الرد على الجهمية والزنادقة

أحمد بن حنبل

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم كلمة الناشر الحمد لله القائل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين} [فصلت: 33] ، وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمل إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". [مسلم: 1613] وقال صلى الله عليه وسلم: "الدال على الخير كفاعله". [صحيح الجامع: 3399] . قال ابن القيم -رحمه الله- في جلاء الأفهام، ص249: فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم، والناس تبع لهم، والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهكذا المبلغون عنه من أمته، لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له. وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلّغ عنه ولو حديثًا، وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، ولأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس. أما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. أ. هـ. لذا أخذت دار الثبات للنشر والتوزيع على عاتقها نشر ما تقوم به الحجة، وتظهر به المحجة، وتزول به المعذرة: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ

يَتَّقُون} [الأعراف: 164] ، فكان هذا الكتاب: الرد على الجهمية والزنادقة، لإمام السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه- سهمًا في نحور الزنادقة والجهمية وأشياعهم. ولقد اعتنى به وحققه تحقيقًا علميًا الأخ صبري بن سلامة شاهين، فقام على إخراجه والعناية به، فأحسن وأجاد، فنسألك اللهم أن تجزيه خيرًا على ما صنع في دنياه وأخراه. وهنا نحن في دار الثبات نكمل المسير ونقدم الخير ونهدي النور للحيارى ونزجي لهم الزاد العلمي والروحي من خلال ما تتولى الدار إصداره ونشره وتوزيعه. ولقد سبق بحمد الله وفضل أن أخرجنا مجموعة طيبة ونافعة من الكتب السلفية التي تعد نبراسًا في طريق دعوتنا وعملنا، منها: عمدة الأحكام الصغرى، وعمدة الأحكام الكبرى، وفتاوى حول بعض الكتب، وشبهات وإشكالات حول بعض الأحاديث. وفي الطريق مختصر زاد المعاد، ومختصر سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وغيرها من الإصدارات القيمة، التي نسأل الله عز وجل أن تحوز على رضا القراء وطلبة العلم والعلماء، وأن تكون من العلم النافع والعمل الصالح، هذا ما نرجوه ونتطلع إليه، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. الناشر

باب المقدمات

باب المقدمات مقدمة التحقيق ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد الله القائل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] والقائل سبحانه: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون} [الروم: 31] القائل عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] وأصلي وأسلم على النبي الرحمة المهداة محمد بن عبد الله القائل: "فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بعدة ضلالة" 1 والقائل صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 2. ورحم الله الأوزاعي حين قال: عليك بأثر من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك بالقول.

_ 1 أخرجه مسلم "رقم 867". 2 أخرجه أحمد 4/ 126، 127، وأبو داود "رقم 4607" والترمذي "رقم 2676"، وابن أبي عاصم في السنة "رقم 54" والحاكم 1/ 97 وابن حبان كما في الموارد رقم 102 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في ظلال الجنة.

ورحم الله عمران القصير حين قال: إياكم والمنازعة والخصومة، وإياكم وهؤلاء الذين يقولون: أرأيت أرأيت؟ ورضي الله عن عمر الفاروق القائل: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى. وها هو إمام السنة -رحمه الله- الإمام المبجل أحمد بن حنبل الأعلم بالسنة يتصدى لأولئك النفر الذين خلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم: الزنادقة والجهمية. في رسالته القيمة التي فند فيها مزاعم أهل الزيغ والضلال، ولم يأت الإمام أحمد ببدع من القول، بل كان على عهد من سلفه من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتابعيهم رضي الله عنهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمام السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله، قد ماتوا قبل المحنة، فلما وقعت محنة الجهمية: نُفاة الصفات، في أوائل المائة الثالثة1 على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق- ودعو الناس

_ 1 جاء في حاشية منهاج السنة النبوية "2/ 602": قلت: والعجب أن الشارح ابن تيمية مع تبحره، وتتبعه وإحاطته بأخبار الأولين أخطأ بهذا، إذ التهجم كان أقدم من هذا التاريخ بكثير وكان ولادة إمامنا أبي حنيفة سنة ثمانين ووفاته سنة خمسين ومائة، وقد اشتهر مذهب جهم بن صفوان الترمذي في عهد أبي حنيفة رضي الله عنه ... ثم قال محقق منهاج السنة الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله: وابن تيمية يقول: إن الجهمية =

إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخرو الرافضة، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور، فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى تهددوا بعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم، وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة، وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوا مدة، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يومًا بعد يوم، ولم يأتوا بما يوجب موافقته لهم، بل بيَّن خطأهم فيما ذكروه من الأدلة. ثم قال ابن تيمية رحمه الله: وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام، ورفع الله قدر هذا الإمام، فصار إمامًا من أئمة السنة وعلمًا من أعلامها؛ لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيانه لخفي أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيًا1. وقال ابن تيمية رحمه الله: هذا مع العلم بأن كثيرًا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته عن

_ = حدثت في أواخر عصر التابعين وإن أول الجهمية الجعد بن درهم المقتول نحو سنة 118هـ، وإنما صار للجهمية ظهور وشوكة في أوائل المائة الثالثة. وانظر كلامه في درء تعارض العقل والنقل 5/ 244، 245. 1 منهاج السنة النبوية "2/ 601-606".

الصابئين والمشركين، فهؤلاء كفار في الباطين، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضا1. وقال أيضًا رحمه الله: وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة: فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد. وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة. وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة1. وقال أيضًا رحمه الله: ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام، أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة، وأنَّ استوى

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "12/ 497". 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "3/ 350".

بمعنى استولى ونحو ذلك هو الجعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم1. وقال أيضًا رحمه الله: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفيرُ الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، ففيه جحود الرب، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وقال غير واحد من الأئمة: إنهم أكفر من اليهود والنصارى، يعنون من هذا الجهمية، ولهذا كفَّروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب، ونحو ذلك من صفاته2. وربما يسأل سائل: لماذا هذا الكتاب بعينه؟ مع ما فيه من إشكال؟! أقول: إن نشر هذا الكتاب وتحقيقه وفتح مغاليقه لهو من الجهاد

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "5/ 20". 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية "12/ 486، 487".

في سبيل الله، وإن كنت حرمت أو عجزت عن الجهاد بالسيف والسنان فلا أحرم أو أعجز عن الجهاد بالقلم واللسان، فقد بَيَّن ذلك ووضحه أتم إيضاح شيخ الإسلام عليه من الله الرحمة والرضوان، حيث قال: ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء1. وقال رحمه الله: والداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعقوبته تكون تارة بالقتل وتارة بما دونه ... ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته، فلابد من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية "28/ 231، 232".

الله به ورسوله. والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة: كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة. وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: هما صنفان فاحذرهما: الجهمية والرافضة، فهذان الصنفان شرار أهل البدع1. قال عبد الله بن المبارك: الجهمية كفار زنادقة. وقال سلام بن أبي مطيع: هؤلاء الجهمية كفار. وقال إبراهيم بن طهمان: الجهمية كفار. وقال عبد الوهاب الوراق: الجهمية كفار زنادقة مشركون. وقال يزيد بن هارون: هم والله زنادقة عليهم لعنة الله. وقال خارجة بن معصب: كفرت الجهمية في غير موضع من كتاب الله. وقال عبد الحميد الحماني: جهم كافر بالله. وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي: بشر المريسي وأبو بكر الأصم كافران حلالا الدم. وقال قتيبة بن سعيد: بشر المريسي كافر. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو كان الأمر إليّ لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد يقول: القرآن مخلوق، إلا ضربت عنقه وألقيته.

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "35/ 413-415".

وقال أيضًا: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وقال إبراهيم بن أبي نعيم: لو كان لي سلطان ما دفن الجهمية في مقابر المسلمين. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: لا نصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق، هؤلاء كفار. وقال سلام بن أبي مطيع: هؤلاء الجهمية كفار ولا يصلى خلفهم. وقال عبد الله بن المبارك: من قال: القرآن مخلوق، فقد طلقت منه امرأته. وقال خارجة بن مصعب: الجهمية كفار، بلغوا نساءهم أنهن طوالق1. وقال البخاري رحمه الله: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم2. ولكن هل يكفر الجهمية بأعيانهم؟ أي أن كل من اعتقد باعتقاد الجهمية أو قال بقولهم يكون كافرًا بعينه؟

_ 1 الإبانة "1/ 100، 101" وانظر: نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي العنيد "1/ 579-589" والشريعة للآجري "1/ 497-509". 2 خلق أفعال العباد "رقم 53" وانظر: بيان تلبيس الجهمية "2/ 82".

يجيب عن السؤال ويدفع هذا الإشكال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: إن المقالة تكون كفرًا: كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يكفر بجحد شيء مما أنزل على الرسول، إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول. ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه ولما أنزل الله على رسوله1. وقال أيضًا رحمه الله: وسبب هذا التنازع -يعني تنازع أهل السنة في تكفير الجهمية بأعيانهم- تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرًا، فيتعارض عندهم الدليلان. وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع. كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر. اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، ويبين هذا أن الإمام أحمد وعامة

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "3/ 354".

الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثرمن تكلم بهذا الكلام بعينه ... ثم قال: وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق. وأن الله لا يُرى في الآخرة. وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفَّر به قومًا معينين. فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل. فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفر بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم.1 وقال أيضًا رحمه الله: وإذا عرف هذ فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذ المقالة لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين. مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسملين وإن أخطأ وغلط تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة2.

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "487/12-489". 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "500/12".

وقال أيضًا رحمه الله: فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفِّرون كل من لم يكن جهميًّا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر ... ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب. ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع1. أما الإشكال الذي في هذا الكتاب، وهو أن بعض أهل العلم شكك في نسبة هذا الكتاب إلى الإمام أحمد رحمه الله2، بل إن

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام "488/12-489". 2 كالإمام الذهبي -رحمه الله- ذكر أنه موضوع على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ولم يأت بدليل على ذلك، بل قال: لعله قاله. ومأخذ الإمام الذهبي على هذا الكتاب أن فيه كلامًا لا يصدر عن مثل الإمام أحمد. وهذا لا يكفي في إهدار نسبة هذا الكتاب للإمام =

البعض ينفي أن يكون الإمام أحمد كتب كتابًا غير المسند، وهذا فيه تجوز ونظر، زاعمين أنه كان ينهى عن تأليف الكتب. أقول: نعم كان ينهى عن تأليف الكتب ومجالسة أهل البدع والرد عليهم، ولكن كان هذا في أول الأمر، ثم لمَّا تغيرت الأحوال وتترس الباطل بقول السلطان كان لابد من التصدي لهذا الباطل ودحره وإبطاله. قال الدارمي رحمه الله: فحين خاضت الجهمية في شيء منه وأظهروه وادعوا أن كلام الله مخلوق، أنكر ذلك ابن المبارك، وزعم أنه غير مخلوق فإنّ من قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا} مخلوق فهو كافر. حدثنيه يحيى الحماني عن الحسن بن الربيع عن ابن المبارك، فكره ابن المبارك حكاية كلامهم قبل أن يعلنوه، فلمَّا أعلنوه أنكر عليهم وعابهم ذلك. وكذلك قال ابن حنبل: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء، فلما أظهروه لم نجد بدًّا من مخالفتهم والرد عليهم1. ورسالة "الرد على الجهمية والزنادقة" التي نحن بصدد الحديث عنها فأقول: إن من فضل الله عليَّ أن يسَّر لي العمل في هذه الرسالة

_ = أحمد، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. 1 نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد "537/1، 538".

فهذا شرف لي عظيم ومنة كبرى أن أوفق لخدمة تراث هذا الإمام العلم إمام السنة -رحمه الله- فأسألك اللهم أن تحشرني وإياه تحت لواء سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله وإياكم ممن تحيا بهم السنن، وتموت بهم البدع، وتقوى بم قلوب أهل الحق، وتنقمع بهم نفوس أهل الأهواء بمنِّه وكرمه1. إن اعتماد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وتلميذه ابن قيم الجوزية -رحمه الله- على هذه الرسالة في تقرير عقيدة أهل السنة في كتبهم لهو أكبر دليل على صحة نسبة هذه الرسالة لإمام أهل السنة -رحمه الله- ولو قلنا غير هذا لشككنا في هذا الحق المثبوث في كتب هذين الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم حيث اعتمدا على رسالة مكذوبة، بل هي صحيحة النسبة كصحة نسبة صاحبها لإمامة أهل السنة والجماعة، فلله الحمد من قبل ومن بعد. وأقول: لو تتبعت كل المواضع التي ذكرت فيها هذه الرسالة أو أخذ منها واستشهد بما فيها لطال المقام، ولكن أكتفي بذكر ما تيسر لي وهو غير قليل، ولو تتبعت لوقفت على كثير. 1- منهاج السنة النبوية، طبع جامعة الإمام بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، رحمه الله، 484/2-486. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو اعتراض قديم من اعتراضات

_ 1 من دعاء محمد بن الحسين الآجري في كتاب الشريعة "274/1".

نفاة الصفاة، حتى ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية، فقال: "قالت الجهمية لمّا وصفنا الله بهذه الصفات: إن زعمتم أن الله لم يزل ونوره والله وقدرته ... إلى قوله: فكذلك الله، وله المثل الأعلى وهو بجميع صفاته إله واحد"1. ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا الذي ذكره الإمام أحمد يتضمن أسرار هذه المسائل، وبيان الفرق بين ما جاءت به الرسل من الإثبات الموافق لصريح العقل وبين ما تقوله الجهمية وبين أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه. أ. هـ. وقال في موضع آخر، 2/ 568: فهذا مما تنفيه الجهمية نفاة الصفات، وهو مما أنكر السلف والأئمة نفيهم له، كما ذكر ذلك أئمة المسلمين المصنفين في الرد على الجهمية، كالإمام أحمد رضي الله عنه في رده على الجهمية2. وفي نسخة أخرى لمنهاج السنة النبوية طبع دار الكتب العلمية وضع حواشيه وخرج آياته وأحاديثه عبد الله محمود محمد عمر، 108/3. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه

_ 1 هذا النقل يقابل من نسخة الدكتور عبد الرحمن عميرة "ص 133، 134" ومن نسخة الشيخ إسماعيل الأنصاري "ص 49، 50". 2 منهاج السنة النبوية "568/2".

من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله. قال: الحمد الله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل.... أ. هـ. 2- الرسالة التدمرية، مع شرحها التحفة المهدية طبع دار الوطن، ص 259. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكروه على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله....إلخ. وقال الشارح الشيخ فالح بن مهدي آل مهدي: وقد صنف الإمام أحمد كتابًا في الرد على هؤلاء وسمَّاه: "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله" فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير معناه. ثم قال: وهذا الكتاب هو مما ألفه الإمام أحمد بن حنبل في حبسه، وقد ذكره عنه الخلال في كتاب السنة والقاضي أبو يعلى وأبو الفضل التميمي وأبو الوفاء بن عقيل وغير واحد من أصحابه. ثم ذكر الشيخ فالح قطعة كبيرة من الكتاب1. 3- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، طبع دار المسلم تحقيق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، حفظه الله، 800/2-801.

_ 1 التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية "ص 260-262".

قال شيخ الإسلام رحمه الله: والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، فليس اسم الله متناولاً لذات مجردة عن الصفات أصلاً، ولا يمكن وجود ذلك، ولهذا قال أحمد -رحمه الله- في مناظرته للجهمية: لا نقول الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، ولكن نقول: الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد1. 4- جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، طبع دار الوطن للنشر والتوزيع، ص 95. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم فذكر لهم الإمام أحمد -رحمه الله- من المعارضة والنقض ما يبطلها، وقد تكلم الإمام أحمد في رده على الجهمية في جواب هذا، وبَيَّن أن لفظ الغير لم ينطق به الشرع لا نفيًا ولا إثباتًا2. 5- درء تعارض العقل والنقل، أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، طبع دار الكتب العلمية ضبطه وصححه عبد اللطيف عبد الرحمن،377/1، 378. قال شيخ الإسلام رحمه الله: قال أحمد في ردِّه على الجهمية:

_ 1 انظر: الرد على الجهمية طبعة الأنصاري "ص 49" وطبعة د. عميرة "ص 133". 2 جاء في حاشية الكتاب: قال شيخ الإسلام في منهاج السنة "69/3": إن الإمام أحمد صنفه وهو في محبسه.

باب ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلّم موسى ... إلى قوله: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله1. ثم علق ابن تيمية رحمه الله على هذا النقل فقال: وقال الإمام أحمد: وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ... إلى قوله: ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة2. في: 380/1، 381 ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- نقلاً آخر فقال: ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية. ثم ذكر الخطبة. وفي: 407/2، 408 قال ابن تيمية رحمه الله: قال الإمام أحمد: باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى ... إلى قوله: ولا نقول: إنه كان لا يعلم حتى خلق علمًا فعلم3. ثم قال: قال الإمام أحمد: قالت الجهمية: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى ... إلى قوله: فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد 4.

_ 1 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص 130، 131". 2 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص 132، 133". 3 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص 130-133". 4 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص 133، 134".

ثم ذكر خطبة الكتاب في: 409/2. ثم ذكر نقلاً آخر، 410/2 فقال: قال أحمد: وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث ... إلى قوله: وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية1. ثم ذكر نقلاً آخر في: 415/2 فقال رحمه الله: قال الإمام أحمد عن الجهمية: فإن سألهم الناس عن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ... إلى قوله: ولا يشعر أنهم لا يقولون قولهم إلا فرية في الله2. وفي: 174/3-176 قال شيخ الإسلام رحمه الله: وممن ذكر ذلك الإمام أحمد فيما خرّجه في الرد على الزنادقة والجهمية، قال: بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش ... إلى قوله: رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة3. وذكر شيخ الإسلام نقلاً آخر في: 177/3، 178 فقال رحمه الله: فأبطل الإمام أحمد هذا القول أيضًا فقال: بيان ما ذكره الله في القرآن من قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُم} وهذا على وجوه ... إلى قوله: فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله جل ثناؤه4.

_ 1 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص101-105". 2 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص105، 106". 3 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص135-139" ويوجد بها سقط استدركته من نسخة الشيخ الأنصاري "ص52، 53" ودرء تعارض العقل والنقل "176/3". 4 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص 140-142" وفي نسخة الشيخ الأنصاري "ص 54، 55".

وفي" 9/4 قال شيخ الإسلام رحمه الله: قال أحمد فيما كتبه: ثم إن الجهمي ادعى أمرًا آخر، فقال: أنا أجد آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق ... إلى قوله: كما يقال: عبد الله وسماء الله وأرض الله1. 6- تفسير سورة الإخلاص، طبع دار الريان للتراث والدار السلفية بومباي الهند، تحقيق الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد. قال شيخ الإسلام، رحمه الله "ص153، 154": قال الإمام أحمد في خطبته في الرد على الجهمية والزنادقة. وذكر الخطبة. وفي: 239 قال رحمه الله: وكلام الإمام أحمد وغيره من السلف يحتمل أن يراد به هذا، فإن أحمد ذكر في رده على الجهمية أنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه ... ثم قال: وكذلك قال أحمد في ترجمة كتابه الذي صنفه في الحبس، وهو: الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله. وفي: ص 274، قال شيخ الإسلام رحمه الله: كما قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله. وفي: ص 317، قال رحمه الله: قال أحمد: قالوا: لا تكونون

_ 1 هذا النقل يقابل في نسخة د. عميرة "ص 123-125" وفي نسخة الشيخ الأنصاري "42، 43".

موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء ... إلى قوله: ولكن نقول: لم يزل عالِمًا قادرًا مالكًا لا متى ولا كيف1. 7- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أو نقض تأسيس الجهمية، طبع دار القاسم بتصحيح وتكميل وتعليق الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله. قال شيخ الإسلام، رحمه الله، 139/1: وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية، كما ذكره الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مناظرة جهم للسمنية وهم من الدهرية2. وقال رحمه الله في، 315/1: كما قال الإمام أحمد -رحمه الله- في رده على الجهمية لما ذكر عنهم ما وصفوه من السلوب وأنهم قالوا: كل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه ... إلى قوله: إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرونه3. وقال رحمه الله في: 318/1-319، 53/2-54، 350/2-351: وقد ذكر الإمام أحمد -رحمه الله- أصل هذا النقل لما ذكر مبدأ حدوث الجهمية في هذه الملة، فقال: وكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من الترمذ، وكان صاحب خصومات

_ 1 يقابل هذا النقل في نسخة د. عميرة "ص 133، 134" وفي نسخة الشيخ الأنصاري "ص 49". 2 المناظرة موجودة في نسخة د. عميرة "ص 102، 103" وفي نسخة الشيخ الأنصاري "ص 27، 28". 3 يقابل هذا النقل في نسخة د. عميرة "105، 106".

وكلام ... إلى قوله: وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا 1. وانظر أيضًا، 393/1، 419. وقال في، 463/1، 464: وممن نبه عليه الإمام أحمد قال في رسالته في: الرد على الزنادقة والجهمية، فقالت الجهمية لنا لما وصفنا هذه الصفات ... إلى قوله: وله المثل الأعلى بجميع صفاته إلى واحد2. وانظر أيضًا: 466/1، 467، 474. وانظر أيضًا بيان تلبيس الجهمية: 12/2، 53، 56، 57، 60، 350، 519، 534، 542، 546، 548، 549، 551. 8- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن محمد القاسم رحمه الله. قال ابن تيمية رحمه الله في، 496/5: وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في الرد على الجهمية. قال ابن تيمية رحمه الله في، 440/12، 441: إن الإمام أحمد صنف، الرد على الزنادقة والجهمية، وهو في الحبس وكتبه بخطه. وقال أيضًا رحمه الله في، 317/16: كما قال أحمد في خطبته: الحمد الله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ... 9- الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لابن بطة العكبري، طبع دار الراية، تحقيق: د. يوسف بن عبد الله الوابل

_ 1 يقابل هذا النقل في نسخة د. عميرة "ص102-104". 2 يقابل هذا النقل في نسخة د. عميرة "ص 133، 134".

الكتاب الثالث، الرد على الجهمية. يقول المحقق الدكتور يوسف الوابل حفظه الله، 169/1، 170: مصادر ابن بطة في كتابه الإبانة: الإمام ابن بطة من العلماء الأثريين الذين يعتمدون على الكتاب السنة وأقوال الصحابة والتابعين وعامة أقوال السلف، ولهذا فقد تأثر الإمام ابن بطة بمن سبقه من علماء السلف تأثرًا واضحًا، وخاصة الإمام أحمد بن حنبل، فنجده ينقل كثيرًا من أقواله بالسند المتصل إلى الإمام، ويجعل ذلك أصلاً يعتمد فيه على الاستدلال بعد الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم. وعامة هذه الآثار التي يوردها نجدها في كتب من سبقه من أهل السنة والجماعة، فينقلها المؤلف بالسند المتصل إلى أصحاب هذه الكتب، ومن هذه الكتب: كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد. وذكر المحقق -حفظه الله- غير ذلك من مصادر ابن بطة في كتابه الإبانة. وقد اقتبس ابن بطة -رحمه الله- من رسالة الإمام أحمد الكثير، فانظر لذلك، 86/2-89، يقابل في نسخة د. عميرة: 101-104، 157/2، 160. الموافق لنسخة الدكتور عميرة، ص: 106-108. وكذا في: 166/2، 167 يقابل في الرد نسخة د. عميرة، ص: 112، 113.

وكذا في 170/2، 171 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 114، 115. وكذا في 175/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 133، 134. وكذا في 179/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 110. وكذا في 183/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 120. وكذا في 195/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 143، 144. وكذا في 197/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 130. وكذا في 198/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة 123-125. وكذا في 202/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 145. وكذا في 301/2 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 130، 131. وكذا في 3/ 3-5 يقابل في الرد نسخة د. عميرة ص 128، 129. 10- الفهرست لابن النديم. طبع دار المعرفة، اعتنى بها وعلق عليها الشيخ إبراهيم رمضان، ص: 281. قال رحمه الله: أحمد بن حنبل، وهو أبو عبد الله أحمد بن حنبل وله من الكتب: كتاب العلل، كتاب التفسير، كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب الزهد، كتاب المسائل، كتاب الفضائل، كتاب الفرائض، كتاب المناسك، كتاب الأيمان، كتاب الأشربة، كتاب طاعة الرسول، كتاب الرد على الجهمية، كتاب المسند. 11- اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن قيم الجوزية رحمه الله،

طبع مكتب الرشد، إعداد وتحقيق الدكتور عواد عبد الله المعتق، انظر: ص: 220-213. قال ابن القيم رحمه الله: قال الخلال: كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله وكتبه عبد الله من خط أبيه. واحتج القاضي أبو يعلى في كتابه: إبطال التأويل، بما نقله منه عن أحمد، وذكر ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن أحمد، ونقل منه أصحابه قديْمًا وحديثًا ونقل منه البيهقي، وعزاه إلى أحمد، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحمد، ولم يسمع من أحد من متقدمي أصحابه ولا متأخيرهم، طعن فيه، فإن قيل هذا الكتاب يرويه أبو بكر عبد العزيز غلام الخلال عن الخلال عن الخضر بن المثنى عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، وهؤلاء كلهم أئمة معروفون إلا الخضر بن المثنى، فإنه مجهول فكيف تثبتون هذا الكتاب عن أحمد برواية مجهولة، فالجواب من وجوه. أحدها: أن الخضر هذا قد عرفه الخلال وروى عنه كما روى كلام عن أبي عبد الله عن أصحابه وأصحاب أصحابه، ولا يضر جهالة غيره له. الثاني: أن الخلال قد قال: كتبته من خط عبد الله بن أحمد وكتبه عبد الله من خط أبيه. والظاهر أن الخلال إنما رواه عن الخضر؛ لأنه أحب أن يكون متصل السند على طريق أهل النقل، وضم ذلك إلى الوجادة، والخضر كان صغيرًا حين سمعه من عبد الله، ولم يكن من المعمرين المشهورين بالعلم ولا هو من الشيوخ، وقد روى الخلال عنه

غير هذا في جامعه1. ثم قال رحمه الله: ومما يدل على صحة هذا الكتاب ما ذكره القاضي أبو الحسين ابن القاضي أبي يعلى، فقال: قرأت في كتاب أبي جعفر محمد بن أحمد بن صالح بن أحمد بن حنبل، قال: قرأت على أبي صالح بن أحمد بن حنبل هذا الكتاب، وقال: هذا كتاب عمله أبي في محبسه2 ردًّا على من احتج بظاهر القرآن وترك ما فسره رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وما يلزم اتباعه3.

