الرد على الجهمية ت الشوامي

الدارمي، أبو سعيد

الرَّدُّ عَلى الجَهَمِّيَة تَصْنيفُ أبي سَعِيدٍ عُثمَانَ بن سعِيدٍ الدَّارمِيِّ حَقَّقَهُ وضَبَطَ نَصَّهُ أَبوُ عَاصِم الشَّوَامِيّ الأَثرِي وبِذَيْلِهِ التَّخريجَاتُ العِلمِيَّة لِكتابِ الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّة تَصْنِيفُ أبي عَاصِمٍ الشَّوَامِيّ الأَثريِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقدَّمةُ التحْقِيق الحمدُ لله الكَبِيرِ المُتعَالِ، المُتَّصفُ بصفاتِ الجَلالِ ونُعوتِ الكَمَالِ، الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ وأَرسَى فيها الجِبَالَ، تَقَدَّسَ وتنَزَّه عن الشَّبِيهِ والمِثالِ، {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}، نَحْمَدُكَ الَّلهُمَّ ونَسْتَهْدِيكَ ونَسْتَغْفِرُكَ، ونَتَوَكَّلُ عليكَ ولا نَكْفُركَ، ونَخْلَعُ مَن يَكفُرك، وصلى الله على نَبِيِّنا مُحمَّدٍ الدَّاعي إلى الهُدى والرَّشَادِ، وعَلى أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمَ وإِسْمَاعِيلَ، وعلى أَصْحَابِ رَسُولِه، الذين اصْطَفَاهُم مِنْ خَلْقِهِ، لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وائْتَمنَهُم على حِفْظِ كِتَابِهِ، صَلاةً وسَلامًا دَائِمَيْن، ما نَاحَتْ مُطَوَّقةٌ وما ذَرَّ شَارِقٌ. وبعد: فهذا كتاب «الرَّدُّ عَلَى الجَهْمَيَّة» للحافظ العلامة المحقق أبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، وهو من أَجَلِّ ما صُنِّف في هذا الباب، أو هو من أَجلِّ ما وصَلَ إِلينا مما صُنِّف في هذا الباب، فقد صنف تحت هذا العنوان، أكثر أهل العلم، كالإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، والإمام عبد الله بن الإمام أحمد، ونعيم بن حماد، وغيرهم، وذلك في مصنفات مستقلة، أو في طِيَّات كِتابٍ

جَامِعٍ؛ كالبُخَاريِّ، وبعضِ أصحابِ السُّنَنِ، وكابنِ بَطَّة، والأَشْعَري، والَّلَالَكَائِي، والآجُرِّي، وغَيْرِهِم. وقد اهتم العلماء في القرن الثالث الهجري بالتَّصَدِّي لهؤلاءِ الزَّائِغَة -أعنِي الجَهمية- الذين هم كما ذكر المصنف أضل من اليهود والنصارى؛ بحيث إنهم قد عطلوا صفات الرب تبارك وتعالى، فجعلوه كالعدم، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون عُلوًا كبيرًا. وكان مما يُمَيِّزُ هذه الحِقْبَةَ الزمنية في التصنيف؛ سهولةُ العبارة، والبعد عن التعقيد والتَّكلُّف، واستخدامِ اصطلاحات المناطقة والفلاسفة وعلماء الكلام، الذي ليس من تحته طائِل إلا تشتيت الذهن، وعرقلته عن الوصول إلى الحق، وأيضًا مما يميز هذه الفترة في التصنيف؛ الاهتمامُ بالأسانيد والتنافسُ في العلو بها، وذلك لعلمهم أن ذلك من الدين، فكانوا لا يَصْدُرُونَ عن رأيهم، ولا عن هوى أنفسهم، إنما كان قَائِدُهُم الإِسنادُ، بِقَالَ اللهُ، وقَالَ رَسُولُه - صلى الله عليه وسلم -، ومن يقرأ في هذا الكتاب وفي أمثاله ممن نَسَجَ عَلى مِنْوَالِهِ، سيجدُ هَذا بيِّنًا لاحِبًا لا لَبْسَ فيه. فكان واجبنا -ونحن نحاول أن نُسْهِمَ في إحياء تراث هذه الأمة التي أتت بما لم تأت به أمةٌ من الأمم قبلها- أن نكونَ أُمناء على هذا الإِرْثِ العظيم الذي تركه لنا أسلافُنا، ليكون نِبْراسًا لنا، نَستضيءُ به في ظلمات الجهل والضلال، وأعني بالأمانة هنا؛ أمانة إخراج النص إلى الناس دون تحريف أو تصحيف أو تبديل لأي كلمة وردت في أصل خطي ورثناه عن أسلافنا، ولا

توثيق نسبة الكتاب

يَتَأَتَّى ذلك إلا بتعظيم هذا الإرث والتعامل معه بحذر شديد، وإفراغ الجهد في البحث عن أي إشكال يقابلنا أثناء التحقيق، ومحاولة توجيه النص بقدر الطاقة. وهذا وللأسف البالغ أصبح أمرًا عزيزًا جدًا في هذه الأوقات، وأصبح تحقيق النصوص؛ مسخًا لها، بحيث إذا وجد المحقق! كلمة في النص الذي وَرِثَه من أسلافه لا يستطيع أن يفهمها، حذفها بسفاهة جرأته ووضع غيرها مكانها دون أن يَتَعنَّى في البحث عن هذه الكلمة ومحاولة توجيهها، وهذا لعمر الله من أقبح الخيانة. وهذا ما حاولت أن أتلافاه في تحقيقي لهذا الكتاب العظيم في بابه، بقدر طاقتي، والله ولي التوفيق. توثيق نسبة الكتاب: اشتهر هذا الكتاب جدًا بنسبته إلى مُصَنِّفِه مما لا يدع مجالا للشَّك في ذلك، وقد نقل منه كثير من العلماء ونسبوه لمصنفه، وعلى رأس هؤلاء الذين نقلوا منه؛ شيخُ الإِسلامِ ابن تيمية، فقد نَقَل منه فقرات كاملة تجد ذلك بوضوح في كتابه القيم «درء تعارض العقل والنقل»، وكذلك تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه «اجتماع الجيوش الإسلامية»، وأيضا الإمام الذهبي والذي قد انتقى من كتاب الرد على الجهمية جملة من أحاديثه رواها بإسناده إلى المصنف في كتابه «المنتقى من كتاب الرد على الجهمية» -وهو مطبوع-، وهذا على سبيل المثال، لا الحصر.

موضوعه وأهميته

موضوعه وأهميته: ولا يخفى موضوع الكتاب وأهميته وأكتفي بذكر قول العلامة ابن القَيِّم، حيث قال: «وكِتَابَاهُ مِنْ أَجَلِّ الكتب المُصنَّفة في السُّنة وأَنْفَعِهَا، وينبغي لكل طَالبِ سُنَّة -مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة- أن يقرأ كتابَيْه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يُوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جدًا، وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما». أهـ من كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية (1/ 143). قلت: ويعني بكتابيه؛ كتابنا هذا، وكتاب نقض الدارمي لبشر المريسي. وصف النسخة الخطية: اعتمدت في تحقيقي لهذا الكتاب على نسخة وحيدة، وهي من محفوظات مكتبة كوبرلي رقم (850) وتقع ضمن مجموع من صفحة ست وسبعين إلى صفحة مائة وعشرة، أي في حوالي أربع وثلاثين ورقة، وجهان في كل ورقة، ومسطرتها زهاء خمس وعشرين سطرًا، في كل سطر زهاء خمس عشرة كلمة، وبداية هذا المجموع يحتوي على كتاب نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد، للمُصَنِّف أيضًا، وناسخ المجموع كله واحد وقد كتبت بخط نسخي عادي، واضح، وفي رأيي أن هذه النسخة قيمة جدًا لاسيما وفي بداية الكتاب العديد من السماعات لشيخ الإسلام ابن

عملي في الكتاب

تيمية، وأبي الحجاج يوسف المِزِّي، وابن المُحِب، ويوسف بن عبد الهادي، وغيرهم. وقد تم الفراغ من نسخ كتاب الرد على الجهمية في شهر رجب الفرد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة (735) بمدرسة الحافظ ضياء الدين بسفح قَاسْيُون ظاهر دمشق، جاء ذلك مكتوبًا على آخر ورقة من المخطوط. هذا وقد صنف الدارمي هذا الكتاب تقريبًا سنة مائتين وخمسين من الهجرة النبوية، فقد قال في صفحة (224) وهو يتحدث عن القرآن «لم يَأْتُوا بمثله مُنْذُ مائَتَيّ وخمسين سنة». عملي في الكتاب: قابلت هذه النسخة الخطية على مطبوعة مكتبة الدار السلفية والتي قام بتحقيقها فضيلة الشيخ بدر بن عبد الله البدر حفظه الله تعالى (الطبعة الأولى، سنة 1405 هـ) وهي أفضل الموجود من المطبوعات لهذا الكتاب، وإن كان بها بعض القصور، ويعتذر له عن ذلك حيث لم يعتمد الشيخ على نسخة خطية، وإنما اعتمد على الطبعة الأولى والتي طبعت في ليدن (سنة 1960 م) بتحقيق أحد المستشرقين ويدعى (جوستا فيتستام)، ولا يخفى القصور في عمل المستشرقين، فأثبتت ما كان في الأصل الخطي، ووجهته حسب ما تقتضيه الفصحى، وأشرتُ إلى بعض الأخطاء في مكانها، وضبطت أكثر النص بالشكل، ورقمت أسانيد الكتاب بالتسلسل.

وإِتمامًا للفائدة فقد ذَيَّلْتُ الكتاب بكتابي «التخريجات العلمية لكتاب الرد على الجهمية»، وهو تخريجٌ وسط، لم أسهب فيه، أدرس فيه أسانيد الكتاب، وأحكم عليها بما تقتضيه قواعد علم الحديث، وقد وجدت في تخريجات فضيلة الشيخ بدر حفظه الله جملة من الأخطاء رأيت أنه لا يحسن السكوت عليها، فنبهت عليها في موضعها من الكتاب، ويعلم الله أني أُجِلُّ الشيخ وإنما كان قصدي إظهار الخطأ ومعالجته بطريقة علمية ليكون مثالا يحتذى، خدمة للعلم لا أكثر، والله على ما أقول شهيد. وأخيرًا قمت بصناعة فهارس علمية للكتاب. وفي الخِتَامِ أَوَدُّ أن أتقدم بالشكر لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب القيم، وأخص بالذكر منهم: أولا: أشكر الشيخين الجليلين؛ الدكتور أحمد مَعْبَد عبد الكريم، والشيخ أبا إسحاق الحُوَيْنِي، متعهما الله بالعافية والستر في الدنيا والآخرة؛ فهما كانا وراء ما أنتجت وما سأنتج إن شاء الله. ثم: فضيلة الشيخ أبا الفضل عبد السلام بن عبد الكريم، صاحب المكتبة الإسلامية بالقاهرة، فهو الذي لفت انتباهي لهذا الكتاب وأشار عَلَيَّ بتحقيقه، ولم يكن هذا في حسباني، ولكن الله إذا أراد شيئًا هيَّأ أسبابه. وأخي الفاضل أبا عمر عبد المحسن بن محمد بن فهيم، فقد قام معي بمقابلة الجزء الأكبر من المخطوط، فجزاه الله خيرًا.

وأخيرًا أشكر أخي الباحث النحرير واللغوي القدير الشيخ صفاء الدين بن محمد بن إبراهيم آل قُمِّيح، والذي أرشدني لتوجيه إشكالات الكتاب اللغوية، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله في ميزان حسناته. ومما لا أشك فيه أنه قد وقع خلل أو خطأ فيما كتبته وذهبت إليه، فذلك مما لا يسلم منه بنو آدم، وأنا لا أستنكف أبدًا أن أراجع الصواب إن ظهر لي، فجزى الله خيرًا أخا كريمًا نظر في عملي نظرة إنصاف، فسددني إن وجد خطأً، ودعا لي إن وجد خيرًا. واللهَ تعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن لا يخزني يوم يبعثون {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} والحمد لله ظاهرًا وباطنًا، أولاً وآخرًا. وكتبه راجي عفو ربه الكريم أبو عاصم الشَّوَامِي محمد بن محمود بن إبراهيم في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة واحد وثلاثين وأربعمائة وألف من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -

ترجمة المصنف

ترجمة المصنف قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/ 319): الدارمي: عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد: الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، شيخ تلك الديار، أبو سعيد، التميمي، الدارمي، السجستاني، صاحب «المسند» الكبير والتصانيف. ولد قبل المائتين بيسير، وطوف الأقاليم في طلب الحديث. وسمع: أبا اليمان، ويحيى بن صالح الوحاظي، وسعيد بن أبي مريم، ومسلم بن إبراهيم، وعبد الغفار بن داود الحراني، وسليمان بن حرب، وأبا سلمة التبوذكي، ونعيم بن حماد، وعبد الله بن صالح، كاتب الليث، ومحمد بن كثير، ومسدد بن مسرهد، وأبا توبة الحلبي، وعبد الله بن رجاء الغداني، وأبا جعفر النفيلي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وفروة بن المغراء، وأبا بكر بن أبي شيبة، ويحيى الحماني، وسهل بن بكار، وأبا الربيع الزهراني، ومحمد بن المنهال، والهيثم بن خارجة، وخلقًا كثيرًا، بالحرمين والشام، ومصر والعراق، والجزيرة وبلاد العجم. وصنف كتابًا في «الرد على بشر المريسي»، وكتابًا في «الرد على الجهمية» رُوِّينَاهُمَا. وأخذ علم الحديث وعلله عن علي، ويحيى، وأحمد، وفاق أهل زمانه، وكان لَهِجًا بالسُّنة، بَصيرًا بالمناظرة.

حدث عنه: أبو عمرو: أحمد بن محمد الحيري، ومحمد بن إبراهيم الصرام، ومُؤَمِّل بن الحسين، وأحمد بن محمد بن الأزهر، ومحمد بن يوسف الهروي، وأبو إسحاق بن ياسين، ومحمد بن إسحاق الهروي، وأحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي، وأبو النضر محمد بن محمد الطُّوسِي الفقيه، وحامد الرفاء، وأحمد بن محمد العنبري، وأبو الفضل يعقوب القراب، وخلق كثير من أهل هراة، وأهل نيسابور. قال الحاكم: سمعت محمد بن العباس الضبي، سمعت أبا الفضل يعقوب بن إسحاق القراب يقول: ما رأينا مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه، أخذ الأدب عن ابن الأعرابي، والفقه عن أبي يعقوب البويطي، والحديث عن ابن معين وابن المديني، وتقدم في هذه العلوم،. وقال أبو حامد الأعمشي: ما رأيت في المحدثين مثل محمد بن يحيى وعثمان بن سعيد، ويعقوب الفسوي. وقال أبو عبد الله بن أبي ذهل: قلت لأبي الفضل القراب: هل رأيت أفضل من عثمان بن سعيد الدارمي؟ فأطرق ساعة، ثم قال: نعم، إبراهيم الحربي، وقد كنا في مجلس الدارمي غير مرة، ومَرَّ به الأمير عمرو بن الليث، فسلم عليه، فقال: وعليكم، حدثنا مسدد ... ولم يزد على رد السلام. قال ابن عبدوس الطرائفي: لما أردتُ الخروج إلى عثمان بن سعيد يعني إلى هراة - أتيت ابن خزيمة، فسألته أن يكتب لي إليه، فكتب إليه،

فدخلت هراة في ربيع الأول، سنة ثمانين ومائتين، فأوصلته الكتاب، فقرأه، ورحب بي، وسأل عن ابن خزيمة، ثم قال: يا فتى! متى قدمت؟ قلت: غدًا. قال: يا بني! فارجع اليوم، فإنك لم تقدم بعد، حتى تقدم غدًا. قال أحمد بن محمد بن الأزهر: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: أتاني محمد بن الحسين السجزي، وكان قد كتب عن يزيد بن هارون، وجعفر بن عون، فقال: يا أبا سعيد! إنهم يجيئوني، فيسألوني أن أحدثهم، وأنا أخشى أن لا يسعني ردهم. قلت: ولم؟ قال: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سئل عن علم، فكتمه، ألجم بلجام من نار» قال: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن علم تعلمه، وأنت لا تعلمه. قال يعقوب القراب: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: قد نويت أن لا أحدث عن أحد أجاب إلى خلق القرآن. قال: فتوفي قبل ذلك. قلت: من أجاب تقية، فلا بأس عليه، وترك حديثه لا ينبغي. قلت: كان عثمان الدارمي جِذْعًا في أعين المبتدعة، وهو الذي قام على محمد بن كَرَّام، وطرده عن هراة، فيما قيل. قال عثمان بن سعيد: من لم يجمع حديث شعبة وسفيان ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، فهو مفلس في الحديث - يريد أنه ما بلغ درجة الحفاظ -.

وبلا ريب، أن من جمع علم هؤلاء الخمسة، وأحاط بسائر حديثهم، وكتبه عاليًا ونازلًا، وفهم عِلَلَهُ، فقد أحاط بشطر السنة النبوية، بل بأكثر من ذلك، وقد عدم في زماننا من ينهض بهذا، وببعضه، فنسأل الله المغفرة. وأيضا فلو أراد أحد أن يتتبع حديث الثوري وحده، ويكتبه بأسانيد نفسه على طولها، ويبين صحيحه من سقيمه، لكان يجئ مسنده في عشر مجلدات، وإنما شأن المحدث اليوم الاعتناء بالدواوين الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، وضبط متونها وأسانيدها، ثم لا ينتفع بذلك حتى يتقي ربه، ويدين بالحديث، فعلى علم الحديث وعلمائه ليبك من كان باكيًا، فقد عاد الإسلام المحض غريبًا كما بدأ، فليسع امرؤ في فكاك رقبته من النار، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ثم العلم ليس هو بكثرة الرواية، ولكنه نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الاتباع، والفرار من الهوى والابتداع. وفقنا الله وإياكم لطاعته. قال المحدث يحيى بن أحمد بن زياد الهروي، صاحب ابن معين: رأيت في النوم كأن قائلا يقول: إن عثمان - يعني الدارمي - لذو حظ عظيم. وقال محمد بن المنذر شكر: سمعت أبا زرعة الرازي، وسألته عن عثمان بن سعيد، فقال: ذاك رُزِقَ حسن التصنيف.

وقال أبو الفضل الجارودي: كان عثمان بن سعيد إمامًا يُقْتَدَى به في حياته وبعد مماته. قال محمد بن إبراهيم الصرام: سمعت عثمان بن سعيد يقول: لا نكيف هذه الصفات، ولا نكذب بها، ولا نفسرها. وبلغنا عن عثمان الدارمي، أنه قال له رجل كبير يحسده: ماذا أنت لولا العلم؟ فقال له: أردتَ شينًا فصار زينًا. أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا عبد الله بن عمر، أخبرنا أبو الوقت السجزي، أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري، حدثنا محمد بن أحمد الجارودي، ويحيى بن عمار، ومحمد بن جبريل أملوه، وأخبرنا محمد بن عبد الرحمن، قالوا: أخبرنا أبو يعلى أحمد بن محمد الواشقي هروي، أخبرنا عثمان بن سعيد الدارمي، أخبرنا يحيى الحماني، عن ابن نمير عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيا ثم أدرك نبوتي لاتبعني» هذا حديث غريب، ومجالد ضعيف الحديث. ومن كلام عثمان في كتاب «النقض» له: اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته. قلت: أوضح شئ في هذا الباب قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5].

فليمر كما جاء، كما هو معلوم من مذهب السلف، وينهى الشخص عن المراقبة والجدال، وتأويلات المعتزلة {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} [آل عمران: 53]. قال يعقوب بن إسحاق: سمعت عثمان بن سعيد يقول: ما خاض في هذا الباب أحد ممن يذكر إلا سقط، فذكر الكرابيسي فسقط حتى لا يذكر، وكان معنا رجل حافظ بصير، وكان سليمان بن حرب والمشايخ بالبصرة يكرمونه، وكان صاحبي ورفيقي - يعني فتكلم فيه - فسقط. وقال الحسن بن صاحب الشاشي: سألت أبا داود السجستاني عن عثمان بن سعيد، فقال: منه تعلمنا الحديث. قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن يونس: توفي عثمان الدارمي في ذي الحجة سنة ثمانين ومائتين. وهكذا أَرَّخَه إسحاق القَرَّاب وغيره، وما رواه أبو عبد الله الضبي عن شيوخه، أنه مات سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فوهم ظاهر. أخبرنا عمر بن عبد المنعم قراءة، عن أبي القاسم بن الحرستاني، عن أبي نصر أحمد بن عمر الحافظ، أخبرنا عبد الرحمن بن الأحنف، أخبرنا إسحاق بن يعقوب القراب، أخبرنا محمد بن الفضل المُزَكِّي، أخبرنا محمد بن إبراهيم الصرام، حدثنا عثمان بن سعيد الحافظ، حدثنا عبد الله بن صالح، عن ليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن خالد بن أبي عمران، عن أبي عَيَّاش بن أبي

مِهْران، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل». هذا حديث غريب جدًا، والمتن قد روي من وجوه، وهو في صحيح مسلم. قال الحاكم أبو عبد الله: والدارمي سجزي، سكن هراة، سمع: ابن أبي مريم، وأبا صالح بمصر، وابن أبي أويس بالحجاز، وسليمان بن حرب، ومحمد بن كثير، وأبا سلمة بالبصرة، وأبا غسان، وأحمد بن يونس بالكوفة، ويحيى بن صالح، والربيع بن روح، ويزيد بن عبد ربه بالشام. * * *

صور المخطوط

صور المخطوط

الصفحة الأولى من المجموع وعليها عنوان كتاب النقض، ويظهر عليها السماعات، وعلى اليسار الإشارة إلى وجود كتاب الرد على الجهمية ضمن المجموع.

صفحة العنوان

الصفحة الأولى من الكتاب

الصفحة الأخيرة

الرَّدُّ عَلى الجَهَمِّيَة تَصْنيفُ أبي سَعِيدٍ عُثمَانَ بن سعِيدٍ الدَّارمِيِّ المتوفى سنة 280 هـ حَقَّقَهُ وضَبَطَ نَصَّهُ أَبوُ عَاصِم الشَّوَامِيّ الأَثرِي وبِذَيْلِهِ التَّخريجَاتُ العِلمِيَّة لِكتابِ الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّة تَصْنِيفُ أبي عَاصِمٍ الشَّوَامِيّ الأَثريِ

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وأَعِنْ بِرَحمَتِكَ أخبرنا أبو المكارِم عبدُ العظيمِ بن عبد اللطيف بن أبِي نصرٍ الشَّرابِي الأصبهاني في كتابه إلينا قال: أخبرتنا الشَّيْخةُ أمُّ الصُّبْحِ؛ ضَوءُ النِّسَاءِ بِنْتُ أبي الفتحِ عبدِ الرزَّاقِ بنِ مُحمَّدٍ بْنِ سَهلٍ الشَّرابي، بقراءتِي عليها في ربيع الثاني من سنة سبع وستين وخمسمائة، قالت: أخبرنا أبي؛ الإمامُ أبو الفَتْحِ عبدُ الرَّزَّاقِ، قِراءةً عليه في دَارِنا بِأصْبَهَانَ، في صَفَر سَنَةَ تِسعٍ وعِشْرِينَ وخَمْسِمَائة. قال: حدثنا الشيخُ الإمامُ نجمُ الخُطباءِ؛ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المُذَكِّر الهروي، المقيم بصع (¬1) قرية من قُرى هَرَاة، فيما قرأت عليه بها من أصل سماعه، بخط الحافظ أبي الفتحِ بن سَمْكَوَيْهِ، قلت له: أخبركم الشيخ الفقيه أبو رَوْحٍ ثابتُ بنُ محمدٍ الأزدي السعدي، في شهور سنة ست وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبِي؛ أبو محمدٍ مُحمدُ بنُ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ الفَضْلِ قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن إبراهيم القُرَشِي، أنَّ الإمام أبا سعيد عثمان بن سعيد، حَدَّثَهُم قال: الحمدُ للهِ الذي له ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ وما بينهُما وما تَحْتَ الثَّرَى عَالمِ الغَيبِ، لا يَعْزُبُ عنه مِثقَالَ ذَرَّةٍ في السماواتِ ولا في الأَرضِ، يَعْلَمُ سِرَّ خَلقِهِ وجَهْرَهُم، ويَعلَمُ ما يَكسِبُون، نَحْمَدُهُ بجميع محامدِه، ونَصِفُهُ بما وصَفَ به نفسَهُ، ووصَفَهُ بِه الرسولُ. ¬

(¬1) كذا رسمها في المخطوط، ولم أقف فيما لدي من مصادر على هذه القرية حتى أضبطها.

فهو اللهُ الرحمنُ الرحيمُ، قريبٌ مجيبٌ متكلمٌ قائلٌ، وشاءٍ مُريدٌ فَعَّالٌ لما يُرِيدُ، الأولُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، والآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيء، له الأمر مِنْ قَبْلُ ومِنْ بعد، وله الخَلْقُ والأَمْرُ، تبارك اللهُ ربُّ العَالمينَ، وله الأسماءُ الحُسْنَى، يُسبِّحُ له ما في السماواتِ والأرضِ وهو العزيز الحكيم، يَقْبِضُ ويَبْسُطُ، ويَتَكَلَّمُ، ويَرضَى ويَسْخَطُ ويَغْضَبُ، ويُحِبُّ ويَبْغَضُ ويَكْرَهُ، ويَضْحَكُ، ويَأْمُرُ ويَنْهَى، ذو الوجهِ الكريمِ، والسَّمعِ السَّمَيع، والبَصَرِ البَصِير، والكَلاَمِ المُبِينِ، واليَدَيْنِ والقَبْضَتَينِ، والقُدْرَةِ والسُّلْطَانِ، والعَظَمَةِ والعِلمِ الأَزَليِّ، لم يَزَلْ كذلك ولا يَزَال، استوى على عَرشِهِ فَبَانَ مِنْ خَلْقِهِ، لا تَخفَى عليه منهم خَافيةٌ، عِلْمُهُ بهم مُحيطٌ، وبَصَرُهُ فيهم نافِذٌ، ليس كمثله شيءٌ، وهو السَّمِيعُ البَصِير. فبهذا الربِّ نُؤمِنُ، وإيَّاه نَعْبُدُ، وله نُصلِّي ونَسْجُدُ، فَمَن قَصَدَ بعبادتِهِ إلى إلهٍ بخلافِ هذه الصفات؛ فإنما يَعبدُ غَيْرَ الله، وليس معبودُهُ بإله -كُفْرَانَهُ لا غُفْرانَهُ -. فَنَشْهَدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأن محمدًا عبدُهُ ورسُوُلُه اصطفاهُ لِوَحْيِهِ وانْتَجَبَهُ لِرِسَالَتِهِ واخْتَارَهُ من خَلْقِهِ لخلْقِهِ، فَأَنْزَلَ عليْهِ كَلامَهُ المُبِين وكِتَابَه العزيز، الذي لا يأتيه البَاطِلُ مِنْ بَيْن يَدَيهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيرَ ذِي عِوَجٍ يهدي للتي هي أقوم، ويبشر [المؤمنين] (¬1)، فيه نبأُ الأولين وخبرُ الآخرين، لا تنقضي عِبَرُهُ ولا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، غير مخلوق ولا منسوب إلى مخلوق، نزل به الروح الأمين على قلبك؛ لتكون من المنذرين، من لدن حكيم عليم. قال: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل:6]. ¬

(¬1) في الأصل «الأولين» وكتب فوقها كذا.

وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء:193 - 195]، من قال به صدق ومن تمسك به هُدِي إلى صراط مستقيم. ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106] فقرأه كما أمر، دعا إليه سِرًّا وجَهرًا، فلما سمع المشركون آيات مُبَيِّنَاتٍ قالوا: ساحرٌ وكاهنٌ وشاعرٌ ومُعلَّمٌ {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 6 - 7] و {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25] و {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} [الأنفال: 31] وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]، إنما يعلمه بشر مخلوق بكلام مخلوق مختلق. فَكَذَّبَ اللهُ - عز وجل - قولهَم، وأبطلَ دعواهَم؛ فقال تعالى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:4] وقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} [الفرقان: 6] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)} [النحل:102] وقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]. ثم قال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء:88]. ثم نَدَبَهُم جميعًا إلى أن يَأْتُوا بِمِثْلِهِ تَخَرُّصًا وتَعلُّمًا من الخُطَبَاءِ والشُّعَرَاءِ

وغَيرِهِم إن كانوا صَادِقين، فقال تبارك وتعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13] وأتوا {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38]، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24]. فلم يَقْدَر الجنُّ والأنسُ عَربُها وعَجَمُها، من عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وعُلَماءِ أهلِ الكِتَابَيْنِ، أن يَأتُوا بِسُورَةٍ ولا بِبَعْضِ سُورَةٍ، ولَوْ عَلِمُوا أَنَّهم قادرونَ عليها؛ لَدَعَوْا شُهَدَاءَهُم إلى ذلك، وبَذَلُوا فيها الرَّغَائِبَ من الأموالِ وغَيرِهَا لخطبائهم وشعرائهم وأَحْبَارِهِم وأَسَاقِفَتِهِم وكَهَنَتِهِمْ وسَحَرَتِهِم؛ أن يأتوا بسورة مثلها تَصْدِيقًا لما ادَّعَوا من الزُّورِ تكذيبًا بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وأنَّى يأتي المخلوقُ بمثل كلام الخالق؟! وكيف يَقْدِرُ عليه؟! وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا، فلن تفعلوا إلى يوم القيامة، فكما أنه ليس كمثله شيء؛ فليس ككلامه كلام. فلم يزلْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يدعو النَّاسَ إلى اللهِ وإِلى كتابه وكلامه سِرًّا وجَهْرًا، مُحْتَمِلاً لما نَالَهُ من أَذَاهُم صَابرًا عليه. حتَّى أظهره اللهُ وأعزَّهُ وأنزل عليه نَصرَهُ؛ فضربَ وجوهَ العَرَبِ والعَجَمِ بالسيوفِ؛ حتى ذَلُّوا ودَانُوا ودخلوا الإِسْلَامَ طَوْعًا وكَرْهًا، واستقاموا حَيَاتَهُ وبعدَ وفاتِهِ، لا يَجْتَرِئُ كافرٌ ولا منافقٌ مُتَعَوِّذٌ بالإسلام أن يُظهِرَ ما في نفسه من الكُفْرِ وإِنْكَارِ النُّبوَّةِ؛ فَرَقاً من السَّيف وتَخَوُّفاً من الافْتِضَاحِ، بَلْ كَانُوا يَتَقَلَّبُونَ مع المسلمين بِغَمٍّ، ويعيشون فيهم على رُغمٍ دَهْرًا

من الدَّهرِ وزَمَانًا مِنَ الزَّمَانِ، وكان أولُ من أَظْهَرَ شيئًا منه بعد كُفَّارِ قُريش؛ «الجَعْدُ بن دِرْهَم» (¬1) بالبَصْرةِ، و «جَهْمٌ» (¬2) بخُرَاسَان؛ اقتداءً بكفار قريش، فَقَتَلَ اللهُ جَهْمًا شَرَّ قِتْلة. وأما الجعدُ فأخذه خالدٌ بن عبد الله القَسْرِي (¬3)، فذبحه ذبحًا بواسط في يوم أضحى (¬4) على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، لا يَعِيبُهُ به عَائِبٌ، ولا يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله، وصَوَّبوه من رأيه (¬5). (1) حدثناه القَاسِمُ بنُ محمد البَغْدَادِيُّ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمد بنِ حَبِيبِ بنِ أَبِي حَبيب، عن أَبِيِه، عن جَدِّهِ حَبيبِ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، قال: ... «خَطَبَنا خَالدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْرِيُّ بِواسِط يوم أضحى (¬6) فقال: أَيُّهَا النَّاسُ! ارجعوا فَضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ منَّا ومِنْكُم؛ فإنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ إِنَّه زَعَمَ أنَّ اللهَ لم يتخذْ إبراهيمَ خَليلاً، ولم يُكَلِّم موسى تَكليمًا، وتعالى الله عما يقولُ الجَعْدُ بنُ دِرْهَم عُلوًّا كَبيرًا، ثم نَزَلَ فَذَبَحَهُ» (¬7). ¬

(¬1) «الجعد بن درهم»: من أهل الشام وهو مؤدب مروان الحمار، وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية، ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (5/ 433). (¬2) هو جهم بن صفوان أبو محرز الرَّاسبِي؛ أُسُّ الضلالة ورأس الجهمية، قُتِل سنة ثمان وعشرين ومائة، وانظر خبر قتله في البداية والنهاية (10/ 29). (¬3) هو الأمير الكبير أبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد القسري الدمشقي، ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (5/ 425). (¬4) في المطبوعة «الأضحى» والمثبت من الأصل. (¬5) في الأصل «وصَوّبه من رأيه»، والمعنى هكذا لا يستقيم، وما أثبتناه من عند المصنف فقد أعاد هذا الحرف في باب إكفار الجهمية. (¬6) في المطبوعة «الأضحى» والمثبت من الأصل. (¬7) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 64)، وفي خلق أفعال العباد (ص 19)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 205 - 206)، وفي الأسماء والصفات (569)، وغيرهم؛ من ... = = طريق عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب عن أبيه عن جده، وعبد الرحمن مقبول وأبوه مجهول وجده صدوق يخطئ كما ذكر الحافظ رحمه الله؛ فهذا إسناد ضعيف. لكن للخبر طريق آخر فقد أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية -كما في كتاب العلو للعلي الغفار للذهبي (ص 131) - قال حدثنا عيسى بن أبي عمران الرملي حدثنا أيوب بن سويد عن السري بن يحيى قال: خطبنا خالد، فذكر القصة، وهذا إسناد رجاله ثقات، غير أيوب بن سويد، قال الحافظ: صدوق يخطئ، فالقصة إسنادها حسن إن شاء الله، لاسيما وقد رواها الأئمة في كتبهم، واحتجوا بها.

قال أبو سعيد: ثم لم يزالوا بعد ذلك مَقْمُوعِينَ أَذِلَّةً مدحورين حتَّى كان الآن بأخرة؛ حيثُ قَلَّتِ الفُقهاء وقُبِضَ العلماءُ، ودَعَا إلى البِدَعِ دُعاةُ الضَّلالِ؛ فَصَدَّ (¬1) ذَلِكَ طَمَعَ كلِّ مُتَعَوِّذٍ في الإسلام من أبناء اليهود والنصارى وأَنْبَاطِ العراق، وَوَجَدُوا فُرصَةً للكلام؛ فَجَدُّوا في هَدمِ الإسلام وتَعْطِيلِ ذِي الجلالِ والإكرام، وإِنْكارِ صِفَاتِهِ وتَكْذِيبِ رُسُلِهِ وإِبْطَالِ وَحْيِهِ؛ إِذْ وجَدُوا فُرصتَهُم وأَحَسُّوا من الرُّعَاعِ (¬2) جَهلاً، ومِنَ العُلماءِ قِلَّةً؛ فَنَصَبُوا عِنْدَهَا الكُفرَ للناس إِمامًا بِدَعْوَتِهم إليه، وأظهروا لهم أُغْلُوطَات من المسائل وعَمَايَات من الكلام، يُغالِطون بها أهلَ الإسلام؛ ليُوقِعُوا في قلوبهم الشك ويلبسوا عليهم أمرَهم ويُشَكِّكُوهُم في خَالِقِهم، مقتدين بأئمتهم الأقدمين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25] و {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7]. ¬

(¬1) في المطبوعة: «فشد» وما أثبتناه من الأصل، وهو لغة متوجه؛ قال صاحب التاج في مادة صدد: وصَدَّ يَصُدُّ بالضّمّ ويَصِدُّ بالكسر صَدّاً وصَدِيداً: عَجَّ وَضَجَّ، وفي التنْزيل: «ولمَّا ضُرِبَ ابنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنه يَصِدُّونَ» أَي يَضِجُّون ويَعِجُّون وقال قُرِئ: «يَصُدُّون» أَي يُعْرِضُون، قال الأزهريّ تقول صَدَّ يصُدُّ ويصِدُّ مثل شَدَّ يَشُدّ ويَشِدّ. (¬2) كذا في الأصل، بضم الراء وقد أثبتها محقق المطبوعة بالفتح وقد جانبه الصواب في ذلك؛ قال صاحب التاج: الرُّعاعُ كالزُّجاجِ من النّاسِ: وهُمُ الرُّذالُ الضُّعفاءُ وهم الذينَ إذا فُزِّعوا طاروا.

فحين رَأَيْنَا ذلك منهم، وفَطِنَّا لمذهبهم وما يقصدون إليه من الكفر وإِبْطَالِ الكُتُبِ والرُّسُلِ، ونَفْيِ الكلامِ والعِلْمِ والأَمْرِ عن الله تعالى؛ رَأَيْنَا أن نُبَيِّنَ من مذاهبهم رُسُومًا من الكتاب والسنة، وكلام العلماء ما يَسْتَدِلُّ به أهلُ الغَفْلَةِ من النَّاسِ على سُوءِ مَذْهَبِهِم؛ فَيَحْذَرُوهُم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدوا في الرَّدِّ عليهم؛ محتسبين مُنَافِحِينَ عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله. وقد كان من مَضَى مِنَ السَّلَفِ يكرهون الخَوْضَ في هذا وما أشبهه، وقد كانوا رُزِقُوا العافية منهم، وابْتُلِينَا بهم، عند دُرُوسِ الإِسلامِ وذَهَابِ العُلماءِ؛ فلم نَجِدْ بُدًّا من أَنْ نَرُدَّ ما أَتَوْا به من البَاطِلِ بالحَقِّ، وقَدْ كَانَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّفُ ما أشبه هذا على أمته، ويحذرها إياهم، ثم الصحابة بعده والتابعون؛ مَخَافَةَ أن يَتَكَلَّمُوا في الله وفي القرآن بأهوائهم؛ فَيَضِلُّوا، ويَتَمَارَوْا به على جَهْلٍ؛ فَيَكْفُرُوا. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «المِراءُ في القُرآنِ؛ كُفْرٌ» (¬1). وحتَّى أَنَّ بَعْضَهُم كانوا يَتَّقُونَ تَفْسِيرَهُ؛ لأن القَائِلَ فيه إنما يقول على الله. قال أَبو بَكْرِ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه -: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وأَيُّ سَماءٍ تُظِلُّنِي؛ إِذَا قُلتُ في كلام الله ما لا أعلم (¬2). وسُئِل عَبِيدَةُ السَّلْمَاني عن شيءٍ من تَفْسِيرِ القرآنِ فقال: اتَّقِ اللهَ، ¬

(¬1) صحيح، أخرجه أبو داود (4605)، وأحمد (7848)، وابن حبان (74)، وأبو يعلى (6016)، وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا. (¬2) صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (30727)،والبيهقي في المدخل (646)، والخطيب في الجامع (1585)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (825)، وغيرهم، من طرق عن أبي بكر - رضي الله عنه -، لا تخلو من مقال، لكن تصلح أن يشد بعضها بعضًا.

وعَليْكَ بالسَّدَادِ؛ فَقَد ذَهَب الذين كَانُوا يَعْلَمُونَ فيما أُنْزِل القرآن (¬1). فهذا الصِّدِّيقُ خَيرُ هذه الأمة بعد نبيها، والخَلِيفةُ بعده، قد شَهِدَ التنزيل، وعاين الرسول، وعلم فيما أُنزِل القرآن -إلا ما شاء الله- يَتَوقَّى أن يقول في القرآن؛ مخافة أن لا يصيب ما عنى الله؛ فيهلك. ثم عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيّ بَعْدَهُ، وكان من كِبَار التَّابعين. فكيف بهؤلاء المنْسَلِخِينَ من الدِّينِ والعِلم، الذين يَنْقُضُونَهُ نَقْضًا ويُفَسِّرُونَه بأهوائِهم خِلاَفَ ما عَنَى اللهُ، وخِلاَفَ ما تَحْتَمِلُه لُغَاتُ العَرَبِ، ولقد قال بعضُ أهلِ العِلم: لا تهلك هذه الأمة حتى تظهر فيهم الزَّنْدَقَة ويتكلَّمُوا في الربِّ تَبَاركَ وتَعَالى. (2) حدثناه سُوَيْدُ بنُ سَعَيدٍ الأَنْبَاريُّ، حَدثنا خَلَفُ بنُ خَلِيفَة، عن الحجَّاجِ بن دِينَارٍ، عن مَنْصُور بن المُعْتَمِر، قال: «مَا هَلَكَ دِينٌ قَطُّ حَتَّى تَخَلَّفَ المَنَانِيَّة، قُلتُ: وما المنانية؟ قال: الزَّنَادِقَةُ» (¬2). (3) وحدثنا محمدُ بنُ كَثِيرٍ العَبْدِيُّ، أخبرنا سُفْيَانُ يعنِي الثَّوْرِيُّ، عن سَالِمِ يعنِى ابن أَبِي حَفْصَةَ، عن أَبِي يَعْلَى، عن محمد بن الحَنَفِيَّةَ - رضي الله عنه -، قال: «لا تَنْقَضِي الدُّنيَا حَتَّى تَكُونَ خُصُومَتُهُم في رَبهِم» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن المبارك في كتاب الزهد (205)، وأبو عبيد القاسم في فضائل القرآن (693). (¬2) أخرجه الفريابي في القدر (359) عن شيخ المصنف، وهذا إسناد ضعيف؛ لأجل سويد بن سعيد فإنه وإن كان صدوقًا في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقن. (¬3) أخرجه الدولابي في الكنى (2047)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 127)، والهروي في ذم الكلام (604)، وإسناده حسن، سالم بن أبي حفصة متكلم فيه لتشيعه، ... وهو في نفسه صدوق، ونقل المصنف وغيره عن يحيى بن معين توثيقه.

(4) وحدثناه يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، حدثنا عمرُو بنُ ثَابِت، عن سالم ابن أبي حَفْصَةَ، قال أبو سعيد: وأَحْسَبُهُ عنْ أَبِي يَعْلَى مُنْذِرِ الثَوْرِيِّ، عن محمد بن الحنفية قال: «إِنَّما تَهْلَكُ هذه الأُمَّةُ إِذَا تَكَلَّمَتْ في رَبِّها» (¬1). (5) حدثنا الحَسنُ بنُ الصبَّاح البَزَّارُ، حدثنا عَلِيُّ بنُ الحسنِ بن شَقِيقٍ، عن ابن المباركِ، قال: «لأَنْ أَحْكِي كَلامَ اليهودِ والنَّصَارى، أحب إلَيَّ مِنْ أن أَحْكِي كلامَ الجهمية» (¬2). (6) حدثنا سَهْلُ بنُ بَكَّارٍ، حدثنا أَبو عَوَانَةَ، عن عُمَرَ بنَ أَبِي سَلمة، عَن أَبِيِه، عن أَبِي هُريرةَ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزَالونَ يَسْأَلونَ حَتَّى يُقَالَ لأَحَدِكُم هذا اللهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ- تبارك وتعالى-». قال أبو هريرة: وإِنِّي لجالسٌ ذات يومٍ، إذ قال رجلٌ من أهل العراق: يا أبا هريرة! هذا الله خلقنا، فمن خلق الله تبارك وتعالى؟ قال أبو هريرة: فَوَضعتُ إِصْبَعِي في أُذُنِي، وصَرَخْتُ، صدق الله ورسوله؛ اللهُ الواحدُ الأحدُ، الصَّمَدُ، لم يَلِدْ ولم يُولَد، ولم يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (¬3). (7) وحدثناه يَحيى بنُ بُكَيْرٍ المِصْرِيُّ، حدثنا الليث -يعني ابن سعد-، عن عُقَيْل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروةُ بنُ الزُّبَير؛ أنَّ أبا هريرة قال: ¬

(¬1) إسناده ضعيف؛ يحيى بن عبد الحميد الحماني متهم، وعمرو بن ثابت هو ابن أبي المقدام البكري ضعيف رمي بالرفض، كما قال الحافظ في التقريب. (¬2) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (23، 216)، من طريق علي بن الحسن بن شقيق، به، وهذا إسناد صحيح. (¬3) أخرجه مسلم (266)، وأحمد (9027)، وأبو داود (4722)، والنسائي في الكبرى (10422)؛ من طرق عن أبي سلمة، به.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَأتِي الشَّيطَانُ العبدَ فيقولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وكذَا؟ حتَّى يقول لهُ: مَنْ خلق رَبَّكَ؟ فليستعذ بالله ولْيَنْتَهِ» (¬1). (8) حدثنا عليُّ بنُ المَدِينِيِّ، حدثنا سُفْيَانُ، عن هِشَامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتِي الشَّيطانُ أَحَدَكُم فيقول من، [....] (¬2) فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُل: آمَنَّا بالله» (¬3). (9) حدثني أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حدثنا محمدُ (¬4) بنُ مُيَسَّر أبو سعد، حدثنا أبو جعفر الرَّازِي، عن الرَّبِيع بن أنس، عن أبي العَالِيَة، عن أُبَيٍّ بنِ كَعْبٍ؛ أنَّ المُشركِينَ قالوا: يا رسول الله! انسب لَنا رَبَّك، قال: «فَأَنْزَلَ الله - عز وجل - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 1 - 2]،قال: فَالصَّمَدُ؛ الذِي لم يَلِدْ ولم يُولَد؛ لأنه لَيسَ شَيءٌ يُولَد، إِلا سَيَمُوت، وليس شَيءٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (263). (¬2) في الأصل بياض بمقدار كلمتين، ثم زاد في المطبوعة «خلق السماء فيقول الله عز وجل فيقول من خلق الأرض فيقول الله فيقول من خلق الله»،وهذه الزيادة التي وُضِعت في متن الحديث؛ قد جانب الصواب من وضعها؛ فإن هذا الحديث بهذا الإسناد رُوي هكذا بدون هذه الزيادة المقحمة، فالحديث أخرجه النسائي في الكبرى وفي عمل اليوم والليلة؛ من طريق سفيان، به سواء بدون هذه الزيادة، وهذا مما يؤكد ما نذهب إليه من وجوب تعظيم الأصل الخطي وعدم تجاوزه إلا في أضيق الحدود، والله أعلم بالصواب. (¬3) أخرجه مسلم (134)، والنسائي في الكبرى (10423) وفي عمل اليوم والليلة (662). (¬4) في الأصل «أحمد»، والصواب ما أثبتناه، وهو محمد بن ميسر أبو سعد الصاغاني، ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (1/ 245)، والجرح والتعديل (8/ 105)، وتهذيب الكمال (26/ 535).

يموت [إلا] (¬1) سَيُوَرَّث، وإِنَّ الله لا يَمُوت، ولا يُورَّث ولم يكن له كُفُوًا أحد، قال: لم يكن له شِبْهٌ ولا عِدْلٌ، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» (¬2). (10) حدثنا مُوسى بنُ إِسمَاعيلَ، حدثنا أَبُو هِلال -وهو الراسبي-، قال: حدثنا رَجُلٌ، أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ قال للحَسَن: هَل تَصِفُ رَبَّك؟ قال نعم بِغَيْرِ مِثَالٍ (¬3). (11) حدثنا أبو سَلَمةَ [] (¬4)، عبد الواحد -يَعنِي ابن زياد-، حدثنا سَالمٌ يَعنِي ابنُ أَبِي حَفْصَةَ، حدثنا مُنْذِرٌ أبو يَعْلَى الثَّوري قال: قال محمدُ بنُ الحَنَفِيَّةَ: «إن قومًا ممن كانوا قَبْلَكُم؛ أُوتُوا عِلْمًا كانوا يَكْتَفُون (¬5) فيه، فسألوا عَمَّا فَوْقَ السَّماءِ ومَا تَحْتَ الأرضِ؛ فَتَاهُوا، كان أَحَدُهُم إذا دُعِي من بين يَدَيْهِ أَجَاب مِنْ خَلْفِهِ، وإذا دُعِي مِنْ خَلفِهِ أجاب من بين يديه» (¬6). ¬

(¬1) ما بين معقوفين زيادة ليست في الأصل وأثبتناه من مصادر التخريج. (¬2) ضعيف، أخرجه أحمد (21219)، والترمذي (3364)، والطبري في التفسير (30/ 342)، والحاكم في المستدرك (2/ 540) وعنه البيهقي في الأسماء والصفات ... (50)، وغيرهم؛ من حديث أبي جعفر الرازي، به، وهو ضعيف لاسيما في روايته عن الربيع بن أنس. والراوي عنه محمد بن ميسر؛ قال البخاري: فيه اضطراب، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن معين: ليس هو بشيء، كان شيطانا من الشياطين. (¬3) ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (499، 1132)، والمصنف في نقضه للمريسي (311)، والبيهقي في الأسماء والصفات (617)، وهو ضعيف لإبهام الراوي عن ابن رواحة. (¬4) سقطت أداة التحديث من الأصل. (¬5) في المطبوعة صوبها إلى «يكيفون» وما أثبتناه من الأصل، والمعنى أن الله رزقهم علمًا يَكْتَفُونَ بِهِ عن غيره، فتكلفوا بحث ما لا يلزمهم؛ فتاهوا. (¬6) حسن، أخرجه ابن أبي شيبة (38582)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 176)؛ كلاهما من طريق سفيان الثوري، عن أبيه، عن أبي يعلى، به.

قال أبو سعيد: ولولا مخافةُ هذه الأحاديث وما يُشْبِهُهَا؛ لحَكَيتُ مِنْ قُبْحِ كلامِ هؤلاء المُعَطِّلة، وما يرجعون إليه من الكفر، حكايات كثيرة؛ يتبين بها عَوْرَةُ كلامِهِم، وتكشف عن كثير من سوءاتهم، ولكِنَّا نتخوف من هذه الأحاديث، ونخاف أن لا تحتمله قلوبُ ضعفاءِ النَّاسِ؛ فَنُوقِعُ فيها بَعضَ الشَّك والرِّيبة. لأن ابنَ المباركِ قال: لأن أحكي كلامَ اليهودِ والنَّصَارى أحب إليَّ من أن أحكي كلام الجهمية. وصدق ابن المبارك، إن من كلامهم في تعطيل صفات الله تعالى ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى، غير أَنَّا نختصر من ذلك [ما] (¬1) نستدل به على الكثير، إن شاء الله تعالى. * * * ¬

(¬1) زيادة ليست في الأصل اقتضاها السياق.

باب الإيمان بالعرش وهو أحد ما أنكرته المعطلة

بَابُ الإِيمَانِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ أَحَدُ مَا أَنْكَرَتْهُ المُعَطِّلَةُ قال أبو سعيد: وما ظَنَنَّا أنَّا نَضطرُّ إلى الاحتجاج على أحد ممن يَدَّعِي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به، حتى ابْتُلِينَا بهذه العِصَابة المُلحِدة في آيات الله؛ فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأُمَمُ قبلنا، وإلى الله نشكو ما أَوْهَبَ (¬1) هذه العصابة من عُرَى الإسلام، وإليه نلجأُ، وبه نستعين. وقد حَقَّقَ اللهُ العرشَ في آَيٍ كثيرةٍ مِنَ القرآنِ؛ فقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان: 59] {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]، في آي كثيرة سِوَاها. فادَّعت هذه العِصَابة أنهم يؤمنون بالعرش، ويُقِرُّون به؛ لأنه مذكور في القرآن، فقلت لبعضهم ما إيمانكم به إلا كإيمان {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] وكالذين {إِذَاَ لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} [البقرة: 14] أَتُقِرون أَنَّ للهِ عَرشًا مَعْلُومًا مَوْصُوفًا فَوقَ السَّماءِ السَّابِعَة تحمله الملائكة، والله فوق؛ كما وصف نفسه، بَائِنٌ من خلقه؟ فأبى أن يُقِرَّ به كذلك، وتَرَدَّدَ في ¬

(¬1) في المطبوعة غيرها إلى «أوهت» والمثبت من الأصل وهو متوجه؛ قال صاحب التاج: أوهب لك (الشيء: أمكنك أن تأخذه وتناله). أهـ، فيكون المراد أنهم جعلوا عرى الإسلام سهلة المنال لأعداء الإسلام.

