إسناده جيد وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. قال شيخ الإسلام وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث, قال وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} انتهى.

التشديد في ابتغاء سنة الجاهلية في الإسلام

وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا» قال ابن مفلح في قوله: «ليس منا» هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى. وأما التشديد في ابتغاء سنة الجاهلية في الإسلام فقد رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة. وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا, فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق, ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر, وأما فساد الدين فنوعان: نوع يتعلق بالعمل, ونوع يتعلق بمحل العمل فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية, وأما المتعلق بمحل العمل فالإلحاد في الحرم لأن أعظم محال العمل هو الحرم, وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني - إلى أن قال -: والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية, فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث, والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها, فإن السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة, قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» والاتباع هو الاقتفاء والاستنان, فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية,

وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم انتهى. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أبلغ رد على الكاتب الذي أجاز إقامة الولائم في المآتم وجد واجتهد في الدفاع عن هذه البدعة والاعتراض على الخطباء الذين ينهون عنها ويبينون للناس أنها مخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان, ويبينون للناس أيضاً أن هذه البدعة من النياحة وأمور الجاهلية, وفي الحديث أيضاً دليل على أن إقامة الولائم في المآتم بغيض إلى الله تعالى لأنه من سنن الجاهلية, ومن عمل بهذه السنة الجاهلية فهو من أبغض الناس إلى الله تعالى, فينبغي لصاحب المقال أن ينتبه من غفلته ويراجع الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل, والرجوع إلى الحق نُبْلٌ وفضيلة, وأما التمادي في الباطل فإنه نقص ورذيلة {ومن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 16/ 5/ 1405 هـ.

«القسم الثاني»

بيان أن مقال الكاتب أبتر أجذم أقطع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وكفى, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد المصطفى, وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والوفاء, وعلى من تبعهم بإحسان ولطريقهم اقتفى. أما بعد فإني بعد كتابة الرد على المقال الباطل المنشور في عدد 7845 من جريدة الندوة وقفت على كلام للمردود عليه يؤيد به كلامه الأول في الذب عن بدعة الاحتفال بالمولد النبوي وبدعة إقامة الولائم في المآتم. ويرد على أحد العلماء الناصحين الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحذرون الناس من البدع والمخالفات ويبينون لهم الحق الذي يجب الأخذ به, وقد صدّر الكاتب مقاله الأخير بقول الله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. ولم يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا بالحمد لله, فكان لذلك مقاله أبتر أجذم أقطع, وهذه الأوصاف الذميمة هي اللائقة بالمقال الذي ينصر صاحبه البدع والمحدثات ويجادل بالباطل في تقريرها والذب عنها. وقد روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمر ذي بالٍ لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع» ورواه أبو داود ولفظه «كل كلام لا يبدأ فيه

خطأ الكاتب في تصديره لمقاله بالآية من سورتي البقرة والنمل

بالحمد لله فهو أجذم» ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه «كل أمر ذي بالٍ لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع» ورواه ابن ماجه بنحوه. قال السندي: الحديث قد حسنه ابن الصلاح والنووي, وروى الطبراني في الكبير عن كعب بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمر ذي بالٍ لا يبدأ فيه بالحمد لله أجذم أو أقطع» قال الخطابي قوله: «أجذم» معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام فيه انتهى. وأما الآية التي صدّر بها الكاتب مقاله الباطل فإنما هي واردة في الرد على المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى لا تخلق ولا ترزق ولا تملك لعابديها نفعاً ولا ضراً, وما جاء من الآيات في تقريع المشركين والرد عليهم فإنه لا ينبغي إيراده في الرد على آحاد المسلمين فضلاً عن العلماء الناصحين الذين لا يألون جهداً في الدعوة إلى الله تعالى والتحذير مما يدعو إلى سخطه وأليم عقابه, فالرد على هؤلاء بالآية النازلة في تقريع المشركين والرد عليهم وتحديهم خطأ وسوء أدب. وبعد فإن البراهين على المنع من إقامة الولائم في المآتم ومن الاحتفال بليلة المولد النبوي واتخاذها عيداً كثيرة في الكتاب والسنة, وأنا أذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى. البرهان الأول: قول الله تعالى في أول سورة الأعراف: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب من رب كل شيء ومليكه {ولا تتبعوا من دونه أولياء} أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره انتهى. وإذا علم أن الله تعالى أمر عباده باتباع ما أنزله في كتابه ونهاهم

البرهان الثاني

عن اتباع الأولياء من دونه فليعلم أيضاً أن إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً من اتباع الأولياء الذين ابتدعوا هاتين البدعتين فيجب المنع منهما عملاً بالآية الكريمة. وفي الآية أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من ادعى جواز العمل بهاتين البدعتين وغيرهما من المحدثات التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. البرهان الثاني: قول الله تعالى في سورة الحشر: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي مهما أمركم به فافعلوا ومهما نهاكم عنه فاجتنبوا فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر انتهى. وقال البغوي: هو عام في كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه انتهى. ولم يُؤْثَر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أمته بإقامة الولائم في المآتم ولا باتخاذ ليلة المولد عيداً, فكان العمل بهاتين البدعتين من قبيل المحدثات التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها ويبالغ في التحذير منها, وعلى هذا ففي الآية الكريمة أوضح دليل على المنع من إقامة الولائم في المآتم ومن اتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً, وفيها أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أضرابه من أنصار البدع. البرهان الثالث: قول الله تعالى في سورة النور: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} أي عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته, فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قُبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان انتهى.

البرهان الرابع

وفي الآية الكريمة تهديد شديد ووعيد أكيد لمن خالف الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وسواء كان ذلك بزيادة على الأمر المشروع أو بنقص منه, ومن هذا الباب ما أحدثه الجهال من إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً, فكل من هاتين البدعتين داخل فيما حذّر الله منه في الآية الكريمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها ولم يأمر بهما ولم يأذن فيهما ولم يقر أحداً على فعلهما فكانتا من قبيل ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برده حيث يقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وفي الآية الكريمة أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى غيره من المخالفين للأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. البرهان الرابع: أن الله تعالى أمر عباده بالإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في آيات كثيرة من القرآن وحثهم على اتباعه فقال تعالى في سورة آل عمران: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقال تعالى في سورة الأعراف {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون, قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}. فأما الآية من سورة آل عمران فقد علق الله تبارك وتعالى فيها محبته للعباد ومغفرته لذنوبهم على اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك لا يحصل إلا بالتمسك بسنته واجتناب ما نهى عنه وترك ما أحدثه المبتدعون من بعده, وأما الآية الأولى من سورة الأعراف فقد علق تبارك وتعالى فيها الفلاح - وهو الفوز بالجنة -

البرهان الخامس

على الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعزيزه ونصره واتباع النور الذي أنزل معه وهو القرآن العظيم, وتعزيزه - صلى الله عليه وسلم - هو توقيره وتعظيمه, وإنما كون ذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه والتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين واجتناب ما أحدثه أهل البدع والضلالة من أنواع المحدثات التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الآية الثانية من سورة الأعراف فقد أمر الله تبارك وتعالى فيها بالإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلق الهداية على اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففيها وفي الآيتين قبلها أوضح دليل على المنع من إقامة الولائم في المآتم ومن اتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً لأنهما من المحدثات وليسا من الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلهذا كان العمل بهما خارجاً عن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكل ما خرج عن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ضلالة كما هو منصوص عليه في حديث جابر الذي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وفي الآيات الثلاث أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين بإقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً لأن كلاً من هاتين البدعتين خارج عن اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداخل فيما حذر منه من محدثات الأمور. البرهان الخامس: قول الله تعالى في سورة المائدة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على كل من ابتدع بدعة يزيد بها في الدين ما ليس منه. وعلى الذين يعملون بالبدع ويجعلون منها سنناً وأعياداً يضاهئون بها السنن والأعياد المشروعة للمسلمين وعلى المفتونين الذين يؤيدون العمل

قول مالك فيمن ابتدع بدعة يراها حسنة

بالبدع ويعارضون العلماء الناصحين الذين ينهون عنها ويحذرون منها. ومن هذه البدع إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً في كل عام. فقد افتتن كثير من الجهال بهاتين البدعتين واتخذوا كلاً منهما سنة يحافظون عليها أعظم مما يحافظون على الفرائض والسنن المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكر الشاطبي في كتاب «الاعتصام» ما رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: سمعت مالكاً يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً» وذكره الشاطبي في موضع آخر من كتاب «الاعتصام» ولفظه قال: «من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة» وذكر بقيته بمثل ما تقدم انتهى. وفي الآية الكريمة أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين بإقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً واستحسان هاتين البدعتين. ولا شك أن هذا من الاستدراك على الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم وأتم عليهم النعمة به, وما أعظم ذلك وأشد خطره. وبالجملة فإن الآية من سورة المائدة تقضي على البدع كلها وترد على من تعلق بها أو بشيء منها, وعلى من أفتى بجوازها أو جواز شيء منها, وعلى من استحسن شيئاً من البدع وزعم أنها نافعة ومفيدة, وقد قال الشاطبي في كتاب: «الاعتصام» إن المستحسن للبدع يلزمه أن يكون الشرع عنده لم يكمل بَعْدُ فلا يكون لقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} معنى يعتبر به عندهم انتهى.

ما يلزم على استحسان بدعتي المأتم والمولد من اللوازم السيئة

ويلزم على استحسان إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بليلة المولد النبوي واتخاذها عيداً لوازم سيئة جداً, أحدها مضاهاة السنن المشروعة للمسلمين بالبدع والمحدثات التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر منها ويصفها بالشر والضلالة. الثاني: الاستدراك على الشريعة الكاملة وذلك بالتقرب إلى الله تعالى بعملين ليسا من الشريعة المحمدية وجعلهما بمنزلة الأعمال التي ورد الترغيب فيها والحث عليهما في الشرع المطهر. الثالث: تكذيب ما أخبر الله به من إكمال الدين وإتمام النعمة, وهذا التكذيب وإن لم يكن واقعاً بلسان المقال من المفتونين ببدعتي المآتم والمولد فهو واقع منهم بلسان الحال كما تشهد بذلك أعمالهم في كل من البدعتين ومحافظتهم عليهما كما يحافظ أهل السنة والجماعة على السنن وفضائل الأعمال. الرابع: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد تركوا العمل ببعض الأمور المستحبة النافعة المفيدة, وهذا مما يجب تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه, إذ لو كان في إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً أدنى شيء من الخير لكانوا أسبق إليه من غيرهم. الخامس: أن يكون العاملون ببدعتي المأتم والمولد قد حصل لهم من الخير والأعمال النافعة ما لم يحصل مثله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, وهذا لا يقوله مسلم. البرهان السادس: أن الله تعالى ذم الذين يعملون بالمحدثات التي لم يأذن الله بها ووصفهم بالظلم وتوعدهم بأشد الوعيد فقال تعالى: {أم

البرهان السابع

لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} وهذه الآية وإن كانت نازلة في توبيخ المشركين على العمل بالدين الذي لم يأذن الله به فهي تتناول بعمومها من تشبه بهم من المسلمين الذين يعملون بالمحدثات التي لم يأذن الله بها, ومنها إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً لأن الله تعالى لم يأذن بهاتين البدعتين لا في كتابه ولا على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - , وما لم يأذن الله به فهو مردود والعاملون به متعرضون للوعيد الشديد. وفي الآية الكريمة أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين بما لم يأذن الله به من إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً. البرهان السابع: أن الله تعالى ذم الذين يقلدون آباءهم ويتبعون ما وجدوهم عليه من الدين الذي لم يأذن الله به فقال تعالى: {بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون, وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} والمراد بالأمة ههنا الدين, وما جاء في الآيتين من ذم المشركين على تقليدهم لآبائهم واتباع ما وجدوهم عليه من الدين الذي لم يأذن الله به فهو متناول بعمومه لكل من تشبه بهم من المسلمين الذين يعملون بالمحدثات التي وجدوا آباءهم وشيوخهم يعملون بها, ومنها إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً. وفي الآيتين أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من الذين يعملون بالمحدثات التي وجدوا آباءهم وشيوخهم يعملون بها, وإذا نهوا عن تقليد الآباء والشيوخ فيما لم يأذن به الله غضبوا وجدوا

البرهان الثامن

واجتهدوا في معارضة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, وهؤلاء يخشى عليهم أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}. البرهان الثامن: قول الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون} قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية ما ملخصه, اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف, في تفسير الصراط وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول, فروي أنه كتاب الله, وقيل هو الإسلام, وقيل الحق, وقيل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه من بعده, قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم, فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضاً. ثم ذكر ما رواه الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وأما السبل فهي الطرق الخارجة عن الصراط المستقيم مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل والأهواء والنحل المخالفة لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, وقد روى ابن جرير عن أبان بن عثمان أن رجلاً قال لابن مسعود رضي الله عنه: ما الصراط المستقيم؟ قال: «تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وثَمَّ رجال يدعون من مَرَّ بهم فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط

انتهى به إلى الجنة, ثم قرأ ابن مسعود رضي الله عنه {وإن هذا صراطي مستقيماً}» الآية. وروى الإمام أحمد وابن جرير وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطً ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}» وفي رواية لأحمد أنه قال: «هذه سبل متفرقة». وروى الإمام أحمد أيضاً وابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحو حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} يقول لا تتبعوا الضلالات, رواه ابن جرير, وروى أيضاً عن مجاهد أنه قال في قوله {ولا تتبعوا السبل} قال: البدع والشبهات. وإذا علم أن الصراط المستقيم هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم وأن البدع كلها من السبل التي نهى الله عن اتباعها فليعلم أيضاً أن كلاً من إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً داخل في عموم ما نهى الله عنه في الآية الكريمة لأن هاتين البدعتين ليستا من الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه, فهما إذاً من السبل التي نهى الله عن اتباعها ومن المحدثات التي حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - منها وأمر بردها, وسيأتي بيان ذلك في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى.

البرهان التاسع

وفي الآية الكريمة أبلغ رد على صاحب المقال الذي قد بذل جهده في تأييد بدعتي المأتم والمولد والدفاع عنهما. البرهان التاسع: قوله تعالى في سورة النساء: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} قال ابن كثير في قوله تعالى: {فردوه إلى الله والرسول} قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق, وماذا بعد الحق إلا الضلال, ولهذا قال تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إن كنت تؤمنون بالله واليوم الآخر} فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: {ذلك خير} أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خيرا {وأحسن تأويلاً} أي أحسن عاقبة ومآلاً كما قاله السدي وغير واحد انتهى. وقال البغوي في تفسيره قوله عز وجل: {فإن تنازعتم} أي اختلفتم {في شيء} من أمر دينكم, والتنازع اختلاف الآراء {فردوه إلى الله والرسول} أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حياً وبعد وفاته إلى سنته, والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد انتهى.

وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله: {فردوه إلى الله والرسول} قال: إلى الله إلى كتابه وإلى الرسول إلى سنة نبيه, وروى أيضاً عن ميمون بن مهران وقتادة نحو ذلك. وإذا عرض المسلم الخالي من اتباع الهوى إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجد كلاً من هاتين البدعتين مخالفاً للكتاب والسنة, فأما مخالفتهما للكتاب فإن الله تعالى قد أمر عباده باتباع ما أنزله في كتابه ونهاهم عن اتباعهم الأولياء من دونه فقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} الآية, وليست بدعة المأتم وبدعة المولد مما أنزله الله في كتابه وإنما هما من المحدثات بعد القرون الثلاثة المفضلة فيكون النهي في الآية الكريمة شاملاً لهما, وقد تقدم بيان ذلك في البرهان الأول, وجميع البراهين التي تقدم ذكرها تدل على أنهما داخلتان في عموم ما نهى الله عن اتباعه. وأما مخالفتهما للسنة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أمته بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وحذرهم من محدثات الأمور وبالغ في التحذير منها وأخبرهم أنها شر الأمور وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وأمرهم برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره, وكلٌّ من إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً داخل فيما حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - منه وأمر برده ومن توقف في هذا فلا يخلو من أحد أمرين, إما الجهل بدخول بدعتي المأتم والمولد في عمومات الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات والأمر بردها, وإما المكابرة في رد الأحاديث الواردة في ذم البدع والتحذير منها من أجل

البرهان العاشر

مخالفتها لهوى المكابرين وما وجدوا عليه آباءهم وشيوخهم, وما أشد الخطر في كلّ من الأمرين, وما أكثر أهل الجهل والمكابرة والعناد والجدال بالباطل في زماننا, هدانا الله وإياهم سواء السبيل. وفي الآية من سورة النساء أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد, وفيها أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من تعلق بشيء من المحدثات. البرهان العاشر: قول الله تعالى في سورة الشورى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} الآية, وهذه الآية الكريمة شبيهة بالآية المذكورة قبلها لأن كلاً من الآيتين تدل على أنه يجب رد الأشياء المختلف فيها إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - , قال ابن كثير في الكلام على قوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} أي مهما اختلفتم فيه من الأمور, وهذا عام في جميع الأشياء {فحكمه إلى الله} أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كقوله جل وعلا {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} انتهى. وفي الآية الكريمة دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات, والحكم في جميع المحدثات المنع لقول الله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}. وفي الآية أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من تعلق بشيء من البدع. البرهان الحادي عشر: قول الله تعالى في سورة النساء: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم

البرهان الثاني عشر

حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} فأقسم تبارك وتعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور ويقابل حكمه بالرضى والتسليم والانقياد ظاهراً وباطناً بحيث لا يجد في نفسه حرجاً من حكمه, وقد حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد المحدثات ووصفها بالشر والضلالة وأخبر أنها في النار. ومن المحدثات إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً فهما بلا شك داخلتان فيما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برده ووصفه بالشر والضلالة وأخبر أنه في النار. وفي الآية الكريمة أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد, وفيها أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين بالبدع. البرهان الثاني عشر: قول الله تعالى في سورة الأحزاب: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} وهذه الآية الكريمة شبيهة بالآية المذكورة قبلها لأن كلاً من الآيتين تدل على أنه يجب تحكيم الكتاب والسنة في جميع الأمور والأخذ بما جاء فيهما وأنه لا يجوز الخروج عما قضاه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن من اختار في شيء من أموره ما فيه مخالفة لما قضاه الله ورسوله فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالاً مبيناً. قال ابن كثير في تفسيره: هذه الآية عامة في جميع الأمور وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول كما قال تبارك وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} انتهى.

البرهان الثالث عشر

وفي الآية الكريمة دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات المخالفة لما قضاه الله في كتابه وما قضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الثابتة عنه, فأما قضاء الله تعالى فهو مذكور في البراهين التي تقدم ذكرها وفيما سيأتي من البراهين, وأما قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسيأتي ذكره في البرهان السادس عشر وما بعده من البراهين إن شاء الله تعالى. وفي الآية أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد المجتهدين في الذب عنهما والجدال في تقريرهما بالباطل. البرهان الثالث عشر: قول الله تعالى في سورة النور: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} وهذه الآية شبيهة بالآية المذكورة قبلها لأن كلاً من الآيتين تدل على أنه يجب تحكيم الكتاب والسنة في جميع الأمور ومقابلة ما جاء فيهما من الأوامر والنواهي بالسمع والطاعة وذلك بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وفي الآية الكريمة أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات التي لم يأذن الله بها ولم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن من فعله ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم, وما كان بهذه المثابة فهو داخل في عموم ما نهى الله عنه في قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} وداخل في عموم قوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وداخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وفي قوله أيضاً:

البرهان الرابع عشر

«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فهذا من حكم الله وحكم رسوله الذي أمر تبارك وتعالى أن يقابل بالسمع والطاعة. وفي الآية أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من أعرض عما جاء عن الله تعالى وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذعن لحكم الكتاب والسنة. البرهان الرابع عشر: أن الله تعالى أمر بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في نحو من ثلاثين آية من القرآن, ونهى عن معصيته ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم - في آيات كثيرة أيضاً, ومن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الأخذ بما أمر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وفي كل آية من الآيات التي جاء فيها الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد وغيرهما من المحدثات التي لم يأذن الله بها ولم تكن من الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, وكذلك الآيات التي جاء فيها النهي عن معصية الله تعالى ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكل آية منها تدل على المنع من بدعتي المأتم والمولد وغيرهما من المحدثات في الإسلام لأن الله تعالى قد أمر عباده باتباع ما أنزله في كتابه ونهاهم عن اتباع الأولياء من دونه فدخل في عموم الآية الكريمة كل بدعة أحدثت في الإسلام ومنها إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذر أمته من المحدثات على وجه العموم وبالغ في التحذير منها وأمر بردها بدون استثناء شيء منها فدخل في عموم الأحاديث الواردة في ذلك كل بدعة

البرهان الخامس عشر

أحدثت في الإسلام ومنه إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً وهذا واضح لا يخفى إلا على بليد ولا يرده إلا مكابر قد أعماه اتباع الهوى والتعصب للمحدثات التي وجد آباءه وشيوخه يعملون بها. وفي كل آية من الآيات التي تقدمت الإشارة إليها أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المتعصبين لبدعتي المأتم والمولد. البرهان الخامس عشر: قول الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} وفي هذه الآية الكريمة دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات التي ليس عليها أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن العمل بهما من سبيل الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان, وإنما أحدث الجاهلون العمل بهما بعد القرون الثلاثة المفضلة بعدة قرون, وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات وبالغ في التحذير منها وأمر بردها كما سيأتي بيان ذلك في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وما كان بهذه المثابة فالعمل به من المشاقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين. وفي الآية أيضاً أبلغ رد على الذين يعملون بالبدع ويتعصبون لها ويجادلون بالباطل في تقريرها والدفاع عنها. ولا شك أن هذه الأعمال السيئة من المشاقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين, ومن شاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبع غير سبيل المؤمنين فهو على خطر عظيم لأن الله تعالى قد توعد فاعل ذلك بأن يوليه ما تولى وأن يصليه جهنم, فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من التعرض لهذا الوعيد الشديد, وليحرص كل الحرص على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين والعض

قول ابن مسعود «عليكم بالسمت الأول»

عليها بالنواجذ ولزوم الأمر الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فإنهم كانوا أسبق الأمة إلى كل خير, وأبعدهم عن المخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولو كان في إقامة الولائم في المآتم واتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً أدنى شيء من الخير لكان الصحابة أسبق إليه من جهلة المتأخرين, ولكنه كان شراً محضاً فعصمهم الله منه. وقد روى الإمام أحمد في كتاب «الزهد» عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «عليكم بالسمت الأول» وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب «السنة» عنه رضي الله عنه أنه قال: «إنكم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول» وروى الإمام أحمد ومحمد بن نصر عنه رضي الله عنه أنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة» وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «من كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة» وقد روى ابن عبد البر ورزين العبدي نحو هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقد جاء التحذير من مشاقة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومحادتهما في آيات كثيرة من القرآن, وفي كل آية من تلك الآيات دليل على المنع من بدعتي المآتم والمولد وغيرهما من المحدثات التي لم يأذن الله بها, وفي كل آية منها مع الآية التي تقدم ذكرها أبلغ رد على صاحب

البرهان السادس عشر

المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد المتعصبين للجدال عنهما بالباطل. البرهان السادس عشر: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». رواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم والذهبي, وقال ابن عبد البر في كتابه: «جامع بيان العلم وفضله» حديث عرباض بن سارية في الخلفاء الراشدين حديث ثابت صحيح. وفي هذا الحديث التحذير من المحدثات والنص على أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة, وفيه أوضح دليل على المنع من الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس, وعلى المنع من اتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً لأن هاتين البدعتين ليستا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين وإنما هما من المحدثات التي أحدثها أهل الجهل والضلالة. وفي الحديث أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان السابع عشر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه والدارمي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, وقد رواه النسائي بإسناد جيد ولفظه «إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي

البرهان السابع عشر

محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». وفي هذا الحديث النص على أن المحدثات شر الأمور وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وأن كل ضلالة في النار, وفي هذا أبلغ تحذير من قبول البدع والعمل بها, وفي الحديث أيضاً أوضح دليل على المنع من الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس. وعلى المنع من الاحتفال بليلة المولد النبوي واتخاذها عيداً لأن هاتين البدعتين ليستا مما أمر الله به في كتابه ولا من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هما من المحدثات, والمحدثات كلها شر وضلالة وكلها في النار. ومعناه أن العمل بالمحدثات يؤدي بأصحابه إلى النار, ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة» قالوا من هي يا رسول الله قال: «ما أنا عليه وأصحابي» وسيأتي ذكر هذا الحديث قريباً إن شاء الله تعالى. وفي حديث جابر رضي الله عنه أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان الثامن عشر: ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما هما اثنتان الكلام والهدي فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد, ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقد رواه ابن وضاح وابن عبد البر وغيرهما موقوفاً على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وعلى تقدير صحة وقفه فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي وإنما يقال عن توقيف كما قد جاء ذلك في

البرهان التاسع عشر

حديث جابر الذي تقدم ذكره, وتقدم بعضه في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وفي هذا الحديث أوضح دليل على المنع من الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس, وعلى المنع من الاحتفال بليلة المولد النبوي واتخاذها عيداً لأن هاتين البدعتين ليستا مما جاء في كلام الله وليستا من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هما من المحدثات التي هي شر وضلالة, وفي الحديث أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان التاسع عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها, وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقاً مجزوماً به «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» قال النووي في شرح مسلم قال أهل العربية الرد هنا بمعنى المردود ومعناه فهو باطل غير معتد به, قال: وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. وقال أيضاً: وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه, ثم ذكر قول النووي إن هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك, قال: وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع. قال الحافظ: وفيه رد المحدثات وأن النهي

البرهان العشرون

يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها انتهى. وفي الحديث أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما كان بهذه المثابة فإنه يجب رده عملاً بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وفي الحديث أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان العشرون: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» قال النووي في كتاب: «الأربعين» له حديث صحيح رويناه في كتاب «الحجة» بإسناد صحيح. قال الحافظ ابن رجب في كتابه: «جامع العلوم والحكم» يريد بصاحب كتاب «الحجة» الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي. قال: وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب «الأربعين» وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه وخرجته الأئمة في مسانيدهم, ثم خرجه عن الطبراني, قال ورواه الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الأصبهاني انتهى. قال النووي في الكلام على هذا الحديث يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - , وهذا نظير قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فليس لأحد مع الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر ولا هوى انتهى.

البرهان الحادي والعشرون

وفي هذا الحديث أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات التي لا مستند لها من كتاب ولا سنة, وإنما يستند المتفونون بهما على مجرد الأهواء وما تستحسنه عقولهم من الأعمال التي قد وجدوا آباءهم وشيوخهم يعملون بها. وفي الحديث أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان الحادي والعشرون: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. ورواه ابن ماجه أيضاً من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ولفظه «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء. وفي هذين الحديثين أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات في الإسلام وليستا من المحجة البيضاء التي ترك عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته. وفي الحديثين أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان الثاني والعشرون: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بيّن لكم» رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي ذر رضي الله عنه, قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة.

وفي هذا الحديث دليل على المنع من إقامة الولائم في المآتم ومن اتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً لأنه لو كان في هاتين البدعتين شيء من الفضائل التي تقرّب من الجنة وتباعد من النار لبيّن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته لأنه لا خير إلا وقد دلهم عليه ورغبهم فيه ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه, ومن استحسن هاتين البدعتين وزعم أن فيهما شيئاً من الفضائل التي تقرب من الجنة وتباعد من النار فإنه يلزم على قوله أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قصّر في البيان لأمته وكتم عنهم ما فيه خير لهم في معادهم, وهذا قول سوء لا يصدر إلا من إنسان مشكوك فيه إسلامه. وفي الحديث أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من استحسن بدعتي المأتم والمولد وزعم أن فيهما فضائل ترجى بركتها ونفعها في الدار الآخرة لأن هذا القول الباطل يتضمن الاستدراك على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وليس الاستدراك عليه أمراً هيناً وإنما هو من الأمور المنافية للإيمان لأن الله تعالى يقول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وأمرهم أن يعضوا عليها بالنواجذ وأخبرهم أن خير الهدي هديه وأن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار, وحذرهم من المحدثات وبالغ في التحذير منها وأمر بردها وأخبر أنه لا يؤمن أحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به - صلى الله عليه وسلم -. فهذا من أقضيته التي أمر الله تعالى بتحكيمه فيها وأن لا يكون في النفوس حرج منها وأن تقابل بالقبول والتسليم, وفي كل جملة من هذه الأقضية العظيمة أبلغ رد على الذين

البرهان الثالث والعشرون

يستدركون على النبي - صلى الله عليه وسلم - باستحسانهم لبدعتي المأتم والمولد وزعمهم أن فيهما فضائل ترجى بركتها ونفعها في الدار الآخرة. البرهان الثالث والعشرون: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة» قالوا من هي يا رسول الله قال: «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي ومحمد بن وضاح ومحمد بن نصر والحاكم والآجري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقال الترمذي حديث حسن غريب, وروى الطبراني في الصغير نحوه من حديث أنس رضي الله عنه. وروى الطبراني أيضاً والآجري عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها على الضلالة إلا السواد الأعظم» قالوا: يا رسول الله ما السواد الأعظم؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان على ما أنا

قول علي رضي الله عنه في بيان السنة والبدعة والجماعة والفرقة

عليه وأصحابي» وهذا الحديث ضعيف الإسناد ولكنه يتقوى بما تقدم قبله من حديثي عبد الله بن عمرو وأنس بن مالك رضي الله عنهما. وتفسير السواد الأعظم في هذا الحديث بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم يدفع ما قد يتوهمه بعض الناس من أن السواد الأعظم يراد به معظم المنتسبين إلى الإسلام وجمهورهم نظراً منهم إلى ظاهر اللفظ. وقد جاء وصف الفرقة الناجية في بعض الأحاديث بأنهم الجماعة وجاء وصفهم في بعضها بأنهم السواد الأعظم, ولفظ الجماعة والسواد الأعظم مجمل وقد بينه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» فهذا اللفظ المفصل يفسر اللفظ المجمل في غيره ويبين معناه, وقد روى العسكري عن سليم بن قيس العامري قال: سأل ابن الكواء علياً رضي الله عنه عن السنة والبدعة وعن الجماعة والفرقة فقال: «يا ابن الكواء حفظت المسألة فافهم الجواب: السنة والله سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - , والبدعة ما فارقها, والجماعة والله مجامعة أهل الحق وإن قلّوا, والفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا» وقال عمرو بن ميمون سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة» ثم قال: تدري ما الجماعة قلت: لا قال: «إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة, الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك» وفي رواية عنه أنه قال لعمرو بن ميمون: «إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى قال نعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ. رواه البيهقي في كتاب «المدخل» ونقله أبو شامة في كتاب «الباعث على إنكار البدع والحوادث» وابن القيم في كتاب «الإغاثة». وإذا علم تعيين الفرقة الناجية من هذه الأمة وأنهم الذي كانوا على منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم وأن هذه الفرقة الناجية هم الجماعة والسواد الأعظم وإن كانوا أقل المنتسبين إلى الإسلام, فليعلم أيضاً أن العمل ببدعتي المأتم والمولد خارج عما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم وأنه من المحدثات التي أحدثت في الإسلام بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أصحابه رضي الله عنهم بقرون كثيرة, وما كان كذلك فلا يجوز العمل به بل يجب رده لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي

البرهان الرابع والعشرون

رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد تقدم هذا الحديث فليراجع. وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي جاء فيه تعيين الفرقة الناجية من هذه الأمة أبلغ رد على صاحب المقال وعلى أمثاله من المتعصبين للعمل بما لم يعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. البرهان الرابع والعشرون: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي هذا الحديث الصحيح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من سنن الجاهلية, والعمل بسنن الجاهلية بغيض إلى الله تعالى, والعامل بسننهم من أبغض الناس إلى الله تعالى. فأما الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس فهو من النياحة كما سيأتي بيان ذلك في حديثي عمر بن الخطاب وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما, والنياحة من أمور الجاهلية كما سيأتي النص على ذلك في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه, ويأتي أيضاً قول أبي البختري وسعيد بن جبير في ذلك إن شاء الله تعالى, وأما الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً فهو مبني على التشبه بالنصارى فإنهم كانوا يحتفلون بمولد المسيح ويتخذونه عيداً, وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بالنصارى وغيرهم من المشركين وشدد في ذلك كما سيأتي في حديثي عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وفي الحديث أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من