_ 1 اجتماع الجيوش الإسلامية "ص 208، 209". 2 في الأصل: "مجلسه"، والصواب: محبسه كما ثبت ذلك عند ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة النبوية "108/3" ومجموع الفتاوى "440/12، 441". 3 اجتماع الجيوش الإسلامية "ص 210، 211".

ترجمة الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد، أبو عبد الله إمام المحدثين، الناصر للدين، والمناضل عن السنة، والصابر في المحنة، مروزي الأصل، قدمت أمه بغداد وهي حامل، فولدته، ونشأ بها، وطلب العلم، وسمع الحديث من شيوخها، ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، فكتب عن علماء ذلك العصر. توفي أبوه محمد بن حنبل وله ثلاثون سنة فوليته أمه1. ولد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة. قال أبو بكر المروزي: قال لي أبو عبد الله: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم أختلف إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة2. وطلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة 3. أما عِلْمه وإمامته في الدين: فقد قال إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له

_ 1 تاريخ بغداد 412/4. 2 سير أعلام النبلاء 185/11 ومناقب الإمام أحمد ص 44. 3 مناقب الإمام أحمد ص 46.

علم الأولين والآخرين من كل صنف1. وقال الشافعي: أحمد إمام في ثماني خصال: إمام في الحديث، وإمام في الفقه، وإمام في اللغة، وإمام في القرآن، وإمام في الفقر، وإمام في الزهد، وإمام في الورع، وإمام في السنة2. وقال صالح وعبد الله ابنا أحمد بن حنبل: إن أباهما كتب بخطه ألف ألف حديث. وقال أبو زرعة لعبد الله بن أحمد: أبوك يحفظ ألف ألف حديث3. وقال عبد الله بن داود الخريبي: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه، وكان بعده أبو إسحاق الفزاري أفضل أهل زمانه. قال نصر بن علي: وأنا أقول: كان أحمد بن حنبل أفضل أهل زمانه ... وقال قتيبة: لولا الثوري لمات الورع، ولو أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين. قلت: "القائل هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن شبويه": تضم أحمد بن حنبل إلى أحد التابعين؟ فقال: إلى كبار التابعين ... وقال أيضًا قتيبة: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إماما

_ 1 سير أعلام النبلاء 188/11. 2 طبقات الحنابلة 5/1. 3 سير أعلام النبلاء 188/11، وتاريخ بغداد 419/4.

الدنيا ... وقال الميموني: سمعت علي بن المديني يقول: ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قام أحمد بن حنبل. قال: قلت له: يا أبا الحسن ولا أبو بكر الصديق؟! قال ولا أبو بكر الصديق، إن أبا بكر الصديق كان له أعوان وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب1. وقال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدًا أتقى ولا أورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل ... وقال أحمد بن سعيد الدارمي: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل2. وقال علي بن المديني عن أحمد بن حنبل: هو أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيد كان له نظراء، وأن هذا ليس له نظير. وقال: إن الله أيد هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة3. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل،

_ 1 تاريخ بغداد 417/4، 418. 2 تاريخ بغداد 419/4. 3 مناقب أحمد بن حنبل 148، 149.

وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة، كان أحمد أفقههم1. وقال قتيبة بن سعيد: إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة وجماعة2. وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مخالفون؛ لأن الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم3. وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام ... وقال سفيان بن وكيع: أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد فهو عند فاسق ... وقال أبو الحسن الطرخاباذي الهمداني: أحمد بن حنبل محنة، به

_ 1 مناقب الإمام أحمد 151. 2 مناقب الإمام أحمد 111. 2 انظر: بيان تلبيس الجهمية 15/2، 334/2.

يعرف المسلمون من الزنديق. أما مؤلفاته: فهي كثيرة، أشهرها المسند، وهو يشتمل على ما يقارب أربعين ألف حديث، وكتاب الزهد، وفضائل الصحابة، والعلل ومعرفة الرجال، والورع، والرد على الجهمية1. والسنة، والصلاة وكتب المسائل برواية ابنه عبد الله، وابنه صالح، وأبي داود السجستاني، وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ، وإسحاق بن منصور الكوسج، ورواية أبي القاسم، وغير ذلك كثير، قاربت الخمسين كتاباً أو تزيد. أما شيوخه: الذين روى عنهم في المسند مائتان وثمانون ونيف، كما ذكره الحافظ الذهبي في السير2. وحدَّث عنه شيوخه، الشافعي وعبد الرزاق. أما تلاميذه: فهم كثير، لا يحصون عددًا، ولكن أبرزهم وأشهرهم: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي3. وأما محنته في مسألة خلق القرآن: فقد تعرض لأصناف التعذيب وأنواع التهديد والتنكيل ما لم يتعرض لمثله أحد. فقد دعا المأمون إلى القول بخلق القرآن، ولكنه مات قبل أن يناظر الإمام أحمد، وعندما تولى المعتصم سجن الإمام أحمد قرابة ثلاثين شهرًا، وضرب ظهره

_ 1 ذكره ابن النديم في الفهرست "ص 281". 2 سير أعلام النبلاء 180/11، 181. 3 مناقب الإمام أحمد 115-124، وسير أعلام النبلاء 181/11.

بالسياط، وثبت ثبوت الجبال الشوامخ، وخرج من المحنة كالذهب الخالص ولم يستعمل التَّقِيَّة، بل لم تأخذه في الله لومة لائم. قال ابن كثير: وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة، وقيل خمسة: أحمد بن حنبل، وهو رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجند بسابوري ومات في الطريق، نوح بن حماد الخزاعي وقد مات في السجن، وأبو يعقوب وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن، وكان مثقلاً بالحديد، وأحمد بن نصر الخزاعي1. وقال ابن تيمية: فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة من لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وغيره، وبعضهم بالتشريد والنفي2. أما وفاته: فقد توفي -رحمه الله- في يوم الجمعة الموافق الثاني عشر من ربيع الأول سنة 241هـ عن سبع وسبعين سنة، وكانت جنازته حافلة مشهودة، بلغ من حضر من الرجال ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألف امرأة3.

_ 1 البداية والنهاية 35/10. 2 مجموعة فتاوى شيخ الإسلام 439/12. تاريخ بغداد 422/4.

ذكر شيء من محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- وحجاجه لابن أبي دؤاد وأصحابه بحضرة المعتصم1 قال ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء، قال: حدثنا أبو نصر -عصمة بن أبي عصمة- قال: حدثنا أبو العباس -الفضل بن زياد- قال: حدثنا أبو طالب -أحمد بن حميد- قال: "قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا طالب! ليس شيء أشد عليهم مما أدخلت عليهم حين ناظروني، قلت لهم: علم الله مخلوق؟ قالوا: لا. قلت: فإن علم الله هو القرآن. قال الله عز وجل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [أل عمرن: 61] . وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145] هذا في القرآن في غير موضع من العلم. وحدثني أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو جعفر -محمد بن الحسن بن بدينا- قال: حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: "قال لهم -يعني: المعتصم-: كلموه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فقلت: ما تقول في علم الله؟ فسكت.

_ 1 هذا العنوان من الإبانة 249/2.

قال: فقال لي بعضهم: قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فالقرآن أليس هو شيئًا؟ فقلت: قال الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء} [الأحقاف: 25] فهل دمرت إلا ما أتت عليه. فقال لي بعضهم: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدث إلا مخلوقًا؟ قال: فقلت لهم: قال الله عز وجل: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولا لام". حدثنا أبو عمرو -حمزة بن القاسم- قال: حدثنا حنبل، قال: حدثنا أبو عبد الله بنحو هذه القصة، قال: "فقلت لهم: هذا نكرة، فقد يكون على جميع الذكر، والذكر معرفة وهو القرآن". وأخبرني أبو عمرو 1-عثمان بن عمر الدراج- قال: حدثنا أبو بكر -أحمد بن محمد بن هارون الخلال- قال: كتب إليّ أحمد بن الحسين الوراق -من الموصل - قال: حدثنا بكر بن محمد بن الحكم عن أبيه عن أبي عبد الله، قال: سألته عما احتج به حين دخل على هؤلاء، فقال: "احتجوا عليَّ بهذه الآية: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] أي: أن القرآن محدث، فاحتججت عليهم بهذه الآية: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] قلت: فهو سماه الذكر وقلت: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فهذا يمكن أن

_ 1 في الإبانة 250/2: "عمر" والمثبت هو الصواب، انظر: تاريخ بغداد 305/11، رقم 6098.

يكون غير القرآن محدث، ولكن {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فهو القرآن، ليس هو محدثًا؛ قال: فبهذا احتججت عليهم. واحتجوا عليَّ: ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم من آية الكرسي، قال: فقلت له: إنه لم يجعل آية الكرسي مخلوقة، إنما هذا مثل ضربه، أي: هي أعظم من أن تخلق، ولو كانت مخلوقة لكانت السماء أعظم منها، أي: فليست بمخلوقة. قال: واحتجوا عليَّ بقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فقلت: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] فخلق من القرآن زوجين، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء} [النمل: 23] فأوتيت القرآن؟ فأوتيت النبوة؟ أوتيت كذا وكذا؟ وقال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء} [الأحقاف: 25] فدمرت كل شيء؟ إنما دمرت ما أراد الله من شيء، قال: وقال لي ابن أبي دؤاد أين تجد أن القرآن كلام الله؟ قلت: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] فسكت. وقلت له بين يدي الرئيس، وجرى كلام بيني وبينه، فقلت له: اجتمعت أنا وأنت: أنه كلام. وقلت: إنه مخلوق، فهاتوا الحجة من كتاب الله أو من السنة؛ فما أنكر ابن أبي دؤاد ولا أصحابه أنه كلام. قال: وكانوا يكرهون أن يظهروا أنه ليس بكلام فيشنع عليهم". حدثنا حمزة بن القاسم، قال: حدثنا حنبل؛ قال: "قال

أبو عبد الله: وكان إذا كلمني ابن أبي دؤاد لم أجبه ولم ألتفت إلى كلامه، فإذا كلمني أبو إسحاق، ألنت له القول والكلام. قال: فقال لي أبو إسحاق: لئن أجبتني لآتينك في حشمي وموالي، ولأطأن بساطك: ولأنوهن1 باسمك، يا أحمد! اتق الله في نفسك، يا أحمد! الله الله. قال أبو عبد الله: وكان لايعلم ولايعرف، ويظن أن القول قولهم، فيقول: يا أحمد إني عليك شفيق. فقلت: يا أمير المؤمنين! هذا القرآن وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخباره، فما وضح من حجة صرت إليها. قال: فيتكلم هذا وهذا. قال: فقال ابن أبي دؤاد انقطع وانقطع أصحابه: والذي لا إله إلا هو؛ لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة وألف ومائة ألف عددًا مرارًا كثيرة. قال أبو عبد الله: وكان فيما احتججت عليهم يومئذ، قلت لهم: قال الله عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] ، وذلك أنهم قالوا لي: أليس كل ما دون الله مخلوق؟ فقلت لهم: فرق بين الخلق والأمر، فما دون الله مخلوقًا، أما القرآن، فكلامه ليس بمخلوق. فقالوا: قال الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ

_ 1 في الإبانة "253/2": ولا نوهن. وما ذكرته هو الصواب.

فَيَكُونُ} [النحل: 40] . فقلت لهم: قال الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّه} [النحل: 1] فأمره كلامه واستطاعته ليس بمخلوق، فلا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فقد نهينا عن ذلك". قال حنبل: "وقال أبو عبد الله: واحتججت عليهم فقلت: زعمتم أن الأخبار تردونها باختلاف أسانيدها، وما يدخلها من الوهم والضعف، فهذا القرآن نحن وأنتم مجمعون عليه، وليس بين أهل القبلة فيه خلاف، وهو الإجماع. قال الله -عز وجل- في كتابه تصديقًا منه لقول إبراهيم غير دافع لمقالته ولا لما حكى عنه، فقال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: 42] فذم إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر؛ فهذا منكر عندكم. فقالوا: شبَّه، شبَّه يا أمير المؤمنين. فقلت: أليس هذا القرآن؟ هذا منكر عندكم مدفوع، وهذه قصة موسى؛ قال الله -عز وجل- لموسى في كتابه حكاية عن نفسه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} [النساء: 164] فأثبت الله الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال: يا موسى! {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] فتنكرون هذا، فيجوز أن تكون هذه الياء راجعة ترد على غير الله، أو يكون مخلوق يدعي الربوبية؟ وهل يجوز أن يقول هذا غير الله؟ وقال له: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} [النمل: 10] {إِنِّي1 أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] .

_ 1 في الإبانة: إنني.

فهذا كتاب الله يا أمير المؤمنين، فيجوز أن يقول لموسى: أنا ربك مخلوق، وموسى كان يعبد مخلوقًا، ومضى إلى فرعون برسالة مخلوق يا أمير المؤمنين؟ قال: فأمسكوا، وأداروا بينهم كلامًا لم أفهمه. قال أبو عبد الله: والقوم يدفعون هذا وينكرونه، ما رأيت أحدًا طلب الكلام واشتهاه إلا أخرجه إلى أمر عظيم، لقد تكلموا بكلام، واحتجوا بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطق لساني أن أحكيه، والقوم يرجعون إلى التعطيل في أقاويلهم، وينكرون الرؤية والآثار كلها، ما ظننت أنه هكذا حتى سمعت مقالاتهم. قال أبو عبد الله: قيل لي يومئذ: كان الله ولا قرآن: فقلت له: كان الله ولا علم؟ فأمسك، ولو زعم غير ذلك أن الله كان ولا علم؛ لكفر بالله. قال أبو عبد الله: وقلت له -يعني: لابن الحجام-: يا ويلك، لا يعلم حتى يكون فعلمه وعلمك واحد، كفرت بالله عالم السر وأخفى، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، ويلك، يكون علمه مثل علمك، تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. قال أبو عبد الله: فهذه أليست مقالته؟ قال أبو عبد الله: وهذا هو الكفر بالله، ما ظننت أن القوم هكذا. لقد جعل برغوث يقول يومئذ: الجسم كذا وكلام لا أفهمه؛ فقلت: لا أعرف ولا أدري ما هذا، إلا أنني أعلم أنه أحد صمد، لا شبه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه؛ فيسكت عني.

قال: فقال لي شعيب: قال الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أفليس كل مجعول مخلوقًا؟ قلت: فقد قال الله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58] أفخلقهم؟ {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] أفخلقهم؟ أفكل مجعول مخلوق؟ كيف يكون مخلوقًا وقد كان قبل أن يخلق الجعل؟ قال فأمسك". وأخبرني أبو عمرو -عثمان بن عمر- قال: حدثنا أبو بكر -أحمد بن محمد بن هارون- قال: أخبرني علي بن أحمد -أبو غالب- قال: حدثني محمد بن يوسف المروزي -المعروف بابن سرية- قال: "دخلت على أبي عبد الله والجبائر على ظهره، قال لي يا أبا جعفر! أشاط القوم بدمي؛ فقالوا له -يعني: المعتصم-: يا أمير المؤمنين! سله عن القرآن، أشيء هو أو غير شيء؟ قال: فقال لي المعتصم: يا أحمد! أجبهم. قال: فقلت له يا أمير المؤمنين! إن هؤلاء لا علم لهم بالقرآن، ولا بالناسخ والمنسوخ، ولا بالعام والخاص، قد قال الله -عز وجل- في قصة موسى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] فما كتب له القرآن. وقال في قصة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]

_ 1 في الإبانة "257/2": "عمر" والصواب المثبت وقد تقدم.

وما أوتيت القرآن؛ فأخرسوا". حدثني أبي رحمه الله؛ قال: حدثنا أبو جعفر، محمد بن الحسن بن بدينا1 قال: حدثنا صالح بن أحمد أن أباه قال: "قال لي رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله. قال: فقلت له: ما تقول في قول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] فقال: خص الله به المؤمنين، قال: قلت: فما تقول إن كان قاتلاً أو عبدًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا؟ فسكت". وأخبرني أبو عمر -عثمان بن عمر- قال: حدثنا أبو بكر -أحمد بن محمد بن هارون الخلال- قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: سمعت هرثمة بن خالد -قرابة إسحاق بن داود- وكنا جميعًا أنا وإسحاق، قال: قال أحمد بن حنبل: "قال لي ابن أبي دؤاد -وهم يناظروني- وقد كنت قلت لهم: أوجدوني ما تقولون في كتاب الله أو في سنة رسول الله، أوجدني أنت يابن حنبل في علمك أن هذا البساط الذي نحن عليه مخلوق؟ قال: قلت: نعم. قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] قال: فكأني ألقمته حجرًا". حدثنا أبو إسحاق -إبراهيم بن إسحاق الشيرجي الخصيب- قال: حدثنا أبو بكر -محمد بن الحجاج المروذي- قال: "قال لي

_ 1 في الإبانة "258/2": "بدينًا"، منونًا، وهو خطأ، انظر: تاريخ بغداد "191/2، 192 رقم 615".

أبو عبد الله: مكثت ثلاثة أيام يناظرونني. قلت: فكان يدخل إليك بالطعام؟ قال: لا. قلت: فكنت تأكل شيئًا؟ قال: مكثت يومين لا أطعم، ومكثت يومين لا أشرب، ومكثت ثلاثة أيام يناظرونني بين يديه -يعني: الرأس أبا إسحاق- وقد جمعوا عليَّ نحو من خمسين بصريًّا وغير ذلك -يعني: من المناظرين- وفيهم الشافعي الأعمى1، فقلت له: كلهم يناظرونك بالليل؟ قال: نعم كل ليلة، وكان فيهم الغلام غسان -يعني: قاضي الكوفة- وقال: إنما كان الأمر أمر ابن أبي دؤاد، قلت له: كانوا كلهم يكلمونك؟ قال: نعم، هذا يتكلم من ههنا، وهذا يحتج من ههنا، وهذا يتأول على آية، وعجيف عن يمينه، وإسحاق عن يساره قائم، ونحن بين يديه -يعني: أبا إسحاق- فسألني غير مرة فقلت: أوجدني في كتاب أو سنة؛ فقال لي إسحاق وعجيف: وأنت لا تقول إلا ما كان في كتاب أو سنة؟ قلت لهم: ناظروني في الفقه أو في العلم. فقال عجيف: أنت وحدك تريد أن تغلب هؤلاء الخلق كلهم وَلَزَّني بقائمة سيفه، وأشار أبو عبد الله إلى عنقه يريني بيده هكذا، ثم قال إسحاق بن إبراهيم: وأنت لا تقول إلا ما كان في كتاب أو سنة، ولكزني بقائمة سيفه -وأومأ أبو عبد الله إلى حلقه- قلت: فكان

_ 1 قال محقق الإبانة في حاشيته "259/2": الشافعي الأعمى من أصحاب ابن أبي دؤاد وهو أحد الرجلين اللذين كانا يناظران الإمام أحمد في دار إسحاق بن إبراهيم، وهما: أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجام.

أبو إسحاق يتكلم؟ قال: لا، إلا ساكت، إنما كان الأمر أمر ابن أبي دؤاد. ثم قال أبو عبد الله: لم يكن فيهم أحد أرق علي من أبي إسحاق مع أنه لم يكن فيهم رشيد. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: لما قلت: لا أتكلم إلا ما كان في كتاب أو سنة: احتج الأعمى الشافعي بحديث عمران بن حصين، خلق الله الذكر. قال: فقلت له: هذا خطأ رواه الثوري وأبو معاوية، وإنما وهم فيه محمد بن عبيد، وقد نهيته أن يحدث به. قال: فقال أبو إسحاق: أراه فقيهًا. وأخبرني أبو عمرو -عثمان بن عمر- قال: حدثنا أحمد بن محمد بن هارون، قال: "وكتب إلي أحمد بن الحسين الوراق من الموصل، قال: حدثنا بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله، قال: واجتمع عليَّ خلق من الخلق، وأنا بينهم مثل الأسير، وتلك القيود قد أثقلتني، قال: وكان يلغطون ويضحكون، وكل واحد منهم ينزع آية، وآخر يجيء بحديث؛ قال: والرئيس يسكتهم. قال: فكان هذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، فقال لي واحد منهم: أليس يروى عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح عن أبي كعب؟ فقلت: وأنا ما يدريك من أبو السليل؟ ومن عبد الله ابن رباح؟ ومالك ولهذا؟ قال: فسكت. وقال لي آخر: ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي؛ فقلت: إنما هذا مثل، فسكت.

واحتج علي آخر بحديث الطنافسي عن الأعمش عن جامع حديث عمران بن حصين أن الله خلق الذكر. فقلت: هذا وهم فيه -يعني: الطنافسي- وأبو معاوية يقول: كتب الله الذكر. قال: وكنت أصيح عليهم، وأرفع صوتي، وكان أهون عليَّ من كذا وكذا، وذهب الله بالرعب من قلبي، حتى لم أكن أبالي بهم ولا أهابهم، فلما يئسوا مني واجتمعوا عليَّ، قال لي عبد الرحمن: ما رأيت مثلك قط، من صنع ما صنعت؟ قلت له: القرآن، قد اجتمعت أنا وأنتم على أنه كلام الله، وزعمتم أنه مخلوق، فهاتوه من كتاب أو سنة، فقال لي ابن أبي دؤاد: وأنت تجد في كل شيء كتابًا وسنة؟ فلما يئس مني، قال: خذوه، وأدخل الأتراك أيديهم في أقيادي فجروني إلى موضع بعيد، وذكر قصة الضرب". وأخبرني أبو عمرو -عثمان بن عمر- قال: حدثنا أحمد بن محمد بن هارون، قال: وأخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الحميد الكوفي، قال: "سمعت عبيد بن محمد القصير قال: سمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبل، فقال له أبو إسحاق: يا أحمد! إن كنت تخشى من هؤلاء النابتة جئتك أنا في جيشي إلى بيتك حتى أسمع منك الحديث. قال: فقال له: يا أمير المؤمنين! خذ في غير هذا واسأل عن العلم واسأل عن الفقه، أي شيء تسأل عن هذا؟ قال عبيد بن محمد: وسمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم

ضرب أحمد بن حنبل، قال: التفت إليه المعتصم، فقال: تعرف هذا؟ قال: لا. قال: تعرف هذا؟ قال: لا. فالتفت أحمد فوقعت عينه على ابن أبي دؤاد فحول وجهه، فكأنما وقعت عينه على قرد، قال: تعرف هذا -يعني: عبد الرحمن-؟ قال: نعم. قال: قل: الله رب القرآن، قال: القرآن كلام الله. قال: فشهد ابن سماعة وقتلته، فقالوا: قد كفر، اقتله ودمه في أعناقنا". وحدثني أبي، قال: حدثنا أبو جعفر بن بدينا أن صالح بن أحمد حدثهم، قال: "أخبرني رجل حضره، قال: تفقدته في هذه الأيام الثلاثة وهم يناظرونه ويكلمونه، فما لحن في كلمة، وما ظننت أن أحدًا يكون في شجاعته وشدة قلبه". وحدثنا أبو إسحاق -إبراهيم بن إسحاق الشيرجي- قال: حدثنا أبو بكر المروذي، قال: "كان أبو عبد الله لا يلحن في الكلام، قال: وأخبرت أنه لما نوظر بين يدي الخليفة لم يتعلق عليه بلحن، حتى حكي أنه جعل يقول: فكيف أقول ما لم يقل؟! ". قال أبو بكر المروذي: وقال لي ابن أبي حسان الوراق: "طلب مني أبو عبد الله وهو في السجن كتاب حمزة في العربية، فدفعته إليه، فنظر فيه قبل أن يمتحن". أخبرني أبو عمرو -عثمان بن عمر- قال: حدثنا أبو بكر -أحمد بن محمد بن هارون- وأخبرنا محمد بن علي السمسار، قال: "رأيت شيخًا قد جاء إلى أبي عبد الله وهو مريض؛ فجعل يبكي

وقال: إنه ممن حضر ضربه، فلما خرج سمعته يقول: والله، لقد كلمت ثلاثة من الخلفاء، ووطئت بسطهم ما هبتهم وما دخلني من الرعب ما دخلني منه وهو مسجى، والله، لقد رأيته يناظر وهو عالٍ عليهم قوي القلب، والمعتصم يكلمه ويقول: أجبني إلى ما أسألك، أو شيء منه، فيقول: لا أقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسول الله، فيقول له: لا تقول القرآن مخلوق؟ فيقول له: وكيف أقول ما لم يقل؟!. قال الرجل: فقلت لرجل كان إلى جانبي: ما تراه ما يرهب ما هو فيه، ولا يلحن في مثل هذا الوقت، والسياط والعقابين بين يديه، وليس في يده منه شيء". حدثنا أبو إسحاق -إبراهيم بن إسحاق الشيرجي- قال: حدثنا المروذي قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: لما ضربت كانا جلادين يضرب كل واحد منهما سوطًا ويتنحى، ويضرب الآخر سوطًا ويتنحى. قلت: قام إليك أبو إسحاق مرتين؟ قال: أما مرة، فأحفظ أنه خرج إلى الرواق، وقال: خذوه، فأخذوه بضبعي وجروني نحوًا من مائة ذراع إلى العقابين فخلعوني، وأنا أجد ذلك في كتفي إلى الساعة، وكان عليَّ شعر كثير، وانقطعت تكتي، فقلت: الآن تسود -يعني: وهو بينهم. قلت: من ناولك خيطًا في ذلك الموضع؟ قال: لا أدري فشددت سراويلي، وأخبرت أنهم خلعوا القميص ولم يخرقوه، وكان في كمه شعر النبي، صلى الله عليه وسلم".