الجَوابِ، وخَلَّطَ، ولم يُصَرِّحْ. قال أبو سعيد: فقال لي زعيمٌ منهم كبير: لا، ولكن لمَّا خلق الله الخلق ... - يعني السموات والأرض وما فيهن- سَمَّى ذلك كُلَّه عرشًا له، واستوى على جميع ذلك كُلِّه. قلت: لم تَدَّعوا من إنكار العرش والتكذيب به غاية، وقد أحاطت بكم الحجج من حيث لا تدرون، وهو تصديق ما قلنا، إن إِيمانَكم به؛ كإيمان ... {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] فقد كَذَّبَكم الله تعالى به في كتابه، وكذَّبكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أرأيتم قولكم؛ إن عَرشَه سماواتُهُ وأرضُهُ وجميعُ خَلقِهِ، فما تفسيرُ قولِهِ عندكم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7]؟ أَحَمَلةُ عرشِ الله أَمْ حملةُ خلقِهِ؟ وقوله {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة: 17] أيحملون السموات والأرض ومن فيهن أم عرش الرحمن؟ فإنَّكم إِنْ (قَدْ تَم قَوْلُكُمْ قَولاً) (¬1)؛ هذا يُلزِمْكُم أن تقولوا: عَرشُ رَبِّكَ خَلْقُ رَبِّكَ أَجْمَع، وتُبطلون العرشَ الذي هو العرش، وهذا تفسيرٌ لا يَشُكُّ أَحَدٌ في بُطُولِهِ واستحالته، وتكذيب بعرش الرحمن تبارك وتعالى. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان الله ولم يكن شيء وكان عرشه على الماء». ففي قول الله تعالى، وحديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ دَلالةٌ ظَاهِرَةٌ أَنَّ العَرشَ كان مخلوقًا على الماء، إِذْ لَا أَرْضٌ ولا سَمَاءٌ. ¬

(¬1) في المطبوعة (قلتم قولكم) فقد غيَّر محققها كلمة وحذف أخرى؛ وهذا التصرف فيه تجني على الأصل الخطي، نشأ عن عدم فهم السياق، وما أثبتناه من الأصل.

فلم تغالطون الناس بما أنتم له منكرون؟ ولكنَّكُم تُقِرُّون بالعرش بألسنتكم؛ تَحَرُّزًا من إكفار الناس إياكم بنص التنزيل؛ فَتُضْرَبُ عَليهِ رِقَابُكُم، وعند أنفسكم أنتم به جاحدون، ولَعَمْرِي لئن كان أهلُ الجهلِ في شكٍ من أمركم؛ إنَّ أَهلَ العِلمِ مِنْ أَمْرِكُم لَعَلَى [يقين] (¬1)،أو كَما قُلْتُ لَهُم زَادَ أو نَقَصَ. (12) حدثنا محمدُ بنُ كَثير، أخبرنا سُفيانُ وهو الثَّوْرِي، عن جَامِعِ بنِ شَدَّاد، عن صَفْوانَ بنِ محرز، عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْن ? قال: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تميمٍ إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا بَنِي تميم! ابْشِرُوا، قالوا: قَدْ بشرتنا فأعطنا، قال فتغيَّر وجهُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَهُ أهلُ اليَمَنِ، فقال لأهل اليمن: يا أهل اليمن! اقبلوا البُشْرَى إِذْ لم يَقْبَلْهَا بَنُو تميم، قالوا: قد قبلنا، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّث بِبُدُوِّ الخلق، والعَرْشِ، قَال: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَال يا عمران! رَاحِلَتُكَ، قال: فَقُمْتُ، ولَيْتَنِي لم أَقُمْ» (¬2). (13) وحدثنا محبوبُ بنُ مُوسى الأَنْطَاكِي، أخبرنا أَبُو إِسْحَاقَ الفَزَارِيُّ، عن الأَعْمَشِ، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن مُحْرِز، عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَعَقَلتُ ناقتي بالباب، ثم دخلت فأتاه نفرٌ من بني تميم، فقال: «اقبلوا البُشْرَى [يا بَنِي تَمِيم! قالوا قد بَشَّرتَنَا فَأَعطِنا مرتين، ثم دَخَل عليه نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقالَ اقْبَلُوا البُشْرَى] (¬3) يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها ¬

(¬1) زيادة ليست في الأصل اقتضاها السياق، وقد كرر المصنف هذه الجملة مرة أخرى وفيها هذه الزيادة، عقب حديث (77). (¬2) أخرجه البخاري (3190) عن شيخ المصنف وفيه «راحلتك تفلتت». (¬3) ما بين معقوفين سقط من الأصل وما أثبتناه من مصادر التخريج وفوقها في الأصل كذا.

إِخْوَانُكُم بَنُو تميم، قالوا: قَبِلْنَا يا رسولَ الله، أَتَيْنَاكَ لِنَتَفَقَّه في الدِّينِ، ونَسْأَلَك عن أَوَّلِ هَذَا الأَمرِ حَيْثُ كَان، قال: كانَ اللهُ لم يَكُنْ شَيءٌ غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذِّكْرِ كلَّ شيء، ثم خلق السماواتِ والأرضَ»، قال ثم أتاني رجلٌ فقال: أدرك ناقتك؛ فقد ذهبت، فخرجت فوجدتها قد يقطع دونها السراب، وأيم الله لوددت أني تركتها (¬1). قال أبو سعيد: فَفِي هذا بَيَانٌ بَيِّنٌ أن الله تعالى خَلَق العرشَ قَبل السماوات والأرض وما فيهن، وتكذيب لما ادَّعوا من الباطل. (14) وحدثنا عبدُ اللهِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، قال: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ (¬2)،حدثنا بِشْرُ بنُ نُمَيْرٍ، عن القَاسِم، عن أَبِي أُمَامَةَ - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَلق الله الخَلْقَ، وقضى القَضِيَّةَ، وأخذ ميثاق النبيين، وعرشه على الماء، وأَخَذَ أهلَ اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى، وكلتا يَدِي الرحمنِ يمين، ثم قال يا أصحاب اليمين! قالوا لبيك ربنا وسعديك، قال ألست بربكم؟ قالوا بلى، ثم قال يا أصحاب الشمال! قالوا لبيك ربنا وسعديك، قال ألست بربكم؟ قالوا بلى، قال فخلط بَعضَهُم ببعضٍ، فقال قائل: ربِّ لمَ خلطت بيننا؟ قال {لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون: 63] ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3190)، وأحمد (19822، 19876، 19886، 19910)، وابن حبان (6140، 6142)، والطبراني في الكبير (18/ 204)، والبيهقي في السنن الكبير (9/ 2)، والطحاوي في شرح المشكل (5630)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 259)، وغيرهم. (¬2) في الأصل بكر بن عبد الله وهو وهم والصواب ما أثبتناه، وقد أعاده المصنف على الصواب عند حديث رقم (120) وينظر ترجمته في تهذيب الكمال (14/ 340).

إلى (¬1) قولهِ {كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، ثم رَدَّهُم في صُلْبِ آدم قال وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلق الله الخَلْق وقَضَى القَضية وأخذَ ميثاقَ النبيينَ، وعرشه على الماء، وأهل الجنة أَهْلُهَا، وأهل النارِ أَهْلُهَا، قال فقال قائلٌ: يا نَبيَّ اللهِ! ففيم العمل؟ قال: أن يَعْمَلَ كلُّ قَومٍ لمنزلَتِهم، فقال عمر: إذا نجتهد. قال: وسُئِلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأعمال، فقيل يا رسول الله! أَرَأَيْتَ الأَعْمالَ، أَشَيءٌ يُؤْتَنَفُ، أو فُرِغَ منها؟ قال: بَل فُرِغَ مِنْهَا» (¬2). (15) حدثنا يَحيَى الحِمَّانِيُّ، ويحيَى بنُ صَالحٍ الوُحَاظِيُّ قالا: حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمد الدَّرَاوَرْدِيُّ، حدثنا زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ، عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنةِ مائةُ دَرَجةٍ، ما بَيْنَ كلِّ درجتين، كما بين السَّماءِ والأرضِ، والفِرْدَوسُ أعلى الجنةِ وأَوْسَطُها وفَوْقُهَا عرشُ الرَّحمنِ، ومِنها تُفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ، فإذا سألتُم اللهَ؛ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ» (¬3). ¬

(¬1) كذا في الأصل والمقصود تمام المعنى لا لفظ القرآن. (¬2) هذا الحديث ضعيف جدًا؛ أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده (190 إتحاف الخيرة)، وأبو الشيخ في كتاب العظمة (2/ 589)، والمصنف في نقضه للمريسي (106)؛ جميعا من طريق بشر بن نمير، به، وبشر بن نمير؛ قال الحافظ متروك متهم (التقريب 706) .. وقد تابع بشرًا؛ جعفر بن الزبير، أخرجه الطيالسي (1226)، والطبراني في الكبير (7940)، وابن عدي في الكامل (7/ 268)؛ جميعا من طرق عن جعفر بن الزبير، وهذه متابعة لا يفرح بها؛ فإن جعفر حاله كحال متابعه؛ متروك أيضًا كما قال الحافظ في التقريب (939)، وللحديث طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط (7632)؛ من حديث أبي عثمان النهدي عن أبي أمامة، وهو ضعيف أيضا؛ في إسناد الطبراني سلم بن سالم البلخي، قال أحمد: ليس بذاك، وقال أبو زرعة: لا يكتب حديثه (الجرح والتعديل 4/ 266)، وشيخه عبد الرحمن؛ لا يعرف. (¬3) أخرجه الترمذي (2530)، وابن ماجه (4331)، وأحمد (22087)، والطبري في ... = = التفسير (18/ 132)؛ جميعا من طرق عن عبد العزيز بن محمد، به، وفيه انقطاع بين عطاء ومعاذ، والمتن صحيح فقد أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (2790).

(16) حدثنا مُحَمدُ بنُ كَثِيرٍ، أخبرنا سُفْيَانُ وهو الثَّوْرِيُّ، حدثنا أبو هَاشِمٍ، عن مُجَاهِدٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ قال: «إن [اللهَ] (¬1) كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخلُقَ شيئًا، فكان أولَ ما خَلَقَ اللهُ؛ القَلَمَ، فأمره وكَتَبَ مَا هو كَائِنٌ، وإِنَّما يَجْرِي النَّاسُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ» (¬2). (17) حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ المِصْرِيُّ، قال حدثني ابنُ لَهِيعَةَ ورِشْدِينَ بنِ سَعْدٍ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِّي، عن عبد الله بن عمرو قال: «لما أرادَ اللهُ تَبَارك وتعالى أن يَخْلُقَ شيئًا إذْ كان عرشُهُ على الماء، وإذ لا أرضَ ولا سماءَ؛ خَلَقَ الرِّيحَ فَسلَّطها على [الماء] (¬3) حتى اضطربت أمواجُهُ وأثار رُكَامَه؛ فأخرج من الماء دُخَانًا وطِينًا وزَبَدًا، فأمرَ الدُّخَانَ فَعَلاَ وسَمَا وَنَمَا؛ فخلق منه السماواتِ، ¬

(¬1) ما بين المعقوفين ليس في الأصل وأثبتناه من المصادر. (¬2) إسناده صحيح؛ رجاله ثقات، وقد ضعفه محقق المطبوعة وقال: إسناده ضعيف محمد بن كثير صدوق كثير الغلط، كما في التقريب. ... قلت: محمد بن كثير؛ ثقة، أخرج له البخاري، وهو محمد بن كثير العبدي أبو عبد الله البصري، قال الحافظ: ثقة، لم يُصِبْ من ضعفه، كما في التقريب، ويعني بذلك تضعيف ابن معين له، وقد وثقه الذهبي كما في السير (10/ 383)، أما الذي قال فيه الحافظ صدوق كثير الغلط؛ إنما هو محمد بن كثير بن أبي عطاء الصنعاني، وكلاهما؛ البصري والصنعاني، يروي عن سفيان الثوري، وقد جزمت أنه البصري لقرينتين: أولا: أن الدارمي قد صرح بنسبته في مواضع أخرى من الكتاب، ينظر حديث رقم (3). ثانيا: أن الحاكم أبا عبد الله لما ذكر شيوخ الدارمي، قال: ومحمد بن كثير بالبصرة، ينظر سير أعلام النبلاء (13/ 326). ثم الأثر قد أخرجه الطبري في التفسير (23/ 526)، من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، به، فلو افترضنا ضعف محمد بن كثير؛ فكيف وقد تابعه عبد الرحمن بن مهدي! (¬3) ما بين المعقوفين سقط من الأصل وأثبتناه من المصادر.

وخلق من الطِّينِ الأَرضِينَ وخَلَقَ مِنَ الزَّبَد الجِبَالَ» (¬1). قال أبو سعيد رحمه الله: ففي ما ذكرنا من كتاب الله - عز وجل -، وفي هذه الأحاديث؛ بيان بَيِّنٌ أنَّ العرشَ كان مخلوقًا قَبْل ما سِوَاهُ من الخلْق، وأن ما ادَّعى فيه هؤلاء المُعَطِّلة تكذيبٌ بالعرش، وتَخَرُّصٌ بالباطل. ولو شِئْنَا أَنْ نَجْمَعَ في تَحقِيقِ العَرشِ كثيرًا من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ والتابعينَ لجَمَعْنَا، ولَكِن عَلِمْنَا أَنُّه خَلَص عِلمُ ذلك والإيمانُ بِهِ إلى النِّساءِ والصِّبيانِ، إلاَّ إِلَى هذه العصابة الملحدة في آيات الله، طَهَّرَ الله منهم بلادَه، وأَرَاحَ منهم عِبَادَه! * * * ¬

(¬1) هذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن صالح المصري، ثم هذا الإسناد فيه انقطاع بين الحُبُلِّي والراويين عنه، فإن رشدين بن سعد؛ ولد سنة مائة وعشرة، وابن لهيعة؛ ولد سنة خمس وتسعين، بينما مات الحبلي سنة مائة، فكان ابن لهيعة يوم مات الحبلي ابن خمس سنين، ورشدين بن سعد لم يكن ولد بعد، ثم تأكد عندي ذلك؛ حيث وجدت الذهبي رحمه الله قد ذكر هذا الأثر في العلو (298)، وجعل بين الحبلي وبينهما؛ عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُمَ الإفريقي، والأثر قد ذكره الذهبي في العلو كما مر، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 233) وعزاه للدارمي في الرد على الجهمية، وذكره ابن تيمية أيضا في بغية المرتاد (1/ 296)، لكن بنفس إسناد الدارمي، أي دون ذكر عبد الرحمن الإفريقي، فالله أعلم بالصواب.

باب استواء الرب تبارك وتعالى على العرش وارتفاعه إلى السماء وبينونته من الخلق وهو أيضا مما أنكروه

بَابُ اسْتِواءِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وتَعَالى علَى العَرشِ وارتِفَاعِهِ إِلىَ السَّماءِ وَبَيْنُونَتِهِ مِن الخلْقِ وهو أيضًا مما أَنْكَرُوهُ وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. وقال: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه:4 - 8]. وقد قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة:4 - 6]. وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]. وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18]. وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل:50]. وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وقوله: {ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: 3 - 4]. وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ

مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)} [الملك:16،17]. {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12]. قال أبو سعيد: أَقَرَّتْ هذه العصابة بهذه الآيات بألسنتها وادَّعُوا الإيمان بها، ثم نقضوا دعواهم بدعوى غيرها؛ فقالوا: الله في كل مكان لا يخلو منه مكان. قلنا: قد نقضتم دعواكم بالإيمان باستواء الرب على عرشه؛ إذ ادَّعَيْتُم أنه في كل مكان. فقالوا: تفسيره عندنا؛ أنه استولى عليه وعلاه. قُلنا: فهل من مكانٍ لم يَسْتَول عليه ولم يَعْلُه حتى خَصَّ العرشَ من بين الأمكنة بالاستواء عليه وكَرَّر ذِكرَه في مواضع كثيرة من كتابه؟! فأيُّ معنى إذًا لخصوص العرش؛ إذ كان عندكم مُسْتويًا على جميع الأشياء كاستوائه على العرش، تبارك وتعالى؟! هذا محالٌ من الحجج، وباطلٌ من الكلام، لا تَشُكُّونَ أنتم -إن شاء الله- في بُطُولِهِ واستحالته، غَيرَ أنَّكم تُغالِطون به الناسَ. أرأيتم إذ قلتم: هو في كل مكان، وفي كل خلق، أكان الله إلهًا واحدًا قبل

أن يَخْلُقَ الخلقَ والأمكنة؟ قالوا: نعم، قلنا: فحين خَلَقَ الخَلْقَ والأمكنة، أَقَدَرَ أن يَبْقَى كما كان في أَزَلِيَّتِهِ في غير مكان؛ فلا يصير في شيء من الخلق والأمكنة التي خلقها بزعمكم؟ أولم يجد بُدًّا من أن يصير فيها، أو لم يستغن عن ذلك؟ قالوا: بلى. قلنا: فما الذي دعا المَلِكَ القُدُّوسَ إذْ هو على عرشه في عِزِّهِ و [بهائه] (¬1) بائِنٌ من خلقه، أن يَصِيرَ في الأمكنة القذرة وأجواف الناس والطير والبهائم، ويُصَيِّرَ بِزعمِكُم -في كل زاويةٍ وحجرةٍ ومكان- منه شيء؟! لقد شَوَّهتُم معبودَكُم؛ إذ كانت هذه صفته، والله أعلى وأَجَلُّ من أن تكون هذه صفته، فلا بُدَّ لكم من أن تأتوا ببرهان بَيِّنٍ على دعواكم، من كتابٍ ناطقٍ أو سُنَّةٍ ماضيةٍ أو إجماع من المسلمين، ولن تأتوا بشيء منه أبدًا. فاحْتَجَّ بعضهُم فيه بكلمةِ زندقةٍ، أَسْتوْحِشُ مِنْ ذِكرِهَا، وتَسَتَّرَ آخرُ مِن زَنْدَقَةِ صاحبِه فقال: قال الله تعالى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7]. قلنا: هذه الآية لنا عليكم، لا لكم؛ إنما يعني أنه حاضرٌ كلَّ نجوى ومع كُلِّ أَحدٍ من فوق العرش بعلمه؛ لأن عِلمَه بهم محيط، وبَصَرَهُ فيهم نافِذٌ، لا يَحْجُبُهُ شيءٌ عن علمه وبصره، ولا يتوارون منه بشيء, وهو بكماله فوق العرش بائِنٌ من خلقه يعلم السِّرَّ وأخفى، أقرب إلى أحدهم-من فوق العرش- من حبل الوريد، قادرٌ على أن يكون له ذلك؛ لأنه لا يَبْعُدُ عنه شيءٌ ولا تخفى عليه ¬

(¬1) في الأصل رسمها هكذا «نهابه» والذي يظهر أنه تصحيف، وقد كرر المصنف هذه الكلمة التي أثبتناها في أكثر من موضع على الصواب.

خافية في السماوات ولا في الأرض، فهو كذلك رابعُهُم وخامسُهُم وسادسُهُم، لا أنه معهم بنفسه في الأرض كما ادَّعيتم، وكذلك فَسَّرتهُ العلماءُ. فقال بعضهم: دعونا من تفسير العلماء، إنما احتججنا بكتاب الله؛ فأتوا بكتاب الله. قلنا نعم، هذا الذي احتججتم به هو حقٌ كما قال الله - عز وجل - وبها نقول على المعنى الذي ذكرنا، غيرَ أنَّكم جَهِلتُم معناها؛ فضللتم عن سواء السبيل، وتعلقتم بوسط الآية، وأغفلتم فاتحتها وخاتمتها؛ لأن الله - عز وجل - افتتح الآية بالعلم بهم، وختمها به فقال: {أَلَمْ تَرَ (¬1) ... أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7]. ففي هذا دليلٌ على أنه أراد العلم بهم وبأعمالهم، لا بأنه نفسه في كل مكان معهم كما زعمتم، فهذه حُجَّةٌ بالغة لو عقلتم. وأُخرَى؛ أنَّا لما سمعنا قولَ الله - عز وجل - في كتابه {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] و {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] وقوله: {ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 3 - 4] وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] و {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وما أشبهها من القرآن آمنا به، وعلمنا يقينا بلا شك أن الله فوق عرشه فوق سمواته كما وصف، بائن من خلقه. ¬

(¬1) في الأصل تعلم وهو خطأ وقد وافق محقق المطبوعة الأصل في هذا الموضع!!

فحين قال: {أَلَمْ تَرَ (¬1) أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] قلنا هو معهم بالعلم الذي افتتح به الآية وختمها؛ لأنه قال في آي كثيرة ما حقَّقَ أنه فوق عرشه فوق سماواته، فهو كذلك لا شك فيه، فلما أخبر أنه مع كلِّ ذي نجوى، قلنا علمه وبصره معهم، وهو بنفسه على العرش بكماله كما وصف؛ لأنه لا يتوارى منه شيءٌ، ولا يفوتُ علمَهُ وبَصرَهُ شيءٌ في السماء السابعة العُليا، ولا تحت الأرض السابعة السُفلى، وهذا كقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] من فوق العرش، فهل من حجة أشفى وأبلغ مما احتججنا عليك من كتاب الله تعالى؟ ثم الروايات -لتحقيق ما قلنا- مُتَظاهِرةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين، سنأتي منها ببعض ما حضر إن شاء الله تعالى، ثم إجماعٌ من الأولين والآخرين العالمين منهم والجاهلين؛ أن كل واحد ممن مضى، وممن غبر، إذا استغاث بالله تعالى أو دعاه أو سأله؛ يَمُدُّ يديه وبصره إلى السماء، يدعوه منها، ولم يكونوا يدعوه من أسفل منهم من تحت الأرض، ولا مِن أَمَامِهم ولا من خلفهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، إلا من فوق السماء؛ لمعرفتهم بالله أنه فوقهم، حتى اجتمعت الكلمة من المصلين في سجودهم؛ سبحان ربي الأعلى، لا ترى أحدًا يقول ربي الأسفل! حتى لقد علم فرعونُ -في كفره وعتوه على الله- أن الله - عز وجل - فوق السماء! فقال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]. ¬

(¬1) في الأصل تعلم وهو خطأ وقد وافق محقق المطبوعة الأصل في هذا الموضع أيضا!!

ففي هذه الآية بيان بَيِّنٌ، ودلالةٌ ظاهرةٌ؛ أن موسى كان يدعو فرعون إلى معرفة الله؛ بأنه فوق السماء؛ فمن أجل ذلك أمر ببناء الصَّرحِ، ورام الاطلاع إليه. وكذلك نمرود -فرعون إبراهيم- اتخذ التابوت والنسور ورام الاطلاع إلى الله؛ لما كان يدعوه إبراهيم إلى أن معرفته في السماء، وكذلك كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يدعو إليه الناس، ويمتحن به إيمانَهُم بمعرفة الله - عز وجل -. (18) حدثنا مُسْلِمُ بنُ إبراهيمَ الأَزْدِيُّ، حدثنا أَبَان وهو ابنُ يَزيدَ العَطَّار، عن [يحيى ابن] (¬1) أبي كَثير، عن هلال بن أَبِي مَيمونةَ، عن عطاء بن يَسَارٍ، عَن مُعُاوِيَةَ بِنِ الحَكَم السُّلَمِي - رضي الله عنه - قال: «كانت لِي جَارِية تَرْعَى غَنمًا لِي في قِبَل أُحُدٍ والجوَّانيَّة، وإِنِي اطَّلعتُ يومًا اطِّلاعةً؛ فَوَجَدتُ ذِئبًا ذَهَبَ مِنها بشاةٍ، وإِنِي مِنْ بَنِي آدَمَ؛ آَسفُ كَما يَأْسَفُون، فَصَكَكْتُها صَكَّةً، فَعَظُمَ ذلك عَلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: أفلا أُعْتِقُهَا؟ فَقَال ادْعُهَا فقال لها النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَيْنَ اللهُ؟ قالت: في السَّماءِ، قال: فَمَن أَنا؟ قالت: أَنت رَسُولُ الله، قال: أَعْتِقْهَا؛ فإنها مؤمنة» (¬2). (19) وحدثناه يحيَى بنُ يحيَى، حدثنا إسماعيلُ بن عُليَّة، عن الحجاجِ الصوَّاف، عن يحيَى بن أَبِي كثير، عن هِلال بن أَبِي مَيْمُونَةَ، عن عَطاء بنِ يَسَار، ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من الأصل، وأثبتناه من مصادر التخريج. (¬2) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه الطيالسي في مسنده (1201)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (899)، وأبو عوانة في مسنده (1727)، وابن أبي عاصم في السنة (489)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (652)؛ جميعا من طريق أبان بن يزيد العطار، به.

عن معاوية بن الحكم، عن النبِي - صلى الله عليه وسلم - مثله (¬1). (20) وحدثنا يحيى بن يحيى التَّمِيمِي، قال: قَرَأْتُ على مَالِكِ بنِ أَنَس، عن هِلاَل بنِ أُسَامة، عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عن [معاويةَ بن] (¬2) الحَكَمِ أَنَّهُ قال: «أَتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يا رسولَ اللهِ! إِنَّ جَارِيَةً لي تَرعَى غَنمًا فجئتُها فَفَقَدتُ شاةً من الغَنَمِ، فسألتُها عنها، فقالت: أَكَلَهَا الذِّئْبُ؛ فأَسِفْتُ عليها، وكنتُ مِن بَني آدم، فَلَطَمْتُ وجْهَهَا، وعليَّ رَقَبَةٌ، أَفَأُعْتِقُهَا؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها» (¬3). قال أبو سعيد: ففي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا؛ دليلٌ على أن الرجلَ إذا لم يعلم أن الله - عز وجل - في السماء دون الأرض؛ فليس بمؤمن، ولو كان عَبدًا فَأُعْتِقْ؛ لم يَجُزْ في رقبة مؤمنة، إذ لا يعلم أن الله في السماء، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل أَمَارةَ إيمانِها مَعْرفَتُها أَنَّ اللهَ في السماء. وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين الله، تَكذِيبٌ لقول من يقول: «هو في كل مكان، لا يُوصَفُ بِأَين؛ لأن شَيئًا لا يخلو منه مكان؛ يستحيل أن يُقَالُ: أين هو، ولا يُقَال أَين إلا لمن هو في مكان يخلو منه مكان». ¬

(¬1) أخرجه مسلم (537)، وأبو داود (931)، والنسائي في الكبرى (8535)، وأحمد في المسند (23762)، وابن حبان في صحيحه (165)، والطبراني في الكبير (19/ 398)، وأبو عوانة في مسنده (1728)، وابن أبي شيبة في مسنده (828)، وفي مصنفه (30979)؛ جميعًا من حديث حجاج الصواف، به. (¬2) ما بين معقوفين سقط من الأصل وأثبتناه من المصادر. (¬3) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه مالك في الموطأ (1468)، وعنه الشافعي في الأم (2617)، ومن طريق الشافعي؛ البيهقي في الكبرى (7/ 387)، وأخرجه من طريق مالك النسائي في الكبرى (11401).

ولو كان الأمر على ما يَدَّعي هؤلاء الزائغة؛ لأنكر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولهَا وعِلْمَهَا، ولكِنَّها عَلِمَت به فصدَّقها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وشَهِدَ لها بالإيمان بذلك، ولو كان في الأرض كما هو في السماء لم يَتِم إيمانُها حتَّى تَعرِفَه في الأرض كما عرفته في السماء، فالله تبارك وتعالى فوق عرشه، فوق سماواته، بائنٌ من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك؛ لم يعرف إِلَهَهُ الذي يَعبُد، وعلمه من فوق العرش -بأقصى خلقه وأدناهم- واحد ولا يبعد عنه شيء، ولا يَعْزُبُ عنه مثقالَ ذَرةٍ في السماوات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يصفه المُعَطِّلُون عُلوًا كَبِيرًا. (21) حدثنا الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ البَزَّارُ (¬1)، حدثنا عَليُّ بن الحسنِ بن شَقِيقٍ، عن ابنِ المُبَارَكِ قال: قيل له كيفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ (¬2). قال أبو سعيد رحمه الله: ومما يُحَقِّقُ قَوْلَ ابنِ المُبَارَكِ؛ قَوْلُ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - للجَارِيَةِ: أَيْنَ اللهُ؟ يَمْتَحِنُ بذلك إِيمَانَها، فلما قالت في السماء؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعتقها؛ فإنها مؤمنة. والآثَارُ في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرَةٌ، والحُجَجُ مُتَظَاهِرَةٌ، والحمدُ للهِ على ذلك. (22) حدثنا مُسَدَّدٌ، حدثنا سُفْيَانُ، عن عمرِو يعني ابنِ دِينَارٍ، عن أبي قَابُوس، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) في المطبوعة «البزاز»، والمثبت من الأصل وهو الموافق لترجمة الحسن بن الصباح، وينظر الأنساب للسمعاني (1/ 336). (¬2) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (22)، وابن بطة في الإبانة (114)، والبيهقي في الأسماء والصفات (910).

«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرَّحمنُ، ارْحَم أَهلَ الأرضِ؛ يَرحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» (¬1). (23) حدثنا سَعِيدُ بنُ الحَكَمِ بن أبي مَرْيَم المصري، أخبرنا الليثُ بنُ سَعْدٍ، عن زِيَادَةَ بنِ محمد، عن محمد بن كَعْبٍ القُرَظِي، عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ، عن أبي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اشْتَكَى أَحدُكُم شَيئًا، أو اشْتَكَى أَخٌ له؛ فَلْيَقُل: ربُّنَا اللهُ الذِي في السَّماءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أمرُكَ في السَّماءِ والأرضِ كمَا رَحمَتُك في السَّماء، فاجْعَلْ رَحمَتَكَ في الأَرضِ، واغْفِر لنَا حَوْبَنَا وخَطَايَانَا، أنتَ رَبُّ الطيِّبِينَ، أَنْزِل شِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ، ورحمَةً مِنْ رَحمتِكَ على هذا الوَجَعِ» فَيَبْرَأ (¬2). (24) حدثني مُحَمدُ بنُ بَشَّار العَبْدِي، حدثنا وَهْب بن جَرِير، حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق، يُحدِّث عن يَعقُوبَ بن عُتْبَة، عن جُبَيْرِ بن محمد بن جبير بن مُطْعِم، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابي ¬

(¬1) صحيح؛ أخرجه أحمد (6494)، وأبو داود (4943)، والترمذي (1924)، والحميدي (591)، والبيهقي (9/ 41) وغيرهم، من طريق أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو، قال الذهبي في الميزان (10522) لا يعرف. وقال في الكاشف (6784): وثق. وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه ... جرحا ولا تعديلا، وقال الحافظ في التقريب: مقبول. فهذا إسناد ضعيف. قلت: لكن تابعه، حبان بن زيد الشرعبي، أخرجه أحمد (6541)، وعبد بن حميد (320 - منتخب)، والبخاري في الأدب المفرد (380)، والطبراني في مسند الشاميين (1055)، والبيهقي في شعب الإيمان (11052)، وغيرهم؛ من طريق الشرعبي، عن عبد الله بن عمرو، بمعناه. وهذا إسناد صحيح، والحمد لله رب العالمين. (¬2) منكر؛ أخرجه أبو داود (3892)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (1045)، والطبراني في الأوسط (8636)، وابن حبان في المجروحين (1/ 386)، وابن عدي في الكامل (4/ 145)، جميعًا من حديث زيادة بن محمد، تفرد به، وقال البخاري منكر الحديث.

فقال يا محمد! هَلَكَت المَوَاشِي، ونَهَكَت الأَمْوَالُ، وإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ على اللهِ، وبالله عليك، فادْعُ اللهَ أنْ يَسْقِيَنَا، فقال النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أَعْرابِي وَيْحَك! وهل تدري ما تقول؟ إنَّ [الله] (¬1) أَعظَمُ مِن أن يُسْتَشْفَعَ عليه بِأَحدٍ مِن خَلقه، إن اللهَ فَوْقَ عَرشِه فَوق سَمَاواتِه وسَمَاواتُهُ فَوْقَ أرضيه مثل القُبَّة، وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده مثل القبة، وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ» (¬2). (25) حدثنا محمد بن الصَّبَّاح البَغْدَادِي، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سِمَاك، عن عبد الله بن عُمَيرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، قال: كنت بالبطحاء في عصابة وفيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَمَرَّت سَحَابَةٌ، فنظر إليها فقال: «مَا تُسَمُّون هذه؟ قالوا السَّحابُ، قال: والمُزن؟ قالوا: والمُزن، قال: والعنَانَا؟ قالوا: والعنانا، قال فقال: ما بُعْدَ ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: فإن بُعْدَ ما بينهما؛ إِمَّا واحِدَةً، وإما اثْنَتَيْنِ، وإما ثلاثًا وسبعينَ سَنَة، والسماء فوقها كذلك، حتى عَدَّ سَبْعَ سماواتٍ، وفَوْقَ السَّماءِ السَّابعة بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وأعلاه مثل ما بين السَّمَاءِ إلى السَّماءِ، وفوق ذلك ثَمَانية أَوْعَال ما بين ¬

(¬1) ما بين معقوفين زيادة ليست من الأصل وأثبتناها من المصادر. (¬2) ضعيف؛ أخرجه أبو داود (4726)، والطبراني في الكبير (1547)، والبغوي في شرح السنة (92)، والدارقطني في العلل (3320)، وابن خزيمة في التوحيد (147)، وغيرهم من حديث محمد بن إسحاق، به، وهو المحفوظ، وهذا حديث ضعيف؛ ابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالسماع، وجبير بن محمد مقبول إذا توبع، وإلا فهو لين، وقد تفرد به، ولم يتابعه عليه أحد.

أَظْلاَفِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ مثل ما بين السَّماءِ إِلى السَّماء وعلى ظُهُورِهِنَّ العرش، بين أَسفلِهِ وأعلاه مثل ما بين السَّماءِ إِلى السَّماء، ثم الله - عز وجل - فوق ذلك- تبارك وتعالى-» (¬1). (26) حدَّثَنَا مُوسَى بنُ إِسْماعِيلَ، حدَّثَنَا حمَّادٌ وهو ابن سَلَمَةَ، حدثنا عَطَاءُ بنُ السَّائِبِ، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عباس ?: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أُسْرِيَ به [قال] (¬2): مرَّتْ رائحةٌ طَيِّبة فقلت يا جبريل ما هذه الرائحة؟ فقال هذه رَائِحَةُ مَاشِطَةَ ابنة فرعون، وأولادِهَا، كانت تُمَشِّطُها فوقع المِشْطُ مِن يَدِها، فقالت بسم الله، فقالت ابنته أَبِي؟ قالت لا، ولكن رَبِّي وربُّ أبيك؛ الله، فقالت أُخْبِر بذلك أَبِي؟ فقالت نعم، فأخبرته، فدعا بها فقال من ربك؟ هل لَكِ رَبٌّ غَيْري؟! قالت: ربِّي وربك الذي في السماء، فَأَمَر بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ، ثم دعا بها وبولدها، فألقاهم فيها» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف؛ أخرجه أبو داود (4724)، والترمذي (3320)، وابن ماجه (193)، ... وأحمد (1770)، والبيهقي في الأسماء والصفات (854)، وغيرهم من حديث عبد الله بن عميرة الكوفي به، وهو مجهول لم يرو عنه غير سماك بن حرب كما ذكر ذلك مسلم في الوحدان، وكذلك قال البزار في مسنده (4/ 137): «لا نعلم روى عنه إلا سماك». وثمة انقطاع بينه وبين شيخه الأحنف بن قيس؛ حيث قال البخاري في التاريخ الكبير: «ولا نعلم له سماعًا من الأحنف». (¬2) زيادة ليست في الأصل وأثبتناها من المصادر. (¬3) ضعيف، أخرجه أحمد (2821، 2822)، وابن حبان (2904)، والحاكم في المستدرك (2/ 496)، وغيرهم، من حديث حماد بن سلمة عن عطاء. قلت: وعطاء كان قد اختلط في آخر عمره، فمن سمع منه قبل الاختلاط فسماعه صحيح، وحماد ممن سمع منه قبل الاختلاط وبعده. قال العقيلي في الضعفاء: قال عليٌّ -يعني ابن المديني- قلت ليحيى: وكان أبو عوانة حمل عن عطاء بن السائب قبل أن يختلط، فقال: كان لا يفصل هذا من هذا، وكذلك حماد بن سلمة.

وساق أبو سلمة الحديثَ بطوله. (27) حدثنا مُسَدَّدٌ، حدثنا أَبُو الأَحوص، حدثنا أبو إسحاق، عن أَبِي عُبَيْدَةَ، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لمْ يَرْحَمْ مَنْ فِي الأَرْضِ؛ لمْ يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّماءِ» (¬1). (28) حدثنا أبو هِشَام الرِّفَاعِي، حدثنا إِسحاقُ بنُ سُلَيْمَانَ، حدثنا أبو جَعْفَر الرَّازِي، عن عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عن أَبِي صَالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمَّا أُلْقِىَ إِبراهيمُ في النَّارِ قال: اللَّهُمَّ إِنَّك في السَّماءِ وَاحِدٌ، وأنا في الأرض واحِدٌ أَعْبُدُكَ» (¬2). (29) حدثنا مُسَدَّدٌ، حدثنا جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ، عن ثَابتٍ، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَطَرٌ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَحَسَرَ عنه ثَوْبَهَ حتَّى أصابه، فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: «لأنَّهُ حَدِيْثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الطيالسي في مسنده (333)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (4/ 210)، ... وأبو يعلى (5063)، والطبراني في الكبير (10277)، وفي الصغير (1/ 101)، وغيرهم من طريق أبي إسحاق، به. وهذا إسناد منقطع؛ أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وفي الباب عن أبي هريرة، وغيره. (¬2) ضعيف؛ أخرجه أبو يعلى كما في إتحاف الخيرة (6275)، عن شيخ المصنف به، والخطيب في التاريخ (10/ 346)، وغيرهما، وهذا إسناد ضعيف لأجل أبي هشام الرفاعي واسمه محمد بن يزيد، ضعفه غير واحد، وقال البخاري: رأيتهم مجتمعين على ضعفه، وكذلك شيخ شيخه أبو جعفر الرازي قال أحمد: ليس بقوي في الحديث، وقال أبو زرعة شيخ يهم كثيرًا. (¬3) أخرجه مسلم (2038)، وأحمد (12392)، والبخاري في الأدب المفرد (571)، وأبو داود (5100)، وغيرهم.

قال أبو سعيد: ولو كان على ما يقول هؤلاء الزَّائِغَة أَنَّه في كلِّ مكان؛ ما كان المطرُ أَحْدَثُ عهدًا بالله مِنْ غَيْرِهِ من المياه والخلائِق. (30) حدثنا عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر ? قال: «لما قُبِضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: أَيُّهَا الناس! إِنْ كَانَ محمدٌ إِلَهَكُم الذي تَعبُدُون؛ فإِن إِلَهَكُم قد مات، وإن كان إِلَهَكُم الله الذي في السَّماء؛ فَإِنَّ إِلهكُم لم يَمُتْ، ثُم تَلاَ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} حتى ختم الآية» (¬1) [آل عمران: 144]. (31) حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ، قال سمعتُ أَبَا يَزِيدَ يَعْنِي المَدَنِيَّ، قال: «لَقِيَتِ امرأةٌ عُمرَ يقال لها خولةُ بِنْتُ ثَعْلَبة وهو يَسِيرُ مع النَّاسِ، فاسْتَوْقَفَتْهُ فوقَفَ لها، ودَنَا منها، وأَصغَى إِليها رَأْسَهُ حتَّى قَضَتْ حَاجتَهَا وانصرفت، فقال له رجل يا أمير المؤمنين! حبست رجالات قريشٍ على هذه العجوز، فقال ويلك! وهل تدري من هذه؟ قال لا، قال هذه امرأةٌ سمع اللهُ شَكْوَاهَا من فوق سَبْعِ سماوات؛ هذهِ خَولةُ بنتُ ثَعْلَبَة، والله لو لم تنصرف عَنِّي إلي الليل؛ ما انْصَرَفْتُ عنها حتَّى تَقْضِي حاجَتَها إلاَّ أن تَحْضُرَ صلاةٌ فَأُصَلِّيها، ثم أَرْجِعُ إليها حتى تقضي حاجتها» (¬2). ¬

(¬1) صحيح؛ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (38176)، البزار (103)، (5991)، وقوام السنة في الحجة في بيان المحجة (499)، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (18841) عن شيخ المصنف، والبيهقي في الأسماء والصفات (894) من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن جرير بن حازم به. قال الذهبي في العلو (169): «هذا إسناد صالح فيه انقطاع؛ أبو يزيد لم يلحق عمر». ... = = قلت: وللأثر طريق أخرى أخرجها البخاري في التاريخ (7/ 245)، قال: قال محمد بن العلاء نا أبو أسامة قال نا عبد الله بن كهف القشيري قال نا أبِي عن ثمامة بن حزن قال، فذكر عن عمر نحوه، وهذا إسناد رجاله ثقات، غير عبد الله بن كهف وأبيه لم نجد أحدًا من أهل العلم تكلم فيهما بجرح أو تعديل وقد ذكرهما ابن حبان في الثقات. وثمة طريق أخرى أخرجها عمر بن شبة في أخبار المدينة (760)، من طريق خليد بن دعلج عن قتادة عن عمر، وخليد ضعيف، وقتادة لم يسمع من عمر. قلت: فالأثر بجموع هذه الطرق محتمل للتحسين والله أعلم.

(32) حدثنا أحمدُ بنُ يُونَسَ، حدثنا أَبو شِهَابٍ الحَنَّاط، عن الأعمش، عن خَيْثَمَةَ، أَنَّ عبدَ اللهِ قال: «إِنَّ العبدَ لَيَهِمُّ بالأمر من التجارة، أو الإِمارة حَتَّى إذا تَيَسَّر له؛ نَظَرَ اللهُ إليه من فوق سَبْعِ سماوات، فيقولُ للمَلَكِ اصرفْهُ عنه، قال فيصرفه، فَيَتَظَنَّى بحيرته سَبَقَنِي فلان، وما هو إلا الله» (¬1). (33) حدثنا موسى بن إِسمَاعِيل، حَدَّثنا حمَّادٌ يعنِي ابن سلمة، عن عَاصِم، عن زِرٍّ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «ما بَيْنَ السَّماءِ الدنيا والتي تليها مَسِيرة خمسمائة عام، وبين كلِّ سَماءَيْن مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكُرْسيِّ خمسمائة عام، وبين الكُرْسيِّ إلى الماءِ خمسمائة عام، والعَرْشُ على الماء، واللهُ تَعَالىَ فَوقَ العَرْشِ، وهو يَعْلَمُ مَا أَنْتُم عَلَيْه» (¬2). (34) حدثنا سَعِيدُ بنُ أَبِي مَرْيَمَ المِصْرِيُّ، أخبرنا يحيَى بنُ أَيُّوبَ، حدثني عمارة بن غَزِيَّةَ، عن قُدَامَةَ بنِ إبراهيمَ بن محمد بنِ حَاطِبٍ، أنه حدثه: «أن عَبدَ اللهِ بنَ رَوَاحَة - رضي الله عنه - وَقَعَ بجاريةٍ له؛ فَقَالتْ لهُ امرأتُهُ فَعَلْتَهَا؟ قال أَمَّا أنا فَأَقْرَأُ ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه نعيم بن حماد في «زوائده على الزهد لابن المبارك» (129)، وأبو داود في الزهد (181)، وابن أبي الدنيا في الرضا (57)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1219)، جميعًا من طريق خيثمة بن عبد الرحمن، قال أحمد: خيثمة لم يسمع من ابن مسعود، فالإسناد منقطع. (¬2) صحيح، أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 242 - 244)، والبيهقي في الأسماء والصفات (858)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 688)،وقال الذهبي في العلو: إسناده صحيح.

القُرآن، فقالت: أمَّا أنت فلا تقرأ القرآن، وأنت جُنُب، فقال: أنا أقرأ لَك فقال: شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ... وأنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرِينَا وأنَّ العَرشَ فَوقَ المَاءِ طَافٍ ... وفَوقَ العَرشِ رَبُّ العَالَمِينَا وتَحْملهُ مَلائِكَةٌ كِرَامٌ ... مَلائِكةُ الإِلَهِ مُسَوِّمِينَا فَقَالتْ: آَمَنْتُ بِاللهِ وَكَذَّبْتُ البَصَر» (¬1). (35) وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جُوَيْرِيَةُ يعني ابن أَسْمَاءَ، قال: سمعت نَافِعًا يقول: قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: «وايْمُ اللهِ! إِنِّي لأخشَى لو كُنْتُ أُحِبُّ قَتْلَه؛ لَقَتَلْتُ يعني عُثْمَان، ولَكِنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ فَوقِ عَرْشِهِ أَنِّي لمْ أُحِبُّ قَتْلَه» (¬2). (36) وحدثنا النُّفَيليُّ، حدثنا زُهَيْرُ بن معاوية، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْمٍ، حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَةَ، أنه حدثه ذَكْوَانُ حَاجِبُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -، أن ابن عباس? دخل على عائشة وهي تموت، فقال لها: «كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إلا طَيِّباً، وأنزل الله بَراءَتَكِ مِن فوق سبع سماوات جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله تعالى يذكر فيه الله؛ إلا وهي تتلى فيه آناء الليل والنهار» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف؛ قدامة بن إبراهيم لم يدرك ابن رواحة، والقصة أخرجها ابن أبي الدنيا في العيال (572)، وابن عساكر في تاريخه (28/ 112، 114، 115)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (1/ 238)، وغيرهم، ولم أقف لها على سند متصل. (¬2) إسناده صحيح متصل، وأخرجه نعيم بن حماد في الفتن (202)، من طريق مجاهد، عن عائشة. (¬3) أخرجه البخاري (4476)، وأحمد (2496، 3262)، وأبو يعلى (2648)، والطبراني في الكبير (10783). والنفيلي: هو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل.

(37) حدثنا محمدُ بنُ عِمْرَانَ بنِ أبي لَيْلَى، حدثنا [موسى أبو محمد] (¬1) من موالي عثمانَ بنِ عَفَّانَ، قال: وكان من خِيَارِ الناسِ، عن خالد بن يزيد بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: خَطَبَ عَليٌ النَّاسَ الخُطْبَةَ التي لم يَخْطُبْ بعدها، فقال: «الحمدُ لله الذي دَنَا في عُلُوِّهِ ونَاءَ في دُنُوِّهِ، لا يَبْلُغُ شَيءٌ مَكَانَهُ، ولا يَمْتَنِعُ عليه شَيْءٌ أَرَادَهُ» (¬2). (38) حدثنا نُعَيْمُ بن حمَّاد، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا سُلَيْمانُ بن المُغِيرة، عن ثَابِت البُنَانِي، حدثنا رجلٌ من أهل الشام -وكان يتبع عبد الله بن عمرو بن العاص ويسمع منه- قال: كنت معه، فَلَقِيَ نَوْفًا، فقال نَوْفٌ: ذُكِرَ لنَا أنَّ الله تَعَالى قال لِمَلائِكَتِهِ: ادعُوُا لي عِبَادي، فقالوا: يا رب كيف والسماوات السبع دونهم، والعرش فوق ذلك؟ قال إنهم إذا قالوا لا إله إلا الله؛ فقد استجابوا لي، قال يقول عبد الله بن عمرو: صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة المغرب أو قال غيرها -شك سليمان- فقعد رهط أنا فيهم ينتظرون الصلاة الأخرى، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْرِعُ المَشْيَ كأَنِّي أَنْظُرُ إلى رفعه إزاره كي يكونَ أَخَفَّ له في المشي، فانتهى إلينا فقال: «ألا أبشروا هذا ربُّكُم أمر بباب في السماء الوسطى، أو قال باب السماء، ففتحه، ففاخر بكم الملائكة، فقال: انظروا إلى عبادي، أَدَّوُا حقًا من حقي، ثم انتظروا أَدَاَءَ حَقٍّ آخر يُؤَدُّونَهُ» (¬3). ¬

(¬1) كذا في الأصل ولم نقف له على ترجمة، ولعله موسى بن أبي محمد. (¬2) خالد بن يزيد وأبوه وجَدِّهِ، لم أقف على ذكر لهم، والأثر أيضًا لم أجد أحدًا أخرجه غير أبي سعيد الدارمي. (¬3) صحيح؛ رجاله ثقات، أخرجه ابن ماجه (801)، وأحمد (6750، 6752، 6860)، وابن المبارك في الزهد (7)، والرجل المبهم، هو أبو أيوب الأزدي واسمه يحيى بن مالك، ... = = كما جاء مصرحًا به في رواية ابن ماجه وأحمد، ونوف: هو نوف بن فضالة البِكَالي ابن امرأة كعب الأحبار.

(39) حدثنا مُوسَى بنُ إِسْمَاعيِلَ، حدثنا أبُو هِلاَلٍ، حدثنا قَتَادَةُ، قال: قَالتْ بَنُو إِسرَائِيل: يا ربُّ أَنْتَ في السَّماءِ ونحنُ في الأرضِ، فَكَيْفَ لنا أنْ نَعْرِفَ رِضَاكَ وَغَضَبَك؟ قال: «إِذَا رَضِيتُ عَنْكُم؛ اسْتَعمَلْتُ عَليْكُم خِيَارَكُم، وإِذَا غَضِبْتُ عَليْكُم؛ استعملتُ عليكم شِرَارَكُم» (¬1). (40) حدثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ المِصْريُّ، قال حدثني لَيْثٌ وهو ابن سَعْدٍ، قال حَدَّثَني خَالدُ بْنُ يَزيدَ، عن سعيدِ بْنِ أبي هِلاَلٍ، أنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَم حَدَّثَهُ، عن عطاء بن يسار، قال: أَتَى رَجُلٌ كَعبًا وهو في نَفرٍ، فقال: يا أبا إِسْحَاقَ! حَدِّثْنِي عن الجَبَّار، فَأَعْظَمَ القَوْمُ قولَهُ، فَقَالَ كَعْبٌ: دَعُوا الرَّجُلَ فإِنْ كَانَ جَاهِلاً تَعَلَّم، وإن كَانَ عَالماً ازداد عِلْمًا، ثم قال كَعْبٌ: «أُخْبِرُكَ أنَّ اللهَ خَلَقَ سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، ثم جعل ما بين كلِّ سماءين كما بين السماءِ الدُّنيَا والأرض، وكثفهن مثل ذلك، ثم رفع العرش، فاستوى عليه فما في السماوات سماءٌ إِلاَّ لها أَطِيْطٌ كَأطِيطِ الرَّحْلِ العلافي أول ما يرتحل، من ثِقَلِ الجبَّارِ فَوْقَهُنَّ» (¬2). ¬

(¬1) إسناده حسن؛ وقال الذهبي في العلو (336): «هذا ثابت عن قتادة». (¬2) إسناده حسن، أخرجه أبو الشيخ في كتاب العظمة (2/ 610)، من طريق أبي صالح به. قال الذهبي في العلو (316) بعد ذكره لهذا الأثر: «وذكر كلمة منكرة لا تسوغ لنا، والإسناد ... نظيف، وأبو صالح لينوه وما هو بمتهم، بل سيء الإتقان». قلت: يعني بالكلمة المنكرة، قوله «من ثقل الجبار فوقهن».قلت: لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (3/ 268): «وهذا الأثر وإن كان هو رواية كعب، فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب، ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة، ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا يدافعها ولا يصدقها ولا يكذبها، فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هُمْ مِن = = ... أَجَلِّ الأئمة، وقد حَدَّثُوا به، هُمْ وغَيْرُهُم ولم يُنْكِرُوا ما فيه من قوله مِن ثِقَلِ الجَبَّار فَوقَهُن، فلو كان هذا القول مُنْكَرًا في دين الإسلام عندهم؛ لم يحدثوا به على هذا الوجه». والله أعلم.