البرهان الخامس والعشرون

المتعصبين لبدعتي المأتم والمولد. وفي تعصبهم لهاتين البدعتين بالباطل دليل على قلة مبالاتهم ببغض الله تعالى لمن يبتغي سنن الجاهلية ويعمل بأعمالهم السيئة. البرهان الخامس والعشرون: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وابن أبن شيبة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد, وقد ذكر البخاري بعضه في صحيحه معلقاً فقال في: «باب ما قيل في الرماح» من «كتاب الجهاد» ويذكر عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري» وروى أبو داود منه قوله: «من تشبه بقوم فهو منهم» وإسناده إسناد أحمد وابن أبي شيبة. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية إسناده جيد. قال: وقد احتج أحمد وغيره بهذا الحديث. قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقال أيضاً: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقاً انتهى. وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله بعثني بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم» وهذا المرسل الصحيح يشهد للحديث الموصول عن ابن عمر رضي الله عنهما ويؤيده, وقال سعيد بن منصور في سننه قال إسماعيل بن عياش عن أبي عمير الصوري عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله

بعثني بسيفي بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم» وهذا المرسل يشهد أيضاً للحديث الموصول عن ابن عمر رضي الله عنهما. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد من وجهين أحدهما أن الله تعالى جعل الذلة والصغار على من خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويدخل في ذلك من خالف الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. ومن ذلك العمل بالمحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - , ومنها إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن المحدثات على وجه العموم وحذر منها غاية التحذير ووصفها بالشر والضلالة وأخبر أنها في النار وأمر بردها وهذا يشمل بدعتي المأتم والمولد وغيرهما من المحدثات في الإسلام, فمن عمل بشيء منها ولم يُبَالِ بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها وتحذيره منها وأمره بردها فله نصيب من الذلة والصغار بقدر مخالفته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وارتكابه لنهيه. وقد يعجل ذلك للمخالف وقد يؤجل, فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من جميع الأقوال والأعمال التي قد تضره في العاجل أو في الآجل وتكون سبباً لعقوبته في الدنيا والآخرة. الوجه الثاني: أن العمل ببدعتي المأتم والمولد فيه تشبه بأهل الجاهلية من المشركين والنصارى. وقد تقدم بيان ما فيهما من التشبه بهم في البرهان الرابع والعشرين, وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أبلغ تحذير من التشبه بأعداء الله تعالى, وفيه أيضاً أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد وغيرهما من أمور أهل الجاهلية وسننهم, وفيه أيضاً

البرهان السادس والعشرون

أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان السادس والعشرون: ما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا» قال الترمذي: هذا حديث إسناده ضعيف, قلت وما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وما أرسله طاوس والحسن يشهد له ويقويه ففي كل من هذه الأحاديث التشديد في التشبه بأعداء الله تعالى, ويشهد له أيضاً ما سيأتي في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما. قال ابن مفلح في قوله: «ليس منا» هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع انتهى. وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وما حكاه شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية من الإجماع على النهي عن التشبه بالكفار أوضح دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لما فيهما من التشبه بأهل الجاهلية من المشركين والنصارى واتباع سننهم وذلك حرام, وقد تقدم تقرير ذلك في البرهان الرابع والعشرين والبرهان الخامس والعشرين. وفي الحديث أيضاً وما ذكر معه من الإجماع أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان السابع والعشرون: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين. رواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جرير عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في

البرهان الثامن والعشرون

تلخيصه, وقد رواه البيهقي في سننه من طريق الحاكم, ورواه الشافعي في مسنده من حديث ابن جرير عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلاً. قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فذكر الحديث وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك». وفي هذا الحديث دليل على المنع من بدعتي المأتم والمولد لأنهما من المحدثات في الإسلام وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقد تقدم هذا الحديث في البرهان السادس عشر والبرهانين بعده, والبدع والضلالات كلها مخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خير الهدي, وما خالف هديه فهو مردود لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وقد ذكرت في البرهان الرابع والعشرين أن بدعة المأتم من النياحة, والنياحة من أمر الجاهلية, وأما بدعة المولد فهي مأخوذة من عمل النصارى في مولد المسيح, وما كان من سنن المشركين والنصارى فالعمل به حرام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم». وفي الحديث أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعتي المأتم والمولد. البرهان الثامن والعشرون: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث أنه حصر الأعياد الزمانية في سبعة أيام وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة وأيام التشريق الثلاثة, فمن هذه الأحاديث ما رواه مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - قال: في جمعة من الجمع: «يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيداً فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك» وقد رواه ابن ماجه والطبراني من حديث صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عبيد بن السباق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فذكره بنحوه, قال في الزوائد. في إسناده صالح بن الأخضر لينه الجمهور وباقي رجاله ثقات, قلت وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: «معاشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله لكم عيداً فاغتسلوا وعليكم بالسواك» رواه الطبراني في الأوسط والصغير, قال الهيثمي: ورجاله ثقات. ولبعضه شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده» رواه الإمام أحمد والبخاري في الكنى وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه. وقال أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد إسناده صحيح, والأحاديث التي جاء فيها النص على أن يوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين كثيرة وقد تركت ذكرها خشية الإطالة, وفيما ذكرته ههنا كفاية إن شاء الله تعالى. ومما جاء في عيدي الفطر والأضحى ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: «ما هذان اليومان» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل قد أبدلكم بهما خيراً منها يوم الأضحى ويوم الفطر» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ذكر بعض الأعياد المبتدعة

ومما جاء في عيد الأضحى أيضاً وفي يوم عرفة وأيام التشريق ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم ي مستدركه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن يوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق هن عيدنا أهل الإسلام وهن أيام أكل وشرب» قال الترمذي حديث حسن صحيح وقال: الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه. فهذه أعياد المسلمين الزمانية, وأما أعيادهم المكانية فهي منحصرة في مواضع الحج ومشاعره, فالكعبة والمسجد الحرام والصفا والمروة وموضع السعي بينهما عيد للحجاج والمعتمرين. وعرفات ومزدلفة ومنى أعياد للحجاج في أيام الحج, فمن اتخذ عيداً مكانياً سوى مواضع الحج والعمرة أو اتخذ عيداً زمانياً سوى السبعة الأيام التي تقدم ذكرها في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ابتدع في الدين وتشبه بالنصارى والمشركين واستدرك على الشريعة الكاملة وخالف الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين, وما أعظم ذلك وأشد خطره لأن الله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وما أكثر المخالفين للأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم وخصوصاً في ابتداع الأعياد المكانية والزمانية, فأما الأعياد المكانية فكثيرة جداً, وقد افتتن بها جمهور المنتسبين إلى الإسلام وذلك باتخاذهم القبور مساجد وأعياداً يجتمعون عندها ويشدوه الرحال إليها من الأماكن القريبة والبعيدة ويفعلون عندها من منكرات الأقوال والأفعال ما لا يحصيه إلا الله تعالى, وقد عاد كثير منها شراً من اللات والعزى وغيرهما من أوثان أهل الجاهلية.

وأما الأعياد الزمانية فكثيرة جداً, ومن أعظمها فتنة وأكثرها انتشاراً في الأقطار الإسلامية بدعة الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً مضاهياً لعيد الفطر وعيد الأضحى, وقد افتتن بهذه البدعة كثير من المنتسبين إلى العلم فضلاً عن العوام, وقد تلاعب الشيطان ببعض المنتسبين إلى العلم وزين لهم اللغو في هذه البدعة والتعصب لها والدفاع عنها بالشبه والأباطيل الملفقة, وزاد اللغو والجراءة الهوجاء ببعضهم فزعموا أن الاحتفال بالمولد مطلوب شرعاً وزعموا أيضاً أنه مشروع في الإسلام, وهذا من الكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وزعموا أيضاً أن الاحتفال سنة حسنة محمودة مباركة, وهذا من الاستدراك على الشريعة الكاملة فقد قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وهذه الآية الكريمة من آخر القرآن نزولاً لأنها أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وهو واقف بعرفة, ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم يفعلون بدعة المولد ولم يكن لها ذكر في زمانهم, وإنما أحدثت بعد زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ستمائة سنة, وما كان بهذه المثابة فهو خارج عن الدين الذي أكمله الله لهذه الأمة, وخارج عن النعمة التي أتمها عليهم, وخارج عن دين الإسلام الذي رضيه لهم, وغايته أن يكون من الاستدراك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله تعالى قد شرع على لسانه سبعة أعياد زمانية فجاء المفتونون بالمولد النبوي فجعلوه عيداً يحتفلون به أعظم مما يحتلفون بالأعياد المشروعة للمسلمين, وهذا عين المشاقة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان وقد قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}.

البرهان التاسع والعشرون

وفي الأحاديث الدالة على تعيين الأعياد المشروعة للمسلمين وحصرها في سبعة أيام أوضح دليل على المنع من الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً, وكذلك غيره من الأعياد المبتدعة في الإسلام مثل ليلة المعراج وليلة النصف من شعبان وما يجعل لميلاد بعض الصالحين أو من يظن صلاحهم. وكذلك ما يجعل لثورة المنازعين للملوك والرؤساء وانتصار بعضهم على بعض - ويسمونه اليوم الوطني - وكذلك ما يجعل لولاية بعض الملوك - ويسمونه عيد الجلوس - إلى غير ذلك من الأعياد المبتدعة في الإسلام فكلها أعياد باطلة مردودة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» ولقوله أيضاً: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وفي الأحاديث التي تقدم ذكرها أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعة المولد النبوي المجادلين بالباطل في تقرير هذه البدعة والدفاع عنها. البرهان التاسع والعشرون: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة - يعني ابن مصرف - قال قدم جرير على عمر فقال: هل يناح قِبَلكم على الميت قال: لا. قال: فهل تجتمع النساء عندكم على الميت ويطعم الطعام قال: نعم فقال: تلك النياحة. وفي هذا الأثر دليل على المنع من إقامة الولائم في المآتم لأن عمر رضي الله عنه قد عدّ ذلك من النياحة وقد قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال: الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب, قال: وفي الباب عن الفضل بن العباس وأبي ذر وأبي هريرة انتهى ولفظه عند ابن حبان

ذكر الحديث الذي فيه «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»

«إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» وروى الإمام أحمد أيضاً وأبو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط مسلم. وروى الإمام أحمد أيضاً وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» وروى الإمام أحمد أيضاً والترمذي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي هذا حديث حسن وصححه الحاكم والذهبي. وفي قول عمر رضي الله عنه أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعة المأتم لأن عمر رضي الله عنه قد عدّ الاجتماع إلى أهل الميت وإطعامهم الطعام من النياحة. والنياحة من أمر الجاهلية من كبائر الإثم كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى, ولا يقول بجوازها إلا أحد رجلين إما جاهل بحدود الشرع وإما مكابر لا يبالي بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النياحة وما جاء عنه من التشديد فيها والنص على أنها من أمر الجاهلية. البرهان الثلاثون: ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة» وقد رواه ابن ماجه بإسنادين صحيحين أحدهما على شرط البخاري والآخر على شرط مسلم, وبوّب عليه بقوله: «باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة

الولائم في المآثم من أمر الجاهلية

الطعام» قال السندي قوله: «كنا نرى, هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعلى الثاني فحكمه الرفع وعلى التقديرين فهو حجة» انتهى. وفي هذا الأثر دليل على المنع من إقامة الولائم في المآتم لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن ذلك من النياحة, والنياحة حرام لأنها من أمر الجاهلية, والدليل على أنها من أمر الجاهلية قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة» رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه, وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع بن الجراح عن سفيان عن هلال بن خباب عن أبي البختري قال: «الطعام على الميت من أمر الجاهلية والنوح من أمر الجاهلية» وقد ذكره عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن هلال بن خباب عن أبي البختري, وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن فضالة بن حصين عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير قال: «ثلاث من أمر الجاهلية بيتوتة المرأة عند أهل المصيبة ليست منهم والنياحة ونحر الجزور عند المصيبة» وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن سعيد بن جبير قال: «ثلاث من عمل الجاهلية النياحة والطعام على الميت وبيتوتة المرأة عند أهل الميت ليست منهم». وإذا علم أن إقامة الولائم في المآتم من أمر الجاهلية فليعلم أيضاً أن التشبه بأهل الجاهلية حرام شديد التحريم. والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقوله أيضاً: «ليس منا من تشبه بغيرنا» وقوله أيضاً: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين, وقد ذكرت هذه الأحاديث قريباً فلتراجع.

منع عمر بن عبدالعزيز من بدعة المأتم

وقد ذكر كثير من الفقهاء أن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس بدعة. وقال بعضهم أنها بدعة مستقبحة, واقتصر بعضهم على القول بأن ذلك مكروه, والظاهر أنهم أرادوا بالكراهة كراهة التحريم لأنهم عللوا المنع من ذلك بأنه من النياحة واستدلوا على ذلك بحديث جرير بن عبد الله البجلي الذي تقدم ذكره, والنياحة من الكبائر, والكبائر كلها محرمة. وقد منع الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من بدعة المأتم, قال ابن أبي شيبة: حدثنا معن بن عيسى عن ثابت بن قيس قال: أدركت عمر بن عبد العزيز يمنع أهل الميت الجماعات يقول ترزون وتغرمون, وقد قال محمد بن سيرين وغيره من أكابر التابعين أن عمر بن عبد العزيز من أئمة الهدى, وقد تقدم قول ابن ماجه في سننه: «باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام» ثم أورد في الباب حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة انتهى, ونقل العلّامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في كتابه «عون المعبود» قول ابن الهمام في «فتح القدير»: شرح الهداية, يستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام لهم يشبعهم يومهم وليلتهم, ويكره اتخاذ الضيافة من أهل الميت لأنه شرع في السرور لا في الشرور وهي بدعة مستقبحة انتهى قال أبو الطيب: ويؤيده حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة» أخرجه ابن ماجه. وبوّب «باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام» وهذا الحديث سنده صحيح ورجاله على شرط مسلم قاله السندي, وقال أيضاً قوله: «كنا نرى» هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير من

الضيافة من أهل الميت بدعة مستقبحة

النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعلى الثاني فحكمه الرفع, وعلى التقديرين فهو حجة, وبالجملة فهذا عكس الوارد, إذ الوارد أن يصنع الناس الطعام لأهل الميت, فاجتماع الناس في بيتهم حتى يتكلفوا لأجلهم الطعام قلبٌ لذلك, وقد ذكر كثير من الفقهاء أن الضيافة لأهل الميت قلبٌ للمعقول لأن الضيافة حقاً أن تكون للسرور لا للحزن انتهى. وقوله إن الضيافة لأهل الميت, معناه من أهل الميت وهي إقامتهم الولائم للعزاء. وقد نقل المباركفوري في كتابه «تحفة الأحوذي» قول ابن الهمام يكره اتخاذ الضيافة من أهل الميت لأنه شرع في السرور لا في الشرور وهي بدعة مستحقة, قال: وقال القاري واصطناع أهل الميت الطعام لأجل اجتماع الناس عليه بدعة مكروهة, بل صح عن جرير رضي الله عنه «كنا نعده من النياحة» وهو ظاهر في التحريم انتهى. ونقل النووي في الروضة وشرح المهذب عن صاحب الشامل أنه قال: وأما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمعهم الناس عليه فلم ينقل فيه شيء, قال وهو بدعة غير مستحبة. قال النووي وهو كما قال انتهى. واستدل في «شرح المهذب» على كونه بدعة بحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الذي تقدم ذكره, وقال: رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه بإسناده صحيح. ونقل الشيخ محمد الشربيني الخطيب في «مغني المحتاج, إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج» عن ابن الصباغ وغيره أنهم قالوا: أما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمع الناس عليه فبدعة غير مستحب, ثم استدل على كونه بدعة بحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الذي تقدم ذكره. وقال شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي في كتابه: «نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج» ويكره كما في

الأنوار وغيره أخذاً من كلام الرافعي والمصنف - يعني النووي - أنه بدعة لأهله صنع طعام يجمعون الناس عليه قبل الدفن وبعده لقول جرير: «كنا نعدّ ذلك من النياحة» انتهى. وقال ابن الحاج في «المدخل»: وأما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمع الناس عليه فلم ينقل فيه شيء وهو بدعة غير مستحب, قال وقد سئل مالك رحمه الله عن جمع الناس على العقيقة فأنكر ذلك وقال: تشبه بالولائم, قال ابن الحاج: فإذا كان هذا قوله في العقيقة فما بالك به في الطعام الذي اعتاد بعضهم عمله في بيت الميت وجمع الناس عليه, قال: وقال أزهر بن عبد الله من صنع طعاماً لرياء وسمعة لم يستجب الله لمن دعا له ولم يخلف الله عليه نفقة ما أنفق, قال ابن الحاج: وإذا كان هذا في وليمة العرس والختان فما بالك بما اعتاده بعضهم في هذا الزمان من أن أهل الميت يعملون الطعام ثلاث ليالٍ ويجمعون الناس عليه عكس ما حكي عن السلف رضي الله عنهم, فليحذر من فعل ذلك فإنه بدعة مكروهة انتهى. وقول صاحب الشامل وابن الحاج: إن إصلاح أهل الميت للطعام وجمعهم الناس عليه لم ينقل فيه شيء, وإن أرادا أنه لم ينقل شيء يدل على جواز ذلك فنعم هو كذلك فإنه لم ينقل شيء يدل على جوازه, وإن أرادا أنه لم ينقل شيء يدل على المنع منه فيقال بل قد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه عده من النياحة وتقدم ذكر ذلك عنه, وتقدم أيضاً عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنهم كانوا يعدونه من النياحة, وهذا حكاية إجماع من الصحابة رضي الله عنهم على عده من النياحة, والنياحة حرام وكبيرة من الكبائر, وجميع الآيات والأحاديث التي تقدم ذكرها في البراهين السبعة والعشرين تدل على المنع منه, وقد تقدم بيان ذلك في

كلام العلماء في المنع من الولائم في المآثم وتصريحهم بأنها بدعة

الكلام على كل برهان منها فليراجع. وفي الأثر عن جرير رضي الله عنه أنهم كانوا يعدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة, وما ذكر بعده عن أبي البختري وسعيد بن جبير أنهما قالا في إقامة الولائم في المآتم: إنه من أمر الجاهلية, وما ذكر أيضاً عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يمنع من ذلك, وما ذكر أيضاً من أقوال العلماء في عد ذلك من البدع, وقول بعضهم إنها بدعة مستقبحة وأنها من قلب المعقول, كل ذلك فيه أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى أمثاله من المفتونين ببدعة المأتم. وفي كل برهان من البراهين التي تقدم ذكرها أبلغ رد على تحدي صاحب المقال الباطل على الإتيان ببرهان يدل على المنع من بدعتي المأتم والمولد فكيف وقد اجتمع من البراهين الدالة على المنع من بدعتي المأتم والمولد سبعة وعشرون برهاناً من الكتاب والسنة, وجاء في المنع من بدعة المولد زيادة برهان من السنة, وفي المنع من بدعة المأتم زيادة برهانين من قول عمر رضي الله عنه أن ذلك من النياحة, وما ذكره جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يعدون ذلك من النياحة, وبهذا تصير البراهين على المنع من بدعة المولد ثمانية وعشرين برهاناً, وعلى المنع من بدعة المأتم تسعة وعشرين برهاناً, ولا يخفى على طالب العلم أنه يكفي للمنع من كل واحدة من البدعتين برهان واحد فكيف وقد اجتمع على المنع من كل منهما عدد كثير من البراهين. فليتق الله صاحب المقال الباطل وليتأمل الآيات والأحاديث التي ذكرتها حق التأمل وليراجع الحق فإن الرجوع إلى الحق نبل وفضيلة كما أن التمادي في الباطل والإصرار عليه نقص ورذيلة ومن خفت عليه دلالة البراهين المذكورة على المنع من بدعتي المأتم والمولد أو خفي عليه شيء منها فليعلم أنه إنما أتي من سوء فهمه للآيات والأحاديث. وليعرف

الرد على قول الكاتب إنه لم يأت في كلمته بما يخالف العقيدة الصحيحة

قدر نفسه ولا يتطاول على الذين هم أعلم بالكتاب والسنة منه, ومن ظهرت له دلالتها على المنع من البدع ولم يقتنع بذلك فلا شك أنه مكابر محاد لله ولرسوله ومتبع غير سبيل المؤمنين. فصل قال صاحب المقال الباطل: إني لم آت في كلمتي ما يخالف العقيدة الصحيحة. والجواب: أن يقال إن صاحب المقال الباطل قد خالف الأدلة الدالة على المنع من بدعتي المأتم والمولد وهي كثيرة جداً في الكتاب والسنة, وقد ذكرت منها ثلاثين دليلاً فيما تقدم. ومن خالف أدلة الكتاب والسنة ونبذها وراء ظهره ولم يعبأ بها فلا شك أنه قد خالف العقيدة الصحيحة, وهي طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتحكيم الكتاب والسنة في محل النزاع قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} وقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر في خطبه من محدثات الأمور ويبالغ في التحذير منها ويصفها بالشر والضلالة ويقول إنها في النار ويأمر بردها, وكل من بدعتي المأتم والمولد من محدثاتها الأمور الداخلة في عموم ما حذر منه رسول الله

الرد على مشاقة الكاتب للخطباء وشغبه عليهم

- صلى الله عليه وسلم - وأمر برده, فمن امتثل أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باجتناب المحدثات وامتثل أمره بردها فقد استقام على العقيدة الصحيحة. ومن خالف أمره وارتكب نهيه ولم يبال بتحذيره من المحدثات فهو مخالف للعقيدة الصحيحة شاء أم أبى. فصل وقال صاحب المقال الباطل إنه سيظل يطالب خطباء المساجد وخطيب المسجد الحرام بالذات بأن يتركوا الأمور الخلافية وأن يعظوا ويأمروا وينهوا ويخاطبوا الناس عن المنكرات المجمع عليها ويدعوهم إلى الخيرات. منعاً للبلبلة وتشويش الأذهان وإعطاء فكرة سيئة عن الإسلام, ثم أورد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه». والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: إن خطباء المساجد وخطيب المسجد الحرام بالذات لم ينهوا الناس عن الأمور الخلافية كما قد زعم ذلك صاحب المقال الباطل وإنما كانوا ينهون الناس عما هو مخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من البدع ومنكرات الأقوال والأفعال, ومن رزقه الله السلامة من تقليد الآباء والشيوخ فيما يفعلونه من العادات المبتدعة التي وجدوا آبائهم وشيوخهم يعملون بها لم يخف عليه أن خطباء المساجد وخطيب المسجد الحرام بالذات لم يخرجوا عن الطريق المستقيم وإنما كانوا ينهون الناس عن الأمور المحرمة التي لا خلاف في تحريمها, وأما من أعماه التقليد للآباء والشيوخ فإنه لا بد أن يرى الحق في صورة الباطل أو على الأقل في صورة الأمور الخلافية, وأن يرى الباطل في صورة الحق كما هو الواقع من أهل اللغو في بدعتي المأتم

والمولد, وقد دعاهم الغلو في هاتين البدعتين إلى التعصب لهما والدفاع عنهما بالشبه الملفقة والجدال بالباطل. الوجه الثاني: أن يقال كل ما خالف الكتاب والسنة فهو من المنكرات بالإجماع قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} ولا يخفى على طالب العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر ببدعتي المأتم والمولد ولم يفعلهما ولم يقر أحداً على فعلهما, ولا يخفى أيضاً أنهما إنما أحدثتا بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمدة طويلة, وكل أمر ليس عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على صاحبه كائناً من كان, وفاعله متعرض للوعيد الشديد المذكور في الآية الكريمة من سورة النور. الوجه الثالث: أن يقال إن البلبلة وتشويش الأذهان وإعطاء الفكرة السيئة عن الإسلام هي في الحقيقة واقعة من المصرِّين على فعل الأمور المبتدعة المخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم, وهؤلاء المخالفون للكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم لم يكتفوا بالإصرار على فعل البدع بل ضموا إلى ذلك الدفاع عنها بالشبه والأباطيل والحجج الداحضة, وهذا عين المشاقة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين. وقد قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}. فأما خطباء المساجد الذين ينهون الناس عن البدع التي قد دل الكتاب والسنة على المنع منها ويأمرون الناس بلزوم الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم فهؤلاء قد أحسنوا غاية الإحسان

الرد على قوله إنه لا يتصور أن أحدا يعتبر بدعتي المولد والمأتم عبادة أو سنة أو عملا دينيا

وقاموا بما يجب عليهم من النصيحة للمسلمين ودعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيم عن المنكر, ومن لام هؤلاء على ما قاموا به من جهاد أهل البدع هو الملوم على الحقيقة. الوجه الرابع: أن يقال كل ما خالف الكتاب والسنة فهو من الحرام البيّن وليس من الأمور المشتبهة, ومن ذلك العمل ببدعتي المأتم والمولد لأن بدعة المأتم من النياحة, والنياحة من الكبائر, والكبائر كلها من الحرام البينّ, وأما بدعة المولد فإنها من الزيادة على الأعياد التي شرعها الله تعالى على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - , والزيادة على الأمر المشرع من الحرام البينّ لأنها تستلزم الاستدراك على الشريعة الكاملة وذلك من أعظم الأشياء حرمة وأشدها خطراً, ومن زاد على الأمر المشروع فقد تعرض للوعيد الشديد لأن الله تعالى يقول: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} فوصف الزائدين على الأمور المشروعة بالظلم وتوعدهم بالعذاب الأليم, فليحذر المصرُّون على بدعتي المأتم والمولد وغيرهما من البدع من هذا الوعيد الشديد. فصل وقال صاحب المقال الباطل في الأول من تعليقاته الخاطئة, إن الاحتفال بالمولد النبوي أو تقديم الطعام في المآتم ليس من شعائر الدين ولا أتصور أن أحداً يعتبرها عبادة أو سنة أو عملاً دينياً يثاب فاعله ويعاقب تاركه. والجواب: أن يقال قد اعترف صاحب المقال الباطل أن بدعتي المولد والمأتم ليستا من شعائر الدين, وهذا الاعتراف يتضمن الاعتراف

بأنهما من البدع, والبدع كلها شر وضلالة وكلها في النار كما جاء ذلك في الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من البدع غاية التحذير ويأمر بردها على وجه العموم, وقد تقدمت الأحاديث بذلك فلتراجع. وأما قوله ولا أتصور أن أحداً يعتبرها عبادة أو سنة أو عملاً دينياً يثاب فاعله ويعاقب تاركه. فجوابه: أن يقال قد زعم بعض المفتونين ببدعة المولد أن الاحتفال به مطلوب شرعاً وأنه مشروع في الإسلام وأنها بدعة حسنة محمودة, وزعم بعضهم أنه سنة مباركة, ونقل عن السيوطي أنه قال: إن عمل المولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها, وقد رددت على هذه الأقوال الباطلة في كتابي المسمى «الرد القوي, على الرفاعي والمجهول وابن علوي, وبيان أخطائهم في المولد النبوي» فليراجع الكتاب فإن فيه رداً على صاحب المقال الباطل وعلى غيره من المفتونين ببدعة المولد النبوي. وأما بدعة المأتم فقد قال صاحب المقال الباطل في مقاله الأول المنشور في جريدة الندوة الصادرة في اليوم الثاني من شهر ربيع الثاني سنة 1405 هـ وهو المقال الذي قد رددت عليه في القسم الأول من هذا الكتاب, قال فيه عن أهل الميت الذين يقيمون المأدبة في المأتم أنهم يطعمون الفقير والفقيرات, وفي كلامه هذا رد على قوله أنه لا يتصور أن أحداً يعتبرها عبادة أو سنة أو عملاً دينياً يثاب فاعله فإن إطعام الفقراء عبادة وعمل ديني يثاب فاعله ولكنه لم يشرع لأهل الميت في أيام المصيبة وإنما المشروع في حقهم أن يصنع لهم الطعام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء نعي جعفر: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد جاءهم ما

الرد على ما زعم أنه من العبادة في بدعتي المولد والمأتم

يشغلهم» رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضاً الحاكم والذهبي. وروى الإمام أحمد وابن ماجه أيضاً عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها نحو حديث ابنها عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما. فصل وقال صاحب المقال الباطل إن ما يمكن أن يجري ضمن الاحتفال بالمولد أو المآتم من قراءة للقرآن أو ذكر لله أو صلاة على رسوله بالطريقة المشروعة فتلك هي العبادة التي يجب أن تكون وفق ما شرع الله. والجواب: أن يقال إن الله تعالى لم يأمر بالاحتفال بالمولد النبوي ولا بالمآتم ولم يأمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله ولم يقر أحداً على فعله ولم يفعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم, ولم يرد في الشريعة الكاملة ما يدل على تخصيص ليلة المولد النبوي وأيام المصائب بقراءة القرآن وذكر الله تعالى والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعلى هذا فمن خصص ليلة المولد أو أيام المصائب بأعمال ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعماله مردودة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي هذا الحديث الصحيح أبلغ رد على قول صاحب المقال إن ما يمكن أن يجري ضمن الاحتفال بالمولد أو المآتم من قراءة للقرآن أو ذكر لله أو صلاة على رسوله أنها عبادة يجب أن تكون وفق ما شرع الله. وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم

الرد على زعمه أن بدعتي المولد والمآتم ليس فيهما مضاهاة للشريعة وأن مقارنة بدعة المأتم بالنياحة مقارنة غير صحيحة

ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» ولم يكن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين تخصيص ليلة المولد النبوي وأيام المصائب بقراءة القرآن وذكر الله تعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين فهو من الأعمال المحدثة التي يجب ردها عملاً بالحديث الصحيح. فصل وقال صاحب المقال الباطل والبدعة المنكرة كما عرّفها فقهاء الإسلام: «هي كل طريقة مخترعة في الدين تضاهي الشريعة» وحفلات المولد أو المآتم ليست من الدين أبداً, ومقارنة صنع الطعام في المآتم بالنياحة مقارنة غير صحيحة. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال إن صاحب المقال الباطل قد اعترف أن حفلات المولد والمآتم ليست من الدين أبداً, ويلزم على هذا الاعتراف منه أن يعترف أنها حفلات محدثة في الإسلام, وإن لم يعترف بهذا فكلامه متناقض. والكلام المتناقض مطروح ومردود على قائله. الوجه الثاني: أن أقول قد ذكرت فيما تقدم أن الله تعالى شرع لهذه الأمة سبعة أعياد زمانية على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة وأيام التشريق الثلاثة, وقد أحدث الناس أعياداً زمانية لم يأمر الله بها ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعمل بها أحد من الصحابة رضي الله عنهم, ومنها الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً مضاهياً للأعياد المشروعة. بل إن كثيراً من

الجهال في مشارق الأرض ومغاربها يحتفلون بالمولد النبوي أعظم مما يحتفلون بعيد الفطر وعيد الأضحى. وذلك من إضلال الشيطان لهم وتعظيمه لبدعة المولد في نفوسهم كما أخبر الله عنه أنه قال: {ولأضلنهم} وقد بلغ من إضلال الشيطان لبعض المفتونين ببدعة المولد أن جعلوها من الدين, فزعم بعضهم أن الاحتفال بالمولد مطلوب شرعاً وأنه مشروع في الإسلام, وزعموا أيضاً أنها بدعة حسنة محمودة, وزعموا أيضاً أنها سنة مباركة, وزعموا أيضاً أنها من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها. وقد ذكرت هذه الأقوال الباطلة مع الرد عليها في كتابي المسمى بـ «الرد القوي» , على الرفاعي والمجهول وابن علوي. وبيان أخطائهم في المولد النبوي» فلتراجع هناك, ولا يخفى ما في هذه الأقوال الباطلة من المعارضة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره وعدم المبالاة بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحدثات ومبالغته في التحذير منها وقد قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. الوجه الثالث: أن يقال لا يخفى ما في الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس من المضاهاة لحفلات النكاح التي شرعها الله تعالى على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ,وشتان ما بين أيام الفرح والسرور وأيام المصائب والأحزان, وقد ذكرت فيما تقدم قريباً عن ابن الهمام أنه قال في اتخاذ الضيافة من أهل الميت أنها بدعة مستقبحة, وذكرت أيضاً ما ذكره صاحب «عون المعبود» عن كثير من الفقهاء أنهم قالوا إن الضيافة من أهل الميت قلبٌ للمعقول وعللوا ذلك بأن الضيافة إنما تكون للسرور لا للحزن.

وأما قول صاحب المقال الباطل إن مقارنة صنع الطعام في المآتم بالنياحة مقارنة غير صحيحة. فجوابه: أن يقال هذا قول باطل مردود بما رواه ابن أ [ي شيبة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يعد الاجتماع إلى أهل الميت وإطعام الطعام من النياحة, ومردود أيضاً بما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة» وهذا حكاية إجماع من الصحابة رضي الله عنهم على عدّ الحفلات التي تقام في المآتم من النياحة, وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» وفي رواية «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وقد ذكرت هذه الأحاديث قريباً فلتراجع. وإذا علم هذا فليلعم أيضاً أن اطّراح قول الخليفة الراشد الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه وعدم المبالاة به ليس بالأمر الهيّن, وكذلك اطّراح ما حكاه جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن الصحابة رضي الله عنهم ليس بالأمر الهيّن, ويلزم على اطّراح قول عمر رضي الله عنه اطّراح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» واطّراح قوله أيضاً: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» وما لزم عليه اطّراح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو قول سوء يجب رده على قائله والتحذير من الاغترار به, وكذلك اطّراح قول عمر رضي الله عنه وما ذكره جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن الصحابة رضي الله عنهم لا شك أنه قول سوء يجب رده على قائله والتحذير من الاغترار به.