قال المروذي: "وبلغني عن يعقوب الفرس، قال: سمعت عيسى الفتاح يقول: قال لي أبو عبد الله: يا أبا موسى! ما رأيت هؤلاء قط، كان أشد علي من تلفت الجلاد، ثم يثب عليَّ". قال: "وسمعت الفلاس يقول: سمعت عيسى الفتاح، قال: قال لي أبو عبد الله: قال أبو إسحاق: ما رأيت ابن أنثى أشجع من هذا الرجل". قال المروذي: "وسمعت عيسى الجلاء يقول: رأى رجل في النوم قائلاً يقول: وإذا جماعة ناحية فجعل يقول: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89] وأشار بيده إلى ابن أبي دؤاد وأصحابه: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] أحمد بن حنبل وأصحابه". قال المروذي: "وأخبرت عن زياد بن أبي بادويه القصري، قال: سمعت الحماني يقول: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام قد جاء فأخذ بعضادتي، فقال: نجا الناجون، وهلك الهالكون، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، من الناجون؟ قال: "أحمد بن حنبل وأصحابه". قال المروذي: "وبلغني عن امرأة رأوها في النوم وقد شاب صدغها، فقيل لها: ما هذا الشيب؟ فقالت: لما ضرب أحمد بن حنبل زفرت جهنم زفرة لم يبق منا أحد إلا شاب". وحدثنا أبو إسحاق الشيرجي، قال: حدثنا المروذي، قال: حدثنا أبو عمر المخرمي، قال: "كنت مع سعيد بن منصور ونحن في الطواف، قال: فسمعت هاتفًا يقول: ضرب أحمد بن حنبل اليوم

بالسياط؟ قال: فقال لي سعيد: أو ما سمعت أو سمعت؟ قلت: بلى. قال -يعني: سعيد بن منصور-: هذا من صالحي الجن أو من الملائكة، إن كان هذا حقًّا؛ فإن اليوم قد ضرب أحمد بن حنبل، فقال: فنظرنا فإذا قد ضرب في ذلك اليوم". قال أبو عبد الله: "لما ضربت امتلأت ثيابي بالدماء، وكنت صائمًا، فجاءوا بسويق فلم أشرب، وأتممت صومي، وكان بعض الجيران ثم حاضرًا، فأي شيء نزل به -يعني: لما امتنع أبو عبد الله من شرب السويق- لا أدري، إسحاق بن إبراهيم أو غيره، قال: وبلغني أنه لم يدخل على أبي عبد الله طعام في قصر إسحاق، وقد كان منع أن يدخل إليه، وقال: تأكل من طعامنا. قال أبو عبد الله: فمكثت يومين لا أطعم". قال المروذي: "فقال لي النيسابوري -صاحب إسحاق بن إبراهيم-: قال لي الأمير: إذا جاءوا بإفطاره فأرونيه، قال: فجاءوا برغيفين وخبازة، قال: فأروه الأمير، فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يقنعه". وأخبرني أبو عمرو -عثمان بن عمر- قال: حدثنا أبو بكر -أحمد بن محمد بن هارون- قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد عن أبي عبد الله، وذكر قصة طويلة، قال: "وجعل أولئك يلقون المسائل، قال: قلت: هذا مما لا أتكلم فيه؛ لأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقلت لهم: أي شيء تقولون إذا دخلتم المسجد؟ وأي شيء تقولون إذا خرجتم من المسجد؟ فسكتوا. قال: قلت: يا أمير المؤمنين! هؤلاء لا يدرون أي شيء يقولون إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا، يسألون عن القرآن؟ أمر القرآن أعظم" وذكر كلامًا كثيرًا 1.

_ 1 ذكر محنة أحمد بن حنبل -رحمه الله- ابن بطة العكبري في كتاب "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" "249/2-268".

مقدمة المصنف رحمة الله

مقدمة المصنف رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين: قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنه وأثابه الجنة، وغفر لنا وله بمنه وكرمه آمين: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم1. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل

_ 1 هذا هو شأن أهل الحق والخير في كل زمان ومكان، آثارهم على الناس حسنة طيبة، وإن كانت آثار الناس عليهم سيئة قبيحة، فهذا هو ديدن أهل السنة وأخلاقهم، يحبون الخير للناس، ويحرصون على نفعهم وإيصال كل نافع ومفيد إليهم، وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة، فيجاهدون لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك لجهلهم، كما قال أحمد في خطبته: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ... إلى قوله: فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، إلى آخر كلامه، انظر: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام "317/16".

الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال1 الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب2، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم3

_ 1 في بعض النسخ: "عنان". 2 إن من قواعد وأصول أهل السنة والجماعة إصلاح ذات البين وتأليف القلوب واجتماع الكلمة مفارقين في ذلك أهل البدع المختلفين في الكتاب المخالفين للكتاب والمجمعين على مفارقة الكتاب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنهم هم أهل الفرقة. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام "50/28". وقال شيخ الإسلام أيضًا: ولو اعتصموا بالكتاب والسنة لاتَّفَقُوا كما اتفق أهل السنة والحديث، فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شيء من أصول دينهم، ولهذا لم يقل أحد منهم: إن الله جسم ولا قال: إن الله ليس بجسم. بل أنكروا النفي لما ابتدعته الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وأنكروا ما نفته الجهمية من الصفات مع إنكارهم على من شبه صفاته بصفات خلقه، مع أن إنكارهم كان على الجهمية المعطلة أعظم منه على المشبهة؛ لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه. انظر: درء تعارض العقل والنقل "367/5". 3 قال ابن القيم رحمه الله: وقد حرَّم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثَنَّى بما هو أشد تحرِيْمًا منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريْمًا منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشد تحريْمًا من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم. =

يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن الضالين.

_ = وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه. انظر: إعلام الموقعين "38/1". وقال أيضًا رحمه الله: وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريْمًا وأعظمها إثْمًا، ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير، الذي يباح في حال دون حال، فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال، ومحرم تحريْمًا عارضًا في وقت دون وقت. قال الله تعالى في المحرم لذاته: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم فقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشد إثْمًا، فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه وعداوة من والاه وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله. فليس من أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثْمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم. ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض وحذَّروا فتنتهم أشد تحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا في إنكار الفواحش والظلم والعدوان، إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد. انظر: مدارج السالكين "372/2".

باب بيان ما ضلت فيه الزنادقة

باب بيان ما ضلت فيه الزنادقة

_ تعريف الزنادقة والزنديق قال الفيروزآبادي: الزنديق، بالكسر: من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب: زن دين، أي: دين المرأة، ج: زنادقة أو زناديق، وقد تزندق، والاسم الزندقة، ورجل زنديق وزندقي: شديد البخل. انظر: القاموس المحيط "ص 891" زنق. قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: قوله بزنادقة. بزاي ونون وقاف جمع زنديق بكسر أوله وسكون ثانيه. قال أبو حاتم السجستاني وغيره: الزنديق فارسي معرب أصله: "زنده كرد" أي: يقول بدوام الدهر؛ لأن زنده: الحياة، وكرد: العمل. ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور. وقال ثعلب: ليس في كلام العرب زنديق، وإنما قالوا زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا: ملحد ودهري، بفتح الدال، أي: يقول بدوام الدهر، وإذا قالوها بالضم أرادوا كبر السن. وقال الجوهري: الزنديق من الثنوية، كذا قال، وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي أنه مع الله إِلَهًا آخر. وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك. والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل أن أصل الزنادقة أتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك. الأول بفتح الدال وسكون المثناة التحتانية بعدها صاد مهملة، والثاني بتشديد النون وقد تخفف والياء خفيفة. والثالث بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف. وحاصل مقالتهم أن النور والظلمة قديمان، وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور، وأنه يجب السعي في تلخيص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس، وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال في قصيدته المشهورة: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته، ثم قتله وقتل أصحابه، وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور، وقام الإسلام، والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل، ومن ثم أطلق الاسم على كل من أسر الكفر وأظهر الإسلام حتى قال مالك: الزندقة ما كان عليه المنافقون، وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم أن الزنديق هو الذي يظهر =

من متشابه القرآن1

_ = الإسلام ويخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك، وإلا فأصلهم ما ذكرت. وقد قال النووي في لغات الروضة: الزنديق الذي لا ينتحل دينًا. وقال محمد بن معن في التنقيب على المهذب: الزنادقة من الثنوية يقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ. قال: ومن الزنادقة الباطنية وهم قوم زعموا أن الله خلق شيئًا، ثم خلق منه شيئًا آخر فدبر العالم بأسره، ويسمونها العقل والنفس، تارة العقل الأول والعقل الثاني، وهو من قول الثنوية في النور والظلمة، إلا أنهم غيروا الاسمين. قال: ولهم مقالات سخيفة في النبوَّات وتحريف الآيات وفرائض العبادات ... إلخ ما قال الحافظ رحمه الله. انظر: فتح الباري "370/12، 371". وقال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الله أبو جعفر البغدادي قال: سمعت أبا زكريا يحيى بن يوسف الزمي قال: كنا عند عبد الله بن إدريس فجاء رجل فقال: يا أبا محمد ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمن اليهود؟ قال: لا. قال: فمن النصارى؟ قال: لا. قال: فمن المجوس؟ قال: لا. قال: فممن؟ قال: من أهل التوحيد؟ قال: نعم. قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء زنادقة. من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله: بسم الله الرحمن الرحيم. فالله لا يكون مخلوقًا، والرحمن لا يكون مخلوقًا، والرحيم لا يكون مخلوقًا. وهذا أصل الزنادقة، من قال هذا فعليه لعنة الله، لا تجالسوهم ولا تناكحوهم. وقال وهب بن جرير: الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى. وحلف يزيد بن هارون بالله الذي لا إله إلا هو. من قال: إن القرآن مخلوق فهو زندق، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل. وقيل لأبي بكر بن عياش: إن قومًا ببغداد يقولون: إنه مخلوق. فقال: ويلك من قال هذا؟! على من قال القرآن مخلوق لعنة الله، وهو كافر زنديق ولا تجالسوهم. انظر: خلق أفعال العباد "ص30"، وانظر أيضًا: الشريعة للآجري "497/1-500" ولمزيد بيان في معرفة معنى الزندقة، انظر: ضحى الإسلام لأحمد أمين "146/1". 1 عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ =

شك الزنادقة في قوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم}

شك الزنادقة في قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} ... قال أحمد في قوله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] . قالت الزنادقة: فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت، وأبدلهم جلودًا غيرها؟ فلا نرى إلا أن الله يعذب جلودًا لم تذنب حين يقول: بدلناهم جلودًا غيرها1. فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض. فقلت: إن قول الله تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} ليس يعني جلودًا غير جلودهم، وإنما يعني: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} تبديلها: تجديدها؛ لأن جلودهم إذا نضجت، جددها الله، وذلك لأن القرآن فيه خاص وعام، ووجوه كثيرة وخواطر يعلمها العلماء2. وأما قوله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36] .

_ = وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم". أخرجه البخاري "رقم 4547" ومسلم "رقم 2665". 1 هذا من سوء ظنهم بالله وخبث طويتهم، فمن المعلوم ببداهة العقل والشرع أن الله لا يعذب جلودًا لم تذنب، ولكن الزنادقة تركوا المحكم واتَّبعوا المتشابه فوقعوا في الضلال البعيد عياذًا بالله من ذلك. 2 انظر: تفسير الطبري "142/5" وابن كثير "546/1" والسيوطي "568/2، 569" والشوكاني "479/1".

شك الزنادقة في قوله: {هذا يوم لا ينطقون}

شك الزنادقة في قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} ... ثم قال في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] . فقال: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ ... قال: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} ثم قال في موضع آخر: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] . فزعموا أن هذا الكلام ينقض بعضه بعضًا فشكوا في القرآن1. أما تفسير: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} . فهذا أول ما تبعث الخلائق على مقدار ستين سنة لا ينطقون، ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون، ثم يؤذن لهم في كلام فيتكلمون،

_ 1 قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} هذه الآية الكريمة تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون، وقد جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون، كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقوله: {فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: 28] وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: 74] وقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 97-99] وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38] إلى غير ذلك من الآيات. والجواب عن هذا من أوجه: الأول: أن القيامة مواطن، ففي بعضها ينطقون، وفي بعضها لا ينطقون. الثاني: أنهم لا ينطقون بما لهم فيه فائدة، وما لا فائدة فيه كالعدم. الثالث: أنهم بعد أن يقول الله لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] ينقطع نطقهم، ولم يبقَ إلا الزفير والشهيق، قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل: 85] وهذا الوجه الثالث راجع للوجه الأول. انظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب "205/10" ملحق تفسير أضواء البيان.

شك الزنادقة في قوله: {فلا أنساب بينهم يومئذ}

شك الزنادقة في قوله: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} ... وأما قوله: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال في آية أخرى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] . فقالوا: كيف يكون هذا من لمحكم؟ فشكوا في القرآن من أجل ذلك2. فأما قوله عز وجل: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} .

_ 2 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمون: 101] هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، وأنهم لا يتساءلون يوم القيامة، وقد جاءت آيات أخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم كقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] الآية، وآيات أخرى تدل على أنهم يتساءلون كقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَْ} [الصافات: 27] . والجواب عن الأول: أن المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء، لا نفي حقيقتها. والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه: الأول: أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى، وقبل الثانية وإثباته بعدهما معًا. الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصرط، وإثباته فيما عدا ذلك، وهو عن السدي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. الثالث: أن السؤال المنفي سؤال خاص، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ولو كان المسئول أبًا أو ابنًا أو أمًا أو زوجة. ذكر هذه الأوجه الثلاثة أيضًا صاحب الإتقان. انظر: دفع إيهام الاضطراب "145/10-146".

فهذا عند النفخة الثانية، إذا قاموا من القبور، لا يتساءلون ولا ينطقون في ذلك الموطن، فإذا حوسبوا، ودخلوا الجنة والنار، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ 1 انظر: تفسير الطبري "54/18"، "85/23" وتفسير الشوكاني "499/3".

شك الزنادقة في قوله: {ما سلككم في سقر،}

شك الزنادقة في قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ،} ... وأما قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43،42] . وقال في آية أخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] . فقالوا: إن الله قد ذم قومًا كانوا يصلون قال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} 2.

_ 2 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] هذه الآية يتوهم منها الجاهل أن الله توعد المصلين بالويل، وقد جاء في آية أخرى أن عدم الصلاة من أسباب دخول سقر، وهي قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43،42] . والجواب عن هذا في غاية الظهور: وهو أن التوعد بالويل منصب على قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 5، 6] الآية، وهم المنافقون على التحقيق، وإنما ذكرنا هذا الجواب مع ضعف الإشكال وظهور الجواب عنه؛ لأن الزنادقة الذين لا يصلون يحتجون لترك الصلاة بهذه الآية. وقد سمعنا من ثقات وغيرهم أن رجلاً قال لظالم تارك الصلاة: ما لك لا تصلي؟ فقال: لأن الله توعد على الصلاة بالويل في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقال له: اقرأ ما بعدها، فقال: لا حاجة لي فيما بعدها، فيها كفاية من التحذير من الصلاة، ومن هذا القبيل قال الشاعر. دع المساجد للعبادة تسكنها وسر إلى حانة الخمار يسقينا =

وقد قال في قوم إنهم إنما دخلوا النار لأنهم لم يكونوا يصلون فشكوا في القرآن من أجل ذلك، وزعموا أنه متناقض. قال: وأما قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} عنى بها المنافقين: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} حتى يذهب الوقت. {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] يقول إذا رأوهم صلوا، وإذا لم يروهم لم يصلوا. وأما قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42، 43] . يعني الموحدين المؤمنين، فهذا ما شكت فيه الزنادقة1.

_ = ما قال ربك: ويل للأولى سكروا وإنما قال: ويل للمصلينا فإذا كان الله تعالى توعد بالويل للمصلي الذي هو ساهٍ في صلاته ويرائي فيها فكيف بالذي لا يصلي أصلاً، فالويل كل الويل له، وعليه لعائن الله إلى يوم القيامة ما لم يتب. انظر: دفع إيهام الاضطراب "233/10-234". 1 انظر تفسير الطبري "166/29" "311/30"، وتفسير ابن كثير "588/4" وتفسير الشوكاني "500/5".

شك الزنادقة في قوله: {خلقكم من تراب}

شك الزنادقة في قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ... وأما قوله عز وجل: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [فاطر: 11] . ثم قال: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات: 11] . ثم قال: {مِنْ سُلالَةٍ} [المؤمنون: 12] . ثم قال: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] . ثم قال: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] .

فشكوا في القرآن، وقالوا: هذا تلبيس ينقض بعضها بعضًا1. نقول: هذا بدء خلق آدم، خلقه الله أول بدء من تراب، ثم من طينة حمراء وسوداء وبيضاء، ومن طينة طيبة وسبخة، فكذلك ذريته طيب، وخبيث، أسود وأحمر وأبيض2. ثم بلَّ ذلك التراب فصار طينًا، فذلك قوله: "من طين" فلما لصق الطين بعضه ببعض، فصار طينًا لازبًا، بمعنى لاصقًا، ثم قال: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} . يقول: مثل الطين إذا عصر انسل من بين الأصابع، ثم نتن فصار حمأ مسنونًا، فخلق من الحمأ، فلما جفَّ صار صلصالاً كالفخار، يقول: صار له صلصلة كصلصلة الفخار، له دوي كدوي الفخار.

_ 1 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] الآية. ظاهر هذه الآية أن آدم خلق من صلصال: أي طين يابس. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات: 11] وكقوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] . الجواب: أنه ذكر أطوار ذلك التراب، فذكر طوره الأول بقوله: "من تراب"، ثم بل فصار طينًا لازبًا، ثم خُمِّر فصار حمأ مسنونًا، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار. هذا واضح، والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "118/10". 2 عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزْن، والخبيث والطيب، وبين ذلك". أخرجه أحمد "400/4، 406" وعبد بن حميد رقم "549" وأبو داود رقم "4693" والترمذي "2955" وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم "1759" والسلسلة الصحيحة رقم "1630".

فهذا بيان خلق آدم، وأما قوله: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] . فهذا بدء خلق ذريته، من سلالة يعني النطفة إذا انسلت من الرجل، فذلك قوله: {مِنْ مَاءٍ} ، يعني النطفة، {مَهِينٍ} يعني ضعيف. فهذا ما شَكَّت فيه الزنادقة.

شك الزنادقة في قوله: {رب المشرق والمغرب}

شك الزنادقة في قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ... وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء: 28] . {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] فشكوا في القرآن، وقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ 1.

_ 1 قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يزيل هذه الشبهة: ومن هذا المعنى مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة مجموعين وتارة مثنيين وتارة مفردين، لاختصاص كل محل بما يقتضيه من ذلك، فالأول كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] والثاني كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 17] والثالث كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 9] فتأمل هذه الحكمة البالغة في تغاير هذه الأوضاع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب مواردها يطلعك على عظمة القرآن وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد، فحيث جمعت كان المراد بها: مشارق الشمس ومغاربها في أيام السنة، وهي متعددة، وحيث أفردا كان المراد: أفقي المشرق والمغرب. وحيث ثُنِّيَا كان المراد: مشرقي صعودها وهبوطها ومغربيهما فإنها تبتدئ صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها فهذا مشرق صعودها، وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء، فجعل مشرق صعودها بجملته =

أما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فهذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار، أقسم الله بمشرقه ومغربه، وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فهذا أطول يوم في السنة، وأقصر يوم في السنة، أقسم الله بمشرقهما ومغربهما، وأما قوله: "رب المشارق ورب المغارب" فهو مشارق السنة ومغاربها، فهذا ما شكت فيه الزنادقة1.

_ = مشرقًا واحدًا، ومشرق هبوطها بجملته مشرقًا واحدًا، ويقابلها مغرباها، فهذا وجه اختلاف هذه في الإفراد والتثنية والجمع، وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع فيه فلم أرَ أحدًا تعرض له ولا فتح بابه، وهو بحمد الله بَيِّنٌ من السياق، انظر: بدائع الفوائد "121/1". 1 انظر: تفسير الطبري "70/19" "127/27" "87/29" وتفسير ابن كثير "290/4" وتفسير الشوكاني "134/5".

شك الزنادقة في قوله: {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}

شك الزنادقة في قوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ... أما قوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وقال في آية أخرى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] وقال في آية أخرى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 4، 5] . فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم، وهو ينقض بعضه بعضًا؟ 2.

_ 2 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] . هذه الآية تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة، وكذلك قوله تعالى: =

قال: أما قوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] فهذا من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض، كل يوم كألف سنة، وأما قوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] وذلك أن جبرائيل كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصعد إلى السماء في يوم كان مقداره ألف سنة، ذلك أنه من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، فهبوط خمسمائة، وصعود خمسمائة عام، فذلك ألف عام1.

_ = {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، هي قوله تعالى في سورة سأل سائل: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] الآية. اعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب، سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ويقول: لا أدري. وللجمع بينهما وجهان: الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس، من أن يوم الألف في سورة الحج هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض ويوم الألف في سورة السجدة هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى، ويوم الخمسين ألفًا هو يوم القيامة. الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر. ويدل لهذا قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9، 10] ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان، والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "140/10، 141" 1 قال السيوطي رحمه الله: وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله =

وأما قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] يقول: لو ولي حساب الخلائق غير الله، ما فرغ منه في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ويفرغ الله منه مقدار نصف يوم من أيام الدنيا1، إذا أخذ في حساب الخلائق فذلك قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] يعني سرعة الحساب2.

_ = عنهما في قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق سبع سموات {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ويوم كان مقداره ألف سنة يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام. انظر: الدر المنثور "279/8". 1 قال الشوكاني رحمه الله: قال ابن إسحاق والكلبي ووهب بن منبه: أي عرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة، وبه قال مجاهد. وقال عكرمة وروي عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي ولا يعلم ذلك إلا الله. وقال قتادة والكلبي ومحمد بن كعب: إن المراد يوم القيامة، يعني أن مقدار الأمر فيه لو تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة، وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة. انظر: فتح القدير "404/5" 2 انظر: تفسير الطبري "183/17"، "91/21"، "70/29" وتفسير ابن كثير "240/3، 476" "444/4" وتفسير الشوكاني "460/3" "248/4، 251" "288/5، 291".

شك الزنادقة في قوله: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا}

شك الزنادقة في قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} ... وأما قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} إلى قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 22، 23] .

فأنكروا: أن كانوا مشركين. وقال في آية أخرى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] . فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض1.

_ 1 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون من خبرهم شيئًا يوم القيامة، وقد جاءت آيات أُخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقوله تعالى: {فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: 28] وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: 74] . ووجه الجمع في ذلك هو ما بَيَّنه ابن عباس -رضي الله عنهما- لما سئل عن قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] مع قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} وهو أن ألسنتهم تقول: والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. فكتم الحق باعتبار اللسان، وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] . وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن، فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر، والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "57/10، 58".

شك الزنادقة في قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين}

شك الزنادقة في قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ... أما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وذلك أن هؤلاء المشركين إذا رأوا ما يتجاوز الله عن أهل التوحيد يقول بعضهم لبعض: إذا سألنا نقول: لم نكن مشركين2، فلما جمعهم الله، وجمع

_ 2 قال السيوطي رحمه الله: وأخرج عبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال: قول أهل الشرك حين رأوا الذنوب تغفر، ولا يغفر الله لمشرك: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى

أصنامهم وقال: {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] . قال الله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . فلما كتموا الشرك، ختم الله على أفواههم، وأنطق الجوارح، فنطقت بذلك، فذلك قوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] . فأخبر الله عز وجل عن الجوارح حين شهدت، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ أَنفُسِهِمْ} قال: بتكذيب الله إياهم. انظر: الدر المنثور "259/3". 1 انظر: تفسير الطبري "93/5" "165/7" وتفسير ابن كثير "529/1" "137/2" وتفسير الشوكاني "155/2، 156".

شك الزنادقة في قوله: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة}

شك الزنادقة في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} ... أما قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] . وقال: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} [طه: 103] . وقال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} [طه: 104] . وقال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 52] . ومن أجل ذلك شكت الزنادقة2.

_ 2 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113] . هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلا يومًا أبو بعض يوم، وقد جاءت آيات أُخر يفهم منها خلاف ذلك، كقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} =

شك الزنادقة في قوله: {إن لبثتم إلا عشرا}

شك الزنادقة في قوله: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} ... أما قوله: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} وذلك إذا خرجوا من قبورهم، فنظروا إلى ما كانوا يكذبون به من أمر البعث، قال بعضهم لبعض: إن لبثتم في القبور إلا عشر ليال، واستكثروا العشر، فقالوا: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} في القبور، ثم استكثروا اليوم فقالوا: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} ثم استكثروا القليل فقالوا: إن لبثتم إلا ساعة من نهار. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} [طه: 103] وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] . والجواب عن هذا بما دل عليه القرآن، وذلك أن بعضهم يقول: لبثنا يومًا أو بعض يوم وبعضهم يقول: لبثنا ساعة. وبعضهم يقول: لبثنا عشرًا. ووجه دلالة القرآن على هذا أنه بَيَّن أن أقواهم إدراكًا وأرجحهم عقلاً وأمثلهم طريقة هو من يقول: إن مدة لبثهم يومًا، وذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} [طه: 104] فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم، والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "146/10". 1 انظر: تفسير الطبري "101/15، 106" "210/16" "57/21" وتفسير ابن كثير "49/3، 174، 458" وتفسير الشوكاني "552/3"، "330/4".

شك الزنادقة في قوله: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا}

شك الزنادقة في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} ... وأما قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] . وقال في آية أخرى: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] . فقالوا: وكيف يكون هذا فيقولون: لا علم لنا.

وأخبر عنهم أنهم يقولون: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم. فزعموا أن القرآن ينقض بعضه بعضًا1.