(41) حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ، حدثني الليثُ، قال حدَّثني عُقَيلٌ، عن ابنِ شِهَابٍ، قال أخبرنِي سَالِمُ بنُ عبدِ اللهِ، أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ قَالَ لِعُمَرَ - رضي الله عنه -: ... «وَيْلٌ لِسُلطانِ الأرضِ من سلطانِ السَّماءِ، قال عُمَرُ: إلا مَنْ حَاسَبَ نفسَهُ، فقال كعبٌ: إلا من حاسب نفسه، وكَبَّرَ عُمَرُ وَخَرَّ سَاجِدًا» (¬1). (42) حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّانَي، حدثنا أبي، عن نَضْرٍ أبي عمر الخَزَّاز، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال: «سَيِّد السماوات السماء التي فيها العرش، وسيد الأرضين التي نحن عليها، وسَيِّد الشَّجَرِ العَوْسَج، ومنه عصا موسى» (¬2). (43) حدثنا القَعْنَبِي، حدثنا ثابت بن قيس أبو الغُصْن، عن أبي سعيدٍ المَقْبُرِيِّ، عن أسامة بن زيد? قال: قُلتُ يا رسول الله رَأَيتُكَ تصومُ مِنَ الشَّهرِ شيئًا ما لا تَصُومُهُ مِنَ الشُّهورِ أَكْثَر إلا رمضان، قال: «أَيُّ شَهْرٍ؟ قُلتُ شَعبان، قال: هو شَهْرٌ تُرْفَعُ فيِهِ الأعمالُ إِلى رَبِّ العالمين؛ فَأُحِبُّ أن يُرْفَعَ عَمَلي وأنا صَائِمٌ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه الخرائطي في فضيلة الشكر (67)، من طريق عبد الله بن صالح ويحيى بن عبد الله بن بكير، كلاهما عن الليث، به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 389)، من طريق سعيد بن أبي هلال، والبيهقي في شعب الإيمان (7393)، من طريق مالك، كلاهما سعيد ومالك، عن كعب، وكلا الطريقين مرسل، فكلاهما لم يدرك كعبا. (¬2) منكر؛ يحيى الحماني متهم، وأبوه ضعيف، وشيخ أبيه متروك الحديث. (¬3) ضعيف، أخرجه أحمد (22096، 22134)، والنسائي (4/ 201)، وابن أبي شيبة في المصنف (9858)، وابن عدي في الكامل (2/ 92)، والبيهقي في شعب الإيمان (3540، 3541)، وغيرهم وقال البيهقي: تفرد به هذا الغفاري وهو أبو الغصن ثابت بن قيس.= = قلت: ومداره على ثابت بن قيس أبي الغصن؛ اختلف النقاد في الحكم عليه، وأَعْتمِدُ فيه قول أبي أحمد بن عدي، فقال في الكامل: «هو ممن يكتب حديثه»، قلت: فمثله يحتاج إلى من يتابعه، وقال ابن حبان في المجروحين (1/ 206): «كان قليل الحديث، كثير الوهم فيما يرويه، لا يحتجُّ بخبره إذا لم يتابعه غيره عليه» وقد تفرد بروايته كما ذكرنا، فالحديث يترجح لدي ضعفه والله أعلم. قلت: والعجب كل العجب من محقق المطبوعة؛ فقد صححه، ولست أعجب من تصحيحه إياه فقد ذكرت أن مداره على ثابت بن قيس، وقد اختلف النقاد في الحكم عليه، فتصحيح هذه الرواية أو تضعيفها إنما يرجع إلى الاجتهاد والنظر، والخلاف في هذا مستساغ. إنما العجب أن المحقق الفاضل قد اتفق معي تماما في تضعيف ثابت بن قيس فقال: «وفي الإسناد ذاته ثابت بن قيس، وفيه مقال كما في ترجمته من التهذيب» انتهى كلامه. قلت: فأنى لك تصحيحه؟ وهنا يأتي العجب، فقد قال المحقق الفاضل بعد كلامه السابق مباشرة: «لكن تابعه عليه إسماعيل بن أبي أويس عند البيهقي في الشعب». قلت: أيستقيم أن يقول البيهقي تفرد به كما ذكرنا آنفا، ثم يأتي له بمتابع؟! إنما تابع ابنُ أبي أويس زيدَ بن الحباب في روايته عن ثابت، ولم يتابع ثابتا بالطبع، فقد ذكر البيهقي تفرد ثابت قبل سطر من ذكره لمتابعة ابن أبي أويس، وإنما نشأ هذا عن عدم فهم سياق كلام البيهقي رحمه الله، فقد قال البيهقي رحمه الله: «رواه عنه أيضا ابن أبي أويس عن أبي سعيد المقبري ... إلخ»، فضمير الهاء في قوله عنه يعود على ثابت بن قيس، فيكون معنى الكلام، فرواه ابنُ أبي أويس عن ثابت بنِ قيس عن أبي سعيدٍ المقبري.

(44) حدثنا عُثمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ للهِ مَلائِكَةٌ يَتَعاقَبُونَ فِيْكُم، فإذا كانت صلاةُ الفَجْرِ نَزَلتْ ملائكةُ النهارِ فَشَهِدوا مَعَكُم الصلاةَ، وَصعَدتْ ملائكةُ الليلِ ومَكَثَتْ فيكم مَلائِكةُ النَّهارِ، فَيَسْأَلُهُم رَبُّهُم وهو أعلمُ بهم، ما تَركْتُم عِبادِي يَصْنَعُونَ؟ فَيقولونَ: جِئْنَاهُم وهم يُصَلُّون وتركناهم وهم يُصَلُّون، فإذا كانت صلاةُ العصرِ، نَزَلتْ ملائكةُ الَّليلِ فَشَهِدوا مَعَكُم الصلاة، ثم صَعَدتْ مَلائكةُ النَّهارِ ومَكَثَتْ مَعَكُم مَلائِكةُ الليلِ، قال: فَيَسْأَلُهُم ربهم وهو أعلم بهم فيقول: ما تركتم عبادي

يصنعون؟ قال فيقولون: جئناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، قال فَحَسِبْتُهُ أَنَّهُ قال: فَأَغْفِرُ لهم يومَ الدِّينِ» (¬1). (45) حدثنا سُلَيْمانُ بن حَرْبٍ، حدثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عن عَاصِم، عَنْ زِرٍّ قَالَ: «أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمَان? فَقُلْتُ: أَخبرنِي عن صَلاةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بيتِ المَقْدِسِ لَيْلةَ أُسْرِيَ به، قال: مَا يُخْبِرُكَ ذَاكَ؟ قُلتُ القُرآن، فقرأت: ... {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ... (1)} -قال هكذا هو في قراءة عبد الله (¬2) - قال هل تَراهُ صَلَّى فيه يا أَصْلَع؟ قلتُ لا، قال فإنه أتاه بِدَابَّةٍ، فَوَصَفَهَا عَاصِمٌ بِحِمَارٍ، فحمله عليها، أحدهما رَدِيِفُ صاحبِهِ، ثم انطلقا، فَأُرِيَ ما في السماوات، وَأُرِيَ، ثم عادَا عَوْدُهُما على بَدْئِهِمَا، فَلمْ يُصَلْ فِيهِ، ولو صلَّى فيه؛ لكَانَت سُنَّةٌ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين. والحديث أخرجه البخاري (555، 7429، 7486)، ومسلم (632)، والنسائي (1/ 260)، وأحمد (9151)، وابن حبان (2061)، وغيرهم، من طرق عن أبي هريرة، به. (¬2) يشير هنا إلى أن قراءة عبد الله بن مسعود {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ... (1)} وينظر تفسير ابن جرير الطبري (17/ 330)، لكنه ذكرها في الأصل كما أثبتناها، وجميع مصادر التخريج كذلك، وفقا لقراءة عاصم. (¬3) حسن، أخرجه أحمد (23284 مطولا، 23320)، والترمذي (3147) وقال: حسن صحيح، والطيالسي (411)، والحميدي (448)، والحاكم (2/ 359) والطبري (17/ 349)، وفي تهذيب الآثار (مسند ابن عباس 730، 731)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 364)، وغيرهم. جميعًا من طرق عن عاصم هو ابن أبي النجود، به، وحديثه حسن. ... قال البيهقي في الدلائل بعد روايته لهذا الأثر: «وكان حذيفة لم يسمع صلاته في بيت المقدس، وقد روينا في الحديث الثابت عن أبي هريرة وغيره أنه صلى فيه، وأما الربط فقد رويناه أيضا في حديث غيره، والبراق دابة مخلوقة، وربط الدواب عادة معهودة، وإن كان الله - عز وجل - لقادر على حفظها، والخبر المثبت أولى من النافي، وبالله التوفيق».

(46) حدثنا عَمْرُو بنُ خَالِدٍ الحَرَّانِيُّ، حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ، عن بكر بن سَوَادَةَ، عن أبي تميمٍ الجَيْشَانِيِّ، عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا مَكَثَ المَنَيُّ في الرَّحِمِ أربعين ليلة، أتاه مَلَكُ النُّفُوسِ، فَعَرَجَ بِه إلى الربِّ في راحَتِهِ فيقول أي [رب: عَبْدُكَ هذا ذَكرٌ أم أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللهُ إليه ما هو قَاض، ثم يقول أي رب:] (¬1) أشقي أم سعيد؟ فَيَكْتُبُ بين عينيه ما هو لاقٍ، قَالَ وتلا أبو ذَرٍّ من فاتحة التَّغَابُنِ خَمْسَ آيات» (¬2). قال أبو سعيد رحمه الله: وإلى مَنْ يَعْرُجُ المَلَكُ بالمَنِيِّ، والله بِزَعْمِكُم الكاذب في رَحِمِ المرأةِ وَجَوْفِهَا مَعَ المَنِىِّ؟! (47) وحدثنا عُثْمَانُ بن أبي شيبة، حدثنا جَرِيرٌ، عن الأعْمَشِ، عن عمرو بن مُرَّةَ، عن أبي عُبَيْدَةَ، عن أبي مُوسى - رضي الله عنه - قال: قام فِيَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات فقال: «إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، ولا ينبغِي له أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ القِسْطَ ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من الأصل وأثبتناه من مصادر التخريج. (¬2) ضعيف الإسناد؛ أخرجه ابن وهب في القدر (36)، والفريابي في القدر (102) موقوفًا، والطبري في التفسير (23/ 416) موقوفًا، وابن بطة في الإبانة (1417) موقوفًا، جميعًا من حديث ابن لهيعة، به. وهذا إسناد ضعيف لأجل ابن لهيعة، فهو في نفسه ضعيف وإن روى عنه مثل ابن وهب، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 147): «سُئِل أبو زرعة عن ابن لهيعة، سماع القدماء منه؟ فقال آخره وأوله سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان بن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه»، وقد قال الذهبي: العمل على تضعيف حديثه، وقد ذكر هذا الحديث الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص 451)، وقال العلامة المعلمي اليماني: «وفي سنده ابن لهيعة، والمستنكر منه قوله «فيعرج به إلى الجبار» فقط، ومعناه بدونها ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود بدون تعرض للآية».

وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِليهِ عَمَلُ الليلِ قَبْلَ النَّهارِ، وعملُ النهار قبلَ الليل حِجَابُهُ النُّورُ، لو كَشَفَهَا (¬1)؛ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كلَّ شيءٍ أَدْرَكَه بَصَرُهُ» (¬2). قال أبو سعيد رحمه الله: فإِلى مَنْ تُرْفَعُ الأعمالُ والله بِزعمِكُم الكاذِب مع العامل بنفسه، في بيته ومسجده ومنقلبه ومثواه؟! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. والأحاديثُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أصحابه، والتابعين فمَنْ بعدَهُم في هذا؛ أكثر من أن يُحْصِيَها كِتَابُنَا هذا، غير أنَّا قد اختصرنا من ذلك ما يَسْتَدِلُّ به أُولوا الألبابِ، أَنَّ الأمةَ كُلَّهَا، والأُمَمَ السَّالِفة قبلها؛ لم يكونوا يشكوا (¬3) في معرفة الله تعالى، أنه فوق السماء بَاِئنٌ من خلقه غيرَ هذه العصابةِ الزَّائغَةِ عنِ الحقِّ المخالفة للكتاب، وآثاراتِ العلمِ كُلِّهَا، حتى لقد عَرَفَ ذلك كثيرٌ من كفارِ الأُممِ وفَرَاعِنَتُهُم، قال فرعون: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ...} [غافر: 36 - 37] واتَّخَذَ فِرعونُ إِبراهِيمَ النُّسُورَ والتَّابوتَ، يَرُومُونَ الاطلاع إلى الله تعالى في السماء، وذلك لِمَا أَنَّ الأنبياءَ - عليهم السلام - كانوا يَدعُونهُم إلى الله بذلك، وقالت بنو ¬

(¬1) كذا في الأصل، وقد غيرها محقق المطبوعة إلى «كشفه» وما في الأصل موافق لما في ابن ماجه وأبي يعلى والطيالسي، فلا أدري ما وجه التغيير. (¬2) صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح وأخرجه مسلم (179)، وابن ماجه (195، 196)، وأحمد (19587، 19632)، وابن حبان (266)، وأبو يعلى (7262)، والطيالسي (493)، وغيرهم من طرق عن عمرو بن مرة، به. وفي بعض طرقه «حجابه النار». (¬3) قياس الكلام يشكون، وما في المتن صحيح يتوجه على حذف النون تخفيفًا، وهو كثير له نظائر في صحيح البخاري وغيره. ينظر شواهد التوضيح لابن مالك (ص 173) وفتح الباري وحاشية السندي على ابن ماجه.

إسرائيل يا رب! أنت في السماء، ونحن في الأرض، وأشباه هذا كثير، يطول إن ذكرناها. وظَاهِرُ القرآنِ وباطِنُهُ كُلُّه يَدُلُّ على ذلك، لا لبس فيه ولا تأول، إلا لِمُتَأَوِّلٍ جَاحِدٍ، يُكَابِرُ الحُجَّةَ وهو يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ. قال الله تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ... (1)} [الكهف: 1]، وقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ... (4)} [آل عمران: 3 - 4]، وقوله: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} [فصلت: 1 - 2]، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]، {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1]. وما أشبه هذا في كتاب الله كثير، كل ذلك دليلٌ على أن الله - عز وجل - أنزله من السماء من عنده، ولو كان على ما يَدَّعِي هؤلاء الزائغة؛ أنه تحت الأرض وفوقها كما هو على العرش فوق السماء السابعة، لقال جل ذكره في بعض الآيات: إنا أطلعناه إليك، ورفعناه إليك، وما أشبهه. وقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] و {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193] و {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] ولم يقل، ما نخرج من تحت الأرض، ولا يصعد منها. قال أبو سعيد رحمه الله: فظاهرُ القرآنِ وباطِنُهُ يدل على ما وصفنا من ذلك، نستغني فيه بالتنزيل عن التفسير، ويعرفه العامة والخاصة، فليس منه

لمتأول تأول، إلا لمُكَذِّبٍ به في نفسه، مستتر بالتأويل. وَيْلَكُم! إِجمَاعٌ من الصحابة والتابعين، وجميع الأمة من تفسير القرآن والفرائض والحدود والأحكام، نزلت آيةُ كذا في كذا، ونزلت آيةُ كذا في كذا، ونزلت سورةُ كذا في مكان كذا، لا نسمع أحدًا يقول طَلَعَتْ من تحت الأرض، ولا جاءت من أمام ولا من خلف، ولكن كله نزلت من فوق. وما يصنع بالتنزيل من هو بنفسه في كل مكان، إنما يكون شبه مناولة لا تنزيلا من فوق السماء مع جبريل، إذ يقول سبحانه وتعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، والرب بزعمكم الكاذب في البيت معه، وجبريل يأتيه من خارج، هذا واضح ولكنكم تغالطون فمن لم يقصد بإيمانه وعبادته إلى الله الذي استوى على العرش فوق سماواته وبان من خلقه؛ فإنما يعبد غير الله ولا يدري أين الله. (48) حدثنا مَهْدِيُّ بنُ جَعْفَر الرَّمْلِي، حدثنا جَعْفَرُ بنُ عبدِ اللهِ، وكان من أهلِ الحديثِ ثِقَةٌ، عن رَجُلٍ قد سَمَّاهُ لي، قال: جاء رجلٌ إِلى مَالِكِ بنِ أَنَسٍ فقال: يا أبا عبد الله! الرَّحمنُ على العَرْشِ اسْتَوى، كيف استوى؟ قال: فما رأينا مَالِكًا وَجَدَ من شيء، كَوْجْدِهِ من مقالته، وعلاه الرَّحْضَاءُ وأَطْرَقَ، وجعلنا ننتظر ما يأمر به فيه، قال: ثم سُرِّيَ عن مالك، فقال: «الكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، والاستواءُ منه غَيْرُ مَجْهُولٍ، والإيمانُ بِهِ وَاجِبٌ، والسؤالُ عنه بدعة، وإني لأخاف أن تَكونَ ضَالًّا» ثم أَمَر به فَأُخْرِج (¬1). ¬

(¬1) صحيح، وله طرق أخرى عن مالك، أخرجها البيهقي في الأسماء والصفات (873، 874)، وابن المقرئ في معجمه (1003)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان ... = = (384)، وغيرهم وقد صحح هذا الأثر الذهبي في العلو (377)، وفي تذكرة الحفاظ (1/ 155)، وجود إسناده البيهقي في الأسماء والصفات، والحافظ في الفتح (13/ 417).

قال أبو سعيد رحمه الله: وصَدَقَ مالكٌ؛ لا يُعْقَلُ منه كيف ولا يُجْهَلُ منه الاستواء، والقرآن ينطق ببعض ذلك في غير آية، فهذه الأشياء التي اقتصصنا في هذا الباب، قد خَلُصَ عِلْمُ كثيرٍ منها إلى النساء والصبيان، ونطق بكثير منها كتابُ اللهِ تعالى، وصَدَّقَتهُ الآثارُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه والتابعين، وليس هذا من العلم الذي يشكل على أحد من العامة والخاصة، إلا على هذه العصابة الملحدة في آيات الله. لم يزل العُلماءُ يَرْوُون هَذِهِ الآثارَ، ويَتَنَاسَخُونَها، ويصدقون بها على ما جاءت، حتى ظهرت هذه العصابة؛ فكذبوا بها أجمع، وجَهَّلُوهُم وخالفوا أَمْرَهُم، خالف الله بهم! ثم ما قد رُوِيَ في قبضِ الأرواحِ وصُعُودِ الملائكةِ بها إلى الله تعالى من السماء، وما ذكرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من قصته حين أُسْرِيَ به، فَعُرِجَ به إلى سماءٍ بعد سماء، حتى انْتُهِيَ به إلى السِّدرةِ المنتهى التي ينتهي إليها عِلمُ الخلائِق فوقَ سبعِ سماوات، ولو كان في كل مكان كما يزعم هؤلاء، ما كان للإسراء والبُرَاق والمِعْراجِ إذًا من معنى، وإلى من يُعْرَجُ به إلى السماء وهو بزعمكم الكاذب معه في بيته في الأرض ليس بينه وبينه ستر؟! تبارك اسمه وتعالى عما تصفون. (49) حدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال: حدثني الليثُ يعني ابن سعد، قال: حدثني يُونُس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - يحدث، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وأنا بمكة، فَنَزلَ جِبْرِيلُ فَعَرَجَ بِي إلى السماء الدنيا، فلمَّا

جِئْنَا السماءَ الدُّنيا قال جِبْريلُ لخازن سماء الدنيا: افتح، قال من هذا؟ قال هذا جِبْريل، قال هل معك أحد؟ قال نعم، معي محمدٌ، قال أُرْسِلَ إليه؟ قال نعم، قال فافتتح، فلمَّا عَلَوْنَا السماءَ الدنيا ... وساق الحديث إلى قوله: قال أنس: فذكر أنه وَجَدَ في السماوات آدمَ وإدريسَ وموسى وعيسى وإبراهيم». قال ابنُ شِهابٍ: وأخبرني ابنُ حَزْمٍ أن ابن عباس، وأبا حَبَّةَ الأنصاري ?يقولان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثم عُرِجَ بِي حتَّى ظَهَرْتُ لمستوى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأقلامِ، قال: ثم انطلق بي حتى [انْتُهِيَ بِي إلى] (¬1) سِدْرَةِ المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي (¬2). (50) حدثنا أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن يونس، بإسناده نحو معناه (¬3). (51) حدثنا عبد الله بن أبي شيبة أبو بكر، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زَاذَانَ، عن البَرَاءِ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ العَبْدَ المؤمنَ إذا كَانَ في انقِطَاعٍ من الدُّنيا وإِقبالٍ من الآخرةِ؛ أَنْزَلَ اللهُ إِليه مِنَ السَّماءِ مَلائِكَة وساق الحديث قال: فَيَخرُجُ رُوحُهُ فَيَصْعَدُونَ به حتى ينتهوا به إلى السماءِ، فيستفتح فيفتح له، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كِتابَ عبدي في عِلِّيين في السَّماءِ السَّابِعَةِ وأعيدوه إلى الأرض فإنِّي منها خَلَقْتُهُم، وفيها أُعِيدُهُم، ومنها أُخْرِجُهُم تارةً أُخرى، وأمَّا ¬

(¬1) في الأصل بياض بمقدار كلمة وما أثبتناه من مصادر التخريج. (¬2) أخرجه البخاري (349، 3342)، ومسلم (163)، وابن حبان (7406)، وغيرهم من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري، به. (¬3) أخرجه مسلم (163)، عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، به.

الكافر، قال ينتهى به إلى السماء الدنيا فيستفتحون فلا يفتح له ثم قرأ {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} الآية [الأعراف: 40] قال: اكتبُوا كتاب عَبْدِي في سِجِّين في الأرض السُّفلى، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فَيُطْرَحُ طرحًا، وساق الحديث بطوله كما ساق» (¬1). قال أبو سعيد: ففي قوله تبارك وتعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40]، دلالةٌ ظاهرةٌ أن الله - عز وجل - فوق السماء؛ لأن أبواب السماء إنما تُفَتَّحُ لأرواحِ المؤمنين، ولرفع أعمالهم إلى الله - عز وجل - منها، ولما سوى ذلك مما يشاء الله تعالى، فإذا كان من الميت والعامل بنفسه في الأرض، فإلى من يُعْرَجُ بأرواحهم وأعمالهم؟ ولِم تُفَتَّحُ أبوابُ السماءِ لقوم، وتغلق عن آخرين إذا كان الله بزعمهم في الأرض؟ وما منزلة قول الله - عز وجل - عندهم إذ {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}. فَمَنْ آمن بهذا القرآن الذي احتججنا منه بهذه الآيات، وصَدَّقَ هذا الرسولَ الذي رَوَيْنَا عنه هذه الروايات؛ لَزِمَهُ الإقرار بأن الله بكماله فوق عَرشِهِ فوق سماواته، وإلا فليحتمل قرآنا غير هذا، فإنه غير مؤمن بهذا. ومما يُحَقِّقُ قَولَنَا، ويُبْطِلُ دَعْوَاهُم؛ احتجابُ الله - عز وجل - من الخلق فوق السموات العلى. * * * ¬

(¬1) صحيح؛ أخرجه أبو داود (4755)، وابن أبي شيبة في المصنف (12185)، وأحمد (18534)، والطيالسي (789)، والحاكم في المستدرك (1/ 37) وصححه، وغيرهم من حديث الأعمش، به.

باب الاحتجاب

بَابُ الاحْتِجَابِ قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]. (52) حدثنا عليُّ بن المَدِيِنيِّ، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كَثِيرِ بنِ بَشِيرِ بنِ الفَاكِهِ الأنصاريُّ ثم السُّلَمِيُّ، قال: سمعتُ طَلْحَةَ بنَ خِرَاشِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ خِرَاشِ بنِ الصِّمَّة الأنصاري ثم السُّلَمِي يقول: سمعتُ جابرَ بنَ عبد الله ? يقول: نظر إِلَيَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا جابر! ما لي أراك مُهْتَمًّا قال قلت: اسْتُشْهِدَ أبي، وتَرَكَ دَيْنًا عليه وعِيَالاً، فقال: ألا أخبرك، ما كَلَّمَ اللهُ أحدًا قَطُّ إِلا من وَرَاءِ حجاب، وكلَّم أباك كِفَاحًا، فقال يا عبدي! تَمَنَّ عليَّ أُعْطِك،» (¬1). وسَاقَ عَلِيٌّ الحَدِيثَ. (53) حدثنا عَمرُو بنُ عون الوَاسِطِيُّ، أخبرنا هُشَيْمٌ، عن داودَ، عن الشَّعْبِيِّ قال: حدثنا مَسْرُوقٌ قال: «بَيْنَا أنا عند عائِشَةَ أمِّ المؤمنين فقالت: يا أبا عائشة! من زَعَمَ أن محمدًا رأى ربَّه فقد أَعْظَمَ على الله الفِرْيَةَ، وتلت: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]» (¬2). ¬

(¬1) حسن، أخرجه الترمذي (3010) وقال حسن غريب، وابن ماجه (190)، والحاكم (3/ 204) وصححه، وابن أبي عاصم في الجهاد (196)، وفي السنة (602)، وغيرهم، من طريق موسى بن إبراهيم بن كثير، به. وموسى صدوق كما ذكر الحافظ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال «كان ممن يخطئ»، فحديثه حسن إن شاء الله تعالى، لاسيما وقد رواه عنه غير واحد من كبار أهل الحديث كما ذكر الترمذي رحمه الله، وسيأتي الحديث بتمامه رقم (139). (¬2) صحيح، رجاله ثقات، غير أن هشيم بن بشير على جلالته كان مدلسًا، لكن تابعه عليه الثقة الحافظ إسماعيل بن علية؛ أخرجه مسلم (177)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 548)،= = ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (932)، وتابعه أيضا الثقة الحافظ عبد ربه بن سعيد، كما عند ابن حبان (60)، والثقة المتقن يزيد بن هارون، كما عند ابن منده في الإيمان (763)، وإسحاق بن يوسف بن مرداس، كما عند الترمذي (3068).

(54) حدثنا عثمان بن أبي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، عن الأَعْمَشِ، عن عَمرو بن مُرَّةَ، عن أبي عُبَيْدَةَ، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قِامِ فِينَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَرْبَع كَلِمَات، فقال: «إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، ولا ينبغِي له أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِليهِ عَمَلُ الليلِ قَبْلَ النَّهارِ، وعملُ النهار قبلَ الليل حِجَابُهُ النُّورُ، لو كَشَفَهَا؛ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كلَّ شيءٍ أَدْرَكَه بَصَرُهُ» (¬1). (55) حدثنا محبُوبُ بنُ موسى الأَنْطَاكِيُّ، أخبرنا أبو إسحاق الفَزَارِي، عن سُفْيَان، عن عُبَيْدٍ المُكْتِب، عن مجاهد، عن ابن عمر? قال: «احْتَجَبَ الله مِنْ خَلْقِهِ بأربع، بنارٍ وظُلْمَة، ونورٍ وظُلمة» (¬2). (56) حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سَلَمَةَ، حدثنا حماد وهو ابن سلمة، قال: أخبرنا أبو عمران الجَوْنِي، عن زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: «سأل جبريل، هل رأيت ربك؟ فانتفض جبريل، وقال: يا محمد! إن بيني وبينه سَبعِين حِجَابًا مِنْ نُورٍ، لو دَنَوتُ من أَدنَاهَا حِجَابًا (¬3) لاحْتَرَقْتُ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح، تقدم برقم (47). (¬2) صحيح لغيره، محبوب بن موسى قال الدارقطني: «صويلح ليس بالقوي» كما نقل ذلك الحافظ في التهذيب، لكن للأثر طرق أخرى في غاية القوة، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 320)،والبيهقي في الأسماء والصفات (699)، من طريق يزيد بن هارون، وابن أبي زمنين في السنة (42)، من طريق وكيع بن الجراح، وأبو الشيخ في العظمة (268)، وابن بطة في الإبانة (3/ 301)، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، ثلاثتهم، عن سفيان الثوري، به. (¬3) حذفها في المطبوعة من المتن وذكرها في الحاشية!! (¬4) مرسل، أخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/ 677)، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة ... = = في العرش (77)، وابن أبي زمنين في السنة (40)، وله شاهد موصول من حديث أنس عند الطبراني في الأوسط (6407)، إلا أنه ضعيف.

قال أبو سعيد: من يُقَدِّر قَدْرَ هذه الحُجُب التي احْتَجَبَ الجَبَّارُ بها، ومن يَعْلمُ كَيْفَ هي غَيرُ الذي أَحَاطَ بِكلِّ شيءٍ عِلمًا، وأَحْصَى كُلَّ شيءٍ عددًا. ففي هذا أيضًا دَلِيلٌ أنَّهُ بائِنٌ من خَلْقِهِ، مُحْتَجِبٌ عنهم، لا يَسْتَطِيعُ جِبْرِيلُ -مع قُرْبِهِ إِلَيْهِ- الدُّنوَّ مِنْ تِلْكَ الحُجُبِ، وليس كما يقول هؤلاء الزائغة: إنه معهم في كل مكان، ولو كان كذلك ما كان للحُجُبِ هُناكَ معنى؛ لأَنَّ الذي هو في كل مكان، لا يَحْتَجِبُ بِشَيءٍ مِنْ شَيءٍ، فَكَيْفَ يَحْتَجِبُ مَنْ هو خَارِجُ الحِجَابِ كما هو مِنْ وَرَائِهِ! فليس لقول الله - عز وجل - {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] عند القوم مِصْدَاق، والآثارُ التي جَاءَتْ عن رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في نزولِ الربِّ -تبارك وتعالى- تَدُلُّ على أن الله - عز وجل - فوق السماواتِ على عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. * * *

باب النزول

بَابُ النُّزُولِ قال أبو سعيد رحمه الله: فَمِمَّا يُعتَبَرُ به من كتاب الله - عز وجل - في النزول، ويُحْتَجُّ به على مَن أَنكَرَهُ؛ قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210] وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]. وهذا يومُ القيامةِ، إذا نزل الله لِيَحكُمَ بين العباد، وهو قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 25 - 26]. فالذي يَقْدِرُ على النزول يوم القيامة من السماوات كلِّهَا لِيَفْصِلَ بين عباده؛ قَادِرٌ أن ينزلَ كلَّ ليلةٍ من سماء إلى سماء، فإن رَدُّوا قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في النزول، فماذا يصنعون بقول الله - عز وجل - تبارك وتعالى؟ (57) حدثنا عمرو بن عَوْنٍ الوَاسِطِيُّ، أخبرنا أبو عَوَانَةَ، عن أبي إسحاق، عن الأَغَرِّ أبي مُسْلِمٍ، قال: أَشْهَدُ على أبي سعيد، وأبي هريرة ?، أنهما شَهِدَا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «إِنَّ اللهَ يُمْهِلُ حتَّى إذا ذهبَ ثُلُثُ الليلِ، هَبَطَ فقال: مَنْ تَائِبٌ، فَيُتَابُ عليه؟ من دَاعٍ فُيُسْتَجَابُ له؟ مَنْ مُسْتَغفِرٌ مِنْ ذَنبٍ؟ مَنْ سَائِلٌ فَيُعْطَى؟» (¬1). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه مسلم (758)، وأحمد (8962، 11315)، وعبد بن حميد (861)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (486)، وابن خزيمة (1146)، وغيرهم من طرق عن أبي إسحاق السبيعي، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، غير أن السبيعي مدلس، لكن قد كُفِينَا تدليسه بأمرين؛ أحدهما أنه صرح بالسماع كما في رواية النسائي، والأخرى؛ أن في بعض هذه الطرق كما عند أحمد ومسلم، الراوي عن أبي إسحاق شعبةُ بنُ الحجاج، ... = = وحين يروي شعبة عن مثل أبي إسحاق فإنك تأمن تدليسه، قال الحافظ في النكت (2/ 630): «فالمعروف عنه أنه كان لا يحمل عن شيوخه المعروفين بالتدليس إلا ما سمعوه ....» ثم قال «روينا في المعرفة للبيهقي عن شعبة أنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبو إسحاق، وقتادة».

(58) حدثنا يحيى بن بُكَيرٍ المصري، حدثنا مَالِكٌ وهو ابن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَتنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَاركَ وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السماء الدُّنيا، حين يبقى ثُلُثُ الليلِ الآخر؛ فيقول: من يدعوني أستجيبُ له، من يسألُنِي فَأُعْطِيَهُ، ومن يستغفرني فأغفر له» (¬1). قال أبو سعيد: وزادني فيه أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، بإسناده (¬2). قال: وقال هِشَامٌ الدَّسْتُوائِي، عن يحيى وهو [ابن أبي كثير] (¬3)، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يَسَارٍ، أن رِفَاعةَ الجُهَنِيَّ حَدَّثَهُ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مضى ثلث الليل أو شطر الليل أو ثلثا الليل يتنزل الله إلى سماء فيقول لا أسأل عن عبادي أحدا غيري من يستغفرني أغفر له من يدعوني أستجيب له ومن [يسألني] أعطيه حتى ينفجر الصبح» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (757)، وأبو داود (1317)، وأحمد (10313)، والبيهقي في الكبرى (3/ 2)، وفي الأسماء والصفات (953)، جميعا من طرق عن مالك، به، والحديث في الموطأ (498). (¬2) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 298)، والدارقطني في النزول (20)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (743)، كلهم من طريق عبد الله بن وهب، به. (¬3) في الأصل ابن بكير وهو خطأ والصواب ما أثبتناه كما في المصادر. (¬4) صحيح، أخرجه أحمد (16215، 16217، 16218)، وابن حبان (212)، والطبراني= = في الكبير (4558)، وغيرهم من طرق عن يحيى بن أبي كثير به. وقد أمنا تدليس يحيى بتصريحه بالسماع كما في إحدى روايات أحمد ورواية ابن حبان والطبرانِي.

(59) حدثنا سعيدُ بنُ الحَكَمِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ المصري، أخبرنا الليث يعنِي ابن سعد، قال: حدثني زِيَادةُ بن محمد، عن محمد بن كعب القُرَظِي، عن فَضَالةَ بن عُبَيْد، عن أبي الدَّرْدَاءِ ?، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تبارك وتعالى في ثلاث ساعات من الليل، يَفْتَحُ الذِّكْرَ، في الساعة الأولى [مِنْهُنَّ ينظر في الكتاب الذي] (¬1) لم يَرَهُ غيرُهُ، فيمحو ما يشاء ويُثْبِتُ ما يشاء، ثم يَنْزِلُ في الساعة الثانية إلى جَنَّةِ عَدْنٍ، وهي دارُهُ التي لم تَرَها عينٌ، ولم تَخْطُر على قلب بَشَرٍ، وهي مَسْكَنُهُ، ولا يسكنُها معه من بني آدم غيرُ ثلاث: النبيين والصديقين والشهداء، ثم يقول طُوبَى لمن دخلك، ثم يَنْزِل في الساعة الثالثة إلى السماء الدنيا بروحه وملائكته فَتَنْتَفِضُ، فيقولُ قومي بعزتِي، ثم يَطْلُعُ إلى عباده فيقول: هل من مُسْتَغفِرٍ أَغفِرُ له، وهل من داعٍ أُجِيبُ، حتى تكون صلاةُ الفجرِ، ولذلك يقول {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78] يَشْهَدُهُ اللهُ، وملائكةُ الليلِ والنهارِ» (¬2). (60) حدثنا حَفْصُ بن عُمرَ النَّمَرِيُّ أبو عمر الحَوْضِي، حدثنا هشام وهو الدَّسْتُوَائِي، عن يحيى وهو ابن أبي كثير، عن أبي جعفر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا بَقِيَ أو قال مَضَى ثُلُثُ الليلِ؛ يَنْزِلُ اللهُ إلى سماء الدُّنيا، فيقول: مَنْ ¬

(¬1) ما بين المعقوفين ليس بالأصل، وأثبتناه من تفسير الطبري ليتم السياق. (¬2) منكر، أخرجه البزار (4079)، والطبري في التفسير (16943، 20502) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 322)، وغيرهم جميعًا من طريق زيادة بن محمد، به. وزياد قال فيه البخاري في التاريخ الكبير: «منكر الحديث»، وكذا قال ابن حبان كما في المجروحين (1/ 308).

يَدعُونِي فأستجيبُ له، من يَسْتَرْزِقُنِي فَأَرْزُقْهُ، من يسألني فَأُعطِيَهُ، من يستكشفُ الضُّرَّ أكشفه عنه، حتَّى ينفجر الصبح» (¬1). (61) حدثنا عمرو بن عَوْنٍ الوَاسِطِيُّ، أخبرنا خالد يعنِي ابن عبد الله، عن الهَجَرِي، عن [أبي] الأحْوَص، عن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يفتحُ أبوابَ السماءِ في ثُلُثِ الليلِ، فَيَهبِطُ إلى السَّماءِ الدنيا، فَيَبْسُطُ يديه، فيقول: ألا عبدٌ يسألُنِي فأعطيه، إلى طلوع الفجر» (¬2). (62) حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يُوسُفَ الحرَّانِيُّ أبو الأَصْبَغ، قال: حدثني محمد يعني ابن سَلَمَةَ الحرَّاني، عن محمد بن إِسحاق، عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عن عطاء مَوْلى أُمِّ صُبَيَّةَ، عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا أنْ أَشُقُّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتهُمْ بِالسَّوَاكِ عند كُلِّ صَلاة، ولأَخَّرْتُ العِشَاءَ الآخرة حتى يَذْهَبَ ثُلُثُ الليلِ، فإنه إذا ذَهَبَ ثُلُثُ الليلِ الأول؛ هَبَطَ اللهُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، فلا يزال بها حتى يَطْلَعَ الفَجْرُ، يَقُولُ قَائِلٌ ألا من سَائلٍ فَيُعْطَى، ألا مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ ألا مِنْ مَرِيضٍ فَيُسْتَشْفَى ألا من مُذْنِبٍ ¬

(¬1) صحيح لغيره، أخرجه أحمد (7509)، والنسائي في الكبرى (10237)، والطيالسي ... (2638)، والدارقطني في النزول (37) من طرق عن هشام به، وفيه أبو جعفر المؤذن الراوي عن أبي هريرة قال الحافظ مقبول، فمثله لين إذا لم يتابع، ولكن للحديث طرق أخرى عن أبي هريرة أنظر حديث رقم (58). (¬2) إسناده ضعيف، ومتنه صحيح، أخرجه أحمد (4268)، من طريق إبراهيم الهجري، به، وهذا إسناد ضعيف لأجل الهجري، قال الحافظ: لين الحديث، وقد تابعه أبو إسحاق السبيعي، أخرجه أحمد (3673)، وأبو يعلى (5319)، من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص به، وأبو إسحاق مدلس ولم يصرح بالسماع، لكن الحديث صحيح بشواهده السالفة.

يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ له» (¬1). (63) حدثنا عمرو بنُ محمد النَّاقِدُ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بإسناده نحوه (¬2). (64) قال عمرو: وحدثنا يَعْقُوبُ بنُ إِبْراهِيمَ، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إِسْحَاقَ قال: وحدثني عمي عبد الرحمن بنِ يَسَارٍ، عن عُبَيْدِ الله بنِ أبي رَافِع، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بمثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). ¬

(¬1) إسناده ضعيف، ومتنه صحيح، أخرجه أحمد (967، 10618)، والدارمي (1484)، وغيرهما، من طريق محمد بن إسحاق، به، وابن إسحاق، مدلس واختلف في الاحتجاج به كما قال الذهبي، وعطاء مولى أم صبية؛ مجهول. قلت: وقد خالف ابنَ إسحاق، عُبَيدُ الله بن عمر العمري، فرواه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، مباشرة دون ذكر عطاء المدني مولى أم صبية، وإسناده صحيح، أخرجه أحمد (9591)، وابن حبان (1531)، وعبد الرزاق في المصنف (2106)، والبزار (8450)، وابن المبارك في مسنده (63)، والدارقطني في النزول (28، 32)، وفي العلل (10/ 351)، من طريق العمري، به، وهو الصواب، والله أعلم. (¬2) أخرجه أحمد (967)، والدارمي (1484)، عن يعقوب، به. (¬3) أخرجه أحمد (968)، والدارمي (1483)، والبزار (478)، والطبراني في الأوسط (1238)، جميعًا، من طريق ابن إسحاق، به. وهذا إسناد رجاله ثقات غير ابن إسحاق، فقد ذكرنا قبل قليل أنه مختلف في الاحتجاج به، وقد أشار الطبراني في الأوسط عقب روايته لهذا الحديث، إلى تفرد ابن إسحاق به، وأيضا نوَّه البزار على ذلك وقال: لا نعلمه يُروى عن عليٍّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وقد صححه العلامة أحمد شاكر في شرحه للمسند، وفي القلب من تصحيح هذا الإسناد شيء، والله أعلم، وقد صح متنه من طرق أخرى لا مجال للشك فيها، والحمد لله رب العالمين.

(65) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عَوَانَةَ، عن طارق، عن سعيد بن جُبَيْرٍ، عن ابن عباس ?، قال: «إن الله يُمْهِلُ حتى إذا مضى ثُلُثُ الليلِ؛ هَبَطَ إلى سماء الدنيا، ثم قال: هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائِلٍ يُعْطَى؟» (¬1). (66) حدثنا الزَّهْرَانِيُّ أبو الرَّبِيعِ، حدثنا حَمَّادٌ يعني ابن زيد، عن عمرو بن دِينارٍ، عن عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ قال: «إذا مضى ثلث الليل، أو بَقِيَ نِصْفٌ؛ يَنْزِلُ الله - عز وجل - إلى السماء الدنيا، فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟» (¬2). * * * ¬

(¬1) حسن، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (513)، من طريق طارق هو ابن عبد الرحمن ... البجلي، به، وزاد «ليمهل في شهر رمضان» وإسناده ثقات غير طارق، قال ابن عدي: «أرجو أنه لا بأس به»، والحديث تقدم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعًا رقم (57). (¬2) إسناده صحيح إلى عبيد بن عمير، وعزاه الذهبي في العلو (320)، إلى عبد الله بن أحمد في الرد على الجهمية، من طريق آخر -وفيه مقال- عن عبيد بن عمير.

باب النزول ليلة النصف من شعبان

بَابُ النُّزولِ لَيْلةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (67) حدثنا الأَصْبَغُ بن الفَرَجِ الِمصْرِيُّ، قال أخبرني ابنُ وَهْبٍ، عن عمرو بن الحَارِثِ، عن عبدِ المَلِكِ، عن مُصْعَبِ بنِ أبي ذِئْبٍ (¬1)، عن القَاسِمِ بنِ محمد بن أبي بكر، عن أبيه، أو عن عَمِّهِ، عن جَدِّهِ أبي بَكْرٍ - رضي الله عنه -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَنْزِلُ ربُّنَا تباركَ وتعالى ليلةَ النِّصفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ فيغفر لِكُلِّ نَفْسٍ، إلا مُشْرِكٍ بالله، ومُشَاحِن» (¬2). * * * ¬

(¬1) في الأصل «مصعب بن أبي الحارث»، والمثبت من مصادر التخريج، ولم نقف على ابن أبي الحارث. (¬2) منكر بهذا الإسناد، أخرجه البزار (1/ 206)، وابن أبي عاصم في السنة (509)، وابن عدي في الكامل (5/ 309)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 29)، جميعًا من طريق عمرو بن الحارث، عن عبد الملك هو ابن عبد الملك، به. قال البخاري: «عبد الملك بن عبد الملك عن مصعب بن أبي ذئب عنه عمرو بن الحارث فيه نظر»، وقال ابن عدي: «حديث منكر بهذا الإسناد»، وقال العقيلي: «وفى النزول في ليلة النصف من شعبان أحاديث فيها لين، والرواية في النزول في كل ليلة أحاديث ثابتة صحاح فليلة النصف من شعبان داخلة فيها إن شاء الله». قلت: وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، من طرق لا تخلو من ضعف، وقد صححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1144)، بمجموع هذه الطرق، والله أعلم.

باب النزول يوم عرفة

بَابُ النُّزُولِ يَوْمَ عَرَفَة (68) حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سَلَمَةَ، وعَليُّ بنُ عُثمانَ اللاَّحِقِيُّ قالا: حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عن مُغِيرةَ، عن عَاصِمِ بنِ أبي النَّجُودِ قال: قَالتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها -: «نِعْمَ اليومُ يَوْم عَرَفَة؛ يَنْزِلُ فيه رَبُّ العِزَّةِ إلى السماء الدنيا يوم عَرَفَةَ» (¬1). * * * ¬

(¬1) إسناد حسن، أخرجه الذهبي في التاريخ (44/ 353)، وفي المنتقى من الرد على الجهمية (11)، من طريق الدارمي به، وهذا إسناد حسن لأجل عاصم بن أبي النجود فهو صدوق، ولا يثبت سماع عاصم من أم سلمة، وقد روي الأثر عن أم سلمة من طريق آخر، أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (768)، والدارقطني في النزول (78)، من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أم سلمة، به، وإسناده حسن.

باب نزول الرب تبارك وتعالى يوم القيامة للحساب

بَابُ نُزُولِ الرَّبِّ تَبَاركَ وتَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ لِلْحِسَابِ (69) حدَّثَنا نُعَيْمُ بْنُ حمَّادٍ، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يَزِيد الَّليْثِي، عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فيقول: من كان يَعْبُدُ شيئًا فَلْيَتْبَعْهُ، وساق الحديث، إلى قوله: وتَبْقَى هذه الأُمَّةُ، فيقولون: هذا مَكَانُنَا حتى يأتينا رَبُّنَا، فإذا جاء رَبُّنَا عرفناه، فيأتيهم الله - عز وجل - فيقول: أنا رَبُّكُم، فيقولون: أنت رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ، وساق نُعَيْمٌ الحديثَ إلى آخره» (¬1). (70) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حمَّادٌ وهو ابن سلمة، عن ثَابِتٍ وحُمَيْدٍ وعلي بن زيدٍ، عن الحسن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَأْتِينَا رَبُّنا يومَ القِيَامةِ ونحن على مِكانٍ رَفِيعٍ، فَيَتَجلَّى لنا ضَاحِكًا» (¬2). (71) حدثنا نُعَيْمُ بنُ حماد، حدثنا ابن المُبَارَك، أخبرنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عن أبي نَضْرَةَ، عن ابن عباس ?، قال: «يُنَادِي مُنَادٍ [بين يَدي الساعة، أتتكم السَّاعةُ، حتى يَسمعَهَا كُلُّ حيٍّ ومَيِّتٍ، قال فينادي المنادي] (¬3) لمن المُلْكُ اليوم؟ لله الوَاحِدِ القَهَّار» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (806، 6537)، ومسلم (182)، وأحمد (7717)، وابن حبان (7429)، وأبو يعلى (6360)، وغيرهم من طريق الزهري، عن عطاء الليثي، به. (¬2) صحيح، وإسناده مرسل، لكن له شاهد صحيح من حديث روح بن عبادة قال أخبرني ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله، يسأل عن الورود، فذكره نحوه، أخرجه مسلم (191)، وأحمد (15115)، وثمة شاهد آخر -فيه ضعف لكن يتقوى بما ذكرناه- من حديث أبي موسى الأشعري أخرجه أحمد (19654)، وعبد بن حميد (540 - منتخب)، والدارقطني في رؤية الله (49). (¬3) ما بين معقوفين سقط من الأصل، وأثبتناه من مصادر التخريج. (¬4) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (220)، والحاكم في المستدرك = ... = (2/ 438)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (27)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 324)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (663)، جميعا من طرق عن سليمان التيمي، به.

(72) حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ المِصْرِيُّ، قال: حدثني ابْنُ لَهِيْعَةَ، عن يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، عن سِنَان بن سَعْدٍ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أنه قال: ... «وتلا هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال: يُبَدِّلُها اللهُ يومَ القِيامةِ بِأَرضٍ من فِضَّة، لم يُعْمَل عليها الخَطَايَا، يَنْزِلُ عَلَيْهَا الجَبَّارُ تَبَارَكَ وتَعالى» (¬1). (73) حدثنا مُوسَى بنُ إِسماعِيلَ، حد ثنا حمَّادٌ وهو ابنُ سَلَمَةَ، عن علي بن زيد، عن يُوسُفَ بنِ مِهْرَان، عن ابن عباس ?، في هذه الآية {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} [الفرقان: 25] قال: «يَنْزِلُ أَهلُ سماءِ الدُّنيا، وهم أكثر من أهل الأرض ومن الجِن والإنس، فيقول أهلُ الأرضِ: أفيكم رَبُّنا؟ فيقولون لا وسيأتي، ثم تَشَقَّقُ السَّماءُ الثانية، وساق أبو سلمة الحديث إلى السماء السابعة، قال فيقولون: أفيكم ربُّنا؟ فيقولون لا وسيأتي، ثم يأتي الربُّ تبارك وتعالى في الكُرُوبِيِّين، وهم أكثر من أهل السماوات والأرض» (¬2). (74) حدثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حدثنا أبو عَوَانَةَ، حدثنا الأَجْلَحُ، حدثنا الضَّحَّاكُ بنُ مُزَاحِمٍ قال: «إن الله يأمرُ السماءَ يومَ القيامةِ فَتَنْشَقُّ بمن ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الطبري في التفسير (17/ 47)، من طريق أبي صالح، به، وهذا إسناد ضعيف، فيه ابن لهيعة، ضعيف، وقد حققنا القول فيه عند حديث رقم (46)، والراوي عنه أبو صالح المصري، قال الحافظ: صدوق كثير الغلط. (¬2) ضعيف، أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 569)، والطبري في التفسير (19/ 261)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (6/ 106)، جميعا من طريق علي بن زيد بن جدعان، وقد ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم.

فيها، فيحيطون بالأرض ومن فيها، ويأمر السماء الثانية، حتى ذكر سَبْعَ سماوات، فيكونون سبعة صفوف قد أحاطوا بالناس، قال: ثم يَنْزِلُ اللهُ في بهائِهِ وَجَمَالِه ومعه ما شاء من الملائكة، على مَجْنَبَتِهِ اليُسْرى جهنم، فإذا رآها النَّاسُ تَلَظَّى سمعوا زَفِيرَهَا وشَهِيقَهَا، نَدَّ النَّاسُ في الأرضِ فلا يأتون قُطْرًا من أقطارها، إلا وجدوا سبعةَ صُفُوفٍ من الملائكة، وذلك قوله - عز وجل - {يَوْمَ التَّنَادِ (32)} [غافر: 32]، يقول يَنِدُّ النَّاسُ، فيقول الله - عز وجل - {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)} [الرحمن: 33]، وذلك قوله - عز وجل - {... إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 21 - 23]، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} [الفرقان: 25]، {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 16 - 17]، قال: قُلْتُ له: مَا أَرْجَاؤُهَا؟ قال: حَافَّتُهَا» (¬1). * * * ¬

(¬1) أخرجه الطبري في التفسير (21/ 381 - 23/ 42،581 - 24/ 318)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (152) مختصرًا، كلاهما من طريق الأجلح، به، وأجلح ثقة، قد نقل المصنف توثيقه عن ابن معين، فالإسناد صحيح، والله أعلم.