الرد على زعمه أن حفلات المولد والمأتم عادات اجتماعية

وبعد فهل يقول رجل له عقل ودين في قول عمر رضي الله عنه حيث عدّ الاجتماع إلى أهل الميت وإطعام الطعام من النياحة إن هذه مقارنة غير صحيحة, وهل يقول رجل له عقل ودين في قول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة» إنها مقارنة غير صحيحة, كلّا إن الذي له عقل ودين لا يستسيغ تخطئة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا تخطئة غيره من الصحابة رضي الله عنهم ولا يستجيز ذلك, ومن المعلوم الذي لا يشك فيه عاقل له علم ومعرفة بالصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا أعلم الأمة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما هو موافق لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما هو مخالف له, وعلى هذا فمن خالف إجماعهم على عد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة فإنه يخشى عليه من الوعيد الذي توعد الله به من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين. فصل وقال صاحب المقال الباطل, ثانيا: أن الصفة التي تنطبق على حفلات المولد أو الطعام في المآتم أنها عادات اجتماعية كحفلات الزواج والأعياد والتكريم والقدوم من السفر وتخضع مقاييسها والحكم عليها على ضوء ما يجري فيها فإن جرى فيها حرام فهي حرام, وإن خلت من المعاصي وجرى فيها خير فإنها تكون خيراً, وهذا ما قاله كثير من العلماء. والجواب: عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الاحتفال بالمولد قد جعله الجهال عيداً مضاهياً للأعياد التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو من المحدثات والأعمال التي ليس

عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - , أي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بمولده ولم يأمر بالاحتفال به ولم يقر أحداً على الاحتفال به, بل إنه لم يكن يفعل في زمانه وزمان أصحابه رضي الله عنهم وإنما حدث الاحتفال به بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ستمائة سنة, وفي الاحتفال بالمولد النبوي مشابهة تامة للنصارى فإنهم كانوا يحتفلون بمولد المسيح ويعظمونه, وما كان بهذه المثابة فهو داخل في عموم ما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر برده حيث قال في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقال في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وقال في حديث عائشة رضي الله عنها: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وأما الطعام الذي يصنعه أهل الميت للناس فهو من المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - , وفيه مضاهاة لما شرعه الله تعالى على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من عمل الولائم في النكاح, وفيه أيضاً مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهل الميت فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أهله أن يصنعوا الطعام لأهل الميت ولم يأمر أهل الميت أن يصنعوا الطعام للناس. ففي صنعهم الطعام للناس مخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خير الهدي وأحسنه. وفيه أيضاً قلبٌ للمعقول, فإن المعقول أن يصنع الطعام لأهل الميت للتخفيف عنهم من حرّ المصيبة, وفيه أيضاً مشابهة أهل الجاهلية في سننهم وأفعالهم, وقد تقدم قول أبي البختري

وسعيد بن جبير أن الطعام على الميت من أمر الجاهلية. وهو أيضاً من النياحة كما نص على ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكره جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن الصحابة رضي الله عنهم. وما كان بهذه المثابة فهو داخل في عموم ما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر برده. الوجه الثاني: أن يقال إن الحكم في جميع الأمور مردود إلى الكتاب والسنة لا إلى آراء الناس واستحساناتهم ومقاييسهم وعاداتهم التي وجدوا عليها آباءهم وشيوخهم الذين ليسوا من ذوي البصائر في الدين. وقد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من بدعتي المولد والمأتم من غير اشتراط أن يجري فيهما شيء حرام. وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على البراهين التي تقدم ذكرها, وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو مردود على قائله كائناً من كان. الوجه الثالث: أن يقال إن الحكم على بدعتي المولد والمأتم بالمنع ليس مرتبطاً بما يجري فيهما من حرام كما قد زعم ذلك صاحب المقال الباطل, والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذر أمته من المحدثات على وجه العموم وأمر بردها من غير تفصيل بين ما يجري فيه شيء من المحرم وما لا يجري فيه شيء من ذلك, ولو كان التفصيل شيئاً لازماً لبنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. وإذا جرى في بدعة من البدع شيء من المحرمات فلا شك أن المنع منها يكون أكد مما لم يجر فيه شيء محرم. فصل وقال صاحب المقال الباطل وأي خير أكرم وأفضل من ذكر الله,

تخصيص ليلة المولد بالذكر وأنواع العبادة غير مشروع

ألم يقل الصادق المصدق: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده». والجواب: أن يقال إن ذكر الله تعالى مرغب فيه في كل وقت قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} وقد ورد الترغيب في الإكثار منه في الأوقات الفاضلة كشهر رمضان وعشر ذي الحجة. فأما ليلة المولد النبوي وأيام المصائب فسبيلها سبيل سائر الليالي والأيام التي ليست بفاضلة. إذ لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخصها بشيء من العبادات والأذكار دون سائر الليالي والأيام. والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع, فلا يجوز لأحد أن يخرج عن المنهج الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. بل الواجب على كل أحد أن يسلك سبيلهم ويقتفي أثرهم في كل شيء من أمور الدين فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الفرقة الناجية من هذه الأمة فقال: «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقال الترمذي حديث حسن غريب. وروى الطبراني نحوه من حديث أنس رضي الله عنه. فصل وقال صاحب المقال الباطل: وهكذا فإن الاحتفال بالمولد النبوي أو خلافه أو إطعام الطعام في المآتم لا علاقة له بالدين ولا العبادة ولا الشريعة ولا البدعة. والجواب: عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال إن الدين والعبادة والشريعة ترجع إلى مسمى واحد لأن الدين هو العبادة التي جاء الأمر بها

في الكتاب أو السنة وهو الشريعة التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فالتفريق بين الدين والعبادة والشريعة من أجل اختلاف أسمائها تفريق لا داعي له ولا حاصل تحته. الوجه الثاني: أن يقال إن الاحتفال بالمولد النبوي وإطعام الطعام في المآتم ليسا من الدين الذي أكمله الله لعباده, وما كان كذلك فلا بد أن يكون داخلاً في مسمى المحدثات التي قد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالغ في التحذير منها وأمر بردها بدون استثناء شيء منها. وقد جاء النص عنه - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أحاديث صحيحة أنه قال: «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وجاء النص عنه أيضاً أنه قال: «وشر الأمور محدثاتها» وجاء النص عنه أيضاً أنه قال: «وكل ضلالة في النار» وقد تقدم ذكر هذه النصوص قريباً فلتراجع (¬1). وهذه النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامة لجميع الأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي كثيرة جداً عند المفتونين بالبدع, ومنها الاحتفال بالمولد النبوي وإطعام الطعام في المآتم. الوجه الثالث: أن يقال من زعم أن الاحتفال بالمولد النبوي وإطعام الطعام في المآتم لا علاقة لهما بالبدعة فلا شك أنه قد خالف النص الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وقوله أيضاً: «وشر الأمور محدثاتها» وما خالف النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو قول سوء يجب رده على قائله. وقد توعد الله تعالى من خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشد الوعيد فقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون ¬

(¬1) ص: 65 - 67.

عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. الوجه الرابع: أن يقال إن الاحتفال بالمولد النبوي قد جعله الجهال عيداً مضاهياً لعيدي الفطر والأضحى وغيرهما من الأعياد المشروعة للمسلمين. وما كان زائداً على الأعياد المشروعة ومضاهياً لها فلا يقول عاقل له حظ من العلم إنه لا علاقة له بالبدعة, وأما إطعام الطعام في المآتم فهو من النياحة بنص الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» وقال فيه أيضاً: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وجاء في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة» وهذا حكاية إجماع من الصحابة رضي الله عنهم على عد إطعام الطعام في المآتم من النياحة, وعلى هذا فلا يقول عاقل له حظ من العلم إنه لا علاقة لهذا العمل بالبدعة. فصل وقال صاحب المقال الباطل: وهكذا أيضا فإن الاستدلال بآية {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وحديث: {من أحدث في أمرنا هذا فهو رد} لا يصح الاستدلال بهما في موضوعنا بحال من الأحوال. وقد قال صاحب المقال الباطل في التعليق الأول ما نصه, إنني اعتبر كل الأحاديث والآيات الواردة في الرد عليَّ أو التي رددها خطيب

الرد على إنكاره والاستدلال على المنع من بدعتي المولد والمآتم بما هو صريح في الدلالة على المنع منهما

الجمعة بالمسجد الحرام وكلها حول الابتداع في الدين خارجة عن موضوعنا ومقحمة عليه. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: لا يخفى على من له حظ من العلم والفهم ما في كلام المردود عليه من المكابرة في إنكار الاستدلال بالآية والحديث المذكورين على المنع من بدعتي المولد والمأتم, وما فيه أيضاً من المكابرة في قوله: إن كل الأحاديث والآيات الواردة حول الابتداع في الدين خارجة عن موضوعه ومقحمة عليه, أي إنها على حد زعمه لا تدل على المنع من بدعتي المولد والمأتم, ولا يخفى ما في كلامه أيضاً من المعارضة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» فهذا الحديث الصحيح يبطل قول المردود عليه ويجتثه من أصله لأنه يدل على أن كل ما خرج عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين من الأعياد والاحتفالات فهو من المحدثات والبدع والضلالات التي يجب ردها, ومن ذلك الاحتفال بالمولد النبوي وإطعام الطعام في المآتم فيجب المنع من هاتين البدعتين لأنهما خارجتان عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, ولا يستطيع صاحب المقال الباطل ولا غيره من المفتونين بالبدع أن يدخلوهما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في سنة الخلفاء الراشدين المهديين. الوجه الثاني أن يقال إن الاستدلال بقول الله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» يأتي على

البدع كلها, ومنها الاحتفال بالمولد النبوي وبدعة إطعام الطعام في المأتم لأن كلاً من هاتين البدعتين قد أحدثت بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليستا من الأفعال التي كان عليها أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد ذكرت قريباً قول النووي في الكلام على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أنه صريح في رد كل البدع والمخترعات وأنه ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به, وذكرت أيضاً قول الحافظ ابن حجر أن فيه رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها, وإذا تعارض قول النووي وابن حجر وقول صاحب المقال الباطل وأمثاله من المفتونين بالبدع فلا شك أن قوله وأقوال أمثاله في تقرير البدع وتأييدها بالشبه هو المطّرح المردود. الوجه الثالث: أن يقال ما زعمه صاحب المقال من أنه لا يصح الاستدلال بالآية والحديث في موضوعه - أي إنه لا يصح الاستدلال بهما على المنع من بدعتي المولد والمأتم على حد زعمه - وكذلك قوله إن كل الأحاديث والآيات الواردة حول الابتداع في الدين خارجة عن موضوعه ومقحمة عليه - أي إنه ليس فيها دليل على المنع من بدعتي المولد والمأتم على حد زعمه - وهذا القول منه مبني على مجرد الدعوى التي لا تستند إلى دليل من كتاب ولا سنة, وما ليس عليه دليل فحقه الرد والاطّراح ولا عبرة به. الوجه الرابع: أن يقال إن المحققين من العلماء قد أنكروا الاحتفال بالمولد النبوي وصرحوا أنه بدعة ولا يجوز فعله, وقد ذكرت أقوالهم في ذلك في كتابي المسمى بـ «الرد القويم, على الرفاعي والمجهول وابن علوي, وبيان أخطائهم في المولد النبوي» فليراجع

الرد على تلبيس الكاتب في تحسينه لبدعة المولد

هناك, وأما الاحتفال بالمأتم وإطعام الطعام فيه فهو مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أنه قد أمر أهله أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت ولم يأمر أهل الميت أن يصنعوا الطعام للناس, وقد أنكر المحققون من العلماء صناعة الطعام من أهل الميت وصرحوا أنه بدعة وقال بعضهم: إنه بدعة مستقبحة, ونص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أنه من النياحة وقال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إنهم كانوا يعدونه من النياحة, وقال أبو البختري وسعيد بن جبير إنه من أمر الجاهلية, وقد ذكرت كلام العلماء فيه قريباً فليراجع ففيه وفيما ذكره العلماء في المنع من بدعة المولد أبلغ رد على زعم المردود عليه أن الآيات والأحاديث الواردة حول الابتداع في الدين خارجة عن موضوعه ومقحمة عليه. فصل وقال صاحب المقال الباطل ثالثاً: لا أجد في حديث «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم ما يشغلهم» أية دلالة على تحريم صنع الطعام من آل جعفر لأنفسهم ولضيوفهم من المعزين والمواسين, ولا يعني أهل الميت أصلاً ولا يخاطبهم, بل هو مجرد حث لغيرهم من الأقارب والجيران على مكرمة من مكارم الأخلاق لمساعدة من نزلت بهم مصيبة الموت وهي سنة في حق الأقارب والجيران وليست في حق الأولين ولا ذنب للآخرين, فإذا لم يقدم أحد من الأقارب والجيران الطعام لأهل الميت ماذا يصنعون, هل يظلون وضيوفهم من المعزين والمواسين جياعاً, أم يصنعون طعاماً, وإذا فعلوا وأكلوا وأكل الناس معهم سيكونون آثمين, وما هو الدليل.

الرد على ما توهم الكاتب أنه يدل على جواز الضيافة في المأتم

والجواب: أن يقال أما صنع أهل الميت الطعام لأنفسهم فلم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل يدل على المنع منه. وأما الاجتماع عند أهل الميت وصنعهم الطعام للناس فهو من المحدثات التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم بإحسان. وكل عمل ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها, وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقاً مجزوماً به «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» , وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه أن الاجتماع إلى أهل الميت وإطعام الطعام من النياحة. وتقدم أيضاً قول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة» وتقدم أيضاً قول أبي البختري وسعيد بن جبير أنه من أمر الجاهلية, وفي هذا مع ما ذكرت قبله من الحديث الصحيح وقول عمر وجرير بن عبد الله رضي الله عنهما أوضح دليل على المنع من بدعة المأتم, ومن لم يفقه هذا الدليل الواضح فليستعذ بالله من الطبع على القلب. فصل وأما قول صاحب المقال الباطل: أما دليلنا على الجواز فإنه ما رواه أبو داود في سننه عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فلما رجع استقبله داعي امرأته - أي زوجة الميت - فأجاب ونحن معه فجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا. وفي هذا الحديث دلالة صريحة على جواز ما يصنعه أهل الميت من طعام ودعوة الناس إليه سواء بقصد طلب

الثواب للميت أو إكراماً للضيف. فالجواب عنه من وجوه أحدها: أن يقال إن الكاتب قد حَرَّفَ كلمة في الحديث وزاد فيه جملة أفسدت اللفظ وغَيَّرت المعنى, فأما الكلمة التي وقع فيها التحريف فهي قوله: «داعي امرأته» والذي في سنن أبي داود «داعي امرأة» بالتنكير لا بالإضافة, وقد وقع هذا التحريف في «مشكاة المصابيح» , ولعله وقع من بعض النساخ بعد المؤلف, وأما الجملة التي أفسدت اللفظ وغيّرت المعنى فهي قوله - أي زوجة الميت - وقد سبقه إلى هذه الزيادة التي قد غيّرت المعنى على القارئ حيث قال في شرح المشكاة - أي زوجة المتوفى -وسأذكر لفظ الحديث عند أبي داود وغيره ليتضح خطأ صاحب المقال الباطل ومن سبقه إلى التحريف في الحديث والتفسير الباطل في بيان المراد بالمرأة. الوجه الثاني: أن يقال قد جاء في حديث جيد الإسناد أن الميت الذي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - معه كان من الأنصار, وجاء فيه وفي أحاديث أخر ما يدل على أنه أبو الدحداح الذي تصدق بحديقته وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه: «كم من عذق مدلى في الجنة لأبي الدحداح» وأما المرأة التي دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الطعام فهي امرأة من قريش وهي أخت سعد وعامر ابني أبي وقاص رضي الله عنهما وعنها. فأما الدليل على أن الميت من الأنصار فقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن محمد بن فضيل عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار وأنا غلام مع أبي فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حفيرة القبر فجعل يوصي الحافر ويقول: «أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين لرب عذق له في الجنة» وروى الإمام

أحمد أيضاً عن محمد بن جعفر عن شعبة وحجاج عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن الدحداح, قال حجاج أبي الدحداح ثم أتى بفرس عري فعقله رجل فركبه فجعل يتوقص به ونحن نتبعه نسعى خلفه قال: فقال رجل من القوم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لأبي الدحداح» قال حجاج في حديثه قال رجل معنا: عند جابر بن سمرة في المجلس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كم من عذق مدلى لأبي الدحداح في الجنة» وقد رواه مسلم والطبراني في الكبير بنحوه, وفي رواية للطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال صلينا على ابن الدحداح رجل من الأنصار فلما فرغنا أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفرس حصان فركبه حين رجع من الجنازة. وروى البيهقي في سننه عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجنازة وأنا غلام مع أبي فجلس على حفرة القبر وجعل يومي إلى الحفار ويقول: «أوسع من قبل الرأس أوسع من قبل الرجلين ورب عذق له في الجنة». وقد ذكر ابن سعد في: «الطبقات الكبرى» جملة من نساء الأنصار اللاتي بايعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر منهن أمامة بنت محرث بن زيد بن ثعلبة, قال: وأمها سلمى بنت أبي الدحداحة صاحب العذق المذلل في الجنة, ويستفاد من قول ابن سعد أن البشارة بالعذق المذلل في الجنة إنما وردت في حق أبي الدحداح ولم ترد في حق غيره, وقد علم مما تقدم من الأحاديث أن أبا الدحداح هو الميت الذي جاء ذكره في حديث عاصم بن كليب الذي رواه أبو داود وغيره. وأما الدليل على أن المرأة التي دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الطعام حين رجع من الجنازة كانت من قريش فقد رواه

الإمام أحمد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن زائدة عن عاصم بن كليب عن أبيه أن رجلاً من الأنصار أخبره قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فلما رجعنا لقينا داعي امرأة من قريش فقال: يا رسول الله إن فلانة تدعوك ومن معك إلى طعام فانصرف فانصرفنا معه فجلسنا مجالس الغلمان من آبائهم بين أيديهم ثم جيء بالطعام فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ووضع القوم أيديهم ففطن له القوم وهو يلوك لقمته لا يجيزها فرفعوا أيديهم وغفلوا عنا ثم ذكروا فأخذوا بأيدينا فجعل الرجل يضرب اللقمة بيده حتى تسقط ثم أمسكوا بأيدينا ينظرون ما يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلفظها فألقاها فقال: «أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها» فقامت المرأة فقالت يا رسول الله: إنه كان في نفسي أن أجمعك ومن معك على طعام فأرسلت إلى البقيع فلم أجد شاة تباع وكان عامر بن أبي وقاص ابتاع شاة أمس من البقيع فأرسلت إليه أن ابتغي لي شاة فلم توجد فذكر لي أنك اشتريت شاة فأرسل بها إليَّ فلم يجده الرسول ووجد أهله فدفعوها إلى رسولي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اطعموها الأسارى» إسناده صحيح رجاله كلهم من رجال الصحيح سوى كليب بن شهاب الجرمي والد عاصم وهو ثقة وثقه أبو زرعة وابن سعد وقال رأيتهم يستحسنون حديثه ويحتجون به, وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: يقال إن له صحبة, وقد روى له أهل السنن والبخاري في جزء رفع اليدين. وقال أبو داود في الباب الثالث من «كتاب البيع»: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن إدريس أخبرنا عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على القبر يوصي الحافر: «أوسع من

قبل رجليه أوسع من قبل رأسه فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوك لقمة في فمه ثم قال: «أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها» فأرسلت المرأة قالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليَّ بها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أطعميه الأسارى» وقد رواه البيهقي في «دلائل النبوة» من طريق أبي داود بمثل روايته. ورواه الدارقطني في سننه من طريق ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار فذكر أوله بنحو رواية أبي داود وقال فيه فلما انصرف تلقاه داعي امرأة من قريش فقال: إن فلانة تدعوك وأصحابك وذكر بقيته بنحو رواية أحمد, ورواه الدارقطني أيضاً حدثنا علي بن محمد بن عبيد حدثنا ابن أبي خيثمة حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد عن عاصم بن كليب عن أبيه قال حدثني رجل من الأنصار قال خرجت مع أبي وأنا غلام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثم ذكر نحوه وقال فيه قالت: فبعثت إلى أخي عامر بن أبي وقاص وقد اشترى شاة من البقيع فلم يكن أخي ثمَّ فدفع أهله الشاة إليَّ. إسناده صحيح, أما علي بن محمد بن عبيد فقال فيه الخطيب البغدادي: كان ثقة أميناً حافظاً عارفاً, ونقل الخطيب عن طلحة بن محمد بن جعفر أنه قال فيه الحافظ الثقة, وترجم له الذهبي في «تذكرة الحفاظ» وقال فيه الحافظ الإمام وذكر قول الخطيب فيه وأقره وأما ابن أبي خيثمة فهو أحمد بن زهير بن حرب قال فيه الخطيب البغدادي كان ثقة عالماً متقناً حافظاً بصيراً بأيام الناس راوية للأدب. قال: وذكره الدارقطني فقال: ثقة مأمون, وترجم له الذهبي في «تذكرة الحفاظ»

وقال فيه الحافظ الحجة الإمام, وذكر قول الخطيب فيه وأقره, وأما موسى بن إسماعيل التبوذكي وعبد الواحد بن زياد فهما من رجال الصحيحين, وأما عاصم بن كليب فقد روى له مسلم وأهل السنن, وأبوه تقدم الكلام في توثيقه. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه المسمى بـ «الإصابة» روينا في الجزء الثاني من حديث أبي العباس بن مكرم بإسناده عن عاصم بن كليب عن أبيه حدثني رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة وأنا غلام مع أبي يومئذ - فذكر الحديث في قصة المرأة التي أضافتهم بالشاة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ لقمة فلاكها ولم يسغها فقالت المرأة: أرسلت إلى البقيع فلم أجد شاة تباع وكان أخي عامر بن أبي وقاص عنده شاة فدفعها أهلها إلى رسولي وهو غائب, الحديث. وقد تبين من سياق هذه الأحاديث أن الميت الذي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - معه وأخبر أن له عذقاً في الجنة هو أبو الدحداح الأنصاري وأن المرأة التي دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى الطعام كانت قرشية وهي أخت سعد وعامر ابني أبي وقاص ولم تكن أم الدحداح التي هي زوجة الميت, ففي هذا أبلغ رد على من زعم أن صاحبة الطعام زوجة الميت والله أعلم. الوجه الثالث: أن صاحب المقال الباطل قد اختصر الحديث اختصاراً أخلَّ به وأوهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه أكلوا طعام المرأة, وليس الأمر كذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفظ اللقمة من فيه من حين ابتدأوا في الأكل فرفع القوم أيديهم وأخذوا بأيدي غلمانهم عن الطعام وألقوا ما كان معهم ثم إن رسول الله

الرد على زعمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لمخالفة أنت جاهل أو أنك تقول بغير علم

- صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن تطعمه الأسارى. وقد تقدم بيان ذلك في حديث عاصم بن كليب. فصل وزعم صاحب المقال الباطل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لمخالفه أنت جاهل أو إنك تقول بغير علم. والجواب أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه لما عَيَّر رجلاً بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» وعاب الذين أفتوا بغير علم وشدد في الإنكار عليهم, فأما حديث أبي ذر رضي الله عنه فقد رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرني للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: «أساببت فلاناً» قلت: نعم, قال: «أفنلت من أمه» قلت: نعم, قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية» قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن قال: «نعم» هذا لفظ البخاري في «كتاب الأدب» من صحيحه. وفي رواية لمسلم قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه قال: «يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية» وفي رواية له أخرى بعد قوله: «إنك امرؤ فيك جاهلية» قال: قلت على حال ساعتي من الكبر قال: «نعم على حال ساعتك من الكبر». وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر رضي الله عنه: «إنك امرؤ فيك جاهلية ما هو أبلغ وأنكى من القول أنت جاهل. وفي الحديث دليل على أنه يجوز وصف المخالف للسنة بصفة الجهل». وأما إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الذي أفتوا بغير علم

الرد على زعمه أن المنافقين لم يحرموا من بر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعطفه وأنه لم يسلط عليهم لسانه وقسوته

ووصفه إياهم بالعي الذي هو الجهل وعدم العلم فقد رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي من حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» وقد رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه والدارقطني والبيهقي في سننيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مختصراً وصححه الحاكم والذهبي. قال ابن الأثير في «النهاية» وابن منظور في «لسان العرب»: العي الجهل قال أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في «عون المعبود» والمعنى أن الجهل داء وشفاؤه السؤال والتعلم, وقال الخطابي في هذا الحديث من العلم أنه عابهم بالفتوى بغير علم وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم وجعلهم في الإثم قتلة له انتهى. وفي هذين الحديثين وحديث أبي ذر رضي الله عنه أبلغ رد على صاحب المقال الباطل الذي قد بذل وسعه في معارضة العلماء الذي يحذرون من بدعتي المأتم والمولد وغيرهما من أنواع البدع والمخالفات. فصل وزعم صاحب المقال الباطل أن المنافقين لم يحرموا من بر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعطفه. قال: ولم يسلط عليهم لسانه وقسوته.

والجواب عن هذا من وجهين أحدهما: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يبر المنافقين ويعطف عليهم كما زعم ذلك صاحب المقال الباطل, وإنما كان يعاملهم بما أمره الله به من جهادهم والغلظة عليهم, قال الله تعالى في سورة التوبة وسورة التحريم: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} قال عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح. ذكره البغوي في تفسيره. قال: واختلفوا في صفة جهاد المنافقين, قال ابن مسعود: بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه, وقال: لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر وقال ابن عباس: باللسان وترك الرفق وقال الضحاك: بتغليظ الكلام وقال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم, قال ابن كثير: وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال انتهى. وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وقد روى الإمام أحمد والطبراني عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم, ثم قال: قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلاً ثم قال: إن فيكم أو منكم فاتقوا الله» وفي رواية الطبراني: «فسلوا الله العافية» قال فمر عمر على رجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه قال مالك: قال فحدثه بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعداً لك سائر اليوم. وفي هذا الحديث ما مع تقدم ذكره من الآية الكريمة وأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين أبلغ رد على من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبر المنافقين ويعطف عليهم. وقد فضح الله المنافقين في سورة براءة وغيرها من السور ونهى

رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الاستغفار لهم والصلاة عليهم والقيام على قبورهم, قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة, قال التوبة هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها, رواه البخاري ومسلم. وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبر ويعطف على أناس قد حذره الله منهم في قوله تعالى: {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون} وقال فيهم: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} وقال فيهم: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون, ها أنتم أولآء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور, إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط}. فإن احتج المفتون على ما زعمه من بر المنافقين والعطف عليهم بما ورد في قصة عبد الله بن أبي بن سلول حين مات وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر به أن يخرج من قبره وأنه نفث عليه من ريقه وألبسه قميصه وصلى عليه. فالجواب: أن يقال ليس في قصة عبد الله بن أبي ما يتعلق به أهل الباطل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل مع عبد الله بن أبي ما فعل إكراماً لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي لأن عبد الله بن عبد الله كان من فضلاء الصحابة وخيارهم. وقد استأذن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - في قتل أبيه فلم يأذن له, وقال لأبيه أنت الذليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو العزيز, ولما مات أبوه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعيّر بهذا فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجده قد أدخل في حفرته فأمر به فأخرج منها وتفل عليه من ريقه وألبسه قميصه, وكان هذا قبل أن ينهاه ربه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم ثم إن الله تعالى أنزل عليه: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} فكان بعد نزول هذه الآية لا يصلي على أحد من المنافقين ولا يقوم على قبره, وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبر المنافقين ويعطف عليهم. الوجه الثاني: أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن موصوفاً بالقسوة كما زعم ذلك صاحب المقال الباطل, وإنما كان موصوفاً باللين والرأفة والرحمة للمؤمنين وبالشدة والغلظة على الكافرين والمنافقين, قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} وفي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وحرزاً للأميين وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به

الرد على قوله عن بعض العلماء أن البدع ليست كلها سيئة وأن فيها سيئة وحسنة

أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, قال عطاء لقيت كعباً فسألته فما اختلفا في حرف إلا إن كعباً يقول بلغته أعيناً عمومى وآذاناً صمومى وقلوباً غلوفى, هذا لفظ أحمد. فهذه صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المؤمنين. وأما مع الكافرين والمنافقين فقد أمره الله بالشدة والغلظة عليهم فقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}. وفيما ذكرته من الآيات وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أبلغ رد على من وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسوة. فصل وقال صاحب المقال الباطل ألم يقل بعض العلماء إن البدع ليست كلها سيئة, وقالوا إن هناك بدعة سيئة وبدعة حسنة حتى في الدين. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال وهل يظن صاحب المقال الباطل أن أقوال بعض العلماء في تحسين بعض البدع يجب الأخذ بها ولا تجوز مخالفتها وأنها تجرى مجرى النصوص من الكتاب والسنة, كلّا بل إن الكتاب والسنة هما الميزان الذي توزن به أقوال الناس وأعمالهم, فما وافقهما فهو مقبول, وما خالفهما فهو مردود على صاحبه كائناً من كان, وإذا عرضنا أقوال القائلين بتحسين بعض البدع على الكتاب والسنة وجدناها مخالفة للنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع على وجه العموم والأمر باجتنابها بدون استثناء منها. وما خالف أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مخالف لكتاب الله

لأن الله تعالى قال في صفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى} وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} وفي هذه الآيات أبلغ رد على من عمل بشيء من البدع وعلى من استحسن شيئاً منها ولم يلتفت إلى النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير منها والأمر بردها. الوجه الثاني: أن يقال ما ذكره صاحب المقال الباطل عن بعض العلماء في تحسين بعض البدع فهو قول باطل مردود بالنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع والأمر باجتنابها بدون استثناء شيء منها, فالأول من النصوص قوله - صلى الله عليه وسلم -: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم والذهبي, وقال ابن عبد البر في كتابه «جامع البيان العلم وفضله»: حديث عرباض بن سارية في الخلفاء الراشدين حديث ثابت صحيح. وفي هذا الحديث النص على أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة, وفي هذا أبلغ تحذير من البدع على وجه العموم, وفيه أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من زعم أن البدع ليست كلها سيئة وأن هناك بدعة حسنة حتى في

قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل من أصول الدين

الدين, وقد قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في الكلام على حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه, قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذاما ليس منه فهو رد» فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة, والدين بريء منه, وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة انتهى. الثاني: من النصوص قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه والدارمي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, وقد رواه النسائي بإسناد جيد ولفظه «إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» ففي هذا الحديث النص على أن الأمور شر محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وأن كل ضلالة في النار, وفي هذا النص أبلغ تحذير من البدع على وجه العموم, وفيه أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من زعم أن البدع ليست كلها سيئة وأن هناك بدعة حسنة حتى في الدين, وقد روى ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث جابر رضي الله عنه, ورواه ابن وضاح وابن عبد البر وغيرهما موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه, وعلى تقدير صحة وقفه فله حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف, وحديث جابر يشهد له ويقويه.

الثالث: من النصوص قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه رد» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها, وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقاً مجزوما به «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» , قال النووي في شرح مسلم: قال أهل العربية الرد هنا بمعنى المردود ومعناه فهو باطل غير معتد به. قال: وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. وقال أيضاً وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه, ثم ذكر قول النووي أن هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك, قال: وقال الطرقي هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع, قال الحافظ: وفيه رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها انتهى. قلت: وفي النص على رد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبلغ تحذير من البدع على وجه العموم, وفيه أيضاً أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى كل من زعم أن البدع ليست كلها سيئة وأن هناك بدعة حسنة حتى في الدين. الوجه الثالث: أن القول بتحسين بعض البدع حتى في الدين يستلزم الاستدراك على الشريعة المحمدية, وما استلزم الاستدراك على

الشريعة الكاملة فهو قول سوء يجب رده على قائله, وقد قال الشاطبي في كتاب «الاعتصام» إن المستحسن للبدع يلزمه أن يكون الشرع عنده لم يكمل بَعْدُ فلا يكون لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} معنى يعتبر به عندهم انتهى. وذكر الشاطبي أيضاً ما رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: سمعت مالكاً يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً» وذكره الشاطبي في موضع آخر من كتاب «الاعتصام» ولفظه قال: «من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة» وذكر بقيته بمثل ما تقدم انتهى. الوجه الرابع أن القول بتحسين بعض البدع حتى في الدين يستلزم رد النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع والأمر بردها, وما استلزم الرد للنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو قول سوء يجب رده على قائله. الوجه الخامس: أن القول بتحسين بعض البدع حتى في الدين يفتح باب التشريع في الدين والعمل بما لم يأذن به الله, وقد ذم الله تعالى من فعل ذلك وتوعدهم بأشد الوعيد فقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على من استحسن شيئاً من البدع وعلى من زعم أن البدع ليست كلها سيئة وأن هناك بدعة حسنة حتى في الدين.