_ 1 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] . هذه الآية يفهم منها أن الرسل لا يشهدون يوم القيامة على أممهم. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أنهم يشهدون على أممهم كقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء} [النحل: 89] . والجواب من ثلاثة أجه: الأول: وهو اختيار ابن جرير، وقال فيه ابن كثير، لا شك أنه حسن، أن المعنى لا علم لنا إلا علمٌ أنت أعلم به منا، فلا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن عرفنا من أجابنا فإنما نعرف الظواهر، ولا علم لنا بالبواطن، وأنت المطلع على السرائر وما تخفي الضمائر فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم. الثاني: وبه قال مجاهد والسدي والحسن البصري كما نقله عنهم ابن كثير وغيره أنهم قالوا: لا علم لنا لما اعتراهم من شدة هول يوم القيامة، ثم زال ذلك عنهم فشهدوا على أممهم. الثالث: وهو أضعفها، أن معنى قوله: {مَاذَا أَجَبْتُمْ} ماذا عملوا بعدكم؟ وما أحدثوا بعدكم؟ {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} ذكر ابن كثير وغيره هذ القول. ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن. انظر: دفع إيهام الاضطراب "79/10، 80".

شك الزنادقة في قوله: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم}

شك الزنادقة في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} ... أما قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] فإنه يسألهم عند زفرة جهنم، فيقول: ماذا أجبتم في التوحيد؟ فتذهب عقولهم عند زفرة جهنم، فيقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] ثم ترجع لهم عقولهم من بعد، فيقولون: {هَؤُلاءِ

الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ 1 قال الشوكاني رحمه الله: وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيفزعون فيقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} فترد إليهم أفئدتهم فيعلمون، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: ذلك أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: لا علم لنا. ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قالوا: لا علم لنا. فرقًا يذهل عقولهم. ثم يرد الله إليهم عقولهم فيكونون هم الذين يسألون بقول الله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] . انظر: فتح القدير "133/2". وانظر أيضًا: تفسير الطبري "124/7" "20/12" وتفسير ابن كثير "123/2"

شك الزنادقة في قوله: {وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة}

شك الزنادقة في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ... وأما قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] . وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] . فقالوا: كيف يكون هذا؟ يخبر أنهم ينظرون إلى ربهم، وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} . فشكوا في القرآن، وزعموا أنه ينقض بعضه بعضًا2.

_ 2 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] الآية. هذه الآية الكريمة توهم أن الله تعالى لا يُرى بالأبصار. وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يُرى بالأبصار، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وكقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وكذلك قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} =

أما قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} يعني الحسن والبياض {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يعني تعاين ربها في الجنة.

_ [ق: 35] على أحد القولين، وكقوله تعالى في الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم. والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن المعنى لا تدركه الأبصار، أي في الدنيا، فلا ينافي الرؤية في الآخرة. الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة، وهذا قريب في المعنى من الأول. الثالث: وهو الحق: أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه. أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه، بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك. وحاصل هذا الجواب: أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية، لأن الإدراك المراد به الإحاطة. والعرب تقول: رأيت الشيء وما أدركته، فمعنى: لا تدركه الأبصار: لا تحيط به، كما أنه تعالى يعلمه الخلق، ولا يحيطون به علمًا. وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص، لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، مع أن الله تعالى لا يدرك كنهه على الحقيقة أحد من الخلق. والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعًا: "حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقًا. الحاصل: أن رؤيته تعالي بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة، لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا، ويدل لجوازها عقلا قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] لأنه لا يجهل الجائز في حق الله تعالى عقلا. وأما في الشرع فهي جائزة وواقعة في الأخرة ممتنعة في الدنيا، ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه مسلم وابن خزيمة مرفوعا: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" والأحاديث برؤية المؤمنين له يوم القيامة متواترة، والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "84/10، 85".

شك الزنادقة في قوله: {لا تدركه الأبصار}

شك الزنادقة في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ... وأما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يعني في الدنيا دون الآخرة، وذلك أن اليهود قالوا لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ} [النساء: 153] . فماتوا وعوقبوا لقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وقد سألت مشركو قريش النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 93] . فلما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المسألة قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108] . حين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ} الآية. فأنزل الله سبحانه يخبر أنه {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، أي أنه لا يراه أحد في الدنيا دون الآخرة. فقال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يعني في الدنيا، أما في الأخرة فإنهم يرونه. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ 1 قال ابن القيم رحمه الله: الدليل السادس قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] والاستدلال بهذا أعجب، فإنه من أدلة النفاة. وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال به أحسن تقرير وألطفه، وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله، إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية، أدل منها على امتناعها، فإن الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال ولا يمدح به. وإنما يمدح الرب -تبارك وتعالى- بالعدم إذا تضمن أمرًا وجوديًّا كتمدحه، بنفي السِّنة والنَّوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللُّغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه، ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته، ولِمَ لَمْ يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرًا ثبوتيًّا، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أنه لا يرى بحال، ولم يكن في ذلك مدح ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار، والرب -جل جلاله- يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض، فإذا المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] أنه يعلم كل شيء وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] أنه كامل القدرة، وفي قوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] أنه كامل القيومية. انظر: حادي الأرواح "ص: 207، 208". وانظر أيضًا تفسير الطبري "299/7" "191/14" وتفسير ابن كثير "174/2" "477/4".

شك الزنادقة في قوله: {سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}

شك الزنادقة في قوله: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ... وأما قول موسى: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] . وقال السحرة: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163] . قالوا: كيف قال موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] .

وقد كان قبله إبراهيم ويعقوب وإسحاق، فكيف جاز لموسى أن يقول: {وأَنا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقالت السحرة: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} وكيف جاز للنبي أن يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} وقد كان قبله مسلمون كثير، مثل عيسى ومن تبعه؟ فشكُّوا في القرآن وقالوا: إنه متناقض1.

_ 1 قال السيوطي رحمه الله: وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} قال: من سؤالي إياك الرؤية {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} قال: أول قومي إيمانًا. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي العالية في قوله: {وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} قال: قد كان إِذَنْ قبله مؤمنون، ولكن يقول: أنا أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة. انظر: الدر المنثور "547/3" وقال الشوكاني رحمه الله: {وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بل قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك. انظر: فتح القدير "355/2". وقال السيوطي رحمه الله: وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَنُسُكِي} قال: ضحيتي. وفي قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} قال: من هذه الأمة. انظر: الدر المنثور "410/3" وفتح القدير "271/2" وقال السيوطي رحمه الله: وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {لا ضَيْرَ} قال: يقولون: لا يضرنا الذي تقول، وإن صنعت بنا وصلبتنا {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} يقول: إنا إلى ربنا راجعون، وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا وثباتنا على توحيده والبراءة من الكفر به، وفي قوله: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رآها. انظر الدر المنثور: "293/6" وقال الشوكاني رحمه الله: وفي قوله: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} قالوا: كانوا كذلك =

أما قول موسى: {وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} فإنه حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ، ولا يراني أحد في الدنيا، إلا مات. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] . يعني أول المصدقين، أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات. وأما قول السحرة: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني أول المصدقين بموسى من أهل مصر من القبط. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} يعني من أهل مكة. فهذا تفسير ما شكَّت فيه الزنادقة1.

_ = يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها. انظر: فتح القدير "144/4" 1 انظر: تفسير الطبري "112/8" "55/9" "74/19" وتفسير ابن كثير "214/2، 263" "350/3".

شك الزنادقة في قوله: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}

شك الزنادقة في قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ... وأما قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] . وقال في آية أخرى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] وقال في آية أخرى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] .

فشكُّوا في القرآن وقالوا: إنه ينقض بعضه بعضًا1. أما قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} . يعني عذاب ذلك النار الذي هم فيه. وأما قوله: {فإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} . وذلك أن الله مسخهم خنازير. فعذبهم بالمسخ ما لم يعذب من سواهم من الناس، وأما قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} .

_ 1 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] . هذه الآية الكريمة تدل على أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة. وقد جاء في بعض الآيات ما يوهم خلاف ذلك كقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء: 145] وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] . والجواب أن آية: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} وآية: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} لا منافاة بينهما؛ لأن كلا من آل فرعون والمنافقين في أسفل دركات النار في أشد العذاب، وليس في الآيتين ما يدل على أن بعضهم أشد عذابًا من الآخر. وأما قوله: {فَإِنِّي أُعَذِّبُه} الآية، فيجاب عنه من وجهين: الأول: وهو ما قاله ابن كثير: إن المراد بالعالمين عالمو زمانهم، وعليه فلا إشكال، ونظيره قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] كما تقدم. الثاني: ما قاله البعض: من أن المراد به العذاب الدنيوي، الذي هو مسخهم خنازير، ولكن يدل أنه عذاب الآخرة ما رواه ابن جرير عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه قال: أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. انظر: دفع إيهام الاضطراب "80/10".

لأن جهنم لها سبعة أبواب: جهنم، ولظى، الحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية، وهم في أسفل درك1 فيها2.

_ 1 قال السيوطي رحمه الله: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} قال: جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية، وهي أسفلها. وقال أيضًا: وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج -رضي الله عنه- في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} قال: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. والجحيم فيها أبو جهل. وقال أيضًا: وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الأعمش -رضي الله عنه- قال: أسماء أبواب جهنم: والحطمة والهاوية ولظى وسقر والجحيم والسعير وجهنم، والنار هي جماع. انظر الدر المنثور: "80/5-82". 2 انظر: تفسير الطبري "338/5" "136/7" "71/24" وتفسير ابن كثير "607/1" "129/2" "87/4".

شك الزنادقة في قوله: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} .

شك الزنادقة في قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} . ... وأما قول الله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] . ثم قال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدُّخان: 43، 44] . فقد أخبر أن لهم طعامًا فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض3.

_ 3 قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] ظاهر هذا الحصر أنه لا طعام لأهل النار إلا الغسلين، وهو ما يسيل من صديد أهل النار على أصح التفسيرات، كأنه فعلين من الغسل، لأن الصديد كأنه غسالة قروح أهل النار. أعاذنا الله والمسلمين منها. وقد جاءت آية أخرى تدل على حصر طعامهم في غير الغسلين، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] وهو الشبرق اليابس على أصح التفسيرات، ويدل لهذا قول أبي ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وصار ضريعًا بان عنه النحائص =

أما قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} يقول: ليس لهم طعام في ذلك الباب إلا من ضريع، ويأكلون الزقوم في غير ذلك الباب، فذلك قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الأَثِيمِ} فهذا ما شكَّت فيه الزنادقة1.

_ = وللعلماء عن هذا أجوبة كثيرة، أحسنها عندي اثنان منها: الأول: أن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات، فمنهم من لا طعام له إلا من غسلين ومنهم من لا طعام له إلا من ضريع، ومنهم من لا طعام له إلا الزقوم، ويدل لهذا قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44] . الثاني: أن المعنى في جميع الآيات أنهم لا طعام لهم أصلا، لأن الضريع لا يصدق عليه اسم الطعام، ولا تأكله البهائم فأحرى الآدميون. وكذلك الغسلين ليس من الطعام، فمن طعامه الضريع لا طعام له، ومن طعامه الغسلين كذلك. ومنه قولهم: فلان لا ظل له إلا الشمس، ولا دابة له إلا دابة ثوبه، يعنون العمل ومرادهم: لا ظل له أصلا، ولا دابة له أصلا. وعليه فلا إشكال. والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "201/10". 1 انظر تفسير الطبري "130/25"، "161/30" وتفسير ابن كثير "4/ 11".

شك الزنادقة في قوله: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}

شك الزنادقة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} ... وأما قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] . وقال في آية أخرى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] . فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟! يخبر أنه مولى من آمن، ثم قال: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] فشكُّوا في القرآن2.

_ 2 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [[الأنعام: 62] =

أما قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} يقول: ناصر الذين آمنوا، وأن الكافرين لا ناصر لهم. وأما قوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] لأن في الدنيا أرباب باطل. فهذا ما شكَّت فيه الزنادقة1.

_ = هذه الآية الكريمة تدل على أن الله مولى الكافرين، ونظيرها قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] . وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] . والجواب عن هذا: أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء، ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين أي ولاية المحبة والتوفيق والنصر، والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضراب "82/10" 1 انظر: تفسير الطبري "218/7" "47/26" وتفسير ابن كثير "149/2" "188/4".

شك الزنادقة في قوله: {إن الله يحب المقسطين}

شك الزنادقة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ... وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] . وقال في آية أخرى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] . فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ 2 أما قوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} يعني العادلون

_ 2 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] لا يعارض قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] لأن القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، فهما ضدان. انظر: دفع إيهام الاضطراب "203/10".

بالله، الذين يجعلون لله عدلا من خليقته فيعبدونه مع الله. وأما قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . يقول: اعدلوا فيما بينكم وبين الناس، إن الله يحب الذين يعدلون. وقال في آية أخرى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] يعني: يشركون، فهذا ما شكَّت فيه الزنادقة1.

_ 1 انظر: تفسير الطبري "113/29" وتفسير ابن كثير "64/2" "457/4".

شك الزنادقة في قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}

شك الزنادقة في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ... وأما قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . وقال في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . وكأن هذا عند من لا يعرف معناه ينقض بعضه بعضًا2.

_ 2 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم. والجواب من وجهين: الأول: أن الولاية المنفية في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] هي ولاية الميراث، أي مالكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا؛ لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم، فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن، الذي لم يهاجر، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6] الآية. وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير =

أما قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} يعني من الميراث، وذلك أن الله -عز وجل- حكم على المؤمنين لما هاجروا إلى المدينة أن لا يتوارثوا إلا بالهجرة، فإن مات رجل بمكة له ولي مهاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرثه المهاجر، فذلك قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} من الميراث {حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما كثر المهاجرون رد الله ذلك الميراث على الأولياء هاجروا أو لم يهاجروا، وذلك قوله: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] . وأما قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} يعني في الدين، والمؤمن يتولى المؤمن في دينه.

_ = والولاية في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد؛ لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضًا، كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] الآية. فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر، فظهر أن الولاية المنفية غير المثبتة، فارتفع الإشكال. الثاني: هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يعني: لا نصيب لكم في المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال، وعليه فلا إشكال في الآية ولا مانع من تناول الآية للجميع، فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم، ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس. والعلم عند الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "99/10، 100".

فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ 1 انظر: تفسير الطبري "51/10" وتفسير ابن كثير "352/2". قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ: 20، 21] الآية. وقوله تعالى حاكيًا عنه مقررًا له: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] الآية. والجواب: هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه، وذلك من وجهين: الأول: أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة، فلم يكن لإبليس عليهم حجة يتسلط بها، غير أنه دعاهم فأجابوه، بلا حجة ولا برهان، وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن. الثاني: أن الله لم يقل: له عليهم سلطان ابتداء ألبتة. ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة؛ لأن الله يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم، ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى. انظر: دفع إيهام الاضطراب "120/10، 121". وانظر أيضًا: عدة الصَّابرين لابن القيم "ص: 21، 22".

شك الزنادقة في قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}

شك الزنادقة في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ... وأما قوله لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] . وقال موسى حين قتل النفس: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] . فشكُّوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض2.

أما قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} يقول: عبادي الذين استخلصهم الله لدينه ليس لإبليس عليهم سلطان، أن يضلهم في دينهم أو في عبادة ربهم، ولكنه يصيب منهم من قِبَلِ الذنوب، فأما في الشرك فلا يقدر إبليس أن يضلهم عن دينهم؛ لأن الله سبحانه استخلصهم لدينه. وأما قوله موسى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} يعني: من تزيين الشيطان، كما زين ليوسف ولآدم وحواء، وهم عباد الرحمن المخلصون. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ 1 انظر: تفسير الطبري "34/14" "46/20" وتفسير ابن كثير "596/2" "399/3.

شك الزنادقة في قوله: {اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا}

شك الزنادقة في قوله: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ... وأما قول الله للكفار: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] . وقال في آية أخرى: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه: 52] . فشكُّوا في القرآن2. أما قوله: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يقول: نترككم في النار {كَمَا نَسِيتُمْ} كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا.

_ 2 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ} [الأعراف: 51] الآية. وأمثالها من الآيات كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وقوله: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126] وقوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} [الجاثية: 34] الآية. لا يعارض قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه: 52] وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ، لأن معنى {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ} ونحوه، أي نتركهم في العذاب محرومين من كل خير، والله تعالى أعلم. انظر: دفع إيهام الاضطراب "94/10".

وأما قوله: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} يقول: لا يذهب من حفظه ولا ينساه 1.

_ 1 انظر: تفسير الطبري "173/16" "158/25" وتفسير ابن كثير "165/3" "164/4".

شك الزنادقة في قوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى}

شك الزنادقة في قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ... وأما قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه: 124، 125] . وقال في الآية الأخرى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] . فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ فيقول: إنه أعمى، ويقول: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} فشكُّوا في القرآن2.

_ 2 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يوم القيامة ينظرون بعيون خفية ضعيفة النظر، وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] . والجواب: هو ما ذكره صاحب الإتقان، من أن المراد بحدة البصر: العلم وقوة المعرفة. قال قطرب: فبصرك أي علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم: بصر بكذا أي علم، وليس المراد رؤية العين. قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} . وقال بعض العلماء: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي تدرك به ما عميت عنه في دار الدنيا، ويدل لهذا قوله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} [السجدة: 12] الآية. وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] الآية، وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم: 38] . ودلالة القرآن على هذا الوجه الأخير ظاهرة، فلعله هو الأرجح، وإن اقتصر صاحب الإتقان على الأول. انظر: دفع إيهام الاضطراب "176/10". =

أما قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] عن حجته، وقال: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} عن حجتي {وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} بها مخاصمًا بها، فذلك قوله: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66] . يقول: الحجج {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 66] ، وأما قوله: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} . وذلك أن الكافر إذا خرج من قبره، شخص بصره، ولا يطرف بصره حتى يعاين جميع ما كان يكذب به من أمر البعث، فذلك قوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] . يقول: غطاء الآخرة. فبصرك يحد النظر، لا يطرف حتى يعاين جميع ما كان يكذب به من أمر البعث، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة1.

_ = وقال أيضًا رحمه الله: قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيمة في حال كونه أعمى، وأن المراد بقوله: أعمى، أي أعمى البصر لا يرى شيئًا. والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه: 125] فصرَّح بأن عَمَاه هو العمى المقابل للبصر، وهو بصر العين؛ لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب، كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله. انظر: أضواء البيان "413/4، 414" "276/6، 277". 1 انظر: تفسير الطبري "228/16" "163/26" وتفسير ابن كثير "179/3" "241/4".

شك الزنادقة في قوله: {إنني معكما أسمع وأرى}

شك الزنادقة في قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ... وأما قوله لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] . وقوله في موضع آخر: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] .

وقالوا: كيف قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} . وقال في آية أخرى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} . فشكوا في القرآن من أجل ذلك1. أما قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} فهذا في مجاز اللغة2، يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقًا، إنا سنفعل بك كذا. وأما قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} فهو جائز في اللغة، يقول الرجل الواحد للرجل: سأجري عليك رزقاً، أو سأفعل بك خيرًا 3. قال الإمام أحمد رحمه الله: وكذلك الجهم4 وشيعته، دعوا الناس إلى المتشابه5 من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم

_ 1 قال الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] . صيغة الجمع في قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} للتعظيم. 2 انظر: منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشيخ الشنقيطي -رحمه الله- "237/10-265" ملحق أضواء البيان. 3 انظر: تفسير الطبري "170/16" "65/19" وتفسير ابن كثير "164/3، 347". 4 الجهم: هو ابن صفوان الراسبي أبو محرز. قال الذهبي: أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئًا، لكنه زرع شرًّا عظيمًا. "ميزان الاعتدال" "426/1 رقم: 1584". 5 عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. أخرجه الدارمي "رقم: 121" وابن بَطَّة في الإبانة الكبرى "رقم: 62، 63" واللالكائي "رقم: 203". وشبهات القرآن أي المتشابه وترك المحكم. وقد تقدم حديث عائشة: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". وهو عند مسلم "رقم: 2665".

شك الزنادقة في قوله: {ربنا أبصرنا وسمعنا}

شك الزنادقة في قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} ... فذلك قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة: 12] الآية. فإذا أذن لهم في الكلام فتكلموا واختصموا، فذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم يقال لهم بعد ذلك. {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} أي: عندي: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] فإن العذاب مع هذا القول كائن1. وأما قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] . وقال في آية أخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50] فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} . ثم يقول في موضع آخر: إنه ينادي بعضهم بعضًا؟ فشكوا في القرآن من أجل تلك2.

_ انظر: تفسير الطبري "243/29". 2 قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] الآية. هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عميًا وبكمًا وصمًّا، وقد جاءت آيات أُخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] وكقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] =

أما تفسير: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} . فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضًا، وينادون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] . ويقول: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم: 44] و {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] فهم يتكلمون حتى قال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] . فصاروا عميًا وبكمًا وصمًّا، وينقطع الكلام ويبقى الزفير والشهيق. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة من قول الله1.

_ = وكقوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة: 12] الآية. والجواب على هذا من أوجه: الوجه الأول: هو ما استظهره أبو حيان من كون المراد مما ذكر حقيقته، ويكون ذلك في مبدأ الأمر، ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم، فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع. الوجه الثاني: أنهم لا يرون شيئًا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وروي أيضًا عن الحسن كما ذكره الألوسي في تفسيره، فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به، كما تقدم نظيره. الوجه الثالث: أن الله إذا قال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون. وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل: 85] وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة. انظر: دفع إيهام الاضطراب "128/10". 1 انظر: تفسير الطبري "201/8" وتفسير ابن كثير "70/3" وتفسير الشوكاني "261/3".

مناظرة الجهم للسمنية

مناظرة الجهم للسمنية مدخل ... بشرًا كثيرًا. فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله، أنه كان من أهل خرسان. من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام1، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم: السمنية2 فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك3، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: "ألست تزعم أن لك إلَهًا؟

_ 1 عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل. أخرجه الدارمي "رقم: 310" واللالكائي "رقم: 216" وابن بطة "رقم: 544-548". وعن معاوية بن قرة قال: الخصومات في الدين تحبط الأعمال. أخرجه اللالكائي "رقم: 221" وابن بطة "رقم: 541". 2 السمنية، قال ابن تيمية: هم الذين يحكي أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات، ولهذا سألوا جهمًا: هل عرفه بشيء من الحواس الخمس؟ فقال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس، وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه، بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا. انظر: تعارض العقل والنقل "410/2، 411". 3 عن معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس يومًا من المسجد، وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الجيرية كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئًا أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي. قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعتني. قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه قال مالك رحمه الله: يا عبد الله بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين. قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل. أخرجه ابن بطة "رقم: 562".

قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك!. قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسًّا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ 1. قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يومًا2. ثم إنه

_ 1 ذكر هذه المناظرة ابن تيمية -رحمه الله- في بيان تلبيس الجهمية "318/1، 319" "53/2، 54" "350/2، 351" وفي درء تعارض العقل والنقل "410/2" وأخرجها بسنده ابن بطة في الإبانة عن مقاتل بن سليمان "86/2-89 رقم: 317" واللالكائي عن خلف بن سليمان البلخي "380/3 رقم: 634، 635". وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية "ص: 206، 207". 1 قال البخاري رحمه الله: وقال ضمرة عن ابن شوذب: ترك الجهم الصلاة أربعين يومًا على وجه الشك، فخاصمه بعض السمنية، فشك، فأقام أربعين يومًا لا يصلي. قال =

اعتماد الجهم على ثلاثة آيات من المتشابه

اعتماد الجهم على ثلاثة آيات من المتشابه ... استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار. فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحًا؟ قال: نعم. فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات من المتشابه: وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .

_ = ضمرة: وقد رآه ابن شوذب. انظر: خلق أفعال العباد للبخاري "ص: 31".

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] . {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] 1.

_ 1 قال ابن القيم رحمه الله: فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية. ثم قال: قال ابن عباس: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لا تحيط به الأبصار. قال قتادة: هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال عطية: ينظرون إلى الله، ولا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، فذلك قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فالمؤمنون يرون ربهم -تبارك وتعالى- بأبصارهم عيانًا، ولا تدركه أبصارهم بمعنى: أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف الله -عز وجل- بأن شيئًا يحيط به وهو بكل شيء محيط، وهكذا يسمع كلام من يشاء من خلقه ولا يحيطون بكلامه، وهكذا يعلم الخلق ما علمهم ولا يحيطون بعلمه. ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها، وإلا فلو أريد بها نفي الصفات لكان العدم المحض أولى بهذا المدح منه. مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مثيل له، وليس له نظير ولا شبيه ولا مثل إنه قد تميز عن الناس بأوصاف ونعوت لا يشاركونه فيها وكلما كثرت أوصافه ونعوته فاق أمثاله وبعد عن مشابهة أضرابه. فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} من أدل شيء على كثرة نعوته وصفاته، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} من أدل شيء على أنه يرى ولا يدرك. وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه، فإنه لم يخلقهم في ذاته، بل خلقهم خارجًا عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه وهو يعلم ما هم عليه، فيراهم وينفذهم بصره، ويحيط بهم علمًا وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا، فهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا. وتأمل حسن هذه =

فبنى أصل كلامه على هذه الآيات1، وتأوَّل القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرًا، وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد2 بالبصرة ووضع دين

_ = المقابلة لفظًا ومعنى بين قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصار وتحيط به، وللطفه وخبرته يدرك الأبصار فلا تخفى عليه، فهو العظيم في لطفه اللطيف في عظمته، العالي في قربه القريب في علوه، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. انظر: حادي الأرواح "ص: 412-414". 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل "414/2، 415": وذكر أحمد أن الجهم اعتمد من القرآن على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها: آية نفي الإدراك لينفي بها الرؤية والمباينة، وآية نفي المثل لينفي بها الصفات ويجعل من أثبتها مشبهًا، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] لينفي بها علوه على العرش أو ليثبت بها مع ذلك الحلول والاتحاد وعدم مباينته للمخلوقات. وهذه أصول الجهمية من المعتزلة: أصحاب عمرو بن عبيد، ومن دخل في التجهم أو الاعتزال أو بعض فروع ذلك من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد مع أن هؤلاء الأئمة من أبعد الناس عن أصول الجهمية والمعتزلة. 2 قال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال "273/3-280، رقم: 6404": عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي القدري مع زهده وتألهه. قال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أيوب ويونس: يكذب. وقال حميد: كان يكذب على الحسن. وقال ابن حبان: كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا =

الجهمية1، فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع، كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة، ولا يفعل ولا له غاية، ولا له منتهى. ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع

_ = المعتزلة. قال: وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهمًا لا تعمدًا. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف. قال الفلاس: عمرو متروك صاحب بدعة. وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية "275/1": وهو إمام الكلام وداعية الزندقة الأول، ورأس المعتزلة، سمي به؛ لاعتزال حلقة الحسن البصري، وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي، وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة، وحذر منه إمام أهل المشرق عبد الله بن المبارك الحنظلي. 1 قال ابن تيمية -رحمه الله- في درء تعارض العقل والنقل "410/2، 411": قلت: فهذا الذي ذكره الإمام أحمد في مناظرة جهم لأولئك السمنية، هم الذين يحكي أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات، ولهذا سألوا جهمًا: هل عرفه بشيء من الحواس الخمس؟ فقال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس، وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه، بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا. وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم، الذين ينكرون ما سوى هذ الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه، وهو وجود الأفلاك وما فيها. ثم قال رحمه الله: والحجة التي ذكرها أحمد عن الجهم أنه احتج بها على السمنية، هي من أعظم حجج هؤلاء النفاة الحلولية منهم، ونفاة الحلول والمباينة جميعًا، فإن النفاة تارة يقولون بالحلول والاتحاد أو نحو ذلك، وتارة يقولون: لا مباين للعالم ولا داخل فيه.

كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، ولا يكون فيه شيئان، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين، ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون، ولا له جسم، وليس هو بمعلوم ولا معقول وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه1. قال أحمد: وقلنا: هو شيء. فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل، أنه لا شيء. فعند ذلك، تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية2.

_ 1 قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية "315/1": وهذا معنى قول المؤسس وذويه: إنه على خلاف الحس والخيال أو العقل وقد تقدم ذكر ذلك. ثم طفق ابن تيمية يستشهد بكلام الإمام أحمد ويعلق عليه ويوضح ويفند ويشرح ويرد على الجهمية. 2 قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان تلبيس الجهمية "352/2": والمقصود أنه بَيَّنَ أن وصفه بأنه لا يعرف بشيء من الحواس هو أصل كلامه الذي لزمه به التعطيل، وأنه لا يثبت شيئًا، لأن ما لا يكون كذلك لا يكون شيئًا. وهذا أمر مستقر في فطر المؤمنين لا يشكون في أن الله تعالى قادر على أن يريهم نفسه، وإنما يشُكُّون هل يكون ذلك أو لا يكون؟ كما سأل المؤمنون النبي -صلى الله عليه وسلم- هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: "نعم، هل تضارون في رؤية الشمس" وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة، فإنما كانوا شاكين: هل يرون ربهم؟ لم يكونوا =

فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة. قالوا: نعم. فقلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تؤمنون بشيء، إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرونه. فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى. قالوا: لم يتكلم ولا يكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح منفية. فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر، ولا يشعر أنهم لا يقولون قولهم إلا فرية في الله1.

_ = شاكين: هل يقدر على أن يريهم نفسه؟ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في درء تعارض العقل والنقل "415/2، 416": فهذا الذي وصفه الإمام أحمد وغيره من علماء السلف من كلام الجهمية، وهو كلام من وافقهم من القرامطة والباطنية والمتفلسفة المتبعين لأرسطو كابن سينا وأمثاله ممن يقول: إنه الوجود المطلق أو المقيد بالقيود السلبية، ونحو ذلك، وهو حقيقة كلام القائلين بوحدة الوجود. ولهذا ذكر عنهم أنهم سلبوه كل ما يتميز به موجود عن موجود، فسلبوه الصفات والأفعال وسائر ما يختص بموجود. ولما قالوا: هو شيء لا كالأشياء. علم الأئمة مقصودهم، فإن الموجودين لابد أن يتفقا في مسمى الوجود. والشيئين لابد أن يتفقا في مسمى الشيء، فإذا لم يكن هناك =

تفسير الجهمية لجعل بمعنى خلق والرد عليهم

تفسير الجهمية لجعل بمعنى خلق والرد عليهم ... فمما يسأل عنه يقال له: تجد في كتاب الله آية تخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فتجده في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن القرآن مخلوق. فلا يجد. فيقال له: فمن أين قلت؟ فيقول من قول الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] . وزعم أن: جعل، بمعنى: خلق، فكل مجعول هو مخلوق، فادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزليه، ويبتغي

_ = قدر اتفقا فيه أصلا، لزم أن لا يكونا جميعًا موجودين، وهذا مما يعرف بالعقل. ولهذا قال الإمام أحمد: "فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء" فبين أن هذا مما يعرف بالعقل، وهذا مما يعلم بصريح المعقولات. ولهذا كان قول جهم المشهور عنه، الذي نقله عن عامة الناس أنه لا يسمى الله شيئًا؛ لأن ذلك -بزعمه- يقتضي التشبيه؛ لأن اسم الشيء إذا قيل على الخالق والمخلوق لزم اشتراكهما في مسمى الشيء، وهذا تشبيه بزعمه. وقوله: باطل، فإنه سبحانه وإن كان لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من الأشياء فمن المعلوم بالعقل أن كل شيئين فهما متفقان في مسمى الشيء، وكل موجودين فيها متفقان في مسمى الوجود، وكل ذاتين فهما متفقان في مسمى الذات، فإنك تقول: الشيء والموجود والذات ينقسم إلى: قديم ومحدث، وواجب وممكن، وخالق ومخلوق. ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينا غلط من جعل اللفظ مشتركًا اشتراكًا لفظيًّا. وهذا الذي نبَّه عليه الإمام أحمد من أن مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك معنى عام كلي، تشترك فيه الأشياء كلها والموجودات كلها، هو المعلوم بصريح العقل، الذي عليه عامة العقلاء.

الفتنة في تأويلها، وذلك أن: جعل، في القرآن من المخلوقين على وجهين على معنى التسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم1. وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] . قالوا: هو شعر وأنباء الأولين، وأضغاث أحلام، فهذا على معنى التسمية2. قال: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] . يعني أنهم سموهم إناثًا. ثم ذكر: جعل، على معنى التسمية فقال: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] . فهذا على معنى فعل من أفعالهم3. وقال: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] هذا على معنى فعل، فهذا جعل المخلوقين، ثم جعل من أمر الله على معنى غير خلق،

_ 1 قال ابن بطة -رحمه الله- في الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية "157/2": فقلنا: إن الله -عز وجل- قد منعك أيها الجهمي، الفهمَ في القرآن حين جعلت كل مجعول مخلوقًا، وأن كل جعل في كتاب الله هو بمعنى خلق، فمن ههنا بُليت بهذه الضلالة القبيحة، حين تأولت كتاب الله بجهلك وهوى نفسك، وما زينه لك شيطانك وألقاه على لسانك وإخوانك، وذلك أننا نجد الحرف الواحد في كتاب الله -عز وجل- على لفظ واحد ومعانيه مختلفة في آيات كثيرة، تركنا ذكرها لكثرتها وقصدنا لذكر الآية التي احتججت بها. فـ {جَعَلَ} في كتاب الله -عز وجل- على غير معنى: خلق. فجعل من المخلوقين على معنى وصف من أوصافهم، وقسم من أقسامهم، وجعل أيضًا على معنى فعل من أفعالهم لا يكون خلقًا ولا يقوم مقام الخلق، فتفهموا الآن ذلك وأعقلوه. 2 اعتمد ابن بَطَّة في كتابه "الإبانة" على ما قرره الإمام أحمد -رحمه الله- هنا في رده على الجهمية. انظر: الإبانة "157/2، 158". 3 انظر: الإبانة "159/2".

لا يكون إلا خلق، ولا يقوم إلا مقام خلق خلقًا لا يزول عنه المعنى، وإذا قال الله: جعل، على غير معنى خلق لا يكون خلق، ولا يقوم مقام الخلق، ولا يزول عنه المعنى. فمما قال الله: جعل، على معنى: خلق، قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] ، يعني وخلق الظلمات والنور1. وقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} [النحل: 78] . يقول: وخلق لكم السمع والأبصار. وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] . ويقول: وخلقنا الليل والنهار آيتين2. وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] . وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] . يقول: خلق منها زوجها. يقول: وخلق من آدم حواء. وقال: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61] . يقول: وخلق لها رواسي، ومثله في القرآن كثير، فهذا وما كان مثله لا يكون إلا على معنى خلق.

_ 1 انظر: الإبانة "159/2". 2 انظر: الإبانة "159/2".

ثم ذكر: جعل، على غير معنى: خلق، قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103] لا يعني: ما خلق الله من بحيرة ولا سائبة. وقال الله لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] . لا يعني إني خالق للناس إمامًا؛ لأن خلق إبراهيم كان متقدمًا1. وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] . وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} [إبراهيم: 40] . لا يعني: اخلقني مقيم الصلاة2. وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 176] . وقال لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] . لا يعني: وخالقوه من المرسلين؛ لأن الله وعد أم موسى أن يرده إليها، ثم يجعله بعد ذلك رسولاً3. وقال: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] . وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] .

_ 1 انظر: الإبانة "161/2". 2 انظر: الإبانة "161/2". 3 انظر: الإبانة "161/2".

وقال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] . لا يعني: وخلقه دكًّا. ومثله في القرآن كثير. فهذا وما كان على مثاله لا يكون على معنى: خلق، فإذا قال الله: جعل، على معنى خلق، وقال: جعل، على غير معنى خلق، فبأي حجة قال الجهمي: جعل على معنى خلق؟ فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه، وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون1. فلما قال الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] . وقال: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 194، 195] . وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] . فلما جعل الله القرآن عربيًّا ويسره بلسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- كان ذلك فعلاً من أفعال الله -تبارك وتعالى- جعل القرآن به عربيًّا يعني: هذا بيان لمن أراد هداه الله مبينًا، وليس كما زعموا معناه: أنزلناه بلسان العرب. وقيل: بيناه، ثم إن الجهم ادعى أمرًا آخر، وهو من المحال. فقال: "أخبرونا عن القرآن أهو الله أو غير الله؟

_ 1 انظر: الإبانة "162/2-165".

فادعى في القرآن أمرًا يوهم الناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن: هو الله أو غير الله؟ فلابد له من أن يقول بأحد القولين. فإن قال: هو الله. قال له الجهمي: كفرت. وإن قال: هو غير الله. قال: صدقت، فلم لا يكون غير الله مخلوقًا؟ فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قول الجهمي. وهذه المسألة من الجهمي من المغاليط، فالجواب للجهمي إذا سأل فقال: أخبرونا عن القرآن: هو الله أو غير الله؟ قيل له: وإن الله -جل ثناؤه- لم يقل في القرآن: إن القرآن أنا، ولم يقل: غيري، وقال هو كلامي فسميناه باسم سماه الله به. فقلنا: كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم غيره كان من الضالين1. وقد فصل الله بين قوله وبين خلقه، ولم يسمه قولا، فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] . فلما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} لم يبقَ شيء مخلوق إلا كان داخلاً في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق، فقال: {والأمر} . فأمره هو قوله، تبارك رب العالمين أن يكون قوله خلقًا. وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3، 4] ثم قال القرآن: {أمرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 5] .

_ 1 انظر: الإبانة: "178/2، 179".

وقال: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] . يقول: لله القول من قبل الخلق، ومن بعد الخلق. فالله يخلق ويأمر وقوله غير خلقه. وقال: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: 5] . وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] .

_ 1 انظر: الإبانة "169/2، 170".

بيان مافصل الله بين قوله وخلقه

بيان ما فصَّل الله بين قوله وخلقه وذلك أن الله جعل ثناؤه إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسامٍ فهو مرسل غير منفصل، وإذا سمى شيئين مختلفين لا يدعهما مرسلين حتى يفصل بينهما من ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] . فهذا شيء واحد سماه بثلاثة أسامٍ، وهو مرسل، ولم يقل: إن له أبًا وشيخًا كبيرًا 1. وقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} . ثم قال: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] .

_ 1 انظر: الإبانة "166/2، 167". 2 هذه الواو يسميها بعض المفسرين بـ"واو الثمانية". قال الشوكاني في فتح القدير "593/2": وقيل: إن الواو زائدة. وقيل: هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة، كما في قوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وقوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} . وقد أنكر واو الثمانية أبو علي الفارسي، وناظره في ذلك ابن خالويه. وقال ابن القيم في بدائع الفوائد "51/3":

الكلام على واو الثمانية

فصل: الكلام على واو الثمانية. قولهم: إن الواو تأتي للثمانية ليس عليه دليل مستقيم، وقد ذكروا ذلك في مواضع فلنتكلم عليها واحدًا واحدًا: الموضع الأول: قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 112] =

فلما كانت البكر غير الثيب، لم يدعه مرسلاً حتى فصل بينهما، فذلك قوله: {وَأَبْكَارًا} . وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى} ثم قال: {وَالْبَصِيرُ} [فاطر: 19] فلما كان البصير غير الأعمى فصل بينهما. ثم قال: {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: 20، 21] . فلما كان واحد من هذا الشيء غير الشيء الآخر فصل بينهما. ثم قال: {هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 23، 24] .

_ = فقيل الواو في: والناهون، واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة، وذكروا في الآية وجوهًا أخرى، ذكرها ابن القيم ثم قال: الموضع الثاني: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} إلى قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] فقيل: هذه واو الثمانية لمجيئها بعد الوصف السابع وليس كذلك. ودخول الواو ههنا متعين؛ لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء، وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما، فتعين العطف؛ لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين الثيبات والأبكار. الموضع الثالث: قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . قيل: المراد إدخال الواو ههنا لأجل الثمانية، وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: هذا. وذكر الثاني ثم قال: والموضع الرابع: قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية. وقال في النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] لما كانت سبعة، وهذا في غاية البعد ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها، بل هذا من باب حذف الجواب لنكتة بديعة ... إلخ.

فهذا كله شيء واحد، فهو مرسل ليس بمفصل. فلذلك إذا قال الله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} ؛ لأن الخلق غير الأمر، فهو منفصل1.

_ 1 اعتمد ابن بطة في كتابه الإبانة على ما قرره الإمام أحمد هنا في الرد على الجهمية، انظر: الإبانة "166/2، 167". قال ابن بطة في "169/2": فكذلك لما كان الأمر غير الخلق، فصل بالواو، فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فالأمر أمره وكلامه، والخلق خلقه، وبالأمر خلق الخلق؛ لأن الله -عز وجل- أمر بما شاء وخلق بما شاء. فزعم الجهمي أن الأمر خلق، والخلق خلق، فكأن معنى قول الله عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وإنما هو ألا له الخلق والخلق، فجمع الجهمي بين ما فصله الله. وقال الآجري في كتاب الشريعة "504/1، 505 رقم: 171": أخبرنا أبو القاسم أيضًا قال: حدثني سعيد بن نصير أبو عثمان الواسطي في مجلس خلف البزار. قال: سمعت ابن عيينة يقول: ما يقول هذا الدويبة؟ يعني: بشرًا المريسي؟ قالوا: يا أبا محمد يزعم أن القرآن مخلوق، فقال: كذب، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فالخلق: خلق الله. والأمر: القرآن. قال محققه الدكتور عبد الله الدميجي: إسناده حسن.

بيان ماأبطل الله أن يكون القرآن إلا وحيا وليس بمخلوق

بيان ما أبطل الله أن يكون القرآن إلا وحيًا وليس بمخلوق قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] . قال: وذلك أن قريشًا قالوا: إن القرآن شعر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: أضغاث أحلام، وقالوا: تقوله محمد من تلقاء نفسه، وقالوا: تعلمه من غيره، فأقسم الله بالنجم إذا هوى، يعني القرآن إذا نزل1 فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} يعني محمدًا 2 {وَمَا

_ 1 قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "التبيان في أقسام القرآن" "ص: 152": قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1-3] أقسم سبحانه بالنجم عند هويه على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي. واختلف الناس في المراد بالنجم فقال الكلبي عن ابن عباس: أقسم بالقرآن إذا نزل منجمًا على رسوله: أربع آيات وثلاثًا والسورة، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة. وكذلك روى عطاء عنه، وهو قول مقاتل والضحاك ومجاهد، واختاره الفراء. وعلى هذا فسمى القرآن نجمًا لتفرقه في النزول. والعرب تسمي التفرق تنجمًا، والمفرق نجمًا، ونجوم الكتاب أقساطها، ويقول: جعلت مالي على فلان نجومًا منجمة، كل نجم كذا وكذا. 2 قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "التبيان في أقسام القرآن" "ص: 154": وتأمل كيف قال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ولم يقل: ما ضل محمد. تأكيدًا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضل، ولا ينقمون عليه أمرًا واحدًا قط، وقد نبَّه على هذا المعنى بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} [المؤمنون: 69] وبقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] .

غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1-3] . يقول: إن محمدًا لم يقل هذا القرآن من تلقاء نفسه: فقال: {إِنْ هُوَ} يقول: ما هو، يعني القرآن: {إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1 [النجم: 4] . فأبطل أن يكون القرآن شيئًا غير الوحي، لقوله: {إِنْ هُوَ} يقول: ما هو {إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ثم قال: علَّمه. يعني علم محمدًا جبريل، صلى الله عليه وسلم وهو: {شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} إلى قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 2 [النجم: 10] .

_ 1 قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "التبيان في أقسام القرآن" "ص: 155": ثم قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ينزه نطق رسوله أن يصدر عن هوى، وبهذا الكمال هداه رشده، وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به، فتضمن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق ونفيه عن نفسه، فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال. ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أي ما نطقه إلا وحي يوحى. وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يوحى. 2 قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "التبيان في أقسام القرآن" "ص: 157": ثم أخبر تعالى عن وصف من علمه الوحي والقرآن، مما يعلم أنه مضاد لأوصاف الشيطان معلم الضلال الغواية، قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وهذا نظير قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} [التكوير: 20] وذكرنا هناك السر في وصفه بالقوة، وقوله: {ذُو مِرَّةٍ} أي: جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة، ليس شيطانًا أقبح خلق الله وأشوههم صورة، بل هو من أجمل الخلق وأقواهم وأعظمهم أمانة، ومكانة عند الله، وهذا تعديل لسند الوحي والنبوة وتزكية له. كما تقدم نظيره في سورة التكوير، فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلالته. وهذه كانت أوصاف الرسول البشري =

فسمى الله القرآن وحيًا، ولم يسمه خلقًا. ثم إن الجهم ادعى أمرًا آخر، فقال: أخبرونا عن القرآن: هو شيء؟ فقلنا: نعم هو شيء. فقال: إن الله خلق كل شيء فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أنه شيء1؟ فلعمري2 لقد ادعى أمرًا أمكنه فيه الدعوى، ولبَّس على الناس

_ = والملكي، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس وأعلمهم وأجمهلم وأجلهم. والشياطين وتلامذتهم بضد ذلك، فهم أقبح الخلق صورة ومعنى، وأجهل الخلق وأضعفهم هممًا ونفوسًا. 1 قال ابن بطة في كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية "170/2، 171": ثم إن الجهمي ادعى أمرًا آخر ليضل به الضعفاء ومن لا علم عنده، فقال: أخبرونا عن القرآن هل هو شيء أو لا شيء؟ فلا يجوز أن يكون جوابه: لا شيء، فيقال له: هو شيء. فيظن حينئذ أنه قد ظفر بحجته ووصل إلى بغيته، فيقول: فإن الله يقول: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} والقرآن شيء يقع عليه اسم شيء، وهو مخلوق؛ لأن الكل يجمع كل شيء. 2 عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها حتى كان غزة تبوك، إلا بدرًا، ولم يعاتب النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا تخلف عن بدر. وإنما خرج يريد العير، فخرجت قريش مغيثين لعيرهم، فالتقوا عن غير موعد كما قال الله -عز وجل- ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس لبدر ... أخرجه الترمذي رقم "3102" وهو حديث صحيح أصله في البخاري رقم "4418" ومسلم رقم "2769". أخرج البخاري في كتاب التفسير، سورة الحجر عن ابن عباس {لَعَمْرُكَ} : لعيشك. فتح الباري "379/8" وكذا في كتاب الأيمان والنذور، باب قول الرجل: لعمر الله. =

الكلام على لفظة: لعمري

الكلام على لفظة: لعمري

_ = قال ابن عباس: لعمرك: لعيشك. فتح الباري "546/11"، قال الحافظ في الفتح "547/11": قوله: "باب قول الرجل: لعمر الله" أي: هل يكون يمينًا؟ وهو مبني على تفسير: لَعَمْر. ولذلك ذكر أثر ابن عباس، وقد تقدم في تفسير سورة الحجر وأن ابن أبي حاتم وصله. وأخرج أيضًا عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} أي: حياتك. قال الراغب: العمر بالضم والفتح واحد، ولكن خص الحلف بالثاني. وقال الشاعر: عمرك الله كيف يلتقيان. أي: سألت الله أن يطيل عمرك. وقال أبو القاسم الزجاج: العمر الحياة. فمن قال لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله. واللام للتوكيد والخبر محذوف، أي: ما أقسم به، ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفة ذاته. وعن مالك: لا يعجبني الحلف بذلك، وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الله بن أبي بكرة قال: كانت يمين عثمان بن أبي العاص: لعمري. وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينًا إلا بالنية؛ لأنه يطلق على العلم وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم وبالحق ما أوجبه الله. وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعي، وأجابوا عن الآية بأن لله أن يقسم من خلقه بما شاء، وليس ذلك لهم لثبوت النهي عن الحلف بغير الله. وقال النووي في شرح مسلم "168/1": قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه إن صدق" هذا مما جرت عادتهم أن يسألوا عن الجواب عنه مع قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفًا فليحلف بالله" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" وجوابه أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه" ليس هو حلفًا، وإنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى. فهذا هو الجواب المرضي. وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى، والله أعلم. قلت: ولما كان النهي عن الحلف بغير الله معلوم لدى إمام السنة، تعين حمل هذا الكلام على الصورة الأولى التي ذكرها النووي رحمه الله، وهذا هو الجواب المرضي إن شاء الله تعالى. ويحمل هذا على مثل قولهم: ثكلتك أمك. ورغم أنفك. وتربت يمينك. ولم يقصد بهذا الدعاء، وإنما يجري على ألسنة الناس بلا إرادة الدعاء.

الرد على الجهمية في تسمية القرآن شيئا

الرد على الجهمية في تسمية القرآن شيئا ... فقلنا: إن الله في القرآن لم يسم كلامه شيئًا إنما سمى شيئًا الذي كان بقوله: ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} [النحل: 40] . فالشيء ليس قوله: إنما الشيء الذي كان بقوله. وفي آية أخرى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس: 82] . فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره. ومن الأعلام والدلالات أنه لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة قال الله للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] . وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها، منازلهم، ومساكنهم، والجبال التي بحضرتهم، فأتت عليها تلك الريح ولم تدمرها. وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} . فكذلك إذا قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة. وقال لملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] . قد كان ملك سليمان شيئًا ولم تؤته، وكذلك إذا قال: {خَاََلِقُ

كُلِّ شَيْءٍ} لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة. وقال الله لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] . وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] . وقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] . ثم قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] . فقد عرف من عقل عن الله أنه لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت، وقد ذكر الله -عز وجل- كل نفس، فكذلك إذا قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة1.

_ 1 قال ابن بطة -رحمه الله- في كتاب "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" "171/2، 172": فيقال له: أما قولك: إن الكل يجمع كل شيء، فقد رد الله عليك ذلك وأكذبك القرآن، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ولله -عز وجل- نفس لا تدخل في هذا الكل، وكذلك كلامه شيء لا يدخل في الأشياء المخلوقة، كما قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] فإن زعمت أن الله لا نفس له، لقد أكذبك القرآن ورد عليك قولك، قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ، وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] ، وقال فيما حكاه عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فقد علم من آمن بالله واليوم الآخر أن كتاب الله حق، وما قاله فيه حق، وأن لله نفسًا وأن نفسه لا تموت، وأن قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] لا تدخل في هذا نفس الله. وكذلك يخرج كلامه من الكلام المخلوق، كما تخرج نفسه من الأنفس التي تموت =

ففي هذا دلالة وبيان لمن عقل عن الله. فرحم الله من فكر، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، ولم يقل على الله إلا الحق، فإن الله قد أخذ ميثاق خلقه فقال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف: 169] . وقال في آية أخرى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . فقد حرم الله أن يقال عليه الكذب، وقد قال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] . فأعاذنا الله وإياكم من فتن الضالين. وقد ذكر الله كلامه في غير موضع من القرآن، فسماه كلامًا، ولم يسمه خلقًا.