باب نزول الله لأهل الجنة

بَابُ نُزُولِ اللهِ لأَهْلِ الجَنَّةِ (75) حدثنا هِشَامُ بْنُ خَالِد الدِّمَشْقِي، وكان ثقة، حدثنا محمد بن شُعَيْب وهو ابن شَابُور، أخبرنا عُمَرُ بنُ عبدِ اللهِ مولى غَفْرَةَ قال: سمعتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَتاني جِبريلُ وفي يَدِهِ كهيئة المِرْآةِ البَيْضاءِ، وفيها نُكْتَةٌ سوداء، قلت: ما هذه يا جبريل؟ قال هذه الجُمُعَةُ، بَعَثَ بها إليك رَبُّكَ تكونُ عِيدًا لك ولأُمَّتِك مِنْ بعدِك، قلت: وما لنا فيها؟ قال لكم فيها خيرٌ كَثِير، أنتم الآخِرون السَّابِقون يوم القيامة، وفيها ساعةٌ لا يُوافِقُهَا عبدٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلا أَعْطَاه، قلت: ما هذه النُكْتَةُ السوداء؟ قال هذه الساعة، تكون يوم الجمعة، وهو سَيَّدُ الأيامِ، ونحن نُسَمِّيهِ عندنا؛ يَوْمُ المَزِيدِ، قلت: وما المَزِيدُ يا جبريل؟ قال ذلك بأن رَبَّكَ اتخذ في الجنةِ واديًا أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فإذا كان يومُ الجُمُعَةِ من أيام الآخِرة؛ هَبَطَ الرَّبُّ تبارك وتعالى عن عَرْشِهِ إلى كُرْسِيِّه، وحَفَّ الكُرسِيَّ بمنابرَ من نورٍ، فَيَجْلِسُ عليها النَّبيوُن، وحفَّ المنَابِرَ بكراسيَ من ذَهَبٍ، فيجلسُ عليها الصِّديقُون والشُّهداءُ، ويَهْبِطُ أهلُ الغُرَفِ من غُرَفِهِم، فَيَجْلِسُونَ على كُثْبَانِ المِسْكِ لا يَرَوْنَ لأهل المنابر والكراسي عليهم فضلاً في المجلس، ثم يَتَبَدَّى لهم ذو الجلال والإكرامِ، فيقول: سَلُونِي، فيقولون بِأَجمَعِهِم: نسألُكَ الرِّضَا فَيُشْهِدُهُم على الرضا، ثم يسألونه حتى تنتهي نُهْيَةُ كلِّ عبدٍ مِنْهُم، ثم يُسْعَى عليهم بما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، ثم يرتفع الربُّ عن كرسيه إلى عرشه، ويرتفعُ أهلُ الغُرَفِ إلى غرفهم، وهي غُرْفَةٌ من لؤلؤة بيضاء، أو زَبَرْجَدَةٍ خضراء، أو ياقوتةٍ حمراء ليس فيها فَصَمٌ ولا وصَمٌ، مُطَّرِدَةٌ أَنهَارُهَا، مُتَدَلِّيَةٌ فِيهَا ثمارُها، فيها أزواجُهَا وخَدَمُهَا ومَسَاكِنُها، فليس

أهلُ الجنةِ إلى شيءٍ أَشْوَقَ مِنهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا قُربًا مِن اللهِ ورِضْوَانًا» (¬1). (76) حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جَرِيرٌ، عن لَيْثٍ، عن عثمان بن أبي حميد، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتاني جبريل في كَفِّه كالمرآةِ البيضاء، فيها كالنكتة السوداء فقلت: ما هذا الذي في يدك؟ قال الجمعة، قلت: وما الجمعة؟ قال لكم فيها خير، وهو عندنا سيد الأيام، ونحن نسميه يوم القيامة المزيد، قلتُ: ولم ذاك؟ قال: لأن الربَّ تبارك وتعالى اتخذ في الجنة واديًا أَفْيَحَ من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة؛ يَنْزِلُ على كرسيه من عِلِّيِّين، أو نزل من عِلِّيين على كرسيه، ثم حَفَّ الكرسي بمنابرَ من ذهبٍ مُكَلَّلَةٌ بالجوهر، ثم يجيء النبيون حتى يجلسوا على تلك المنابرَ، ثم يَنْزِلُ أهلُ الغُرَفِ حتى يجلسوا على ذلك الكَثِيبِ، ثم يَتَجَلَّى لهم ¬

(¬1) صحيح لغيره، أخرجه الدارقطني في رؤية الله (76)، من طريق محمد بن شعيب، به، وهذا إسناد ضعيف؛ لأجل عمر بن عبد الله مولى غفرة، ضعفه ابن معين، والنسائي، ثم إنه منقطع بينه وبين أنس، قال أبوحاتم الرازي عنه: لم يلق أنسًا. قلت: لكن تابعه: (أ) أبو عمران الجوني، أخرجه الطبراني في الأوسط (2084)، عن أحمد بن زهير، عن محمد بن عثمان بن كرامة، عن خالد بن مخلد القطواني، عن عبد السلام بن حفص، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، به ومن طريق الطبراني، أخرجه الضياء في المختارة (2291)، وإسناد هذه المتابعة حسن؛ رجاله ثقات، غير خالد بن مخلد القطواني؛ وثقه العجلي، وابن شاهين، وقال ابن معين وابن عدي: ما به بأس. ... (ب) علي بن الحكم البناني، أخرجه أبو يعلى في مسنده (4228)، عن شيبان بن فروخ، عن الصعب بن حزن، عن علي بن الحكم، عن أنس، به. وهذا إسناد حسن. هذا وقد أخرجه البزار في مسنده (7527)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (91)، والطبراني في الأوسط (6717)، وفي الأحاديث الطوال (35)، وغيرهم من طرق عن أنس - رضي الله عنه -، ولا تخلو أسانيدها من مقال.

رَبُّهُم، فيقول: أنا الذي صَدَقْتُكُم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا مَحِلُّ كرامتي، فسلوني، وساق عثمان بن أبي شيبة الحديث، إلى قوله: وذلك مِقْدَارُ مُنْصَرَفِهِم من الجمعة، ثم يرتفع إلى عرشه عن كرسيه، ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء، أو النبيون والشهداء والصديقون، ويرجع أهلُ الغُرفِ إلى غُرَفِهِم» (¬1). (77) حدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال حدثني حَرْمَلَةُ بن عمران، عن سليمان بن حُمَيْدٍ قال: سمعت محمد بن كَعْبٍ القُرَظِي يحدث (¬2) عمر بن عبد العزيز قال: «فإذا فَرَغَ الله - عز وجل - من أهل الجنة والنار؛ أَقْبَلَ الله - عز وجل - في ظُلَلٍ من الغَمَام والملائكة، فَسَلَّمَ على أهل الجنة في أولِ درجةٍ فَيَرُدُّونَ عليه السلام، قال القُرَظِي: وهذا في القرآن {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] فيقول: سَلُونِي، قال: ففعل ذلك بهم في دَرَجِهِم حتى يستوي في مجلسه، ثم يأتيهم التُّحف من الله تحمله (¬3) الملائكة إليهم» (¬4). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الدارقطني في رؤية الله (71، 73)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (91)، من طريق ليث هو ابن أبي سليم، به. وهذا إسناد ضعيف ليث؛ ضعيف وكان قد اختلط، وشيخه عثمان بن أبي حميد وهو ابن عمير البجلي أبو اليقظان؛ أيضا ضعيف واختلط وكان يدلس. ولكن يشهد لهذا الحديث، الحديثُ الذي سبقه، فراجعه. (¬2) زاد هنا في المطبوعة «عن»، فجعل الأثر من كلام عمر بن عبد العزيز. والصواب أنه من كلام محمد بن كعب، كما في الأصل، وتفسير الطبري، وكذا أورده السيوطي في الدر المنثور (12/ 365)، من كلام محمد بن كعب!! (¬3) في المطبوعة «تحملها» والمثبت من الأصل، ولا أدري وجها لتغييرها. (¬4) أخرجه الطبري في التفسير (20/ 540)، من طريق عبد الله بن وهب عن، حرملة، به. وهذا إسناد صحيح فقد تابع عبد الله بن صالح، ابنُ وهب. لكن سليمان بن حميد تفرد بهذا الأثر، ولم نقف على توثيق صريح له. وقد أورد الحافظ ابن ... = = كثير هذا الأثر في تفسيره (6/ 570)، وساق سند ابن جرير الطبري، ثم علق قائلا: «وهذا أثر غريب أورده ابن جرير من طرق».

قال أبو سعيد: فهذه الأحاديث قد جاءت كُلُّها وأكثرُ منها في نزولِ الربِّ تبارك وتعالى في هذه المواطن، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهلَ الفقهِ والبصرِ من مشايخنا، لا يُنْكِرُها منهم أحدٌ، ولا يمتنعُ من روايتها، حتى ظَهَرتْ هذه العِصَابَةُ؛ فعارضت آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بِرَدِّ، وتَشَمَّرُوا لِدَفْعِهَا بِجِدٍ. فقالوا: كيف نزوله هذا؟ قلنا: لم نُكَلَّف معرفة كيفيةِ نزولِهِ في ديننا، ولا تَعْقِلُهُ قلوبُنا، وليس كمثله شيءٌ من خلقه؛ فنشبه منه فعلا أو صفة بفعالهم وصفتهم، ولكن يَنْزل بقدرته ولُطْفِ ربوبيته كيف يشاء، فالكَيْفُ منه غَيرُ مَعقُولٍ، والإيمانُ بقولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نزوله واجبٌ، ولا يُسْأَلُ الربُّ عما يفعل كيف يفعل، وهم يُسْأَلُون؛ لأنه القادر على ما يشاءُ أن يفعله كيف يشاء، وإنما يُقال لفعل المخلوق الضعيف -الذي لا قدرةَ له إلا ما أقدره الله تعالى عليه-: كيف يصنع، وكيف قدر؟ ولو قد آمنتم باستواء الربِّ على عرشه وارتفاعه فوق السماء السابعة بدءًا إذ خلقها -كإيمان المصلين به- لقلنا لكم: ليس نزوله من سماء إلى سماء بأشد عليه ولا بأعجب من استوائه عليها إذ خلقها بدءًا، فكما قَدَرَ على الأُولى منهما كيف يشاء؛ فكذلك يَقْدِرُ على الأخرى كيف يشاء، وليس قولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في نزوله بأعجب من قول الله تبارك وتعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، ومن قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، فكما يقدر على هذا يقدر على ذاك.

فهذا الناطق من قول الله - عز وجل -، وذاك المحفوظ من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخبار ليس عليها غُبَار، فإن كنتم من عباد الله المؤمنين؛ لَزِمَكُم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون، وإلا فَصَرِّحُوا بما تُضْمِرُون، ودعوا هذه الأُغْلُوطَات التي تلوون بها ألسنتكم، فلئِن كان أهلُ الجهل في شكٍ من أَمرِكُم، إن أهل العلم من أمركم لعلى يقين. قال: فقال قائِلٌ منهم: معنى إتيانه في ظُلَلٍ من الغَمَامِ، ومجيئه والمَلَكُ صفًا صفًّا، كمعنى كذا وكذا. قلت: هذا التكذيب بالآية صُرَاحًا، تلك معناها بَيِّنٌ للأمة لا اختلاف بيننا وبينكم وبين المسلمين في معناها المفهوم المعقول عند جميع المسلمين، فأما مجيئه يوم القيامة وإتيانه في ظُلَلٍ من الغَمامِ والملائكة، فلا اختلاف بين الأمة أنه إنما يأتيهم يومئذ كذلك لمحاسبتهم، وليصدع بين خلقه، ويقررهم بأعمالهم، ويجزيهم بها، ولينصف المظلوم منهم من الظالم، لا يتولى ذلك أحدٌ غيره، تبارك اسمه وتعالى جَدُّهُ، فمن لم يؤمن بذلك؛ لم يؤمن بيوم الحساب. ولكن إن كنتم محقِّين في تأويلكم هذا، وما ادَّعيتم من باطلكم ولستم كذلك؛ فأتوا بحديث يُقُوِّي مَذْهَبَكُم فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بتفسير تأثرونه صحيحًا عن أحد من الصحابة أو التابعين، كما أتيناكم به عنهم نحن لمذهبنا، وإلا فمتى نزلت الجهمية من العلم بكتاب الله وبتفسيره المنزلة التي يجب على الناس قبول قولهم فيه، وترك ما يؤثر من خلافهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه وعن التابعين بعدهم. هذا حدث كبير في الإسلام، وظُلْمٌ عظيم، أن يَتْبَعَ تَفْسِيرَكُم كِتَابُ اللهِ بلا أثر، ويَتْرُكَ المأثورَ فيه الصحيح من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين

لهم بإحسان ?. ومَتَى ما قَدَرْتُم أن تجامعوا أهلَ العلمِ في مجالسِهِم، أو تَنْتَحِلُوا شَيئًا من العلم في آَبَادِ الدَّهْرِ -إلا مُنَافَقَةً واستتارًا- حتى تتقلدوا اليوم من تفسير كتاب الله ما كان يَتَوقَّى أَوْضَحَ منه أَصحَابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ لقد عدوتم طَوْرَكُم، وأَنْزَلتُم أنفَسَكُم المنزلةَ التِي بَعَّدَكُم الله منها، ثم المسلمون، ولو لم يوجد فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه خبرًا (¬1) ولا أثرًا؛ لم تكونوا مُؤْتَمَنِينَ على كتاب الله وتفسيره، أن يَلْتَفِتَ إلى شيءٍ من أقاويلِكم، أو يَعْتَمِدَ على شيءٍ من تَفْسِيرِكم كِتَابُ اللهِ، لما ظَهَرَ للأمة من إِلحادِكُم، فكيف إذا هم خالفوكم؟! قال أبو سعيد رحمه الله: ومما يَرُدُّ هذا ويُبطِلُهُ قولُه تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} الآية [الأنعام: 158]، فهذا مما يحقق دعوانا، ويبطل دعواكم التي تَخَرَّصْتُمُوهَا عَدْوًا بغير علم في إتيان الله تعالى ومجيئه يوم القيامة والمَلَكُ صفًا صفًا، فإن أَبَيتُم إلا لزومًا لتفسيركم هذا ومخالفة لما احتججنا به من كتاب الله، وآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه ليس لكم من الرُّسُوخِ في العلم، والمعرفة بالكتاب والسنة ما يعتمد فيه على تفسيركم، لو قد أصبتم الحق، فكيف إذا أنتم أخطأتموه! ولكن بيننا وبينكم حجةٌ واضحةٌ يَعْقِلُهَا من شاء الله من النساء والولدان. ¬

(¬1) كذا في الأصل، والجادة الرفع، ووجه النصب؛ حذف نائب الفاعل، وتقديره «إيجاد»، ونظيره في القرآن قوله تعالى: {لِيُجْزَى قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14]، كما في قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة، وأيضًا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُجِّي ... الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 88]، كما في قراءة ابن عامر، وأبي بكر، وينظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (19/ 152).

ألستم تعلمون أَنَّا قد أتيناكم بهذه الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أصحابه، والتابعين، منصوصة صحيحة عنهم، أن الله تبارك وتعالى يَنْزِلُ كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا؟ وقد علمتم يقينًا أنَّا لم نخترع هذه الروايات ولم نفتعلها، بل رَوَيْنَاهَا عن الأئمة الهادية الذين نقلوا أصولَ الدِّين وفروعه إلى الأنام، وكانت مُستَفِيضَةٌ في أيديهم، يتنافسون فيها، ويتزيَّنُونَ بروايتها، ويحتجون بها على من خالفها. قد علمتم ذلك ورويتموه (¬1) كما رويناها إن شاء الله؛ فائتوا ببعضها أنه لا ينزل، منصوصًا، كما روينا عنهم النزول منصوصًا، حتى يكون بعض ما تأتون به ضِدًّا لبعض ما أتيناكم به، وإلا لم يُدْفَع إِجماعُ الأمةِ وما ثبت عنهم في النزول منصوصًا، بلا ضِدٍّ منصوصٍ من قولهم، أو من قول نُظَرائِهم، ولم يُدْفَع شيءٌ بلا شيء؛ لأن أقاويلَهُم ورواياتِهم شيءٌ لازمٌ، وأصلٌ منيعٌ، وأقاويلَكُم رِيحٌ، ليست بشيء، ولا يَلْزَمُ أحدًا منها شيء، إلا أن تأتوا فيها بِأَثَرٍ ثابتٍ مستفيضٍ في الأمة، كاستفاضةِ ما رَوَيْنَا عنهم، ولن تأتوا به أبدًا، هذا واضحٌ بَيِّنٌ، يَعْقِلُهُ كثيرٌ من ضعفاء الرجال والنساء، وتَعْقِلُونَهُ أنتم -إن شاء الله-؛ فإنه ليس لكم من الغفلة كُلُّ ما لا تعلمون (¬2). إن هذه الحُجَجَ آخذةٌ بحلُوقِكُم، غير أنكم تقصدون قصدَ شَيءٍ، لا ينقاد إلا بدفع هذه الحُجَجِ والآثَارِ كُلِّها. تزعمون أن إلهكم الذي كنتم تعبدون منكم في كل مكان، واقعٌ على كلِّ ¬

(¬1) كذا، وهو متجه، فالضمير في قوله «ورويتموه» يعود على «ذلك»، والضمير في رويناها يعود على «الروايات». (¬2) كذا في الأصل، والعبارة غير واضحة، والذي يبدو منها: أنكم تعقلون ذلك؛ لأن ما لكم من الغفلة لن يصل بكم إلى عدم استيعاب الحجج؛ فالحجج واضحة.

شيءٍ، لا حَدَّ له، ولا منتهى عندكم، ولا يخلو منه شيءٌ مكانٌ (¬1) بزعمكم. ثم قلتم: إنما يُوصَفُ بالنزول من هو في مكان دون مكان، فأما من هو في كل مكان فكيف ينزل إلى مكان. قلنا: هذه صِفَةٌ خلاف صفةِ ربِّ العالمين، ولا نعرف بهذه الصفةِ شيئًا إلا هذا الهواء الداخلُ في كلِّ مكان، النَّازلُ على كلِّ شيءٍ، فإن لم يكن ذلك إلهكم الذي تعبدون، فقد غلبكم عن عبادة الله رأسًا، وصِرتُم في عبادة ما تعبدون أسوأ منزلة من عبادة الأوثان، وعبادة الشمس والقمر؛ لأن كلَّ صِنْفٍ منهم عبدَ شيئًا هو عند الخَلق شيء، وعبدتم أنتم شيئًا هو عند الخلق لا شيء؛ لأن الكلمةَ قد اتفقت من الخلق كلِّهم أن الشيءَ لا يكونُ إلا بحدٍّ وصفةٍ، وأن لا شيء، ليس له حدٌّ ولا صفةٌ؛ فلذلك قلتم لا حدَّ له، وقد أَكْذَبَكُم الله تعالى، فسمَّى نفسه أكبر الأشياء وأعظم الأشياء وخَلاَّق الأشياء قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] وقال {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فهو سمى نفسَهُ أكبر الأشياء، وأعظم الأشياء، وخلاق الأشياء، وله حَدٌّ، وهو يعلمه لا غيره. (78) حدثنا الحسنُ بن الصبَّاحِ البزَّارُ البَغداديُّ، حدثنا عليُّ بنُ الحسنِ بن شقيقٍ، عن ابن المبارك؛ أنه سُئِلَ، بم نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ «قال: بأنه فوق العرش، فوق السماء السابعة، على العرش، بائِنٌ من خلقه، قال قلت: بِحَدٍّ قال: فبأي شيء» (¬2). ¬

(¬1) كذا في الأصل «شيءٌ مكانٌ» وحذف في المطبوعة كلمة «شيء» وهي واضحة في الأصل ولم يضرب عليها، وهي متوجهة لغة على أنها بدل. (¬2) تقدم تخريجه، رقم (21).

قال أبو سعيد رحمه الله: والحُجَّةُ لقول ابن المبارك؛ قول الله تبارك وتعالى {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] فلماذا يحفون حول العرش، إلا لأن الله - عز وجل - فوقه، ولو كان في كل مكان لحفُّوا بالأمكنة كلِّها، لا بالعرش دونها، ففي هذا بيانٌ بَيِّنٌ للحَدِّ، وأن الله فوق العرش، والملائكة حوله، حافون يسبحون، ويقدسونه ويحمل عرشه بَعْضُهُم، قال الله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7]. قال أبو سعيد رحمه الله: فَسَمِعْتُ محتجًا يحتج عنهم في إنكارهم الحدَّ والنُّزولَ، وفي قولهم هو في كل مكان، بحديث أربعة أملاك التَقَوا، أحدهم جاء من المشرق، والآخر من المغرب، والثالث من السماء، والرابع من الأرض، فقالوا أربعتهم: جئنا من عند الله. فقلت: إِنَّ أفلسَ الناسِ من الحديث، وأَفْقَرَهُم فيه، الذي لا يجدُ من الحديثِ ما يَدفَعُ بِهِ تلك الأحاديث الصحيحة المشهورة في تلك الأبواب، إلا هذا الحديث، وهو أيضًا من الحديث أَفْلَسَ؛ لأن هذا الحديث لو صَحَّ كان عليه، لا له. فالحمد لله؛ إذ ألجأتهم الضرورةُ إلى هذا وما أشبهه؛ لأنهم لو وجدوا حديثًا منصوصًا في دعواهم؛ لاحتجوا به، لا بهذا، ولكن حين أيسوا من ذلك، وأعياهم طَلَبُه؛ تعلقوا بهذا الحديث المشتبه على جُهَّال الناس لِيُرَوِّجُوا بسببه عليهم أُغْلُوطَةً، وسنبين لهم ما اشتبه عليهم من هذا الحديث إن شاء الله؛ حتى يعلموا أنه عليهم لا لهم. قلنا: هذا الحديثُ لو صَحَّ؛ لكان معناه مَفهُومًا معقولًا، لا لَبْسَ له أنهم جاءُوا كُلُّهم من عِنْدِ اللهِ كما قَالوا؛ لأَنَّ اللهَ تعالى على عَرشِهِ فَوْقَ سَماواتِهِ،

وسماواتُهُ فوقَ أرضِهِ كالقُبَّةِ، وكما وَصَفَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو يُنْزِلُ ملائِكةً مِنْ عنده بالمشرقِ، وملائكةً بالمغربِ، وملائِكةً إلى تُخُومِ الأرضِ للأمرِ مِنْ أُمُورِهِ، ولِرَحْمَتِهِ، ولِعَذابِهِ، ولِمَا يَشَاءُ مِن أموره، فلو أَنْزَلَ أَحَدَ هَؤلاءِ الأربعةِ بالمشرقِ، والثَّاني بِالمغربِ، والثالثَ أَنزلَهُ مِنَ السماءِ إلى تُخُومِ الأرضِ للأمر من أموره، ثُمَّ عَرَجُوا منها والْتَقَوْا جَمِيعًا في مُلْتَقَى مِنَ الأَرضِ مَع رَابِعٍ نَزَلَ مِنْ مُلتقَاهُم مِنَ السَّماءِ، فَسُئِلوا جَميعًا مِنْ أَيْنَ جَاءُوا؟ فَقَالُوا جَميعًا: جئْنَا من عِنْدِ الله، لكان المعنَى فِيه صَحِيحًا على مَذْهَبِنَا، لا على مَذْهَبِكُم؛ لأنَّ كُلاًّ بَعَثَهُم الله تعالى مِنَ السماءِ، وكُلًّا نَزَلوا من عنده في مَواطِنَ مخُتلفة، ولو نَزَلَ مائةُ ألفَ مَلَكٍ في مائةِ ألفَ مكانٍ من الأَرضِ؛ لجاءُوا من عند الله، وإنما قِيلَ من عند الله؛ لأنَّ اللهَ تَبَاركَ وتعالى فَوْقَ السماءِ، والملائِكةَ في السَّماواتِ، وبَعْضَهُم حَافُّونَ بِعَرْشِهِ، فَهُمْ أَقْرَبُ إِلى عَرشِ الرَّحْمَنِ مِن أهل الأرض، ومما يُبَيِّنُ ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206]. ففي هذه الآية بيانٌ لتحقيق ما ادَّعَيْنَا لِلْحَدِّ؛ فإنه فوق العرش بائِنٌ مِن خَلْقِهِ، ولإِبطال دَعْوَى الذين ادَّعوا أن اللهَ في كُلِّ مكانٍ، لأنه لو كان في كل مكان؛ مَا كَانَ لِخُصوصِ الملائكة أنهم عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ مَعْنَى، بَلْ كَانَت الملائكةُ والجِنُّ والإِنْسُ، وسَائِرُ الخَلْقِ كُلُّهم عند ربك في دَعْوَاهُم بِمَنْزِلَةٍ واحِدَةٍ، إِذْ لَو كَانَ في كل مكان؛ إذًا لذهب معنى قَوْلِهِ لا يستكبرون عن عبادته ويُسَبِّحُونَهُ ولَهُ يَسْجُدُونَ؛ لأن أكثر أهل الأرض من الجن والإنس من يستكبر عن عبادته ولا يسجد له، ولكن خَصَّ الله بهذه الصفة الملائكة الذين هم عنده في السماوات، فَأَوْطَئُوا بهذه الآية وأَقْرَعُوا بها رُؤُوسَهُم عند دعواهم أن الله في كل مكان، فإنها آخذةٌ بِحُلُوقِهِم، لا مَفَرَّ لهم

منها، إلا بِجُحُودٍ. فإن أقروا أنهم من الملائكة الذين عنده دون سِوَاهُم، فقد أصابوا ما أَرَادَ اللهُ، ونَقَضُوا قَوْلَهُم: أَنَّ اللهَ في كل مكان، وأقروا له بِالْحَدِّ، وأَنَّه فوقَ السَّمَاواتِ، والمَلائِكةَ عِنْدَهُ لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون، وإن لم يقروا به، كانوا بذلك جاحدين لتَنْزيِلِ الله تعالى، ويَلْزَمُهُم في دعواهم أن يشهدوا لجميع عبدةِ الأوثان وعبدةِ الشمسِ والقمرِ والجنِّ والإنسِ وكفرةِ أهلِ الكتابين والمجوس، أنهم كلهم عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون؛ لأن الله تعالى قد أخبر أن الذين عنده كذلك صفاتهم، فإن يكن الخلق كلهم في دعواهم عنده، وهو عندهم، وكُلٌّ يُسَبِّحُ له ويسجد له ولا يستكبر عن عبادته، ومن قال هذا؛ فقد كفر بكتاب الله، وجَحَدَ بآياتِ اللهِ؛ لأن الله تعالى وصف الملائكة الذين عنده بهذه الصفة، ووصف كُفَّارَ الجِنِّ والإنس وعَبَدَةِ الأَوْثَانِ بالعُتُوِّ والاسْتِكْبَارِ عن عبادته والنُّفُورِ عَنْ طَاعَتِهِ. قال تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: 21]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60]، فافهموا هذه الآية؛ فإنها قاطعةٌ لِحُجَجِهِم. * * *

باب الرؤية

بَابُ الرُّؤْيَةِ قال أبو سعيد رحمه الله: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]،وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففون: 15 - 17] ففي هذا دليلٌ أن الكُفَّارَ كُلَّهم محجوبون عن النظر إلى الرحمن عَزَّ وعلا، وأن أهلَ الجنةِ غير محجوبين عنه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّما والدٌ جَحَدَ وَلَدَهُ؛ احْتَجَبَ اللهُ منه، وَفَضَحَهُ على رُؤوسِ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ». (79) حدثناه يحيى الحِمَّانِيُّ، حدثنا عبد العزيز يعني الدَّرَاوَرْدِي، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن يونس، سمع المَقْبُريَّ يحدث قال: حدثني أبو هريرة، أنه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقوله (¬1). قال أبو سعيد: ففي هذا الحديث دليلٌ أنه إذا احتجب عن بعضهم لم يحتجب من بعض، وقال رسول الله: سَتَرَوْنَ ربَّكُم - عز وجل - كما تَرَوْنَ الشَّمْسَ والقَمَرَ، فَلَمْ يَدَعْ لمتأول فيه مَقَالًا. (80) حدثنا أحمدُ بنُ يُونُسَ، حدثنا أبو شهاب وهو الحَنَّاط، قال: أخبرني إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جَرِيرٍ قال: كُنَّا ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه أبو داود (2265)، والنسائي (3481)، والدارمي (2238)، وابن حبان (4108)، والبيهقي (7/ 304)، وغيرهم، من طريق يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن يونس، به، وعبد الله بن يونس هو الحجازي، مجهول.

جلوسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفع رأسه إلى السماء ليلةَ البَدْرِ، فَنَظَرَ إلى القَمَرِ فقال: «أَمَا إِنَّكم سَتَرَوْنَ ربَّكم عَيَانًا كمَا ترون هذا، لا تُضَامُون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا» (¬1) (81) حدثنا بنحوه ابنُ المَديِنِي، عن سُفْيَانَ بن عُيَيْنَةَ، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال علي بن المديني: هي عندنا صلاة العصر وصلاة الصبح إن شاء الله تعالى. قال: حدثنا به سِتَّةٌ عن إسماعيل؛ سفيانُ وهُشَيْمٌ ووَكِيعٌ والمُعْتَمِرُ وغَيرُهُم، قال عليٌّ: لا يكون الإسناد أَجْوَدَ مِنْ ذَا. (82) حدثنا محمد بن عبد الله الخُزَاعيُّ أبو عبد الله البصري، وأبو سَلَمَةَ، واللفظُ لفظ محمدٍ، قالا: حدثنا حمادُ بنُ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيْبٍ - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: «إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجَنَّةَ ودخل أهلُ النَّارِ النَّارَ؛ نادى منادٍ! يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يُريدُ أن يُنْجِزْكُمُوهُ، قال: فيقال ما هو؟ ألم يُبَيِّض ¬

(¬1) أخرجه البخاري (544، 4851، 7434، 7436)، مسلم (633)، وأبو داود (4731)، والترمذي (2551)، وابن ماجه (177)، وأحمد (19190)، وغيرهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد، به. (¬2) أخرجه الحميدي (799)، وابن أبي عاصم في السنة (447)، والطبراني في الكبير (2232)، من طريق ابن عيينة، به.

وجُوهَنَا، ويُثَقِّل موازيننا، وأدخلنا الجنةَ، وأجارنا من النار، قال فَيُكْشَفُ الحِجَابُ، فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده ما أعطاهم شيئًا هو أحب إليهم، ولا أقر لأعْيُنِهِم من النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى» (¬1). (83) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، حدثنا يَعْلَى بن عطاء، عن وَكِيعِ بنِ حُدُسٍ، عن أبي رَزِين العُقَيْليِّ قال: قلت يا رسول الله: أَكُلُّنَا يرى ربَّهُ يوم القيامة؟ وما آيَةُ ذلك في خَلْقِهِ؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا رَزِيِن! أليس كلكم يرى القمر مُخْلِيًا به؟ قلتُ بَلَى، قال فالله أعظم» (¬2). (84) حدثنا نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ، حدثنا إبراهيم وهو ابن سعد، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد اللَّيْثِي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قَال النَّاسُ يا رسول الله! هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تُضَارُّونَ في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال فهل تضارون في القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فكذلك تَرَوْنَ ربَّكُم يوم القيامة، إن الله يجمعُ النَّاسَ يوم القيامة، فيقول: من كان يَعْبُدُ شيئًا فليتبعه، فيتبعُ من كان يَعبدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، ومن كان يعبدُ القمرَ القمرَ، ¬

(¬1) صحيح، أخرجه الترمذي (2552)، وأحمد (23925)، والنسائي في الكبرى (11170)، والبزار (2087)، والطبراني في الأوسط (756)، وابن أبي حاتم في التفسير (6/ 1945)، وغيرهم من طرق، عن حماد بن سلمة، به، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. (¬2) ضعيف، أخرجه أبو داود (4733)، وأحمد (16192)، والحاكم (4/ 560)، وابن أبي عاصم في السنة (459)، وغيرهم جميعًا من حديث وكيع بن حدس، به ووكيع مجهول، قال الذهبي: لا يعرف، وقال ابن القطان: مجهول الحال.

ومن كان يعبدُ الطواغِيتَ الطواغيتَ، وتَبقَى هذه الأمةُ، فيها منافقوها. وساق الحديث إلى قوله: هذا مَكَانُنَا حتَّى يَأْتِيَنَا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنَا عرفناه، فَيَأتِيهمُ اللهُ في الصورة التِّي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه». قال عطاء بن يزيد في آخر الحديث: قال أبو سعيد يعني الخُدْرِيُّ وهو مع أبي هريرة ?حين حدَّثَ بهذا الحديث لا يَرُدُّ عليه شيئًا من حديثه، حتى إذا قال: ذَلِكَ لهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قال أبو سعيد: أشهد لحفظته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ذلك له وعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ (¬1). (85) حدثنا نُعَيم بن حماد، حدثنا ابنُ المباركِ، حدثنا مَعْمَرُ، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد الخدري ?، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بنحوه (¬2). (86) وحدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال: حدثني الليثُ قال: حدثني هشامُ بنُ سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله! هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تُضَارون في الشمس في الظَّهيرة صَحْوًا ليس فيها سَحابٌ؟ قال: قلنا لا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهل تُضَارون في رؤيةِ القمرِ ليلةَ البَدْرِ صحوًا ليس ¬

(¬1) أخرجه البخاري (7437)، ومسلم (182)، وأحمد (7717)، والبزار (8265)، وغيرهم من حديث عطاء الليثي، عن أبي هريرة، به، وقد تقدم برقم (69). (¬2) صحيح، أخرجه البزار (8265).

فيها سحاب؟ قال: فقلنا لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فما تُضارون في رؤيتِهِ يوم القيامة، إلا كَهيئةِ ما تضارون في رؤيةِ أحدِهِمَا» (¬1). (87) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حمَّادٌ يعني ابن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمارة القُرَشي، أنَّهُ كان عندَ عمرَ بْنِ عبدِ العزيزِ، فأتَاهُ أبو بُرْدَةَ بنُ أبِي موسى الأَشْعَري - رضي الله عنه -، فقضى له حوائِجَه، فلمَّا قَضَى (¬2) رَجَعَ، فقالَ عُمَرُ: أَذْكُرُ الشَّيخَ، فقال له عمر: ما ردَّك ألم تُقْض (¬3) حَوَائِجُكَ؟ قال بلى، ولكن ذكرتُ حديثًا حَدَّثناهُ أبو موسى الأشعري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يجمعُ اللهُ الأُمَمَ يومَ القيامةِ في صعيدٍ واحد، فإذا بدا له أن يَصْدَعَ بَيْن خَلْقِهِ؛ مَثَّلَ لِكُلِّ قومٍ ما كانوا يعبدون، فَيُدْرِجُونَهُم حتى يُقْحِمُوهُم النار، ثم يأتينا ربُّنا ونحن في مكان، فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المؤمنون، فيقول: ما تنتظرون؟ فنقول: ننتظر ربَّنا، فيقولُ: مِنْ أين تعلمون أنه ربُّكُم؟ فيقولون: حدَّثَتْنَا الرسلُ، أو جاءتنا، أو ما أشبه معناه، فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقول: كيف تعرفونه ولم تَرَوْهُ؟ فيقولون: نعم، إِنَّه لا عِدْلَ له، فَيَتَجَلَّى لنا ضاحِكًا، ثم يقول تبارك وتعالى: أبشروا معشر المسلمين! فإنه ليس منكم أحدٌ إلا قد جَعَلْتُ مكانه في النار يهوديًا أو نصرانيًا، فقال عمرُ لأبي بردة: والله لَقَد سَمِعْتَ أبا موسى يحدثُ بهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال نعم» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (4581)، ومسلم (182)، والحاكم (4/ 582)،وابن أبي عاصم في السنة (457، 635)،والطيالسي (2293)، وغيرهم، مطولاً ومختصرًا من طريق زيد بن أسلم، به. (¬2) كذا في الأصل وقد غيرها في المطبوعة إلى «خرج» ولا أدري وجها للتغيير!! (¬3) في الأصل زاد فيها «ا» للتسهيل. (¬4) ضعيف، أخرجه أحمد (19655)، وعبد بن حميد (540)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة (1/ 270)، وعبد الله بن أحمد في السنة (277)، والدارقطني في الصفات (34)، ... = = وغيرهم، من طريق حماد بن سلمة، عن، علي بن زيد بن جدعان، به، وعليٌ؛ ضعفه أحمد وغيره، وقال الدارقطني فيه لين، وشيخه عمارة القرشي؛ ذكره الذهبي في الميزان وقال: قال الأزدي: ضعيف جدًا، روى عنه علي بن زيد بن جدعان وحده. وأما قول الله في الحديث: «ليس منكم أحدٌ إلا قد جَعَلْتُ مكانه في النار يهوديًا أو نصرانيًا» فصحيح ثابت من طرق أخرى عن أبي بردة، أخرجه مسلم (2767)، وغيره.

(88) حدثنا إِسْحَاقُ بنُ إبراهيمَ الحَنْظَلِيُّ، حدثنا النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، حدثنا أبو نَعَامَةَ العَدَوِيُّ قال: حدثنا أبو هُنَيْدَةَ البَرَاءُ بنُ نَوْفَل، عن وَالاَن العدوي، عن حُذيفةَ، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، في حديث الشفاعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:وساق إسحاقُ الحديثَ إلى قولهِ: «فَيَخِرُّ ساجدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ، فيقولُ اللهُ تبارك وتعالى: يا محمد! ارفع رأسَكَ، وقُل يُسْمَعُ، واشْفَعْ تُشَفَّعُ، فَيرفَعُ رَأْسَهُ، فإذا نَظَرَ إلى ربهِ؛ خَرَّ ساجدًا قَدْرَ جمعة أخرى» (¬1). (89) حدثنا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ الحِمْصِيُّ، حدثنا بَقِيَّةُ، حدثنا بَحِيرٌ وهو ابن سعد، عن خَالِدٍ وهو ابن مَعْدَان، عن عمرو بن الأسود، عن جُنَادَةَ بنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُم، عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِت - رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ¬

(¬1) إسناده حسن، أخرجه أحمد (15)، وابن حبان (6476)، وأبو يعلى (56)، والبزار (76)، وأبو عوانة (443)، وابن أبي عاصم في السنة (812)، وغيرهم من حديث النضر بن شميل، به، وهذا إسناد حسن؛ أبو نعامة العدوي وثقه ابن معين، وابن حبان، وقال أبو حاتم لا بأس به، وشيخه أبو هنيدة؛ وثقه ابن معين كما في الجرح والتعديل، وشيخه والان؛ وثقه ابن معين، وابن حبان، وابن شاهين، فالحديث حسن إن شاء الله تعالى، هذا وقد سئل عنه الدارقطني كما في العلل (14)، فقال: والان غير مشهور إلا في هذا الحديث، والحديث غير ثابت، ا. هـ. لكن نقل ابن حبان في صحيحه، عقب روايته للحديث، عن إسحاق بن راهويه أحد رواة الحديث، أنه قال: «هذا من أشرف الحديث، وقد روى هذا الحديث عِدةٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا منهم: حذيفة وابن مسعود وأبو هريرة وغيرهم»، وقال البزار أيضا: «رواه جماعة من جلة أهل العلم بالنقل واحتملوه» كما في مسنده (1/ 152).

«إِنَّكُم لَنْ تَرَوْا رَبَّكُم حتَّى تمُوتُوا» (¬1). (90) حدثنا نُعيمُ بنُ حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، أن رجلا من أهل العلم أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُمَدُّ الأرضُ يومَ القيامةِ مَدَّ الأَديمِ، فأكونُ أولَ مَن أُدْعَى فَأَخِرُّ سَاجِدًا حتى يأذنَ اللهُ لي بِرَفْعِ رأسي، فأرفعُ، ثم أقومُ وجبريلُ عن يمينِ الرَّحمنِ، لم ير الرَّحْمَنَ تَبَاركَ اسمُهُ قبل ذلك» (¬2). (91) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حمادُ يعني ابن سلمة، عن عَلِيِّ بنِ زَيدٍ، عن أَبِي نَضْرَةَ قال: خَطَبَنَا ابنُ عبَّاسٍ على هذا المِنْبَرِ بِالبَصْرَةِ فقال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما نَبِيٌّ إلا له دعوةٌ تَعَجَّلَهَا في الدنيا، وإنِّي اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي ¬

(¬1) حسن، أخرجه أحمد (22864)، والنسائي في الكبرى (7716)، والطبراني في الشاميين (1157)، والبزار (2681)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 157، 221)، وغيرهم، من طرق عن بقية بن الوليد، به. وهذا إسناد رجاله ثقات، غير بقية، قال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. قلت: يحمل كلامه على روايته عن غير الثقات، فقد قال أبو زرعة الرازي: «ما لبقية عَيْبٌ إلا كثرة روايته عن المجهولين، فأما الصدق فلا يؤتى من الصدق، وإذا حدث عن الثقات فهو ثقة». قلت: وقد روى هنا عن الثقة، وقال الذهبي في الكاشف: «وثقه الجمهور فيما سمعه من الثقات، وقال النسائي: إذا قال حدثنا وأخبرنا؛ فهو ثقة». (¬2) مرسل، أخرجه نعيم بن حماد في زوائده على الزهد لابن المبارك (375)، هكذا، بواسطة بين علي بن الحسين، والنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الطبري في التفسير (17/ 530)، وعبد الرزاق في التفسير (1/ 387)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (144)، هؤلاء جميعًا دون ذكر الرجل بين علي بن الحسين، والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحالتين فهو مرسل مع صحة الإسناد، فقد يكون الرجل المبهم تابعيًا أيضًا، لاسيما وعلي بن الحسين لم يَنُصْ على كونه صحابيًا، كأن يقول مثلا: أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كلمة نحوها، والله أعلم.

يومَ القيامةِ، وأنا سَيَّدُ ولدِ آدمَ ولا فخر، وأولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ ولا فخر، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فخر، وآدمُ ومَنْ دونه تحت لوائي ولا فخر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيطول ذلك اليومُ على النَّاسِ فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدمَ أبِي البشرِ فليشفع لنا إلى ربِّنا، وساقَ الحديثَ إلى قوله: فآتِي بابَ الجنَّةِ؛ فآخذُ بحلقةِ البَابِ، فأَقْرَعُ البابَ؛ فَيُقَالُ: مَنْ أنت؟ فأقول: أنا محمد، فَيُفْتَحُ البَابُ، فآتي ربِّي وهو على كُرْسِيِّهِ أو على سريره، فَيَتَجَلَّى لي ربِّي؛ فأخر له ساجدًا» (¬1). وساق أبو سَلَمَةَ الحديثَ بطوله إلى آخره. (92) حدثنا عبدُ الغَفَّار بنُ داودَ الحرَّانِيُّ أبو صالح، حدثنا ابن لَهِيْعَةَ، عن أبي الزُّبَيْرِ قال: سألتُ جابرًا - رضي الله عنه - عن الوُرُودِ، فأخبرني أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نحنُ يومَ القيامةِ على كومٍ فوقَ النَّاسِ، فَتُدْعَى الأُمَمُ بأوثانها، وما كانت تعبد، الأولُ فالأول، ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك، فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: تنتظرُ ربَّنا، فيقول: أنا ربُّكُم، فيقولون حتى نَنْظُرُ إليك، فيتجَلَّى لهم يَضْحَكُ، فَيَتْبَعُونَهُ» (¬2). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه أحمد (2546)، والطيالسي (2711)، وعبد بن حميد (695)، وأبو يعلى (2328)، وغيرهم من طرق عن علي بن زيد بن جدعان، به. وآفته علي بن زيد، وقد تقدم الكلام عليه عند حديث (87). (¬2) صحيح، رجاله ثقات غير ابن لهيعة؛ فإنه ضعيف كما حققنا القول فيه عند حديث (46)، لكنه توبع في هذه الرواية، تابعه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أخرجه مسلم (191)، وأحمد (15115)، وأبو عوانة (364)، وغيرهم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، به.

(93) حدثنا هشامُ بنُ خالدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حدثنا محمدُ بن شُعَيْبٍ وهو ابن شابور، حدثنا عُمَرُ بنُ عبدِ اللهِ مولى غفرة قال: سمعت أنسَ بن مالكٍ - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَتاني جِبريلُ وفي يَدِهِ كهيئة المِرْآةِ البَيْضاءِ، وفيها نُكْتَةٌ سوداء، قلت: ما هذه يا جبريل؟ قال هذه الجُمُعَةُ، بَعَثَ بها إليك رَبُّكَ تكونُ عِيدًا لك ولأُمَّتِك مِنْ بعدِك، قلت: وما لنا فيها؟ قال لكم فيها خيرٌ كَثِير، أنتم الآخِرون السَّابِقون يوم القيامة، وفيها ساعةٌ لا يُوافِقُهَا عبدٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلا أَعْطَاه. قلت: ما هذه النُكْتَةُ السوداء؟ قال هذه الساعة، تكون يوم الجمعة، وهو سَيَّدُ الأيامِ، ونحن نُسَمِّيهِ عندنا؛ يَوْمُ المَزِيدِ، قلت: وما المَزِيدُ يا جبريل؟ قال ذلك بأن رَبَّكَ اتخذ في الجنةِ واديًا أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فإذا كان يومُ الجُمُعَةِ من أيام الآخِرة؛ هَبَطَ الرَّبُّ تبارك وتعالى عن عَرْشِهِ إلى كُرْسِيِّه، وحَفَّ الكُرسِيَّ بمنابرَ من نورٍ، فَيَجْلِسُ عليها النَّبيوُن، وحفَّ المنَابِرَ بكراسيَ من ذَهَبٍ، [فيجلسُ] (¬1) عليها الصِّديقُون والشُّهداءُ، ويَهْبِطُ أهلُ الغُرَفِ من غُرَفِهِم، فَيَجْلِسُونَ على كُثْبَانِ المِسْكِ لا يَرَوْنَ لأهل المنابر والكراسي عليهم فضلاً في المجلس، ثم يَتَبَدَّى لهم ذو الجلال والإكرامِ، فيقول: سَلُونِي، فيقولون بِأَجمَعِهِم: نسألُكَ الرِّضَا فَيُشْهِدُهُم على الرضا، ثم يسألونه حتى تنتهي نُهْيَةُ كلِّ عبدٍ مِنْهُم، ثم يُسْعَى عليهم بما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، ثم يرتفع الربُّ عن كرسيه إلى عرشه، ويرتفعُ أهلُ الغُرَفِ إلى غرفهم، وهي غُرْفَةٌ من لؤلؤة بيضاء، أو زَبَرْجَدَةٍ خضراء، أو ياقوتةٍ حمراء ليس ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من الأصل، وأثبتناه من الحديث رقم (75).

فيها فَصَمٌ ولا وصَمٌ، مُطَّرِدَةٌ أَنهَارُهَا، مُتَدَلِّيَةٌ فِيهَا ثمارُها، فيها أزواجُهَا وخَدَمُهَا ومَسَاكِنُها، فليس أهلُ الجنةِ إلى شيءٍ أَشْوَقَ مِنهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا قُربًا مِن اللهِ ورِضْوَانًا» (¬1). (94) حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله بن عمر ?، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام للناس فَأَثْنَى على اللهِ بما هو أَهْلُهُ، ثم ذَكَرَ الدَّجَالَ فقال: «لا أدري، أَتُدْرِكُونَهُ، ما من نَبِيٍّ إلا وقد أَنْذَرَهُ قومَهُ، لقد أنذره نوحٌ قومَهُ، ولكني أقول لكم قولا لم يَقُلْهُ نَبِيٌّ لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور، قال الزهري وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حذر الناس: إنه مكتوبٌ بين عينيه كافر، يَقْرَأُهُ مَنْ كَرِهَ عَمَلَه، أو يَقْرأُهُ كُلُّ مؤمنٍ، وقال تَعْلَمُنَّ أنه لن يرى أَحَدُكُم ربَّه حتَّى يموت» (¬2). (95) حدثنا سُلَيمانُ بن حَرْبٍ، حدثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن عطاء بن السَّائِب، عن أبيه، أن عَمَّارَ بنَ ياسِرٍ - رضي الله عنه - صَلَّى بأصحابهِ صلاةً أوجَزَ فيها، فقيل له خَفَّفْتَ، فقال: أما إِنِّي قد دعوتُ فيها بدعاءٍ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومضى، فَتَبِعَهُ رجلٌ فسأله عن الدعاء، ثم رجع إلى القوم فأخبرهم، فقال: «اللهم إني أسألُكَ، بِعِلْمِكَ الغَيْبَ، وقُدْرَتِكَ على الخَلْقِ أَحْيِنِي، ما عَلِمْتَ الحياةَ خيرًا لي، وتَوَفَّنِي إذا كانت الوفَاةُ خيرًا لي، وأسألك خَشْيَتَكَ في ¬

(¬1) صحيح، وقد تقدم تخريجه برقم (75). (¬2) أخرجه البخاري (3337، 7127)، ومسلم (2931)، وأبو داود (4759)، والترمذي (2235)، وأحمد (6365)، وغيرهم، من طرق عن الزهري، به.

الغيبِ والشَّهَادَةِ، وأسألك كَلِمَةَ الحقِّ في الغَضَبِ والرِّضَا، وأسألك القَصْدَ في الفَقْرِ والغِنَى، وأسألك نَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وأسألك قُرَّةَ عَيْنٍ لا تنقطعُ، وأسألك الرِّضَا بعد القَضَاءِ، وأَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بعد الموتِ، وأسأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجْهِكَ، وأسألُكَ الشوقَ إلى لِقَائِك، في غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهم زَيِّنَّا بزينةِ الإيمان، واجعلنا هُداةً مُهتَدِينَ» (¬1). (96) حدثنا أحمدُ بن يُونُسَ، حدثنا أبو شِهَابٍ وهو الحنَّاطُ قال: أخبرني خالد بن دِينَارٍ النِّيلِيُّ، عن حماد بن جعفر، عن ابن عمر ?، قال: «ألا أخبرُكَ بأسفلِ أهلِ الجنةِ»، وساق أحمدُ الحديثَ بطولِهِ، قال: «حتَّى إذا بلغ النَّعِيمُ مِنْهُم كُلَّ مَبْلَغٍ، وظَنُّوا أن لا نَعِيمَ أفضلَ منه، تَجَلَّى لهم الربُّ، فنظروا إلى وَجْهِ الرَّحمَنِ». قال أحمد: قلت لأبي [شهاب] (¬2) حديث خالد بن دينار هذا في ذكر الجنة، رَفَعَهُ؟ قال نعم (¬3). (97) حدثنا يحيى الحِمَّانِي، وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا شَرِيكٌ، عن ¬

(¬1) صحيح، أخرجه النسائي (3/ 54)، وفي الكبرى (1228)، وابن حبان (1971)، وابن أبي عاصم في السنة (129، 425)، والبزار (1393)، وعبد الله بن أحمد في السنة (279)، وغيرهم، من طريق حماد بن زيد، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، غير أن عطاء بن السائب كان قد اختلط في آخره، لكن حماد بن زيد ممن روى عنه قبل الاختلاط، كما ذكر يحيى بن سعيد القطان. (¬2) ما بين معقوفين سقط من الأصل. (¬3) ضعيف، أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (342)، والدارقطني في الرؤية (193)، من طريق أبي شهاب الحناط، به وهذا إسناد ضعيف ومنقطع؛ فإن حماد بن جعفر إن كان هو البصري، فهو لين الحديث، كما قال الحافظ، وقال ابن عدي: منكر الحديث، فضلا عن الانقطاع فإنه لم يسمع من ابن عمر، وإن كان غيره فهو مجهول، والله تعالى أعلم.