الرد على ما تعلق به الكاتب من جمع عمر رضي الله عنه الناس في صلاة التراويح

فصل وقال صاحب المقال الباطل: ألم يرد على لسان أحد الصحابة رضوان الله عليهم «نعمت البدعة هذه, ألم يُحْدِث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس في صلاة التراويح وجعلها عشرين ركعة ولم يكن ذلك موجوداً في عهد الرسول ولا عهد أبي بكر وهل قام الصحابة وهم مثله في العلم والفقه والمقام من رسول الله وهاجموه وقالوا له لماذا تشرع لنا من الدين ما لم يأذن به الله, وصلاة التهجد في رمضان فقط وفي جماعة هل شرعها الرسول هكذا أو هل فعلها أصحابه. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال أما اجتماع الناس على إمام واحد في قيام رمضان فليس ببدعة ولم يُحْدِثه عمر رضي الله عنه كما زعم ذلك صاحب المقال الباطل, وإنما هو سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد صلى بالناس جماعة في شهر رمضان ثلاث ليال ثم ترك ذلك مخافة أن تفرض صلاة الليل على أمته فيعجزوا عنها, وقد جاء في ذلك عدة أحاديث. منها ما رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم واللفظ له وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الثانية فصلوا بصلاته فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق رجال منهم يقولون الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج لصلاة الفجر فلما قضى الفجر أقبل على الناس ثم تشهد فقال: «أما بعد فإنه لم يخف عليَّ

شأنكم الليلة ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها» وفي رواية لهم وذلك في رمضان. ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضاً وأهل السنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل ثم لم يقم بنا الليلة الرابعة وقام بنا الليلة تليها حتى ذهب نحو من شطر الليل قال: فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه قال: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته» ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا السابعة قال: وبعث إلى أهله واجتمع الناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح, قال: قلت وما الفلاح قال السحور, هذا لفظ أحمد وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته» دليل على أن الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان سنة وليس ببدعة. ومنها ما رواه الإمام أحمد والنسائي أيضاً بإسناد جيد عن نعيم بن زياد أبي طلحة الأنماري قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما على منبر حمص يقول: قمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ليلة ثلاث عشرين إلى ثلث الليل ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل ثم قمنا معه ليلة سبعة وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح وكانوا يسمونه السحور. وإذا علم ما جاء في هذه الأحاديث من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثلاث ليال في رمضان, وما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل إذا قام مع

الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته» فليعلم أيضاً أن ما فعله عمر رضي الله عنه من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان هو السنة لأمرين أحدهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بالناس ثلاث ليال في رمضان ثم قطع ذلك خشية أن يفرض القيام على أمته, وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة وليس ببدعة. الأمر الثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته» وفي رواية الترمذي «كتب له قيام ليلة» ونحوه في رواية للنسائي, وهذا الحديث ظاهر في الترغيب في صلاة القيام في رمضان مع الجماعة وإكمال الصلاة مع الإمام. وفي هذا أوضح دليل على سنية الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان. وفي الحديث أيضاً مع ما جاء في الأحاديث الثلاثة من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثلاث ليال في قيام رمضان أبلغ رد على صاحب المقال الباطل وعلى غيره من الذين يزعمون أن عمر رضي الله عنه هو الذي أحدث جمع الناس في صلاة التراويح وأن ذلك لم يكن موجوداً في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومما يرد به عليهم أيضاً حيث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله اجتمعنا في المسجد ورجونا أن تصلي بنا فقال: «إني خشيت أو كرهت أن يكتب عليكم» رواه أبو يعلى ومحمد بن نصر وابن خزيمة في صحيحه والطبراني في الصغير. ومما يرد به عليهم أيضاً ما رواه البيهقي في سننه عن ثعلبة ابن أبي مالك القرظي قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ذات ليلة في رمضان فرأى ناساً في ناحية المسجد يصلون فقال: «ما يصنع هؤلاء» قال قائل: يا رسول الله هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يقرأ وهم معه يصلون بصلاته قال: «قد أحسنوا أو قد أصابوا» ولم يكره ذلك لهم, قال البيهقي: هذا مرسل حسن, وقد روي موصولاً بإسناد ضعيف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, رواه أبو داود والبيهقي في سننيهما ومحمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» وروى محمد بن نصر أيضاً وأبو يعلى والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء أبي بن كعب رضي الله عنه في رمضان فقال: يا رسول الله كان مني الليلة شيء قال: «وما ذاك يا أُبي» قال: نسوة داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي خلفك بصلاتك فصليت بهن ثمان ركعات والوتر فسكت عنه وكان شبه الرضا. قال الهيثمي رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه في الأوسط وإسناده حسن. وهذا الحديث والحديث قبله يعضدهما المرسل الحسن الذي رواه البيهقي ويشهد لكل من الأحاديث الثلاثة ما تقدم في حديث عائشة وأبي ذر والنعمان بن بشير رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس ثلاث ليال في رمضان, ويشهد لها أيضاً حديث جابر الذي صححه ابن خزيمة, ويشهد لها أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر رضي الله عنه: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته». الوجه الثاني: أن يقال على سبيل الفرض والتقدير لو أن عمر رضي الله عنه هو الذي أحدث جمع الناس في صلاة التراويح ولم يكن مسبوقاً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله وتقريره لكان صنيعه في جمع الناس على إمام واحد سنة يعمل بها كما يعمل بالسنن الثابتة عن

النبي - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» فهذا النص الصحيح يدل على أن ما فعله عمر رضي الله عنه من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان فهو سنة وليس ببدعة. ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم والذهبي, وروى الترمذي والحاكم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب, قال وفي الباب عن الفضل بن العباس وأبي ذر وأبي هريرة انتهى, ولفظه عند ابن حبان «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» وروى الإمام أحمد أيضاً وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» وروى الإمام أحمد أيضاً وأبو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به» قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي على شرط مسلم.

إجماع الصحابة على الاجتماع في قيام رمضان

وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم وفيهم من الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما على إقرار ما فعله عمر رضي الله عنه من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان, والصحابة رضي الله عنهم لا يجتمعون على شيء من البدع وإنما يجتمعون على السنة, وقد ذكر الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب «قيام الليل» عن أبي إسحاق الهمداني قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أول ليلة من رمضان والقناديل تزهر في المساجد وكتاب الله يتلى فجعل ينادي نَوَّر الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نوّرت مساجد الله بالقرآن. وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها, من عمل بها مهتد ومن انتصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا, رواه أبو بكر الخطيب من طريق الزهري عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى, وقد ذكره الشاطبي في كتاب «الاعتصام» فقال: ومن كلامه الذي عني به وبحفظه العلماء, وكان يعجب مالكاً جداً - فذكر كلام عمر الذي رواه الخطيب ثم قال -: وبحق ما كان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة, منها قوله ليس لأحد تغييرها ولا تبديها ولا النظر في شيء خالفها, قطعٌ لمادة الابتداع جملة, وقوله من عمل بها مهتد - إلى آخر الكلام - مدحٌ لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. ومنها ما سنه

كلام حسن لشيخ الإسلام ابن تيمية في صلاة التراويح وأنها سنة وليست بدعة

ولاة الأمر من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة, لا بدعة فيه البتة, وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور» فقرن عليه السلام - كما ترى - سنة الخلفاء الراشدين بسنته وأن من اتباع سنته اتباع سننهم وأن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها. وإما متبعون لما فهموا من سنته - صلى الله عليه وسلم - في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله, لا زائد على ذلك. ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لقوله: «الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة في دين الله» وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع. فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أصولاً حسنة وفوائد مهمة انتهى كلام الشاطبي رحمه الله تعالى. الوجه الثالث: أن يقال إنما سمى عمر رضي الله عنه ما فعله من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان بدعة من أجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستمر على فعله ولأنه لم يكن يفعل في زمان أبي بكر رضي الله عنه فلهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه ما قال، وقد صرح الشاطبي في كتاب «الاعتصام» أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما سمى قيام الناس في ليالي رمضان بدعة على المجاز. وقال في موضع آخر من كتاب «الاعتصام» وأما قسم المندوب فليس من البدع

ذكر اتفاق السلف على صحة ما وفاه عمر وإقراره

بحال وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثّل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد فقد قام بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد واجتمع الناس خلفه - ثم ذكر الشاطبي حديث أبي ذر رضي الله عنه في قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثلاث ليال في العشر الأواخر من رمضان وذكر أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها في ذلك وفيه أنهم لما اجتمعوا في الليلة الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال: «قد رأيت صنيعكم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم» وقد ذكرت هذين الحديثين في الوجه الأول وذكرت معهما حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما, بنحو حديث أبي ذر رضي الله عنه - ثم قال الشاطبي بعد ذكره لحديث عائشة رضي الله عنها فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة فإن قيامه أولاً بها دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان, وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً لأن زمانه كان زمان وحي وتشريع فيمكن أن يوحى إذا عمل به الناس بالإلزام, فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع الأمر إلى أصله وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له, وإنما لم يقم ذلك أبو بكر رضي الله عنه لأحد أمرين, إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل, ذكره الطرطوشي, وإما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح, فلما تمهد الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه ورأى الناس في المسجد أوزاعاً - كما جاء في الخبر - قال: لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل, فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل, ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره, والأمة لا تجتمع على ضلالة,

قيام رمضان في الجماعة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن سنة الخلفاء الراشدين وقد اجتمع الناس عليه في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم

وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي. فإن قيل فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعة وحسنها بقوله: «نعمت البدعة هذه» وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع. فالجواب إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفق أنها لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه, لا أنها بدعة في المعنى, فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي. وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة بل هي سنة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله فإنه قال: «إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه» ولا صلاتها جماعة بدعة, بل هي سنة في الشريعة, بل قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين بل ثلاثاً وصلاها أيضاً في العشر الأواخر في جماعة مرات وقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح, رواه أهل السنن, وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد, وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة, وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم, وإقرارها سنة منه - صلى الله عليه وسلم - انتهى.

ذكر الاختلاف في عدد الركعات التي كان الصحابة يقومون بها في رمضان

وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه «جامع العلوم والحكم» قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: «نعمت البدعة هذه» وروي عنه أنه قال: «إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة» ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليه, فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحداناً, وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ثم امتنع من ذلك معللاً بأنه خشي أن يكتب فيعجزوا عن القيام وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وسلم - , وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر, ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين. وهذا قد صار من سنة الخلفاء الراشدين فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم انتهى. الوجه الرابع: أن يقال إن صلاة الليل في رمضان وفي غيره ليس للركعات فيها عدد معين لا يزاد عليه ولا ينقص منه, فأقلها ركعة وأكثرها لا حد له. ولا ينكر على من زاد في عدد الركعات ولا على من اقتصر على القليل منها, والأفضل في هذا ما كان موافقاً لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر. وجاء في بعض الروايات في الصحيحين أنه كان يصلي ثلاث عشر ركعة سوى ركعتي الفجر. واختلفت الرواية في عدد الركعات التي كان الصحابة رضي الله

عنهم يقومون بها في رمضان. فروى مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد رضي الله عنه أنه قال أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس إحدى عشرة ركعة, قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن يوسف - وهو ابن عبد الله بن يزيد الكندي المدني الأعرج - أن السائب أخبره أن عمر جمع الناس على أبيّ وتميم فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة يقرآن بالمئين يعني في رمضان. إسناده صحيح على شرط الشيخين. وروى مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. في إسناده انقطاع لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر رضي الله عنه, وروى البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة. قال: وكانوا يقرءون بالمئين وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة القيام. قال البيهقي: ويمكن الجمع بين الروايتين فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى قيام رمضان لم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه عدداً معيناً بل كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة, لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر

بثلاث وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة. ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث, وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن, والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل. وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين, وإن كان بأربعين وغيرها جاز ذلك, ولا يكره شيء من ذلك, وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره, ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ انتهى. الوجه الخامس أن يقال: من استحسن بدعتي المأتم والمولد أو غيرهما من المحدثات في الإسلام واستدل على جواز ما استحسنه منها بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان فإنه لا يخلو من أحد أمرين, إما كثافة الجهل بحيث لا يعرف الفرق بين المحدثات التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها وأمر بردها ونص على أنها شر وضلالة وأنها في النار. وبين فعل الخليفة الراشد الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء به وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه وقرن سنته بسنته وأمر الأمة بالتمسك بها والعض عليها بالنواجذ, ومن كان بهذه المثابة من الجهل فإنه لا يجوز له الخوض فيما لا علم له به لأن الله تعالى قد نهى عن ذلك بقوله: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}.

الأمر الثاني: أن يكون عالماً بدخول بدعتي المأتم والمولد في عموم المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها ولكنه قد وجد أهله وشيوخه وأهل بلده يعملون بهاتين البدعتين ويستحسنونهما وقد تربى على ما وجد عليه أهله وشيوخه وأهل بلده من البدع وأَلِفَها وأحبها فهو لذلك يتعصب لها ويبذل غاية وسعه في الدفاع عنها وينكر على العلماء والخطباء الذين يحذرون منها ويستدلون على المنع منها بالنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك, وهذا هو الظاهر من حال صاحب المقال الباطل وأشباه له كثيرين من أهل بلده وغير بلده, وما أشد الخطر في هذا لأن الله تعالى يقول: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} وقال تعالى مشدداً على الذين يخالفون أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآية: أتدري ما الفتنة؟. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك, ثم جعل يتلو هذه الآية: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وفيما ذكرته من الآيات أبلغ تحذير من رد الحق واتباع الهوى ومخالفة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن وأبلغ من هذا قول الله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن

ذكر الأمرين اللذين لهما عواقب سوء

نقيض له شيطاناً فهو له قرين, وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في «بدائع الفوائد» حَذَارِ حَذَارِ من أمرين لهما عواقب سوء, أحدهما رد الحق لمخالفة هواك فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأساً ولا تقبله إلا إذا برزَ في قالب هواك. قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلبت أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثاني التهاون بالأمر إذا حضر وقته فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك. قال تعالى: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخرج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فلتهنه السلامة انتهى. الوجه السادس: أن يقال من قاس بدعتي المأتم والمولد أو غيرهما من المحدثات في الإسلام على فعل عمر رضي الله عنه حين جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان فقياسه من أفسد القياس وهو من جنس قياس الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} وهل يستجيز مسلم له عقل ودين أن يقول إن بدعتي المأتم والمولد أو غيرهما من المحدثات في الإسلام من جنس سنة الخليفة الراشد الذي وضع الله الحق على لسانه وقلبه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء به والتمسك بسنته والعض عليها بالنواجذ, كلا إن المسلم الذي له عقل ودين لا يستجيز هذا القول الباطل والقياس الفاسد. وإنما يستجيز ذلك من أعماه التقليد لأهل البدع وأصمه, وقد قال الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن

حديث «حبك الشيء يعمي ويصم»

تعمى القلوب التي في الصدور} وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حبك الشيء يعمي ويصم». الوجه السابع: أن يقال إن صاحب المقال الباطل قد أخطأ خطأ كبيراً وزل زلة شنيعة في هذه الجملة السيئة من كلامه وذلك أنه صرح في مقاله السيء أن عمر رضي الله عنه أحدث جمع الناس في صلاة التراويح وأنه بذلك قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله وأن الصحابة رضي الله عنهم تركوا الإنكار عليه فلم يقوموا عليه ولم يهاجموه ويقولوا له: لماذا تشرع لنا من الدين ما لم يأذن به الله؟ وما أعظم هذه الجراءة على أمير المؤمنين. وما أعظم إلحاقه بأهل البدع والمحدثات والذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله, ولكن الأمر في الكاتب كما قيل: «من أمن العقوبة أساء الأدب». وأي أدب أسوأ من الطعن على أمير المؤمنين الخليفة الراشد الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى قد وضع الحق على لسانه وقلبه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بالاقتداء به وقرن سنته بسنته وأمر الأمة بالتمسك بها والعض عليها بالنواجذ, ومع هذا فإن صاحب المقال الباطل لم يحترمه ولم يحترم أقوال الرسول صلى الله - صلى الله عليه وسلم - ونصوصه الدالة على تعظيم عمر رضي الله عنه وتفضيله على سائر الصحابة بعد أبي بكر رضي الله عنه, والله المسئول أن يقيض للكاتب ولأشباهه من ذوي الجراءة على رد الحق وتقرير الباطل والتهجم على الخليفة الراشد وانتهاك حرمته من يأخذ على أيديهم عن هذه الإساءة ويأطرهم على الحق. الوجه الثامن: أن يقال إن هذه الجملة السيئة من كلام الكاتب قد اشتملت على تقرير قاعدتين خبيثتين, إحداهما التسوية بين المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها وأخبر أنها شر

وضلالة, وبين سنة الخليفة الراشد في جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان, والثانية تهوين أمر المحدثات في المآتم والمولد وغيرها من البدع ومعارضة الناهين عنها, وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الوجه التاسع: أن يقال إن كلام الكاتب قد تضمن الطعن على الصحابة رضي الله عنهما ورميهم بالمداهنة في ترك الإنكار على عمر رضي الله عنه ما زعم الكاتب أنه قد أحدثه وشرعه من الدين مما لم يأذن به الله, وذلك حين جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان, والصحابة رضي الله عنهم عموماً وعمر رضي الله عنه على وجه الخصوص منزهون عن هذا الإفك والبهتان, فأما عمر رضي الله عنه فإنه لم يحدث في قيام الليل شيئاً لم يسبقه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسنه لأمته بالقول منه والفعل والتقرير كما سبق بيان ذلك في الوجه الأول. ولم يشرع عمر رضي الله عنه من الدين شيئاً لم يأذن به الله, حاشاه من هذا الإفك المبين, وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم منزهون عن المداهنة والسكوت عن إنكار المنكرات وخصوصاً الإحداث في الدين والزيادة في شرع الله, ومن ظن بهم المداهنة والسكوت عن إنكار المنكر فقد ظن بهم ظن السوء. وقد روي من عدة طرق أن عمر رضي الله عنه نهى الناس عن المغالاة في مهور النساء والزيادة فيها على أربعمائة درهم فقالت له امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً من ذهب} - وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - فقال عمر رضي الله عنه: «إن امرأة خاصمت عمر فخصمته» وفي رواية أنه قال:

«امرأة أصابت ورجل أخطأ» وفي رواية أنه قال: «كل الناس أفقه من عمر» وروى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة بن عثمان فقال: جلس عمر بن الخطاب في مجلسك هذا فقال: لقد هممت أن لا أدع في الكعبة صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين الناس قال: قلت ليس ذلك لك قد سبقك صاحباك لم يفعلا ذلك فقال هما المرءآن يقتدي بهما, هذه إحدى الروايتين عند أحمد وإسناده صحيح على شرط الشيخين ونحوه في رواية البخاري والرواية الأخرى عند أحمد. وفي رواية أبي داود عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن شيبة - يعني ابن عثمان - قال: قعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقعدك الذي أنت فيه فقال: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة قال: قلت ما أنت بفاعل قال: بلى لأفعلن قال: قلت ما أنت بفاعل قال لِمَ قلت: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى مكانه وأبو بكر رضي الله عنه وهما أحوج منك إلى المال فلم يخرجاه فقام فخرج. وروى محمد بن سعد في «الطبقات» عن عبيد الله بن عباس قال: كان للعباس رضي الله عنه ميزاب على طريق عمر رضي الله عنه فلبس عمر رضي الله عنه ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان فلما وافى الميزاب صب فيه ماء فيه من دم الفرخين فأصاب عمر رضي الله عنه فأمر عمر رضي الله عنه بقلعه ثم رجع عمر رضي الله عنه فطرح ثيابه ولبس غيرها ثم جاء فصلى بالناس فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر رضي الله عنه للعباس رضي الله عنه: فأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل ذلك العباس رضي الله عنه. وفي هذه الآثار بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من مزيد

الإذعان للحق إذا بلغه ذلك عن الله تعالى أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وما كان عليه أيضا من المسارعة إلى الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنته, وفيها أيضاً بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من بيان الحق لعمر رضي الله عنه فضلاً عن غيره من الناس وأنهم كانوا لا يداهنون أحداً في بيان الحق والرد على من خالفه. وفيها أيضاً أبلغ رد على من رمى الصحابة رضي الله عنهم بالمداهنة والسكوت عن بيان الحق والإنكار على من خالفه. وإذا علم هذا فهل يقول مسلم له عقل إن عمر رضي الله عنه قد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وأنه قد أحدث في قيام الليل حدثاً لم يسبقه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , كلا لا يقول ذلك مسلم عاقل وإنما يقوله من يتشبه بالروافض في الطعن على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه والانتهاك لحرمته, وكذلك لا يقول مسلم عاقل إن الصحابة رضي الله عنهم داهنوا عمر رضي الله عنه ولم ينكروا ما زعم الكاتب أنه أحدثه وشرعه في الدين, وإنما يقول ذلك أعداء الصحابة ومن يتشبه بأعدائهم من أهل البدع الذين قد ملئت قلوبهم غيظاً على أهل السنة الذين ينكرون البدع ويحذرون منها. الوجه العاشر: أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على إقرار ما أمر به عمر رضي الله عنه من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان وعملوا بذلك في عهده وعهد الخليفتين الراشدين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وعمل بذلك المسلمون في عهد الصحابة وبعد عهدهم إلى زماننا, ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه أنكر صنيع عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا يعلمون أنه لم يبتدع في الدين شيئاً لم يكن مسبوقاً إليه, وإنما كان متبعاً لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صلى بالناس ثلاث ليال في رمضان

تفوق عمر على سائر الصحابة سوى أبي بكر بالعلم والفقه وعلو المنزلة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الأدلة على ذلك

ثم ترك ذلك خشية أن تفرض صلاة الليل على أمته فيعجزوا عنها. وكانوا يعلمون أيضاً أن عمر رضي الله عنه كان عاملاً بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته» ومن كان متبعاً لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاملاً بقوله وتقريره فهو محسن غاية الإحسان, وما على المحسنين من سبيل. الوجه الحادي عشر: أن يقال إن صاحب المقال الباطل قد انتقص عمر رضي الله عنه وبخسه حقه وذلك في زعمه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مثل عمر رضي الله عنه في العلم والفقه والمقام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا قول باطل مردود على قائله, فإنه ليس بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه أحد يداني عمر رضي الله عنه في العلم والفقه والمقام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن أن يكون فيهم من يماثله, والأدلة على ذلك كثيرة جداً, فأما تفوقه في العلم فقد جاء فيه أحاديث كثيرة, منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه ابن عمر وأبو ذر وأبو هريرة والفضل بن العباس رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد تقدم تخريج هذه الأحاديث في الوجه الثاني فلتراجع هناك, وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد والترمذي وابن حبان قال ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر بن الخطاب إلا نزل القرآن على نحو مما قال عمر رضي الله عنه. ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» رواه الإمام أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهذا لفظ البخاري, وروى الإمام

أحمد أيضاً ومسلم والترمذي نحوه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الترمذي حديث صحيح. قال ابن وهب تفسير «محدثون» ملهمون, ذكره مسلم في صحيحه بعد إيراده لحديث عائشة رضي الله عنها, وقال الترمذي حدثني بعض أصحاب سفيان قال: قال سفيان بن عيينة «محدثون» يعني مفهمون. ومنها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب» قال: من حوله فما أولت ذلك يا رسول الله قال: «العلم» وقد رواه الطبراني في الكبير ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأيت أني أعطيت عساً مملوءاً لبناً فشربت حتى تملأت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب فأولوها» قالوا يا نبي الله هذا علم أعطاكه الله فملأك منه ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب فقال: «أصبتم» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه وقال صحيح على شرط الشيخين: ووافقه الذهبي في تلخيصه. وما جاء في هذا الحديث والأحاديث قبله فكله من خصائص عمر رضي الله عنه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم. ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن زيد بن وهب قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - «إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله» قال الهيثمي رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح.

ومنها ما رواه الطبراني في الكبير أيضاً من طريق أسد بن موسى حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - «لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علمه بعلمهم» قال وكيع قال الأعمش: فأنكرت ذلك فأتيت إبراهيم فذكرته له فقال: وما أنكرت من ذلك فو الله لقد قال عبد الله أفضل من ذلك قال: «إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر» قال الهيثمي رواه الطبراني بأسانيد ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة وقد روى الحاكم في مستدركه رواية أبي وائل عن عبد الله وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط عن علي رضي الله عنه أنه قال: «إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر ما كنا نبعد أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن السكينة تنطق على لسان عمر» قال الهيثمي إسناده حسن, وروى الطبراني أيضاً في الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر» قال الهيثمي إسناده حسن, وروى الطبراني أيضاً عن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: «كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر» قال الهيثمي رجاله ثقات. وروى الطبراني أيضاً في الكبير من طريق عاصم - وهو ابن أبي النجود - عن زر عن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه - أنه قال: «إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر - فذكر الحديث وفيه - وأيم الله إني لأحسب بين عينيه ملكاً يسدده ويرشده» قال الهيثمي رواه الطبراني من طرق وفي بعضها عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث وبقية رجالها رجال الصحيح.

وفيما ذكرته من الأحاديث والآثار أبلغ رد على من زعم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مثل عمر رضي الله عنه في العلم والفقه. وأما تفوق عمر رضي الله عنه على الصحابة سوى أبي بكر الصديق في المقام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلو المنزلة عنده فقد جاء فيه أحاديث كثيرة. منها ما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوساً فقال: «إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي» وأشار إلى أبي بكر وعمر. وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه «إني لا أرى مقامي فيكم إلا قليلاً فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ورواه الحاكم في مستدركه مختصراً وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه, وقال الحاكم هذا حديث من أجل ما روي في فضائل الشيخين - يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. ومنها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك قال: «عائشة» قلت: من الرجال قال: «أبوها» قلت: ثم مَنْ قال: «عمر» فعد رجالاً, زاد البخاري في رواية له فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم. ومنها ما رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إلى رسول الله قالت: أبو بكر قلت: ثم مَنْ قالت: عمر قلت: ثم مَنْ قالت: أبو عبيدة بن الجراح قلت: ثم مَنْ قال: فسكتت. هذا لفظ الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح, وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ومنها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمرة فأذن لي وقال: «لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك» فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. هذا لفظ أبي داود, وفي رواية له أنه قال: «أشركنا يا أُخَيَّ في دعائك» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وفي رواية لأحمد أنه قال: «يا أُخَيَّ أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا» فقال عمر: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله «يا أُخَيَّ». ومنها ما رواه الترمذي والحاكم عن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: «هذان السمع والبصر» هذا لفظ الحاكم وقال صحيح الإسناد وقال الذهبي حسن. ومنها ما في مستدرك الحاكم أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وشاورهم في الأمر} قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث» فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم فقال: «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثَمَّ «وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري» فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم قال: «فإني أومن بهذا

أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثَمَّ هذا لفظ البخاري في «كتاب أحاديث الأنبياء» وقد رواه الترمذي مفرقاً في موضعين من مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقال في كل منهما حسن صحيح. ومنها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفتّ إليه فإذا هو عليّ فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما. وقد روى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند عن أبي معمر عن ابن أبي حازم قال: جاء رجل إلى علي بن حسين فقال: ما كان منزلة أبي بكر وعمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: منزلتهما الساعة. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء أو عن زيد بن وهب أن سويد بن غفلة دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إمارته فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغير الذي هما أهل له من الإسلام فنهض إلى المنبر وهو قابض على يدي فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقي مارق فحبهما قربة وبغضهما مروق, ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي

المسلمين فأنا بريء ممن يذكرهما وعليه معاقب. وروى الترمذي عن محمد بن سيرين أنه قال: ما أظن رجلاً ينتقص أبا بكر وعمر يحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي حديث حسن غريب. وفيما ذكرته من الأحاديث والآثار أبلغ رد على من انتقص الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبخسه حقه من علو المنزلة في العلم والفقه والمقام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأحاديث في فضائل عمر رضي الله عنه وخصائصه التي اختص بها دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم كثيرة جداً, ومن أعظمها وأشرفها أن القرآن قد نزل بموافقته في أسرى بدر وفي تحريم الخمر وفي اتخاذ مقام إبراهيم مصلى وفي الحجاب وفي قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين آلى من نسائه, إن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو وبكر والمؤمنون معك فنزلت هذه الآية: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}. ومنها أن الشيطان كان يخاف من عمر رضي الله عنه وإذا سلك عمر رضي الله عنه فجّاً سلك الشيطان فجّاً غير فجّه, ومنها أنه كان أشد هذه الأمة في دين الله. ومنها أنه عُرِض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وعليه قميص يجره وأوّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالدين, ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب» إلى غير ذلك من المناقب الجليلة والخصال الحميدة التي قد امتاز بها عمر رضي الله عنه دون غيره, وفيها أبلغ رد على من انتقصه وبخسه حقه. ومن أشرف الخصال الحميدة التي قد امتاز بها عمر رضي الله عنه على جميع الخلفاء والملوك بعده أنه كان مضرب المثل في العدل وحسن

السيرة والأخذ بالحزم في جميع أموره فليس أحد ممن بعده يماثله في هذه الخصال الحميدة. ومن أعظم الخصائص التي اختص بها هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما دون سائر الأمة دفنهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكفى بهذه المجاورة شرفاً لهما. وقد تقدم قول علي بن الحسين أن منزلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلتهما الساعة, وفي هذا رد على من انتقص عمر رضي الله عنه وبخسه حقه من علو المنزلة والمقام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما قول صاحب المقال الباطل: وصلاة التهجد في رمضان فقط وفي جماعة هل شرعها الرسول هكذا أو هل فعلها أصحابه؟. فجوابه أن أقول: قد ذكرت الأحاديث الثابتة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس جماعة في ثلاث ليال من ليالي رمضان ثم إنه ترك الصلاة بهم وعلل ذلك بأنه خشي أن تفرض عليهم صلاة الليل فيعجزوا عنها, وذكرت أيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته» وذكرت أيضاً ما رواه البيهقي وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ناساً في ناحية المسجد يصلون مع أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: «قد أحسنوا أو قد أصابوا» ولم يكره ذلك لهم, فهذا يدل على مشروعية الصلاة جماعة في قيام رمضان, وفي كل من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله وتقريره دليل مستقل على مشروعية الصلاة جماعة في قيام رمضان. وباجتماع هذه الأمور يزداد الأمر في المشروعية تأكيداً وحثّاً على العمل بهذه السنة. ومن الأدلة أيضاً على مشروعية الصلاة جماعة في قيام رمضان قول

الرد على ما تعلق به الكاتب من إمضاء عمر للطلاق الثلاث

النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر يقول به» وقد ذكرت هذه الأحاديث والأحاديث التي قبلها في الوجه الأول والوجه الثاني فلتراجع. فكل حديث منها يدل بمفرده على مشروعية الصلاة جماعة في قيام رمضان, ويدل على ذلك أيضاً إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الصلاة جماعة في قيام رمضان, وفيهم الخلفاء الراشدون عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وإجماع الصحابة رضي الله عنهم حجة قاطعة, وفي اجتماع هذه الأدلة أبلغ رد على من أنكر مشروعية الصلاة جماعة في قيام رمضان. وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أنه لا ينكر مشروعية الصلاة جماعة في قيام رمضان إلا أحد رجلين, إما جاهل لا علم له بشيء من الأحاديث الدالة على المشروعية وإما رجل يتعامى عن الحق ويجادل بالباطل في معارضة الحق ورده ويحاول التلبيس على ضعفاء البصيرة. وهذه الصفة الذميمة تنطبق على صاحب المقال الباطل وعلى أشباه له في بلده وغير بلده. فصل وقال صاحب المقال الباطل: ألم يحدث عمر إيقاع الطلاق الثلاث في مجلس واحد وبلفظ واحد ثلاثاً بعد أن كان يعتبر طلقة واحدة في عهد الرسول وأبي بكر. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال إن إلزام عمر

تقرير ابن حزم أن الطلاق الثلاث المجموعة سنة وليست بدعة

رضي الله عنه بالطلاق الثلاث لا يعد من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها وإنما هو من السنن التي يجب الأخذ بها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ». وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ومن الاقتداء بعمر رضي الله عنه العمل بأمره في الإلزام بالطلاق الثلاث. وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر يقول به» ومن الحق الذي جعله الله على لسان عمر رضي الله عنه إلزامه بالطلاق الثلاث, وفي كل من هذه الأحاديث أبلغ رد على من اعترض على عمر رضي الله عنه وجعل سنته من قبيل المحدثات في الإسلام. وأيضاً فإن الصحابة رضي الله عنهما قد وافقوا عمر رضي الله عنه على الإلزام بالطلاق الثلاث وفيهم من الخلفاء الراشدين المهديين عثمان وعلي رضي الله عنهما. والصحابة رضي الله عنهم لا يجتمعون على شيء من البدع والضلالة, وفي اتفاقهم على العمل بما أمر به عمر رضي الله عنه أبلغ رد على من اعترض على عمر رضي الله عنه وجعل سنته من قبيل البدع. الوجه الثاني: أن يقال إن ابن حزم قد قرر في كتابه «المحلى» أن الطلاق الثلاث المجموعة سنة وليست بدعة, واستدل على ذلك بأدلة كثيرة من القرآن والسنة ورد على من قال: إن الثلاث المجموعة ترد إلى واحدة فليراجع كلامه في ذلك في «كتاب الطلاق» من كتاب «المحلى»

الرد على تعلق الكاتب بمكبرات الصوت

وعلى ما قرره ابن حزم يكون إلزام عمر رضي الله عنه بالطلاق الثلاث إلزاماً بسنة ماضية قبله. الوجه الثالث أن يقال من أكبر الخطأ قياس بدعتي المأتم والمولد على سنة عمر رضي الله عنه في الإلزام بالطلاق الثلاث. وهذا القياس الفاسد من جنس قياس الذين قالوا: (إنما البيع مثل الربا) وهو مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد تقدم تخريج هذين الحديثين في البرهان السادس عشر والبرهان التاسع عشر فليراجع هناك. فصل وقال صاحب المقال الباطل: ومكبرات الصوت في الأذان والإقامة وقراءة الإمام أليست كل هذه من محدثات الأمور الحسنة أم أنها ضلالة يجب منعها وتحريمها وإدخالها تحت طائلة «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». والجواب أن يقال إن مكبرات الصوت لا تدخل في حد البدعة لأنها إنما تكبر الصوت فقط وليس فيها زيادة في ألفاظ الأذان ولا الإقامة ولا القراءة. وعلى هذا فإدخالها في حد البدعة خطأ ظاهر, ومن هذا الباب ركوب الطائرات والسيارات في السفر إلى الحج والعمرة, وكذلك وضع الساعات في المساجد لمعرفة أوقات الصلوات فكل هذا من الأمور المباحة ومن النعم التي أنعم الله بها على عباده وليست داخلة في حد

الرد على زعمه أن الأصل في الأعمال الحل

البدعة, ومن زعم أنها من البدع الداخلة تحت عموم النهي فلا شك أنه مصاب في عقله. فصل وقال صاحب المقال الباطل: ولقد تساءلت في كلمتي السابقة, وهل كل ما لم يفعله الرسول ولا أصحابه حرام علينا أم أن الأصل في الأعمال هو الحل إلا ما جاء به نص بتحريمه أو النهي عنه, وأزيد على ذلك الآن بأن فقهاء الإسلام لم يتركوا هذا الموضوع بل درسوه وناقشوه وانتهوا إلى أن ترك الرسول لعمل لا يدل على تحريمه واستدلوا بقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ولم يقل ما تركه فانتهوا, وهذا هو الفهم الصحيح لنصوص القرآن والحديث. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وضع لأمته قاعدة عظيمة تعرض عليها الأعمال فيعرف ما يجوز منها وما لا يجوز فقال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وقد تقدم تخريج هذين الحديثين والكلام عليهما قريباً (¬1) مع الرد على ما نقله الكاتب عن بعض العلماء أنه قال: إن البدع ليست كلها سيئة فليراجع هنا. وعلى هذه القاعدة العظيمة مدار الأعمال كلها. فما كان منها ¬

(¬1) ص: 118 - 120.

