الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي

التويجري، حمود بن عبد الله

ما يتعلق ببدعة المولد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وحده لا شريك له الذي أمر باتباع صراطه المستقيم، ونهى عن اتباع السبل المضلة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي حذر من البدع غاية التحذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحابه ومن تبعهم على الدين القويم وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد رأيت مقالاً ليوسف بن هاشم الرفاعي يرد به على فتوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في النهي عن الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرد به أيضًا على الذين ينكرون سياقة النساء للسيارات، وهذا المقال منشور في جريدة "السياسة" الكويتية في عددين: أولهما عدد 4859 في يوم الخميس 12 ربيع أول سنة 1402 هـ والثاني عدد 4870 في يوم الاثنين 23 ربيع أول، سنة 1402 هـ. والكلام على هذا المقال في مقامين: الأول: فيما يتعلق ببدعة

المولد، والثاني: فيما يتعلق بسياقة النساء للسيارات، فأما بدعة المولد فقد أطال الرفاعي الكلام فيها، وخالف القرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها والمسلمون جميعًا منذ زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر القرن السادس من الهجرة أو قبيل آخره، فأما مخالفته للقرآن فهو واضح من الآيات التي سيأتي ذكرها منها قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على كل من ابتدع بدعة يزيد بها في الدين ما ليس منه. ومن ذلك عيد المولد الذي ابتدعه سلطان إربل في آخر المائة السادسة من الهجرة، أو في أول المائة السابعة، ووافقه عليه كثير من العوام وبعض المقلدين من هل المذهب، وهؤلاء المقلدون يعترفون أنه بدعة، إلا أنهم يقولون إنها بدعة حسنة. وهذا القول منهم معدود من أخطائهم وزلاتهم كما سيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى، وسيأتي كلام الإمام مالك رحمه الله تعالى في التشديد على من ابتدع في الإسلام، ورأى أن بدعته حسنة، وهو كلام جيد في الرد على من يستحسن بدعة المولد. ومن الآيات أيضًا قول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية، أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهي عن شر، انتهى. وقال البغوي: هو عام في كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه انتهى.

والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته أن يخذوا يوم مولده عيدًا، وقد نهاهم عن البدع وحذرهم منها، فمن اتخذ يوم مولده - صلى الله عليه وسلم - عيدًا فهو مخالف للآية التي ذكرنا لأنه قد عمل عملاً لم يأمر الله به ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وارتكب ما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محدثات الأمور. ومنها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}: أي عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيله ومنهاجه وطريقه وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنًا من كان، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنًا وظاهرًا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر، أو نفاق، أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدنيا بقتل، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك انتهى. وفي الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لمن خالف الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسواء كان ذلك بزيادة على الأمر المشروع، أو بنقص منه، وقد استدل الإمام مالك رحمه الله تعالى بهذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز لأحد أن يجاوز الأمر المشروع ويزيد عليه. قال الشاطبي في كتاب "الاعتصام": حكي عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال: سألت مالكًا عمن أحرم من المدينة

وراء الميقات، فقال: هذا مخالف لله ولرسوله، أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة. أما سمعت قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهل من المواقيت، وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الله: من أين أحرم؟ قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد، فقال: لا تفعل، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في هذه إنما هي أميال أزيدها، قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الشاطبي: رحمه الله تعالى، وهذه الفتنة التي ذكرها مالك، رحمه الله، في تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم، فإنهم يرون ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - دون ما اهتدوا إليه بعقولهم، وفي ذلك قال: ابن مسعود، رضي الله عنه، فيما روى عنه ابن وضاح: «لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم، أو إنكم لتمسكون بذنب ضلالة» إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول: رحم الله من قال: كذا وكذا مرة «سبحان الله»، فيقول القوم. ويقول: رحم الله من قال، كذا وكذا مرة "الحمد لله"، فيقول القوم انتهى كلام الشاطبي، وستأتي قصة ابن مسعود، رضي الله عنه، مع الذين ابتدعوا عد التكبير، والتسبيح، والتحميد، والاجتماع لذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. وإذا علم هذا فليعلم أيضًا أن الاحتفال بليلة المولد واتخاذها