أبي إسحاق، عن سعيد بن نِمْرَان، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: النَّظَرُ إلى وَجْهِ اللهِ - عز وجل - (¬1). (98) حدثنا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَن سُفْيَانَ، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عَن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عن مُسْلِمِ بنِ يَزِيدَ، عن حُذَيْفَةَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: النَّظَرُ إِلى وَجْهِ اللهِ - عز وجل - (¬2). (99) حدثنا يحيى الحِمَّانِيُّ، وسُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قالا: حدثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: «الحُسْنَى؛ الجنة، والزيادة؛ النظر إلى وجه الله - عز وجل -، لا يصيبهم بعد النظر إليه قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الدارقطني في رؤية الله (221)، والطبري في التفسير (15/ 68). وهذا إسناد ضعيف لجهالة سعيد بن نمران، كما قال الحافظ في لسان الميزان، والسبيعي مدلس وقد عنعن. وقد أخرج هذا الأثر من رواية أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر، دون ذكر ابن نمران: إسحاق بن راهويه في مسنده (1424)، والطبري في التفسير (15/ 63)، وهناد في الزهد (170)، وابن أبي عاصم في السنة (473)، وعبد الله بن أحمد في السنة (471)، وغيرهم وهو ضعيف أيضًا؛ فرواية عامر بن سعد هو البجلي عن أبي بكر مرسلة، وعامر مقبول، ولم يتابعه أحد، وقد أعل الدارقطني الرواية الأولى بتلك الرواية المرسلة وقال وهي المحفوظة، كما في العلل (73). (¬2) ضعيف، أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (1424)، وهناد في الزهد (170)، وابن أبي عاصم في السنة (473)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (346)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 452)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (783)، والدارقطني في الرؤية (224)، وغيرهم، من طريق أبي إسحاق السبيعي، به، دون ذكر عامر بن سعد، فأخشى أن يكون ذكر عامر هنا خطأ، وعلى كل فأبو إسحاق السبيعي مدلس وقد عنعن، ومسلم بن يزيد ويقال نذير؛ قال الحافظ مقبول. (¬3) صحيح، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1144)،وابن خزيمة في التوحيد (2/ 449)، = = واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (792)، والدارقطني في الرؤية (233)، جميعا من حديث ثابت البناني، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

(100) حدثنا عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن جُوَيْبِر، عن الضَّحَّاك {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: «النظر إلى وجه الله - عز وجل -» (¬1). (101) حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا فُضَيْلٌ يعني ابن عِيَاضٍ، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] قال: «الزيادة؛ النظر إلى وجه ربهم - عز وجل -» (¬2). (102) حدثنا يحيى الحماني، حدثنا وَكِيعٌ، عن أبي بَكْرٍ الهُذَلِيِّ، عن أبي تَمِيمَةَ الهُجَيْمِيِّ، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: «الزِّيَادَةُ؛ النَّظَرُ إلى وَجْهِ الرَّبِّ» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف جدًا، أخرجه الدارقطني في الرؤية (244)، وفيه جويبر بن سعيد متروك الحديث، والضحاك هو ابن مزاحم. (¬2) صحيح، أخرجه الطبري في التفسير (15/ 63)، وعبد الله بن أحمد في السنة (472، 1145)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 452)، والدارقطني في الرؤية (237)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (792، 793)، جميعا من طريق أبي إسحاق، به. وهذا إسناد صحيح إلى عامر بن سعد، والسبيعي وإن كان مدلسًا، فقد روى عنه شعبة، كما عند عبد الله بن أحمد، وشعبة لا يروي عن مثل أبي إسحاق إلا ما كان متحققا فيه من سماعه، كما تقدم في تخريج الحديث رقم (57). (¬3) ضعيف جدًا، أخرجه إسحاق في مسنده (1425)، ونعيم بن حماد في زوائده على الزهد لابن المبارك (419)، وهناد في الزهد (169)، والطبري (15/ 64)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (786)، والدارقطني في الرؤية (54)، من حديث أبي بكر الهذلي، به. وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ لأجل أبي بكر الهذلي، قال الذهبي: واه، وقال الحافظ: متروك الحديث. قلت: وقد توبع؛ تابعه أبان بن أبي عياش، كما عند اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (782)، والدارقطني في الرؤية (53)، ولكن أبان بن أبي عياش، متروك الحديث هو الآخر، فلم تغن عنا متابعته شيئًا، والله تعالى أعلم.

(103) حدثنا محمد بن المِنْهَال البصري، حدثنا يزيد بن زُرَيْعٍ، عن سليمان التَّيْمي، عن أسلم، عن أبي مُرَيَّةَ، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: رآهم أبو موسى وهم ينظرون إلى الهلال، فقال: كَيْفَ رَبُّكُم إذا رأيتموه جَهْرَةً؟ (¬1) (104) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، عن عطاء بن السَّائِب، عن أبيه، عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، أنه كان يقول في دعائه: ... «الَّلهُمَّ إِني أَسأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ، وشَوْقًا إلى لِقَائِكَ» (¬2). (105) حدثنا شَيْخٌ من أهل بغداد، حدثنا شَرِيكٌ، عن عثمان أبي اليقظان (¬3)، عن أنس بن مالك {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قال: «يَتَجَلَّى لهم كُلَّ جُمُعَةٍ» (¬4). (106) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن جُوَيْبِرَ، عن الضحاك قال: «إن الملائكة إذا أخذوا بأصوات من تحميد وتقديس وثناء على ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (465)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 442)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (862)، وابن عساكر في التاريخ (32/ 68)، من طريق سليمان التيمي، به. وهذا إسناد ضعيف لجهالة حال أبي مُرَيَّة. (¬2) صحيح، تقدم تخريجه رقم (95). (¬3) في الأصل «عثمان بن أبي اليقظان»، وقد وافق محقق المطبوعة الأصل هنا! وما أثبتناه هو الصواب، ينظر تقريب التهذيب (4507). (¬4) ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1226)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (94)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (813). وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة عين شيخ المصنف، وعثمان أبو اليقظان، قال الحافظ: ضعيف واختلط وكان يدلس ويغلو في التشيع.

الله - عز وجل -، فليس شيء أطرب منه ليس (¬1) النظر إلى الله» (¬2). (107) حدثنا محمدُ بنُ منصورٍ الذي يُقالُ له الطُّوسِي من أهل بغداد، حدثنا عَليُّ بنُ شَقِيقٍ، أخبرنا حُسَيْنُ بنُ واقِدٍ، عن يَزِيدَ النحوي، عن عكرمة، «{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] قال: ينظرون إلى الله نَظَرًا» (¬3). (108) حدثنا الزَّهْرَانِيُّ أبو الربيع، حدثنا جَرِيرُ بنُ عبدِ الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن كعب قال: «ما نَظَرَ اللهُ - عز وجل - إلى الجنةِ إلا قال: طِيبِي لأهلك، فزادت طِيبًا على ما كانت، وما مَرَّ يومٌ كان لهم عيدًا في الدنيا؛ إلا يخرجون في مقداره في رياض الجنة، ويبرز لهم الربٌّ ينظرون إليه، وتُسْفِي عليهم الريحُ بالطِّيبِ والمسكِ، فلا يسألون ربهم شيئًا إلا أعطاهم، فيرجعون إلى أَهْلِيهِم وقد ازدادوا على ما كانوا عليه من الحُسْنِ والجمال سَبعينَ ضِعْفًا» (¬4). (109) حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري، أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري، قال: كَتَبَ عمرُ بنُ عبد العزيزِ إلى بَعضِ أُمرَاءِ الأَجْنادِ أما بعد: «فإني أُوصِيكَ بتقوى الله، وطاعتِهِ، والتَّمَسُّكِ بأمره، ¬

(¬1) في المطبوعة غيَّرها إلى «إلا» والمثبت من الأصل، ولعله ظن أن «ليس» ليست من أدوات الاستثناء، وهذا خطأ فإن «ليس» من أدوات الاستثناء المشهورة. (¬2) إسناده ضعيف جدًا، لأجل جويبر فإنه متروك الحديث، والأثر لم أقف له على تخريج. (¬3) صحيح، أخرجه الطبري في التفسير (24/ 72)، وعبد الله بن أحمد في السنة (481)، ... واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (803)، وغيرهم من طريق علي بن الحسن بن شقيق، به، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وقد صححه الحافظ في الفتح (13/ 424). (¬4) ضعيف، والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 379)، وفي صفة الجنة (21)، والآجري في الشريعة (614) وغيرهما، من طريق زياد بن أبي زياد، وهو ضعيف الحديث، رديء الحفظ.

والمعاهدة على ما حملك الله من دينه، واسْتَحْفَظَكَ من كتابه، فإن بتقوى الله؛ نجا أولياؤُهُ من سخطه، وبها يَحِقُّ لهم ولايته، وبها وافقوا أنبياءَهُ، وبها نُضِّرَت وُجُوهُهُم، ونظروا إلى خالقِهِم» (¬1). قال أبو سعيد رحمه الله: فهذه الأحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية، على تصديقِهَا، والإيمانِ بها، أدركنا أهلَ الفِقهِ والبَصَرِ من مشايخنا، ولم يزل المسلمون قديمًا وحديثًا يَرْوُونهَا، ويؤمنون بها، لا يستنكرونها، ولا يُنْكِرُونها، ومن أنكرها من أهل الزَّيْغِ؛ نسبوه إلى الضلال، بل كان من أكبر رجائِهم، وأجزل ثواب الله في أنفسهم؛ النَّظَرُ إلى وجه خالقهم، حتى ما يَعْدِلُونَ به شيئًا من نعيم الجنةِ. وقد كَلَّمتُ بعضَ أولئك المُعطِّلة وحدثته ببعض هذه الأحاديث، وكان ممن يَتَزَيَّنُ بالحديثِ في الظاهر، ويدَّعِي مَعْرِفَتُهَا، فأنكر بعضًا وردَّ ردًّا عنيفًا. قلت: قد صَحَّت الآثارُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَمَنْ بعده من أهل العلم، وكِتَابُ الله الناطق به، فإذا اجتمع الكتابُ وقولُ الرسولِ وإجماعُ الأُمةِ؛ لم يَبْق لِمُتَأَوِّلٍ عندها تَأَوُّلٌ، إلا لمكابرٍ، أو جاحدٍ، أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] وقوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففون: 15] ولم يقل للكفار محجوبون، إلا وأن المؤمنين لا يُحْجَبُون عنه، فإن كان المؤمنون عندكم محجوبين عن الله كالكفار؛ فَأَيُّ تَوْبِيخٍ للكفار في هذه الآية، إذا كانوا هم والمؤمنون جميعًا عن الله يومئذ محجوبون؟! وأَمَّا قولُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فقوله: لا تضامون في رؤيته، كما لا تضامون في ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 278)، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري، قال الحافظ ضعيف، وقال البخاري منكر.

رؤية الشمس والقمر في الصحو، ثم ما رَوَيْنَا عن هذه الجماعة من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتابعين، فهل عندكم ما رد ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة؟ فَاحْتَجَّ بحديث أبي ذَرٍّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نُورٌ أَنَّى أراه، فقلت: هذا في الدنيا، وكِلاهُما قد قاله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفسيرهما بَيَّنٌ في الحديثين جميعًا، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: من زعم أن محمدًا رأى ربه - عز وجل - فقد أعظم على اللهِ الفِرْيَة، وتَلَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]. (110) حدثناه عمرو بن عون، عن هشيم، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة (¬1). قال أبو سعيد: وأنتم وجميعُ الأُمَّةِ تقول به، إنه لم ير ولا يُرَى في الدنيا، فأما في الآخرة، فما أكبر نعيم أهل الجنة إلا النظر إلى وجهه، والخَيْبَةُ لمن حُرِمَه، وما تعجبون من أن كان الله ولا شيء من خلقه، ثم خَلَق الخَلْقَ، ثم استوى على عرشه فوق سماواته، واحتجب من خلقه بِحُجُب النَّارِ والظُّلْمةِ كما جاءت به الآثار، ثم أرسل إليهم رُسُلَه يُعَرِّفُهُم نَفْسَه بصفاته المقَدَّس، لِيَبْلُوا بِذلك إيمانهم، أَيُّهُم يؤمن به، ويعرفه بالغيب ولم يره، وإنما يجزى العباد على إيمانهم بالله بالغيب؛ لأن الله - عز وجل - لو تَبَدَّى لخلقه، وتجلى لهم في الدنيا، لم يكن لإيمان الغَيْبِ هناك معنى، كما أنه لم يكفر به عندها كافر، ولا عصاه عاصٍ، ولكنه احتجب عنهم في الدنيا، ودعاهم إلى الإيمان به بالغيب، وإلى معرفته، والإقرار ¬

(¬1) صحيح، تقدم تخريجه رقم (53).

بربوبيته؛ ليؤمن به من قد سبقت له منه السعادة، ويحق القول على الكافرين، ولو قد تجلى لهم لآمن به من في الأرض كلهم جميعًا بغير رسل، ولا كُتُبٍ، ولا دُعاة، ولم يعصوه طرفةَ عين، فإذا كان يوم القيامة، تجلى لمن آمن به، وصدَّق رسله وكتبه، وآمن برؤيته، وأقرَّ بصفاته التِي وصف بها نفسه حتى يروه عيانًا، مَثُوبة منهم لهم، وإكرامًا، ليزدادوا -بالنظر إلى من عبدوه بالغيب- نَعيمًا وبرؤيته فرحًا واغتباطًا، ولم يُحْرَمُوا رؤيتَه في الدنيا والآخرة جميعًا، وحجب عنه الكفار يومئِذٍ، إذ حُرِمُوا رؤيتَه كما حُرِمُوهَا في الدنيا؛ ليزدادوا حسرةً وثُبُورًا. فَاحْتَجَّ مُحْتَجٌ منهم بقول الله تعالى لموسى {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]. قلنا: هذا لنا عليكم لا لكم، إنما قال لن تراني في الدنيا؛ لأن بَصَر موسى من الأبصارِ التي كتب الله عليها الفناء في الدنيا، فلا تحتمل (¬1) النظر إلى نور البقاء، فإذا كان يومُ القيامةِ رُكِّبَتِ الأبصارُ والأسماعُ للبقاء، فاحتملت النظر إلى الله - عز وجل - بما طَوَّقَها الله، ألا ترى أنه يقول {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}، ولو قد شاء لاستقر الجبلُ ورآه موسى، ولكن سَبَقتْ منه الكَلِمة، أن لا يَراهُ أحدٌ في الدنيا؛ فلذلك قال: {لَنْ تَرَانِي}، فأما في الآخرة، فإن الله تعالى يُنْشِئُ خلقَهُ فَيُرَكِّبُ أَسماعَهُم وأَبْصَارَهُم للبقاء، فيراه أولياؤُه جَهرًا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: إنا لا نقبل هذه الآثار ولا نحتج بها، قلت: أجل ولا كتاب الله تقبلون، أرأيتم إن لم تقبلوها، أَتَشُكُّونَ أَنها مَرْويَّةٌ عن السَّلفِ مَأْثُورةٌ ¬

(¬1) في المطبوعة «تحمل» والمثبت من الأصل.

عنهم، مستفيضةٌ فيهم، يَتَوَارَثُونها عن أعلام الناس وفُقَهَائِهِم قَرنًا بعد قرن؟ قالوا: نعم. قلنا: فحسبنا إقراركم بها عليكم حجة، لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولتها العلماء والفقهاء، فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كَذَّبَتْها الآثارُ كُلُّهَا، فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولا أثر، وقد علمتم إن شاء الله أنه لا يَسْتَدرِكُ سُنَنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ وأحكامِهم وقضاياهُم، إلا بهذه الآثار والأسانيد على ما فيها من الاختلاف، وهي السبب إلى ذلك، والنهج الذي دَرَجَ عليه المسلمون، وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله - عز وجل -، منها يقتسمون (¬1) العلم وبها يقضون، وبها يُقِيمُون، وعليها يعتمدون، وبها يتزينون، يرثها الأول منهم الآخر، ويبلغها الشاهد منهم الغائب، احتجاجًا بها، واحتسابًا في أدائها إلى من لم يسمعها، يسمونها السُّنَنَ والآثار والفقه والعلم، ويضربون في طلبها شرقَ الأرضِ وغربها، يُحِلُّونَ بها حلالَ اللهِ ويحرمون بها حرامه، ويميزون بها بين الحقِّ والباطل، والسُّنَنِ والبِدَعِ، ويستدلون بها على تفسير القرآن، ومعانيه، وأحكامه، ويَعْرِفُونَ بها ضَلالةَ مَنْ ضَلَّ عن الهُدَى، فمن رغب عنها؛ فإنما يَرْغَبُ عن آثارِ السَّلَفِ، وهَدْيِهِم ويريد مخالفتهم؛ لِيَتَّخِذَ دينَه هواه، وليتأول كتابَ اللهِ برأيه خلاف ما عنى الله به. فإن كنتم من المؤمنين، وعلى منهاج أَسْلاَفِهِم؛ فاقْتَبِسُوا العلم من آثارهم، واقتبسوا الهدى في سبيله، وارضوا بهذه الآثار إمامًا كما رضي بها القومُ لأنفسهم إمامًا، فَلَعَمْرِي ما أنتم أَعْلَمُ بكتابِ الله منهم، ولا مثلهم، ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على ما ترون، فمن لم يقبلها؛ فإنه يريد أن يتبع ¬

(¬1) في المطبوعة «يقتبسون» والمثبت من الأصل.

غير سبيل المؤمنين، وقال الله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} ... (¬1) [النساء: 115]. فقال قائل منهم: لا، بل نقول بالمعقول. قلنا: هاهنا ضللتم عن سواء السبيل، ووقعتم في تِيِهٍ لا مخرجَ لكم منه؛ لأن المعقول ليس لشيءٍ واحدٍ موصوفٌ بحدود عند جميع الناس، فَيُقْتَصَرُ عليه، ولو كان كذلك؛ كان راحة للناس، ولقلنا به، ولم نعد، ولم يكن الله تبارك وتعالى قال: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون: 53] فوجدنا المعقول عند كل حزب ما هم عليه، والمجهول عندهم ما خالفهم، فوجدنا فِرَقَكُم معشر الجهمية في المعقول مختلفين، كُلُّ فرقةٍ منكم تَدَّعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه، والمجهول ما خالفها، فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بَيِّنٍ في كل شيء؛ رأينا أرشدَ الوجوهِ وأهداها أن نَرُدَّ المعقولات كُلَّهَا إلى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى المعقولِ عند أصحابه المستفيض بين أَظْهُرِهِم؛ لأن الوحيَ كان يَنْزِلُ بين أَظهرهم، فكانوا أعلم بتأويله مِنَّا ومنكم، وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يفترقوا فيه، ولم يظهر فيهم البدع، والأهواء الحائدة عن الطريق، فالمعقول عندنا ما وافق هَدْيَهُم، والمجهول ما خالفهم، ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقتهم، إلا هذه الآثار، وقد انسلختم منها وانتفيتم منها بزعمكم، فَأَنَّى تهتدون؟ واحتج محتج منهم بقول مجاهد: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] قال: تنتظر ثواب ربها. قلنا: نعم تنتظرُ ثوابَ ربِّهَا، ولا ثواب أعظم من النظر إلى وجهه تبارك وتعالى. ¬

(¬1) في الأصل: ومن يتبع غير سبيل المؤمنين، وهو خطأ.

فإن أَبَيْتُم إلا تَعَلُّقًا بحديثِ مجاهد هذا، واحتجاجًا به دون ما سواه من الآثار؛ فهذا آيةُ شُذُوذِكُم عن الحق، واتباعكم الباطل؛ لأن دعواكم هذه لو صَحَّت عن مجاهد على المعنى الذي تذهبون إليه؛ كان مَدْحُوضً (¬1) القَوْلُ إِليه، مع هذه الآثار التي قد صَحَّتْ فيه عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، وجماعة التابعين. أَوَلَسْتُمْ قد زَعَمْتُم أنكم لا تَقْبَلُونَ هذه الآثارَ، ولا تَحْتَجُّونَ بها، فكيف تحتجون بالأثرِ عن مُجاهد إِذْ وَجَدتُّم سبيلًا إلى التَّعَلُّق به لباطلكم على غير بَيَانٍ؟ وتَركْتُم آثَارَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، والتَّابعين؛ إِذْ خَالَفَتْ مَذْهَبَكُم، فَأمَّا إذ أقررتم بِقَبُولِ الأَثرِ عن مجاهد، فقد حَكَمْتُم على أَنْفُسِكُم بقبولِ آثارِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، والتابعين بعدهم؛ لأنكم لم تسمعوا هذا عن مجاهد، بل تَأْثُرُونَه عنه بإسناد، وتَأْثُرُونَ بأسانيد مثلها، أو أَجْوَدَ منها عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعن أصحابه، والتابعين، ما هو خلافه عندكم، فكيف أَلْزَمْتُم أَنفسكم اتِّبَاعَ المُشْتَبَهِ مِنَ آثارِ مُجَاهِدٍ وَحْدِهِ، وتَركْتُم الصَّحِيحَ المنصوص من آثارِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ونُظَرَاءِ مجاهد من التابعين؟ إلا مِنْ رِيبةٍ وشُذُوذٍ عَن الحَقِّ. إن الذي يُريدُ الشذوذَ عن الحق يتبعُ الشَّاذَ من قول العلماء، ويتعلق بِزلاتهم، والذي يَؤُمُّ الحقَّ في نفسه، يتبعُ المشهورَ من قول جماعتهم، وينقلب مع جمهورهم، فَهُمَا آيتان بَيِّنَتَان يُسْتَدَلُّ بهما على اتباع الرَّجُلِ، وعلى ابتداعه. * * * ¬

(¬1) الجادة «مدحوضًا» والمثبت جائز على لغة ربيعة التى حكاها ابن مالك في «كتابه شواهد التوضيح» (ص 49)، ومفادها جواز الإضراب عن إثبات الألف المبدلة من تنوين النصب.

باب ذكر علم الله تبارك وتعالى

بَابُ ذِكْرِ عِلْمِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى (111) حدثنا نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ، حدثنا ابن أبي حازم يعني عبد العزيز، عن العلاء بن عبد الرحمن الحُرَقِيِّ، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَبَقَ عِلْمُ اللهِ في خَلْقِهِ فَهُمْ صَائِرُونَ إِلَى ذَلِك» (¬1). (112) حدثنا نُعيم، حدثنا ابن المبارك، حدثنا الأَوْزَاعِي قال: أخبرني رَبيعةُ بنُ يَزيدَ، عن عبد الله بن الدَّيْلَمِي، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ - عز وجل -» (¬2). قال أبو سعيد: وما لنا نرى أن يَبْلُغَ غَدًا قومٌ في تَعْطِيلِ صفاتِ الله ما بَلَغَ بهذه العِصَابَةِ عَدلهم في تَعْطِيلِهَا، حَتَّى أنكروا سَابِقِ عِلْمِ اللهِ في خَلْقِهِ، وما الخَلْقُ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوا. ثم قالوا: ما نقول إن الله من فوق عرشه، يعلمُ ما في الأرض، ولكن عِلْمُ اللهِ هو اللهُ -بزعمهم- واللهُ -بزعمهم- في كل مكان ليس له عِلْمٌ، به يعلم، ولا هو يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، ولا يُبْصِرُ بِبَصَرٍ، إنما سَمْعُهُ وبَصَرُهُ وعِلْمُهُ -بزعمهم- شيءٌ واحدٌ، فلا السَّمْعُ عندهم غَيْرَ البَصَرِ، ولا البَصرُ غَيْرَ السَّمْعِ، ولا العِلمُ ¬

(¬1) إسناده محتمل للتحسين، أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (677)، من طريق المصنف، به، فجميع رجاله خلا عبد الرحمن الحرقي، لا يرقى عن أن يكون صدوقًا. (¬2) صحيح، أخرجه الترمذي (2642)، وأحمد (6644)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1172)، وابن أبي حاتم في التفسير (17932)، وابن أبي عاصم في السنة (241، 243)، وغيرهم، من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي، به، وإسناده صحيح رجاله ثقات، غير نعيم بن حماد، فإنه صدوق يخطئ كثيرًا كما ذكر الحافظ، غير أنه توبع؛ تابعه أحمد بن جميل المروزي أبو يوسف، كما عند عبد الله بن أحمد في السنة، وأحمد بن جميل، صدوق.

غيرَ البَصَرِ، هو كله -بزعمهم- سَمْعٌ وبَصَرٌ وعِلْمٌ، وهو بكليته في كل مكان إن عَلِمَ؛ بِكُلِّهِ، وإِنْ سَمِعَ؛ سَمِعَ بِكُلِّهِ، وإنْ رَأى؛- رَأَى بِكُلِّهِ. ويزعمون أن علمَ اللهِ بمنزلةِ النَّظرِ والمشاهدة، لا يعلم بالشيءِ حتَّى يكون، فإذا كان الشيء عَلِمَ به عِلْمَ كينُونَتِهِ، لا بِعِلْمٍ لم يَزَلْ في نفسه قبل كينونته، ولكن إذا حدث الشَّيءُ؛ كان هو عند الشيءِ، ومعه الشيء بنفسه، فإن أراد ذلك الشيءَ؛ كان هو يَدُلُّ الشيءَ -بزعمهم- من مكانه، فَذَلِكَ إحاطة عِلْمِ اللهِ بالأشياء عندهم، لا أن يكون عَلِمَ بشيءٍ منها في نفسه قبل كينونته، فتبارك ربُّ العالمينَ وتَعَالى عمَّا يَصِفُونَ. هذا هو الردُّ لكتابِ اللهِ، والجحودُ لآياتِ الله، وصاحبُ هذا المذهب؛ يُخْرِجُهُ مَذْهَبُهُ إلى مَذْهَبِ الزَّنْدَقَةِ، حَتَّى لا يُؤْمِنُ بِيَومِ الحِسَابِ؛ لأَنَّ الذي لا يُقِرُّ بالعِلْمِ السَّابِق بالأشياء قبل أن تكون، يَلْزَمُهُ في مَذْهَبِهِ أَنْ لا يؤمنُ بِيَومِ الِحسابِ وبقيامِ السَّاعةِ والبَعْثِ والثَّوابِ والعِقَابِ؛ لأن العِبَادَ إِنَّما لَزِمَهُم الإيمانُ بها لإخبار الله بأن الساعةَ آتيةٌ لا رَيْبَ فيها، وأن الله يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ، وأنه مُحَاسِبُهُم يومَ الحِسَابِ، مُثِيُبُهم ومُعَاقِبُهُم. فإذا كان الله -بزعمهم- لا يعلمُ بالشَّيءِ حتى يكون، وكيف (¬1) عَلِمَ -في مذهبهم- بقيام الساعة، والبعث؟! ولم تقم الساعةُ بعد، ولا تقوم إلا بعد فناءِ الخلقِ، وارتفاعِ الدُّنيَا. فإن أَقَرُّوا لله بِعِلمِ قِيَامِ السَّاعَةِ والبَعْثِ والحساب؛ لَزِمَهُم أن يُقِرُّوا له بعلم كُلِّ شَيءٍ دُونَها، فإن أنكروا عِلْمَ اللهِ - عز وجل - بما دونها؛ لَزِمَهُم الإنكار بها ¬

(¬1) قوله «وكيف» في المطبوعة حذف حرف الواو مع إقراره أنها في الأصل.

وبقيامها وبالبعث والحساب؛ لأن عِلْمَهُ بِالسَّاعَةِ، كَعِلْمِهِ بِالخَلْقِ، وأَعْمَالِهم سواء، لا يزيد ولا ينقص، فمن لم يؤمن بأحدهما؛ لزمه أن لا يؤمن بالآخر، وهي من أوضحِ الحُجَجِ وأَشَدِّها على مَنْ رَدَّ العلم وأنكره. واعلموا أن الله - عز وجل - لم يَزَلْ عَالِماً بِالْخَلْقِ وأَعْمَالِهم قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم، ولا يَزَالُ بِهِم عَالِماً لم يَزْدَدْ في عِلْمِهِ بِكَيْنُونَةِ الخَلْقِ خَرْدَلَةً واحدةً، ولا أقلَّ منها ولا أكثر، ولكن خَلَقَ الخَلْقَ على ما كان في نفسه قبل أن يَخْلُقَهُم، ومن عنده بدأ العِلْمُ، وهو عَلَّمَ الخلقَ ما لم يعلموا، فقال تبارك وتعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 5] وقال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30] فبلغنا في تفسيره عن مجاهد قال: عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ المعصيةَ، وخَلَقَهُ لها. (113) حدثناه نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ، حدثنا ابنُ المباركِ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ (¬1). قال أبو سعيد: ولَعَمْرِي ما عَلِمَتِ الملائِكَةُ بِسَفْكِ الدِّماء، والفساد غَيْبًا من قِبَلِ أَنْفُسِهِم، ولَكِنْ عَلَّمَهُم ذلك عَلاَّمُ الغُيُوبِ قَبْلَ أن يقولوا، ولذلك ادَّعَوا مَعْرِفَتَهُ. ¬

(¬1) صحيح لغيره، أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (344)، والطبري في التفسير (628، 633، 635)، وغيرهم، عن مجاهد، وهذا إسناد ضعيف نعيم بن حماد تقدم الكلام عليه لكنه توبع، تابعه سويد بن نصر كما عند الطبري، وسويد ثقة، وابن جريج كان مدلسًا ولم يصرح بالسماع، وفي سماعه التفسير من مجاهد مقال، لكن قد روي هذا المتن عن مجاهد بإسناد صحيح، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (938)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (959)، من حديث علي بن بذيمة، عن مجاهد، به.

وقال أيضًا: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} [البقرة: 31 - 33] فأخبر الله تبارك وتعالى أنه هو الذي عَلَّمَ آدمَ والملائكة العِلمَ من غَيْرِ أن يعلموا شيئًا منه، وأَقَرَّتِ الملائِكةُ بذلك وردَّت العِلْمَ كُلَّهُ إلى من بدأ منه فقالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} فهل عَلَّمَهُم إِلا مَا قَد عَلِمَهُ قبل ذلك؟! وقال فيما أنزله على رسوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} [النساء: 17] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22] {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12] {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)} [الأنعام: 3] {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه: 7] قال: ما لم تحدث به نفسك. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19] فأخبر اللهُ سبحانه أنه كان العَالِمُ قَبْلَ كُلِّ أحدٍ، ومنه بدأ العِلمُ، قال: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} [الرعد: 43]. وقال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] جاءه العلم من الله، وهو القرآن، ثم أخبر بعلمه السابق في عباده قبل أن يعلموا، فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} الآية [الجاثية: 23]. وقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ

وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} [سبأ: 3]. وقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} [المائدة: 116] {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235] {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية [المزمل 20]. وما أشبه هذا من كتاب الله كثير، ولو لم يكن منها في كتابِ اللهِ إلا حَرْفٌ واحدٌ لاكْتُفِىَ به حجةٌ بالِغَةٌ، فكيف والكتابُ كُلُّه ينطق بنصه يستغنى فيه بالتنزيل عن التفسير، وتعرفه العامة والخاصة. فلم تزل عليه الأُمَّةُ، إلى أن نَبَغَتْ هذه النابغة بين أظهر المسلمين، فأعظموا في الله القول، وسبوه بأقبح السِّبَابِ وجَهَّلُوُهُ، ونَفَوا عنه صفاته التي بها يُعرف صِفَةً صفة، حتى نَفَوا عنه العِلْمَ الأول السابق، والكلام، والسمع والبصر، والأمرَ كُلَّهُ، ثم جعلوه كَلاَ شَيْءٍ. فقالوا في الجملة: ما نعرف إلهاً غير هذا الذي في كل مكان، فإذا باد شيءٌ صار مكانه، فنظرنا في صفة معبودِهِم هذا، فلم نجد بهذه الصفة شيئًا غير هذا الهواء القائِمُ على كلِّ شيءٍ، الداخِلُ في كلِّ مكانٍ، فمن قصد بعبادته إلى إلهٍ بهذه الصفة؛ فإنما يعبدُ غيرَ اللهِ، وليس مَعْبُودُهُ ذاك بإله -كُفْرَانَهُ لا غُفْرَانَهُ-. فاحذروا هؤلاء القوم على أنفسكم، وأهليكم، وأولادكم؛ أن يفتنوكم أو يكفروا صدوركم بالمغاليط والأضاليل، التِي تشتبه على جُهَّالِكُم فإن الله تعالى قال في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].

فإن جَحَدَ منهم جَاحِدٌ وانْتَفَى مِنْ بَعْضِ ما حَكَيْنَا عَنْهُم، فلا تُصَدِّقُوهُم، فإنه دِينُهُم الذي يَعْتَقِدُونَهُ في أنفسهم، لا يَجْحَدُ ذَلِكَ مِنهُم إلا مُتَعَوِّذٌ مُسْتَتِرٌ، أو جاهلٌ بمذاهبهم لا يَتَوَجَّهُ بشيء منها، فقد اعترف لنا بذلك بعضُ كُبَرائِهم أو بما يشبه معناه، وأسندوا بعض ذلك إلى بعضِ المُضِلِّين من أشياخهم، فإلى اللهِ اشْكُوا رَأْيًا هذا تَأْوِيلُهُ، وقَوْمًا هذا إِبْطَالهُم لِعِلْمِ رَبِّنَا. واللهِ لقد عَلِمَتِ الملائِكَةُ بما عَلَّمَهُمُ اللهُ ما هو كائنٌ من بني آدم من الفساد، وسَفْكِ الدِّمَاءِ قَبْلَ أن يُخْلَقُوا، فكيف خَالِقُهُم الذي عَلَّمَهُم ذلك؟ فقالوا: ... {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. ووصف الله هذه الأمة في التوراة والإنجيل قبل أن يُخْلَقُوا بصفاتهم، فكيف وصفهم من غير علم له بهم؟ فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 156 - 157]. فَهَلْ كَانَ هَذا الوَصْفُ مِنَ اللهِ والإِخْبَارُ عَنْهُم، إلا لِعِلْمِهِ السَّابِق فيهم، فما قَدَرُوا أَنْ يَتَعدَّوا هذه الصفات ولا يَقْصُرُوا عن شيء مما وصفهم الله به قبل

أن يكونوا، وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} [الأنبياء: 105] فكتب ذلك بعلم قبل أن يرثوها. وقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} [الإسراء: 4] قضى عليهم في الكتاب الإفساد في الأرض قبل أن يفسدوا، وقوله وقضينا، قال مجاهد: كتبنا. (114) كذلك حدثنا نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد (¬1). وقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101] سبقت لهم الحسنى من الله قبل أن يُخْلَقُوا، لِعِلْمِ الله فيهم فما استطاعوا أن يَتَعَدَّوا شيئًا عَلِمَهُ الله فيهم. وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]. وأخبر عن أَعْمَالِ قومٍ قَبْلَ أن يَعْمَلُوهَا، قال: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} [هود: 48] فأخبر الله تعالى بِتَمْتِيعِهِم، ومَسِّ العذابِ إِيَاهُم قَبْلَ أن يُخْلَقُوا. قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] روي في بعض التفسير؛ أنهم الأعاجم، أخبر الله بدخولهم في الإسلام قبل أن يدخلوا. وقال لأهل بدر حين أخذوا الفداء من المشركين: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 68] يقول: لولا ما سبق ¬

(¬1) إسناده ضعيف كسابقه، ولم أقف له على تخريج.

لأهل بدر من السعادة؛ لمسهم العذابُ، في أَخْذِهِمُ الفِدَاءَ، فلم يقدر أهلُ بَدْرٍ أن لا يأخذوه، ولو حرصوا على تركه. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96 - 97]، وقال: ... {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)} [الأنعام: 28] وقال: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} [الدخان: 15 - 16]. وقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]، فسبقت لهم منه الرحمة قبل أن يخلقوا، والدعاء لمن سبقهم قبل أن يدعوا. وقال: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)} [الدخان: 23 - 24] فأخبر الله باتِّبَاعِهِم، وإغراقهم قبل أن يكون. وقال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119] فأخبر باختلافهم قبل أن يختلفوا. وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} [الجن: 26 - 28]. وقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)

وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22 - 23] ولكن، عَلِمَ منهم غيرَ ذلك؛ فصاروا إلى ما عَلِمَ منهم. وأخبر بعلمه في قوم، فقال: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)} [يس: 10]. وأخبر عن قوم آخرين فقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: 75]. فَمَنْ آمن بِكتابِ اللهِ وصَدَّقَ رُسُلَ اللهِ؛ اكتفى ببعض ما ذكرنا في علم الله السابق في الخلق، وأعمالهم قبل أن يعملوها، ومن يُحْصِي ما في كتاب الله، وفي آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، والتابعين، في إثبات علم الله له والإقرار به، ويكفي في معرفة ذلك أَقَلُّ مما جمعنا، ولكن جمعناها لِيَتَدَبَّرَهَا أهلُ العُقُولِ والأَفْهَامِ؛ فيعرفوا ضلالة هؤلاء الذين أَخْرَجُوا اللهَ من العِلْمِ ونفوه عنه، وجعلوه في العلم والمعرفة كالخلق سواء، فقالوا: كما لا يَعْلَمُ الخَلْقُ بالشيءِ قبل أن يكون، فكذلك الله -بزعمهم- لا يعلمُ قَبْلَ أن يكون، فما فَضْلُ علاَّمِ الغُيُوبِ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى على المخلوق الذي لا يعلمُ شيئًا، إلا ما عَلَّمَهُ اللهُ. وهذا المذهب الذي ادعوه في علم الله قد وافقهم على بعضه بعضُ المُعْتَزِلةِ؛ لأنه لا يبقى مذهبُ الفريقينِ جميعًا إلا بِرَدِّ عِلْمِ الله، فكفى به ضلالاً، ولأنهم متى ما أقروا بعلم سابق؛ خُصِمُوا، كذلك قال عمر بن عبد العزيز. (115) حدثنا نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ، عن ابن المبارك، عن مَعْمَرٍ، عن زيد بن رُفَيْعٍ الجَزَرِي، عن عُمرَ بنِ عبد العَزِيزِ قال: «مَنْ أَقَرَّ بِالعِلمِ فَقَدْ خُصِم» (¬1). ¬

(¬1) حسن، نعيم بن حماد فيه مقال كما تقدم، والأثر أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (948) = = واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1325)، وابن عساكر في التاريخ (48/ 208)، من طريق أبي جعفر عمير بن يزيد الخطمي، عن عمر بن عبد العزيز، بنحوه، وإسناد الخطمي لا بأس به، فالأثر بهذا الطريق حسن إن شاء الله.

قال أبو سعيد رحمه الله: فتأويلُ قَولِهِم ومَذْهَبِهِم أنه كُلَّمَا حدث لله خَلْقٌ، حَدَثَ له علمٌ بِكَينُونَتِه، عِلْمٌ لم يَكُنْ عَلِمَهُ، ففي تأويلهم هذا، كان اللهُ ولا علم له -بزعمهم- حتى جاءَ الخَلْقُ فَأَفَادُوهُ عِلمًا، فكلما حَدَثَ خَلْقٌ حدث لله علمٌ -بزعمهم- فهو بما كان -بزعمهم- عَالِمٌ، وبما لم يكن غيرُ عالمٍ حتى يكون، فتعالى الله عما يصفون. قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية [لقمان: 34] وقال: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)} [الملك: 26] وقال: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 187] وقال: ... {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه: 52]. فَكَيفَ يَحْدُثُ للهِ عِلْمٌ بكينونةِ الخَلْقِ، وعلى عِلْمِهِ السابق فِيهِم خُلِقُوا، وبما كتب عليهم في أُمِّ الكتابِ يعملون لا يزيدون مثقالَ حبَّةٍ ولا ينقصون. قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 52 - 53] وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [الزخرف: 4] وقال: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} [الرعد: 43] وقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22] وقال: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي

كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]. وقال: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. فهل كتب هذه الأشياء قبل كينونتها إلا للعلم بها قبل أن تكون. (116) حدثنا سعيدُ بنُ أبي مريم المصري، أخبرنا الليثُ وهو ابن سعد، حدثني عبد الله بن حَيَّان قال: حدثني عبدُ الوهَّابِ بنُ بُخْتٍ أو ثَعْلَبَةٍ الخَثْعَمِيُّ، عن أبي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ - رضي الله عنه - قال: «أيها الناس لا يَشْتَبِهُ عليكم بأن اللهَ عَلِمَ عِلْمًا وخَلَقَ خَلْقًا، فإن كان العِلْمُ قبل الخَلْقِ، فالخَلْقُ يَتْبَعُ العِلْمَ، وإن كان الخَلْقُ قَبْلَ العِلْمِ، فالعِلْمُ يَتْبَعُ الخَلْقَ» (¬1). (117) قال ابنُ أبي مريم، وأخبرنا ابنُ لَهِيعَةَ، عن عبد الله بن حيان، عن عبد الوهاب بن بخت، عن أبي أمامة، مثله (¬2). قال أبو سعيد: فَادَّعَتْ هذه العِصَابةُ أنَّ الخَلْقَ قبل العلم، والعلم يتبع الخلق، فَأَيُّ ضَلاَلٍ أَبْيَن من هذا، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أَوَّلَ شيءٍ خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فقال له: اكتُبْ، فَكَتَبَ كُلَّ شيءٍ يكون. قال أبو سعيد رحمه الله: فلم يَدْر واللهِ القَلَمُ بما يجري، حَتَّى أجراه اللهُ بِعِلْمِهِ، وعَلَّمَهُ ما يَكْتُب مما يكون قبل أن يكون. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كَتَبَ اللهُ مَقَاديرَ أهلِ السَّماواتِ والأرضِ قَبْلَ أن يَخْلُقَهُم بخمسينَ ألفَ سَنةِ، فهل كتب ذلك إلا بما علم؟! فما موضعُ كتابِ ¬

(¬1) ضعيف، لجهالة حال عبد الله بن حيان، ولم أقف على من أخرجه غير المصنف. (¬2) ضعيف كسابقه، وفيه أيضا ابن لهيعة، والعمل على تضعيف حديثه.

هذا، إن لم يَكُن عَلِمَهُ في دعواهم، ثم الأحاديثُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يشبه هذا، وعن أصحابه، جُمْلَةٌ كثيرة، أكثر من أن يحصيها كتابُنَا هذا، وسنأتي منها ببعض ما حضر إن شاء الله، مع أَنَّا نَعْلَمُ أنهم يُكَذِّبُونَ بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يؤمنون بها، ولكن خَيْرٌ منهم وأطيب وأفضل وأعلم مِنَ النَّاسِ من يؤمنُ بها فَيَتَّقِيهِم. (118) حدثنا نعيم بن حماد، وأحمد بن جَمِيل، أن ابن المبارك أخبرهم، أخبرنا رَبَاحُ بنُ زَيْدٍ، عن [عُمَرَ] (¬1) بنِ حَبِيبٍ، عن القاسِم بن أبِي بَزَّةَ، عن سعيد بن جُبَيْرٍ، عن ابن عباس ?، أنه كان يُحَدِّثُ أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أولَ شيءٍ خَلَقَهُ اللهُ القَلَمَ، فَأَمرهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيءٍ يَكُونُ» (¬2). (119) حدثنا عبد الله بن صالح المِصْرِي قال: حدثني الليث يعني ابن سعد، عن أبي هَانِئ حُمَيِد بنِ هَانئ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِّي، عن عبد الله بن عمرو? قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ كُلِّ شيءٍ قَبْلَ أن يَخْلُقَ السماواتِ، والأرضَ بخمسينَ ألفَ سَنَةٍ» (¬3). (120) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدُ اللهِ بنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حدثنا بِشْرُ بن نُمَيْرٍ، عن القَاسِم، عن أبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) في الأصل عمرو والمثبت من المصادر. (¬2) صحيح، أخرجه الطبري في التفسير (23/ 526)، وأبو يعلى في مسنده (2329)، وابن أبي عاصم في السنة (108)، والبيهقي في الكبرى (9/ 3)، والضياء في المختارة (361)، وغيرهم، من طريق ابن المبارك، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (¬3) صحيح، أخرجه مسلم (2653)، والترمذي (2156)، وأحمد (6579)، وابن حبان (6138)، وعبد الله بن أحمد في السنة (856)، وغيرهم، من طرق عن أبي هانئ، به.

«خَلَقَ اللهُ الخلقَ، وقضى القَضِيَّة، وأخذ ميثاقَ النبيين، وعرشُهُ على الماء، فأخذ أهلَ اليمينِ بيمينه، وأَخذَ أهلَ الشِّمالِ بيده الأخرى، وكِلْتَا يدي الرحمن يمين، وقال: يا أصحاب اليمين! قالوا: لبيك ربنا وسعديك، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم قال: يا أصحاب الشمال! قالوا: لبيك ربنا وسعديك، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فَخَلَطَ بَعْضَهُم بِبَعضٍ، فقال قائل: ربِّ لم خَلَطت بيننا؟ قال: {لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون: 63] إلى قوله {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف: 172] ثُم رَدَّهُم في صُلْبِ آدمَ، قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلق الله الخلق، وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء، وأهلُ الجنة أَهلُها، وأهلُ النَّارِ أَهْلُها، فقال قائل: يا نبي الله! ما الأعمال؟ قال أن يعملَ كُلُّ قَوْمٍ لمنزلتهم، فقال عُمَرُ إذًا نجتهد، قال: وسُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الأعمال، فقيل يا رسول الله! أرأيت الأعمال، أهو شيءٌ يُؤْتَنَفُ، أو فُرِغَ مِنْهَا؟ قال بل فُرِغَ منها» (¬1). (121) حدثنا نُعَيمُ بنُ حمَّاد، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا المَسْعُودِي، عن عَليِّ بنِ بَذِيمَةَ، عن سَعِيدِ بن جُبَيْر، عن ابن عباس ?، في قوله - عز وجل - {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] قال: «خَلَقَ اللهُ آدمَ، فَأَخَذَ ميثَاقَهُ؛ أَنَّهُ ربُّهُ، وكَتَبَ أَجَلَه، ورِزْقَهُ، ومصائِبَهُ، وأَخْرِجَ ولدَهُ من ظَهْرِهِ كهيئة الذَّرِّ، فأخذ مَوَاثِيقَهُم، أَنَّهُ رَبُّهُم، وكَتَبَ آجَالهم وأرزاقهم ومصائبهم» (¬2). ¬

(¬1) ضعيف جدًا، تقدم تخريجه برقم (14). (¬2) صحيح، أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (8530)، والطبري في التفسير (15348، 15349)، والفريابي في القدر (45)، وغيرهم. وهذا الإسناد فيه نعيم بن حماد، فيه مقال، لكن للأثر طرق أخرى. ثم فيه المسعودي وكان قد اختلط قبل موته، لكن سماع القدماء منه صحيح، وقد روى هذا الأثر عنه من القدماء، كل من، ابن المبارك، ويحيى القطان، ومعاذ بن معاذ.

(122) حدثنا محمدُ بنُ كَثِيرٍ العَبْدِيُّ، حدثنا سُفْيان، عن خالدٍ الحَذَّاء، عن عبد الأَعْلَى، عن عَبْدِ اللهِ بنِ الحَارِثِ، قال: خَطَبَ عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - قال: «إن الله خَلَقَ أهلَ الجنَّةِ، وما هم عَامِلُون، وخَلَقَ أهلَ النَّارِ وما هم عَامِلُونَ، فقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه» (¬1). (123) حدثنا عَمرُو بنُ عَوْن الوَاسِطِيُّ، أخبرنا أبو عَوَانَةَ، عن أبِي بَشْرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيْر، عن ابن عباس ?، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن أطفال المشركين؟ فقال: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، إِذْ خَلَقَهُم» (¬2). (124) حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن المبارك، عن أَيُّوبَ، عن الزُّهْري، عن عطاء، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثله (¬3). (125) حدثنا عمرو بن عون، أخبرنا هُشَيْمٌ، عن خالد وهو الحذاء، عن عبد الله بن شَقِيقٍ، عن [ابن] أبي الجَدْعَاء، قال: قال رجل: يا رسول الله! مَتَى ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (929)، والبيهقي في القضاء والقدر (309)، والفريابي في القدر (42)، وقوام السنة الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (38)، من طريق عبد الأعلى بن عبد الله، به، وهذا الأثر رجاله ثقات، غير عبد الأعلى هذا؛ فإنه كما قال الحافظ مقبول، يعني حيث يتابع، وإلا فلين، وقد تفرد بهذا الأثر، والله أعلم. (¬2) أخرجه البخاري (1383، 6597)، ومسلم (2660)، وأبو داود (4713)، وأحمد (3034، 3165)، وغيرهم من طريق أبي بشر، به. (¬3) صحيح، أخرجه البخاري (1384)، ومسلم (2659)، والنسائي (4/ 58)، وأحمد (7512)، وغيرهم، من طرق عن الزهري، به.

كُتِبْتَ نَبِيًّا؟ قال: «وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجَسَدِ» (¬1). (126) قرأت على أبي اليَمَان، أَنَّ أبا بكر بن أبي مريم الغَسَّانِي حدثه، عن سعيد بن سُوَيْدٍ، عن عِرْبَاض بن سَارِيَة السُّلَمِي - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنِّي عند اللهِ في أُمِّ الكِتَابِ، لخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وإِنَّ آدمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينَتِهِ» (¬2). ¬

(¬1) هذا الحديث ظاهره الصحة، إلا أنه معلول بالاضطراب؛ فقد رواه عبد الله بن شقيق، واختلف عنه، فرواه أحمد (16623)، وابن أبي شيبة في المصنف (37708)، وابن أبي ... عاصم في السنة (411)، وفي الآحاد والمثاني (2918)، والروياني (1513)، وغيرهم، من طرق عن عبد الله بن شقيق، عن رجل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا مرسل، دون ذكر ابن أبي الجدعاء. ورواه أحمد (20596)، والطبراني في الكبير (20/ 353)، والحاكم في المستدرك (2/ 607)، وابن سعد في الطبقات (7/ 59)، وغيرهم من طرق، عنه، عن ميسرة الفجر ... -وهو لقب ابن أبي الجدعاء-، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1614)، والضياء في المختارة (123)، وغيرهم من طرق، عنه، عن ابن أبي الجدعاء، قال سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد سئل الدارقطني عن هذا الحديث كما في العلل (3432)، فذكر الاختلاف فيه، ثم قال: وأشبهها بالصواب؛ المرسل. ورواه الترمذي في العلل الكبير (683 - ترتيب القاضي)، وأظنه رجح الرواية المرسلة، وقد ذكر الحافظ هذا الاختلاف أيضًا في ترجمة ميسرة الفجر من الإصابة، والله أعلم. (¬2) حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف، أخرجه أحمد (17163)، والبزار (4199)، والطبراني في الكبير (18/ 253)، وفي الشاميين (1455)، والحاكم (2/ 600)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 89)، والطبري في التفسير (2071)، وابن أبي عاصم في السنة (409)، وغيرهم، من طريق أبي بكر بن أبي مريم، به، وهذا إسناد ضعيف؛ لأجل ابن أبي مريم؛ فإنه ضعيف، وأما ما ذكره محقق المطبوعة، بأن أعله بسعيد بن سويد، حيث وصفه بالتدليس، ورد على الذهبي، فقال «ولم يذكر العلة الأخرى، وهي عدم تصريح سعيد بن سويد بالسماع، فقد كان مدلسًا» فما أرى هذا إلا من التقليد المذموم، فلم يصف أحدٌ سعيدًا بالتدليس، إلا= = العلامة الألباني رحمه الله، وكان ذلك وهم منه، حيث اختلط عليه الاسم، فنقل ترجمة سويد ابن سعيد الأنباري من الجرح والتعديل، فأخطأ رحمه الله. وسعيد، وثقه ابن حبان، وقال البزار: رجل من أهل الشام ليس به بأس، وذكره البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يجرحاه. وقد تابع أبا بكر بن أبي مريم، في روايته عن سعيد بن سويد؛ معاوية بن صالح، إلا أنه أدخل عبد الأعلى بن هلال بين سعيد بن سويد، وبين العرباض، أخرجه أحمد (17150)، ... وابن حبان (6404)، والطبراني في الكبير (18/ 252)، وفي الشاميين (1939)، وابن أبي حاتم في التفسير (1254)، والطبري في التفسير (2073)، وغيرهم، من طريق معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال، عن العرباض، به، وعبد الأعلى بن هلال، روى عنه اثنان ولم يجرح، فهو لا بأس به، ما لم يخالف، فهذا إسناد حسن إن شاء الله.