موافقاً لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو سنة الخلفاء الراشدين المهديين فهو من الأعمال التي يجب التمسك بها والعض عليها بالنواجذ, وما لم يكن منها من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين فهو من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها وأخبر أنها شر وضلالة. وفي هذه القاعدة العظيمة أبلغ رد على قول الكاتب إن الأصل في الأعمال هو الحل إلا ما جاء نص بتحريمه أو النهي عنه. الوجه الثاني: أن يقال قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» وقد تقدم تخريج هذا الحديث في البرهان العشرين فليراجع هناك, وقد ذكرت في الكلام عليه قول النووي إن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - , وفي هذا الحديث أبلغ رد على قول الكاتب إن الأصل في الأعمال هو الحل إلا ما جاء نص بتحريمه أو النهي عنه. الوجه الثالث: أن يقال إن القاعدة التي تقدم ذكرها موافقة غاية الموافقة لقول الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فكل ما كان من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو من سنة الخلفاء الراشدين المهديين فهو مما أمر الله بأخذه لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أمته بالتمسك به والعض عليه بالنواجذ, وما كان من محدثات الأمور فهو مما نهى الله عنه لأن رسول - صلى الله عليه وسلم - قد حذر أمته من محدثات الأمور على وجه العموم وأمر بردها ونص على أنها شر وضلالة وأنها في النار. الوجه الرابع: أن يقال إن في تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من

محدثات الأمور وأمره بردها نصاً جلياً على النهي عنها والمنع منها, وهذا النص لا يخفى على من له أدنى علم وفهم للأحاديث النبوية, وإنما يخفى على البليد الذي لا نصيب له من العلم والفهم. الوجه الخامس: أن يقال ما زعم الكاتب أنه الفهم الصحيح لنصوص القرآن والحديث فهو مبني منه على التخرص واتباع الظن, وكيف يكون فهم الكتاب صحيحاً مع مخالفته للقاعدة الشرعية التي تقدم ذكرها في الوجه الأول ومحاولته لتأييد بدعتي المأتم والمولد والجدال عنهما بالباطل واطراح ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين, فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حصر أعياد المسلمين الزمانية في سبعة أيام ولم يجعل المولد منها ولا معها, وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم أنهم عدوا الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة وقال أبو البختري وسعيد بن جبير: إن ذلك من أمر الجاهلية, وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في البرهان الثامن والعشرين والبرهان التاسع والعشرين والبرهان الثلاثين فلتراجع ففيها أبلغ رد على الكاتب وعلى محاولته تأييد بدعتي المولد والمأتم والدفاع عنهما بفهمه الخاطئ. فصل وقال صاحب المقال الباطل: ولو أننا زعمنا أن كل ما لم يفعله الرسول ولا أصحابه حرام نكون نحن الذين شرعنا في الدين ما لم يأذن به الله ودخلنا تحت مظلة {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} وخاصة في غير الدين كالاحتفال بالمولد النبوي

الرد على بعض التلبيس الذي أورده الكاتب

وحفلات المآتم, ألم يقل الرسول مرة إثر نقاش بينه وبين أصحابه «أنتم أدرى بأمور دنياكم» أو كما قال. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أمته أن يتمسكوا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وحذرهم من محدثات الأمور وأمرهم بردها ونص على أنها شر وضلالة, وقد تقدم تخريج هذه الأحاديث الصحيحة في البرهان السادس عشر والبراهين الثلاثة بعده (¬1) فلتراجع ففيها أوضح دليل على أن جميع الأعمال التي ليست من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين ولم يكن عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم فهي من البدع التي يجب ردها والمنع منها. وعلى هذا فإن المنكرين لمحدثات الأمور لا ينطبق عليهم القول بأنهم قد شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كما قد توهم ذلك صاحب المقال الباطل, ولا ينطبق عليهم ما جاء في قول الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} وإنما ينطبق ذلك على أهل البدع فهم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله, وهم الذين افتروا الكذب بما ابتدعوه واستحسنوه من الأعمال التي لم يأمر الله بها ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ويشاركهم في أعمالهم السيئة وصفاتهم الذميمة كل من سعى في تأييد البدع وأمور أهل الجاهلية وبذل جهده في إظهار العمل بها في بلاد المسلمين كما قد فعل ذلك الكاتب المفتون بالبدع وأشباه له كثيرون في بلده وغير بلده. الوجه الثاني: أن يقال إن الكاتب المفتون قد زعم أن إنكار الاحتفال بالمولد النبوي وحفلات المآتم والقول بتحريمها من الشرع في ¬

(¬1) ص: 65 - 67.

الرد على احتجاجه بما ورد في تأبير النخل

الدين بما لم يأذن به الله ومما يدخل في قول الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} وهذا من قلب الحقيقة وعكس القضية, وإنه لينطبق على الكاتب قول الله تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}. ولا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة أن عموم الأحاديث الواردة في التحذير من البدع والأمر بردها يشمل الاحتفال بالمولد النبوي وحفلات المآتم بطريق الأولى لأن الاحتفال بالمولد النبوي قد جعله الجهال عيداً مضاهياً للأعياد المشروعة للمسلمين, بل إنهم يحتفلون بالمولد أعظم مما يحتفلون بالأعياد المشروعة للمسلمين, وأما حفلات المآتم فإنها من أمور أهل الجاهلية وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وهي أيضاً من النياحة كما جاء ذلك في النص الثابت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم. وقد تقدم ذلك في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه فليراجع (¬1) وليراجع كلام العلماء في ذم حفلات المآتم وقول بعضهم إنها بدعة مستقبحة وأنها قلب للمعقول لأن الضيافة إنما تكون للسرور لا للحزن, وما كان بهذه الصفة الذميمة فإنه لا يشك المسلم العاقل في تحريمه. الوجه الثالث: أن يقال إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» إنما هو وارد في تأبير النخل وذلك من الأمور الدنيوية التي ليس لها تعلق بشيء من أمور الدين وليست داخلة في المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها, ¬

(¬1) ص: 81 - 86.

ذكر ماهية الاحتفال بالمولد عند الكاتب والرد عليه

وهذا بخلاف الاحتفال بالمولد النبوي وحفلات المآتم فإنهما من المحدثات التي ورد التحذير منها والأمر بردها. فأما الاحتفال بالمولد النبوي فإن الجهال قد اتخذوه عيداً وقربة يتقربون بها إلى الله تعالى, وقد زعم بعض الجهال من الكتّاب المنتسبين إلى العلم - وهم بعيدون غاية البعد عن العلم الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - أن الاحتفال بالمولد النبوي سنة حسنة محمودة, وزعموا أيضاً أنها سنة مباركة, وزعموا أيضاً أن الاحتفال بالمولد مطلوب شرعاً, وزعموا أيضاً أنه مشروع في الإسلام, وزعموا أيضاً أنه يثبت الأفئدة, وكل هذا موجود في كتب لهم منشورة. وقد رددت على هذه المجازفات والأباطيل التي هي من الزيادة في الدين والشرع فيه بما لم يأذن الله به في كتابي المسمى بـ «الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي» فليراجع الرد عليها هناك. وما ذكرته هنا من مجازفات الجهال وأقوالهم الباطلة في تعظيم الاحتفال بالمولد واتخاذه ديناً فيه أبلغ رد على ما في كلام الكاتب المفتون من التمويه على الجهال وإيهامهم أنه لا محذور في الاحتفال بالمولد النبوي وأن القول فيه من جنس القول في تأبير النخل. وأما حفلات المآتم فقد ذكرت في الوجه الثاني أنها من أمور أهل الجاهلية ومن النياحة التي هي من كبائر الإثم, وما كان بهذه المثابة فقياسه على تأبير النخل من أفسد القياس, ومن أجاز العمل بالنياحة وأمور أهل الجاهلية فلا شك أنه مصاب في دينه وعقله. فصل وقال صاحب المقال الباطل: ما هي ماهية الاحتفال بالمولد

النبوي؟ وماذا يجري فيه؟. إنه اجتماع في ليلة مباركة على أمة محمد, اجتماع نستشعر الحب الإلهي ونتعرض لنفحات الرب, يجتمعون يقرءون القرآن ثم يتلون شيئاً من سيرة الرسول الكريم ومعجزاته ويذكرون الله ويصلون على رسوله ثم يأكلون ويشربون الطيبات من الرزق ثم يخرجون وقد امتلأت نفوسهم بمزيد من الحب لله ولرسوله. هذا هو الاحتفال الصحيح بالمولد النبوي ولا شيء سواه. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال على سبيل الفرض والتقدير لو أن الاحتفال بالمولد النبوي كان خالياً من منكرات الأقوال والأفعال وكان على وفق الماهية التي ذكرها الكاتب لكان المنع منه متعيناً لأنه لم يكن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين وإنما هو من المحدثات, وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات وأمر بردها ونص على أنها شر وضلالة فقال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد تقدم تخريج هذه الأحاديث في البرهان السادس عشر والبراهين الثلاثة بعده فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على الكاتب خاصة وعلى جميع الذين يحتفلون بالمولد النبوي ويتخذونه عيداً ¬

(¬1) ص: 65 - 67.

اختلاف ماهية الاحتفال بالمولد على حسب العوائد في الأقطار

ولا يبالون بما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن المحدثات ووصفها بالشر والضلالة والأمر بردها, والنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا قد جاءت على وجه العموم فيدخل في عمومها الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من البدع. ولا فرق في ذلك بين بدعة وبدعة, ومن ادعى خروج الاحتفال بالمولد النبوي من عموم الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع والأمر بردها فهو مطالب بأن يأتي بنص من الكتاب أو السنة يدل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي وخروجه من عموم المنع من البدع. ولن يجد إلى النص سبيلاً. الوجه الثاني: أن يقال إن الله تعالى قد شرع للمسلمين سبعة أعياد زمانية وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق الثلاثة. فمن زاد عليها عيداً ثامناً فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وخالف السنة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان, وكل من ابتدع في الدين فبدعته مردودة كائنة ما كانت, ومن هذا الباب ما يفعله الجهال من الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً يعظمونه أشد من تعظيمهم للأعياد المشروعة للمسلمين ويفرحون به أعظم من فرحهم بالأعياد المشروعة للمسلمين, وهذا من تلاعب الشيطان بهم وتعظيمه للبدع في نفوسهم. الوجه الثالث: أن يقال إن ماهية الاحتفال بالمولد النبوي ليس لها حد محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه, بل إنها تختلف اختلافاً كثيراً على حسب العوائد في الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام فكل من استحسن منكراً من الأقوال أو الأفعال أدخله في ماهية الاحتفال بالمولد. وأنا أذكر ها هنا بعض المنكرات التي قد أضفيت إلى ماهية الاحتفال

ماهية الاحتفال التي ذكرها ابن الحاج

بالمولد النبوي, فمن ذلك القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد ذكر ابن علوي في صفحة 27 من رسالته التي سماها: «حول الاحتفال بالمولد النبوي» أن هذا القيام قد استحسنه من استحسنه من أهل العلم. ونقل عن البرزنجي ما ذكره عن بعضهم من استحسان القيام وأن أهل العلم والفضل والتقى قد سنوه, ثم قال ابن علوي في آخر صفحة 28 إن من لم يقم قد يفسر موقفه ذلك بسوء الأدب أو قلة الذوق أو جمود الإحساس. وذكر أيضاً في صفحة 29 أن استحسان القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جرى عليه العمل في سائر الأقطار والأمصار واستحسنه العلماء شرقاً وغرباً انتهى ملخصاً من كلامه, وقد رددت على هذه الأقوال الباطلة في كتابي المسمى بـ «الرد القوي. على الرفاعي والمجهول وابن علوي» فليراجع ذلك في آخر الكتاب المذكور, وهذه السنة من سنن الضلالة التي يكون على المبتدي بها وزرها ووزر من عمل بها بعده, ويكون الوزر أيضاً على من يدعو إليها ويحسنها للجهال كابن علوي وأشباهه من أنصار البدع, وقد ذكرت في «الرد القوي» ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كراهيته للقيام له ونهيه عنه وقوله إن ذلك من فعل الأعاجم, وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كره القيام له ونهى عنه وأخبر أنه من فعل الأعاجم فكيف بالقيام عند ذكر ولادته, فهذا أولى بالنهي والمنع لجمعه بين البدعة المستهجنة والتشبه بالأعاجم. ومن ماهية الاحتفال بالمولد النبوي أيضاً ما ذكره أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه «المدخل» أنهم يستعملون فيه الأغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابه وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع, وذكر أيضاً أنه يفعل فيه أنواع من المنكرات من الغناء والرقص

ماهية الاحتفال التي ذكرها الشقيري

واستعمال آلات اللهو والطرب واختلاط الرجال والنساء وغير ذلك من المنكرات. ومن ماهيته أيضاً ما ذكره محمد بن عبد السلام خضر الشقيري في كتابه المسمى بـ «السنن والمبتدعات» أنه تنفق فيه الأموال الباهظة التي تعلق بها التعاليق وتنصب بها السرادقات وتضرب بها الصواريخ ويكون فيها اجتماع الرقاصين والرقاصات والمومسات والطبالين والزمارين واللصوص والنشالين والحاوي والقرداتي وذوي العمائم الحمراء والخضراء والصفراء والسوداء. أهل الإلحاد في أسماء الله والشخير والنخير والصفير بالغابة والدق بالبارات والكاسات والشهيق والنعيق بأح أح يا ابن المره أم أم إن إن سابينها يا رسول الله يا صاحب الفرح المدا آد يا عم يا عم, اللع اللع, كالقرود. قال محمد بن عبد السلام ما فائدة هذا كله؟ فائدته سخرية الإفرنج بنا وبديننا وأخذ صور هذه الجماعات لأهل أوربا فيفهمون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - - حاشاه حاشاه - كان كذلك هو وأصحابه. قال: وكيف سكت العلماء على هذا البلاء والشر؟ , بل وأقروه! , ولماذا سكتت الحكومة الإسلامية على هذه المخازي وهذه النفقات التي ترفع البلاد إلى أعلى عليين, فإما أن يزيلوا هذا المنكر وإما وصمتهم بالجهالة انتهى باختصار. فهذا ما ذكره العالم بماهية الاحتفال بالمولد النبوي في بلاده التي هي من أكبر البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام, فأما الماهية التي ذكرها صاحب المقال الباطل فقد يكون الاقتصار عليها نادراً عند المفتونين بالاحتفال بالمولد النبوي, ومع هذا فهي من البدع الداخلة في عموم الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من

ماهية الاحتفال التي ذكرها الفاكهاني

البدع والأمر بردها, وقد قال أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه «المدخل»: المولد إذا خلا من السماع وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان فهو بدعة بنفس نيته فقط إذ أن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين, واتباع السلف أولى, بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له ولسنته - صلى الله عليه وسلم - ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك, ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم انتهى. وقال تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني - وهو من متأخري المالكية - في كتابه المسمى بـ «المورود, في الكلام على عمل المولد» أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين وقصدوا الجواب عن ذلك فقلت: وبالله التوفيق, لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولم ينقل عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين, بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون. بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً. وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه, وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت. وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت, ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً, وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين, والتفرقة بين حالين. أحدهما: أن يعمله رجل

قول شيخ الإسلام ابن تيمية في الاحتفال بالمولد أنه من البدع ولم يفعله السلف

من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ولا يقترفون شيئاً من الآثام, وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام, والثاني: أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه, لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات, إما مختلطات بهم أو مشرفات والرقص بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف, وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد, وهذا لا يختلف في تحريمه اثنان انتهى المقصود من كلامه والأولى أن يقال في الحالة الأولى بالتحريم لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف البدع بالشر والضلالة على وجه العموم وأخبر أنها في النار وحذر منها غاية التحذير وأمر بردها من غير تفريق بين بدعة وبدعة, وفي هذا أوضح دليل على تحريم البدع كلها سواء كان معها شيء آخر من المنكرات أو لم يكن. وإذا كان معها شيء آخر من المنكرات كان ذلك أشد لتحريمها وكان الزجر عنها آكد والمنع منها أوجب. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له في صفحة 298 من المجلد الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى. وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها انتهى.

قول رشيد رضا أن الموالد بدعة بلا نزاع

وقال شيخ الإسلام أبو العباس أيضاً في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم»: لما ذكر اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً. قال: إن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع, ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له منا, وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان انتهى. وسئل رشيد رضا عن قراءة القصص المسماة بالموالد هل هي سنة أم بدعة ومن أول من فعل ذلك, فأجاب بقوله: هذه الموالد بدعة بلا نزاع, وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر انتهى وهذا الجواب مذكور في صفحة 111 من الجزء السابع عشر من المنار. وهو أيضاً في صفحة 1242 - 1243 من المجلد الرابع من فتاوى رشيد رضا. ولرشيد رضا جواب آخر عن بدعة المولد وهو مذكور في صفحة 664 - 668 من الجزء التاسع والعشرين من المنار وهو أيضاً في صفحة 2112 - 2115 من المجلد الخامس من فتاوى رشيد رضا. قال فيه سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي هل هو بدعة أم له أصل. فأجاب بقوله أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها. فمن جرد عمله في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة ومن لا فلا.

رد رشيد رضا على تسهيل الحافظ ابن حجر في عمل المولد مع قوله أنه بدعة

قال رشيد رضا وأقول إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل فقد كان أحفظ حفاظ السنة والآثار ولكنه لم يؤت ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط فحسبنا من فتواه ما تعلق بالنقل وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله, ومن زعم بأنه يأتي في هذا الدين بخير مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجرى عليه ناقلو سنته بالعمل فقد زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤد رسالة ربه كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى, وقد أحسن صاحب عقيدة الجوهرة في قوله: وكل خير في اتباع من سَلَف ... وكل شر في ابتداع من خَلَف وأما قول الحافظ من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها كان عمله بدعة حسنة ومن لا فلا, ففيه نظر, ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته, والصدقات - وهي مشروعة لا تعد من البدع - وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص بالهيئة المخصوصة والوقت المخصوص وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب المطلوبة شرعاً. وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه تعد من شرع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم انتهى المقصود من كلامه. وذكر أيضاً أن الحفلات المولدية تشتمل على بدع ومفاسد أخرى كالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وأقواله وأفعاله كما هو المعهود في أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه

الحفلات. قال: وأما القيام عند ذكر وضع أمه له - صلى الله عليه وسلم - وإنشاد بعض الشعر أو الأغاني في ذلك فهو من جملة هذه البدع وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي انتهى باختصار. فليتأمل الكاتب ما نقلته عن العلماء العارفين بماهية الاحتفال بالمولد النبوي وتصريحهم بأنه بدعة ولو كان مقصوراً على الاجتماع على أكل الطعام, وليتق الله تعالى ولا يكن داعياً إلى الشر والضلال وعوناً للشيطان على نشر البدع وإظهارها بين المسلمين, ولا ينس قول الله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون} وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الوجه الرابع أن يقال لو كان في الاحتفال بالمولد النبوي أدنى شيء من الخير لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فإنه لا خير إلا وقد دلهم عليه ورغبهم فيه ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم» رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي ذر رضي الله عنه, وقال - صلى الله عليه وسلم -: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنه بعدي إلا هالك» رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. الوجه الخامس أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم كانوا أحرص الناس على فعل الخير وأشدهم

مسارعة إلى الأعمال التي تستجلب بها محبة الله تعالى ويتعرض بها لنفحاته, ومع هذا فلم يكونوا يحتفلون بليلة المولد ولا يخصونها بشيء من الأعمال دون سائر الليالي, ولو كان في الاحتفال بالمولد شيء من الخير لسبقوا إليه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية من هذه الأمة فقال: «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وفي هذين الحديثين أوضح دليل على أنه لا يجوز الاحتفال بالمولد النبوي لأنه لم يكن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله الصحابة رضي الله عنهم. الوجه السادس: أن يقال ما زعمه الكاتب من استشعار الحب الإلهي والتعرض لنفحات الرب في الاحتفال بالمولد النبوي وأنهم يخرجون من احتفالهم بالمولد وقد امتلأت نفوسهم بمزيد من الحب لله ولرسوله, فكل ذلك من تزيين الشيطان لهم وتلاعبه بعقولهم ليرغبهم في العمل بالبدعة ويهوّن عندهم أمرها ويدعوهم إلى عدم المبالاة بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من البدع وأمره بردها. الوجه السابع أن يقال من عجيب أمر الكاتب زعمه أنه يستشعر الحب الإلهي ويتعرض لنفحات الرب في حين عمله ببدعة المولد, وما علم المسكين أن العمل بالبدع من أعظم الأسباب التي تبعد عن الله تعالى وتستجلب بها الفتنة والعذاب الأليم قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال

أول من ابتدع الاحتفال بالمولد النبوي

الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآية. أتدري ما الفتنة؟ , الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو هذه الآية: {فلا وربك لا يؤمن حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}. وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أن محبة الله تعالى والتعرض لنفحاته إنما تنال بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بالعمل بما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وتحقيق المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحكيمه في كل ما تنازع الناس فيه والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره وعلى أهواء النفوس وشهواتها. وليس الاحتفال بالمولد النبوي من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل أصحابه ولا من عمل التابعين لهم بإحسان, وإنما هو من هدي بعض الملوك وسننهم. وأول من أحدثه سلطان إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين, ذكر ذلك السيوطي في رسالته التي سماها «حسن المقصد, في عمل المولد» وكانت وفاة كوكبري في سنة ثلاثين وستمائة, وقال رشيد رضا إن أول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر. والمقصود هنا التحذير من الاحتفال بالمولد النبوي لأنه من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفها بالشر والضلالة وأمر بردها والتحذير أيضاً من الاغترار بمزاعم الكاتب وحججه الداحضة في الدفاع عن بدعة المولد والمجادلة عنها بالباطل.

الرد على دعوة الكاتب إلى توسيع نطاق الاحتفالات المبتدعة

فصل ثم إن صاحب المقال الباطل لم يقتصر على تحسين بدعتي المولد والمأتم والاحتفال بهما بل ذهب يطالب بتوسيع نطاق البدع ويدعو إلى الاحتفال بالأيام التي كان لها ذكر في التاريخ فقال: إن الاحتفالات ينبغي أن لا تقتصر على المولد النبوي فقط بل وفي كل يوم من أيام الإسلام الخالدة كيوم الهجرة ويوم الإسراء والمعراج ويوم بدر ويوم أحد ويوم فتح مكة وكل يوم كان له أثر طيب على المسيرة الإسلامية, فما أحوجنا إلى أيام إجازة بهذه المناسبات كما يفعل غيرنا من الأمم المتحضرة. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا أحرص الناس على فعل الخير, ومع هذا فإنهم لم يكونوا يحتفلون بشيء من الأيام التي دعا الكاتب المفتون إلى الاحتفال بها, ولو كان في الاحتفال بها أو بشيء منها أدنى شيء من الخير لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أسبق إليه ممن كان بعدهم, وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنه لا يجوز الاحتفال بشيء من الأيام التي ذكرها الكاتب لأن الاحتفال بها بدعة وضلالة, وأي خير يرجى من البدع والضلالة, ومن لم يتسع له ما اتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم فلا وسع الله عليه. الوجه الثاني: أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك

من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. قال النووي في شرح مسلم سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقاً إليه انتهى. وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أن دعاء الكاتب إلى الاحتفال بالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام دعاء صريح إلى الضلالة لأن الاحتفال بها مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافق لهدي الأمم التي زعم الكاتب أنها متحضرة - وهم طوائف الإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال الذين كانوا يشرعون لأنفسهم ولأتباعهم كل ما استحسنوه من الاحتفالات بالأيام التي كان لها ذكر في تاريخهم وقد حاول الكاتب أن يحذو حذوهم في شرع ما لم يأذن الله به من الاحتفالات والأعياد المخالفة لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان, وسوف لا يتم للكاتب مقصوده من البدع إن شاء الله تعالى لأن ولاة الأمور في الحرمين الشريفين وفي جميع الجزيرة العربية ليسوا من أهل البدع ولا ممن يؤيد البدع وأهل البدع, وإنما هم من أهل السنة والجماعة, وأهل السنة والجماعة لا يستجيزون إحداث الاحتفالات والأعياد التي لم يكن عليها الأمر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه رضي الله عنهم. الوجه الثالث: أن يقال أن الكاتب قد عظّم شأن أمم الكفر والضلال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق, وذلك حين وصفهم بأنهم أمم متحضرة,

ومفهوم كلامه يدل دلالة ظاهرة على أنه يرى أن المسلمين متصفون بالبداوة. وما ذاك إلا أنهم قد وقفوا عند حدود الشريعة ولم يجاوروها إلى العمل بالاستحسان وما تدعو إليه أهواء النفوس وشهواتها من الاحتفالات التي لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان. ولو أن الكاتب تأمل أحوال الذين زعم أنهم أمم متحضرة لتبين له أن حضارتهم ومدنيتهم يرجع حاصلها إلى التوسع في استحلال المحرمات وإعطاء النفوس حظها مما تميل إليه من الشهوات واللذات, فليس لهم دين يردعهم عن المحرمات وعن الشرع في الدين بما لم يأذن به الله, وليس لهم من المروءة والشيم ما يمنعهم عن تعاطي الأمور التي تدنس وتشين عند ذوي الأحلام والنهى. الوجه الرابع: أن يقال إن الكاتب لما لم يجد ما يستند إليه في دعائه إلى توسيع نطاق البدع - وذلك بالاحتفال بالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام - ذهب يدعو إلى تقليد أمم الكفر والضلال والاستنان بسننهم ليطبق بذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم». وإذا كان الكاتب لا يرى بأساً بالاقتداء بأمم الكفر والضلال ولا يبالي بمخالفة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقوله أيضاً: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» فلا شك أنه مصاب في دينه وعقله.

الرد على تحسينه إقامة الاحتفالات المبتدعة, وعلى ذمه لكثير من الخطب والمواعظ

فصل وقال صاحب المقال الباطل: لقد أثبتت التجربة أن مثل هذه الاحتفالات بفضل ما يتردد فيها من ذكر الله والصلاة على رسول الله تؤثر في القلوب وتحيي الموات فيها وتجدد صلة الإنسان بالله وتجذب إلى الطاعة وتنفر من المعصية بصورة أبلغ وأعمق أثراً وأنفذ إلى قرارة النفس من كثير من الخطب والمواعظ الباردة التي يرسلها بعض الخطباء والوعاظ في المساجد وغير المساجد. وكيف لا يكون ذلك حقيقاً والله سبحانه وتعالى يقول: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: «روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت». والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال إنه لا يجوز من الاحتفالات إلا ما شرعه الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهي الأعياد السبعة التي جاء في الأحاديث الصحيحة أنها أعياد المسلمين. وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق (¬1) , فأما يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر فإنه يشترك في الاحتفال بها جميع المسلمين, وأما يوم عرفة وأيام التشريق الثلاثة فإن الاحتفال بها خاص بالحجاج, فهذه الأيام السبعة هي الأيام التي يحتفل بها المسلمون وليس لهم أعياد سواها, وعلى هذا فمن أحدث في الإسلام عيداً يحتفل به سوى هذه الأعياد المذكورة فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وخالف الأمر الذي كان عليه ¬

(¬1) تراجع ص: 77 - 79.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. الوجه الثاني: أن يقال إن العبادات مبناها على الشرع والاتباع, لا على الرأي والاستحسان والابتداع, قال ابن مسعود رضي الله عنه: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد في الزهد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب السنة, وروى محمد بن نصر أيضاً عنه رضي الله عنه أنه قال: «إنكم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول». وروى الإمام أحمد في الزهد عنه رضي الله عنه أنه قال: «عليكم بالسمت الأول». والدليل على أن العبادات مبناها على التوقيف ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1) ففي هذه الأحاديث الصحيحة مع ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه أبلغ رد على من يريد التوسع في البدع والاحتفالات التي لم تكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم. ¬

(¬1) تراجع هذه الأحاديث في ص: 65 - 67.