_ = وقد فهم من آمن بالله وعقل عن الله أن كلام الله ونفس الله وعلم الله وقدرة الله وعزة الله وسلطان الله وعظمة الله وحلم الله وعفو الله ورفق الله، وكل شيء من صفات الله أعظم الأشياء، وأنها كلها غير مخلوقة؛ لأنها صفات الخالق ومن الخالق، فليس في قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] لا كلامه ولا عزته ولا قدرته ولا سلطانه ولا عظمته ولا وجوده ولا كرمه؛ لأن الله تعالى لم يزل بقوله وعلمه وقدرته وسلطانه وجميع صفاته إلَهًا واحدًا، وهذه صفاته قديمة بقدمه أزلية بأزليته دائمة بدوامه باقية ببقائه، لم يخلُ ربنا من هذه الصفات طرفة عين، وإنما أبطل الجهمي صفاته يريد بذلك إبطاله. 1 عن صالح بن أحمد قال: سمعت أبي والمعنى واحد يقول: افترقت الجهمية على ثلاث فرق، فرقة قالوا: القرآن مخلوق، وفرقة قالوا: كلام الله ونسكت. وفرقة قالوا: =

قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة: 75] . وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] . وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] ، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] . وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] فأخبرنا الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يؤمن بالله وبكلام الله، وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] . وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] . وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] . ولم يقل: حتى يسمع خلق الله. فهذه نصوص بلسان عربي مبين، لا يحتاج إلى تفسير هو مبين بحمد الله. وقد سألت الجهمية: أليس إنما قال الله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] ، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] ، {وَقُولُوا آمَنَّا

_ = ألفاظنا مخلوقة. زاد صالح بن أحمد عن أبيه قال: وقال الله في كتابه: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 109] فجبريل سمعه من الله -عز وجل- وسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- من جبريل عليه السلام، وسمعه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من النبي، فالقرآن كلام غير مخلوق. أخرجه الخلال في السنة "126/5رقم: 1779". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى "37/12": ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنَّة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] ، {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] ، {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ، وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف: 29] ، وقال: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] . ولم نسمع الله يقول: قولوا إن كلامي خلق. وقال: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا} [النساء: 171] . وقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] ، {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] ، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة: 154] ، {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] ، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88] ، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151] ، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] ، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] ، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] . ومثله في القرآن كثير. فهذا ما نهى الله عنه، ولم يقل لنا: لا تقولوا: إن القرآن كلامي. وقد سَمَّت الملائكة كلام الله كلامًا ولم تسمه خلقًا، قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23] . وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي ما بين عيسى ومحمد

صلى الله عليه وسلم، وبينهما كذا وكذا سنة. فلما أوحى الله إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- سمع الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفا فظنوا أنه أمر من الساعة، ففزعوا وخروا لوجوههم سجدًا، فذلك قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] . يقول: حتى إذا انجلى الفزع عن قلوبهم رفع الملائكة رءوسهم فسأل بعضهم بعضًا فقالوا: ماذا قال ربكم1. ولم يقولوا، ماذا خلق ربكم2. فهذا بيان لما أراد الله هداه. ثم إن الجهم ادعى أمرًا آخر فقال: أنا أجد آية في كتاب الله تبارك وتعالى تدل على أن القرآن مخلوق. فقلنا في أي آية؟.. فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] .

_ 1 عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير ... " إلى آخر الحديث. أخرجه البخاري "رقم: 4701، 4800، 7481". 2 بوّب البخاري -رحمه الله- في كتاب التوحيد من صحيحه بابًا قال فيه: قول الله تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] ولم يقل: ماذا خلق ربكم. وقال جل ذكره: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وقال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا، فإذا فزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرب: أنا الملك، أنا الديان". صحيح البخاري، كتاب التوحيد: باب رقم 32 "ص: 1427" طبعة بيت الأفكار الدولية.

الرد على الجهمية بتسمية القرآن محدثا

الرد على الجهمية بتسمية القرآن محدثا ... فزعم أن الله قال: القرآن محدث. وكل محدث مخلوق1. فلعمري، لقد شبه على الناس بهذا. وهي آية من المتشابه فقلنا في ذلك قولاً واستعنا بالله، ونظرنا في كتاب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله2.

_ 1 قال ابن كثير في تفسيره "182/3": محدث أي جديد إنزاله، كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عمّا بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضًا لم يشب؟!. 2 قال ابن بطة في "الإبانة" "183/2-185": ثم إن الجهمي إذا بطلت حجته فيما ادعاه ادعى أمرًا آخر، فقال: أنا أجد في الكتاب آية تدل على أن القرآن مخلوق، فقثيل: أية آية هي؟ قال: قول الله عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] . أفلا ترون أن كل محدث مخلوق؟ فوهم على الضعفاء والأحداث وأهل الغباوة وموّه عليهم، فيقال له: إن الذي لم يزل به عالما لا يكون محدثًا، فعلمه أزلي كما أنه هو أزلي، وفعله مضمر في علمه، وإنما يكون محدثًا ما لم يكن به عالِمًا حتى علمه فيقول: إن الله -عز وجل- لم يزل عالِمًا بجميع ما في القرآن قبل أن ينزل القرآن، وقبل أن يأتي به جبريل وينزل به على محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] قبل أن يخلق آدم. وقال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] . يقول: كان إبليس في علم الله كافرًا قبل أن يخلقه، ثم أوحى بما قد كان علمه من جميع الأشياء. وقد أخبرنا عز وجل عن القرآن، فقال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] فنفى عنه أن يكون غير الوحي، وإنما معنى قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أراد: محدثًا علمه وخبره وزجره وموعظته عند محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنما أراد: أن علمك يا محمد ومعرفتك محدث بما أوحى إليك من القرآن، وإنما أراد: أن نزول القرآن عليك يحدث لك ولمن سمعه علم وذكر لم تكونوا تعلمونه. ألم تسمع إلى قوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] وقال تعالى: =

اجتماع الشيئين في اسم واحد يجري عليه المدح أو الذم

اجتماع الشيئين في اسم واحد يجري عليه المدح أو الذم قال أحمد رضي الله عنه: اعلم أن الشيئين إذا اجتمعا في اسم يجمعهما فكان أحدهما أعلى من الآخر، ثم جرى عليهما اسم مدح، فكان أعلاهما أولى بالمدح وأغلب عليه، وإن جرى عليه اسم ذم فأدناهما أولى به، ومن ذلك قول الله تعالى في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]

_ = {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] . فأخبر أن الذكر المحدث هو ما يحدث من سامعين وممن علّمه وأنزل عليه إلا أن القرآن محدث عند الله، ولا أن الله كان ولا قرآن؛ لأن القرآن إنما هو من علم الله، فمن زعم أن القرآن هو بعد فقد زعم أن الله كان ولا علم ولا معرفة عنده بشيء مما في القرآن ولا اسم له ولا عزة له ولا صفة له حتى أحدث القرآن. ولا نقول: إنه فعل الله، ولا يقال: كان الله قبله، ولكن نقول: إن الله لم يزل عالِمًا، لا متى علم، ولا كيف علم، وإنما وهمت الجهمية الناس ولبست عليهم بأن يقول أليس الله الأول قبل كل شيء، وكان ولا شيء، وإنما المعنى في كان الله قبل كل شيء، قبل السموات وقبل الأرضين، وقبل كل شيء مخلوق، فأما أن نقول قبل علمه وقبل قدرته وقبل حكمته وقبل عظمته وقبل كبريائه وقبل جلاله وقبل نوره، فهذا كلام الزنادقة. وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فإنما هو ما يحدّث الله عند نبيه وعند أصحابه والمؤمنين من عباده، وما يحدثه عندهم من العلم وما لم يسمعوه، ولم يأتهم به كتاب قبله ولا جاءهم به رسول. ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7] وإلى قوله فيما يحدث القرآن في قلوب المؤمنين إذا سمعوه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] فأعلمنا أن القرآن يحدث نزوله لنا علمًا وذكرًا وخوفًا، فعلم نزوله محدث عندنا، وغير محدث عند ربنا عز وجل.

{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] يعني الأبرار دون الفجار، فإذا اجتمعوا في اسم الإنسان، واسم العباد، فالمعنى في قوله الله جل ثناؤه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] يعني الأبرار دون الفجار، لقوله إذا انفرد الأبرار: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] . وإذا انفرد الفجار: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65] فالمؤمن أولى به وإن اجتمعا في اسم الناس، لأن المؤمن إذا انفرد أعطى المدحة لقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65] . {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] . وإذا انفرد الكفار جرى عليهم الذم في قوله: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] ، وقال: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 5] . فهؤلاء لا يدخلون في الرحمة. وفي قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27] . فاجتمع الكافر والمؤمن في اسم العبد، والكافر أولى بالبغي من المؤمنين؛ لأن المؤمنين انفردوا ومدحوا فيما بسط لهم من الرزق، وهو وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] . وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3] . وقد بُسط الرزق لسليمان بن داود، ولذي القرنين، وأبي بكر،

وعمر، ومن كان على مثالهم ممن بسط له فلم يبغِ. وإذا انفرد الكافر وقع عليه اسم البغي في قوله لقارون: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] . ونمرود بن كنعان حين آتاه الله الملك فحاج في ربه، وفرعون حين قال موسى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 88] . فلما اجتمعوا في الاسم الواحد فجرى عليهم اسم البغي كان الكفار أولى به، كما أن المؤمن أولى بالمدح. فلما قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] . فجمع بين ذكرين: ذكر الله، وذكر نبيه، فأما ذكر الله إذا انفرد لم يجرِ عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] . {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء: 50] . وإذا انفرد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه جرى عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] . فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- له عمل، والله له خالق محدث، والدلالة على أنه جمع بين ذكرين لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] . فأوقع عليه الحدث عنه إتيانه إيانا، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء إلا مبلغ ومذكر، وقال الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] . {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] . فلما اجتمعوا في اسم الذكر، جرى عليهم اسم الحدث، وذكر النبي إذا انفرد وقع عليه اسم الخلق وكان أولى بالحدث من ذكر الله الذي إذا انفرد لم يقع عليه اسم خلق، ولا حدث، فوجدنا دلالة من قول الله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يعلم فعلمه الله، فلما علمه الله كان ذلك محدثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

شبهة أخرى للجهمية على أن القرآن مخلوق

شبهة أخرى للجهمية على أن القرآن مخلوق ... ثم إن الجهم ادعى أمرًا آخر فقال: إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق. فقلنا أي آية؟ فقال: قول الله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171] . وعيسى مخلوق. فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن، عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، لأنه يسميه مولودًا وطفلا وصبيًّا وغلامًا، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه اسم الخطاب والوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى: هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] . فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: كن، فكان عيسى: بكن

وليس عيسى هو الكُنُّ، ولَكِنْ بالكُنِّ كَانَ، فالكُنُّ من الله قول، وليس الكن مخلوقًا1. وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته، لأن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله. وكلمته من ذات الله. كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة. وأما قول الله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] يقول: من أمره كان الروح فيه كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] . يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقها الله، كما يقال: عبد الله وسماء الله وأرض

_ 1 قال الدارمي في "رده على المريسي الجهمي العنيد" "674/2-685": فيقال لهذا المعارض: أو يحتاج في هذا إلى تفسير ومخرج؟ قد عقل تفسيره عامة من آمن بالله: أنه إذا أراد شيئًا قال له: {كن فيكون} ومتى لا يقول له: كن لا يكون. فإذا قال: "كن" كان، فهذا المخرج من أنه كان بإرادته وبكلمته، لا أنه نفس الكلمة التي خرجت منه، ولكن بالكلمة كان، فالكلمة من الله "كن" غير مخلوقة، والكائن بها مخلوق. وقول الله في عيسى: {روح الله وكلمته} فبين الروح والكلمة فرق في المعنى، لأن الروح الذي نفخ فيها مخلوق امتزج بخلقه، والكلمة من الله غير مخلوقة لم تمتزج بعيسى، ولكن كان بها، وإن كره لأنها من الله أمر، فعلى هذا التأويل قلنا، لا على ما ادعيت علينا من الكذب والأباطيل.

الله1. ثم إن الجهم ادعى أمرًا آخر، فقال: إن الله يقول: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة: 4] . فزعم أن القرآن لا يخلو أن يكون في السموات أو في الأرض أو فيما بينهما فشبه على الناس ولبّس عليهم. فقلنا له: أليس إنما وقع الله -جل ثناؤه- والخلق والمخلوق على ما في السموات والأرض وما بينهما فقالوا: نعم. فقلنا: هل فوق السموات شيء مخلوق؟ قالوا: نعم. فقلنا: فإنه لم يجعل ما فوق السموات مع الأشياء

_ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "درء تعارض العقل والنقل" "10/4، 11" بعد أن نقل هذه الشبهة عن الجهمية: فبَيَّن الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة والنصارى الحلولية ضلوا في هذا الموضع، فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص، كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص، وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا: هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب ونحو ذلك من نفيهم، والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق، فيصفونه بصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله، كما فعلت النصارى في المسيح، ومن جمع بين النفي والحلول كحلولية الجهمية ... ثم قال رحمه الله: وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة، كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] ويراد به ما فعل بالكلمة كالمسيح الذي قال له: كن، فكان فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في الآدميين، فصار مخلوقًا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين، كما خلق آدم وحواء أيضًا على غير الوجه المعتاد، فصار عيسى عليه السلام مخلوقًا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين.

المخلوقة، وقد عرف أهل العلم أن فوق السموات السبع الكرسي والعرش واللوح المحفوظ والحجب وأشياء كثيرة لم يسمِها، ولم يجعلها مع الأشياء المخلوقة، وإنما وقع الخبر من الله على السموات والأرض وما بينهما. وقلنا فيما ادعوا: إن القرآن لا يخلو أن يكون في السموات أو في الأرض أو فيما بينهما، فقلنا: الله تبارك وتعالى يقول: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الروم: 8] . فالذي خلق به السموات والأرض، قد كان قبل السموات والأرض والحق الذي خلق به السموات والأرض هو قوله؛ لأن الله يقول الحق وقال: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] ، {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام: 73] . فالحق الذي خلق به السموات والأرض قد كان قبل السموات والأرض، والحق قوله، وليس قوله مخلوقًا1.

_ 1 قال ابن بطة في كتاب الإبانة "190/2، 191": ثم إن الجهمي ادعى أمرًا آخر، فقال: إن الله -عز وجل- يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] فزعم أن القرآن لا يخلو أن يكون في السموات أو في الأرض أو فيما بينهما. فيقال له: إن الله -عز وجل- يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] فالحق الذي خلق به السموات والأرض وما بينهما هو قوله وكلامه، لأنه هو الحق وقوله الحق: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] . وقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [الأنعام: 73] فأخبر بأن الخلق كله كان بالحق والحق قوله وكلامه. وقال: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [النمل: 3] وقال: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [يونس: 5] يعني قوله وكلامه، فقوله وكلامه قبل السموات والأرض وما بينهما، فتفهموا -رحمكم الله- ولا يستفزنكم الجهمي الخبيث بتغاليطه وتمويهه وتشكيكه ليزلكم عن دينكم، فإن الجهمي لا يألوا جهدًا في تكفير الناس وتضليلهم. عصمنا الله وإياكم من فتنته برحمته.

بيان ماجحدت الجهمية من قول الله: {وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة}

بيان ماجحدت الجهمية من قول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ... بيان ما جحدت الجهمية من قول الله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال أحمد -رحمه الله- فقلنا لهم: لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟ فقالوا: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه؛ لأن المنظور إليه معلوم موصوف، لا يرى إلا شيء يفعله. فقلنا: أليس الله يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ؟ فقالوا: إن معنى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أنها تنتظر الثواب من ربها، وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته. وتلو آية من القرآن: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] . فقالوا: إنه حين قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} أنهم لم يروا ربهم، ولكن المعنى: ألم تر إلى فعل ربك؟ فقلنا: إن فعل الله لم يزل العباد يرونه، وإنما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

الرد على الجهمية في قولهم: إنها تنتظر الثواب

الرد على الجهمية في قولهم: إنها تنتظر الثواب ... فقالوا: إنما تنتظر الثواب من ربها1.

_ 1 قال ابن بطة -رحمه الله- في كتاب الإبانة "72/3-74": وقالت الجهمية: إنما معنى قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] إنما أراد بذلك الانتظار. فخالفت في ذلك بهذا التأويل جميع لغات العرب، وما يعرفه الفصحاء من كلامها؛ لأن القرآن إنما نزل بلسان العرب، قال الله تعالى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ، وقال: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] فليس يجوز عند أحدٌ ممن يعرف لغات العرب وكلامها أن يكون معنى قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الانتظار. ألا ترى أنه لا يقول أحد: إني أنظر إليك يعني: أنتظرك إنما يقول: أنتظرك، فإذا دخل في الكلام: إلى، فليس يجوز أن يعني به غير النظر، يقول: أنظر إليك، وكذلك قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ولو أراد الانتظار لقال: لربها منتظرة، ولربها ناظرة. وذلك كله واضح بين عند أهل العلم ممن وهب الله له علمًا في كتابه وبصرًا في دينه. ثم قال رحمه الله: سمعت أبا بكر بن الأنباري النحوي يقول في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ولو كان بمعنى منتظرة ما جاز أن تكون ناضرة؛ لأن المنتظر على وجهه الحزن؛ لأنه متوقع شيئًالم يحصل له، والناضرة مسفرة مشرقة ضاحكة مستبشرة. ووجه آخر: أنه لو أراد بالناظرة: منتظرة، كان يقول: لربها ناظرة، ولم يقل: إلى ربها ناظرة. وقال ابن منده في الرد على الجهمية "ص: 102": أجمع أهل التأويل كابن عباس وغيره من الصحابة، ومن التابعين محمد بن كعب وعبد الرحمن بن سابط والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وأبو صالح وسعيد بن جبير وغيرهم أن معناه: إلى وجه ربها ناظرة. والآخرون نحو معناه، ومن روى عنه أن معناه: أنها تنتظر الثواب. فقول شاذ لا يثبت. وقال الدارمي في رده على المريسي الجهمي العنيد "367/1، 368":

فقلنا: إنها مع ما تنتظر الثواب هي ترى ربها.

_ وقد سبق من الله القول بأنه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أبصار أهل الدنيا، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم وسؤالهم عما حظره الله على أهل الدنيا، ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمدًا صلى الله عليه وسلم، لم تصبهم تلك الصاعقة، ولم يقل لهم إلا ما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذ سألوه: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: "نعم، لا تضارون في رؤيته" فلم يعبهم الله ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك، بل حسنه لهم وبشرهم به بشرى جميلة، كما رويت أيها المريسي عنه. وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه، فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقال للكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فقوم موسى سألوا نبيهم ما حظره الله على أهل الدنيا بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وسأل أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيهم ما أخبر الله أنه سيعطيهم ويثيبهم به، فصعق قوم موسى بسؤالهم ما لا يكون، وسلم أصحاب محمد بسؤاله ما يكون. ومتى عاب الله على قوم موسى سؤال الرؤية في الآخرة، فتفتري بذلك عليهم؟ تكذب على الله وعلى رسوله، والله لا يحب الكاذبين. وقال الآجري في كتاب "الشريعة" "979، 980": فإن اعترض جاهل ممن لا علم معه أو بعض هؤلاء الجهمية الذين لم يوفقوا للرشاد لعب بهم الشيطان، وحرموا التوفيق، فقال: والمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة؟ قيل له: نعم، والحمد لله تعالى على ذلك. فإن قال الجهمي: أنا لا أومن بهذا. قيل له: كفرت بالله العظيم. فإن قال: وما الحجة؟ قيل: لأنك رددت القرآن والسنة وقول الصحابة -رضي الله عنهم- وقول علماء المسلمين، واتبعت غير سبيل المؤمنين، وكنت ممن قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . أما نص القرآن فقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقال تعالى وقد أخبرنا عن الكفار أنهم محجوبون عن رؤيته، فقال تعالى ذكره: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ َمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15-17] فدل بهذه الآية أن المؤمنين ينظرون إلى الله، وأنهم غير محجوبين عن رؤية كرامة منه لهم. وانظر كذلك: "986/2-994"

_ = ثم ساق ابن القيم الأدلة البينة الواضحة على رؤية الله -عز وجل- في الآخرة ثم قال: قال الطبري: فتحصل في الباب ممن روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة حديث الرؤية ثلاث وعشرون نفسًا. وطفق يُعَدِّدُهم ثم قال: وأما التابعون ونُزْل الإسلام وعصابة الإيمان من أئمة الحديث والفقه والتفسير وأئمة التصوف فأقوالهم أكثر من أن يحيط بها إلا الله عز وجل. ثم ذكر بعض أقوال التابعين وأقوال الأئمة الأربعة ونظرائهم وشيوخهم وأتباعهم ثم قال: قول جميع أهل الإيمان، قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه: إن المؤمنين لم يختلفوا أن المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك فليس بمؤمن عند المؤمنين. ثم قال: قول جميع أهل اللغة، قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا عمر محمد عبد الواحد صاحب اللغة يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلبًا يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 43، 44] أجمع أهل اللغة على أن اللقاء ههنا لا يكون إلا معاينة ونظرًا بالأبصار، وحسبك بهذا الإسناد صحة. ثم عقد ابن القيم فصلا في وعيد منكري الرؤية، نعوذ بالله من ذلك، ونسألك اللهم أن تقر أعيننا وتثلج صدورنا برؤياك في جنة النعيم. انظر: حادي الأرواح "ص: 402-477".

إثبات رؤية الله عز وجل في الأخرة

إثبات رؤية الله عز وجل في الأخرة ... فقالوا: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وتلوا آية من المتشابه من قول الله جل ثناؤه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] . وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف معنى قول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقال: "إنكم سترون ربكم" 1. وقال لموسى: {لَنْ تَرَانِي} ، ولم يقل: لن أُرى، فأيهما أولى أن نتبع: النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إنكم سترون ربكم" أو قول الجهمي حين قال: لا ترون ربكم؟! والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل الجنة يرون ربهم، لا يختلف فيها أهل العلم. ومن حديث سفيان عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد في قول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، قال: النظر إلى وجه

_ 1 عن جرير -رضي الله عنه- قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة -يعني البدر- فقال: "إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} [ق: 39] . الحديث أخرجه البخاري "رقم: 554" ومسلم "رقم: 633".

الله1. ومن حديث ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى [عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم] 2. قال: "إذا استقر أهل الجنة في الجنة ونادى منادٍ: يا أهل الجنة إن الله قد أذن لكم في الزيادة، قال: فيكشف الحجاب [فيتجلى لهم" 3. وذكر الحديث. قال الإمام أحمد رحمه الله] 4 فينظرون إلى الله لا إله إلا هو، وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله، لأن الله قال للكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فإذا كان الكافر يحجب عن الله، والمؤمن يحجب عن

_ 1 أخرجه موقوفًا على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ابن منده في رده على الجهمية "ص: 95 رقم: 84" وكذا الآجرِّي في الشريعة "994/2-996 رقم: 589-591" وروي موقوفًا على حذيفة -رضي الله عنه- عند الآجري "رقم: 591/ب". 2 ما بين المكعوفين سقط من نسخة د. عميرة واستدركته من نسخة الشيخ الأنصاري. 3 أخرجه أحمد "332/4" "15/6" ومسلم "رقم: 181" والترمذي "رقم: 2552، 3105" وابن ماجه "رقم: 187" وابن منده في رده على الجهمية "رقم: 83" والآجري في الشريعة "رقم: 602-604" ولفظه عند مسلم: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل". قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد، وزاد: ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] . 4 ما بين المعكوفين سقط من نسخة د. عميرة، واستدركته من نسخة الشيخ الأنصاري.

الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟ والحمد لله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع، ولم يجعلنا ممن ابتدع، والحمد لله وحده 1.

_ 1 قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" "ص: 402": الباب الخامس والستون في رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى وتجليه لهم ضاحكًا إليهم. هذ الباب أشرف أبواب الكتاب وأجلها قدرًا وأعلاها خطرًا وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة وأشدها على أهل البدعة والضلالة، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم، اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة التابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون والجهمية المتهوكون والفرعونية المعطلون والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون ومن حبل الله منقطعون. ثم قال ابن القيم رحمه الله: الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25، 26] فالحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، كذلك فسرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه القرآن، فالصحابة من بعده. ثم ذكر حديث صهيب، وحديث أنس وكعب بن عجرة وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم". ثم ذكر هذا التفسير موقوفًا على أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وابن مسعود. وذكر أيضًا أن هذا التفسير هو قول كل من: عبد الرحمن بن أبي ليلى وعامر بن سعد وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي والضحاك بن مزاحم وعبد الرحمن بن سابط وأبي إسحاق السبيعي وقتادة وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعكرمة مولى ابن عباس ومجاهد بن جبر. =

_ = ثم ساق ابن القيم الأدلة البينة الواضحة على رؤية الله -عز وجل- في الآخرة ثم قال: قال الطبري: فتحصل في الباب ممن روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة حديث الرؤية ثلاث وعشرون نفسًا. وطفق يُعَدِّدُهم ثم قال: وأما التابعون ونُزْل الإسلام وعصابة الإيمان من أئمة الحديث والفقه والتفسير وأئمة التصوف فأقوالهم أكثر من أن يحيط بها إلا الله عز وجل. ثم ذكر بعض أقوال التابعين وأقوال الأئمة الأربعة ونظرائهم وشيوخهم وأتباعهم ثم قال: قول جميع أهل الإيمان، قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه: إن المؤمنين لم يختلفوا أن المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك فليس بمؤمن عند المؤمنين. ثم قال: قول جميع أهل اللغة، قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا عمر محمد عبد الواحد صاحب اللغة يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلبًا يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 43، 44] أجمع أهل اللغة على أن اللقاء ههنا لا يكون إلا معاينة ونظرًا بالأبصار، وحسبك بهذا الإسناد صحة. ثم عقد ابن القيم فصلا في وعيد منكري الرؤية، نعوذ بالله من ذلك، ونسألك اللهم أن تقر أعيننا وتثلج صدورنا برؤياك في جنة النعيم. انظر: حادي الأرواح "ص: 402-477".

بيان ماأنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى

بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى فقلنا: لِمَ أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم1. إنما كوَّن شيئًا فعبر عن الله،

_ 1 ذكره في الإبانة "197/2"، ودرء التعارض "377/1" "407/2".

وخلق صوتًا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين. فقلنا: هل يجوز لمكون أو غير الله أن يقول: {يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 11، 12] ، أو يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهم أن الله كون شيئًا كان يقول ذلك المكون: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] وقد قال جل ثناؤه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] . فهذا منصوص القرآن. فأما ما قالوا: إن الله لا يتكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش، عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ما بينه وبينه ترجمان" 1. وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات. أليس الله قال للسموات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] . تراها أنها قالت بجوف وفم وشفتين ولسان وأدوات؟ وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] .

_ 1 أخرجه البخاري "رقم: 6539" ومسلم "رقم: 67/1016".

أتراها سبحت بجوف وفم ولسان وشفتين؟ والجوارح إذ شهدت على الكفار. فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] . أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء. وكذلك الله تكلم كيف شاء من غير أن يقول بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان. قال أحمد رضي الله عنه: فلما خنقته الحجة قال: إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره. فقلنا: وغيره مخلوق؟ قال: نعم. فقلنا: هذا مثل قولكم الأول، إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون. وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، إنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لَمِتَّ. قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك، قال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟! قالوا: فشبهه. قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله1.