(127) حدثنا نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ، حدثنا ابْنُ المُبَارَكِ، أخبرنا حَيْوَةُ بنُ شَرَيْحٍ، قال: أخبرني أبو هَانِئ الخَوْلانِيُّ، أنه سمع أبا عبدَ الرَّحمَنِ الحُبُلِّي يقول: سمعتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرو بن العاص يقول: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ» (¬1). (128) حدثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ المِصْرِيُّ قال: أخبرني الليثُ بنُ سَعْدٍ قال: حدثنِي أبو قَبِيلٍ، عن شُفَيِّ بنِ مَاتِعٍ الأَصْبَحِي، عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابان فقال: «أَتَدْرُونَ ما هذان الكِتَابان؟ قالوا: لا يا رسول الله، فقال للأيمن منهما؛ هذا كتابٌ مِنْ ربِّ العالمينَ بأسماء أهلِ الجنةِ، وأسماءِ آبائهم وقَبَائِلِهم، أجمل على آخرهم فلا يُزَادُ فيهم، ولا يُنْقَصُ منهم أبدًا، وقال للذي في يده اليُسْرى؛ ¬

(¬1) صحيح، أخرجه الترمذي (2156)، وأحمد (6579)، وابن حبان (6138)، والبزار (2456)، وعبد بن حميد (343 - منتخب)، وغيرهم من طرق عن حيوة بن شريح، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، غير نعيم بن حماد، فيه مقال، لكن صحة الطرق إلى حيوة تدل أنه لم يخطئ هنا ... .

وهذا كتابٌ بأسماء أهلِ النَّارِ، وأسماءِ آبائِهِم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يُزاد فيهم، ولا يُنقص منهم أبدًا، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَلأيِّ شيءٍ يُعْمَل إن كان هذا الأَمرُ قد فُرِغ منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سَدِّدُوا وقاربوا فإن أصحاب (¬1) الجنةِ يُخْتَمُ له بعمل أهل الجنة، وإِنْ عَمِلَ أَيَّمَا عمل، وإن أصحاب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أيما عمل، ثم قَبَضَ يَدَيْهِ وقال: فَرَغَ رَبُّكُم من العباد، ثم قال بيده اليُمْنَى، فَنَبَذَ بها فقال، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} [الشورى: 7]، ونَبَذَ بالأخرى وقال: {فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}» (¬2). قال أبو سعيد: فهؤلاء قد كَتَبَهُم الله بأسمائهم التي كان في علمه أن يسميهم بها آبَاؤُهُم وأُمَّهَاتُهُم، قبل أن يخلقهم، فما قَدَرَ الآباءُ لتلك الأسماءِ تَبديلاً، ولا استطاع إِبليسُ لمَنْ هَدَى اللهُ منهم تَضْلَيلاً. وسئُلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أطفال المشركين؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، فَردَّ أَمْرَهُم إلى سابقِ عِلْمِ اللهِ فِيهِم قبل أن يُخْلَقُوا، وقبل أن يَعملوا. وقال الله - عز وجل -: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. ¬

(¬1) كذا. (¬2) صحيح، أخرجه الترمذي (2141)، وقال حسن غريب صحيح، وأحمد (6563)، وابن أبي عاصم في السنة (348)، وابن وهب في القدر (13)، والطبري في التفسير (21/ 504)، وغيرهم، من طريق أبي قبيل واسمه حُيَيّ بن هانئ، به، وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطئ، ونعتمد فيه توثيق ابن معين، الذي نقله عنه المصنف في تاريخه (923)، وقد وثقه جماعة أخرى.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُكْتَبُ بَيْنَ عَيْنَي المَوْلُودِ ما هو لاقٍ قَبْلَ أن يُولَد، حَتَّى النَّكْبَةَ يُنْكَبُها». (129) حدثنا أحمد بن صالح المصري، حدثنا ابنُ وَهْبٍ قال: أخبرني يُونُس، عن ابن شِهَابٍ، أن عبد الرحمن بن هُنَيْدَةَ حَدَّثَهُ، أن عبدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أرادَ اللهُ - عز وجل - أن يَخْلُقَ النَّسَمَةَ قال مَلَكُ الأرحامِ مُعْرِضًا: يا رب! أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللهُ أَمْرَهُ، ثم يقول يا رب! شَقِيٌّ أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يُكْتَبُ بين عينيه ما هو لاقٍ، حَتَّى النَّكْبةَ يُنْكَبُهَا» (¬1). (130) حدثنا محمدُ بنُ كَثِيرٍ (¬2)، أخبرنا سُفْيانُ الثَّوْريُّ، عَن الأَعْمَشِ، حدثنا زَيْدُ بنُ وَهْبٍ قال: حدثنا عَبْدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ - رضي الله عنه - قال: حَدثنا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: «إن أَحَدَكُم يُجْمَعُ (¬3) في بَطنِ أمِّهِ أربعينَ ليلةً، ثم يكونُ عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثم يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤمَرُ بأربعِ كَلِمَاتٍ فيقول: اكتُبْ ¬

(¬1) صحيح، أخرجه ابن وهب في القدر (30)، وابن حبان في صحيحه (6178)، وأبو يعلى (5775)، وابن أبي عاصم في السنة (182)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 111)، وغيرهم، من طريق الزهري، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (¬2) في الأصل «معاذ بن محمد بن كثير» وهو سبق قلم من الناسخ، وهذا الاسم غير موجود، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لمصادر التخريج، وأخرجه أبو داود في سننه (4710)، عن محمد بن كثير، به، وكذلك البيهقي في القضاء والقدر (60)، من طريق محمد بن كثير العبدي، به. (¬3) زاد هنا في المطبوعة كلمة «خلقه» وعلق في الحاشية قائلا: «زياد يقتضيها السياق وهي موجودة في المصادر التي أخرجت الحديث» قلت: أي سياق الذي يقتضي هذه الزيادة؟ ألا يتم المعنى بدونها؟! لاسيما وقد أخرج الحديث البخاري وأبو داود وغيرهما بدونها.

عَمَلَهُ وأَجَلَهُ ورِزْقَهُ وشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ، فإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتَّى ما يكون بينه وبين الجنةِ إلا ذِرَاعٌ؛ فَيَغْلِبُ عليه الكِتَابُ الذي سَبَقَ، فَيُخْتَمُ بِعَمَلِ أهلِ النَّارِ؛ فَيَدْخُلَ النَّارَ، وإن الرجلَ ليعمل بعمل أهل النَّار، حتَّى ما يكون بينه وبين النَّارِ إلا ذِرَاعٌ؛ فَيَغْلِبُ عليه الكِتَابُ الذي سَبَقَ، فَيُخْتَمُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ؛ فَيَدْخُلَ الجَنَّةَ» (¬1). (131) حدثناه أبو عمر الحَوْضِي، حدثنا شَعْبَةُ، عن سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: ذكر نحوه، قال: «فَيُكْتَبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ، ثم يُنْفَخُ فيه الرُّوحَ» (¬2). (132) حدثنا عثمان بن أبي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، عن منصور، عن سعد بن عُبَيدةَ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِي، عن عَليٍّ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا في جِنَازَةٍ في بَقِيعِ الغَرْقَدِ، قال: فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا معه، ومَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخصَرَتِهِ، ثم قال: «ما مِنْكُم مِنْ أحدٍ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ وَقَد كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجنة أو النار، وإلا قد كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أو سَعِيدَةٌ، قال: فقال رجلٌ: يا رسول الله! أفلا نَتَّكِلُ على كِتَابِ رَبِّنَا، ونَدَعُ العَمَلَ، فَمَنْ كان مِنَّا من أهل السَّعادَةِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أهلِ السَّعادَةِ، ومن كان من أهل الشَّقَاوةِ، فسيصيرُ إلى عمل أهل الشقاوة، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3208، 3332، 6594، 7454)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4710)، والترمذي (2137)، والنسائي في الكبرى (11182)، وابن ماجه (76)، وأحمد (4091)، وغيرهم، من طريق الأعمش، به. (¬2) ينظر تخريج الحديث السابق.

قال: اعملوا، أما أهلُ السَّعادةِ، فَيُيَسَّرُونَ لعملِ أهلِ السَّعادةِ، وأما أهلُ الشَّقَاوةِ فَيُيَسَّرُونَ لعملِ الشَّقَاوَةِ، ثم قرأ، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} إلى قوله {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}» (¬1). (133) حدثنا نُعَيم بنُ حمَّاد، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا شُعْبَةُ بنُ الحجَّاج قال: أخبرني عَاصِمُ بنُ عبيد الله قال: سمعتُ سالمَ بن عبد الله قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ عمرَ بنَ الخطاب - رضي الله عنه - يقول: «سَأَلْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: أرأيتَ ما يُعمَلُ، أَفِي أَمرٍ قد فُرِغَ منه، أَمْ أَمْر مُبْتَدَع أو مُبْتَدَأ؟ فقال: فيما قد فُرِغَ منه، فقال عمر: أفلا نَتَّكِلُ؟ فقال: اعْمَلْ يَا ابنَ الخَطَّاب؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، أَمَّا مَنْ كان أهلُ (¬2) السَّعَادَةِ؛ فهو يَعملُ للسعادة، وأَمَّا من كان مِنْ أَهْلِ الشَّقاءِ؛ فهو يَعْمَلُ للشَّقاءِ» (¬3). قال أبو سعيد رحمه الله: ومَن فَرَغَ مِنْهُ إِلا مَنْ قد عَلِمَهُ قَبْلَ أن يكون؟ ومَنْ يَسَّرَهُم لما خَلَقَهُم له، إلا من قد عَلِمَ ما هم عاملونَ قَبْلَ أن يخلقهم؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1362، 4948)، ومسلم (2647)، كلاهما عن شيخ المصنف، به، وأخرجه النسائي في الكبرى (11614)، والطيالسي (146)، وعبد بن حميد (84)، ... وابن أبي عاصم في السنة، وغيرهم، من طرق عن منصور بن المعتمر، به. (¬2) كذا في الأصل، بدون كلمة «من» قبلها. (¬3) حسن، أخرجه الترمذي (2135)، وأحمد (196)، والطيالسي (11)، وأبو يعلى (5463)، والبزار (121)، وابن أبي عاصم في السنة (163)، والآجري في الشريعة (364)، وغيرهم، من طريق شعبة، به، وهذا إسناد ضعيف؛ لأجل عاصم بن عبيد الله، فقد ضعفه ابن معين، وأنكر حديثه البخاري وغيره، لكن قال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه، قلت: يعني في الشواهد والمتابعات، وهذا الحديث يشهد لمعناه الحديث الذي قبله، وحديث آخر أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (165)، من حديث أبي هريرة عن عمر بن الخطاب، بنحوه، وقد قال الترمذي عقب روايته له: وهذا حديث حسن صحيح.

فَسُبحانَ من لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أن يكونَ كذلك غَيْرُهُ، وتعالَى عُلُوًا كبيرًا. فَيُقَالُ لمن ردَّ ما ذكرنا من كتاب الله، وهذه الأخبار، ولم يُقِر لله بِعِلْمٍ سابق: أرأيت الله يعلمُ أن الساعةَ آتيةٌ؟ فإن قال: لا؛ فقد فار (¬1) قوله وكَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكَذَّبَ بِالبَعْثِ، وأخبرك أَنَّهُ نَفْسُهُ لا يُؤمنُ بقيامِ السَّاعَةِ. وإن قال يَعْلَمُ اللهُ أنَّ الساعةَ آتيةٌ؛ فقد أَقَرَّ بِكُلِّ العلم، شاء أو أَبَى، ويقال له أيضًا: أَعَلِمَ اللهُ قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقَ أنه خالقهم؟ فإن قال لا؛ فقد كفر بالله العظيم، وإن قال بلى؛ فقد أَقَرَّ بالعِلْمِ السَّابِقِ، وانْتَقَضَ عليه مذهبه في رَدِّ عِلْمِ اللهِ، وهو منتقض عليه -على زعمه-. * * * ¬

(¬1) في المطبوعة غيرها إلى «فارق» والمثبت من الأصل، ومعنى «فار قوله» خرج عن القصد.

باب الإيمان بكلام الله تبارك وتعالى

بَابُ الإِيمَانِ بِكَلاَمِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى قال أبو سعيد: فالله المُتَكَلِّمُ أَوْلاً وآَخِرًا، لم يَزَلْ لَهُ الكَلامُ إِذْ لا مُتَكَلِّمٌ غَيْرُهُ، ولا يَزَالُ له الكَلاَمُ إِذْ لاَ يَبْقَى مُتَكَلِّمٌ غَيْرُهُ. فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] أنا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأرضِ؟ فلا يُنكِرُ كلامَ اللهِ - عز وجل - إلا مَنْ يُرِيدُ إِبْطَالَ مَا أَنْزَلَ اللهُ - عز وجل -، وكيف يعجز عن الكلام من عَلَّمَ العِبَادَ الكَلامَ، وأَنْطَقَ الأَنَام؟! قال الله في كتابه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164] فهذا لا يحتمل تأويلا غير نفس الكلام، وقال لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]. وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [البقرة: 75]. وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]. وقال: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64]. وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115]. وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6].وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)} [الصافات: 171]، ... وقال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 37]. قال عُبَيدُ بنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ في تفسيرها قال: قال آدم لربه وذكر خطيئته: رَبِّ أَشَيءٌ كَتَبْتَهُ عليَّ قَبْلَ أن تخلُقَنِي، أَمْ شيءٌ ابْتَدَعْتُهُ؟ فقال: بل شيءٌ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ، قال: فكما كَتَبْتَهُ عليَّ، فَاغْفِرْهُ لي، قال: فَهَؤُلاءِ الكَلِمات التِي قال الله - عز وجل - {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37].

(134) حدثناه محمدُ بنُ كَثِير، أخبرنا سُفْيَانُ يعني الثَّوْرِي، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيْعٍ قال: حدثني مَنْ سمع عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ يقوله (¬1). قال أبو سعيد: فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن آدم؟ فقال: كان نبيًا مُكَلَّمًا (¬2). وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40] وقال: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58]. وقال لقوم موسى حين اتخذوا العجل، فقال: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)} [طه: 89]، وقال: {عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} [الأعراف: 148]. قال أبو سعيد: ففي كل ما ذكرنا؛ تحقيقُ كلامِ الله وتثبيته نصًّا بِلا تأويلٍ، ففيما عاب الله به العجل في عجزه عن القول والكلام؛ بيانٌ بَيِّنٌ أن الله - عز وجل - غير عاجزٍ عنه، وأنه مُتَكَلِّمٌ وقَائِلٌ؛ لأنه لم يكن يَعِيبُ العِجْلَ بشيءٍ هو موجود به. وقال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} [الأنبياء: 63] الآية إلى قوله {أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} [الأنبياء: 67]، فلم يعب إبراهيمُ أَصْنَامَهُم، وآلهَتَهُم التِي يَعْبُدُونَ بِالعَجْزِ عن الكلام، إِلاَّ وأَنَّ إِلَهَهُ مُتَكَلِّمٌ قَائِلٌ. ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الطبري في التفسير (781)، وابن أبي حاتم في التفسير (409)، وابن عساكر في التاريخ (7/ 434)، وغيرهم، من طريق الثوري، به، واختلف عنه، فرواه محمد بن كثير، وابن مهدي، ووكيع، عنه، عن عبد العزيز بن رفيع، عن من سمع عبيد، عن عبيد، به، ورواه مؤمل بن إسماعيل، عنه، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، به، وقد خطَّأ أبو زرعة مؤملا في هذا الحديث، ورجح الرواية التي فيها الرجل المبهم، كما في العلل لابن أبي حاتم (1754)، وعليه فهذا إسناد ضعيف لإبهام الراوي عن عبيد بن عمير. (¬2) سيأتي هذا المتن مسندًا برقم (148).

ففيما ذكرنا من ذلك بيانٌ بَيِّنٌ لمن آمن بكتاب الله، وصَدَّقَ بما أَنْزَلَ الله، وقال الله - عز وجل -: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109] وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]. وصَدَقَ، وبَلَّغَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لو جُمِعَ مِيَاهُ بُحُورِ السَّمَاواتِ والأَرْضِ، وعُيُونِها، وقُطِّعَتْ أَشْجَارُهَا أَقْلامًا، لَنَفِدَتْ المياهُ وانْكَسَرَتِ الأَقْلامُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ اللهِ؛ لأن المِيَاهَ والأَشْجَارَ مَخْلُوقَةٌ، وقد كَتَبَ اللهُ عَلَيْهَا الفَنَاءَ عند [انتهاءِ] (¬1) مُدَّتِهَا. واللهُ حيٌّ لا يموت، ولا يفنَى كلامُهُ، ولا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بعد الخَلْقِ كما لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا قَبْلَهُم، فلا يُنْفِدُ المَخْلُوقُ الفَانِي كَلامَ الخَالِقِ البَاقِي الذي لا انقطاع له في الدنيا والآخرة. ولو كان على ما يذهب إليه هؤلاء الجهمية، أنه كلامٌ مخلوقٌ أُضِيفَ إلى الله، وأن الله - عز وجل - لم يَتَكَلَّمْ بِشَيءٍ قَط، ولا يتكلم بشيء قط، ولا يتكلم، لَنَفِدَ كُلُّ مخلوقٍ من الكلام قبل أن يَنفدَ ماءُ بحرٍ واحدٍ مِنَ البُحُورِ؛ لأنه لو جُمِعَ كَلاَمُ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِم من الجنِّ والإِنْسِ والملائكةِ والطَّيرِ والبَهَائِمِ كُلِّهَا، وجَمِيعُ أَعْمَالِهِم، لِكَتْبٍ بماءِ بحرٍ واحدٍ من البحور، لكُتِب كلُّ ذلك ونِفدَ (¬2) قبل أن يَنْفَدَ ماءُ بحرٍ واحِدٍ، ولا عُشْرُ عُشْرِ بَحْرٍ واحدٍ، ولكِنَّهُ كلامٌ لا انقطاع له، فلا يَنْفَدُ ما يَفْنَى (¬3)، ويَنْقَطِعُ مَا يَبْقَى! ¬

(¬1) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق. (¬2) أي الكلام، والأعمال. (¬3) في المطبوعة «فلا ينفد ما لا يفنى» بزيادة «لا» وبها ليس للكلام معنى، ويبدو أن الذي= ... =قابل المخطوط لم يلتفت إلى أن الناسخ قد ضرب عليها، فأثبتها دون أن يفقهها.

ثم الأحاديثُ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ والتَّابِعينَ فَمَنْ بَعْدَهُم جَمَّةٌ كثيرةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بتحقيقِ كلامِ الله وتثبيته، وسنأتي منها ببعض ما حَضَرَ إن شاء الله. (135) حدثنا محمد بن كَثِيرٍ العَبْدِيُّ، أخبرنا إِسْرِائِيلُ، عن عُثمانَ بن المُغِيرَةِ، عن سالمِ بنِ أبي الجَعْدِ، عن جابر بن عبد الله ? قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُ نَفْسَهُ على النَّاسِ بِالمَوقِفِ فيقول: «ألا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَومِهِ، فإنَّ قُرَيْشًا قد مَنعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلِماتِ ربِّي» (¬1). (136) حدثنا شِهَابُ بنُ عَبَّادٍ الكوفيُّ، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني (¬2) عن عمرو بن قَيْسٍ، عن عَطِيَّةَ، عن أبِي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ القُرآنِ عن ذِكْرِي ومَسْأَلَتِي؛ أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلينَ، وفَضْلُ كلامِ اللهِ على سَائِرِ الكَلاَمِ، كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه أبو داود (4736)، والترمذي (2925)، وأحمد (15192)، والنسائي في الكبرى (7680)، والدارمي (3354)، وغيرهم، من طريق إسرائيل بن يونس، به، وهذا إسناد صحيح؛ رجاله ثقات. (¬2) في الأصل «محمد بن أبي الحسن أبي يزيد الهمداني» وهو خطأ. (¬3) ضعيف جدًا، أخرجه الترمذي (2926)، والدارمي (3356)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 106)، وغيرهم، من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، به، وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ محمد بن الحسن ضعفه غير واحد من أهل العلم وقال النسائي: متروك الحديث، وعطية، هو ابن سعد العوفي، ضعيف، ضعفه أحمد وغيره، وقد سئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث؟ فقال: منكر، وأعله بمحمد بن الحسن الهمداني، كما في العلل لابن أبي حاتم (1738)، وقد حسنه الترمذي، فرد عليه الذهبي في الميزان (7382) قائلا: «حسنه الترمذي فلم يحسن». ... = = قلت: قال الترمذي «حسن غريب» فهل عني بالحسن هنا، الحسن الاصطلاحي؟!. ... وقد أطال محقق المطبوعة الكلام على هذا الحديث، وكان من جملة كلامه أن أعله بتدليس عطية العوفي، حيث نعته الحافظ بالتدليس. فقال المحقق: وقد عنعن في هذا الإسناد. قلت: أما تدليس عطية فلا يضرنا هنا، فقد قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرحه لعلل الترمذي (2/ 823)، -بعد أن ذكر قصة العوفي مع الكلبي والتي من أجلها وصفوه بالتدليس-: «وإن صحت هذه الحكاية عن عطية، فإنما تقتضي التوقف فيما يحكيه عطية عن أبي سعيد من التفسير خاصة، فأما الأحاديث المرفوعة التي يرويها عن أبي سعيد؛ فإنما يريد أبا سعيد الخدري، ويصرح في بعضها بنسبته» ا. هـ، وهذا الحديث من هذا القبيل، لأنه ليس في التفسير، وقد صرح فيه بنسبة أبي سعيد. فلينتبه لمثل ذلك، وينبغي أن ينزل كلام الأئمة على مرادهم.

(137) حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، حدثنا حمادُ بنُ سَلَمَةَ، عن أَشْعَثَ الحُدَّانِيِّ، عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إَنَّ فَضْلَ كَلاَمِ اللهِ على سَائِرِ الكلامِ، كفضلِ اللهِ على سَائِرِ خَلْقِهِ» (¬1). (138) حدثناه عُقْبَةُ بنُ مُكْرَمٍ البصريُّ، حدثنا مُعَلَّى بن أسد، حدثنا محمد بن سَوَاءٍ، حدثنا سعيد بن أبِي عَرُوبَةَ، عن أَشْعَثَ الحُدَّانِيِّ، عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَضْلُ القُرآنِ على سَائِرِ الكلامِ، كَفَضْلِ الرَّحْمَنِ على سَائِرِ خَلْقِهِ» (¬2). ¬

(¬1) مرسل، ضعيف، أخرجه الدارمي في سننه (3357)، وأبو داود في المراسيل (537)، وغيرهما، وشهر بن حوشب؛ قد ضعفه غير واحد من أهل العلم. (¬2) ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (129)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (557)، والبيهقي في الأسماء والصفات (515)، وغيرهم من طريق سعيد بن أبي عروبة، به، إلا عبد الله بن أحمد، والبيهقي، زادا ذكر قتادة بين سعيد والحداني. قلت: وللحديث علتان؛ أولاهما ضعف شهر بن حوشب، والثانية اختلاط سعيد بن أبي عروبة، والراوي عنه هنا محمد بن سواء، ولا ندري متى سمع منه ولم ينص أحد من أهل العلم على أنه سمع منه قبل الاختلاط. ... = =وحتى لا ندع مجالا لمعترض؛ فإن الشيخين حين أخرجا لمحمد بن سواء عن سعيد في صحيحهما، إنما أخرجا له مقرونا بغيره، وفي ذلك إشعار منهما بعدم الاحتجاج به منفردا، والله أعلم. وقد سئل الدارقطني كما في العلل له (2099) عن هذا الحديث، فذكر الاختلاف الواقع فيه، ورجح الرواية المرسلة التي قبل هذه وقال: هي أشبه بالصواب.

(139) حدثنا عليُّ بن المَدِينِي، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بَشِير بن الفَاكِه الأنصاري ثم السُّلَمِي قال: سمعتُ طَلْحَةَ بِن خِرَاش بن الصِّمَّة الأنصاري ثم السُّلمي يقول: سمعتُ جَابِرَ بن عبد الله يقول، نظر إِلَيَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا جابر! مالي أراك مُهتَمًّا؟ قال قلت: يا رسول الله اسْتُشْهِدَ أَبِي، وتَركَ دَيْنًا عليه، وعِيَالاً، فقال: ألا أُخْبِرُكَ، ما كَلَّمَ اللهُ أحدًا قَط إلا مِنْ وراءِ حِجَاب، وكَلَّمَ [أَبَاكَ] (¬1) كِفَاحًا، فقال: يا عَبْدِ! تَمَنَّ عليَّ أُعْطِك، قال: يا رب تُحْيِني فَأُقْتَلْ فِيكَ الثانية، فقال الرب تبارك وتعالى: إنه سَبَقَ مِنِّي أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ مَنْ ورائي. قال: فأنزل الله - عز وجل - {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] حتى أنفذ الآية» (¬2). (140) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حمَّادٌ يعني ابن سلمة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَقِيَ آدمُ مُوسَى، فقال مُوسَى: أنت آدمُ الذي خَلَقَكَ اللهُ بيدِهِ ونَفَخَ فيكَ مِنْ رُوحِهِ، وأَسْكَنَكَ الجَنَّةَ، وأَسْجَدَ لك مَلائِكَتَهُ، ثم فَعَلْتَ ما فعلت، ¬

(¬1) ما بين معقوفين ليس في موضعه من الأصل وأثبتناه من حديث رقم (52). (¬2) حسن، وتقدم تخريجه برقم (52).

فَأَخْرَجْتَ ذُرِّيَتَكَ من الجنة، فقال آدمُ يا موسى! أنت موسى الذي اصطفاكَ اللهُ برسالاته، وكَلَّمَكَ وقَرَّبَكَ نَجِيًّا وآتاك التوراةَ، فَبِكَمْ تجده كَتَبَ عليَّ العَمَلَ الذي عَمِلْتُ قبل أن يَخْلُقَنِي؟ قال: بأربعين سنة، قال: فبم تَلُومُنِي يا موسى؟! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَحَجَّ آدمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» (¬1). (141) حدثناه أبو سَلَمَةَ، حدثنا حَمَّادٌ، عن عَمَّار بن أبي عمار قال: سمعتُ أبا هريرةَ - رضي الله عنه - يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحُمَيْد، عن الحسنِ، عن جُنْدُبٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَقِيَ آدمُ موسى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ إلا أنه (¬2):وكَلَّمَكَ، وآتَاكَ التَّوراةَ وقَرَّبَكَ نَجِيًّا، قال: نعم، قال: فأنا أقدمُ أَمِ الذِّكر؟ قال: الذِّكْرُ. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَحَجَّ آدمُ موسى، ثلاثًا» (¬3) ¬

(¬1) صحيح، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (553)، وابن أبي عاصم في السنة (149)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 121)، من طريق محمد بن عمرو، به، ومحمد فيه كلام لا ينزله عن رتبة الحسن، لكن قد أخرج الحديث: البخاري (4738)، ومسلم (2652)، وأحمد (7856)، وعبد الرزاق (20067)، والنسائي في الكبرى (11266)، والبزار (7888)، من طريق ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، به، فيكون الزهري قد تابع محمد بن عمرو، فبهذه المتابعة القوية يرتقي الحديث إلى الصحة، وقد رواه عن أبي هريرة أكثر من واحد من أصحابه. (¬2) كذا بالأصل وقد ضبب عليها. (¬3) صحيح، أخرجه أحمد (9989)، وأبو يعلى (1528)، والطبراني في الكبير (1663)، ... واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (367)، من طريق حماد بن سلمة، به، وهذا إسناد حسن؛ عمار بن أبي عمار، صدوق، لكن قد تابعه في روايته عن أبي هريرة جمع من ثقات أصحاب أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأما رواية حماد بن سلمة عن خاله حميد الطويل، فقد أخرجها: النسائي في الكبرى (11256)، وأبو يعلى في مسنده (1521)، والطبراني في الكبير (1663)، وابن أبي عاصم في السنة = ... = (143)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1036)، وغيرهم من طريق حماد بن سلمة، به، وهذا إسناد صحيح متصل، ولا يضر عنعنة حميد الطويل حيث وصف بالتدليس؛ لأن تدليسه خاص بروايته عن أنس فقط، وكذلك الحسن البصري. وقد ضعف محقق المطبوعة هذا الإسناد، وأعله بتدليس الحسن البصري، حيث عنعن، والتحقيق؛ أن التدليس الذي وُصِف به الحسن، إنما هو من قبيل المرسل الخفي، وهو الرواية عن من عاصره ولم يلقه، ولابد من حمل كلام العلماء بعضه على بعض، فحين أطلق النسائي الوصف بالتدليس على الحسن، قيده الحاكم، حيث قال في معرفة علوم الحديث (109)، «والجنس السادس من التدليس: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم ...»، ثم قال بعد ذلك «هذا باب يطول، فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ولا من جابر ولا من ابن عمر ولا من ابن عباس شيئًا قط» ا. هـ إذن فلا يوصف الحسن بالتدليس إلا عن سمرة لأنه روى عنه سماعًا حديث العقيقة فقط والباقي كتابًا، كذا نص غير واحد من أهل العلم، أما عن غيره فإما أن يكون من قبيل المرسل الخفي، أو هو على الاتصال، وصنيع الأئمة يقتضي ذلك. وقد أخرج له الشيخان عن جندب بن عبد الله مُصرِّحًا بالتحديث، فروايته عن جندب إذًا محمولة على الاتصال، ولا وجه لإعلالها بالتدليس، وقد أخرج له البخاري عن أبي بكرة، بالعنعنة، وما ذلك إلا لأنه ثبت لدى البخاري أنه سمع منه، ولو كان مدلسًا لما أخرج له البخاري إلا ما صرح فيه بالسماع، ويراجع في ذلك كتاب «المرسل الخفي» للشيخ الشريف حاتم بن عوني.

(142) حدثناه أبو سَلَمةَ، حدثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، حدثنا أبو هَارُونَ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وزاد فيه: «أَنْ يَا مُوسَى أَرَأَيْتَ مَا عَلِمَ اللهُ أَنَّه سَيكُون، بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُون؟» (¬1). (143) حدثناه عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جَرِيرٌ، عن الأعمش، عن أبي صَالِحٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) ضعيف جدًا، أخرجه عبد بن حميد (949 - منتخب)، وابن أبي شيبة في مسنده (199 - إتحاف الخيرة)، والحارث في مسنده (739 - بغية الباحث)، وغيرهم، من حديث أبي هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين، ضعفه أحمد، وأبو حاتم وأبو زرعة وتركه النسائي، واتهمه بعضهم.

«احْتَجَّ آدمُ ومُوسى - عليه السلام -، فقال مُوسَى: يا آدمُ أنتَ الذي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، ونَفَخَ فيكَ من رُوحِهِ، فقال له قَولًا كَبيرًا لا أحفظه، أَغْوَيْتَ النَّاسَ، وأَخْرَجْتَهُم مِنَ الجنةِ، فقال آدمُ: يا موسى أنتَ الذي اصطفاكَ اللهُ برسالاتِهِ، وكَلَّمَكَ تَكْلِيمًا، تَلُومُنِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلاً قد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّمَاواتِ والأرضَ، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَحَجَّ آدمُ مُوسَى» (¬1). (144) حدثنا الأَصْبغُ بنُ الفَرَجِ المصري قال: أخبرني ابنُ وَهْبٍ، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ موسى قال: يا رب! أَرِنَا آدمَ الذي أخْرَجَنا ونَفْسَهُ من الجنةِ، فأراه اللهُ آدمَ فقال: أنتَ أَبُونا آدم؟ فقال: نعم. قال: الذي نَفَخَ فِيكَ مِنْ روحه، وعَلَّمَكَ الأسماءَ كُلَّها، وأمر الملائكة، فسجدوا لك؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن أخرجتنا من الجنةِ ونَفْسَك؟ فقال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى. قال أنت نَبِيُّ بَنِي إِسرائِيل؟ قال: نعم. قال: وأنت الذي كلَّمَكَ الله من وراء الحجاب لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال: نعم. قال: فهل وجدت في كتاب الله أن ذلك كان في كتابٍ قَبْلَ أن أُخْلَقَ؟ قال: بلى. قال فبم تَلُومُنِي؟ على شيءٍ سَبَقَ -من الله - عز وجل - القضاء فيه قَبْلُ (¬2)، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: فَحَجَّ آدمُ موسى، صَلواتُ اللهِ عَلَيْهِما» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه الترمذي (2134)، وأحمد (9176)، والنسائي في الكبرى (11379)، وابن حبان (6179)، وابن أبي عاصم في السنة (140)، وغيرهم، من طرق عن الأعمش، به، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. (¬2) كلمة «قبل» في مصادر التخريج «قبلي» والمثبت من الأصل، وهو صحيح. (¬3) إسناده حسن، أخرجه أبو داود (4702)، وأبو يعلى (243)، وابن خزيمة في التوحيد= ... = (1/ 346)، والبيهقي في الأسماء والصفات (427)، وغيرهم، من طريق هشام بن سعد، به، وهذا إسناد رجاله ثقات غير هشام بن سعد، فهو صدوق، وقال الذهبي: حسن الحديث، ويشهد له ما مر آنفا من حديث أبي هريرة.

(145) حدثنا إِسْحاقُ بنُ إبراهيمَ الحَنْظَلِيُّ، أخبرنا النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، أخبرنا أبو نَعَامَةَ العَدَوِيُّ، حدثنا أبو هُنَيْدَةَ البَرَاءُ بنُ نَوْفَلٍ، عن وَالاَن العدوي، عن حُذَيْفَةَ، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، في حديث الشفاعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَيَأْتُونَ إِبرَاهِيمَ، فيقول: ليس ذَلِكُم عندي، فانْطَلِقُوا إلى موسى؛ فَإِنَّ اللهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فيقول موسى: ليس ذَلِكُم عِنْدِي» (¬1). (146) حَدَّثَنَا عَبْدُ الغَفَّارِ بنُ دَاوُدَ الحَرَّانِيُّ أبو صالح، حدثنا ابنُ لَهِيْعَةَ، حدثنا الحَارِثُ بنُ يَزِيدَ، عنْ عَلِيِّ بنِ رَبَاحٍ، عن رَجُلٍ سمع عُبَادَةَ بنَ الصَّامِت يقول: إن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ فقال: «إِنَّ جِبْرِيلَ أتانِي فقال: أُخْرُجْ فَحَدِّثْ بِنِعْمَةِ اللهِ التِي أَنْعَمَ بها عَلَيْكَ، فَبَشَّرَنِي بَعَشْرٍ لم يُؤْتَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي؛ بَعَثَنِي إلى النَّاسِ جميعًا، وأَمَرنِي أن أُنْذِرَ الجِنَّ، ولَقَّانِي كَلاَمَهُ وأنا أُمِّيٌّ، قد أُوتِي داودُ الزَّبُورَ، وموسى الأَلْوَاحَ، وعيسى الإنجيلَ» (¬2). (147) حدثنا عبدُ اللهِ بن صَالِحٍ المِصْرِيُّ، أن مُعَاوِيَةَ بن صالح حدَّثَهُ، ¬

(¬1) حسن، وتقدم تخريجه رقم (88). (¬2) ضعيف، أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره معلقًا (14467)، قال: ذكر عن زيد بن الحباب، حدثنا ابن لهيعة، به، وهذا إسناد ضعيف؛ فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف وقد بسطت القول فيه عند تعليقي على حديث رقم (46)، وثمة علة أخرى، وهي إبهام الراوي عن عبادة بن الصامت.

عن أبي بكرٍ يعني ابن أبي مَرْيَم، عن عَطِيَّةَ وهو ابنِ قَيْسٍ، أَنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ كَلاَمٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِن كَلاَمِهِ، مَا رَدَّ العِبَادُ إِلَى اللهِ كلامًا أَحَبَّ إليه مِنْ كَلاَمِهِ» (¬1). (148) حدثنا سَلاَّمُ بنُ سُلَيْمَان المَدَائِنِي، حدثنا المَسْعُودِيُّ، عن أَبِي عُمَرَ، عن عُبَيْدِ بنِ الحَسْحَاس، عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فَجَلَسْتُ إليه، فَقُلْتُ: أَيُّ الأنبياءِ كان أولاً؟ قال: «آدمُ، قُلْتُ: ونَبِيًّا كان؟ قال؟ نعم، نَبِيًّا مُكَلَّمًا» (¬2). (149) حدثنا الرَّبِيعُ بنُ نَافِعٍ، حدثنا مُعَاويةُ -يعني ابن سَلاَّم-، عن زيد -وهو ابن سلام- أنه سمع أبا سَلاَّم يقول: حدثني أبو أُمَامةَ، أَنَّ رَجُلاً أتى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نَبِيَّ الله! أَنَبِيًّا كان آَدَمُ؟ قال: «نَعَم مُكَلَّمًا، قال: كَمْ بَيْنَه وبَيْنَ نُوح؟ قال: عَشْرَةُ قُرُون» (¬3). ¬

(¬1) مرسل ضعيف، أخرجه الدارمي أبو محمد في سننه (3353)، والبيهقي في الأسماء والصفات (533)، من طريق ابن أبي مريم، به، ضعفه غير واحد من أهل العلم، وتركه الدارقطني، ثم الحديث مرسل، عطية بن قيس؛ تابعي ثقة. (¬2) ضعيف جدًا، أخرجه النسائي (8/ 275)، وأحمد (21546)، وابن أبي شيبة (37083)، والطيالسي (480)، والبزار (40234)، وهناد في الزهد (1065)، وغيرهم، من طريق المسعودي، به، وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ عبيد بن الحسحاس، -ويقال الخشخاش- مجهول، والراوي عنه أبو عمر الدمشقي، قال الدارقطني: متروك، وفيما بعده غنية عنه. (¬3) صحيح، أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 262)، والبيهقي في الأسماء والصفات (446)، كلاهما من طريق المصنف، به، وأخرجه ابن حبان (6190)، والطبراني في الكبير (7545)، وابن أبي حاتم في التفسير (15183)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 445)، وغيرهم، من طريق أبي توبة الربيع بن نافع، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقد أورده الحافظ ابن كثير بسند ابن حبان في البداية والنهاية (1/ 113)، وقال: «وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه». قلت: وفي سماع أبي سلام من أبي أمامة مقال، لكنه قد صرح هنا بالتحديث، = = فانتفت شبهة إرساله عنه. تنبيه: قال محقق صحيح ابن حبان (طبعة الرسالة): «أبو سلام: هو الأسود بن هلال المحاربي»، قلت: وفي هذا مجازفة، إنما الحديث من رواية معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، وهو أسود أيضًا! لكن اسمه ممطور الحبشي ويقال النوبي، وقد صرح الحافظ ابن عساكر بنسبته حين روى الحديث في تاريخه، فقال: «عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام الحبشي».

(150) حدثنا عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ، أخبرنا سُفْيانُ، حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ -مولى آل طلحة-، عن كُرَيْبٍ، عن ابن عباس، عن جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ بنِ أَبِي ضِرَارٍ، أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَخَرَجَ وهِيَ في المسجدِ، ثم رَجَعَ بَعدمَا تَعَالَى النَّهارُ، فقال: «مَا زِلْتِ في مَجْلِسِكِ هذا مُنْذُ خَرَجْتُ بَعد، قُلْتُ: نعم، فقال: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَّ بِكَلِمَاتِك وَزَنَتْهُنَّ؛ سُبْحَانَ اللهِ وبحمدهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (¬1). (151) حدثنا نُعَيمُ بنُ حماد، حدثنا ابنُ المباركِ، أخبرنا يُونُس، عن الزُّهْرِي قال: أخبرني سَعِيدُ بنُ المسَيَّب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) صحيح، أخرجه مسلم (2726)، وأبو داود (1505)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (406)، والبخاري في الأدب المفرد (647)، والحميدي (496)، وابن خزيمة في صحيحه (753)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3108)، وغيرهم. جميعًا من طريق سفيان-هو ابن عيينة-، به. وأخرجه الترمذي (3555)، والنسائي (3/ 77)، وابن ماجه (3808)، وأحمد (2334، 3308)، وابن حبان (828)، وغيرهم. من طرق عن محمد بن عبد الرحمن، به. وقد جعله بعضهم من مسند ابن عباس، لا من مسند جويرية، قال البخاري رحمه الله في الأدب المفرد بعد رواية الحديث: «حدثنا عليٌّ، قال: حدثنا به سفيان غير مرة، قال: حدثنا محمد، عن كريب، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عند جويرية، ولم يقل جويرية إلا مرة».

قال: «يَقْبِضُ اللهُ الأرضَ يومَ القِيامَةِ، ويَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ، ثم يقول: أَنا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟» (¬1). (152) حدثنا أبو عُمَرَ الحَوْضِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ، عن عَلِيِّ بنِ مُدْرِك، عن أَبِي زُرْعَةَ بنِ عَمرو بنِ جَرَيرٍ، عن خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ، عن أبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامةِ، ولا يُزَكِّيهِم، ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِم، ولهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ، قال قلت: مَنْ هُمْ؟ خَابُوا وخَسِرُوا! قال: فَأَعَادَها ثَلاثًا، فقلت: مَنْ هُم؟ خَابُوا وخَسِرُوا! قال: المُسْبِلُ، والمَنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ أو الفَاجِرِ» (¬2). (153) حدثنا محبُوبُ بنُ موسى الأَنْطَاكِيُّ، أخبرنا أبو إِسْحَاقَ، عن أبِي حماد -يعني الحنفي، قال أبو إسحاق: وكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَهْلِ زَمَانِهِ-، عن ابنِ عَقِيل-وهو عبد الله بن محمد بن عَقِيل- قال: سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عِبْدِ اللهِ ? قال: صَلَّى رَسْولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الشُّهَدَاءِ كُلِّهِم يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَجَعْتُ وأنا مُثْقَلٌ، قَدْ تَرَكَ أَبِي عَلَيَّ دَيْنًا وَعِيَالاً، فَلَمَّا كان عندَ اللَّيلِ أَرْسَلَ إِلَيَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا جابر! إِنَّ اللهَ قَدْ أَحْيَا أَبَاكَ، وكَلَّمَهُ، قال قُلْتُ: وكَلَّمَهُ كَلامًا؟ فَقَالَ ¬

(¬1) صحيح، أخرجه البخاري (6519، 7382)، ومسلم (2787)، وابن ماجه (192)، وأحمد (8863)، والنسائي في الكبرى (7645)، وغيرهم، من طريق يونس _هو ابن يزيد الأيلي_، به. (¬2) صحيح، أخرجه مسلم (106)، وأبو داود (4089)، والترمذي (1211)، والنسائي (5/ 81، 7/ 245)، وأحمد (21318، 21436)، وأبو محمد الدارمي (2605)، وابن حبان (4907)، وابن أبي شيبة في المصنف (22640)، وغيرهم، من طرق، عن شعبة، به. وللحديث طرق أخرى، عن خرشة بن الحر، به، أرى في ذكرها إطالة، وقد اكتفيت بطريق المصنف.

قال: وَكَلَّمَهُ كَلاَمًا، فقال له: تَمَنَّ، قَالَ: أَتَمَنَّى أَنْ تَرْدَّ رُوحِي، وتَنْشُرَ خَلْقِي كما كان، وتُرْجِعَنِي إلى نَبِيِّكَ؛ فَأُقَاتِل في سَبِيلِكَ فَأُقْتَل مَرَّةً أُخْرَى» (¬1). (154) حدثنا عُثمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، عن لَيْثٍ، عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ، عن أبِي الزَّعْرَاء قال: قال عمر - رضي الله عنه -: «إن هذا القرآنَ كَلاَمُ اللهِ، فَلا أَعْرِفَنَّكُم مَا عَطَفْتُمُوهُ على أَهْوَائِكُم إِلاَّ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ عَبْدٌ (¬2) عَمْدَ عَيْنٍ» (¬3). ¬

(¬1) حسن، وإسناد المصنف ضعيف، أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، مدلس ولم يصرح بالسماع، وشيخه أبو حماد الحنفي هو المفضل بن صدقة، قال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي، يُكْتب حديثه، لكن للحديث طريق آخر أخرجه أحمد (14818)، والحميدي (1265)، وعبد ين حميد (1039 - منتخب)، وأبو يعلى (2002)، وابن أبي الدنيا في المتمنين (2)، من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن ابن عقيل، به. قلت وهذا إسناد حسن؛ رجاله ثقات غير عبد الله بن محمد بن عقيل؛ تكلم فيه غير واحد من أهل العلم من قِبَل سوء حفظه، قال الترمذي -كما في ترتيب علل الترمذي لأبي طالب القاضي ص 22 - : «سألت محمدًا -يعني البخاري- عن عبد الله بن محمد بن عقيل؟ قال: رأيت أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي، يحتجون بحديثه، وهو مقارب الحديث». وقال أبو حاتم الرازي: لين الحديث ليس بالقوي، ولا ممن يحتج بحديثه، يكتب حديثه، فمثله يحسن حديثه في الشواهد والمتابعات إن شاء الله، هذا وقد تابعه طلحة بن خراش وهو صدوق، كما مر في حديث (52، وتكرر برقم 139)، فينظر تخريجه هناك. (¬2) كلمة «عبد» سقطت من المطبوعة وأثبتناها من الأصل. (¬3) ضعيف، أخرجه الدارمي في سننه (3355)، وعبد الله بن أحمد في السنة (117)، والخلال في السنة (1956)، والآجري في الشريعة (168)، والبيهقي في الأسماء والصفات (527)، جميعًا من طريق ليث هو ابن أبي سليم، به، وليث ضعيف سيء الحفظ، قال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة: ليث لا يشتغل به وهو مضطرب الحديث، وضعفه يحيى بن معين، وغيره، فضلا عن اختلاطه، وللأثر شاهد عند الآجري في الشريعة (167)، من طريق أبي عبد الرحمن السلمي، عن عمر، بنحوه، وإسناد الآجري، فيه محمد بن عبد المجيد التميمي؛ ضعيف، ضعفه تمتام محمد بن غالب كما في تاريخ بغداد للخطيب (1171)، فالأثر لا يثبت عن عمر، والله تعالى أعلم.

(155) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حمَّادٌ، عن عَطَاء بنِ السَّائِب، عن أبِي الأَحْوَص، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «هَدْىٌ وكَلاَمٌ؛ فَخَيْرُ الكَلاَمِ كَلاَمُ اللهِ، وأَحْسَنُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). (156) حدثنا يحيَى بنُ سُليمانَ الجُعْفِي أبو سَعِيد، حدثنا أحمدُ بنُ بَشيرٍ، حدثنا مُجَالِدٌ، عن الشَّعْبِيِّ، عن مَسْرُوقٍ، أَنَّ عبدَ اللهِ قال: «القُرْآنُ كلامُ اللهِ، فَمَنْ قَالَ فِيهِ، فَلْيَعْلَم ما يَقُولُ، فَإِنمَا يَقُولُ عَلَى اللهِ» (¬2). (157) حدثنا أحمدُ بنُ صَالحٍ المِصريُّ، حدثنا ابنُ وَهْبٍ قال: أخبرنِي يُونُسُ، عن ابنِ شِهَابٍ قال: أخبرنِي عَلِيُّ بنُ حُسَيْنٍ، أن ابن عباس قال: أَخْبَرَنِي ¬

(¬1) صحيح لغيره، أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20076)، والطبراني في الكبير (8518)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (84)، وغيرهم من طريق أبي الأحوص، به وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، غير عطاء بن السائب؛ فقد اختلط في آخره، وحماد بن سلمة ممن روى عنه قبل الاختلاط، وبعده. وقد سئل أبو زرعة الرازي عن حديثٍ، رواه حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص، عن عَبد الله، قال: «خير الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد»، ورواه جرير عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، عن عَبد الله. قيل لأَبي زُرْعَةَ أيهما أصح؟ قال: حديث جرير أصح (علل ابن أبي حاتم: 1746). قلت: لعل السبب في ذلك هو اختلاط عطاء بن السائب، وحماد قد روى عنه قبل الاختلاط وبعده، لكن جريرا أيضا ممن روى عنه قبل الاختلاط، فلا أدري ما وجه تقديم رواية جرير على رواية حماد. وعلى كل فالحديث صحيح، وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود، أخرجه هناد في الزهد (498)، وعنه النسائي في مجلس من إملائه (20)، والبيهقي في الأسماء والصفات (522) من حديث الأسود بن هلال، عن ابن مسعود، به، وإسناده صحيح، رجاله ثقات. (¬2) ضعيف، أخرجه عبد الله في السنة (119)، وابن سمعون في أماليه (322)، والبيهقي في الأسماء (523)، من طريق مجالد، به، ومجالد ضعيف. وقد سئل أبو حاتم الرازي عنه، يحتج بحديثه؟ قال: لا، وقال ابن معين: ضعيف، واهي الحديث، لا يحتج بحديثه.

رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار؛ أنهم بَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فقال لهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَاذَا كُنْتُم تَقُولُون في الجَاهِلِيَّةِ إذا رُمِيَ بمثلِ هذا؟ قَالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم، كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ، ومَاتَ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فَإِنها لا يُرْمَى بها لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ حَيَاةِ أَحَدٍ، ولَكِنَّمَا رَبُّنَا إِذَا قَضَى أَمرًا؛ سَبَّحَ حَمَلةُ العَرْشِ، ثُمَّ يُسَبِّحُ أَهْلُ السَّماءِ الذين يَلُونَهُم، ثم يسبح الذين يلونهم، حتَّى بَلغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ السَّماءِ الدُّنْيَا، ثم قال [الذين] (¬1) يَلُونَ حملة العَرْشِ: ما قال رَبُّكُم؟ فَيُخْبِرُونَهُم بِتَسْبِيحِ أَهْلِ السَّماواتِ، حتَّى يَبْلُغَ الخَبَرُ أَهْلَ هذهِ السماءِ الدنيا، يَتَخَطَّفُ الجِنُّ السَّمْعَ، فيذهبون به إلى أَوْلِيَائِهم، فَإِذَا جَاءُوا به على وجهه؛ فَهو حَقٌّ، وَلَكِنَّهُم يَرْقُونَ فِيِهِ -يعني يقذفون (¬2) -» (¬3). (158) حدثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ العَبْدِيُّ، حدثنا ابنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن شُعْبَةَ، عن سُلَيمانَ الأَعْمَشِ، عن أبِي الضُّحَى، عن مَسْروق، عن عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - قال: ... «إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالوَحي؛ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاواتِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السَّلْسِلَة على الصَّفْوَان. قال: فَيَفْزَعُونَ، يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السَّاعةِ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 23]» (¬4). ¬

(¬1) ما بين معقوفين زيادة ليست في الأصل، وأثبتناها من مصادر التخريج. (¬2) في المطبوعة «يقرفون» والمثبت من الأصل وكلاهما بمعنى، وقد ذكرهما مسلم في صحيحه. (¬3) صحيح، أخرجه مسلم (2229)، والترمذي (3224)، وأحمد (1882، 1883)، وابن حبان (6129)، وأبو يعلى (2609)، وغيرهم من طرق عن الزهري، به. (¬4) صحيح، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (537)، وابن خزيمة في التوحيد (208)، والطبري في التفسير (20/ 396)، والبيهقي في الأسماء والصفات (438)، والخطيب في التاريخ (13/ 330)، من طرق عن سليمان الأعمش، به، موقوفًا، وإسناده صحيح، ... = = رجاله ثقات، وهذا الأثر له حكم الرفع، فمثله لا يقال من قبل الرأي، لاسيما وقد روي في سبب نزول آية من كتاب الله، ومعلوم أن تفسير الصحابي في أسباب النزول له حكم الرفع، ثم إن هذه الرواية الموقوفة هي المحفوظة دون المرفوعة. وقد استغرب الخطيب البغدادي كما في تاريخه (13/ 330) الرواية المرفوعة، وذكر أن هذه الرواية الموقوفة هي المحفوظة، ومن قبله الدارقطني، رجح هذه الموقوفة وقال إنها المحفوظة، كما في العلل له (852).