إنكار ابن مسعود وأبي موسى على الذين أحدثوا في الذكر عملا لم يعمل به الرسول وأصحابه

الوجه الثالث أن يقال: إن التجربة التي ذكرها الكاتب ليست حجة شرعية على جواز التوسع في البدع والاحتفالات التي لم تكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم, وإنما هي في الحقيقة من تزيين الشيطان للكاتب وتلاعبه بعقله وعقول أشباهه من الذين لم يهتدوا بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينتهوا عما نهى عنه من البدع والإحداث في الدين. وقد أنكر ابن مسعود وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما على جماعة من التابعين كانوا يجلسون في المسجد حلقاً ويكبرون الله ويهللونه ويسبحونه ويعدّون التكبير والتهليل والتسبيح بالحصى وعدَّ ابن مسعود رضي الله عنه أفعالهم هذه من البدع وإن كانت في الظاهر من أفعال الخير التي تؤثر في القلوب. وقد رويت القصة في ذلك من عدة طرق, منها ما رواه الطبراني في الكبير عن عمرو بن سلمة قال: كنا قعوداً على باب ابن مسعود رضي الله عنه بين المغرب والعشاء فأتى أبو موسى رضي الله عنه فقال: اخرج إلينا أبا عبد الرحمن فخرج ابن مسعود رضي الله عنه فقال أبا موسى ما جاء بك هذه الساعة قال: لا والله إلا أني رأيت أمراً ذعرني وإنه لخير ولقد ذعرني وإنه لخير قوم جلوس في المسجد ورجل يقول سبحوا كذا وكذا, احمدوا كذا وكذا, قال: فانطلق عبد الله وانطلقنا معهم حتى أتاهم فقال: «ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحياء وأزواجه شواب وأبنيته لم تغير, أحصوا سيئاتكم فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم». ومنها ما رواه الدارمي عن عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى

الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بَعْدُ قلنا: لا فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعاً فقال له أبو موسى يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً, قال: فما هو فقال: إن عشت فستراه قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول كبروا مائة فيكبرون مائة فيقول هللوا مائة فيهللون مائة ويقول سبحوا مائة فيسبحون مائة, قال: فماذا قلت لهم؟. قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك, قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء, ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: «ما هذا الذي أراكم تصنعون؟. قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح, قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو مفتتحو باب ضلالة» قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه». ومنها ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد والطبراني وأبو نعيم في الحلية وأبو الفرج ابن الجوزي واللفظ له عن أبي البختري قال: أخبر رجل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول كبروا الله كذا وكذا وسبحوا الله كذا وكذا واحمدوا الله كذا وكذا, قال: عبد الله فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فائتني فأخبرني بمجلسهم فجلس فلما سمع ما يقولون قام فأتي ابن مسعود رضي الله عنه وكان رجلاً حديداً فقال: «أنا عبد الله بن مسعود

والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علماً, عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً» وفي رواية الطبراني فأمرهم أن يتفرقوا. ومنها ما رواه ابن وضاح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدث أن ناساً يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوّم كل رجل منهم كومة من حصى فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد وهو يقول: «لقد أحدثتم بدعة ظلماء أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علماً». وإنما أنكر ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما على الذين يتحلقون في المسجد للذكر ويعدون التكبير والتهليل والتسبيح بالحصى لأن فعلهم هذا ليس من الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم ولهذا عدّ ابن مسعود رضي الله عنه فعلهم من البدع الظلماء والهلكة والضلالة وقال لهم: إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو مفتتحو باب ضلالة, ولم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد. وإذا كان ابن مسعود وأبو موسى قد أنكرا ما فعله هؤلاء من التحلق للذكر وعدّ التكبير والتهليل والتسبيح بالحصى فكيف بالذين يقيمون بدعة المولد كل عام ويحتفلون بهذه البدعة التي ليس لها أصل في الشريعة, وإنما هي من المحدثات والأعمال التي حذّر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها؟ وكيف بالذين يحتفلون بالمآتم ويجتمعون فيها على أكل الطعام الذي يصنعه أهل الميت وهو من النياحة والبدعة المستقبحة؟. فهؤلاء أولى بالإنكار من الذين أنكر عليهم ابن مسعود وأبو موسى

رضي الله عنهما وأولى أن تعد أفعالهم واحتفالاتهم من البدع الظلماء والهلكة والضلالة. وأعظم من هؤلاء جرماً من لم يكتف بالاحتفال ببدعتي المولد والمأتم, بل ذهب يطالب بتوسيع نطاق البدع والاحتفال بالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام. فهل يأمن هذا الذي يدعو إلى الضلالة أن يكون له نصيب وافر من قول الله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون} وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً». ولو أن الكاتب تأملَ ما جاء عن ابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهما من إنكار الأمر الذي لم يكن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم وإن كان ظاهره الخير, وتأملَ أيضاً قول الذين أنكر عليهم ابن مسعود رضي الله عنه. والله ما أردنا إلا الخير وجواب ابن مسعود رضي الله عنه لهم بقوله: «وكم من مريد للخير لن يصيبه» وتأملَ أيضاً قول ابن مسعود رضي الله عنه لهم: «عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً» لو أنه تأمل هذا كله لكان حرياً أن يظهر له الخطأ في إصراره على تأييد البدع والمحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها, وفي مطالبته بتوسيع نطاق البدع والاحتفال بالأيام التي لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتفل بشيء منها ولم يحتفل بها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان. وإن أصر على رأيه الفاسد ولم تسمح نفسه بالرجوع إلى الحق ولزوم الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم فلا يأمن أن يكون له نصيب وافر من قول الله تعالى:

بيان أن الخطب والمواعظ التي ذمها الكاتب كانت على خلاف قوله والله قد قلب الحقيقة

{ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. الوجه الرابع أن يقال على سبيل الفرض والتقدير لو أن التجربة التي ذكرها الكاتب كانت مؤثرة في قلبه وقلوب أشباهه من المفتونين بالاحتفالات المحدثة وأن هذه الاحتفالات تحيي الموات في قلوبهم وتجدد صلتهم بالله وتجذبهم إلى الطاعة وتنفرهم عن المعصية لما كان لهم أن يحتفلوا بما لم يحتفل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, بل الواجب عليهم وعلى غيرهم من الناس أن يتأسوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاحتفالات وفي جميع الأعمال ولا يبتدعوا شيئاً لم يكن عليه الأمر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أصحابه رضي الله عنهم وإن كانوا يرون أن فيه خيراً لهم لأنه ليس شيء من الأعمال يبتغى فيه الخير إلا وقد سبق إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. فالخير كل الخير في سلوك سبيلهم, والشر كل الشر في سلوك السبل المضلة وهي سبل الأهواء والضلالة والشهوات التي تفضي بسالكيها إلى النار. الوجه الخامس: أن أقول إن الخطب والمواعظ التي يلقيها الخطباء في المسجد الحرام والمسجد النبوي وغيرهما من المساجد التي قد سمعتُ الخطب فيها ليست على الوصف الذي وصفها به الكاتب هدانا الله وإياه, وإنما هي خطب بليغة جداً لاشتمالها على الدعوة إلى الله تعالى وإخلاص العمل له وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. وتشتمل أيضاً على التذكير بالمعاد والجزاء على الأعمال, وتشتمل أيضاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من البدع والأهواء المضلة ومن فتن الشهوات

والشبهات, وتشتمل أيضاً على الحث على بر الوالدين وصلة الرحم وعلى التآخي في الله تعالى والتعاون على البر والتقوى واجتناب التعاون على الإثم والعدوان, وتشتمل أيضاً على النهي عن المحرمات في المآكل والمشارب والملابس والفروج, إلى غير ذلك مما تشتمل عليه خطبهم من الحكم البليغة والوصايا النافعة فجزاهم الله عن أعمالهم الطيبة ونصائحهم النافعة خير الجزاء وكثّر في المسلمين من أمثالهم. فأما وصف الكاتب لخطبهم ومواعظهم بالبرودة فهو من قلب الحقائق وعكس القضايا, وقد قيل في المثل المشهور: «لا تعدم الحسناء ذاماً» وقال الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم الوجه السادس أن يقال: إن التذكير الذي ينتفع به المؤمنون يكون بطرق كثيرة, ومن أعظمها نفعاً تذكير الخطباء الناصحين في خطبهم في أيام الجمع والأعياد خاصة. وفي غير ذلك من المناسبات التي تدعو إلى الخطب والتذكير بالقرآن وبما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة. وهذه هي طريقة الخطباء في المسجد الحرام والمسجد النبوي وغيرهما من المساجد التي قد سمعتُ الخطب فيها, وهي طريقة موروثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يذكّر أصحابه في أيام الجمع والأعياد خاصة وفي غيرها من المناسبات, بل وفي كثير من مجالسه النافعة, يذكرهم بالقرآن وبما أوحاه الله إليه من الحكمة والموعظة الحسنة ويعلمهم ما ينفعهم في الدين والدنيا والآخرة ويحذرهم مما يضرهم في الدين والدنيا والآخرة, فلا خير إلا وقد دل أمته عليه

الرد على شغبه على الخطباء والوعاظ

ورغبهم فيه ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه, فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. فأما حفلات المولد والمآتم وغيرها من الحفلات المحدثة وما يكون فيها من التذكير إن كان له وجود فيها فليس ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم, وإنما هي من المحدثات وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات على وجه العموم وأمر بردها. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني» وفي هذا أبلغ رد على الكاتب وعلى أشباهه من المفتونين بالبدع. الوجه السابع أن يقال إن الحديث الذي أورده الكاتب جازماً بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قاله حديث ضعيف جداً ولفظه: «روحوا القلوب ساعة فساعة» رواه أبو داود في المراسيل عن ابن شهاب مرسلاً. ومراسيل ابن شهاب من أضعف المراسيل, والمراسيل لا تصلح للاحتجاج ولا تجوز روايتها على الجزم برفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأما قوله: «فإن القلوب إذا كلّت عميت» فهذه الجملة ليست في حديث ابن شهاب ولا أدري من أين جاء بها الكاتب ولعله أتى بها من كيسه. ولو فرضنا صحة الحديث فليس فيه ما يدل على جواز الاحتفال بالمولد والمآتم ولا على جواز توسيع نطاق البدع والاحتفال بالأيام التي كان لها ذكر في الإسلام, فليس في إيراده ما يتعلق به الكاتب بوجه من الوجوه.

فصل وقال صاحب المقال الباطل: أجل إن مجالس الذكر أقوى أثراً في الوعظ والإرشاد والاتجاه إلى الله وطاعته واجتناب معاصيه من كلام بعض الخطباء والوعاظ والمنفرين الذين لا يحسنون أساليب الدعوة إلى الله ولا يعرفون من الدين إلا هذا شرك وهذا بدعة. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحتفل بمولده ولا بالمآتم ولا بشيء من الأيام التي وقعت في زمانه وكان لها أثر عظيم في تاريخ الإسلام ولم يكن يجعلها مجالس للذكر والوعظ والإرشاد. وكذلك الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك, ولو كان فيما ذكره الكاتب أدنى شيء من الخير والإصلاح لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أسبق إليه من غيرهم وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} فإن كان الكاتب يرجو الله واليوم الآخر فليتأس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يخالف الأمر الذي كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم فيصيبه الوعيد الذي توعد الله به المخالفين لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فلا يأمن الكاتب أن يكون من المعنيين بهذه الآية وهو لا يشعر. وأيضاً فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» فلا يأمن الكاتب المفتون بالمحدثات التي ليست من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ممن انتفى منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يشعر.

الوجه الثاني أن يقال إن مجالس الاحتفال بالمولد والمآتم وغيرها من الاحتفالات المحدثة والتي يطالب الكاتب بإحداثها ليست من مجالس الذكر كما قد زعم ذلك الكاتب, وإنما هي من مجالس البدع والضلالة لدخولها في عموم ما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالشر والضلالة وأمر برده. وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في البرهان السادس عشر والبراهين الثلاثة بعده فلتراجع ففيها أبلغ رد على الكاتب المفتون بالتمويه وقلب الحقائق. الوجه الثالث أن يقال إن الكاتب المفتون قد كرر الاعتراض على الخطباء والوعاظ الناصحين من أجل أنهم كانوا يأتون في خطبهم ومواعظهم بما يشق على قلبه الذي قد أصيب بمرض البدع وعدم المبالاة بمخالفة الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, وقد كرر أيضاً الذم لخطبهم البليغة, فتارة يقول ارحمونا عن هذا الكلام الممل - ويعني بالكلام الممل نهيهم عن الاحتفال بالمولد النبوي وقولهم إنه من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتارة يقول اتركوا الكلام عن الموائد والمآتم. وما علم الكاتب أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد نص على أن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة, وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم ذكره عنهم جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, وتارة يقول ما بال خطباء المساجد عندنا يريدون أن يتحجروا واسعاً ويتدخلوا في خصوصيات الناس ويفتون بأن الولائم التي تقام للعزاء محرمة ومخالفة لسنة رسول الله, وقد تعامى الكاتب عن تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحدثات على وجه العموم ووصفها بالشر والضلالة والأمر بردها. وتعامى أيضاً عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن ولائم

العزاء من النياحة, وتارة يقول إن خطيب المسجد الحرام قد شغل جمعتين بالكلام عن الاحتفال بالمولد النبوي وتحريمه وتجريمه, وما علم الكاتب أن النهي عن هذه البدعة مستند إلى تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحدثات وأمره بردها. وما علم أيضاً أن هذه البدعة قد افتتن بها الجم الغفير من المنتسبين إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وأن النهي عنها يعد عند أهل العلم من أعظم النصيحة للمسلمين, وتارة يقول إنه من الملاحظ أنه لم يبدأ الخطيب في الكلام عن مآدب المآتم وتحريمها حتى نهض المصلون وتركوا المسجد رغبة عن سماع مثل هذا الكلام. وما علم الكاتب أنه لا يخرج من المسجد بعد الأذان وهو لا يريد الرجوع إليه إلا منافق, وما علم أيضاً أن الله تعالى قد شبه المعرضين عن سماع التذكرة بالحمر المستنفرة. وتارة يصف الخطب البليغة والمواعظ الحسنة التي يلقيها بعض الخطباء والوعاظ الناصحين بأنها خطب ومواعظ باردة, وتارة يقول في مجالس الاحتفال ببدعتي المولد والمأتم وغيرهما من البدع أنها مجالس ذكر وأنها أقوى أثراً في الوعظ والإرشاد والاتجاه إلى الله وطاعته واجتناب معاصيه من كلام بعض الخطباء والوعاظ المنفرين الذين لا يحسنون أساليب الدعوة إلى الله ولا يعرفون من الدين إلا هذا شرك وهذا بدعة, كذا قال الكاتب في وصف الخطباء والوعاظ الناصحين أنهم منفرون وأنهم لا يحسنون أساليب الدعوة إلى الله تعالى, وكل ما قاله فيهم وفي خطبهم فهو مردود عليه لأنه من المجازفات التي لا تستند إلى شيء من الحقائق, بل إنها في الواقع من قلب الحقائق وعكس القضايا, وإنه لينطبق على الكاتب قول الشاعر: ومن يك ذا فم مُرٍّ مريض ... يجد مُرّاً به الماء الزلالا وقول الآخر: لا يضر البحر أمسى زاخراً ... أنْ رمى فيه غلام بحجر

وهكذا يقال في الكاتب المفتون إن المرض الذي في قلبه من حب بدعتي المولد والمأتم وغيرهما من المحدثات وحب الاحتفال بها قد حال بينه وبين قبول النصائح والمواعظ البليغة التي يلقيها الخطباء الناصحون في الحرمين الشريفين وجعله يتهجم على الخطباء وينفر من خطبهم ويذمها. ولا يخلو في هذا من أحد أمرين إما أنه لا فرق عنده بين الخطباء الناصحين وغير الناصحين. ولا فرق عنده بين الخطب البليغة وغير البليغة. وإما المكابرة لقصد إدحاض الحق ونصر البدع التي قد افتتن بها. وهذا هو الأقرب الأحرى بالكاتب وقد قال الله تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} فلا يأمن الكاتب أن يكون له نصيب وافر مما جاء في هذه الآية الكريمة. الوجه الرابع أن يقال: إن اعتراض الكاتب على الخطباء في قولهم في بعض الأشياء هذا شرك وهذا بدعة اعتراض في غير محله لأن الخطباء إذا حكموا على بعض الأشياء بأنها شرك أو بدعة ذكروا الدليل على ذلك من الكتاب أو السنة ومن احتج لقوله بالكتاب أو السنة فليس للاعتراض عليه سبيل. أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا وأيضاً فإن النهي عن الشرك والبدع أهم من النهي عما سوى ذلك من المحرمات, وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الشرك والبدع ويحذر منها غاية التحذير في خطبه وغير خطبه, وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} فمن اعترض على الخطباء الذين يتأسون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الشرك والبدع فلا شك أنه مصاب في دينه وعقله.

محاولته إحداث الاحتفال باليوم الوطني والرد عليه

فصل وقال صاحب المقال الباطل: ومن ناحية وطنية - لا دخل للدين فيها - ما الذي يمنع أن نحتفل نحن أبناء هذه المملكة بذكرى اليوم الذي توحدت فيه هذه المملكة بعد شتاتٍ عبر القرون, وهو ما يطلق عليه اليوم الوطني, لماذا لا يكون يوم عطلة رسمية للمدارس والدوائر والمتاجر والشركات والمؤسسات. نبعد فيه عن مشاغل الحياة ومتاعب العمل ونخرج إلى الحدائق والمنتزهات والمساجد - فكل ميسر لما خلق له - نصلي ونلهو ونلعب ونستشعر الراحة والهدوء, هل نسمع من يقول لنا بأننا بهذا نشرع في الدين ما لم يأذن به الله, هل سترددون علينا المقولة المملة: أننا بهذا أوجدنا عيداً غير مشروع, فالأعياد في الإسلام عيدين (¬1) فقط لا ثالث لهما: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}. ما الذي يمنع أن نحتفل بهذا اليوم الذي وحّد فيه الملك عبد العزيز رحمه الله هذه البلاد, إنه في نظري - دون تملق أو نفاق - عمل بطولي ويوم مجيد, وكل من قرأ تاريخ نجد والحجاز وعسير وتهامة والقصيم والأحساء وحائل قبل هذا التوحيد وماذا كانت تعاني شعوب هذه المناطق من حكامها وأمرائها ونزاعاتهم وقتل بعضهم البعض في سبيل الاستيلاء على السلطة وانتشار المجاعات بسبب الحروب بينهم والنهب والسب والأحقاد والثارات .. كل من قرأ ذلك وعرفه لا يسعه إلا أن يشاركني الرأي ويرى معي أنه يوم من الأيام المجيدة التي يجب أن نحتفل بها سنوياً ونتجه فيها بالحمد والثناء على الله أولاً, والدعاء لبطلها ¬

(¬1) قوله عيدين. كذا جاء في مقال المردود عليه, وهو لحن, والصواب أن يقال عيدان.

بالخير وحسن الجزاء ثانياً, ولا بأس من أن نقيم الولائم ونعقد اللقاءات نستعيد التاريخ وندرس الأسباب التي هيأت للملك عبد العزيز - رحمه الله وأحسن إليه - تحقيق هذه الوحدة والتي تثبت أن في مقدمتها تقوى الله وحسن النية {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: إن هذه الجملة التي ذكر فيها الكاتب بعض ما للملك عبد العزيز رحمه الله تعالى من المآثر الحميدة إنما أوردها تمهيداً لما يحاول الحصول عليه من الاحتفال باليوم الوطني واتخاذه عيداً سنوياً يصلي فيه ويلهو ويلعب ويقيم الولائم ويعقد اللقاءات ويضاهي ما شرعه الله للمسلمين من الأعياد السنوية ويتخذ من ذلك طريقاً إلى المطالبة بالاحتفال بالمولد النبوي وولائم المآتم جهاراً, خلاف ما هم عليه الآن من كتمان هذه الاحتفالات المبتدعة وعملها في السر دون العلانية, وسوف لا تتم للكاتب مقاصده السيئة إن شاء الله تعالى لما ذكرته قريباً أن ولاة الأمور في الحرمين الشريفين وفي جميع الجزيرة العربية ليسوا من أهل البدع ولا ممن يؤيد البدع وأهل البدع, وإنما هم من أهل السنة والجماعة, وأهل السنة والجماعة لا يستجيزون إحداث الاحتفالات والأعياد التي لم يكن عليها الأمر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه رضي الله عنهم, ولا تستفزهم المحاولات السيئة من أهل البدع وأعوان الشيطان الذين يحاولون توسيع نطاق البدع وإظهارها في البلاد الإسلامية. الوجه الثاني أن يقال: لو كان الاحتفال باليوم الوطني جائزا لكان الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى أول من يحتفل به, ولكنه رحمه الله تعالى

كان حريصاً على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعمل بما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم, والبعد عن المحدثات التي تخالف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, وكان رحمه الله تعالى شديداً على أهل البدع قامعاً لهم, فما سمعتُ عن أحد من المفتونين بالمولد النبوي وإقامة الولائم في المآتم أنه تجرأ في زمانه على معارضة الخطباء في الحرمين الشريفين ونشر المقالات في الصحف وغير الصحف في ذمهم وذم خطبهم والازدراء بها, ولا أن أحداً في زمانه حاول توسيع نطاق البدع والاحتفال بالأمور التي لم يحتفل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم كيوم الهجرة ويوم الإسراء والمعراج ويوم بدر ويوم أحد ويوم فتح مكة, ولو كان الاحتفال بهذه الأيام جائزاً لما أهمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, والله المسئول المرجو الإجابة أن يوفق ولاة أمور المسلمين للأخذ على أيدي الظالمين عامة وعلى يد الظالم للخطباء في الحرمين الشريفين خاصة وأن يأطروهم على الحق أطراً, ولا يتركوا لهم مجالاً في ذم الخطباء الناصحين وذم خطبهم من أجل ما يكون فيها من ذم الاحتفال بالمولد النبوي وولائم المآتم وغيرها من أنواع البدع والمنكرات, وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد المسيء - وفي رواية على يد الظالم - ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم» أي كما لعن بني إسرائيل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم. الوجه الثالث أن يقال: أما قول الكاتب عن الناحية الوطنية التي ذكرها أنه لا دخل للدين فيها وأنه لا مانع من الاحتفال بذكرى اليوم

الوطني واتخاذه عيداً سنوياً فهو قول باطل مردود بما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحث على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وتحذيره من محدثات الأمور وأمره بردها والنص على أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار, وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على من زعم أن الناحية الوطنية لا دخل للدين فيها وأنه لا مانع من الاحتفال بذكرى اليوم الوطني واتخاذه عيداً سنوياً, وقد ذكرت في أول الكتاب (¬2) قول النووي في الكلام على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أن هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات, وقال أيضاً: هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به, وذكرت أيضاً ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن الطرقي أنه قال هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع. قال الحافظ: وفيه رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها انتهى. وفي هذه القاعدة العظيمة أبلغ رد على الكاتب الذي يحاول أن يحدث في المسلمين عيداً سنوياً لم يأذن به الله ولم يكن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين ولا من عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان, وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) ص: 65 - 67. (¬2) ص: 67.

ذكر الأمور الجائزة من اللهو واللعب

الفرقة الناجية من هذه الأمة بأنهم من كان على مثل ما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم, ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم يحتفلون بالمولد النبوي ولا بشيء من الأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام ولم يجعلوا لها أعياداً وطنية سنوية, وإنما كانوا يحتفلون بصلاة الجمعة وبيوم الفطر ويوم النحر, وكانوا يحتفلون بيوم عرفة وأيام التشريق إذا كانوا مع الحجاج, وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الوجه الرابع أن يقال: أن اللهو واللعب إنما يكون في حين الطفولة لأن الأطفال ضعيفة عقولهم فلا يرون باللهو واللعب بأساً ولا يستقبح ذلك منهم, فأما ذووا اللحى الذين قد دخلوا في سن الكهولة وكثر الشيب في رءوسهم ولحاهم فإن ميلهم إلى اللهو واللعب قبيح جداً لما في ذلك من التشبه بالأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف, ومن استحسن اللهو واللعب من ذوي اللحى فذلك دليل على ضعف عقله وأن عقله لم يزل على حالته في حين الطفولة وقد قال الله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا} فلا يأمن الكاتب أن يكون له نصيب من هذا الذم, ويستثنى من اللهو ما أذن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسابقة على الخيل والإبل والأقدام والمصارعة وتعليم السباحة وما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثاً رميه عن قوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق» رواه الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي. وهذا المستثنى يجوز للرجال الكبار

كلام شيخ ابن تيمية في تحريم ما يتلهى به البطالون ونحوه للخطابي

ولا يستقبح فعله منهم, وما سواه مما لم يرخص فيه الشارع فهو خفة ورعونة ولا يجوز فعله, قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي كله حرام, وللخطابي في هذا المعنى كلام نحو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. الوجه الخامس أن يقال: إن الله تعالى لم يخلق بني آدم ليلهو ويلعبوا في الحدائق والمنتزهات وإنما خلقهم لعبادتهم قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فمن آثر اللهو واللعب على العبادة فقد خالف أمر الله تعالى وتعرض لعقوبته. الوجه السادس أن يقال: من اتخذ يوما من الأيام يحتفل به سنويا فقد اتخذه عيداً وإن سماه باسم اليوم الوطني أو غير ذلك من الأسماء المستحدثة فاسم العيد لازم له لأن العيد إنما سمي بهذا الاسم لعوده في وقته من الأسبوع أو الشهر أو السنة. قال ابن دريد في «جمهرة اللغة»: العيد كل يوم مجمع واشتقاقه من عاد يعود كأنهم عادوا إليه, وقال آخرون: بل سمي عيداً لأنهم قد اعتادوه وإذا جمعوا قالوا أعياد. وقال ابن منظور في «لسان العرب»: العيد كل يوم فيه جمع, ثم ذكر نحو ما ذكره ابن دريد من الاشتقاق. ونقل عن ابن الأعرابي أنه قال: سمي العيد عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد, وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم»: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعَوْد السنة أو بعَوْد الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك انتهى. وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد

حصر الأعياد الزمانية في سبعة أيام وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق الثلاثة, وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في أول الكتاب فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على الكاتب الذي لم يقتنع بالأعياد المشروعة للمسلمين, بل ذهب يطالب بالاحتفال باليوم الوطني وبالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام, وهو وإن كان قد سماها احتفالات فهي في الحقيقة أعياد يُضَاهى بها أعياد المسلمين, ولا شك أن إحداث الأعياد الزائدة على الأعياد المشروعة للمسلمين يدخل في عموم قول الله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} والأدلة على ذلك كثيرة, منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة» وإذا كان الاحتفال باليوم الوطني وبالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام خارجاً عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فلا بُدَّ أن يكون داخلاً في عموم ما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونص على أنه بدعة وضلالة. ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وفي رواية «وكل ضلالة في النار» وإذا كان الاحتفال باليوم الوطني وبالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام خارجاً عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بُدَّ أن يكون داخلاً في عموم المحدثات التي ذمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونص على أنها بدعة وضلالة وأنها في النار. ¬

(¬1) ص: 77 - 79.

ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وإذا كان الاحتفال باليوم الوطني وبالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام خارجاً عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بُدَّ أن يكون داخلاً في المحدثات والأعمال التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بردها. ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» وإذا كان الاحتفال باليوم الوطني وبالأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام خارجاً عما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن يكون مستنداً إلى اتباع الهوى وذلك ينافي الإيمان كما يدل عليه صريح النص من هذا الحديث. وقد قال الله تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وفي هذه الآية دليل على أن اتباع الهوى ضلال وظلم وسبب للحرمان من الهداية, فليحذر الكاتب أن يكون له نصيب مما جاء في هذه الآية الكريمة وهو لا يشعر. والأحاديث المذكورة في هذا الوجه ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وهي بعض من الأحاديث التي يحتج بها الخطباء وغيرهم من العلماء على المنع من الاحتفال بالمولد النبوي وأيام المآتم وغيرها من البدع, وهي من أوضح البراهين على المنع من الاحتفال باليوم الوطني والأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام فليتأملها الكاتب حق التأمل فعسى الله أن يزيل الختم عن قلبه وسمعه فيراجع الحق وينصره عوضاً عن نصره لبدعتي المولد والمأتم وجداله بالباطل عنهما ومطالبته بإحداث ¬

(¬1) تراجع ص: 65 - 68.

أعياد لليوم الوطني والأيام التي كان لها ذكر في تاريخ الإسلام, وينبغي له أن يربأ بنفسه عن الاتصاف بصفات المنافقين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويبغضون ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مخالفاً لأهوائهم ويصدون عنه صدوداً ويحصل لهم النفور والتضايق من إيراد الأحاديث الدالة على المنع من الاحتفال بالمولد النبوي والمآتم, ويظهرون الملل من سماع النهي عن هذه البدع وعن غيرها من البدع التي يطالب الكاتب بإحداثها. الوجه السابع أن يقال: إن الأعياد الزمانية للمسلمين ليست عيدين فقط لا ثالث لهما كما قد زعم ذلك الكاتب, وإنما هي سبعة أعياد وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق الثلاثة, وقد جاءت النصوص بذلك في عدة أحاديث صحيحة تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على من زعم أن أعياد المسلمين عيدان فقط لا ثالث لهما. الوجه الثامن أن يقال: إن الخطباء وغيرهم من العلماء الذين ينكرون الاحتفال بالمولد النبوي والمآتم لم يحرموا زينة الله التي أخرج لعباده ولم يحرموا الطيبات من الرزق, وإنما حرموا الاحتفال بالبدع والأعياد التي لم يأذن بها الله ولم تكن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل الصحابة رضي اله عنهم. وعلى هذا فإيراد الكاتب للآية الكريمة من سورة الأعراف في معرض الاعتراض على الخطباء وغيرهم من العلماء الذين ينهون عن البدع والمخالفات وينكرون الاحتفال بالمولد النبوي وإقامة الولائم في المآتم إيراد لا محل له وإنما هو في الحقيقة ¬

(¬1) ص: 77 - 79.