_ 1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل "378/1" ثم قال ابن تيمية: =

وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] . أليس الله هو القائل؟ قالوا: فَيُكوِّن الله شيئًا فيُعَبِّر عن الله، كما كَوَّن شيئًا فعَبَّر لموسى. قلنا: فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 6، 7] . أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون شيئًا، فيعبر عن الله. قلنا: قد أعظمتم على الله الفرية، حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان. فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق,

_ = فقد ذكر أحمد في هذا الكلام: أن الله تعالى يتكلم كيف شاء، وذكر فيما استشهد به من الأثر: "أن الله كلم موسى -عليه السلام- بقوة عشرة آلاف لسان" وأن له قوة الألسن كلها، وهو أقوى من ذلك، وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق، ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات. وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقًا بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز. وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات، التي لا تتعلق بمشيئة ولا قدرة. وبَيَّنَ أيضًا في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم ردًّا على الجهمية، واستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عدي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه" وجعل قوله: "سيكلمه ربه" دليلا على أنه سيتكلم، فبين أن التكليم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم، ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل.

قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلامًا، وقد جمعتم بين كفر وتشبيه. وتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام. ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علمًا فعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلقه لنفسه عظمة1.

_ 1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل "378/1" ثم قال رحمه الله: فقد بَيَّن أحمد في هذا الكلام الإنكار على النفاة الذين شبهوه بالجمادات التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، مثل الأصنام المعبودة من دون الله، والإنكار على من زعم أنه كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام، فشبهه بالآدمي الذي كان لا يتكلم حتى خلق الله له كلامًا، فأنكر تشبيهه الجماد الذي لا يتكلم، وبالإنسان الذي كان غير قادر على الكلام حتى خلق الله له الكلام، فكان قادرًا على الكلام في وقت دون وقت. وبين أن من وصف الله بذلك فقد جمع بين الكفر -حيث سلب ربه صفة الكلام، وهي من أعظم صفات الكمال، وجحد ما أخبرت به النصوص- وبين التشبيه. ثم قال ابن تيمية رحمه الله "380/1": ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرًا، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول ولهذا تأتلف ولا تختلف وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة =

فقالت الجهمية: لما وصفنا الله بهذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعموا، أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته. قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، لا متى قدَّر، ولا كيف قدر. فقالوا: لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء. ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلَهًا واحدًا بجميع صفته؟ وضربنا لهم في ذلك مثلا. فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة؟ أليس لها جذع وكرب، وليف وسعف وخوص وجَمّار؟.. واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها1 فكذلك الله، وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات. ولا يقدر حتى خلق له قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علمًا فعلم. والذي لا يعلم

_ = المنصوص والمعقول فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] . 1 ذكره ابن بطة في الإبانة "175/2".

هو جاهل. ولكن نقول: لم يزل الله عالِمًا قادرًا، لا متى ولا كيف1. وقد سمى الله رجلاً كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} وقد كان هذا الذي سماه الله وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان، وجوارح كثيرة. قد سَمَّاه الله وحيدًا بجميع صفاته. فكذلك الله، وله المثل الأعلى، هو بجميع صفاته إله واحد.

_ 1ذكره ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص "ص: 317، 318". 2 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في منهاج السنة النبوية "484/2، 485" وفي درء تعارض العقل والنقل "408/2" وفي بيان تلبيس الجهمية "463/1، 464". قال ابن تيمية -رحمه الله- في درء التعارض "408/2، 409": قلت: فلا يوجد في كلام الله ورسوله واللغة اسم الواحد على ما لا صفة له، فإن ما لا صفة له لا وجود له في الوجود. وما ذكره أحمد عن الجهمية أنهم يتأولون كلام الله لموسى بأنه خلق من عبر عنه، تأوله جماعة من أتباعه في هذا، أو في قوله تعالى كل ليلة: "من يدعوني فأستجيب له" ولو كان كذلك لكان الملك يقول: إن الله رب العالمين كما في الصحيحين: "إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء" الحديث. ثم قال رحمه الله: أخبر الله تعالى في كتابه بإثبات مفصل ونفي مجمل. والمعطلة الجهمية متكلمهم ومتفلسفهم أخبروا بإثبات مجمل ونفي مفصل، فأخبر في كتابه بأنه: حي قيوم عليم قدير سميع بصير عزيز حكيم، ونحو ذلك: يرضى ويغضب ويحب ويسخط وخلق واستوى على العرش ونحو ذلك. وقال في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، فلهذا مذهب السلف والأئمة: إثبات صفاته بلا تمثيل، =

_ = لا ينفون عنه الصفات، ولا يمثلونها بصفات المخلوقين. وقال رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية "464/1": فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا: لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء. هو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودًا بشيء يقال: إنه من صفاته، فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب والتجزئة: إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه، وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات، كما يقولون: النوع مركب من الجنس والفصل، ويستلزم أيضًا التشبيه والتوحيد عندهم، ففي التشبيه والتجسيم، ويقولون إن الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم. وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله، وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، وهذا أصل عظيم تجب معرفته. وقال أيضًا -رحمه الله- في منهاج السنة النبوية "485/2، 486": وهذا الذي ذكره الإمام أحمد يتضمن أسرار هذه المسائل، وبيان الفرق بين ما جاءت به الرسل من الإثبات الموافق لصريح العقل، وبين ما تقوله الجهمية وبين أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه.

بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش

بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش فقلنا: لِمَ أنكرتم أن يكون الله على العرش، وقد قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقال: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] .

فقالوا: هو تحت الأرض السابعة. كما هو على العرش، فهو على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وتلو آية من القرآن: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] . وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المعنى بإيضاح في سورة الأعراف.

_ 1 قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في أضواء البيان "139/2، 140": في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير، وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى: الأول: أن المعنى وهو الله في السموات وفي الأرض، أي: وهو الإله المعبود في السموات وفي الأرض؛ لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء، وعلى هذا فجملة: يعلم حال أو خبر، وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] أي: وهو المعبود في السماء والأرض بحق، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره؛ لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] . وهذا القول في الآية أظهر الأقوال، واختاره القرطبي. الوجه الثاني: أن قوله: {فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} يتعلق بقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} أي: وهو الله يعلم سركم في السموات وفي الأرض، ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان: 6] الآية. قال النحاس: وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية، نقله عنه القرطبي. الوجه الثالث: وهو اختيار ابن جرير: أن الوقف تام على قوله: {فِي السَّمَوَات} وقوله: {وفي الأرض} يتعلق بما بعده، أي: يعلم سركم وجهركم في الأرض، ومعنى هذا القول: إنه جل وعلا مستوٍ على عرشه فوق جميع خلقه مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم لا يخفى عليه شيء من ذلك. ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16، 17] الآية، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] مع قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] .

الرد على الجهمية في زعمهم أن الله في كل مكان

الرد على الجهمية في زعمهم أن الله في كل مكان فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء. فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أجسامكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش، والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب شيء1.

_ ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16، 17] الآية، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] مع قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] . وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المعنى بإيضاح في سورة الأعراف. واعلم أن ما يزعمه الجهمية: من أن الله تعالى في كل مكان. مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ضلال مبين وجهل بالله تعالى، لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السموات والأرض، الذي هو أعظم من كل شيء وأعلى من كل شيء، محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، فالسموات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال: إنه حال فيها أو في كل جزء من أجزائها؟ لا وكلا. هي أصغر وأحقر من ذلك، فإذا علمت ذلك فاعلم أن رب السموات والأرض أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يحيط به شيء، ولا يكون فوقه شيء: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3] سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] . 1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "534/2" ثم قال رحمه الله: هذا الذي ذكره الإمام أحمد متضمن إجماع المسلمين، ويتضمن أن ذلك من المعروف في فطرتهم التي فطروا عليها وقوله: من عظم الرب. كلمة شديدة، فإن اسمه العظيم يدل عل العظم الذي هو قدره كما بَيّنَّاه في غير هذا الموضع. وذكر الحشوش والأجواف؛ لأن علم المسلمين بذلك ببديهة حسهم وعقلهم، ولأن في ذلك ما يجب تنزيه الرب عنه، إذ كان من أعظم كفر النصارى دعواهم ذلك في واحد من =

_ = البشر، فكيف من يدعيه في البشر كلهم، وكذلك ما ذكره من أجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة فإن هذا كما تقدم مما يعلم بالضرورة العقلية الفطرية أنه يجب تنزيه الرب وتقديسه أن يكون فيها أو ملاصقًا لها أو مماسًّا. وتخصيص هذه الأجسام القذرة والأجواف بالذكر فيه اتباع لطريقة القرآن في الأمثال والأقيسة المستعملة في باب صفات الله سبحانه. فإن الإمام أحمد ونحوه من الأئمة هم في ذلك جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة، وهو المنهج العقلي المستقيم، فيستعملون في هذا الباب قياس الأولى والأحرى والتنبيه في باب النفي والإثبات، فما وجب إثباته للعباد من صفات المدح والحمد والكمال فالرب أولى بذلك، وما وجب تنزيه العباد عنه من النقص والعيب والذم فالرب سبحانه أحق بتنزيهه وتقديسه عن العيوب والنقائص من الخلق، وبهذا جاء القرآن في مثل قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وفي مثل قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} وغير ذلك، فإنه احتج على نفي ما يثبتونه له من الشريك والولد بأنهم ينزهون أنفسهم عن ذلك؛ لأنه نقص وعيب عندهم، فإذا كانوا لا يرضون بهذا الوصف ومثل السوء، فكيف يصفون ربهم به ويجعلون لله مثل السوء، بل: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} ومما يشبه هذا في حقنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء" ولهذا شبه الله من ذمه بالحمار تارة وبالكلب أخرى. ثم قال رحمه الله في "537/2": فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى، وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها توعد على ذلك بالعقاب، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "تنزهوا عن البول، فإن عامة عذاب القبر منه" وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وهي مما فطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة، فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الرب عنه، لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات، ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة، وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها، ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له وينزه عن =

وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك: 16] . {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17] . وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] . وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] . {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] . وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء: 19] . وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 1 [النحل: 50] . وقال: {ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3] . وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] .

_ = النجاسة، كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة أعظم وأكثر، للعلم بأن الرب أحق بالتنزيه عن كل ما ينزه عنه غيره. ثم قال رحمه الله في "541/2": وذكر الأئمة في الرد على الجهمية ما علمه المسلمون بضرورة حسهم وعقلهم ودينهم من تنزيهه عن أن يكون في أجوافهم وأحشائهم أيضًا مع ما ذكروه من تنزهه عن الأنجاس؛ لأن ذلك أقرب إلى حس الإنسان وبديهة عقله، فكلما كان المعلوم مما يحسه الإنسان ويعقله بديهة كان أعلم به، لاسيما مع تكرر إحساسه به وعقله له. 1 إلى هنا انتهى نقل ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص: 201، 202". ثم قال رحمه الله: ذكر هذ الكتاب كله أبو بكر الخلال في كتاب السنة له الذي جمع فيه نصوص أحمد وكلامه، وعلى منواله جمع البيهقي في كتابه الذي سماه: جامع النصوص من كلام الشافعي، وهما كتابان جليلان لا يستغني عنهما عالم.

إثبات ذم صفة السفل وأنها منفية عن الله عز وجل

إثبات ذم صفة السفل وأنها منفية عن الله عز وجل وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] . فهذا خبر الله، أخبرنا أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل منه مذمومًا بقول الله جل ثناؤه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} 1 [فصلت: 29] .

_ 1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "542/2، 543". ثم قال: وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهو أن السفل مذموم في المخلوق، حيث جعل الله أعداءه في أسفل السافلين، وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين، وإذا كان هذا مما ينزه عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب به المخلوق فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفًا بالسفل، هو أو شيء منه، أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه، بل هو العلي الأعلى بكل وجه، ولهذا يروى عن بشر المريسي أنه كان يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل. وكذلك بلغني عن طائفة من أهل زماننا أن منهم من يقول: إن يونس عُرج به إلى بطن الحوت، كما عرج بمحمد إلى السماء. وأنه قال: "لا تفضلوني على يونس" وأراد هذا المعنى، وقد بينا كذب هذا الحديث وبطلان التفسير في غير هذا الموضع. أ. هـ. قال محشيه رحمه الله: فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن القاسم: انظر "ج2، ص: 223، 224" من مجموع فتاويه. وقال ابن بطة في الإبانة "142/3، 143": ثم ذم ربنا تعالى ما سفل ومدح ما علا فقال: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] يعني السماء السابعة، والله تعالى فيها. وقال: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] يعني الأرض السفلى، فزعم الجهمي الحلولي أن الله هناك حيث يكون كتاب الفجار الذي ذمه الله وسفله، تعالى الله عما يزعم هؤلاء علوًّا. وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] فذم الأسفل. وقال: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29] .

نفي اجتماع الله بالشياطين وتنزيهه عن مجامعة الخبث والجنس

نفي اجتماع الله بالشياطين وتنزيهه عن مجامعة الخبث والجنس وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس [مكانه مكان، ومكان الشياطين مكانهم مكان] 1 فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد2. وإنما معنى قول الله جل ثناؤه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] . .

_ 1 ما بين المعكوفين في نسخة الدكتور عميرة ونسخة الشيخ الأنصاري: "أن إبليس كان مكانه والشياطين مكانهم" والمثبت من بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية "544/2". 2 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "544/2": هذا التنزيه عن مجامعة الخبيث والنجس من الأحياء نظير التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الجمادات، ولهذا نُهي عن الصلاة في المواطن التي تسكنها الشياطين كالحمام والحش وأعطان الإبل ونحو ذلك، وإن كان المكان ليس فيه من النجاسات الجامدة شيء، بل أرواث الإبل طاهرة، بل قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح من غير وجه أنه ذكر أن الكلب يقطع الصلاة، وخصه في الحديث الصحيح بالأسود، وقال: "إنه شيطان" لما سئل عن الفرق بين الأحمر والأبيض والأسود، فقال: "الأسود شيطان". وقد ذكر شيخ الإسلام أن شيطان الجن يقطع الصلاة وأنه ملعون رجيم، وأن الشياطين ترجم بالشهب لئلا تسترق السمع وأمر سبحانه عباده بالاستعاذة من الشيطان. ثم قال رحمه الله في "545/2": فإذا كان ملعونًا مبعدًا مطرودًا عن أن يجتمع بملائكة الله أو يسمع منهم ما يتكلمون به من الوحي، فمن المعلوم أن بعده عن الله أعظم وتنزه الله وتقدسه عن قرب الشياطين فإذا كان كثير من الأمكنة مملوءًا، وكان تعالى في كل مكان كان الشياطين قريبين منه غير مبعدين عنه ولا مطرودين، بل كانوا متمكنين من سمع كلامه منه دع الملائكة وهذا يعلم بالاضطرار وجوب تنزه الله وتقديسه عنه أعظم من تنزيه الملائكة والأنبياء والصالحين وكلامه الذي يبلغه هؤلاء ومواضع عباداته، فإن نفسه أحق بالتنزيه والتقديس عن جميع هذه الأعيان المخلوقة ومن كلامه الذي يتلوه هؤلاء.

أدلة عقلية على عدم مماسة الله لخلقه

أدلة عقلية على عدم مماسة الله لخلقه يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، فذلك قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ، ومن الاعتبار في ذلك، لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صافٍ وفيه شراب صافٍ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه1. وخصلة أخرى: لو أن رجلاً بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله وله

_ 1 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "546/2": قلت: وقد تقدم أن كل ما يثبت من صفات الكمال للخلق فالخالق أحق به وأولى. فضرب أحمد -رحمه الله- مثلاً وذكر قياسًا وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محايثًا له فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به، وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعًا في حقه، وذكر أحمد في ضمن هذا القياس قوله الله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى بالمثل الأعلى، إذ القياس الأولى والأحرى هو من المثل الأعلى. وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال. ففي هذا الكلام الذي ذكره، واستدلاله بهذه الآية تحقيق لما قدمناه من أن الأقيسة في باب صفات الله، وهي أقيسة الأولى كما ذكره من هذا القياس، فإن العبد إذا كان هذا الكمال ثابتًا له فالله الذي له المثل الأعلى أحق بذلك.

إثبات أن الله بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع الخلق

إثبات أن الله بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع الخلق المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه، وعلم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق1.

_ 1 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "547/2": وهذا أيضًا قياس عقلي من قياس الأولى قرر به إمكان العلم بدون المخالطة، فذكر أن العبد إذا فعل مصنوعًا كدارٍ بناها فإنه يعلم مقدارها وعدد بيوتها مع كونه ليس هو فيها لكونه هو بناها، فالله الذي خلق كل شيء أليس هو أحق بأن يعلم مخلوقاته ومقاديرها وصفاتها وإن لم يكن فيه محايثًا لها، وهذا من أبين الأدلة العقلية، وهذان القياسان: أحدهما: لإحاطته بخلقه، إذ الخلق جميعًا في قبضته وهو محيط بهم ببصره. الثاني: لعلمه بهم؛ لأنه هو الخالق كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقال ابن بطة في "الإبانة" "136/3": باب الإيمان بأن الله -عز وجل- على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه. وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله -تبارك وتعالى- على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه، وعلمه محيط بجميع خلقه لا يأبى ذلك ولا يكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية، وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين. وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان. فقالوا: إنه في الأرض كما هو في السماء، وهو بذاته حَالٌّ في جميع الأشياء، وقد أكذبهم القرآن والسنة وأقاويل الصحابة والتابعين من علماء المسلمين. فقيل للحلولية: لِمَ أنكرتم أن يكون الله تعالى على العرش؟ وقال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] فهذا خبر الله أخبر به عن نفسه وأنه على العرش. فقالوا: لا نقول إنه على العرش لأنه أعظم من العرش، ولأنه إذا كان على العرش فإنه يخلو منه أماكن كثيرة، فنكون قد شبهناه بخلقه، إذا كان أحدهم في منزله فإنما يكون في الموضع الذي هو فيه، ويخلو منه سائر داره، ولكنا نقول: إنه تحت الأرض السابعة كما هو فوق السماء السابعة، وأنه في كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. قلنا: أما قولكم: إنه لا يكون على العرش لأنه أعظم من العرش، فقد شاء الله أن يكون =

إثبات علو الله عز وجل وفوقيته على جميع خلقه

إثبات علو الله عز وجل وفوقيته على جميع خلقه

_ = على العرش، وهو أعظم منه. قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] وقال: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [الأنعام: 3] ثم قال: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} ، فأخبر أنه في السماء وأنه بعلمه في الأرض. وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] فهل يكون الصعود إلا إلى ما علا. وقال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فأخبر أنه أعلى من خلقه. وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] فأخبر أنه فوق الملائكة وقد أخبرنا الله تعالى أنه في السماء على العرش، فقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16، 17] ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأنبياء: 19] وقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ} [الأنعام: 18] وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15] ، وقال عز وجل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وقال: {ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} [المعارج: 4] . فهذا ومثله في القرآن كثير، ولكن الجهمي المعتزلي الحلولي الملعون يتصامم عن هذا، وينكره، فيتعلق بالمتشابه ابتغاء الفتنة لما في قلبه من الزيغ؛ لأن المسلمين كلهم قد عرفوا أماكن كثيرة، ولا يجوز أن يكون فيها من ربهم إلا علمه وعظمته وقدرته، وذاته تعالى ليس هو فيها، فهل زعم الجهمي أن مكان إبليس الذي هو فيه يجتمع الله تعالى وهو فيه؟ بل يزعم الجهمي أن ذات الله تعالى حالَّة في إبليس؟ وهل يزعم أن أهل النار في النار وأن الجليل العظيم العزيز الكريم معهم فيها؟! تعالى الله عما يقوله أهل الزيغ والإلحاد علوًّا كبيرًا. وهل يزعمون أنه يحل أجواف العباد وأجسادهم وأجواف الكلاب والخنازير والحشوش والأماكن القذرة، التي يربأ النظيف الطريف من المخلوقين أن يسكنها أو يجلس فيها، أو قال له، إن أحدًا ممن يكرمه ويحبه ويعظمه ويحل فيها وبها. =

_ = والمعتزلي يزعم أن ربه في هذه الأماكن كلها، ويزعم أنه في كمه وفي فمه وفي جيبه وفي جسده، وفي كوزه وفي قدره وفي ظروفه وآنيته، وفي الأماكن التي نُجِلُّ الله تبارك وتعالى أن ننسبه إليها. قال ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع فتاويه "121/5": قد وصف الله تعالى نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله تعالى عالٍ على الخلق وأنه فوق عباده. وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أقوال عدد غير قليل من الأئمة في إثبات العلو لله -عز وجل- وأنه فوق العرش استوى، منهم ابن كلاب والأشعري والباقلاني والقاضي أبو يعلى وابن رشد وأبو نصر السجزي وأبو عمر الطلمنكي ونصر المقدسي وأبو نعيم الأصبهاني وأبو أحمد الكرخي وابن عبد البر ومعمر بن أحمد الأصبهاني وابن أبي حاتم وأبو محمد المقدسي وأبو عبد الله القرطبي وأبو بكر النقاش وأبو كبر الخلال وعبد الله بن أحمد وأبو بكر البيهقي وأبو حنيفة وعبد الله بن المبارك وابن خزيمة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهم. وقال ابن القيم -رحمه الله- في "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص: 96" إثبات استواء الله على عرشه بالكتاب: قال شيخ الإسلام: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعامة كلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوء بما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستوٍ على عرشه، مثل قوله تعالى ... وذكر آيات من كتاب الله، سبق أن ذكرناها في كلام ابن بطة في "الإبانة" ثم ذكر ابن القيم أدلة إثبات استواء الله على عرشه من السنة. فذكر قصة المعراج وتجاوز الرسول -صلى الله عليه وسلم- السموات سماء سماء، حتى انتهى إلى ربه تعالى فقربه وأدناه. وذكر حديث: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وفي لفظ: "فهو مكتوب عنده فوق العرش" وحديث: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت =

_ سبحات وجهه ما انتهى إليه من بصره من خلقه". وحديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم -وهو أعلم بهم- فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" وعندما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" وفي لفظ: "من فوق سبع سموات" ولما قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- قطعة الذهب بين أربعة قال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء" وحديث الجارية عندما سألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: "فمن أنا" قالت: أنت رسول الله قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". وحديث زينب بنت جحش عندما كانت تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات. وحديث: "الراحمون يرحمهم الله الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" وحديث: "ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها" وحديث: "إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء". وحديث: "إن لله ملائكة سيارة فضلاً يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر جلسوا معهم فإذا تفرقوا صعدوا إلى ربهم" وفي رواية مسلم: "فإذا تفرقوا صعدوا إلى السماء، فيسألهم الله -عز وجل- وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ " وحديث: "كان الله -عز وجل- على العرش وكان قبل كل شيء، وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء يكون". وحديث: "لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه" إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- ثم نقل من كلام أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم الكثير، نُحِيلُ القارئ الكريم على مراجعة هذه النقول في "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص: 118-331" حيث استشهد بكلام الإمام أحمد المذكور هنا في الرد على الجهمية. ذكره ابن القيم في "اجتماع الجيوش" "ص: 200-208". وانظر: الشريعة للآجري "1081/3-1106".

بيان ماتأولت الجهمية من قول الله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم}

بيان ماتأولت الجهمية من قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} ... بيان ما تأولت الجهمية من قول الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: الله جل ثناؤه يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة: 7] . ثم قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يعني الله بعلمه، {وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ} يعني الله بعلمه {سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يعني بعلمه فيهم {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ} يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه1. ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟

_ 1 قال ابن بطة في "الإبانة" "144/3، 145": واحتج الجهمي بقول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] . فقالوا: إن الله معنا وفينا، واحتجوا بقوله: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54] ، وقد فسر العلماء هذه الآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} إلى قوله: {خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا} إنما عني بذلك: علمه، ألا ترى أنه قال في أول الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} فرجعت الهاء والواو من هو على علمه لا على ذاته. ثم قال في آخر الآية: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فعاد الوصف على العلم، وبين أنه إنما أراد بذلك العلم، وأنه عليم بأمورهم كلها.

فإن قال: نعم فقد زعم أن الله بائن من خلقه دونه، وإن قال: لا. كفر1. وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال، لابد له من واحد منها. إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه2.

_ 1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "548/2" ثم قال رحمه الله: وذلك أن من أثبت أن شيئًا بين الله وبين خلقه فقد جعله مباينًا، فإن المباينة والبين من اشتقاق واحد، وإذا كان شيء بين شيئين فالثلاثة مباينة بعضها عن بعض، وهذا الوسط من هذا، وهو ما بينه وبين هذا هو مباينته، ومباين المباينين أولى أن يكون مباينًا. 2 قال ابن بطة في "الإبانة" "140/3-142": ويقال للجهمي: أليس قد كان الله ولا خلق؟ فيقول: نعم. فيقال له: فحين خلق الخلق أين خلقهم؟ -وقد زعمت أنه لا يخلو منه مكان- أخلقهم في نفسه أو خارجًا عن نفسه؟ فعندها يتبين لك كفر الجهمي، وأنه لا حيلة له في الجواب. لأنه إن قال: خلق الخلق في نفسه. كفر وزعم أن الله خلق الجن والإنس والأبالسة والشياطين والقردة والخنازير والأقذار والأنتان في نفسه، تعالى اله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وإن زعم أنه خلقهم خارجًا عن نفسه فقد اعترف أن ههنا أمكنة قد خلت منه. ويقال للجهمي في قوله: إن الله في كل مكان: أخبرنا هل تطلع عليه الشمس إذا طلعت؟ وهل يصيبه الريح والثلج والبرد؟ ولو أن رجلاً أراد أن يبني بناء أو يحفر بئرًا أو يلقي قذرًا لكان إنما يلقي ذلك ويضعه في ربه. فجلَّ ربنا وتعالى عما يصفه به =

إن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا كفرًا أيضًا [حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء. وإن قال: خلقهم خارجًا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم. رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة] 1، 2.