(159) حدثنا عُثْمانُ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرُ بنُ عبدِ الحمِيد، عن يَزِيدَ بنِ أَبِي زِيادٍ، عن عبد الله بن الحَارِث، عن ابن عباس ? قال: «إِنَّ الله - عز وجل - إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْي سَمِعُوا مِثْلَ سِلْسِلَةِ الحَدِيدِ عَلَى الصَّفْوَان، فَخَرُّوا سُجَّدًا، ... فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 23]، ثم يَنْزِلُ الشَّيطانُ إِلَى الأَرْضِ فَيَزِيدُ فيها سَبْعِينَ كَذِبَة» (¬1). (160) حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جَريرٌ، عن مَنْصُورٍ، عن هِلالِ بنِ يَسَافٍ، عن فَرْوَةَ بنِ نَوْفَل قال: كُنْتُ جَارًا لخَبَّابٍ - رضي الله عنه -، فَخَرجْنَا مَعَهُ يومًا إِلَى الجُمُعَةِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فقال: «يَا هَنَاهُ! (¬2) تَقَرَّبْ إِلَى الله ما اسْتَطَعْتَ فَإِنَّكَ لَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِ» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (538)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (219)، وأبو زرعة الرازي كما في العلو للذهبي (294)، من طريق جرير بن عبد الحميد، به. وهذا إسناد ضعيف؛ لأجل يزيد بن أبي زياد، قال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي، وكذلك قال ابن معين كما نقله عنه المصنف. (¬2) قال الجوهري: «هذه اللفظة تختص بالنداء»، ومعناها؛ يا هذا، والمؤنث منها يا هنْتَاه، وينظر النهاية في غريب الحديث (5/ 651). (¬3) صحيح، أخرجه أحمد في الزهد (ص 35، 202)، وعبد الله بن أحمد في السنة (111)، وابن أبي شيبة في المصنف (30722)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (520)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 441)، وغيرهم من طرق عن منصور بن المعتمر،= ... = به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وفروة بن نوفل، وثقه ابن حبان، وأخرج له مسلم حديثًا.

(161) حدثنا عبد الله بن صالح قال: حَدَثنِي اللَّيْثُ قال: حدثنِي يُونُسُ، عن ابن شِهابٍ قال: أَخبَرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ وسَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ وعَلْقَمَةُ بنُ وَقَّاصٍ وعُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ، عن حَدِيثِ عَائِشَةَ حين قاَلَ لهَا أَهلُ الإفْكِ مَا قَالوا فَبَرَّأَهَا اللهُ مِنْهُ، وبَعْضُ حَديثِهِم يُصَدِّقُ بَعْضًا، وإن كان بَعْضُهُم أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «لَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ في نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسْولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بهَا» (¬1). (162) حدثنا نُعَيْمُ بنُ حمَّادٍ، حدثنا ابنُ المُبَارَكِ، أخبرنا يُونُسُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن طارق بن مُحَاسِن (¬2)، عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبِي - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِلَدِيغٍ، فَقَالَ: «لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لمَ تَضُرُّهُ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه البخاري (4141، 4750، 7500)، ومسلم (2770)، وأبو داود (4737)، وأحمد (25623)، وابن حبان (4212)، وغيرهم، من طرق عن الزهري، به وفي إسناد المصنف، عبد الله بن صالح، ضُعِّف، لكن تابعه يحيى بن بكير، كما عند البخاري (4750). (¬2) كذا في الأصل بالحاء والسين المهملتين، وقد وضع الناسخ علامة الإهمال على السين، ثم ذكره في الحديث الذي بعده «مخاشن» بالخاء والشين المعجمتين، وفي ذلك إشارة منه أن الاختلاف في اسمه معروف، وينظر تقريب التهذيب (3005). (¬3) حسن لغيره، أخرجه أبو داود (3901)، والنسائي قي الكبرى (10359)، وابن أبي شيبة في المصنف (24023)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 213)، والطبراني في الشاميين (1814)، والطحاوي في شرح المشكل (34)، وغيرهم من طرق عن الزهري، به، وقد تابع نعيمَ بن حماد؛ عبد الله بن عثمان المعروف بعبدان، كما عند الفسوي، وطارق بن مخاشن مقبول كما قال الحافظ في التقريب، -ولم أجد من وثقه سوى ابن حبان كعادته في ... توثيق أمثاله من المجاهيل- فهو لين إن لم يتابع، وقد توبع؛ تابعه ذكوان السمان= ... = أبو صالح، كما أخرجه مسلم في صحيحه (2709)، وأحمد (8880)، وغيرهما.

(163) حدثنا الجُرْجُسِي يَزِيدُ بنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حدثنا بَقِيَّةٌ، عن الزُّبَيْدِيِّ، عن الزُّهرِي، عن طَارِق بنِ مُخَاشِن، عن أبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: أُتِيَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلَدِيغٍ، لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ، فقال: «لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ؛ لَمْ يُلْدَغْ، أَو لم تَضُرُّهُ» (¬1). (164) حدثنا مُوسى بنُ إِسماعِيلَ، حدثنا حمَّادٌ، عن محمد بن إِسحاقَ، عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعَلِّمَهُم مِنَ الفَزَعِ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ، ومِنْ شَرِّ عِبَادِهِ، ومِنْ همَزَاتِ الشَّياطِينَ، وأن يَحْضُرُونَ» (¬2). ¬

(¬1) إسناده ضعيف، أخرجه أبو داود (3901)، والدولابِي في الكنَى (1731)، وغيرهما من طريق بقية بن الوليد، به، وبقية مدلس، وقد عنعن، نعم صرح بالتحديث عند أبي داود كما ذكر محقق المطبوعة، لكن هذا التصريح لا يغني عنا شيئا؛ فمثل بقية تحتاج منه فوق تصريحه بالسماع أن يسمي لك شيخه، قال ابن رجب في شرح علل الترمذي (2/ 824): «وكان ربما روى عن سعيد بن عبد الجبار الزبيدي، أو زرعة بن عمرو الزبيدي، وكلاهما ضعيف الحديث فيقول: ثنا الزبيدي، فيظن أنه محمد بن الوليد الزبيدي صاحب الزهري» وفي هذا الحديث لم يصرح قط باسم الزبيدي الراوي عن الزهري، حتى وإن صرح بالسماع، وأمر آخر؛ أن بقية قد وصف أيضا بتدليس التسوية، والذي لا تقبل روايته حتى يصرح لك بالسماع في جميع طبقات الإسناد، فهذا أمر لا بد أن يتفطن له في قبول ورد خبر المدلس، ولكن متن الحديث قد صح والحمد لله. (¬2) ضعيف، أخرجه أبو داود (3895)، والطبراني في الدعاء (1086)، وابن عبد البر في التمهيد (24/ 110)، من طريق محمد بن إسحاق بن يسار، به، ومحمد بن إسحاق؛ مختلف في الاحتجاج به وله غرائب في سعة ما روى تستنكر كما قال الذهبي، وقال الترمذي ... عقب روايته للحديث: «هذا حديث حسن غريب»، ثم ابن إسحاق مدلس، ولم يصرح بالسماع.

(165) حدثنا عُثمانُ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدَّثَنا جَرِيرٌ، عن محمدِ بنِ إِسْحَاقَ، بإسناده، إلا أَنَّهُ قال: «مِنْ غَضَبِهِ وعِقَابِهِ وشَرِّ عِبَادِهِ» (¬1). (166) حدثنا عُثْمانُ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، عن مَنْصُور بن المُعْتَمِر، عن المِنْهَالِ بنِ عمرٍو، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عَبَّاسٍ ? قال: كَانَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ حَسَنًا وَحُسَيْنًا: «أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ، وكان يَقولُ: كان أَبُوكُمَا يُعَوِّذُ بها إِسمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ» (¬2). (167) حدثنا هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، حدثنا محمدُ بنُ شُعَيْبٍ، عن عُثْمَانَ بن أَبِي العَاتِكَة، عن عَلِيِّ بنِ يَزِيدَ، عن القَاسِم، عن أَبِي أُمَامَةَ، عن أَبِي ذَرٍّ ? قال: قُلْتُ: أَيُّ النَّبِيِّينَ أَولاً يا رسول الله؟ قال: «آَدَمُ، قُلْتُ: أَوَ نَبِيًّا كان؟ قَالَ نعم، مُكَلَّمًا، خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ وَكَلَّمَهُ قِبَلاً، فقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الترمذي (3528)، وأحمد (6696)، والحاكم في المستدرك (1/ 548)، والنسائي في الكبرى (10533)، وغيرهم من طريق محمد بن إسحاق، به، وينظر التعليق السابق. (¬2) أخرجه البخاري (3371)، وأبو داود (4739) كلاهما تابع المصنف، وأخرجه ابن ماجه (3525)، وأحمد (2112)، وابن أبي شيبة في المصنف (30111)، والبزار (5099)، وغيرهم من طرق عن منصور، به. (¬3) منكر، أخرجه أحمد (22288)، والطبراني في الكبير (7871)، كلاهما مطولا من حديث علي بن يزيد هو الألهاني، به، وعلي هذا قال البخاري، منكر الحديث، وتركه النسائي، ... والدارقطني، والبرقاني، وغيرهم، والراوي عنه، نقل المصنف عن شيخه ابن معين أنه قال عنه: ليس بشيء، وضعفه أبو حاتم الرازي وقال: بليته من كثرة روايته عن علي بن يزيد،= = وقد تابع عليَّ بن زيد؛ جعفرُ بن الزبير كما عند أبي الشيخ في العظمة (5/ 1553)، والطبري في التاريخ (1/ 151)، كلاهما من طريق ابن إسحاق، عن جعفر، عن القاسم، به، وهذه متابعة لا تسمن ولا تغني من جوع؛ فإن جعفر بن الزبير حاله كحال متابعه؛ متروك الحديث، تركه أبو حاتم، والفلاس، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم، وقال ابن حبان: يروي عن القاسم وغيره أشياء موضوعة، وقد صح موضع الشاهد من حديث أبي أمامة أيضا كما مر برقم (149)، والله الموفق.

(168) حدثنا عَمْرُو بنُ عَوْنٍ، أخبرنا [أبو] (¬1) مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن خَيْثَمَةَ، عن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنكُم مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ» (¬2). (169) حدثنا أبو عُمَرَ الحَوْضِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ، عن عَلِيِّ بنِ مُدْرِك، عن أَبِي زُرْعَةَ بنِ عَمرو بنِ جَرَيرٍ، عن خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ، عن أبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاَثَةٌ؛ لا يُكَلِّمُهُم اللهُ يومَ القِيامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِم، ولهم عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ المُسْبِلُ، والمَنَّانُ والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكَاذِب، أو الفَاجِر» (¬3). (170) حدثنا إِبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِر الحِزَامِيُّ، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا عبدُ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ أَبو أُوَيْسٍ، عن قَرْثَع (¬4) الغَطَفَانِي، عن عُقْبَةَ بنِ بَشِير بنِ المُغِيرَة بنِ بَشِيرٍ ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من الأصل، وأثبتناه من مصادر التخريج، وأبو معاوية الراوي عن الأعمش؛ هو محمد بن خازم بالخاء المعجمة الكوفي الضرير، من أوثق الناس في الأعمش. (¬2) أخرجه البخاري (6539، 7443، 7512)، ومسلم (1016)، والترمذي (2415)، وابن ماجه (185)، وأحمد (18246)، وغيرهم، من طرق عن الأعمش، به. (¬3) صحيح، تقدم برقم (152). (¬4) كذا في الأصل، ويبدو أنه تصحيف، فالمشهور بالرواية عن عقبة بن بشير؛ الربيع بن قزيع أبو الجارود أحد بني غطفان، ينظر ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (3/ 270) وقد ... رواه ابن سعد في الطبقات (1/ 33)، على الصواب.

الأَسَدِيِّ قال: «سألتُ محمدَ بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ الهاشميَّ قال: قلت: يا أبا جعفر! مَنْ أَوْلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالعَرَبِيَّةِ؟ قال: إِسماعِيلُ بنُ إِبْراهِيمَ النَّبِيُّ، وهو يَوْمَئِذٍ ابنُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَة، قُلتُ: فَمَا كانَ كَلامُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِك؟ قال: العَبْرَانِيَّة، قلتُ: فما كان كلامُ اللهِ الذي أَنْزَلَهُ على رُسُلِهِ وَعِبَادِهِ ذَلِكَ الزَّمَان؟ قال: العَبْرَانِيَّةُ» (¬1). (171) قَرَأْتُ عَلَى أَبِي اليَمَانِ، قلت: أَخْبَرَكُم شُعَيْبٌ، عن الزُّهْرِيِّ قال: أَخْبَرنِي أبو بِكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحمنِ بنِ الحَارِث بنِ هِشَامٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ جَرْمُ (¬2) بنُ جَابرِ الخَثْعَمِيُّ، أنه سمع كَعْبَ الأَحْبَارِ يَقُولُ: «لمَّا كَلَّمَ اللهُ موسى بالألسنة كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ، طَفِقَ موسَى يَقُولُ: أَيْ رَبِّ! مَا أَفْقَهُ هذا، حَتَّى إذا كَلَّمَهُ آَخِر الأَلْسِنَةِ بِلسَانِهِ بِمِثْلِ صَوْتِهِ، يَعنِي بمثل لِسَانِ موسى، وبمثل صَوْتِ مُوسَى» (¬3). (172) حدثنا محمدُ بنُ عُثمَانَ التَنُّوخيُّ أبو الجُمَاهِر، حدثنا سَعِيدُ بنُ ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 33)، وفيه عقبة بن بشير، قال الذهبي في الميزان (5682): مجهول. (¬2) كذا في الأصل، وفي المطبوعة جزء، وفي اسمه اختلاف معروف، قال ابن ناصر الدين: ... «جرن بن جابر الخثعمي سمع كعبا، قاله البخاري في تاريخه، وهو أحد الأقوال في اسمه وبه صَدَّرها البخاري وقيل: جرير، وقيل: جزء، وقيل: جرو، والله أعلم» توضيح المشتبه (3/ 221). (¬3) ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (541)، وابن أبي حاتم في التفسير (6287)، والطبري في التفسير (10843، 10845)، وعبد الرزاق في التفسير (1/ 238)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 227)، وغيرهم من طريق الزهري، به، وفيه جرم أو جرير أو جزء أو جرز، كما ذكرنا الاختلاف في اسمه، وهو مجهول، لم يرو عنه غير أبي بكر بن عبد الرحمن ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان كعادته، والله أعلم.

بَشِيرٍ، عن قَتَادَةَ، «في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} بالقُرآنِ {لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)} أَعَزَّهُ اللهُ؛ لأنَّهُ كَلامُهُ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت: 41 - 42] وهُو إِبْلِيسُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْهُ حقًّا، أو يَزِيدَ فِيِهِ بَاطِلاً» (¬1). قال أبو سعيد رحمه الله: فَهَذِه الأحاديثُ قد رُوِيَتْ وأَكْثَرُ منها ما يُشْبِهُهَا، كُلُّهَا موافِقَةٌ لكتاب الله، في الإيمان بكلام الله، ولولا ما اخْتَرعَ هؤلاءِ الزَّائِغة من هذه الأُغْلُوطَاتِ والمعانِي، يَرُدُّونَ بها صِفَاتِ اللهِ، ويُبَدِّلُونَ بها كَلاَمَه؛ لكَانَ مَا ذَكَرَ اللهُ من ذلك في كتابه كَافِيًا لجميع الأمة، مَعَ أَنَّهُ كَمِلٌ (¬2) شَافٍ، إلا لمتأولِ ضَلاَلٍ، أو مُتَّبِع رِيبَةٍ، فحين رَأَيْنَا ذلك أَلَّفْنَا هذه الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، والتابعين مِنْ بَعْدِهِم؛ لِيَعْلَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَنَّ [مَنْ] (¬3) مَضَى مِنَ الأُمَّةِ لم يَزالوا يقولون في ذلك كما قال الله - عز وجل -، لا يَعْرِفُونَ له تَأْوِيلا غَيْرَ مَا يُتْلَى مِنْ ظاهره أنه كلامُ الرَّحمنِ تَبَارَك وتَعَالى، حتَّى نَبَغَ هؤلاءِ الذين اقتربوا (¬4) لرد كتاب الله - عز وجل -، وتَعْطِيلِ كَلامِهِ وصفاته المقدسة بهذه ¬

(¬1) هذا إسناد حسن، سعيد بن بشير، وإن كان تكلم فيه بعض أهل العلم، لكنا نعتمد ما نقله المصنف عن دحيم، حيث قال: «كان مشيختنا يقولون: هو ثقة، لم يكن قدريا»، وقال البخاري: «يتكلمون في حفظه، وهو يحتمل»، وقال ابن عدي: «الغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق» وقال شعبة أيضا: صدوق، هذا وقد توبع؛ تابعه أوثق الناس في قتادة، ألا وهو سعيد بن أبي عروبة، كما أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (21/ 479)، عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، به، وهذا إسناد حسن أيضا، بشر العقدي صدوق كما قال أبو حاتم الرازي. (¬2) كذا في الأصل. (¬3) ما بين معقوفين ليس في الأصل وكُتِب في الحاشية، وكُتِبَ فوقه لعله. (¬4) كذا في الأصل، والذي يبدوا لي أنها «افتروا» لاسيما وقد يظهر أن الناسخ قد ضرب على إحدى نقطتي القاف، وكذلك كلمة اقتربوا لا ألفيها ذات معنى جيد في هذا السياق، على عكس الكلمة التي نظنها، والله أعلم.

الأغلوطات، التِي لو ظَهَرَتْ على عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ ما كان سَبِيلُ مَنْ يُظْهِرُهَا بَيْنَهُم إلا كسبيلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، أَولُهَا هذه الكلمة الملعونة، التِي فارقوا بها جميعَ أهلِ الصلاة فقالوا: كلامُ اللهِ مخلوقٌ، والحُجَجُ عليهم، مِنْ رَدِّ ما أَتَوْا به، ما ذكرنا من كتاب الله، وَرَوَيْنَا مِن آثارِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَمَنْ بَعْدَهُ. ثم عليهم حججٌ كثيرةٌ من الكلام والنظر، لا نُحِبُّ ذِكْرَ كَثِيرٍ منها تخوفًا (¬1) أن لا تحتملها قُلُوبُ ضُعفَاءِ النَّاسِ، ولكن يَكْفِي مَنْ نَظَرَ فيما ذكرنا من كتاب الله - عز وجل - وروينا من هذه الآثار؛ أَنْ يَعْلَمَ أنَّ مخالفةَ هؤلاء لِلأُمةِ قَديمًا وحَدِيثًا، فيقول لهم: وجَدنا اللهَ تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأمةَ بَعدَهُ؛ سَمُّوهُ كلامَ اللهِ، وزعمتم أنتم أنه خَلْقُ اللهِ، فكفى بهذا مخالفة لله ولرسوله ولِلْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ. أَوَ آثارٌ تُوَافِيهِ (¬2)؟ بِكِتَابٍ نَاطِقٍ، أو أَثَرٍ عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أَحَدٍ من أهل العلم، أنه مخلوق، ولنْ تأتوا به أبدًا، وكيف تَأثُرُونَ الكُفْرَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل الإسلام بعدهم؟! فَذَهبَ بَعْضُهُم يحتج بتفاسيرٍ مقلوبة، وبمعانٍ لا أصلَ لها مِنْ كِتَابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا إِجماعٍ، إلا الكفر يَقِينًا. قُلتُ لبعضهم: دَعُوا هذه الأغلوطات، التِي نحنُ بها أَعْلَمُ مِنْكُم، ولن يُنْزِلَكُم اللهُ من كتابه بالمنزلةِ التِي يُعْتَمَدُ فيها على تَفْسِيرِكُم، أو يُقْبلُ فيها شيءٌ من آرائكم، وقد أتيناكم به مَنْصُوصًا عن الله، وعن رسوله، وعن الأمة بأجمعها؛ أنه كلامُ اللهِ حقًّا، فَهَاتُوا عن أَحَدٍ مِنهُم منصوصًا، أَنَّهُ خَلْقُ اللهِ كما ¬

(¬1) زاد هنا في المطبوعة كلمة «من» ثم علق قائلا زيادة يقتضيها السياق! ولا أدري أي سياق الذي اقتضى هذه الكلمة التي ليست من الأصل، والسياق كما ترى لاحب لا لبس فيه. (¬2) قوله «أَوَ آثارٌ توافيه» في المطبوعة «أو أئتوا فيه» وما أثبتناه من الأصل، والفرق بين الأسلوبين واضح!

ادَّعَيْتُم، وإلا فَأَنْتُم المفَارِقُونَ لجماعةِ المسلمينَ قديمًا وحديثًا، الملحِدُونَ في آيات الله، المُفْتَرونَ على اللهِ، وعَلَى كِتَابِهِ، ورسولِهِ، ولَنْ تَأتُوا عن أَحدٍ مِنْهُم. أَرَأَيْتُم قَوْلَكُم إنه مخلوق، فَمَا بَدْءُ خَلْقِهِ؟ قَالَ اللهُ لَهُ: كُنْ؛ فَكَانَ كلامًا قَائِمًا بنفسه بِلا مُتَكَلِّم به، فقد عَلِمَ النَّاسُ -إلا من شاء الله منهم- أن الله - عز وجل - لم يَخْلُقْ كَلامًا يُرَى ويُسْمَعُ بلا متكلم به، فَلابُد أن تقولوا في دعواكم: اللهُ المُتَكَلِّمُ بالقرآن، فَأَضَفْتُمُوهُ إلى الله، فهذا أَجْوَرُ الجَوْرِ، وأَكْذَبُ الكَذِبِ؛ أَنْ تُضِيفُوا كَلاَمَ المَخْلُوقِ إلى الخَالِقِ، ولو لم يَكُنْ كُفْرًا، كان كَذِبًا لا شك فيه، فكيف وهو كُفْرٌ لا شَكَّ فيه، لا يحقُّ لمخلوقٍ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أن يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، ويدعو الخَلْقَ إلى عِبَادَتِهِ، فيقول {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12] {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه: 13] {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)} [طه: 41 - 42] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60 - 61]. قَد عَلِمَ الخَلْقُ -إلا مَنْ أَضَلَّهُ الله- أنه لا حَقَّ لأَحَدٍ أن يَقولَ هذَا، وما أَشْبَهَهُ، غَيْرُ الخَالِقِ، بَلِ القَائِلُ بِهِ والدَّاعِي إِلَى عِبَادَتِهِ -غَيْرُ اللهِ- كَافِرٌ كَفِرْعَوْنَ، الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24] والمجيبُ لهُ، والمؤمِنُ بِدَعْوَاه، أَكْفَرُ وأَكْذَبُ. وإن قُلتُم إنه تَكَلَّمَ بِهِ مخلوقٌ، فَأَضَفْنَاهُ إلى الله؛ لأنَّ الخَلْقَ كُلَّهُم بِصِفَاتِهِم وكلامهم لله، فهذا المُحَالُ الذي ليسَ ورَاءه محال، فَضْلاً على أن يكون كُفْرًا؛

لأن الله - عز وجل - لم يَنْسِبْ شَيْئًا من الكلامِ كُلِّهِ إلى نفسه أنه كَلاَمُهُ غَيْرَ القُرآنِ، وما أنزل على رسله، فإن قَد تَمَّ كَلاَمُكُم ولزمتموه؛ لَزِمَكُم أنْ تُسَمُّوا شِعرًا، وجميعِ الغِنَاءِ والنَّوْحِ وكَلاَمِ السِّبَاعِ والطَّيْرِ والبَهَائِم؛ كلامَ اللهِ، فهذا ما لا يختلفُ المُصَلُّونَ في بُطُولِهِ واستِحَالَتِهِ، فَمَا فَضْلُ القرآنِ إذًا عِنْدَكُم علَى الغِناءِ والنوحِ والشعرِ، إِذْ كَانَ كُلُّه -في دعواكم- كَلامَ اللهِ؟! فكيف خُصَّ القُرآنُ بِأَنَّهُ كلام الله، ونُسِبَ كُلُّ كلامٍ سِوَاهُ إلى قَائِلِه، فَكَفَى بِقَوْمٍ ضَلالاً؛ أن يَدَّعُوا دَعْوَى لا يَشُكُّونَ (¬1) الموحِّدُونَ في بطوله واستحالته. ومما يزيدُ دعواكُم تكذيبًا واستحالةً، ويزيدُ المؤمنينَ بِكلامِ الله إيمانًا وتصديقًا؛ أن الله - عز وجل - قد مَيَّزَ بَيْنَ مَنْ كَلَّمَ مِنْ رُسُلِهِ (¬2) وبين مَنْ لم يُكَلِّم، ومَنْ يُكَلِّمُ مِنْ خَلْقِهِ في الآخرة، ومَنْ لم يُكَلِّم، فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، فَمَيَّزَ بين من اختصَّهُ بكلامِهِ، وبين مَنْ لم يُكَلِّمْهُ، ثم سَمَّى ممن كَلَّمَ؛ موسى فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]، فلو لم يكلمه بنفسه إِلا عَلى تَأْوِيلِ ما ادَّعَيْتُم، فما فَضْلُ ما ذَكَرَ اللهُ مِنْ تَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ على غيره ممن لم يكلمه؟! إِذْ كُلُّ الرُّسُلِ في تكليم الله إياهم مثل موسى، وكُلٌّ عندكم لم يسمع كلام الله. فهذا محالٌ مِنَ الحُجَجِ، فضلا أن يكون ردًّا لكلام الله، وتكذيبًا لكتابه، ¬

(¬1) الأشهر «يشك» والمثبت من الأصل؛ صحيح شائع، وهو على لغة «يتعاقبون فيكم ملائكة» أو «أكلوني البراغيث». (¬2) زاد هنا في المطبوعة «في الدنيا»؛ أوَ يُفهم غير ذلك، أم أن القيامة قد قامت وما عندنا بذلك خبر!

ولم يقل {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}، إلا وأن حالتيهما مختلفتان في تكليم الله إياهم، فمما يزيد ذلك تحقيقًا قوله: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 77] يعنى يوم القيامة. ففي هذا بَيَانٌ بَيِّنٌ أنه لا يُعَاقِبُ قومًا يومَ القيامةِ بِصَرْفِ كَلامِهِ عَنْهُم، إلا وأَنَّهُ مُثِيبٌ بِتَكْلِيمِهِ قَوْمًا آخَرينَ. ثم قد مَيَّزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من يُكَلِّمُهُ الله يوم القيامة، وبين من لا يكلمه، فمن ذلك ما روينا في هذا الباب عن عَدِيِّ بنِ حَاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة». والحديث الآخر ما روينا عن أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة». ففي هذين الحديثين أيضًا بيان بَيِّن على نفس كلام الله - عز وجل -، أنه يُكَلِّمُ أقوامًا، ولا يُكَلِّمُ آخرين، ولو كان كما ادَّعيتُم؛ كان المُثابُ بكلامِ الله، والمُعَاقَبُ بهِ المصروف عنه سواءٌ عندكم، ألا ترى أن أبا ذَرٍّ سَأَلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن آدمَ صلوات الله عليه، أَنَبِيًّا كان؟ قال: نعم مُكَلَّمًا، فهذا يُنْبِئُكَ أَنَّهُ أرادَ نَفْسَ كلامِ الله، لا كلام من سِواه. ولو كان مُكَلَّمًا بكلامِ المخلوقِينَ في دعواكم، لم يكن فيه كَبِيرُ فَضِيلةٍ لآدمَ على غيره من الخلق؛ لأن عَامَّةَ الخَلْقِ يُكَلِّمُ بَعْضُهُم بَعضًا فهم مُكَلَّمُونَ، فما فضلُ آدم في هذا عندكم على من سواه من ذريته؟! وقد قال تبارك وتعالى: ... {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. * * *

باب الاحتجاج للقرآن أنه غير مخلوق

بَابُ الاحْتِجَاجِ لِلْقُرآنِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قال أبو سعيد رحمه الله: فَمِنْ ذَلِكَ؛ ما أَخْبَرَ اللهُ تعالى في كتابِهِ عن زَعِيمِ هؤلاءِ الأَكْبرِ وإِمَامِهِم الأَكْفَرِ، الذي ادَّعَى أولاً أَنَّهُ مخلوقٌ؛ وهو الوحيد، واسمهُ الوليد بن المُغِيرَة، فَأَخبرَ اللهُ عن الكافِر دعواه فيه، ثم أَنكرَ عَليهِ دَعْواه، وردَّها عليه، وَوَعَده النَّارَ؛ أَنِ ادَّعَى أَنَّ قَولَ اللهِ قَوْلُ البَشَرِ. وقوله: إِنْ هذا إلا قَولُ البَشَرِ، وقَولُ هؤلاءِ الجَهْمِيَّةِ: هو مخلوق؛ واحِدٌ، لا فَرْقَ بينهُمَا، فَبِئْسَ التَّابِعُ وبِئْسَ المَتْبُوعُ. قال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} إلى قوله: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} [المدثر: 11 - 26]، يَعنِي أنه ليس بقولِ البَشَرِ كمَا ادَّعى الوَلِيدُ، ولَكِنَّهُ قَوْلُ اللهِ - عز وجل -. (173) فَحَدَّثنا أبو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدَّثَنا ابنُ نُمَيْرٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ المُهَاجِر قال: سمعتُ أَبِي يَذْكُرُ، عَن مُجَاهِدٍ في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} قال: «ذلك الوليدُ بنُ المغيرة المَخْزُومِيُّ، والمالُ الممدود؛ أَلْفُ دِينَار، والبَنِينُ الشهود؛ عَشْرَةُ بنين، قال: فلم يَزَلِ النُقْصَانُ في ماله، وَوَلَدِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بما تَكلم حَتَّى مَات» (¬1). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الطبري مفرقا (23/ 20، 21)، دون الفقرة الأخيرة منه، من طريق إسماعيل بن إبراهيم، به. وإسماعيل؛ ضعفه ابن معين وغيره، وقال الحافظ ضعيف. وأما الفقرة الأولى، وهي قوله: «ذلك الوليد بن المغيرة المخزومي» فصحيحة؛ فقد أخرجها الطبري (23/ 19)، من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، به. ... = = وابن أبي نجيح وإن لم يكن سمع من مجاهد التفسير كما نقل ذلك ابن حبان في الثقات (7/ 5)، عن يحيى القطان، إلا أن أبا حاتم الرازي قال: ابن أبي نجيح، وابن جريج نظرا في كتاب القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، قلت: والقاسم ثقة، وقد قال وكيع: كان سفيان يصحح تفسير ابن أبي نجيح.

قال أبو سعيد: وكَذلِكَ صار لأتباعه (¬1) الذين تَلَقَّفُوا منه هذه الكلمة، خِزي وتَبَاب في كُلِّ شيءٍ مِنْ أَمرِهِم. ومما يُحْتَجُّ به أيضًا عليهم من كتاب الله - عز وجل -؛ قول الله - عز وجل -: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]. وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 23 - 24] تثبيتًا أنهم لا يفعلونه أبدًا. وقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13]. ففي هذا بَيَانٌ بَيِّنٌ أَنَّ القُرآنَ خَرجَ مِنَ الخَالِقِ، لا مِنَ المخلوقينَ، وأَنَّهُ كلامُ الخَالِقِ لا كَلامَ المخلوقينَ، ولو كانَ كلام المخلوقين ومنهم؛ لقدر المخلوقُ الآخَر أن يَأتِي بمثله، أو بأحسن منه؛ لأنه لم يتكلم مخلوقٌ بحقٍّ وباطلٍ من الشِّعرِ، أو الخُطَبِ، أو المواعِظِ، أو من كلام الحِكْمَةِ، أو غَيْرِ ذلك، إلا وقد أَتَى بمثلهِ أو بأحسن منه نُظَرَاؤُهُ ممَّنْ هُم في عصره، أو ممن بَعْدَهُ. فهذا قد ثَبَّتَ اللهُ عليه الشَّهادة أنه لا يَأْتِي بمثله جِنٌّ ولا إِنْسٌ؛ لأنه منه، ¬

(¬1) في الأصل «أتباعه» ولعل حرف اللام سقط من الناسخ، فبدونه لا أرى المعنى يستقيم.

وصَدَق اللهُ وبَلَّغَ رَسولُهُ، لم يَأْتُوا بمثله مُنْذُ مائَتَيّ وخمسين سنة، ولا يأتون بمثله إلى خمسين ألف سنة، فكيف يَفْعَلُونَهُ؟! وقد قال الله - عز وجل - لن يفعلوا، و {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] فلا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. ففي هذا بيانٌ بيِّنٌ أنه كلامُ الخالقِ نفسه، وأنه غَيْرُ مخلوقٍ. ومما نحتجُّ به عليهم أنه غَيْرُ مخلُوقٍ، مِنْ قَوْلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: فَضْلُ القُرآنِ على سَائِرِ الكَلاَمِ؛ كَفَضْلِ اللهِ على خَلْقِهِ. (174) حدثنا به شِهَابُ بنُ عَبَّادٍ العَبْدِيُّ الكُوفِيُّ، حدثنا محمد بن الحسن بن أبِي يزيدَ الهَمْدانِيُّ، عن عمرِو بنِ قَيْسٍ، عن عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ القرآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي؛ أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَائِلِينَ، وفَضْلُ كَلامِ اللهِ على سَائِرِ الكَلامِ؛ كَفَضْلِ اللهِ على خَلْقِهِ» (¬1). (175) حدثناه عُقْبَةُ بنُ مُكْرَمٍ البصريُّ، حدثنا مُعَلَّى بن أسد، حدثنا محمد بن سَوَاءٍ، حدثنا سعيد بن أبِي عَرُوبَةَ، عن أَشْعَثَ الحُدَّانِيِّ، عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَضْلُ القُرآنِ على سَائِرِ الكلامِ، كَفَضْلِ الرَّحْمَنِ على سَائِرِ خَلْقِهِ» (¬2). (176) وحَدَّثَنِي محمدُ بنُ حميدٍ الرَّازِيُّ، حدثنا إسحاقُ بنُ سُلَيْمَانَ الرَّازيُّ، حدثنا الجَرَّاحُ بنُ الضَّحَّاك الكِنْدِيُّ، عن عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ، عن أَبِي عبد ¬

(¬1) ضعيف جدًا، وتقدم تخريجه برقم (136). (¬2) ضعيف، وتقدم تخريجه برقم (138).

الرَّحمنِ، عن عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُكُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ» (¬1). قال أبو عبد الرحمن: «فَهَذَا الذِي أَجْلَسَنِي هذا المجلس، وَفَضْلُ القُرآنِ على سَائِر الكَلامِ؛ كَفَضْلِ الخَالِقِ عَلى المَخْلُوقِ، وذَلِكَ أَنَّهُ مِنْهُ» (¬2). قال أبو سعيد: ففي هذه الأحاديث بَيَانٌ أَنَّ القرآنَ غَيرُ مخلوق؛ لأنه ليس شَيءٌ مِنَ المَخْلُوقِينَ من التَّفَاوُتِ في فضل ما بينهما، كما بَيْن اللهِ وبَيْن خَلْقِهِ في الفضل؛ لأن فَضْلَ مَا بَيْن المخلوقين يُسْتَدْرَكُ، ولا يُسْتَدرَك فَضْلُ اللهِ على خلقه، ولا يحصيه أحد. ¬

(¬1) صحيح، رواه علقمة بن مرثد، واختلف عنه؛ فرواه سفيان الثوري، والجراح بن الضحاك، وغيرهما، عن أبي عبد الرحمن، به، أخرجه البخاري (5028)، والترمذي (2908)، وابن ماجه (212)، وأحمد (405)، وعبد الرزاق في مصنفه (5995)، والنسائي في الكبرى (7984)، وغيرهم، ورواه شعبة، وغيره عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، به، أخرجه البخاري (5027)، وأبو داود (1454)، والترمذي (2907)، وابن ماجه (211)، وغيرهم، هكذا بزيادة سعد بن عبيدة في الإسناد، ورواية سفيان ومن تابعه، بدون ذكر سعد بن عبيدة هي الأرجح. قال الترمذي في السنن عقب حديث (2908): «وقد زاد شعبة في إسناد هذا الحديث سعد بن عبيدة وكأن حديث سفيان أصح، قال علي بن عبد الله _يعني ابن المديني_: قال يحيى بن سعيد: ما أحد يعدل عندي شعبة وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان. قال أبو عيسى: سمعت أبا عمار يذكر عن وكيع قال: قال شعبة: سفيان أحفظ منِّي وما حدثني سفيان عن أحد بشيء فسألته إلا وجدته كما حدثنِي». وقد اعترض الدارقطني على إخراج البخاري هذا الحديث وذكر الاختلاف الواقع فيه، فرد عليه الحافظ في الفتح (1/ 374) بكلام مفاده؛ أن هذا من قبيل المزيد في متصل الأسانيد، فيحتمل أن يكون علقمة سمعه مرة من سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، ثم لقي أبا عبد الرحمن بعد ذلك فسمعه منه مباشرة دون الواسطة. (¬2) هذا القدر الموقوف على أبي عبد الرحمن، أخرجه أحمد (412)، والطيالسي (73)، وابن حبان (118)، وغيرهم.

وكذلك فَضْلُ كَلامِهِ على كلامِ المخلوقين، ولو كان كلامًا مخلوقًا؛ لم يكن فَضل ما بينه وبين سائِرِ الكلام كفَضلِ اللهِ على خلقِهِ، ولا كَعُشْرِ عُشْرِ جُزءٍ من أَلفِ أَلف جُزء، ولا قريبًا ولا قريبًا، فَافْهَمُوُه، فإنه ليس كمثله شيء، فليس كَكَلامِهِ كَلامٌ، ولن يُؤْتَى بمثلهِ أبدًا. (177) حدثنا سَعِيدُ بنُ أَبِي مَريمَ المِصْرِيُّ، حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ، عن خالد بن يزيد، عن سَعِيد بنِ أَبِي هِلال، عن ثَابِت بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو بن العاص? قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِعَ القُرآنُ مِنْ حَيْثُ نَزَلَ، له دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يقول يا رب! مِنْكَ خَرَجْتُ، وإِلَيْكَ أَعُودُ، أُتْلَى ولا يُعْمَلُ بِي، أُتلى ولا يُعمل بِي» (¬1). (178) سَمِعْتُ إِسحاقَ بنَ إِبراهيمَ الحَنْظَلِيَّ، يقول: قال سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: قال عمرُو بنُ دِينَارٍ: «أَدْرَكتُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنْ دُونهم مُنذُ سَبْعِينَ سنة، يقولون: اللهُ الخَالِقُ ومَا سِواهُ مخلوق، والقُرآنُ كلامُ اللهِ، مِنْهُ خَرجَ وإِليْهِ يَعُودُ» (¬2). (179) حدثنا عَلِيُّ بنُ المَدِينِيُّ، حدثنا مُوسى بنُ دَاوُدَ، حدثنا مَعْبَدُ -قال: قال عَليٌّ: وهو ابنُ رَاشِدٍ-، عن مُعَاِويَةَ بنِ عَمَّارٍ قال: قيل لجَعْفَر بنِ محمدٍ: ¬

(¬1) ضعيف، ذكره السيوطي في الدر المنثور (9/ 439) وعزاه لمحمد بن نصر في كتاب الصلاة، قلت: فيه ابن لهيعة، ضعيف، وثابت بن عبد الله؛ قال الذهبي في الميزان (1365): «لا يُدرى من ذا». (¬2) صحيح، أخرجه البيهقي في السنن (10/ 205)، من طريق المصنف، به، وأخرجه الخلال في السنة (1860)، وابن عبد البر في التمهيد (24/ 186) كلاهما من طريق ابن راهويه، به، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (381)، من طريق الحكم بن محمد الآمُلي، عن سفيان بن عيينة، به.

القُرآنُ خَالِقٌ أو مخلوق؟ قال: «ليس بخَالِقٍ ولاَ مخلُوق، ولَكِنَّهُ كلامُ اللهِ» (¬1). (180) حدثنا محمدُ بنُ مَنْصُورٍ الذي يُقالُ له الطُّوسِيُ من أهل بغداد وكان ثقة قال: حَدثنِي عَليُّ بنُ مَضَّاءٍ مولى خالد القَسْرِي قال: سمعت ابنَ المُبَارَكِ بِالمِصِّيصَةِ سأله رِجالٌ عنِ القُرآنِ؟ فقال: «هو كَلامُ اللهِ، غَيْرَ مخلُوقٍ» (¬2). (181) وحدثنا محمدُ بنُ منصورٍ قال: حدثنِي عَلِيُّ بنُ المَضاءِ قال: سمعت بَقِيَّةَ بنَ الوَلِيدِ يَقول: «القُرآنُ كَلامُ اللهِ غَيْرُ مخلُوقٍ» (¬3). (182) وحدثنا محمدُ بنُ منصور، حدثنا عَليُّ بنُ المضاء قال: سمعتُ عِيسَى بنَ يُونُسَ يقول: «القُرآنُ كَلامُ اللهِ غَيْرُ مخلُوقٍ» (¬4). (183) حدثنا محمدُ بنُ مَنْصُور، حدثنا عَلِيٌّ (¬5) قال: سمعت القَاسِمَ ¬

(¬1) حسن، أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (95)، وعبد الله بن أحمد في السنة (134)، والبيهقي في الأسماء والصفات (543)، من طريق معبد بن راشد، به، وإسناده حسن، ومعبد بن راشد؛ قال الحافظ مقبول يعني حيث يتابع، وقد توبع، تابعه سويد بن سعيد كما عند البيهقي في الأسماء والصفات (542)، ويحيى بن عبد الحميد الحماني كما عند اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (402). (¬2) إسناده صحيح إلى ابن المبارك، إن كان علي بن مضاء؛ هو علي بن محمد بن علي بن أبي المضاء المصيصي، وإلا فلم أقف له على ترجمة، والمذكور وثقه النسائي، ثم إني لم أجد من أخرج هذا القول بهذا الإسناد، وإلا فهو صحيح عن ابن المبارك من أوجه أخر، وينظر الأسماء والصفات للبيهقي (549)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (426)، والسنة لعبد الله بن أحمد (144). (¬3) إسناده صحيح كسابقه، ولم أقف على من أخرجه بهذا الإسناد سوى المصنف. (¬4) إسناده صحيح كسابقه، ولم أقف على من أخرجه بهذا الإسناد سوى المصنف. (¬5) زاد هنا في الأصل «بن المضاء» وضرب عليها.

الجَزَرِيَّ يَقُول: «القرآن كلامٌ (¬1) غير مخلوق» (¬2). (184) حدثنا محمد بن منصور، حدثنا علي بن المضاء، حدثنا هِشَامُ بنُ بَهْرَامَ قال: سمعتُ المُعَافَى بنَ عِمْرَانَ يقول: «القُرآنُ كَلامُ اللهِ غَيْرُ مخلُوقٍ» قَالَ هِشَامٌ: وأَنَا أَقُولُ كَمَا قَال المُعَافَى، قَالَ عَلِيٌّ: وأنا أَقولُ كما قال هِشَام، قَال محمدُ بنُ منصور: وأنا كما قَالوا، خمسينَ مَرَّة (¬3). قال أبو سعيد: وأَنَا أقولُ كما قالوا سَبعيِنَ مَرة، قال القُرَشِي (¬4): وأنا أقول كما قالوا. قَال الأَزْدِي (¬5): وأنا أقولُ كما قَالوُا عَدَدَ أَياَّمِ الدَّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِه، وَبِه أَلْقَى اللهَ - عز وجل - ورسولَه - صلى الله عليه وسلم -. قاَلَ أَبو رَوْحٍ (¬6): وأنا أقول بِعَدد مَنْ يُبْصِرُ ومَنْ لا يُبْصِر. وقَال شَيْخُنَا أبو عبد الله (¬7): وأنا أَقولُ بِعَدد جميعِ الخَلائِقِ. (185) سَمِعْتُ محمدَ بنَ مَنصُورٍ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام- حِدثَان ما اسْتُخْلِفَ جَعْفَرُ- (¬8) فَقُلْتُ له: إِنَّ ناسًا يقولون: القُرآنُ مخلوقٌ، فقال بِوَجْهِهِ ¬

(¬1) كتب فوقها في الأصل، «كذا». (¬2) إسناده صحيح كسابقه، ولم أقف على من أخرجه بهذا الإسناد سوى المصنف. (¬3) إسناده صحيح، كسابقه، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (512)، عن الطوسي به، دون ذكر قول الطوسي «خمسين مرة». (¬4) القرشي: هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن إبراهيم، راوي هذا الكتاب عن أبي سعيد الدارمي. (¬5) الأزدي: هو أبو محمد محمد بن أحمد بن محمد بن الفضل، الراوي عن القرشي. (¬6) أبو روح: هو ثابت بن أبي محمد الأزدي، والراوي عنه. (¬7) أبو عبد الله: هو محمد بن عبد الله بن محمد المُذَكِّر الهروي، الراوي عن أبي روح. (¬8) جعفر: هو ابن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، المتوكل على الله، الخليفة العباسي الذي أنهى الله على يديه محنة خلق القرآن، توفي سنة 247 هـ.

هكذا، كَأَنَّه أَعْرَضَ، فقلتُ: أَلَيْسَ كلام اللهِ غير مخلوق؟ قال: نعم، ثم قُلْتُ لَه مَرةً أُخرى، فَقَالَ: نَعَم (¬1). (186) حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ المِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا يحْيَى بنُ أَيُّوبَ، عن عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي جَعْفَر، عَنْ رَجُلٍ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ مِصْرَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عمرِو بنِ العَاص، عن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «القُرآنُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ السَّماواتِ والأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ» (¬2). قال أبو سعيد: فهذا يُنْبِئُك أنه نَفْسَ كَلامِ اللهِ، وأنه غير مخلوق؛ لأن اللهَ - عز وجل - لم يَخْلُقْ كَلامًا إلا عَلَى لِسَانِ مخلوق، فلو كان القرآنُ مخلوقًا -كما يَزْعُم هؤلاءِ المُعَطِّلُون- كان إذًا مِنْ كلامِ المَخْلُوقِين، وكُلُّ هذهِ الرِّوايات والحكايات والشواهد والدلائل، قد جاءت وأكثر منها؛ في أنهُ غَيْرُ مخلوقٍ، ثم إِحَاطَةُ عِلْمِ العُلَمَاءِ وعقولِ العُقَلاءِ بِأَنَّ كلامَ الخَالِقِ لا يَكُونُ مخلوقًا أبدًا، إِذًا كان فِي دَعْوَاهُم قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الكَلامَ مَنْقُوصًا مُضطرًا إِلَى الكلامِ، حتَّى خَلَقَهُ، وكَمُلَتْ رُبُوبِيَّتُهُ وتمَّتْ وَحْدَانِيَتُهُ بمخلوقٍ -في دعواهم-!!! * * * ¬

(¬1) روى هذه الحكاية عن الطوسي؛ عبد الله بن أحمد في كتاب السنة (513). (¬2) ضعيف، أخرجه الدارمي في سننه (3358)، عن عبد الله بن صالح المصري، به. قلت: عبد الله بن صالح المصري كاتب الليث، ضعيف، وأيضا إبهام الراوي عن عبد الله بن عمرو، وقد أخرجه أبو الفضل الرازي في فضائل القرآن (ص 9) من طريق يحيى بن أيوب الغافقي، عن واهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو، به، إلا أن إسناده ضعيف جدًا، فيه أبو الهيثم المدائني خالد بن القاسم، قال البخاري: «متروك تركه عَليٌّ والناس».