ذكر بعض ما للملك عبدالعزيز من المآثر الجليلة

من تأويل الآية على غير تأويلها. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وفي رواية له, «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي هذا حديث حسن, قال: وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم انتهى. وإذا علم هذا فقد ذكر المفسرون أن الآية من سورة الأعراف نزلت رداً على المشركين الذين يحرمون لبس الثياب في الطواف ويحرمون اللحم والدس في أيام الحج ويحرمون البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} فأمروا بالثياب» رواه الطبراني. فليتأمل الكاتب ما جاء من الوعيد الشديد على القول في القرآن بغير علم, وليتأمل أيضاً ما قاله المفسرون في المراد بالآية الكريمة, ولا يأمن أن يكون له نصيب مما ذم الله به الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. الوجه التاسع أن يقال: إن الكاتب قد أطلق القول بأن الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى هو الذي وَحَّد البلاد العربية. وهذا الإطلاق خطأ كبير لأن الذي وَحَّد البلاد العربية على الحقيقة هو الله وحده لا شريك له, وقد يسر تبارك وتعالى أسباب توحيدها على يدي الملك

عبد العزيز رحمه الله تعالى, وهذا لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة, وقد قال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} فأضاف تبارك وتعالى الفتح إلى نفسه ولم يضفه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أنه قد باشر أسباب الفتح ويسر الله ذلك على يديه وجعله بداية لدخول الناس في دين الله أفواجاً حتى استوسقت الجزيرة العربية إيماناً وتوحدت تحت راية الإسلام قبل موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولم ينقل عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم من أهل العلم أنهم أضافوا توحيد الجزيرة العربية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم أن الذي وحدها هو الله تعالى فيضاف توحيدها إليه لا إلى الذي قد باشر الأسباب في توحيدها وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وهكذا يقال فيما يسره الله تعالى من توحيد الجزيرة العربية في زماننا على يدي الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى فيضاف توحيدها إلى الله تعالى وتضاف مباشرة الأسباب في توحيدها إلى الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى وكفى بهذا شرفاً له وفخراً. وما حصل لأهل الجزيرة العربية بعد توحيدها من الائتلاف والأمن الشامل والطمأنينة ورغد العيش فكله من فضل الله ونعمته وقد قال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين, وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} وقال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وفي هذه الآيات دليل على أنه تجب إضافة النعم إلى المنعم المتفضل بها على عباده وهو الله وحده لا شريك له, فينبغي للمؤمنين أن يكثروا من حمدا الله وشكره والثناء عليه على ما يسره من توحيد الجزيرة العربية بعد

التفرق والاختلاف بين أهلها, وما منّ به عليهم من الائتلاف والأمن الشامل والطمأنينة ورغد العيش, وينبغي أيضاً أن يكثروا من الدعاء بالرحمة والمغفرة للملك الذي جعله الله سبباً في حصول هذه النعم العظيمة. الوجه العاشر أن يقال: إن الكاتب قد اقتصر على ذكر اليسير من مآثر الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى وهو السعي في توحيد الجزيرة العربية وإزالة ما كان بين أهلها من النزاع والقتال والنهب والسلب والأحقاد والثارات حتى يسر الله ذلك له وأتمه على يديه, ولا شك أن هذه أعمال جليلة ينبغي أن يشكر الساعي فيها, وقد أعرض الكاتب عن ذكر المآثر التي لها علاقة بالدين فلم يذكر منها شيئاً. وهي مآثر هامة جداً, فمنها هدم القباب والأبنية التي كانت على بعض القبور في الحرمين الشريفين وفي غير ذلك من بلاد الحجاز وما يليه من اليمن. وقطع الأشجار التي قد افتتن بها بعض الجهال وإزالة ما كان يفعل عندها وعند بعض القبور والأحجار من الشرك ووسائل الشرك, ومنها إزالة البدع التي كانت تفعل في الحرمين الشريفين وفي غيرهما من البلاد المجاورة لهما. ومن أعظمها شراً بدع الصوفية وما يكون منهم من التلاعب بذكر الله تعالى واتخاذه هزواً وسخرية, ومنها بدعة الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً ومنها بدعة الاحتفال بالمآتم وإقامة الولائم فيها, ومنها تفرق المصلين في صلاة الجماعة على أربعة أئمة, كل أهل مذهب لهم إمام منهم, إلى غير ذلك من البدع التي قد يسر الله إزالتها على يد الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى. ومما يسر الله تعالى على يديه أيضاً إزالة المنكرات الظاهرة والحث على المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة وإبطال الضرائب التي كانت تؤخذ من الحجاج وإقامة الحدود على الوجه

الرد على جراءة الكاتب وإساءته الأدب على ولي الأمر وعلى ابن باز وعلى خطيب المسجد الحرام وعلى ما في كلامه عن التلبيس وقلب الحقيقة

المشروع, إلى غير ذلك مما يسره الله تعالى وأتمه على يديه, وله ولأبنائه من الأعمال الجليلة في الحرمين الشريفين خاصة وفي غيرهما من بلاد المملكة العربية عامة ما يشق إحصاؤه ولا يتسع المقام لذكره. فرحم الله الأموات منهم وسدد الأحياء ووفقهم للعمل بما يحبه ويرضاه وجنبهم كل ما يسخط ويدعو إلى غضبه وأليم عقابه, وحماهم من الفتن وحفظهم من كيد الأعداء من المشركين وأهل النفاق والشقاق ونصر بهم دينه وأعلى كلمته, إنه ولي ذلك والقادر عليه. فصل وقال صاحب المقال الباطل: يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بأن اعتراضي على ما قاله خطيب المسجد الحرام باطل لأن ما قاله يعتبر من الأمر بالمعروف. وأنا أتساءل, هل من الأمر بالمعروف أن يعلن من فوق منبر المسجد الحرام ويسمعه المسلمون في كل مكان بأن الاحتفال بالمولد النبوي تشبه باليهود والنصارى, وأن الذين يقيمون هذه الحفلات إما جهلة مقلدون أو مرتزقة فساق وإما دعاة ضلال. وهو وغيره يعلم أن أكثرية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفيهم علماء وفقهاء وأئمة يقيمون هذا الاحتفال لا كعبادة ولا على أنها عمل ديني بل مجرد إحياء لذكرى وتعبير عن الحب واجتماع على ذكر. وأين الباطل؟. اعتراضي على هذا العمل أم هو هذا القول نفسه, ألا يعتبر هذا سباً بل قذفاً لأكثرية المسلمين. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: لا يخفى ما في هذه الجملة السوداء من إساءة الأدب على الشيخ ابن باز وعلى خطيب

المسجد الحرام وعلى ولي الأمر الذي رضي بهذا الخطيب وجعله في هذا المنصب الهام, وقد قيل في المثل المشهور: «من أمن العقوبة أساء الأدب». فأما إساءته إلى الشيخ ابن باز فهو قوله في آخر هذه الجملة «وأين الباطل؟. اعتراضي على هذا العمل أم هو هذا القول نفسه» فجعل الكاتب قول الخطيب في المسجد الحرام في ذم الاحتفال بالمولد النبوي وتأييد الشيخ له هو الباطل, وهذا من قلب الحقيقة لأن كلام الخطيب والشيخ صحيح ولا ينكره إلا مكابر لا يبالي بإنكار الحقائق, وأما كلام الكاتب فهو الباطل في الحقيقة لأنه مبني على التلبيس على ضعفاء البصيرة والجدال بالباطل لإدحاض الحق, ولما فيه أيضاً من المعارضة للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر أمته بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ويحذرهم من محدثات الأمور ويأمرهم بردها ويصفها بالشر والضلالة ويخبرهم أنها في النار, وما عارض أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل مردود على قائله كائناً من كان لأنه لا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما إساءته إلى خطيب المسجد الحرام فهو ظاهر من جراءته على ذم خطبه البليغة والاعتراض على ما يكون فيها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم البدع والتحذير منها ومن جميع المحدثات في الإسلام. وأما إساءته الأدب مع ولي الأمر حفظه الله. فهو ظاهر من جراءته على نشر أباطيله في جريدة الندوة وغيرها وعدم مبالاته بما يسوء ولي الأمر وجميع أهل السنة والجماعة من إظهار البدع والمجاهرة بنصرها والدفاع عنها بالشبه والأباطيل, أما علم الكاتب أن ولي الأمر وفقه الله تعالى كان يحذو حذو والده الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى في المنع من إظهار البدع

وقمع أهلها ومن يريد إظهارها في مملكته. أما علم الكاتب أن الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى قد منع من الاحتفال بالمولد النبوي وولائم المآتم وغيرها من المحدثات في الإسلام من حين استولى على بلاد الحجاز, وإنما فعل ذلك امتثالاً لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحذير من البدع على وجه العموم والأمر بردها. ولم يبلغني عن أحد من علماء مكة ولا من كتابها أنه اعترض على أمر الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى بمنع الاحتفال بالمولد النبوي والمآتم. بل كانوا يحترمون أمره غاية الاحترام ويحترمون العلماء والخطباء في زمانه غاية الاحترام ويعاملونهم بما يليق بهم من التوقير والإكرام. وهذا بخلاف ما كان عليه الكاتب وأشباه له من أهل بلده من عدم احترامهم لولي الأمر وعدم احترامهم لأكبر العلماء في المملكة العربية ولخطباء المسجد الحرام, وفي عدم احترامهم لهؤلاء دليل على عدم احترامهم لولي الأمر الذي قد وثق بعلمهم وجعلهم في المناصب الدينية الهامة. الوجه الثاني أن يقال: لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة أن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً. مبني على التشبه بالنصارى في احتفالهم بمولد المسيح واتخاذه عيداً, وقد قال بعض المفتونين بالاحتفال بالمولد النبوي: إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيداً أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر, وهذا تصريح من هذا القائل بأن المقصود بالاحتفال بالمولد النبوي هو المضاهاة للنصارى والتشبه بهم في الاحتفال بمولد المسيح واتخاذه عيداً, وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: «فمن» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقد

روي نحوه عن عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهم وقد ذكرت جملة من أحاديثهم في أول كتابي المسمى بـ «الإيضاح والتبيين, لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين» فلتراجع هناك. وأما ما فيه من التشبه باليهود فهو أن علماء السوء كانوا يحسّنون للجهال بدعة المولد ويرغبونهم في الاحتفال بها فيطيعهم الجهال ويعملون بهذه البدعة التي لم يأذن الله بها ولم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان, وهذا شبيه بما أخبر الله به عن اليهود والنصارى أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله, وقد روى الترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعته يقرأ: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه» قال ابن الجوزي في تفسيره فعلى هذا المعنى أنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا إنهم أرباب. وقال القرطبي في تفسيره قال أهل المعاني جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء انتهى. وفي رواية لابن جرير أن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم فقال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه» قال: قلت بلى قال: «فتلك عبادتهم». وروى ابن جرير أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «لم يأمروهم أن يسجدوا لهم ولكن أمروهم بمعصية الله فأطاعوهم فسمّاهم الله بذلك أرباباً» وروى ابن جرير أيضاً عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «لم يعبدوهم ولكنهم أطاعوهم في المعاصي» وروى ابن جرير أيضاً عن الحسن: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً} قال في الطاعة, وروى ابن جرير أيضاً عن الربيع بن أنس قال: قلت لأبي العالية كيف كانت

الربوبية التي كانت في بني إسرائيل قال: قالوا ما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ومن هذا الباب طاعة الجهال لعلماء السوء في إقامة بدعة المولد النبوي والاحتفال بها واتخاذها عيداً وعدم المبالاة بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات على وجه العموم والتشديد فيها والأمر بردها فصاروا بهذا متشبهين باليهود والنصارى في طاعة العلماء في معصية الله تعالى ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا علم أن الاحتفال بالمولد النبوي مبني على التشبه بالنصارى حيث كانوا يحتفلون بمولد المسيح ويتخذونه عيداً, فليعلم أيضاً أن التشبه بالنصارى وغيرهم من المشركين حرام شديد التحريم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية إسناده جيد وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن, قال شيخ الإسلام وقد احتج أحمد وغيره بهذا الحديث, قال وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}. وقال شيخ الإسلام أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقاً انتهى. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى» قال ابن مفلح في قوله: «ليس منا» هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى وقال ابن عقيل: النهي عن التشبه

الخوف على هذه الأمة من كل منافق عليم اللسان

بالعجم للتحريم. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع انتهى. وإذا كان التشبه بالنصارى وغيرهم من أعداء الله تعالى حراماً شديد التحريم فإعلان النهي عن ذلك في الكتب والمقالات والخطب وغيرها واجب على حسب القدرة لأن الله تعالى قد حث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آيات كثيرة من القرآن ورغّب في ذلك ووعد عليه الأجر العظيم, وحث على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة جداً ورغب فيه وشدد في تركه مع القدرة, وقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} قال الغزالي: أفهمت الآية أن من هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خرج من المؤمنين, وقال القرطبي: جعله الله فرقاً بين المؤمنين والمنافقين, وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» وما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخلوف أنهم يفعلون ما لا يؤمرون فهو مطابق لحال أهل البدع الذين يفعلون ما لم يؤمروا به من الأعمال التي لم تكن من سنة رسول الله

ذكر الأمور التي تهدم الإسلام

- صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين ولا من عمل غيرهم من الصحابة ولا من عمل التابعين لهم بإحسان. ومن هذه الأعمال المنكرة ما أحدثه الجهال من الاحتفال بليلة المولد النبوي واتخاذها عيداً يعتادونه في كل عام ويضاهون به الأعياد التي شرعها الله للمسلمين, ولا شك أن جهاد هؤلاء واجب بحسب القدرة وأن النهي عن هذه البدعة وإعلان الإنكار لها من فوق المنابر حسن جداً, ولا ينكر النهي عن هذه البدعة وإعلان الإنكار لها من فوق المنابر إلا من كان في قلبه كراهية لأمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بإنكار المنكرات الظاهرة وتغييرها, ومن كان بهذه الصفة فإنه يخشى عليه أن يكون داخلاً في عموم قول الله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}. الوجه الثالث أن يقال: من أقام بدعة المولد واحتفل بها فإنه لا يخلو من أحد أمرين. إما أن يكون جاهلاً لا يدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حذر أمته من المحدثات على وجه العموم وأمرهم برد الأعمال التي ليس عليها أمره, وهذا هو الغالب على المفتونين ببدعة المولد في كثير من الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام وقد قال الله تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} وقد تقدم ما ذكره الشقيري وغيره عنهم من الأفعال الهمجية فليراجع ذلك (¬1). وإما أن يكون مكابراً لا يبالي بمخالفة الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولا يرى بأساً بالعمل بالبدع والمحدثات التي حذر منها رسول الله ¬

(¬1) ص: 159 - 162.

- صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها. وهذا هو الغالب على علماء السوء وأئمة الضلال الذين يقيمون بدعة المولد ويبالغون في الاحتفال بها وينشرون الكتب والمقالات الباطلة في تحسينها والترغيب في إقامتها والاحتفال بها, ويبذلون جهدهم في الرد والإنكار على من ينكر هذه البدعة وينهى عنها. وهذا من المشاقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف على أمته من هذا الضرب الرديء كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي قال: إني لجالس تحت منبر عمر رضي الله عنه وهو يخطب الناس فقال في خطبته: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان» وروى الإمام أحمد أيضاً في الزهد عن الأحنف بن قيس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنت عنده جالساً فقال: «إن هلكة هذه الأمة على يدي كل منافق عليم» وروى الطبراني في الكبير والبزار عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم باللسان» قال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وروى الطبراني أيضاً في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أخاف على أمتي ثلاثاً» وذكر منها جدال منافق بالقرآن. وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث» وذكر منها جدال منافق بالقرآن, وروى الطبراني في الصغير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنات» وذكر منها جدال منافق بالقرآن. وروى الدارمي في سننه وأبو نعيم في الحلية

عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه هل تعرف ما يهدم الإسلام قال: قلت لا. قال: «يهدمه زلة عالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين» وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إنما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن» وروى أبو نعيم في الحلية عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إني أخاف على أمتي من بعدي ثلاثة أعمال» قالوا: وما هي يا رسول الله؟. قال: «زلة عالم وحكم جائر وهوى متبع». قلت: واتباع الهوى هو الغالب على علماء السوء وأئمة الضلالة وأعداء السنة وأهلها من الكتّاب في الصحف والمجلات والمؤلفين في تحسين البدع والترغيب فيها. وهو من المهلكات كما في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاث مهلكات» فذكر الحديث وفيه: «فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» وروى البزار والبيهقي عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وقد قال الله تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} فليحذر الكاتب المفتون وأشباهه مما جاء في هذه الآية والحديثين قبلها ولا يأمنوا أن يكون لهم نصيب وافر من الهلاك والضلال والظلم وحرمان الهداية. وأما قول الكاتب إن أكثرية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يقيمون هذا الاحتفال, لا كعبادة, ولا على أنها عمل ديني. فجوابه أن يقال: قد زعم بعض المفتونين ببدعة المولد أن الاحتفال بالمولد مطلوب شرعاً, وزعم أيضاً أنها بدعة حسنة محمودة,

وزعم أيضاً أنها سنة مباركة. ونقل عن السيوطي أنه قال: إن عمل المولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها. وزعم أيضاً هو ومتبوعه في الضلال أن الاجتماع لعمل المولد أمر مشروع في الإسلام وقاساه على أعمال الحج, وقد ذكرت هذه الأقوال الباطلة ورددت عليها في كتابي المسمى بـ «الرد القوي, على الرفاعي والمجهول وابن علوي. وبيان أخطائهم في المولد النبوي» فلتراجع هناك, وفي هذه الأقوال الباطلة رد على ما تجاهله الكاتب من حال دعاة الضلال الذين يقيمون بدعة المولد ويحسنونها للجهال ويرغبونهم في إقامتها بما يزعمونه من مشروعيتها وأنها بدعة حسنة محمودة وسنة مباركة يثاب عليها صاحبها وقد ذكر أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه «المدخل» عن المفتونين ببدعة المولد أنهم يعتقدون أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر, وفي هذا رد على تمويه الكاتب وقلبه للحقيقة. وقد ذكر رشيد رضا في فتاويه نحو ما ذكره ابن الحاج عنهم وأنهم يجعلونه من قبيل شعائر الإسلام بحيث يظن العوام أنه من القرب المطلوبة شرعاً. وأما قوله: إن الاحتفال بالمولد مجرد إحياء لذكرى وتعبير عن الحب واجتماع على ذكر. فجوابه أن يقال لو كان في الاحتفال بالمولد النبوي أدنى شيء من الخير لكان الصحابة أسبق إليه من غيرهم ولكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين ذلك لأمته ويدلهم عليه. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في صفة الفرقة الناجية من فرق هذه الأمة أنهم الذين كانوا على ما كان عليه هو وأصحابه, فالخير كل الخير في اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسير على طريقة أصحابه رضي الله عنهم. والشر كل الشر في مخالفة السنة وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وإحداث الاحتفالات والأعمال التي لم يكونوا يعملونها ولم تذكر عن أحد في زمانهم.

وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أن إحياء الذكرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون في ليلة المولد وحدها كما يفعله المتفونون بالاحتفال بالمولد النبوي, وإنما يكون في سائر الأوقات. وذلك بالإكثار من قراءة القرآن والتدبر لما جاء فيه من تعظيم الرب تبارك وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وإظهار شرفه على سائر الخلق. وقد ذكرت جملة من الآيات الواردة في تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - في كتابي المسمى بـ «الرد القوي» فلتراجع هناك. وكذلك الإكثار من دراسة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي ذلك أعظم إحياء لذكره - صلى الله عليه وسلم -. وأما التعبير عن الحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما يكون ذلك بالإيمان به واتباع أوامره واجتناب نواهيه والتمسك بسنته ونشر ما دعا إليه, والبعد عما ابتدعه المبتدعون من بعده, وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» وقد تقدم هذا الحديث في البرهان العشرين فليراجع. ومن ادّعى محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مرتكب لما نهى عنه من المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره فهو كاذب في دعواه. وأما الاجتماع على الذكر في ليلة المولد خاصة فهو من المحدثات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعل ذلك ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم. ولو كان خيراً لسبقوا إليه. والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع, وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وفي هذا الحديث أبلغ رد للمحدثات التي أحدثها المفتون بالمولد النبوي.

وأما قوله وأين الباطل؟ اعتراضي على هذا العمل أم هو هذا القول نفسه. فجوابه أن يقال إن الإنسان إذا عميت بصيرته فإن الشيطان يتلاعب به ويصده عن الصراط المستقيم ويزين له قلب الحقائق ويريه الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق. وهكذا كانت حال الكاتب المفتون حيث كان يرى أن من الباطل إعلان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فوق المنبر في المسجد الحرام وأن التحذير من البدع والتشبه بأعداء الله من الباطل. وما يدري الكاتب المفتون أن الباطل في الحقيقة هو اعتراضه على الخطباء الناصحين الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحذرون الناس من البدع والمحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها, ويحذرونهم أيضاً من التشبه بالنصارى الذين يحتفلون بمولد المسيح ويتخذونه عيداً, وإنه لينطبق على الكاتب قول الشاعر: يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن وأما قوله ألا يعتبر هذا سباً بل قذفاً لأكثرية المسلمين. فجوابه أن يقال: إن إعلان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من السب والقذف للمسلمين كما قد توهم ذلك الكاتب المفتون, وإنما هو من النصيحة التي حث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة حيث قال: «الدين النصيحة» قلنا لمن قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث تميم الداري رضي الله عنه, وروى الإمام أحمد أيضاً والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة» ثلاث مرار. قالوا: يا رسول الله لمن قال: «لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, قال: وفي الباب عن ابن عمر وتميم الداري وجرير وحكيم بن أبي يزيد عن أبيه وثوبان رضي الله عنهم. قلت وفي الباب أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول كتابي المسمى بـ «القول المحرر, في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فلتراجع هناك. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وقال أيضاً: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقال أيضاً: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وقال أيضاً: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقال أيضاً: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقال أيضاً: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى» وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع. وقد اشتملت هذه الأحاديث على ذم البدع والمحدثات والتحذير منها والأمر بردها وعلى ذم التشبه باليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الله تعالى والتشديد في ذلك, ودلت بمضمونها على ذم المخالفين للسنة والعاملين بالبدع والمحدثات والمتشبهين بأعداء الله تعالى, وقد قابل الصحابة والتابعون لهم بإحسان أقوال نبيهم - صلى الله عليه وسلم -

الرد على اعتراضه على خطيب المسجد الحرام وشغبه عليه

بالقبول والتسليم, ولم يذكر عن أحد من المسلمين أنه قال في شيء من أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن فيها سباً وقذفاً لأكثرية المسلمين, بل اعتبروا ذلك من النصيحة والتحذير من الشر وأهله. وللخطباء في المسجد الحرام وغيره أسوة حسنة في نبيهم - صلى الله عليه وسلم - , ومن لامهم أو عابهم على الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من البدع والحفلات المحدثة والتشبه بالنصارى في الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً فهو الملوم والمعيب في الحقيقة. فصل وقال صاحب المقال الباطل: وليت خطيبنا المحترم وقف عند هذا الحد من القول, بل يستطرد «أضف إلى ذلك ما يجري فيه - أي الاحتفال بالمولد - من المنكرات والشرك بالله من دعاء الرسول وطلب الحاجات وما يحصل فيه من الاختلاط والإسراف ورفع الصوت بلغو القول» فهل من الأمر بالمعروف إلقاء التهم جزافاً وإرسال الكلام على عواهنه وإطلاق ذلك كله على جميع الاحتفالات بالمولد النبوي. هل ممن الأمر بالمعروف اتهام جميع من يحضرون الاحتفال بالمولد النبوي وهم ملايين المسلمين في جميع أقطار الدنيا وليس العالم الإسلامي وحده فالجاليات المسلمة في أوربا وأمريكا تقيم الاحتفالات في ذكرى المولد النبوي - اتهام كل هؤلاء بالشرك - وما أعظمها تهمة - والابتداع والجهل والارتزاق والاختلاط وإتيان المنكرات. والجواب أن يقال أولاً: إن الخطيب في المسجد الحرام لم يكن أول من تصدى لإنكار ما يجري في الاحتفال بالمولد النبوي من أنواع

المنكرات. بل قد سبقه إلى ذلك غير واحد من العلماء الغيورين حيث أنكروا ما يجري في بدعة المولد من المنكرات والأفعال الهمجية, فمن ذلك قول أبي عبد الله ابن الحاج في كتابه «المدخل» إن المولد قد احتوى على بدع ومحرمات جمة, فمن ذلك استعمالهم الأغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون ببدع ومحرمات, وذكر أيضاً ما يفعل في بدعة المولد من أنواع المنكرات من الغناء والرقص واستعمال آلات اللهو والطرب واختلاط الرجال والنساء وغير ذلك من المنكرات التي ذكرها عنهم وبالغ في ذمها والتحذير منها. ومن ذلك قول تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني في كتابه المسمى بـ «المورد, في الكلام على عمل المولد» قال لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولم ينقل عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين, بل هو بدعة أحدثها البطالون, وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون. ثم قال: إنه إذا انضاف إلى ذلك شيء من الغناء بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات إما مختلطات بهم أو مشرفات والرقص بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو, وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتطريب في الإنشاد فهذا لا يختلف في تحريمه اثنان انتهى. ومن ذلك قول رشيد رضا في بعض فتاويه إن هذه الموالد بدعة بلا نزاع. وقال في جواب له آخر إن البدعة في عمل المولد جعل هذا الاجتماع المخصوص بالهيئة المخصوصة والوقت المخصوص وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام

والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب المطلوبة شرعاً, وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه تعد من شرع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم. فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه كأنه من قواعد العقائد المعلومة من الدين بالضرورة, أليس يعد في هذه الحال وبين هؤلاء الجهال من أكبر كبائر البدع التي قد تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه. فإن الزيادة في ضروريات الدين القطعية وشعائره كالنقص منه يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء به خاتم النبيين عن الله تعالى القائل فيه: {اليوم أكلمت لكم دينكم} فهو تشريع ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له. ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان دينهم ناقصاً أو كفاراً, وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم قد تركوا التضحية في عيد النحر لئلا يظن الناس أنها واجبة. أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه الحفلات المولدية وإن خلت من القبائح واشتملت على المحاسن لئلا يظن العوام أنها من الفرائض التي يأثم تاركها أو يكفر كما يقول بعض مبتدعة العلويين الجاهلين. فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وأقواله وأفعاله كما هو المعهود في أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات, وأما القيام عند ذكر وضع أمه له - صلى الله عليه وسلم - فهو من جملة هذه البدع, وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم انتهى. ومن ذلك قول محمد بن عبد السلام خضر الشقيري في كتابه المسمى بـ «السنن والمبتدعات» «فصل في شهر ربيع الأول وبدعة المولد فيه» لا يختص هذا الشهر بصلاة ولا ذكر ولا عبادة ولا نفقة ولا صدقة ولا هو موسم من مواسم الإسلام كالجمع والأعياد التي رسمها لنا

الشارع صلوات الله وتسليماته عليه وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين, ففي هذا الشهر ولد - صلى الله عليه وسلم - وفيه توفي فلما يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته. فاتخاذ مولده موسماً والاحتفال به بدعة منكرة ضلالة لم يرد بها شرع ولا عقل. ولو كان في هذا خير فكيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة وأتباعهم. ولا شك أنه ما أحدثه إلا المتصوفون الأكالون البطالون أصحاب البدع. وتبع الناس بعضهم بعضاً فيه إلا من عصمه الله ووفقه لفهم حقائق دين الإسلام. ثم أي فائدة تعود وأي ثواب في هذه الأموال الباهظة التي تعلق بها هذه التعاليق وتنصب بها هذه السرادقات وتضرب بها الصواريخ. وأي رضا لله في اجتماع الرقاصين والرقاصات والمومسات والطبالين والزمارين واللصوص والنشالين والحاوي والقرداتي. وأي خبر في اجتماع ذوي العمائم الحمراء والخضراء والصفراء والسوداء أهل الإلحاد في أسماء الله والشخير والنخير والصفير بالغابة والدق بالبارات والكاسات والشهيق والنعيق بأح أح يا ابن المره أم أم ان ان سابينها يا رسول الله يا صاحب الفرح المدا آد يا عم يا عم اللع اللع كالقرود. ما فائدة هذا كله؟ فائدته سخرية الإفرنج بنا وبديننا وأخذ صور هذه الجماعات لأهل أوربا فيفهمون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - - حاشاه حاشاه - كان كذلك هو وأصحابه, فإنا لله وإنا إليه راجعون, ثم هو خراب ودمار فوق ما فيه الناس من فقر وجوع وجهل وأمراض. فلماذا لا تنفق هذه الأموال الطائلة في تأسيس مصانع يعمل فيها الألوف من العاطلين, أو لماذا لا تنفق هذه النفقات الباهظة في إيجاد آلات حربية يقاوم بها أعداء الإسلام والأوطان, وكيف سكت العلماء على هذا البلاء والشر, وبل وأقروه. ولماذا سكتت الحكومة الإسلامية على هذه

المخازي وهذه النفقات التي ترفع البلاد إلى أعلى عليين, فإما أن يزيلوا هذا المنكر وإما وصمتهم بالجهالة انتهى. فليتأمل الكاتب المفتون ما ذكره العلماء من المنكرات التي تفعل في بدعة المولد النبوي وليقارن بينه وبين ما ذكره عن الخطيب في المسجد الحرام, فإن كان الخطيب قد ألقى التهم جزافاً وأرسل الكلام على عواهنه كما زعم ذلك صاحب المقال الباطل فإن العلماء الذين ذكرت أقوالهم قد قالوا أعظم مما قاله الخطيب فليبدأ الكاتب بعيبهم والإنحاء باللائمة عليهم قبل الخطيب, ولينظر إلى ما ذكره رشيد رضا عنهم من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وأقواله وأفعاله, وما ذكره الشقيري عنهم من الإلحاد في أسماء الله ودعاء رسول الله وقولهم فيه يا صاحب الفرح والمداآد, إلى غير ذلك مما ذكره عنهم, وكذلك ما ذكره ابن الحاج والفاكهاني عنهم فهو أعظم بكثير مما ذكره الخطيب عنهم, وكلهم قد أحسنوا في إنكار المنكرات التي تفعل في بدعة المولد النبوي وجاهدوا الخلوف الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يفعلون ما لا يؤمرون. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ويقال ثانياً إن كثيراً من المفتونين ببدعة المولد قد اعتادوا التغني في احتفالهم بالمولد بقصيدة البردة التي نظمها البوصيري في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه وطلب الشفاعة منه والالتجاء إليه واللياذ به عند الشدائد والحوادث. ولا ينفي اشتمالها على الشرك ودعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصرف ما هو من خصائص الربوبية والألوهية له إلا جاهل لا يعرف الحق من الباطل. أو متجاهل متبع للهوى قد

أعمى الله بصيرته. وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في رده على البكري أربعة أبيات من البردة وأنكر على قائلها وقال فيه: ومنهم - أي من المبالغين في الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - - من يقول أسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت. دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت منم لو ناسبت قدره آياته عِظَماً ... أحيا اسمه عين يدعى دارس الرمم انتهى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى, ولا يخفى على من نوّر الله قلبه بنور العلم والإيمان أن قصيدة البردة مشتملة على الشرك بالله تعالى ودعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والالتحاء إليه واللياذ به عند الشدائد وسؤاله ما لا يقدر عليه إلا الله. وقد زعم الناظم أن من جوده الدنيا وضرتها - أي الآخرة - وأن من علومه علم اللوح والقلم. وهذا الغلو والإطراء مردود بقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} وقوله تعالى: {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً. قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً} وقوله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً. وروى الإمام أحمد والبخاري والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله» وروى الإمام أحمد أيضاً

نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إطرائه والغلو فيه

بأسانيد حسنة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله وشئت فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أجعلتني لله عَدْلاً, بل ما شاء الله وحده» وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله» وروى أبو داود بإسناد صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنه قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا فقال: «السيد الله تبارك وتعالى» قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طوْلاً فقال: «قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» وفي رواية: «قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان» وفي رواية: «ولا يستجرينكم الشيطان» وفي رواية قال: «والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله عز وجل». فهذا كله من حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك بالله تعالى. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن إطرائه والغلو فيه وقال: «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» وأنكر على الذي قال له ما شاء الله وشئت وقال: «أجعلتني لله نداً» وأنكر على الذين طلبوا منه

الإغاثة من المنافق. وأنكر على الذين قالوا له أنت سيدنا. فكيف بالذين قد تجاوزوا الحد في إطرائه والغلو فيه. حيث كانوا يتغنون في احتفالهم بالمولد النبوي بقصيدة البردة التي قد اشتملت على الإطراء للنبي - صلى الله عليه وسلم - والغلو الشديد فيه وصرف ما هو من خصائص الربوبية والألوهية له. حيث زعم قائلها والمتغنون بها أنه ليس لهم من يلوذون به عند حلول الحادث العام سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وزعموا أن من جوده الدنيا والآخرة. وزعموا أنه يعلم ما في اللوح - أي المحفوظ الذي قد استأثر الله بعلم ما فيه - وزعموا أنه يعلم ما جرى به القلم - أي قلم القضاء والتقدير - وزعموا أنه إن لم يأخذ بأيديهم يوم القيامة فستزل أقدامهم. إلى غير ذلك مما اشتملت عليه قصيدة البردة من الإطراء والغلو الشديد. ومع هذا فكثير من الجهال وعلماء السوء والضلال قد افتتنوا بها وأكثروا من التغني بها وبما يشبهها من القصائد المشتملة على الغلو والإطراء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» ومن رضي بما اشتملت عليه قصيدة البردة وما شابهها من القصائد المشتملة على اللغو والإطراء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها فهو شريك لقائليها لأن الراضي بالذنب كفاعله. فليتق الله صاحب المقال الباطل. ولا يجعل الخطيب في المسجد الحرام هدفاً لشغبه وجداله بالباطل. ولا ينس أنه سيقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة ويسئل عن تجانفه بالإثم على الخطيب الذي قد بذل جهده في الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة للمسلمين وتحذيرهم من الشرك والغلو والإطراء للنبي

- صلى الله عليه وسلم - وتحذيرهم من البدع التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها. وليحذر الكاتب أن يكون ممن عناهم الله بقوله: {وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} وقوله تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وقوله تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} وقوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}. فصل وقال صاحب المقال الباطل. وهل من لغو القول ترديد الصلاة على رسول الله وإنشاد بعض الشعر في مدحه بدون غلو ولا دعاء له. وقد سمع مثل ذلك رسول الله وفي مسجده من شعراء العرب يوم ذاك كحسان بن ثابت وكعب بن زهير ولم ينكره بل خلع بردته وكساها للشاعر الذي مدحه. والجواب: عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر أمته بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة. ولم يأمرهم بالاجتماع لترديد الصلاة عليه في ذلك اليوم ولا في غيره من الأيام, وكذلك لم يأمرهم بالاجتماع وترديد الصلاة عليه في ليلة مولده ولم يفعل ذلك ولم يفعله أحد في زمانه ولم يفعله أحد من الخلفاء الراشدين المهديين ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم. ولو كان للاجتماع في ليلة المولد النبوي وترديد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة مزية وزيادة فضل على سائر الليالي لبين ذلك رسول الله - صلى الله

الرد على شبه للكاتب وعلى قياسه الفاسد

عليه وسلم - لأمته وندبهم إلى فعله ورغبهم فيه ولكان يفعله هو وأصحابه رضي الله عنهم لأنهم كانوا أسبق إلى الخير وأحرص عليه ممن كان بعدهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وقد تقدم قول النووي (¬1) إن هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. قلت: وهذا الحديث العظيم يهدم كل ما لفقه الكاتب وغيره من المفتونين بالمولد النبوي. وبه يرد كل ما يفعل في ليلة المولد من الاجتماع وقراءة قصة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وترديد الصلاة عليه في تلك الليلة خاصة وإنشاد الأشعار في مدحه وإطرائه والقيام عند ذكر وضع أمه له وغير ذلك من أنواع البدع التي تفعل في تلك الليلة. فكل هذا مردود بالحديث الذي تقدم ذكره. الوجه الثاني: أن يقال إن العبادات مبناها على التوقيف فليس لأحد أن يزيد في الدين شيئاً لم يأذن به الله لأن الله تعالى قد أكمل الدين لهذه الأمة فقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} فمن زاد في الدين شيئاً لم يأذن به الله فزيادته مردودة لأن الله تعالى أمر المؤمنين باتباع ما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم عن اتباع ما سوى ذلك فقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} وهذه الآية الكريمة تدل على المنع من ¬

(¬1) ص: 67.