_ = الملحدون وينسبه إليه الزائغون. لكنا نقول: إن ربنا تعالى في أرفع الأماكن وأعلى عليين، قد استوى على عرشه فوق سماواته وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما نأى كما يعلم ما دنا، ويعلم ما بطن كما يعلم ما ظهر، كما وصف نفسه تعالى، فقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] . فقد أحاط علمه بجميع ما خلق في السموات العلا وما في الأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم الخطرة والهمة، ويعلم جميع ما توسوس النفوس به، يسمع ويرى وهو بالنظر الأعلى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرضين إلا وقد أحاط علمه به وهو على عرشه سبحانه العلي الأعلى. ترفع إليه أعمال العباد وهو أعلم بها من الملائكة الذين شاهدوها وكتبوها ورفعوا إليه بالليل والنهار، فجلّ ربنا وتعالى عما ينسبه إليه الجاحدون ويشبهه به الملحدون. 1 ما بين المعكوفين سقط من نسخة د. عميرة واستدركته من نسخة الشيخ الأنصاري، ومن درء تعارض العقل والنقل "176/3" ومن بيان تلبيس الجهمية "549/2" ثم بين لي أن هذا السقط وجد بعد قوله الآتي: فأين يكون ربنا؟ فقال: يكون في كل شيء. 2 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل "176/3" وبيان تلبيس الجهمية "549/2" ثم قال رحمه الله في بيان التلبيس: وهذه الحجة التي ذكرها أحمد مبناها على أنه يخلو عن المباينة للخلق المحايثة لهم. وهذا كما أنه معلوم بالفطرة العقلية الضرورية كما تقدم، فإن الجهمية كثيرًا مما يضطرون إلى تسليم ذلك كقوله: إنه في كل مكان. ولأن الخروج عن هذين القسمين مما تنكره قلوبهم بفطرتهم ومما ينكره الناس عليهم. =

إذا أردت أن تعلم الجهمي لا يقر بعلم الله فقل له: الله يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] . وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] . وقال: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] . وقال: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47] . فيقال له: تقر بعلم الله هذا الذي أوقفك عليه بالأعلام والدلالات أم لا؟ ... فإن قال: ليس له علم، كفر. وإن قال: لله علم محدث كفر، حين زعم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علمًا فعلم. فإن قال: لله علم وليس مخلوقًا ولا محدثًا، رجع عن قوله كله، وقال بقول أهل السنة] 1.

_ وقال رحمه الله في درء التعارض: فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته، من أنه لابد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينًا له أو محايثًا له، ومع المحايثة: إما أن يكون هو في العالم، وإما أن يكون العالم فيه؛ لأنه سبحانه قائم بنفسه، والقائم بنفسه إذا كان محايثًا لغيره فلابد أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات، فإنها قد تكون جميعًا قائمة بغيرها. وانظر كذلك مجموع فتاوى شيخ الإسلام "312/5، 313". 1 من قوله رحمه الله: حين زعم أنه دخل في كل مكان وحُشٍّ قذر رديء. إلى هنا، انتقل موضعه في الفصل التالي، بيان ما ذكر الله في القرآن: {وَهُوَ مَعَكُمْ} من نسخة الدكتور عميرة، ولا أدري كيف وجد هذا النقل في هذا الموضع ولعله حدث نتيجة تقدم صفحة على صفحة من المخطوط؟!

بيان ما ذكر الله في القرآن: {وهو معكم}

بيان ما ذكر الله في القرآن: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ، وهذا على وجوه: قال الله جل ثناؤه لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] . يقول: في الدفع عنكما. وقال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] . يقول: في الدفع عنا. وقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . يقول: في النصر لهم على عدوهم. وقال: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] . في النصر لكم على عدوكم. وقال: {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] . يقول بعلمه فيهم. وقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} 1 [الشعراء: 61، 62] .

_ 1 إن الآيات السابقة التي تدل على معية الرب تبارك وتعالى مع بعض المخلوقين يوهم =

يقول: في العون على فرعون1. فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه قال: هو في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين منه. فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماسًّا2؟

_ = ظاهرها أن هناك اضطرابًا مع قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وغيرهما من الآيات التي تثبت أن الرب سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، وأجاب على هذا الإشكال فضيلة الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في كتاب "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" "ص: 191" فقال: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] يدل على أنه تعالى مستوٍ على عرشه عالٍ على جميع خلقه، وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] يوهم خلاف ذلك. والجواب: أنه تعالى مستوٍ على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه، استواء لائقًا بكماله وجلاله، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق. ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلاً في شيء من أجزاء تلك الحبة، مع أنه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها، والسموات والأرض ومن فيهما في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده، مع أنه مستوٍ على عرشه، لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا. 1 في نسخة د. عميرة: قريش. والتصويب من نسخة الشيخ الأنصاري ودرء تعارض العقل والنقل "178/3" وبيان تلبيس الجهمية "551/2" واجتماع الجيوش الإسلامية "ص: 205". 2 قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان تلبيس الجهمية "553/2". وأحمد -رحمه الله- ذكر ما يعلم بضرورة العقل من أنه إذا كان فيه وليس بمباين لأنه لابد =

قال: لا. قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين؟ فلم يحسن الجواب. فقال: بلا كيف. فيخدع جهال الناس بهذه الكلمة وموه عليهم1. فقلنا: أليس إذا كان يوم القيامة، أليس إنما هو في الجنة والنار والعرش والهواء2؟

_ = أن يكون مماسًّا له، فإنه لا يعقل كون الشيء في الشيء إلا مماسًّا له أو مباينًا له، فإنه لما كان خطابه مع الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان ذكر أنه لابد من المماسة أو المباينة على هذا التقدير، وهو تقدير المحايثة، فإن أولئك لم يكونوا ينكرون دخوله في العالم، وإنما ينكرون خروجه. 1 قال ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "553/2": فبين أحمد أن هذه الكلمة إنما يقبلها الجهال فينخدعون بها، لأنهم يعتقدون أن ما ذكره هذا ممكن، وإن لم نعلم نحن كيفيته، وإنما كانوا جهالاً لأنهم خالفوا العقل والشرع، وقبلوا ما لا يقبل العقل، واعتقدوا هذا من جنس ما أخبر به الشارع من الصفات التي لا نعلم نحن كيفيتها. 2 قال ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "557/2": ثم ذكر أحمد الحجة الثانية فقال: قلنا لهم: إذا كان يوم القيامة أليس إنما الجنة أو النار والعرش والهواء. إلى آخره. فبيَّن أن موجب قولهم أن يكون بعضه على العرش، وبعضه في الجنة، وبعضه في النار، وبعضه في الهواء، لأن هذه هي الأمكنة التي ادعوا أن الله فيها فيتبعض ويتجزأ بتبعض الأمكنة وتجزيها، وذكر أنه عند ذلك تبين للناس كذبهم على الله، لأن الناس في الدنيا آمنوا بالغيب وبأمور أخرى لم يروها في الدنيا وسوف يرونها في الآخرة، فإن ظهر لهم أن هؤلاء يقولون إنه يكون في الآخرة، كما كان في الدنيا متفرقًا متجزءًا لم يمكن أن يراه أحد، ولا أن يحايث أحدًا، ولا أن يختص أولياؤه بالقرب منه دون أعدائه، بل يكون في النار مع أعدائه، كما هو في الجنة مع أوليائه، فظهر بذلك من كذبهم على الله ما لم يظهر بما ذكروه في أمر الدنيا.

قال: بلى. فقلنا: فأين يكون ربنا؟ فقال: يكون في كل شيء. كما كان حين في الدنيا في كل شيء. فقلنا: فإن مذهبكم إن ما كان من الله على العرش فهو على العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء. فعند ذلك تبين كذبهم على الله جل ثناؤه1.

_ 1 إلى هنا انتهى نقل ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "551/2، 552" وفي درء تعارض العقل والنقل "177/3، 178" فقال رحمه الله في بيان التلبيس: فذكر الإمام أحمد بعد تفسير المعية التي احتجوا بها من جهة السمع حجتين عقليتين، فذكر قول الجهمية أنه في كل شيء غير مماس للأشياء، ولا مباين لها، وهذا قول الجهمية الذين ينفون مباينته، ثم يبقون مع ذلك مماسته، فيقولون هو في كل مكان، والصنف الآخر كالمؤسس ينفون مباينته الحقيقية، وإن قالوا إنهم يثبتون مباينته بالحقيقة والزمان، فإن أولئك أيضًا وإن نفوا المباينة فإنهم يثبتونها بالحقيقة والزمان، فكلا الطائفتين يقولون: إنهم يثبتون مباينته لكن ينفون أن يكون خارج العالم. وكل من الصنفين خصم للآخر فيما يوافقه عليه الجماعة، فالأولون يقولون كما تقول الجماعة: إنه إذا لم يكن مباينًا للعالم بغير الحقيقة والزمان كان محايثًا له خلافًا للطائفة الأخرى، ثم يقول بما تقول به الأخرى: وليس بمباين للعالم بغير الحقيقة والزمان، فيلزم أن يكون محايثًا له. والآخرون يقولون إذا كان محايثًا للعالم كان مماسًّا له، كما تقول الجماعة خلافًا لتلك الطائفة، ثم يقولون مع الجماعة: وليس بمماس للعالم، فيلزم أن لا يكون فيه ولا مباينًا له بغير الحقيقة والزمان، فلا يكون خارجًا عنه. وقال رحمه الله في درء التعارض: فكان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يبينون فساد قول الجهمية، سواء قالوا: إنه في كل مكان أو قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، أو قالوا: إنه في العالم أو خارج العالم، إذ جماع قولهم: إنه ليس مباينًا للعالم مختصًّا بما فوق العالم. =

الكلام على اسم الله في القرأن هل هو مخلوق؟

الكلام على أسم الله في القران هل هو مخلوق؟ أوزعمت الجهمية أن الله -جل ثناؤه- في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم، ما كان اسمه؟ قالوا: لم يكن له اسم1. فقلنا: وكذلك قبل أن يخلق العلم أكان جاهلا لا يعلم حتى يخلق لنفسه علمًا2. وكان لا نور له حتى يخلق لنفسه نورًا. وكان ولا قدرة له حتى يخلق لنفسه قدرة؟

_ = ثم هم مع هذا مضطربون يقولون هذه تارة، وهذه تارة، ولا يمكن بعض طوائفهم أن يفسد مقالة الأخرى لاشتراكهم في الأصل الفاسد. 1 قال الخلال في كتاب السنة "138/5": قال أبو عبد الله: فالقرآن من علم الله ألا تراه يقول: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} والقرآن فيه أسماء الله -عز وجل- أي شيء تقولون؟ ألا يقولون إن أسماء الله -عز وجل- غير مخلوقة؟ مَنْ زعم أن أسماء الله -عز وجل- مخلوقة فقد كفر، لم يزل الله -عز وجل- قديرًا عليمًا عزيزًا حكيمًا سميعًا بصيرًا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة ولسنا نشك أن علم الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق، وهو كلام الله -عز وجل- ولم يزل الله -عز وجل- حيكمًا. ثم قال أبو عبد الله: وأي كفر أبين من هذا؟! وأي كفر أكفر من هذا؟! فإذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة وأن علم الله مخلوق، ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون: إنما يقولون القرآن مخلوق، فيتهاونون ويظنون أنه هين ولا يدرون ما فيه من الكفر. 2 قال الخلال في السنة "29/6": أخبرني أبو النضر إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من قال إن أسماء الله -عز وجل- مخلوقة، وإن علمه مخلوق فهو كافر. أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، لأنه يزعم أن علم الله مخلوق، وأنه لم يكن له علم حتى خلقه.

فعلم الخبيث أن الله قد فضحه، وأبدى عورته حين زعم أن الله -جل ثناؤه- في القرآن إنما هو اسم مخلوق. وقلنا للجهمية: لو أن رجلاً حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبًا كان لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق، ولم يحلف بالخالق، ففضحه الله في هذه. وقلنا له: أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء من بعدهم، والحكام والقضاة، إنما كانوا يحلفون الناس بالله الذي لا إله إلا هو؟ فكانوا في مذهبهم مخطئين، إنما كان ينبغي للنبي -عليه السلام- ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله. يقولون: لا إله إلا الذي خلق الله، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله بما ادعى من الكذب على الله. ولكن نقول: إن الله هو الله، وليس الله باسم: إنما الأسماء شيء سوى الله1؛ لأن الله إن لم يتكلم فبأي شيء خلق الخلق؟

_ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى "185/6-187": اختلف في الاسم والمسمى: هل هو هو أو غيره أو لا يقال: هو هو، ولا يقال: هو غيره أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟ فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة بعد أحمد وغيره، والذي كان معروفًا عند أئمة السنة أحمد وغيره الإنكار على الجهمية الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة. فيقولون: الاسم غير المسمى. وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق، وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلامه غير مخلوق، بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء. والجهمية يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمى نفسه باسم هو المتكلم به. بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه =

قالوا: أموجود عن الله أنه خلق الخلق بقوله وبكلامه؟ وحين قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] . فقالوا: إنما معنى: {قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} يكون. قلنا: فلِمَ أخفيتم أن يقول له، فقالوا: إنما معنى كل شيء في القرآن معانيه، وقال الله مثل قول العرب: قال الحائط، وقالت النخلة فسقطت، فالجهمية لا يقولون بشيء، فقلنا: على هذا أفتيتم؟ قالوا: نعم. فقلنا: فبأي شيء خلق الخلق إن كان الله في مذهبكم لا يتكلم؟ فقالوا: بقدرته. فقلنا: هي شيء؟ قالوا: نعم، فقلنا: قدرته مع

_ = الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به، فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه. ثم قال رحمه الله: والمقصود هنا أن المعروف عند أئمة السنة إنكارهم على من قال: أسماء الله مخلوقة، وكان الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم. وقال الدارمي -رحمه الله- في نقضه على المريسي الجهمي العنيد "161/1، 162": فمن ادعى أن صفة من صفات الله تعالى مخلوقة أو مستعارة فقد كفر وفجر؛ لأنك إذا قلت: الله فهو الله. وإذا قلت: الرحمن فهو الرحمن. وهو الله. وإذا قلت: الرحيم فهو كذلك. وإذا قلت: حكيم حميد مجيد جبار متكبر قاهر قادر، فهو كذلك، وهو الله سواء. لا يخالف اسم له صفته ولا صفته اسْمًا. ثم قال رحمه الله: والله تبارك وتعالى اسمه كأسمائه سواء، لم يزل كذلك ولا يزال، لم تحد له صفة، ولا اسم لم يكن كذلك قبل الخلق كان خالقًا قبل المخلوقين، ورازقًا قبل المرزوقين وعالِمًا قبل المعلومين، وسميعًا قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، وبصيرًا قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة.

الأشياء المخلوقة؟ قالوا: نعم. فقلنا: كأنه خلق خلقًا بخلق، وعارضتم القرآن وخالفتموه حين قال الله جل ثناؤه: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] . فأخبرنا الله أنه يخلق، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] . فإنه ليس أحد يخلق غيره، وزعمتم أنه خلق الخلق غيره، فتعالى الله عما قالت الجهمية علوًّا كبيرًا.

بيان ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق، من الأحاديث التي رويت

بيان ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق، من الأحاديث التي رويت فقالوا: جاء الحديث: "إن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب، فيأتي صاحبه فيقول: هل تعرفني؟ فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن أظمأت نهارك وأسهرت ليلك" 1. قال: فيأتي به الله فيقول: يا رب. فادعوا أن القرآن مخلوق من قبل هذه الأحاديث. فقلنا لهم: القرآن لا يجيء إلا بمعنى: أنه قد جاء من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . فله كذا وكذا. ألا ترون أن من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يجئه إلا بثوابه، لأننا نقرأ القرآن فيقول: يا رب. لأن كلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال. وإنما معنى: أن القرآن يجيء إنما يجيء ثواب القرآن. يا رب2.

_ 1 أخرجه أحمد "348/5، 352، 361" وابن ماجه "رقم: 3781" والدارمي بنحوه "رقم: 3394" وفي الزوائد: إسناده صحيح رجاله ثقات. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع "رقم: 6416". 2 قال ابن بطة في الإبانة "202/2-205": ثم إن الجهمية لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأولوها موهوا بها على من لا يعرف الحديث، مثل الحديث الذي روي: يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب فيقول له القرآن: أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك، فيأتي اللهَ فيقول: أي رب تلاني ووعاني وعمل بي. والحديث الآخر: "تجيء البقرة وآل عمران كأنهما =

_ = غمامتان، فأخطأ في تأويله، وإنما عنى في هذه الأحاديث في قوله: يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصلاة ويجيء الصيام ويجيء ثواب ذلك كله، وكل هذا مبين في الكتاب والسنة. قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7، 8] فظاهر اللفظ من هذا أنه يرى الخير والشر، ليس يرى الخير والشر، وإنما يرى ثوابهما والجزاء عليهما من الثواب والعقاب. كما قال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] وليس يعني أنها تلك الأعمال التي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشر، وإنما تجد الجزاء على ذلك من الثواب والعقاب. كما قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ} [النساء: 123] فيجوز في الكلام أن يقال: يجيء القرآن وتجيء الصلاة وتجيء الزكاة، يجيء الصبر، يجيء الشكر، وإنما يجيء ثواب ذلك كله، يجزى من عمل الشيء بالسوء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} أَفَتَرَى يرى السرقة والزنا وشرب الخمر وسائر أعمال المعاصي إنما يرى العقاب والعذاب عليهما، وبيان هذا وأمثاله في القرآن كثير. وأما ما جاءت به السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ظل المؤمن صدقته" فلا شيء أبين من هذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة فإرشادك الضالة صدقة وتحيتك لأخيك بالسلام صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط صدقة" "وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، ومباضعتك لأهلك صدقة"، فكيف يكون الإنسان يوم القيامة في ظل مباضعته لأهله؟ إنما عنى بذلك كله ثواب صدقته، أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فلينظر معسرًا أو ليدع له" فأعلمك أن الظل من ثواب الأعمال.

بيان ما تأولت الجهمية من قول الله: {هو الأول والآخر}

بيان ما تأولت الجهمية من قول الله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} فزعموا أن الله هو قبل الخلق، فصدقوا، وقالوا: يكون الآخر بعد الخلق، فلا يبقى شيء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب ولا عرش ولا كرسي. وزعموا أن شيئًا مع الله لا يكون، هو الآخر كما كان، فأضلوا بهذا بشرًا كثيرًا1. وقلنا: أخبرنا الله عن الجنة ودوام أهلها فيها، فقال: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] .

_ 1 قال الآجري في كتاب الشريعة "1101/3-1103": ومما يحتج به الحلولية مما يلبسون به على من لا علم معه قول الله عز وجل: {هوَ الأَوَّلُ والآَخِرُ والظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وقد فسر أهل العلم هذه الآية: هو الأول: قبل كل شيء من حياة وموت. والآخر: بعد الخلق. وهو الظاهر: فوق كل شيء، يعني السموات. وهو الباطن: دون كل شيء، يعلم ما تحت الأرضين، ودل على هذا آخر الآية: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . كذا فسره مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان، وبينت ذلك السنة. حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن شاهين قال: حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء". قال محشيه: إسناده حسن.

فإذا قال جل وجهه: {مُقِيمٌ} وقال: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] وقال: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] ، فإذا قال الله: {دَائِمٌ} لا ينقطع أبدًا. وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] وقال: {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] . وقال: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . وقال: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 3] ، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] . وقال: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32، 33] . ومثله في القرآن كثير. وذكر أهل النار فقال: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] . وقال: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت: 23] . وقال: {لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: 49] . وقال: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] . وقال: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] . وقال: {خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] . وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] .

وقال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 22] . وقال: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة: 8] . ومثله في القرآن كثير 1. وأما السماء والأرض فقد بادتا؛ لأن أهلها صاروا إلى الجنة والنار. وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب؛ لأنه سقف الجنة والله عليه فلا يهلك ولا يبيد. وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . وذلك أن الله أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] . قالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأنزل الله آية يخبر عن أهل السموات وأهل الأرض أنهم يموتون، فقال: {كُلُّ شَيْءٍ} من الحيوان {هَالِكٌ} يعني ميت {إِلاَّ وَجْهَهُ} أنه حي لا يموت، فأيقنوا عند ذلك بالموت. وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله في كل مكان لا يخلو منه مكان فقلنا: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 134] . لِمَ يتجلى للجبل إن كان فيه بزعمهم؟ فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن يتجلى لشيء هو فيه، ولكن الله -جل ثناؤه- على العرش، وتجلى

_ 1 انظر في أبَدِّية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، وكذا النار وأبديتها ودوامها: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن قيم الجوزية -رحمه الله- الباب السابع والستون "ص: 480-528" وكذا "الشريعة" للآجري "1371/3-1382".

لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئًا لم يكن رآه قبل ذلك1. وقلنا للجهم: فالله نور؟ فقال: هو نور كله، فقلنا: فالله قال: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] . فقد أخبر الله -جل ثناؤه- أن له نورًا. فقلنا: أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور، فلِمَ لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إن زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إن أدخل البيت يضيء؟ 2. فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى. فرحم الله من عقل عن الله ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة. وقال بقول العلماء. وهو قول المهاجرين والأنصار، وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته3.

_ 1 قال ابن بطة في كتاب "الإبانة" "139/3، 140": وزعم الجهمي أن الله لا يخلو منه مكان، وقد أكذبه الله تعالى، ألم تسمع إلى قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] فيقال للجهمي: أرأيت الجبل حين تجلى له؟ وكيف تجلى للجبل وهو في الجبل؟! 2 قال ابن بطة في كتاب "الإبانة" "140/3": وقال الله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} [الزمر: 69] فيقال للجهمي: هل الله نور؟ فيقول: هو نور كله. قيل له: فالله في كل مكان؟ قال: نعم. قلنا: فما بال البيت المظلم لا يضيء من النور الذي هو فيه، ونحن نرى سراجًا فيه فتيلة يدخل البيت المظلم فيضيء، فما بال الموضع المظلم يحل الله تعالى فيه بزعمكم فلا يضيء. فعندها يتبين لك كذب الجهمي وعظيم فريته على ربه. 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "بيان تلبيس الجهمية" "592/1": =

والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. آخر الكتاب

_ = وجميع البدع: كبدع الخوراج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدعة الجهمية النفاة، فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلاً، ولهذا كانت آخر البدع حدوثًا في الإسلام ولما أحدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، ولهذا يصير محققوهم إلى مثل فرعون مقدم المعطلة، بل وينتصرون له ويعظمونه. والمبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، وبيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. أ. هـ. قلت: فأسألك اللهم أن تجعل عملي في هذا الكتاب من الجهاد في سبيلك، وأن تجعله من موازيني وصحائفي يوم العرض عليك، وبيض به وجهي يوم تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف. انتهيت من تحقيق هذا الكتاب المبارك في يوم الجمعة الموافق 20 من ربيع الأول لعام 1424هـ الموافق 2003/6/20م، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات صبري بن سلامه بن شاهين جوال: 052929348 ص. ب 380937 رمز بريدي 11345

الفهرس

الفهرس ... فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة مقدمة التحقيق.................................................5 أحمد بن حنبل إمام السنة........................................6 أصول البدع أربعة..........................................................8 لماذا هذا الكتاب؟..........................................................9 هل يكفر الجهمية بأعيانهم..................................................12 الإشكال في هذا الكتاب..................................................15 الأدلة على صحة نسبة هذا الكتاب........................................17 ترجمة الإمام أحمد رحمه الله..............................................30 ذكر شيء من محنة الإمام أحمد...........................................36 مقدمة المصنف رحمه الله................................................55 باب بيان ما ضلت فيه الزنادقة...........................................58 تعريف الزنادقة والزنديق...............................................58 شك الزنادقة في قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} .....................60 شك الزنادقة في قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} ........................61 شك الزنادقة في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} ........................62 شك الزنادقة في قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} .....................64 شك الزنادقة في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} .......................65 شك الزنادقة في قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} .........................67 شك الزنادقة في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ......................68 شك الزنادقة في قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} ...............69

شك الزنادقة في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} ..............72 شك الزنادقة في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} .......73 شك الزنادقة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} ...................75 شك الزنادقة في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} .....................................76 شك الزنادقة في قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ....................80 شك الزنادقة في قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ..........................82 شك الزنادقة في قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} .............................83 شك الزنادقة في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} ...............................84 شك الزنادقة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .................................85 شك الزنادقة في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ..................86 شك الزنادقة في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ..........................88 شك الزنادقة في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ...................89 شك الزنادقة في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ................................91 شك الزنادقة في قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} .................................92 مناظرة الجهم للسمنية................................................................93 اعتماد الجهم على ثلاث آيات من المتشابه.............................................95 تفسير الجهمية لجعل بمعنى خلق والرد عليهم..........................................101 بيان ما فصل الله بين قوله وخلقه...................................................108 الكلام على واو الثمانية...........................................................108 بيان ما أبطل الله أن يكون القرآن إلا وحيا وليس بمخلوق.............................111 الكلام على لفظة: لعمري........................................................113 الرد على الجهمية في تسمية القرآن شيئًا............................................115 الرد على الجهمية في تسمية القرن محدثًا............................................121

اجتماع الشيئين في اسم واحد يجري عليه المدح أو الذم........................122 شبهة أخرى للجهمية على أن القرآن مخلوق................................125 بيان ما جحدت الجهمية من قول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ...................129 الرد على الجهمية في قولهم: إنها تنتظر الثواب................................130 إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة.........................................132 بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى.........................135 بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش............................142 الرد على الجهمية في زعمهم أن الله في كل مكان...........................144 إثبات ذم صفة السفل وأنها منفية عن الله عز وجل...........................147 نفي اجتماع الله بالشياطين وتنزيهه عن مجامعة الخبث والنجس.................148 أدلة عقلية على عدم مماسة الله لخلقه........................................149 إثبات أن الله بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع الخلق..........................150 إثبات علو الله عز وجل وفوقيته على جميع خلقه..............................151 بيان ما تأولت الجهمية من قول الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} ....154 بيان ما ذكر في القرآن: {وهو معكم} .......................................158 الكلام على اسم الله في القرآن هل هو مخلوق؟...............................162 بيان ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت................166 بيان ما تأولت الجهمية من قول الله: {هُوَ اَلأَوَلُ وَاَلآَخِر} ........................168

§1/1