باب الاحتجاج على الواقفة

بَابُ الاحْتِجَاجِ عَلَى الوَاقِفَةِ قال أبو سعيد رحمه الله: ثُمَّ إِنَّ ناسًا ممن كتبُوا العِلمَ بِزَعْمِهِم وادَّعُوا مَعْرِفَتَهُ، وقَفُوا في القُرآنِ، فقالوا: لا نقولُ مخلوقٌ هو، ولا غير مخلوق، ومَعَ وُقُوفِهِم هذا لم يَرضُوا حتَّى ادَّعَوا أنهم يَنْسِبُونَ إِلَى البِدعَةِ مَنْ خَالَفَهُم، فقال بِأَحد هذين القولين. فَقُلْنا لهذه العِصَابة: أَمَّا قَولُكُم مُبتدعٌ؛ فَظُلْمٌ وحَيْفٌ في دَعواكُم حتَّى تَفْهَمُوا الأَمْرَ وتَعقِلُوُه؛ لأنكُم جَهِلْتُم أَيَّ الفَريقينِ أَصَابُوا السُّنةَ والحقَّ، فيكونُ مَنْ خَالفَهُم مُبتدعةٌ عِندَكُم، والبِدعةُ أمرُها شَديدٌ، والمنسوب إليها سيء الحالِ بين أَظْهُرِ المسلمينَ، فلا تَعْجَلُوا بالبدعة حتَّى تستيقنوا وتعلموا أَحَقًّا قال أحدُ الفَرِيقَينِ أم بَاطِلاً؟ وكيف تستعجلون أن تَنْسِبُوا إلى البدعة أقوامًا في قَوْلٍ قَالُوهُ، ولا تَدْرُونَ أنهم أَصَابُوا الحقَّ في قولهم ذلك أم أَخْطَئُوهُ؟! ولا يُمْكِنُكُم في مذهبِكُم أن تَقُولوا لواحدٍ مِنَ الفَرِيقينِ: لم تُصِبِ الحقَّ بقولك، وليس كما قلت. فَمَنْ أَسْفَهَ في مَذهَبِهِ وأَجَهَلَ ممن يَنْسِب إِلَى البِدْعةِ أقوامًا، يَقولُ لا نَدْرِي، أهو كما قالوا أم ليس كذلك، ولا يَأمنُ في مذهبه أنْ يَكُونَ أَحَدُ الفَريقينِ أَصَابُوا الحقَّ والسُّنةَ، فَسَمَّاهُم مُبتدعة، ولا يأمن في دَعواهُ أَنَّ الحَقَّ بَاطِلاً والسُّنةَ بِدعة!! هذا ضَلالٌ بَيِّنٌ وجَهْلٌ غَير صَغِير. وأَمَّا قَولُكُم: لا ندري مخلوقٌ هُو أم غَيْرُ مخلوقٍ، فإن كان ذلك مِنكُم قِلَّةُ عِلْمٍ به وفَهْمٍ، فإنَّ بيننا وبينكم فيه؛ النَّظَرَ بما يَدُلُّ عليه الكِتابُ والسُّنةُ وتحتمل العقول. وجَدْنَا الأَشياءَ كُلَّها شَيْئَيْن: الخَالِقُ بجميع صفاته، والمخلوقين بجميع

صِفَاتهِم، فالخَالِقُ بجميع صفاته؛ غَيْرُ مخلوق، والمخلوقُ بجميع صفاته؛ مخلوق، فانظروا في هذا القرآن، فإن كان عندكم صفة المخلوقين؛ فلا ينبغي أن تَشُكُّوا في المخلوقينَ وفي كلامِهِم وصفاتهم؛ أنها مخلوقَةٌ كلها لا شك فيها، فَيَلْزَمُكُم في دعواكم حِيَنِئذٍ أن تقولوا كما قالت الجهمية، فلتستريحوا مِنَ القَالِ والقِيلَ فيه، وتغيروا عن ضمائركم، وإن كان عندكم هو صفةُ الخَالِقِ وكَلامِهِ حقًّا، ومنه خَرَجَ، فلا ينبغي لِمُصَلٍّ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أن يَشُكَّ في شيءٍ مِنْ صِفاتِ الله وكلامِهِ الذي خَرَجَ منه؛ أنَّه غَيْرُ مخلوقٍ. هذا واضح لا لَبْسَ فيه، إلا على من جَهِلَ العِلْمَ مِثَالِكُم، ومَا فَرْقُ بينكم وبين من قال هو مخلوق؟ إلا يسير، يَزعمُ أُولئِك أنه كلامُ اللهِ مَضَافٌ إليه مخلوق، وزَعمْتُم أنتم أَنَّهُ كلامُ اللهِ، ولا تَدْرُونَ مخلوقٌ هُو أو غير مخلوق، فإذا لم تدروا؛ لم تَأْمَنُوا في مَذهبِكُم أَن يكونَ أولئِك الذين قالوا مخلوق، قد أَصابُوا مِنْ قَولِكُم، فكيف تَنْسِبُونهم إلى البِدعَةِ وأنتم في شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِم، فلا يجوزُ لِرَجُلٍ أن يَنْسُبَ رَجُلاً إلى بِدعةٍ بِقولٍ، أو فِعْلٍ، حتَّى يَسْتَيقِنَ أنَّ قَوْلَهُ ذَلك وفِعْلَهُ بَاطِلٌ لَيْسَ كما يقول، فَلِذَلك قُلْنَا: إِنَّ فَرْقَ ما بينكم يسير؛ لأنَّ أُولئِك ادَّعوا أنه مخلوق، وزُعَمتُم أنتم؛ أنه كلامُ اللهِ، ومَنْ زَعَمَ أنه غير مخلوق فقد ابتدع وضَلَّ -في دعواكم- فإن كان الذي يَزْعُم أنه غيرُ مخلوقٍ مبتدعًا عندكم لا تَشُكُّونَ فيه أنه لَمَخْلُوقٌ عندكم حقًا لا شك فيه، ولكن تَسْتَتِرونَ مِن الافتضاحِ به، مخافةَ التَّشْنِيع، وجَعلتُم أَنْفُسَكُم جُنَّةً ودَلَسَةً للجهمية عند الناس، تُصَوِّبُونَ آراءَهُم، وتُحَسِّنُونَ أَمْرَهُم، وتَنْسِبُونَ إلَى البِدْعَةِ مَنْ خَالَفَهُم. والحُجَّةُ على هذه العصابة أيضًا؛ جميع ما احتججنا به، من كتاب الله في تحقيقِ كلامِ اللهِ، ومَا رَوَيْنَا فِيِه مِنْ آثارِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنْ بَعْدَهُ؛ أن القُرآنَ

نَفْس كلامِ اللهِ، وأنه غيرُ مخلُوقٍ، فهي كُلُّهَا دَاخِلَةٌ عليهم كما تَدْخُلُ على الجهمية؛ لأن كُلَّ مَنْ آمنَ بِاللهِ وصَدَّقه في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وفي قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] فَأيقنَ بأنَّهُ كَلامُهُ حقًا كما سماه أَصدقُ القَائِلينَ؛ لَزِمَهُ الإيمان بأنَّه غير مخلوق؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يجعل كلامًا مخلوقًا لنفسه صِفَةً وكلامًا، ولم يُضِفْ إلَى نَفسِهِ كلامَ غَيْرِهِ لأَنَّهُ أَصدقُ القائلينَ. ولا يُقَاسُ كلامُ اللهِ بِبَيْتِ اللهِ وعبدِ اللهِ وخَلْقِ اللهِ ورَوْحِ اللهِ؛ لأن الخَلْقَ ليس مِنَ اللهِ ولا مِنْ صِفَاتِهِ، وكَلامُهُ صِفَتُهُ ومِنْهُ خَرَجَ، فلا يُضَافُ إلى اللهِ مِنَ الكَلامِ إِلاَّ ما تَكَلَّمَ بِهِ، ولو جَازَ أن يُنْسَبَ كلامُ مخلوقٍ إلى اللهِ، فَيَكُون للهِ كلامًا وصِفَهً كما يُضَافُ إليه بَيْتُ اللهِ وعبدُ اللهِ، لجاز أن تَقُول: كُلُّ مَا يُتَكَلَّمُ به آناءَ الليلِ والنَّهارِ، مِنْ حَقٍّ أو بَاطِلٍ أو شِعْرٍ أو غِنَاءٍ أو نَوْحٍ؛ كَلامُ اللهِ، فَمَا فَضْلُ القُرآنِ -في هذا القِياسِ- على سَائِرِ كَلامِ المَخْلُوقِينَ، إِنْ [كان] (¬1) كُلُّهُ يُنْسَبُ إِلَى اللهِ، ويُقَامُ للهِ صِفَةً وكلامًا -في دعواكم- فَهَذَا ضَلالٌ بَيِّنٌ مَعَ أَنَّا قَد كُفِيَنا مَؤُنَةَ النَّظَرِ، بما في كتاب الله مِنَ البيانِ، وفي الأثَرِ مِنَ البُرهَانِ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم. قال أبو سعيد رحمه الله: احْتَجَجْنَا بهذه الحُجَجِ وما أشبهها على بعضِ هؤلاءِ الواقِفَةِ، وكان من أَكبِر احتجاجِهِم علينا في ذلك أَنْ قَالُوا: إِنَّ ناسًا مِن مَشْيَخَةِ رُواةِ الحَدِيثِ الذين عَرفناهم عن قِلَّةِ البصرِ بمذاهبِ الجهمية؛ سُئِلُوا عن القُرآنِ؟ فقالوا: لا نقول فيه بِأَحَدِ القَوْلَين، وأَمْسَكُوا عنه، إذ لم يَتَوَجَّهُوا لمرادِ القَوْمِ، لأنها كانت أُغْلُوطَةٌ وَقَعَت في مَسَامِعِهِم، لم يعرفوا تَأْوِيلَهَا، ولم ¬

(¬1) ما بين معقوفين زيادة ليست في الأصل، اقتضاها السياق.

يُبْتَلُوا بها قبل ذلك، فَكَفُّوا عن الجوابِ فيه، وأمسكُوا، فحين وقعتْ في مسامعِ غيرهِم -من أهل البَصَرِ بهم وبِكَلامِهِم ومُرَادِهِم ممن جَالسُوهُم ونَاظَرُوهُم وسمعوا قُبْحَ كَلامِهِم، مِثْلَ مَنْ سمَّيْنَا، مِثْل؛ جَعفرِ بنِ محمد بن علي بن الحسين، وابنِ المباركِ، وعِيسَى بنِ يُونَسَ، والقَاسِمِ الجَزَرِي، وبَقِيَّةَ بنِ الوليد، والمُعَافَى بنِ عِمران، ونُظَرَائِهِم من أهلِ البَصَرِ بِكلامِ الجهمية-؛ لم يَشُكُّوا أنها كَلِمَةُ كُفْرٍ، وأَنَّ القُرآنَ نَفْس كَلامِ اللهِ كَمَا قال الله تبارك وتعالَى، وأنه غير مخلوق، إِذْ رَدَّ اللهُ على الوحيدِ قَوْلَهُ: إِنَّهُ قَوْلُ البَشَرِ، وَأَصْلاَهُ عَلَيْهِ سَقَر، فَصَرَّحُوا به على عِلْمٍ ومَعْرِفَةٍ؛ أنه غيرُ مخلوقٍ والحُجَّةُ بالعارفِ بالشيءِ لا بالغافل عنه، القَلِيلِ البَصَرِ به، فَتَعَلَّقَ هؤلاءِ فيه بِإِمْسَاكِ أَهلِ البَصَرِ، ولم يَلْتَفِتُوا إلى قولِ مَنِ اسْتَنبَطَهُ وعَرَفَ أَصْلَهُ. فقلنا لهم: إِنْ يَكُ جُبْنُ هَؤُلاءِ الذينَ احْتَجَجْتُم (¬1) بهم مِن قِلَّةِ بَصَرٍ، فَقَد اجْتَرَأَ هَؤلاءِ وصَرَّحُوا بِبَصرٍ، وكانُوا مِنْ أَعْلامِ النَّاسِ، وأَهْلِ البَصرِ بأُصُولِ الدِّيِنِ وفُرُوعِهِ، حَتَّى أَكْفَرُوا مَنْ قال: «مخلوق» غَيرُ شَاكِّينَ فِي كُفْرِهِم، ولا مُرْتَابِينَ فِيهِم. * * * ¬

(¬1) في الأصل «احتججنا»، وكتب فوقها كذا، وكتب في الحاشية «لعله احتججتم».

باب الاحتجاج في إكفار الجهمية

بَابُ الاحْتِجَاجِ فِي إِكْفَارِ الجَهْمِيَّةِ قال أبو سعيد رحمه الله: نَاظَرَنِي رَجُلٌ بِبَغْداد، مُنَافِحًا عن هؤلاءِ الجهمية فَقَال لِي: بأيةِ حُجَّةٍ تُكَفِّرُونَ هؤلاءِ الجَهمية، وقَدْ نُهِىَ عَنْ إِكْفارِ أَهْلِ القِبْلَةِ؟ بِكِتَابٍ نَاطِقٍ تُكَفِّرُونَهُم؟ أَم بِأَثَرٍ، أَمْ بِإجماعٍ؟ فقلت: ما الجَهْمِيَّةُ عِندنَا مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ، ومَا نُكَفِّرُهُم إلا بِكتابٍ مَسْطُورٍ، وأَثَرٍ مَأْثُورٍ، وكُفْرٍ مَشْهُورٍ. أما الكتابُ؛ فما أخبرَ اللهُ - عز وجل - عن مُشرِكِي قُريش، مِنْ تكذيبهم بالقرآن، فكان مِنْ أَشَد ما أخبر عنهم من التكذيب؛ أنهم قالوا: هو مخلوقٌ، كما قالتِ الجهمية سواء، قال الوحيد وهو الوليدُ بنُ المُغِيْرَةَ المخْزُومِيُّ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25] وهذا قَولُ جَهْم، إن هذا إلا مخلوق، وكذلك قَولُ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِ. وقَوْلُ مَنْ قَال: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4]، و {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)} [الأنعام: 25]، و {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 7]، معناهم في جميع ذلك ومعنَى جَهم في قوله؛ يَرجِعَانِ إلى أَنَّهُ مخلوق، ليس بينهما فيه مِنَ البَوْنِ كَغَرْزِ إِبْرَةٍ، ولا كَقِيسِ شَعْرَةٍ، فَبِهَذا نُكَفِّرُهُم، كما أكفر الله به أَئِمَّتَهُم من قُرَيْشٍ، وقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} [المدثر: 26] إِذْ قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]؛ لأنَّ كُلَّ إِفْكٍ، وتَقَوُّلٍ، وسِحْرٍ، واخْتِلاَقٍ، وقولِ البَشَرِ كُله لا شَكَّ في شيءٍ منه أنه مخلوق، فاتَّفَقَ مِنَ الكُفْرِ -بَيْنَ الوليد بن المغيرة، وجهم بن صفوان- الكَلِمة، والمراد في القرآن أنه مخلوق، فهذا الكِتَابُ النَّاطِقُ في إِكْفَارِهِم.

وأما الأثر فيه: (187) فما حدثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ، عن حماد بن زَيْدٍ، وجَرِير بن حازِم، عن أَيُّوبَ، عن عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَليَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -، أتَى بِقَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُم، فَبلغَ ذَلك ابنَ عَبَّاسٍ? فقال: أَمَّا أَنَا فَلَو كُنْتُ لَقَتَلْتُهُم؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ، فَاقْتُلُوهُ». ولَمَا حَرَّقْتُهُم؛ لِنَهيِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ» (¬1).-زاد سليمانُ في حديثِ جَرِيرٍ- فَبَلَغَ عَليًّا ما قال ابنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم -، فقال: «وَيْحَ ابنِ أُمِّ الفَضْلِ! إنه لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ» (¬2). قال أبو سعيد: فَرأَيْنَا هؤلاءِ الجهمية أَفَحَش زَنْدَقَةٍ، وأَظْهَر كُفْرًا، وأقبح تأويلا لكتاب الله وَرَدَّ صِفَاتِهِ- فيما بلغنا- عَن هؤلاءِ الزنادقة الذين قَتَلَهُم عَلِيٌّ - عليه السلام - وحَرَّقَهُم. فَمَضَتِ السُّنةُ مِن عَليٍّ وابنِ عبَّاسٍ? فِي قَتْلِ الزنادقة؛ لِمَا أَنها كُفْرٌ عندهما، وأنهم عندهما ممن بَدَّلَ دِينَ اللهِ، وتَأَوَّلا في ذلك قَولَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجبُ على رَجلٍ قَتْلٌ في قول يقوله، حتَّى يكونَ قَوْلُه ذلك كفرًا، لا يجب فيما دون الكفر قَتْلٌ، إلا عُقُوبَة فقط، فذاك الكِتَابُ في إكفارهم، وهذا الأَثَرُ. ونُكفرهُم أيضًا بكفر مشهور؛ وهو تكذيبهم بنص الكتابِ، أخبرَ اللهُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3017)، وأبو داود (4353)، والترمذي (1458)، والنسائي (7/ 104)، والبيهقي في الكبرى (8/ 202)، وغيرهم من طرق عن أيوب، به، دون الزيادة. (¬2) أخرجه بهذه الزيادة الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 281)، والبيهقي في الكبرى (8/ 202).

تبارك وتعالى أَنَّ القرآنَ كلامه، وادَّعت الجهمية أنه خَلْقُه، وأخبر الله تبارك وتعالى أَنَّه كَلَّمَ موسَى تَكليمًا (¬1)، وقال هؤلاء لم يُكَلِّمْهُ اللهُ بنفسه، ولم يسمع موسى نَفْسَ كلامِ اللهِ، إنما سمع كلامًا خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم؛ دعَا مخلوقٌ مُوسَى إلى ربوبيته فقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] فقال له موسى -في دعواهم-: صدقت، ثم أَتَى فِرْعَوْنَ يَدعُوهُ أن يجيبَ إلى ربوبيةِ مَخْلُوقٍ، كما أجاب موسى-في دعواهم- فما فَرْقُ بين موسى وفرعونَ في مذهبهم في الكفر؟ إذًا فَأَيُّ كُفْرٍ بِأَوْضَح (¬2) مِن هَذَا؟!. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40] وقال هؤلاء: ما قال لشيءٍ قَط قَولا وكلامًا كُن فكان، ولا يقوله أبدًا، ولم يخرج منه كلامٌ قط، ولا يخرج، ولا هُو يَقْدِرُ على الكَلامِ -في دعواهم- فَالصَّنَمُ -في دعواهم- والرَّحمَنُ بمنزلةٍ واحدةٍ في الكلام، فَأَيُّ كُفْرٍ بأوضح من هذا؟!. وقال الله تبارك وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] و {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26] وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. قال هؤلاء: ليس لله يَد، وما خلق آدمَ بيديه، إنما يَدَاهُ نِعْمَتَاهُ ورِزْقَاهُ، فادَّعوا في يدي الله أَوْحَشَ مما ادَّعَتْه اليَهُودُ {قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وقالت الجهمية: يد الله مخلوقة؛ لأن النعم والأرزاق مخلوقة لا شك فيها، وذاك محالٌ في كلام العرب، فضلا أن يكون كفرًا؛ لأنه يستحيلُ أَنْ يُقال: خلق ¬

(¬1) سقط حرف اللام من الناسخ في الأصل، فكتبها «تكيما». (¬2) كذا في الأصل.

آدم بنعمته ويستحيل أن [يقال] (¬1) في قول الله تبارك وتعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}، بنعمتك الخير؛ لأن الخيرَ نَفْسَه، هو النِّعَمُ نَفْسُهَا، ومستحيلٌ أن يقال في قول الله - عز وجل -: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}؛ نعمةُ اللهِ فوق أيديهم، وإنما ذكرنا ها هنا اليد، مع ذكر الأيدي في المبايعة بالأيدي فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]، ويستحيل أن يقال {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] نعمتاه، فكأن ليس له إلا نعمتان مبسوطتان، لا تُحْصَى نِعَمُهُ ولا تُسْتَدْرَك، فلذلك قلنا: إن هذا التأويل؛ محالٌ من الكَلامِ فضلاً أن يكون كفرًا. ونكفرهم أيضا بالمشهور مِنْ كفرهم، أنهم لا يُثْبِتُونَ لله تبارك وتعالى وجهًا ولا سمعًا ولا بصرًا ولا عِلْمًا ولا كلامًا ولا صِفَةً، إلا بِتَأْويِلِ ضُلاَّلٍ افْتَضَحُوا وتَبَيَّنَتْ عَوَرَاتُهُم، يقولون: سمعُهُ، وبَصَرُهُ، وعِلْمُهُ، وكَلاَمُهُ؛ بمعنًى واحدٍ، وهو بنفسه في كل مكان، وفي كل بيت مغلق، وصُنْدُوقٍ مُقْفَل، قد أحاطتْ بِهِ -في دعواهُم- حِيطَانُها وَأَغْلاقُهَا وأَقْفَالهُا، فإِلَى اللهِ نَبْرَأُ مِن إلهٍ هِذِه صِفَتُهُ، وهَذَا أيضًا مَذْهَبٌ واضِحٌ في إِكْفَارِهِم. ونُكَفِّرُهُم أيضًا؛ أنهم لا يدرون أين الله، ولا يصفونه بِأَيْنَ الله، واللهُ قد وصَفَ نَفْسَه بأين، ووصفه به الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -. فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] و {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] و {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك:16]،ونحو هذا، فهذا كُلُّه وصفٌ بِأَيْنَ. ¬

(¬1) ما بين معقوفين زيادة ليست في الأصل اقتضاها السياق.

ووصَفَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأين، فقال للأمة السوداء: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» (¬1). والجَهميةُ تَكْفُرُ بِهِ، وهذا أيضًا مِن واضِحِ كُفْرِهِم، والقُرآنُ كُلُّهُ يَنْطِقُ بِالرَّدِّ عَليهم، وهم يعلمون ذلك أو بعضهم، ولكن يُكَابِرونَ، ويُغَالِطُونَ الضُّعفاءَ، وقد علموا أنه ليس مِنْ حُجَّةٍ أَنْقَضُ لِدعوَاهُم مِنَ القُرآنِ، غيرَ أَنهم لا يجدون إلى رَفْعِ الأصلِ سَبيلا؛ مخافةَ القَتْلِ والفَضيحة، وهم عند أنفسهم، بما وصَفَ اللهُ بِهِ فِيه نَفْسَهُ، جَاحِدونَ، قَدْ نَاظَرْنَا بَعضَ كُبَرائِهِم، وسمعنَا ذلك مِنْهُم مَنصوصًا مُفَسَّرًا. ويقصدون أيضًا بعبادتهم إِلَى إِلَهٍ تحتَ الأَرضِ السُّفْلى، وعلى ظَهْرِ الأرضِ العُلْيَا، ودون السماء السابعة العُليَا، وإِلَهُ المُصَلِّينَ مِنَ المؤمنينَ الذين يَقْصِدُونَ إليه بعبادتهم؛ الرَّحمن الذي فوق السماء السابعة العُليَا، وعلى عرشه العظيمِ استوى، وله الأسماءُ الحُسْنَى، تبارك اسمه وتعالى، فَأَيُّ كُفْرٍ أوضحَ مما حَكَيْنَاهُ عَنْهُم، من سُوءِ مذاهبهم، ما زاد مَانِي، وشمعلةُ (¬2)؛ الزنديقان. قال أبو سعيد: فقالَ لي المُنَاظِرُ الذي ناظرنِي: أَرَدتُ إِرَادة مَنصوصة في إِكفارِ الجهمية باسمهم، وهذا الذي رَوَيت عن علي - رضي الله عنه -؛ في الزنادقة! فقلت: الزنادقةُ والجهميةُ أَمرُهما واحِدٌ، ويرجعانِ إلى معنَى واحد، ومرادٍ واحد، وليس قَوْمٌ أشبه بقوم منهم، بعضهم ببعض، وإنما يُشَبَّهُ كُلُّ ¬

(¬1) تقدم مسندًا برقم (18، 19، 20). (¬2) ماني وشمعلة: شخصان، الأول هو: ماني بن فاتك كان مجوسيا، ثم أحدث دينا بين المجوسية والنصرانية، وإليه تنسب ملة المانوية، وأما شمعلة؛ فهو: اسم أحد رؤوس الزنادقة وقد قتله الخليفة المهدي.

صِنْفٍ وجِنْسٍ بجنسهم وصِنْفِهِم، فقد كان يَنْزِلُ بعضُ القُرآنِ خاصًا في شيءٍ فَيكونُ عامًا في مِثْلِهِ، وما أَشْبَهَهُ، فلم يَظْهَرْ جَهْمٌ وأَصحَابُ جَهْمٍ في زمنِ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وكِبَارِ التَّابعين؛ فَيُروى عَنْهُم فِيهَا أَثَرٌ منصوص مُسمَّى، ولو كانوا بَيْن أَظْهُرِهِم مظهرين آرَاءَهُم لَقُتِلُوا كما قَتَلَ عَلِيٌ - رضي الله عنه - الزنادقة التِي ظَهَرتْ في عصره، ولَقُتِلوا كما قُتِلَ أَهلُ الرِّدَّة، ألا ترى أَنَّ الجَعْدَ بنَ دِرْهَم أظهرَ بعضَ رأيِهِ في زَمنِ خَالد القَسْرِي، فزعم أن الله تبارك وتعالى لم يَتَّخِذْ إِبراهيمَ خَليلاً، ولم يُكَلِّم موسى تكليمًا، فَذَبحهُ خالدٌ بِوَاسِط يَومَ الأَضْحَى على رُؤوسِ مَن حَضَرهُ من المسلمين، لم يَعِبْه به عَائِبٌ، ولم يَطْعَنْ عَليه طَاعِنٌ، بل استحسنوا ذلك مِنْ فِعْلِهِ وصَوَّبُوه، وكذلك لو ظَهَر هؤلاءِ في زَمَنِ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكبارِ التابعين، ما كان سَبِيلُهُم عند القَوْمِ إِلا القَتْل، كسبيل أهلِ الزندقة، وكما قَتَلَ عليٌ - رضي الله عنه - مَنْ ظَهَرَ مِنْهُم في عَصْرِهِ، وأَحْرَقَهُ، وظَهَرَ بَعْضُهُم بالمدينةِ في عهد سَعد بنِ إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه -؛ فأشاروا عَلَى والِي المدينة يومئذ بِقَتْلِه. ويكفي العَاقِل مِن الحُجَجِ في إكفارهم ما تَأَوَّلنَا فيه من كتاب الله، وَرَوَيْنَا فيه عَنْ عَليٍّ وابنِ عَبَّاس?،ومَا فَسَّرنا مِنْ واضِحِ كُفرِهِم وفُحْشِ مَذَاهِبِهِم شيئًا شَيئًا، فَأَمَّا إِذْ أَبَيْتُم أَن تَقْبَلُوا إلا المنصوصَ فيهم، المقصودَ بها إليهم بِجُلاهم وأسمائهم، فسنروي ذلك عن بعض من ظهر ذلك بين أَظْهُرِهِم من العلماء. (188) حدثَنِي محمدُ بنُ المُعْتَمِر السَّجِسْتَانِيُّ أبو سَهْلٍ -وكان مِنْ أَوثَقِ ... أَهلِ سَجِسْتَان وأَصْدَقِهِم-، عن زُهَيْر بنِ نُعَيم البَابِي، أَنَّهُ سَمِعَ سَلاَّمَ ابنَ أَبِي

مُطيع يقول: «الجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ» (¬1). (189) وسَمِعْتُ محمدَ بنَ المُعْتَمِر يقول: سمعتُ زُهَيرَ بْنَ نُعيمٍ يقول: سُئِل حمَّادُ بنُ زيدٍ وأَنَا مَعَهُ في سُوقِ البَصْرَةِ عَن بِشْر المَرِيسِي؟ فقال: ذَاكَ كَافِرٌ (¬2). (190) قال أبو سعيد: وبَلَغَنِي عَنْ يَزِيدَ بنِ هَارون أَنَّهُ قال: «الجَهْمِيَّةُ كُفَّار، وقال حَرَّضْتُ غَيرَ مَرةٍ أَهلَ بَغداد عَلَى قَتْلِ المَريِسِي» (¬3). (191) حدثنا يحيَى الحِمَّانِي، حدثنا الحسنُ بنُ الرَّبِيع قال: سمعتُ ابنَ المبَارَكِ يقول: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَولَهُ؛ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه: 14]، مخلوق فهو كَافِرٌ» (¬4). (192) سَمِعتُ محبوبَ بنَ موسى الأَنْطَاكِي يَذْكُر أَنّهُ سمع وَكِيعًا يُكَفِّرُ الجَهْمِيَّةَ (¬5). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (9)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ... (517)، من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن نعيم، به، ونعيم حسن الحديث ما لم يخالف. وقد قال محقق المطبوعة «زهير بن محمد ذكره ابن حجر في التهذيب ولم يورد له موثقا ولا مجرحا، فهو بذلك مجهول»!!، قلت: أما ابن حجر نفسه فلم يصفه بالجهالة، وقد روى عنه الفلاس، والدَّوْرقي، وعارم، وعبد الله بن محمد بن أبى الأسود أبو بكر الحافظ، ومحمد بن يحيى القطان، وغيرهم من الحفاظ، أفلا ترتفع جهالته بكل هؤلاء، وأزيدك توثيقا له؛ قال عبد الله بن أحمد في السنة (9)، عنه: «ثقة». (¬2) صحيح، كسابقه وأخرجه المصنف أيضا في نقض المريسي (161). (¬3) ضعيف لانقطاعه بين المصنف ويزيد بن هارون، وقد رواه موصولا الخطيب في التاريخ (7/ 540)، من طريق محمد بن يزيد، عن يزيد بن هارون، به. (¬4) إسناده ضعيف لأجل الحماني؛ متهم، وقد صح هذا المعنى عن ابن المبارك، وينظر السنة لعبد الله بن أحمد (19)، والثقات لابن حبان (9/ 65). (¬5) حسن، الأنطاكي صدوق، وقد ورد هذا المعنى عن وكيع من غير ما طريق وينظر السنة = = لعبد الله بن أحمد (1/ 115، 116).

قال أبو سعيد: (193) وحُدِّثْتُ عن سُفْيانَ الثَّوْري، عن حمَّاد بنِ أَبِي سُليمان، أنهُ كَفَّرَ مَنْ زَعَم أَنَّ القرآنَ مخلوق (¬1). (194) وسمعتُ يحيَى بنَ يحيَى يَقُولُ: القُرآنُ كَلامُ اللهِ، مَنْ شَكَّ فيه أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ مخلوقٌ؛ فهو كَافِرٌ (¬2). (195) وسمعتُ الرَّبيعَ بنَ نَافِعٍ أَبَا تَوْبَةَ، يُكَفِّرُ الجهميةَ. قال أبو سعيد: فَهؤلاءِ الذين أَكْفَرُوهُم في آخِرِ الزَّمَان، وعليُّ بنُ أَبِي طَالبٍ، وابنُ عَبَّاسٍ? في أَوْلِ الزَّمانِ، وأَنْزَلاهُم مَنْزِلةَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ، فَاسْتَحَقُّوا القَتْلَ بِتَبْدِيلِهِ. (196) حدثنا الحِمَّانِيُّ، حدثنا إِبرَاهِيمُ بنُ مَنصورٍ العَلاَّف -وأَثْنَى عَليه هُو وَمَنْ حَضَرَ المجلِسَ خيرًا- قال: لمَّا كَانَ أَيَّام المحنة فَأُخْرِجَ النَّفَرُ إلى المأمون، فَامْتُحِنُوا وَرُدُّوا؛ لَقِيتُ أَعْرابيًّا فقال لِي: أَلا أُحَدِّثُكَ عَجَبًا، قلت: ما ذَاَكَ؟ قال: رَأَيْتُ في المَنَامِ كَأَنَّ نَفَرًا؛ ثَلاثِينَ أو أَكْثَر، جِيءَ بهم مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ، فَنَظَرتُ إِليهم، فَإِذَا بُطُونهم مُشَقَّقَة ليسَ في أَجوافِهِم شَيءٌ، فقيل: هَؤلاءِ الذين كَفَرُوا بِالقُرآنِ، والأَعَرَابِيُّ لا يَدرِي مَا المِحْنَة، ومَا سَبَبهم. ¬

(¬1) ضعيف لانقطاعه بين المصنف، والثوري، وأخرجه موصولا البخاري في التاريخ الكبير (4/ 127)، وعبد الله بن أحمد في السنة (239)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (393). (¬2) تابع المصنف على معناه؛ محمودُ بنُ غيلان، كما أخرجه اللالكائي في شر أصول الاعتقاد (447).

(197) حدَّثَنا الزَّهْرانِي أَبُو الرَّبِيع قال: كَانَ مِنْ هَؤلاءِ الجهمية رَجَلٌ وَكَانَ الذي يَظْهَرُ مِنْ رَأْيِهِ التَّرَفُّضُ، وانتِحَالُ حُبِّ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -، فَقَال رَجَلٌ ممن يخَالِطُهُ ويَعْرِفُ مَذْهَبَهُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُم لا تَرْجِعُون إلى دِينِ الإسلامِ ولا تَعْتَقِدُونَهُ، فما الذي سَنَّنَكُم (¬1) عَلَى التَّرَفُّضِ وانْتِحَالِ حُبِّ عَلِيٍّ؟ قَال: إذًا أَصْدُقُكَ، إِنَّا إِنْ أَظْهَرْنَا رَأْيَنَا الذي نعتقده؛ رُمِينَا بِالكُفْرِ والزندقة، وقد وجدنا أقوامًا ينتحلونَ حُبَّ عَلِيٍّ ويُظهِرونَه، ثم يَقَعُونَ بمن شَاءُوا، ويعتقدون ما شَاءوا، ويقولون ما شاءوا، فَنُسِبُوا بذلك إِلَى التَّرَفضِ والتَّشَيُّعِ، فلم نَر لمذهبنا أمرًا أَلْطَفَ مِنَ انتحَالِ حُبِّ هَذا الرَّجُل، ثم نقولُ ما شِئْنا، ونعتقدُ ما شئنا، ونَقَعُ بمن شِئْنا، فَلأَنْ يُقَالُ لنَا رَافِضَة أو شِيعَة أَحَبُ إِلينَا مِنْ أَن يُقال زَنَادِقة كُفَّار، ومَا عَلِيٌّ عندنا أَحْسَنَ حالاً مِن غَيرِهِ، ممن نَقَعُ بهم. قال أبو سعيد رحمه الله: وصَدَقَ هَذَا الرجُلُ فيما عَبَّر عَنْ نَفسهِ، ولم يُرَاوِغ، وقد استبان ذلك من بعض كُبَرائِهِم وبُصَرائِهم أنهم يستَتِرونَ بالتَّشيُّع يجعلونه تَشْبِيثًا لكلامهم وخَبْطِهِم، وسُلَّمًا وذَرِيعَةً لاصطيادِ الضُّعفاءِ وأَهْلِ الغَفْلَةِ، ثم يَبْذُرُونَ بَيْن ظَهْرَانَي خُطَبِهِم بَذْرَ كُفْرِهِم وزندقَتِهم؛ لِيكونَ أَنجعُ في ¬

(¬1) كذا بالأصل، وضبب فوقها، وهي كلمة صحيحة متوجهة في هذا السياق، ومعناها قواكم، وشهاكم، قال الزبيدي في تاج العروس «يقال: هذا مما يسنك على الطعام، أي يشحذك على أكله ويشهيه» ويراجع التاج (35/ 241). قلت: وقع في المطبوعة أمران ينبغي التنبيه عليهما، الأول: غَيَّر الكلمة إلى «حملكم» وهذا تدخل غير محمود، لاسيما والكلمة التي غيرها عربية فصيحة. الثاني: قال «وفي الأصل فوق هذه الكلمة صح»، قلت: يقصد علامة التضبيب، وشكلها هكذا (صـ) فهذه ليست صح إنما هي ضبة ومعناه أن الناسخ يريد أن يقول: هي هكذا في الأصل الذي أنقل منه، وإن كانت غير واضحة له.

قُلوبِ الجُهَّالِ، وَأَبْلغُ فيهم، ولَئِنْ كَانَ أَهلُ الجهل في شَكٍّ مِنْ أَمرِهِم، إنَّ أهلَ العِلْمِ مِنْهُم لَعَلى يَقِين، ولا حَوْلَ ولا قَوَّةَ إلا بِاللهِ. * * *

باب قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم

بَابُ قَتْلِ الزَّنَادِقَةِ والجَهْمِيَّةِ واسْتِتَابَتِهِم مِنْ كُفْرِهِمْ (198) حدثنا يحيَى بنُ عَبْدِ الحميدِ الحِمَّانِيُّ، أَنِّ أَبَا بِكرِ بنِ عَيَّاش حَدثَهُم، عَن أَبِي حَصِين، عن سُوَيْد بنِ غَفَلَةَ، «أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - قَتَلَ زَنَادِقَةً، ثم أَحْرَقَهُم، ثم قال: صَدَقَ اللهُ ورَسُولُهُ» (¬1). (199) حدثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ، عن حمادُ بنُ زَيْدٍ، وجَرِيرُ بنُ حازِم، عن أَيُّوبَ، عن عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَليا - رضي الله عنه -، أتَى بِقَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُم، فَبلغَ ذَلك ابنَ عَبَّاس ?، فقال: أَمَّا أَنَا فَلَو كُنْتُ، لَقَتَلْتُهُم؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولَمَا حَرَّقْتُهُم؛ لِنَهيِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ، فَاقْتُلُوهُ»، وقال: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، -وزاد سليمانُ في حديثِ جَرِيرٍ-قال فَبَلَغَ عَليًّا ما قال ابنُ عَبَّاسٍ?، فقال: «وَيْحَ ابنِ أُمِّ الفَضْلِ! إنه لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ» (¬2). قال أبو سعيد رحمه الله: فَالجَهْمِيَّةُ عندنا زَنَادِقَة مِنْ أَخْبَثِ الزَّنَادِقة، نَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا مِنْ كُفْرِهِم، فَإِنْ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ تُرِكُوا وإِنْ لم يُظْهِرُونَنَا (¬3) تُرِكُوا، ¬

(¬1) حسن، يحيى الحماني وإن كان ضعيفا، لكن تابعه عليه خلاد بن أسلم، كما أخرجه البزار في مسنده (570)، وخلاد وثقه الدارقطني والنسائي وغيرهما، وأبو بكر بن عياش أقل أحواله أنه صدوق، وباقي رجاله ثقات، وقد ضعف إسناده محقق المطبوعة، وأتى له بمتابعة أشد ضعفًا!! (¬2) صحيح، تقدم برقم (187). (¬3) في المطبوعة غيرها إلى «يظهروها» فيكون المعنى؛ أن الجهمية يُتْرَكون، سواءٌ عليهم أظهروا التوبة أو لم يظهروها! فيا فرحة الجهمية بهذا الكلام! ويكون الكلام كما يقول الذهبي رحمه الله (هذا كلام قاعد قائم)! وما أثبتناه من الأصل، والمعنى: لم يظهروننا ببدعتهم، ويدعون إليها.

وإِنْ شَهَّدتَ عَليهم بذلك شُهُودَ فَأَنْكَرُوا، ولم يتوبوا؛ قُتِلُوا، كذلك بَلَغَنَا عنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -، أَنَّهُ سَنَّ في الزَّنَادِقَة. (200) حدثناه يحيَى بنُ يحيَى، أخبرنا هُشَيْمٌ، عن إِسماعِيلَ بنِ سَالمٍ، عن أَبِي إِدْرِيسَ قال: أُتِيَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالبٍ بِقَوْمٍ مِنَ الزنادقة، فَأنكَرُوا، فَقَامَتْ عليهمُ البَيِّنَةُ؛ فَقَتَلَهُم [....] (¬1) هَذَا قَد اسْتَتَبْتُهُ فَاعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ (¬2). (201) وحَدَّثنا القَاسِمُ بنُ محمد البَغْدَادِيُّ، حدثنا عبدُ الرَّحمنِ بنِ محمدِ بنِ حَبِيب بن أَبِي حَبِيب، عَنْ أَبِيِه، عَنْ جَدِّهِ حَبِيب بنِ أَبِي حبيب قال: خَطَبَنا خَالِدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْرِيُّ بِوَاسِط يَوْمَ الأَضْحَى، فقال: «أَيُّهَا النَّاس! ارْجِعُوا فَضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا ومِنْكُم، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعْدِ بنِ دِرْهَم؛ إِنَّه زَعَمَ أَنَّ اللهَ تَبَاركَ وتَعَالَى لم يَتَّخِذْ إِبراهِيمَ خَليلاً، ولم يُكَلَّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا سبحانه وتعالى عَمَّا يَقُولُ الجعدُ بنُ دِرْهَم عُلوًّا كَبِيرًا، ثم نَزَلَ فَذَبحَهُ» (¬3). (202) حدثنا هِشَامُ بنُ منصور البَغْدَادِي المَكْفُوف (¬4) [حدثنا] (¬5) أحمدُ بنُ سُليمان البُاهِلِيُّ، حدثنا خَلَفُ بنُ خَلِيفَةَ الأَشْجَعِيُّ قال: «أُتِيَ خَالدُ بنُ عبد الله القَسْرِي بِرَجُلٍ قد عَارَضَ القُرآنَ، فَقَالَ: قَالَ اللهُ في كتابه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر:1،3]، ¬

(¬1) في الأصل بياض بمقدار أربع كلمات، وضبب فوقها. (¬2) إسناده ضعيف، أبو إدريس هو يزيد بن عبد الرحمن الأودي، مقبول، يعني حيث يتابع ولم أقف على من تابعه، وهشيم بن بشير، مدلس ولم يصرح بالسماع. (¬3) تقدم برقم (1). (¬4) في الأصل «المكوف» وكتب فوقها كذا، والصواب ما أثبتناه إن شاء الله، ففي ترجمته من تاريخ بغداد؛ أنه كان ضريرًا. (¬5) ما بين معقوفين بياض في الأصل.

وقُلتُ أنا ما هو أحسن منه: إِنَّا أعطيناكَ الجماهر، فَصَلِّ لربَّكَ وجَاهِر ولا تُطِعْ كُلَّ سَافِهٍ وَكَافِر، فَضَربَ خَالِدٌ عُنقَهُ وصَلَبَهُ، فَمَرَّ بِهِ خَلَفُ بنُ خَلِيفَةَ وهو مَصْلُوب، فَضَربَ بِيَدِه عَلَى خَشَبَتِهِ فقال: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ العَمُودَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ عَلَى عُود، فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ أَنْ لا تَعُود» (¬1). (203) حدثَّنا مُوسى بنُ إسماعيلَ قال: قُلتُ لإبراهيمَ بنَ سَعد: ما تقولُ في الزَّنَادِقَة، تَرَى أَنْ نَسْتَتِيبَهُم؟ قال: لا، قلتُ: فَبِم تقول ذلك؟ قال: كان عَلَيْنا وَالٍ بالمدينة، فَقَتَلَ منهم رَجُلاً ولم يَسْتَتِبْه، فسُقِط في يَدِهِ، فَبَعَثَ إلى أَبِي (¬2)، فقال له أَبِي: لا يَهِيدَنَّكَ (¬3)؛ فإنه قول الله - عز وجل -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} قال السيف {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84 - 85] قال: السَّيف، فقال: سنته القتل (¬4). (204) وسمعتُ الرَّبيعَ بنَ نَافِعٍ أبو (¬5) تَوبةَ الحَلَبِيَّ يقول: نَاظَرتُ أَحمدَ بنَ حَنْبَلٍ في قَتْلِ هَؤلاءِ الجَهْمَيَّة، فَقَالَ: يُسْتَتَابُونَ، فَقُلتُ له: أَمَّا خُطَبَاؤُهُم؛ فلا يستتابون، وتُضْرَبُ أَعْنَاقُهُم (¬6). ¬

(¬1) حسن، خلف بن خليفة صدوق، وهشام بن منصور ترجمه الخطيب في تاريخه ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وذكر ثلاثة من الرواة عنه، وللقصة شاهد عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 143)، بإسناد فيه مقال. (¬2) هو الإمام الثقة العابد سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، المتوفى سنة 125 هـ. (¬3) في المطبوعة غيَّرها إلى يهدينك، ولا معنى لها في هذا السياق، وما أثبتناه من الأصل، والمعنى لا يمنعك، وينظر إكمال الأعلام بتثليث الكلام للجياني (2/ 698)، وكذلك تهذيب اللغة للأزهري. (¬4) إسناده أئمة ثقات. (¬5) كذا في الأصل. (¬6) إسناده كسابقه.

(205) حدثنا يحيَى بنُ بُكَيْرٍ المِصْريُّ، حدثنا مَالِكُ بنُ أَنَس، عن زَيدِ بنِ أَسْلَم، أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» (¬1). قَالَ مَالِكٌ: «معنَى حَديثِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فيما نَرَى -والله أعلم-؛ أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِن الإسلامِ إلى غَيرهِ مِثْل الزنادقة وأَشبَاهِهَا، فإن أولئك يُقْتَلون، ولا يُسْتتابون؛ لأنه لا تُعرفُ تَوْبَتُهُم، وأنهم قد كانوا يُسِرُّونَ الكُفرَ، ويُعلنُون بالإسلام، فلا أَرَى أَن يُستتابَ هَؤلاءِ، ولا يُقْبَلَ قَولُهُم، وأَمَّا مَن خَرَجَ مِنَ الإِسلامِ إلى غَيرِهِ، وأَظْهَر ذَلكَ؛ فإِنَّه يُستَتَاب، فإن تاب وإِلا قُتِل، وذلك أنه لو كان قومٌ (¬2) كانوا على ذلك، رَأَيتُ أن يُدْعَوْا إلى الإسلامِ ويُسْتَتَابُوا، فإن تَابُوا قُبِلَ ذلك منهم، وإن لم يتوبوا؛ قُتِلُوا. قال مالك: ولم يُعْنَ بهذا الحديث مَنْ خَرَجَ مِنَ اليهودية إلى النصرانية، ولا من النَّصرانية إلى اليهودية، إنما عُنِى بذلك؛ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإسلامِ إلى غَيْرِهِ فيما نرى، والله أعلم» (¬3). قال أبو سعيد رحمه الله: فَأيُّ كُفْرٍ أعظم مِنْ كفر قَومٍ رَأَى فُقهاءُ المدينة؛ مِثْلُ سَعدِ بنِ إبراهيم، ومَالِكِ بنِ أَنس أنهم يُقتلون، ولا يُستَتَابُون إِعْظَامًا لِكُفْرِهِم، والمرتد عندهم يُسْتَتَابُ ويُقْبَلُ رُجُوعُه، فكانت الزندقةُ أكْبر في أَنْفُسِهِم مِن الارتِداد، ومن كُفْرِ اليَهود والنصارى، ولذلك قال ابنُ المُباركِ: لأَنْ أَحْكِي كَلامَ اليَهودِ والنَّصَارَى أَحب إِلي مِنْ أَحْكِي كلامَ الجَهْمِيَّة. ¬

(¬1) مرسل، أخرجه مالك في الموطأ (1419)، وعنه الشافعي في مسنده (ص 321)، ومن طريق الشافعي البيهقي في الكبرى (8/ 195). (¬2) في المطبوعة «إن قوما» والمثبت من الأصل. (¬3) ذكره مالك في الموطأ عقب الحديث السابق، باختلاف بعض الألفاظ.

(206) حدثناه الحَسَنُ بن الصَّبَّاحِ البَغْدَادِيُّ، عن علي بن شَقِيقٍ، عن ابن المبارك (¬1). قال أبو سعيد: وَصَدقَ ابنُ المباركِ، إن مِنْ كلامِهِم ما هُو أَوْحَشُ مِنْ كلامِ اليَهودِ والنصارى، فلذلك رَأى أَهلُ المدينةِ أن يُقْتَلُوا ولا يُستتابوا، ولذلك قال أَبو تَوْبَةَ لأحمد بن حنبل?: أمَّا خُطباؤُهُم فلا يستتابون وتُضربُ أَعنَاقُهُم؛ لأنَّ الخُطباءَ اعْتَقَدُوهُ دِيْنًا في أنفسهم على بَصرٍ مِنهم بِسُوءِ مَذَاهِبِهم، وأظهروا الإسلام تَعَوُّذًا، وجُنَّةً مِنَ القَتْلِ، ولا تَكَاد تَرى البصيرَ مِنْهُم بمذهبه يَرجِعُ عَن رَأْيِهِ. قال أبو سعيد: وذَهَبْتُ يومًا أَحْكِي لِيَحْيَى بنِ يحيَى كلامَ الجهمية لأَستخرجَ مِنهُ نَقْضًا عَليِهم، وفي مجلسه يومئذ الحُسَينُ بنُ عِيسَى البِسْطَامِي، وأَحمدُ بنُ يونسَ القَاضِي، ومحمدُ بنُ رَافع، وأبو قُدامَةَ السَّرْخَسِي فيما أحسب، وغيرهم من المشايخ، فَزَبَرَنِي بِغَضَبٍ، وقال: اسْكُتْ، وأَنْكَرَ عَلَيَّ المشايخُ الذين في مجلسه اسْتِعْظَامًا أَن أَحْكِي كلامَ الجَهْمِيَّة، وتَشْنِيعًا عَليهم، فَكَيْفَ بمن يحكِي عَنْهُم دِيَانَةً، ثم قال لي يَحْيَى: القُرآنُ كَلامُ اللهِ، مَنْ شَكَّ فِيه أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ مخلوقٌ؛ فَهو كَافِرٌ. (207) حَدَّثنا يُوسفُ بنُ يَحيَى البُوَيْطِيُّ، عن محمد بنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِي في الزنديق قال: يُقْبَلُ قَولُهُ إِذَا رَجَع، ولا يُقْتَل، واحْتَجَّ فيهم بـ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} الآية [المنافقون: 1]، فَأَمَره اللهُ - عز وجل - أن يَدَع قَتْلَهُم لِمَا يُظْهِرونَ مِنَ الإِسلامِ، وكذلك الزنديق، إذا أظهرَ الإسلامَ كان في هذا الوقتِ مُسْلِمًا، ¬

(¬1) تقدم تخريجه برقم (5).

والمسلم غَيرُ مُبَدِّل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا شَقَقتَ عن قَلْبِهِ. قال أبو سعيد رحمه الله: وأنا أقولُ كما قَال الشَّافِعِيُّ؛ أن تُقْبَلَ علانِيَتُهُم إذَا اتخذوهَا جُنَّةً لهم مِنَ القَتلِ، أَسَرُّوا في أنفسهم ما أَسَرُّوا، فلا يُقْتَلوا، كما أن المنافقين اتخذوا أَيمانَهُم جُنَّة، فلم يُؤمر بقتلهم. والزنديق عندنا شَرٌّ مِنَ المنافِق، فَلَرُبَما كان المنافقُ جاحدًا بِالرسول والإسلام، مُقِرًّا بالله - عز وجل - مُثْبِتًا لربوبيته في نفسه، والزنديقُ مُعَطِّل لله جَاحِدٌ بالرسل والكُتُبِ، وما يُعرفُ في الإسلامِ زنادقة غير هؤلاء الجهمية، وأَيُّ زَندقةٍ بأظهر ممن يَنْتَحِل الإسلام في الظاهر وفي الباطن يُضَاهِي قولَه في القرآن قَوْلَ مُشْرِكِي قُريش الذين رَدُّوا على الله ورسوله فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 7]، و ... {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} [الأنفال:31]، و {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25] كَمَا قَالت الجهميةُ سواء، إن هذا إلا مخلوق، ولهم في ذلك أيضًا أَئِمَّةُ سُوءٍ أَقْدَم مِن مُشركي قريش، وهم عَادٌ قَوم هُود، الذين قالوا لنبيهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)} [الشعراء: 136 - 138]، فَأَيُّ فَرْقٍ بين الجهمية وبينهم، حَتَّى نَجْبُنَ عن قَتْلِهِم وإِكْفَارِهِم. ولو لم يكن عندنا حجةٌ في قَتْلِهِم وإِكفَارِهِم إلا قَولُ حمادِ بنِ زَيدٍ وسَلاَّمِ بنِ أَبِي مُطيع، وابنِ المباركِ، ووكِيع، ويزيدَ بنِ هَارون، وأَبِي تَوْبَةَ، ويحيَى بن يحيَى، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، ونُظَرائِهِم -رحمة الله عليهم أجمعين- لجبُنَّا عن قَتلِهِم وإِكفَارِهِم بِقَوْلِ هؤلاءِ حتَّى نَسْتَبرئَ ذلك عَمَّن هو أعلم منهم وأقدم، ولَكنَّا نُكَفِّرُهُم بما تأوَّلْنَا فيهم من كتاب الله - عز وجل -، وروينا فيهم من السُّنة، وبما حكينا عنهم من الكفر الواضح المشهور، الذي يَعقلُهُ أكثرُ العَوَامِ، وبما ضَاهُوا مُشركي الأُممِ قَبْلَهُم بقولهم في القرآن، فضلاً على ما رَدُّوا على الله ورسوله من

تعطيلِ صفاتِهِ وإِنكارِ وَحْدَانِيَتِهِ ومعرفةِ مَكانه واستوائِهِ على عرشه، بتأويلِ ضلالٍ، به هَتَكَ اللهُ سِتْرَهُم وأَبدَى سَوْءَتهم وعَبَّر (¬1) عن ضمائرهم، كلما أرادوا به احتجاجًا ازدادت مَذَاهِبُهُم اعْوِجَاجًا، وازداد أهلُ السُّنَّةِ بمخالفتهم ابتهاجًا، ولما يُخْفُونَ مِنْ خَفَايَا زَنَدَقَتِهِم اسْتِخْرَاجًا. واللهُ الموفِّقُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العَلِيِّ العَظيم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ عَلى سَيِّدِنَا محمدٍ، وعَلَى جميعِ الأَنبياءِ المرسَلِينَ (¬2). [آخر كتاب الرد على الجهمية، فُرِغَ مِنْ نَسْخِهِ في شَهْرِ رَجَب الفَرْد، سَنَةَ خَمْسٍ وثَلاَثِينَ وسَبْعُمَائَةٍ بمدرسةِ الحَافِظ ضِياءِ الدِّين -رحمه الله تعالى-، بِسَفْحِ قَاسْيُون ظَاهِر دِمَشْق، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلى السُّنَّةِ، وتَوَفَّنَا عَليْهَا، آمين!!] (¬3). * * * ¬

(¬1) في الأصل «غبر» بالغين المعجمة، وقد اجتهدت في أن أجد لدلالة هذا اللفظ ما يناسب هذا السياق، فلم أقف عليه، فترجح لدي والله أعلم أنه تصحيف من كلمة «عبر» التي أثبتناها. (¬2) في الأصل كتب تحتها «الرسل». (¬3) ما بين معقوفين أثبتناه من الأصل. قال الفقير إلى ربه عز وجل أبو عاصم الشوامي الأثري غفر الله له ولوالديه: هذا آخر ما سطرته في كتابي التخريجات العلمية لكتاب الرد على الجهمية، وأسأل الله تعالى أن يصلح فيه نيتي وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1