الاحتفال بالمولد النبوي وعلى المنع مما يخصه المفتونون به من الأعمال التي لم يأمر الله بها في تلك الليلة ولم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثالث: أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخصص ليلة مولده لاستماع الأشعار التي قيلت في مدحه وإنما كان الشعراء ينشدون أشعارهم بحضرته عند وقوع الفتوح والظفر بالأعداء والظهور عليهم. وكذلك كانوا ينشدون عند المناسبات التي تدعو إلى الإنشاد بحضرته - صلى الله عليه وسلم - كما فعل حسان بن ثابت رضي الله عنه حين قدم وفد بني تميم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنشد شاعرهم مفتخراً بمآثر قومه فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يجيبه فأجابه حسان رضي الله عنه وأسكته. وكان إنشاد كعب بن زهير رضي الله عنه لقصيدته المشهورة حين قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على الإسلام. وعلى هذا فليس في إنشاد حسان رضي الله عنه وغيره من الشعراء عند المناسبات وسماع النبي - صلى الله عليه وسلم - لإنشادهم ما يتعلق به صاحب المقال الباطل في تأييد بدعة المولد. وكذلك إنشاد كعب بن زهير رضي الله عنه لقصيدته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدومه عليه ومبايعته له على الإسلام ليس فيه ما يتعلق به الكاتب بوجه من الوجوه. الوجه الرابع: أن يقال إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر على من قال له ما شاء الله وشئت وقال: «أجعلتني لله عدلاً بل ما شاء الله وحده» فكيف لو سمع الذين يتغنون بقول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم لا شك أنه سيجاهد هؤلاء الذين بالغوا في إطرائه وصرفوا له ما هو من خصائص الربوبية والألوهية كما كان يجاهد سلفهم الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يتعلقون بهم في قضاء الحاجات وتفريج الشدائد والكربات. الوجه الخامس: أن يقال إن حسان بن ثابت وكعب بن زهير وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم كانت أشعارهم التي أنشدوها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالية من الغلو والإطراء فضلاً عما هو أعظم من ذلك من الشرك الذي تقدم ذكره في أبيات البردة. وعلى هذا فأي شيء يوجب الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنشدين من أصحابه بحضرته. ولو كان للكاتب أدنى شيء من الفهم لما خفي عليه ذلك. الوجه السادس: أن يقال يظهر من كلام الكاتب أنه لا يرى فرقاً بين أشعار الصحابة التي قد أنشدت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الأشعار التي يتغنى بها كثير من المفتونين ببدعة المولد كالبردة وما أشبهها من القصائد التي لا تخلو من الغلو والإطراء, وبعضها لا يخلو من الشرك بالله. ولهذا ذكر سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعراء العرب كحسان وكعب بن زهير مستشهداً بذلك على جواز ما يتغنى به الجاهلون في بدعة المولد, وهذا من القياس الفاسد. وما أعظم الفرق بين قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: تعاليت رب الناس عن قول من دعا ... سواك إلهاً أنت أعلى وأمجد لك الخلق والنعماء والأمر كله ... فإياك نستهدي وإياك نعبد

الرد على اعتراضه على خطيب المسجد الحرام وشغبه عليه

وبين قول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم إلى آخر الأبيات التي تقدم ذكرها في الوجه الرابع وفيها الشرك الصريح وأما قول حسان فهو توحيد خالص. فصل وقال صاحب المقال الباطل. وهل رأى حضرة الخطيب ذلك بعينيه وشاهده أم نقله إليه ناقل مفتر. ألم يتذكر قول الله تبارك وتعالى - وهو يرسل هذه التهم من أقدس مكان - {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} فهل تبين حضرة الخطيب قبل أن يتهم ويؤذي المؤمنين في عقائدهم وأسماعهم. وهو معترف في خطبته أن الاحتفال بالمولد النبوي قد انتشر وضرب أطنابه في أقطار كثيرة في العالم. ألم يتذكر - وهو من حفظة القرآن - قول الله تعالى: {إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} ألم يتعلم من شيخه وشيخنا وشيخ الإسلام ابن تيمية أسلوب الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف إذ يقول رحمه الله: «أما اتخاذ المواسم غير الشرعية كبعض ليالي من شهر ربيع الأول التي يقال إن فيها ليلة المولد فهي من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها - إلى أن قال - وأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات». هذا هو أسلوب العلماء وأدب الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا شرك ولا ضلال ولا كفر وإنما عدم استحسان ثم تمييز بين من يحتفل بالمولد كعبادة أو يمارس فيه أعمالاً منكرة وبين من يحتفل دون

شيء من ذلك. ونحن مع شيخ الإسلام في كل ما قاله وهو الحق الذين ندين له لأنه فصّل وأوضح ولم يتهم المحتفلين بالمولد بالشرك والضلال والارتزاق والجهل إلخ السباب الذي كاله خطيبنا الكريم من فوق المنبر. وسباب المؤمن فسوق كما في الحديث. والجواب: عن هذا من وجوه أحدها: بيان ما في كلام الكاتب من الأخطاء اللفظية التي تغير المعنى. فمن ذلك قوله في موضعين. ألم يتذكر قول الله تعالى, والصواب أن يقال ألا يَذَكَّر قول الله تعالى لأن المقام مقام تنبيه وحث للمخاطب على التذكر لما جاء في الآيتين. وليس المقام مقام تقرير على أنه قد تذكر ما جاء فيهما. ومن ذلك قوله: ألم يتعلم من شيخه. والصواب أن يقال ألا تعلم من شيخه. ومن ذلك قوله في الآية من سورة الأحزاب: {إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات}. والصواب في الآية {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات}. ومن ذلك قوله وهو الحق الذي ندين له, والصواب أن يقال ندين به. الوجه الثاني: أن يقال قد تقدم ما ذكره ابن الحاج والفاكهاني ورشيد رضا والشقيري عن المفتونين ببدعة المولده فليتأمله الكاتب حق التأمل ولاسيما ما ذكره الشقيري عنهم فإنه أعظم بكثير مما ذكره خطيب المسجد الحرام عنهم, وفيما ذكره هؤلاء العلماء أبلغ رد على قول الكاتب إن خطيب المسجد الحرام يرسل التهم من أقدس مكان ويؤذي المؤمنين في عقائدهم وأسماعهم وأنه يكيل السباب من فوق المنبر. الوجه الثالث: أن يقال إنه لا يتأذى بالكلام في ذم الاحتفال بالمولد وذم ما يكون فيه من منكرات الأقوال والأفعال إلا أصحاب القلوب المريضة الذين قد ألفوا البدع وأشربوا في قلوبهم حبها وحب من يدعو إليها ويرغب فيها وبغض من يذمها ويحذر منها. فأما أهل السنة

والجماعة فإنه يسرهم ما يلقيه الخطباء في المسجد الحرام وغيره من الدعوة إلى الخير والنصيحة للمسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من البدع على وجه العموم ومن بدعة المولد النبوي على وجه الخصوص لأن هذه البدعة قد استطار شرها وعظم الافتتان بها عند كثير من المنتسبين إلى العمل. فضلاً عن العوام, وللخطباء أسوة حسنة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يحذر في خطبه من البدع ويصفها بالشر والضلالة ويقول إن كل ضلالة في النار. وكان يأمر برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره, وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته «من رغب عن سنتي فليس مني» فليتأمل الكاتب هذا الحديث حق التأمل. وليختر لنفسه ما يناسبه من أحد الأمرين اللذين لا بدّ له من أحدهما. إما مقابلة هذا الحديث وما في معناه بالقبول والتسليم وترك البدع والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإما مقابلته ومقابلة ما في معناه من الأحاديث بالاستثقال وقلة المبالاة بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من البدع وأمره بردها. ولا ينس الكاتب قول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو قول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}. الوجه الرابع: أن يقال إن الكاتب قد نقل عن شيخ الإسلام ابن

تيمية رحمه الله تعالى أنه قال. أما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات. ثم قال الكاتب ونحن مع شيخ الإسلام في كل ما قاله وهو الحق الذي ندين له انتهى. وبناء على هذا القول من الكاتب فإني أذكره بما تقدم في كلام ابن الحاج والفاكهاني ورشيد رضا والشقيري, ففيما ذكروه كفاية في بيان المنكرات التي يحتوي عليها الاحتفال بالمولد النبوي, وقد ذكر رشيد رضا أنهم قد جعلوا الاحتفال بالمولد النبوي من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص من الشارع, وقال أيضاً إنه تشريع ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له. وقال أيضاً إن الحفلات المولدية مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وأقواله وأفعاله كما هو المعهود في أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات. وذكر الشقيري عنهم من الهمجية ومنكرات الأقوال والأفعال ما تشمئز منه قلوب أهل الإيمان. فليراجع الكاتب كل ما ذكروه (¬1) وليحقق قوله إنه مع شيخ الإسلام في كل ما قاله وأنه الحق الذي يدين به, ولا ينسى قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. الوجه الخامس: أن يقال إن الكاتب قد زعم أنه مع شيخ الإسلام ابن تيمية في كل ما قاله وأنه الحق الذي يدين به. وهذا في الحقيقة حِبْر على ورق وقول قد خالفه العمل من الكاتب لأنه قد جدّ واجتهد في تأييد بدعة المولد وبذل ما في وسعه في معارضة الذين يذمون هذه البدعة وينهون عنها. ¬

(¬1) 208 - 210.

فإن قال الكاتب إن الاحتفال بالمولد النبوي خالٍ من المنكرات وأنه مجرد إحياء لذكرى وتعبير عن الحب واجتماع على ذكر كما قد صرح بذلك فيما تقدم من كلامه (¬1). فالجواب: أن يقال أولاً إن نفس الاحتفال بالمولد النبوي يعد من المنكرات وإن لم يقترن به شيء آخر منها. والدليل على أنه من المنكرات قول الله تعالى في صفة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} وحيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته بالاحتفال بليلة مولده فإن الاحتفال بها يخرج من مسمى المعروف ويدخل في مسمى المنكر. ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وحيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بليلة مولده ولم يحتفل بها أحد من الخلفاء الراشدين فإن الاحتفال بها يكون من البدع التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفها بالضلالة وأخبر في حديث آخر أنها من شر الأمور وأنها في النار وأمر بردها على وجه العموم. وفي هذا أوضح دليل على أن الاحتفال بالمولد النبوي داخل في مسمى المنكرات التي أخبر الله تعالى أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى أمته عنها. وما وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالشر والضلالة وأخبر أنه في النار وأمر برده فهو من المنكرات وإن لم يقترن به شيء آخر منها. ويقال ثانياً: إن خلو الاحتفال بالمولد النبوي من المنكرات نادر والنادر لا حكم له وإنما الحكم للغالب, والغالب على الاحتفالات ¬

(¬1) ص: 197.

المولدية أنها لا تخلو من المنكرات. وقد تقدم ما ذكره ابن الحاج والفاكهاني ورشيد رضا والشقيري عن الاحتفالات المولدية وما يكون فيها من منكرات الأقوال والأفعال. فليراجع الكاتب ما ذكروه إن كان كما زعم أنه مع شيخ الإسلام ابن تيمية في كل ما قاله وأنه الحق الذي يدين به, وإن اتهم الكاتب هؤلاء العلماء المعروفين بسعة الإطلاع فيما ذكروه عن الاحتفال المولدية كما اتهم خطيب المسجد الحرام فيما ذكره عنها مما هو معلوم بالاستفاضة عند كثير من علماء أهل السنة فليسافر إلى البلاد المجاورة للبلاد العربية وخصوصاً البلاد المجاورة لها من ناحية المغرب وما يتصل بها من البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام وليحضر احتفالهم بالمولد النبوي حتى يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ما يذعره إن كان في قلبه إيمان. أو ما يعجبه إن كان من ذوي القلوب المريضة. وإن قال الكاتب إن الاحتفال بالمولد النبوي لا يقصد به العبادة ولا أنه عمل ديني كما قد زعم ذلك فيما تقدم من كلامه (¬1). فليراجع ما ذكره رشيد رضا عنهم (¬2) أنهم قد جعلوه من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص من الشارع, وقوله أيضاً أنه تشريع ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له. ومن له معرفة برشيد رضا وما له من سعة الاطلاع والمعرفة بما يكون من الاحتفالات المولدية من البدع وأنواع المنكرات لا يشك في صحة ما ذكره عن المحتفلين بالمولد النبوي وأنهم قد اتخذوا الاحتفال به عبادة وعملاً دينياً. ثم إني أحيل الكاتب إلى ما ذكره زميله في الافتتان ببدعة المولد النبوي فإنه قد زعم في مواضع عديدة من كتابه المسمى بـ «الذخائر ¬

(¬1) ص: 197. (¬2) ص: 210.

المحمدية» أن عمل المولد مطلوب شرعاً. وذلك في صفحة 269 وصفحة 270 - 271 وصفحة 272 وصفحة 274. وزعم في صفحة 273 أنه مشروع في الإسلام وقاسه على أعمال الحج وزعم في صفحة 271 أن الاجتماع للمولد سنة. وقال آخر من المفتونين ببدعة المولد والمقلدين لصاحب «الذخائر» في مقال له منشور في جريدة السياسة الكويتية في سنة 1402 هـ إن الاحتفال بالمولد مطلوب شرعاً. وزعم أيضاً أنه سنة مباركة. وزعم أيضاً أن الاجتماع لعمل المولد أمر مشروع في الإسلام وقاسه على أعمال الحج. وإذا كان الأمر قد وصل بالمفتونين بالاحتفال بالمولد إلى اتخاذه عبادة وجعله من شعائر الإسلام ومن السنن والأعمال المطلوبة شرعاً, فما بال الكاتب يتعامى عن ذلك ويستعمل التمويه في كلامه ويقول: إن أكثرية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يقيمون الاحتفال بالمولد لا كعبادة ولا على أنه عمل ديني. أما علم أن العبادة تطلق على كل من الواجبات والمسنونات والمستحبات, فإن كل مع شيخ الإسلام ابن تيمية في كل ما قاله وأنه الحق الذي يدين به فلينكر على صاحب «الذخائر» ما زعمه من سنية الاحتفال بالمولد وأنه مطلوب شرعاً, ولينكر على الكويتي المقلد لصاحب «الذخائر» ما زعمه من سنية الاحتفال بالمولد وقوله إنه سنة مباركة وأنه أمر مشروع في الإسلام, ولينكر على كل من سار على هذه الطريقة السيئة. وإن لم يفعل فليكف أذاه عن خطيب المسجد الحرام وغيره من علماء أهل السنة. ولا ينس قول الله تعالى: {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. الوجه السادس أن يقال: إن النهي عن الاحتفال ببدعة المولد والتحذير مما يكون فيه من منكرات الأقوال والأفعال ليس من السب

الرد على حمله التيسير ورفع الحرج على غير المراد بها

المحرم كما قد توهم ذلك الكاتب المفتون, وذلك لأن الخطيب في المسجد الحرام وغيره من خطباء أهل السنة لم يذكروا أناساً بأعيانهم وإنما كان كلامهم مجملاً وموجهاً إلى كل من خالف السنة وارتكب ما نهى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه من البدع والمنكرات الأقوال والأعمال, وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبه: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. أو يفعلون كذا وكذا». ولو كان هذا من السب المحرم والأذية للمؤمنين في عقائدهم وأسماعهم لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس عنه, وللخطيب في المسجد الحرام وغيره من خطباء أهل السنة أسوة حسنة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فصل وقال صاحب المقال الباطل: إن الإسلام دين اليسر والرفق, وتعاليمه في ذلك واضحة وصريحة {ما جعل عليكم في الدين من حرج} «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» «يسروا ولا تعسروا» {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وإساءة بعض المسلمين في استعمال اليسر والرفق والسماحة لا ينبغي أن يقابل بالتشديد والتعسير والقسوة على جميع المسلمين والتضييق عليهم وتحويل حياتهم إلى جحيم. ولا يسع أن يكون ذلك حجة يمحى بها كلمات اليسر والرفق من قاموس الإسلام بحجة سد الذرائع. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن إيراد الكاتب للآيتين والحديثين ظاهر في أنه أراد بذلك في الاستدلال على أنه ينبغي التسامح في الاحتفال بالمولد النبوي وأن ذلك من التيسير ورفع الحرج المذكورين في الآيتين والحديث وأنه أيضاً من الرفق والسماحة, وأن

ذكر الأشياء التي قد رفع فيها الحرج

النهي عنه من التعسير والحرج والتشديد والقسوة على جميع المسلمين والتضييق عليهم وتحويل حياتهم إلى جحيم. وهذا الاستدلال خطأ ظاهر وهو من القول على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم وذلك من أعظم المحرمات. يوضح ذلك الوجه الثاني وهو أن المراد باليسر ورفع الحرج استعمال الرخص التي رخص فيها الشارع عند الحاجة, قال ابن كثير في الكلام على قول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً. فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً وفي السفر تقصر إلى اثنتين وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث. وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها, والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً فإن لم يستطع فعلى جنبه. إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات انتهى. وقال البغوي معناه أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه. وقيل من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم وسع الله عليكم حتى تتيقنوا. وقال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم عند فقد الماء وأكل الميتة عند الضرورة والإفطار بالسفر والمرض والصلاة قاعداً عند العجز عن القيام, وهو قول الكلبي, وروي عن ابن عباس أنه قال الحرج ما كان

ذكر المراد باليسر ونفي العسر

على بني إسرائيل من الأعمال التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة انتهى. وقال القرطبي في تفسيره: اختلف العلماء في الحرج الذي رفعه الله تعالى فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت يمينك. وقيل المراد قصر الصلاة والإفطار للمسافر وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه والغريم ومن له والدان, وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل. وروي عن ابن عباس والحسن البصري أنه هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم, وكذلك الفطر والأضحى. وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سُئل يوم النحر عن أشياء فما يُسئل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: «افعل ولا حرج» انتهى. وأما قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} فالمراد به إباحة الفطر في المرض والسفر كما يدل على ذلك سياق الآية الكريمة. وقد روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} قال: «اليسر الإفطار في السفر والعسر الصيام في السفر» وروى أيضاً عن الضحاك بن مزاحم مثله. وروى أيضاً عن مجاهد قال هو الإفطار في السفر وجعل عدة من أيام أخر. وقال البغوي قوله تعالى: {يريدُ الله بكم اليسر} بإباحة الفطر في المرض والسفر. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فليس فيه ما يدل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي بوجه

بيان معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»

من الوجوه لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به قط, وقد نهى عن محدثات الأمور على وجه العموم وأمر بردها على وجه العموم. والاحتفال بالمولد من المحدثات فيجب اجتنابه عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق على صحته: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم». قال النووي في شرح مسلم: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن وإذا وجب إزالة المنكرات أو فطرة جماعة ممن تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك وأمكنه البعض فعل الممكن وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن وأشباه هذا غير منحصرة وهي مشهورة في كتب الفقه, وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» فهو على إطلاقه فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك فهذا ليس منهياً عنه في هذا الحال انتهى. وقال النووي أيضاً في «شرح الأربعين» قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» أي اجتنبوه جملة واحدة لا تفعلوه ولا شيئاً منه انتهى. وقال ابن رجب في كتابه المسمى «جامع العلوم والحكم» قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا

بيان معنى قوله «يسروا ولا تعسروا»

أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» قال بعض العلماء هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والأمر قيد بحسب الاستطاعة. وروي هذا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى انتهى. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يسروا ولا تعسروا» فالمراد به التيسير وعدم التعسير في الأمور الواجبة وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» قال الطبري فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في «كتاب الأدب» من «فتح الباري» المراد بالأمر بالتيسير فيما كان من النوافل مما كان شاقاً لئلا يفضي بصاحبه إلى الملل فيتركه أصلاً أو يعجب بعمله فيحبط وفيما رخص فيه من الفرائض كصلاة الفرض قاعداً للعاجز والفطر في الفرض لمن سافر فيشق عليه انتهى. وفيما ذكرته عن العلماء في بيان المراد من الآيتين والحديثين أبلغ رد على الكاتب الذي قد حمل كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - على غير المراد منهما وخالف أقوال المفسرين وغيرهم من أكابر العلماء في ذلك. فليتأمل الكاتب أقوالهم حق التأمل لعل الله ينور بصيرته ويوفقه لاتباع الحق واطراح الباطل, وليتأمل أيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وليقابل الحديثين بالقبول والتسليم وليعلم أنه لا غضاضة عليه في الرجوع إلى الحق والاعتراف بالخطأ فقد اعترف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخطئه على رءوس الأشهاد وقال وهو على المنبر «أصابت امرأة وأخطأ عمر» وذلك حين نهى الناس عن المغالاة في

رفع الحرج إنما هو للمستقيمين على منهاج الشريعة

مهور النساء فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول: {وآتيتم إحداهم قنطاراً من ذهب} وكذلك هي في قراءة عبد الله ابن مسعود فقال عمر: «إن امرأة خاصمت عمر فخصمته» رواه أبو يعلى وابن المنذر وغيرهما من طرق عن عمر رضي الله عنه. وقد عد العلماء رجوع عمر إلى الحق واعترافه بخطئه على رءوس الأشهاد من مناقبه. وللكاتب أسوة حسنة في أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. الوجه الثالث: قال القرطبي في تفسيره قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع, وأما السلّابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين انتهى. قلت: ومن هذا الباب العمل ببدعة المولد وغيرها من محدثات الأمور لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذر منها ووصفها بالشر والضلالة وأخبر أنها في النار وأمر بردها. وما كان بهذه المثابة ففي العمل به حرج شديد لما يترتب على ذلك من مخالفة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتكاب نهيه. الوجه الرابع أن يقال: إن التسامح إنما يكون في الأمور الدنيوية وما لا يخل بالدين, فأما الشرك والبدع والمعاصي فلا يجوز التسامح فيها, بل يجب إنكار ما ظهر منها وتغييره بحسب القدرة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون

الرد على تخطيطه لإعلان بدعة المولد

بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» وفي هذين الحديثين أبلغ رد على من حاول التيسير ورفع الحرج عن الذين يعملون بدعة المولد ولم يبال بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من البدع وأمره بردها ولا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه». فصل وقال صاحب المقال الباطل: وإذا كان في برامج الاحتفال بالمولد النبوي مخالفات أو منكرات فلماذا لا نحاول تنقية الاحتفالات من هذه المخالفات ونضع برامج جديدة سليمة لأمثال هذه الاحتفالات ونقيم نموذجاً ندعو الناس إليه ويحقق لهم ما يصبون إليه من لحظات روحية لا يمارس فيها إلا كلّ مشروع مباح من الذكر والدعاء واستذكار لأخلاق الرسول وأعماله وآدابه وسيرته. لماذا لا يشارك التلفزيون بتقديم هذه الحفلات النموذجية ليتخذها الناس قدوة ويتعلمون منها ويقيمون مثلها أو يكتفون بالجلوس إلى التلفزيون فليس كل الناس يريدون المسلسلات والمسرحيات, وليكن التلفزيون مشتركاً بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: إن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة. والبدع كلها من المنكرات ولو لم يقترن بها شيء آخر من منكرات الأقوال أو الأفعال, وقد صرح كثير من أكابر العلماء بأن عمل المولد بدعة, وقد ذكرت أقوالهم في كتابي المسمى بـ «الرد القوي» فلتراجع هناك, وقال رشيد

رضا: هذه الموالد بدعة بلا نزاع. وقال ابن الحاج إنه بدعة وإن خلا من المفاسد. قلت وكثير من المفتونين ببدعة المولد يعترفون بأنها بدعة ولكنهم يقولون إنها بدعة حسنة, وليس على استحسانهم لها دليل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم, وإنما استحسنوها متابعة لأهوائهم وما وجدو عليه آباءهم وشيوخهم ومن يعظمونهم من أهل بلادهم وغير بلادهم. ومن زعم أن الاحتفال بالمولد النبوي إذا كان خالياً من المفاسد ومنكرات الأقوال والأفعال فليس ببدعة فلا يخلو من أحد أمرين, إما كثافة الجهل بما تدل عليه عمومات الأحاديث التي سيأتي ذكرها, وإما المكابرة والاستهانة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم الجمعة: «إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وليست المخالفة لأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلة المبالاة بها من الأمور اليسيرة وإنما هي من الأمور الخطيرة لأن الله تعالى قد حذر من مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوعد على ذلك بالوعيد الشديد ونفى الإيمان عن فاعله فقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك

فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}. الوجه الثاني أن يقال: إن الكاتب المفتون بالبدع لم يقتصر على تحسين بدعة المولد النبوي. بل ذهبت به الجراءة السيئة إلى التخطيط لإعلان هذه البدعة ووضع البرامج الجديدة لها ولأمثالها من الاحتفالات المبتدعة وإقامة نموذج منها يدعو الناس إليه ويزين لهم ما توهّم أنه من اللحظات الروحية وهو في الحقيقة مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته وما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان, ويدعو أيضاً إلى مشاركة التلفزيون بتقديم الحفلات المبتدعة, وهذا في الحقيقة من الدعاء إلى الضلالة وإلى إحياء البدع التي قد أزيلت على يد الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى منذ أن استولى على البلاد التي تقام فيها بدعة المولد وغيرها من البدع, وسوف لا يتم للكاتب تخطيطه السيء ومحاولته لإظهار البدع في البلاد العربية إن شاء الله تعالى لأن ولاة الأمور في الجزيرة العربية ليسوا من أهل البدع ولا ممن يؤيد البدع وأهلها, وإنما هم من أهل السنة, وأهل السنة لا يستجيزون العمل بالبدع والأعمال التي لم يكن عليها الأمر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه رضي الله عنهم. الوجه الثالث أن يقال: إن الدعاء إلى إحياء البدع وإظهارها بين المسلمين صريح في المشاقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حذر من البدع غاية التحذير ووصفها بالشر والضلالة وأخبر أنها في النار وأمر بردها على وجه العموم ولم يستثن شيئاً منها وقد قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}.

نموذج من قلة الحياء عند الكاتب ومحاولته إحياء البدع وإظهارها

الوجه الرابع أن يقال: إن كلام الكاتب في تحسين بدعة المولد والتخطيط لإعلانها ووضع البرامج الجديدة لها ولأمثالها من الاحتفالات المبتدعة ودعوة الناس إلى ذلك ظاهر في عدم اكتراثه بما يترتب على ذلك من حمل أوزاره كاملة ومن أوزار الذين يضلون بسببه قال الله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون}. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال النووي سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقاً إليه. الوجه الخامس: أن يقال من كان يصبو إلى استذكار أخلاق الرسول وأعماله وآدابه وسيرته فليضع له حلقة في المسجد لدرس ذلك على الدوام أو في كثير من الأيام ولا يجعل ذلك خاصاً بليلة المولد لأن ذلك لم يشرع فيها. فتخصيصها بذلك من البدع. فصل وقال صاحب المقال الباطل: لقد جربنا المنع والحرب لهذه الحفلات أكثر من نصف قرن فلم نفلح, فلنجرب التصحيح والتنظيم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فذلك في نظرنا أجدى وأنجح. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: إن رسول الله

حديث «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»

- صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. والمعنى على أحد الأقوال أن من لا يمنعه الحياء يقول ويفعل ما يشاء ولا يبالي. وهكذا كانت حال الكاتب المفتون بالبدع حيث ألقى عنه جلباب الحياء وطالب بإعادة الحفلات المبتدعة التي قد منع منها الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى من حين استولى على البلاد التي كانت تفعل فيها. وإنما منع منها الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى عملاً بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع والأمر بردها. فجزى الله الملك عبد العزيز خير الجزاء على هذا العمل الطيب وعلى غيره من أفعاله الحسنة التي من أهمها نصر السنة وأهلها وقمع البدع وأهلها, والله المسئول أن يوفق ولاة الأمر من أبنائه للأخذ على أيدي المسيئين الذين يريدون إظهار البدع في البلاد المقدسة بعد المنع منها وتطهير البلاد من أدناسها. الوجه الثاني: أن يقال: إن السعي لإحياء البدع وإظهارها بعد المنع منها يُعَدّ من السعي في الأرض بالفساد وقد قال الله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} قال القرطبي في تفسير هذه الآية إنه سبحانه نهى عن كل فساد قَلَّ أو كثر بعد إصلاح قَلَّ أو كثر فهو على العموم على الصحيح انتهى. وقال البغوي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله. وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي. وذكر ابن الجوزي في تفسير الآية أقوالاً أحدها لا تفسدوا بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة.

الوجه الثالث: أن يقال: إن التخطيط لإعلان بدعة المولد ووضع البرامج الجديدة لها ولأمثالها من الاحتفالات المبتدعة ليس فيه تصحيح ولا تنظيم يعود بالخير والفلاح والنجاح كما قد توهم ذلك الكاتب المفتون بالبدع. وإنما هو من التخطيط والتلبيس على العوام وأشباههم من ضعفاء البصيرة, وهو أيضاً من الأعمال التي تعود بالمضرة على الدين وأهله كما جاء بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن غضيف بن الحارث الثمالي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة» وهذا يدل على شؤم البدع وعظم مضرتها على الدين وأهله وذلك لما يقع بسببها من رفع السنن عن المسلمين. وروى أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده إلى سفيان الثوري أنه قال: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها» وما كان بهذه المثابة فلا شك أنه من الشر ومن أسباب الخسران المبين. ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم الجمعة: «وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وما كان متصفاً بهذه الصفات الذميمة التي نص عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يقول عاقل إنه أجدى للفلاح والنجاح وأنه طريق إلى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإنما يقوله من زُين له سوء عمله فرآه حسناً. الوجه الرابع: أن يقال: إن الفلاح والنجاح إنما يحصل لمن كان متبعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومتمسكاً بسنته وتاركاً لما حذر منه من البدع والضلالات وما نهى عنه من المعاصي والمخالفات. وقد وعد الله تعالى على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل خير وتوعد من شاقه وخالف أمره بالوعيد الشديد فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقال تعالى: {وأطيعوا

تعريضه بذم الخطباء والوعاظ والدعاة في المسجد الحرام وأنهم ليس لهم زاد من توجيهات الإسلام وآدابه، وتعريضه أيضا بالاعتراض على الملك حفظه الله في توليته إياهم

الرسول لعلكم ترحمون} وقال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} وقال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} وقال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} وقال تعالى متوعداً لمن شاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخالف أمره: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فلا يأمن الكاتب أن يكون له نصيب وافر مما جاء في هاتين الآيتين لأنه قد تعرض لذلك بأفعاله السيئة حيث أنه قد جدّ واجتهد في تحسين بدعة المولد والدعاء إليها والجدال عنها بالباطل. ولم يقتصر على هذه الأفعال السيئة بل جاوزها إلى التخطيط لإظهارها وإظهار غيرها من الاحتفالات المبتدعة ورأى في نظره أن ذلك أجدى له وأنجح من محاربتها والمنع منها, ولا يخفى ما في أقواله وتخطيطاته السيئة من صريح المعارضة لأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي حذر فيها من البدع ووصفها بالشر والضلالة وأخبر أنها في النار وأمر بردها بدون استثناء شيء منها, فليتق الله صاحب المقال الباطل ولا يكن عوناً للشيطان على الدعاء إلى البدع وتحسينها للجهال ومن لا بصيرة لهم في الدين ولا ينس قول الله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد}. فصل وقال صاحب المقال الباطل: وأخيراً فإن الإسلام أو أدب الإسلام وخلق الإسلام وكل تعاليم الإسلام تفرض علينا فرضاً ألا نرسل الخطباء والوعاظ والدعاة بغير زاد من توجيهات الإسلام وآدابه,

ومن يفعل ذلك سيسأله الله عن أمة محمد كيف يوسد أمراً من أمورها إلى غيره أهله. والجواب أن يقال: إن صاحب المقال الباطل لم يقتصر على تحسين بدعة المولد والدعاء إليها وإلى غيرها من الاحتفالات المبتدعة والمطالبة بإعادتها بعد المنع منها وتطهير البلاد المقدسة من أدناسها. بل إنه ذهب يعرّض بالخطباء في المسجد الحرام والوعاظ والدعاة فيه بأنهم قد أُرسلوا بغير زاد من توجيهات الإسلام وآدابه. ويعرّض أيضاً بولاة الأمر بأنهم قد وَسَّدوا الأمر في الخطابة والوعظ والدعوة إلى غير أهله, ويفهم من فحوى كلامه في هذه الجملة الأخيرة أنه قد أراد بها الاعتراض على الملك حفظه الله تعالى بأنه قد ولّى الخطابة في المسجد الحرام لمن لا يرضى بهم الكاتب ولا يصلحون في نظره للخطابة لأنهم ينكرون الاحتفال بالمولد النبوي وينكرون إقامة الولائم في المآتم وينكرون جميع الاحتفالات المبتدعة التي قد فُتن بها الكاتب وأشباهه من ذوي القلوب المريضة بحب البدع, وهذا هو السبب الذي من أجله شن الكاتب الحملة على الخطباء في المسجد الحرام وبذل جهده في معارضتهم وتأنيبهم على الصدع بالحق وترك المداهنة له ولأشباهه من أهل البدع. وقد وصف خطبهم ومواعظهم بالبرودة والأوصاف التي هي أليق به وبكلامه, فهل يظن الكاتب أنه أعلى نظراً من الملك الذي اختارهم للخطابة في المسجد الحرام بعدما تحقق صلاحيتهم لهذا المنصب الهام الذي لا يتولاه إلا ذوو التحصيل من العلم وتوجيهات الإسلام وآدابه, وقد شهد لهم أهل العدل والإنصاف من أهل العلم بالتفوق في الخطابة والوعظ والدعوة إلى الله تعالى وبذل النصيحة للمسلمين وأمرهم بالمعروف ونهيم عن المنكر وتحذيرهم من المحدثات التي قد حذر منها رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - ووصفها بالشر والضلالة وأمر بردها, فجزى الله الملك على اختياره لهؤلاء الخطباء الناصحين خير الجزاء ووفقه للأخذ على أيدي المسيئين إليهم. وقبل الختام ندعو للكاتب ولمن كان على شاكلته أن يلهمهم الله رشدهم ويردهم إلى الحق والصواب. ونسأله تعالى أن يعيذنا جميعاً من اتباع خطوات الشيطان وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 5/ 6/ 1406 هـ.

§1/1