عيدًا لم يكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من المحدثات التي أحدثت بعد زمانه - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ست مائة سنة وعلى هذا فالاحتفال بهذا العيد المحدث داخل فيما حذر الله منه في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولو كان في الاحتفال بهذا العيد المبتدع أدنى شيء من الخير لسبق إليه الصحابة، رضي الله عنهم فإنهم كانوا أسبق إلى الخير ممن جاء بعدهم. ومنها قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب من رب كل شيء ومليكه {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره، انتهى. وإذا علم أن الله تعالى أمر عباده باتباع ما أنزله في كتابه، ونهاهم عن اتباع الأولياء من دونه، فليعلم أيضًا أن اتخاذ ليلة المولد عيدًا من اتباع الأولياء الذين ابتدعوا إحياء ليلة المولد، واتخذوها عيدًا يفعلونها في كل عام. ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بالله

وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فعلق تبارك وتعالى الفلاح على الإيمان بالرسول وتعزيره ونصره واتباع النور الذي أنزل معه وهو القرآن، وتعزيره - صلى الله عليه وسلم - هو توقيره وتعظيمه، وإنما يكون ذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ثم أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله، وعلق الهداية على اتباعه - صلى الله عليه وسلم - واتباعه لا يحصل إلا بالتمسك بهديه، وترك ما ابتدعه المبتدعون من بعده. وأما مخالفة الرفاعي للسنة فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من حديث العرباض من سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم، والذهبي، وقال ابن عبد البر في كتاب: "جامع بيان العلم وفضله": حديث عرباض بن سارية في الخلفاء الراشدين حديث ثابت صحيح. وروى الإمام أحمد أيضًا، ومسلم، وابن ماجه، والدارمي عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكم ومساكم، ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»، وقد رواه النسائي بإسناد جيد، ولفظه: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».

وروى ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما هما اثنتان الكلام والهدى فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، وقد رواه ابن وضاح، وابن عبد البر وغيرهما موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه. وروي الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية لأحمد، ومسلم والبخاري تعليقًا مجزومًا به: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» قال النووي في شرح مسلم: قال أهل العربية الرد هنا بمعنى المردود ومعناه فهو باطل غير معتد به، قال: وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه، - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات، وقال أيضًا: وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به، انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه، ثم ذكر قول النووي: إن هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك. قال: وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع، قال الحافظ: وفيه

رد المحدثات، وإن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها، انتهى. قلت: ومن الأعمال المردودة بلا ريب إحياء ليلة المولد كل عام، لأنه لم يكن من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من عمل لصحابة رضي الله عنهم، ولا من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان، وإنما هو من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أنها بدعة وضلالة. وأما مخالفة الرفاعي لما كان عليه سلف الأمة وأئمتها والمسلمون جميعًا منذ زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر القرن السادس من الهجرة، فهو ظاهر فإنهم لم يكونوا يحتفلون بالمولد ويتخذونه عيدًا، ولم يكونوا يخصون ليلة المولد ولا يومه بشيء من الأعمال دون سائر الليالي والأيام. ولو كان الاحتفال بالمولد خيرًا لسبق إليه الصحابة، رضي الله عنهم، فإنهم كانوا أسبق إلى الخير، وأحرص عليه ممن جاء بعدهم، وقد قال النووي في "تهذيب السماء واللغات": البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى. قلت: ويستثنى من ذلك ما سنه أحد الخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، فإنه سنة وليس ببدعة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ». قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه «جامع العلوم والحكم»: وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته وسنة الخلفاء

الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عمومًا، دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة بخلاف غيرهم من ولاة الأمور قال: والخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم، هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، وقوله: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة. وأكد ذلك بقوله: «كل بدعة ضلالة»، والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة إلى أن قال: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة، والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: «نعمت البدعة هذه»، وروي عنه أنه قال: «إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة» انتهى المقصود من كلامه، وسيأتي تمامًا إن شاء الله تعالى مع الجواب عن استحسان الرفاعي لبدعة المولد، واستدلاله على ذلك بقوله عمر، رضي الله عنه «نعمت البدعة هذه». وأما قول الرفاعي: إن الاحتفال بالمولد النبوي سنة حسنة.

فجوابه أن يقال: إن السنة ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو سنة أحد الخلفاء الراشدين المهديين وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، فأما ما سوى ذلك فهو من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أنها شر وضلالة، ومن ذلك الاحتفال بالمولد النبوي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بذلك، ولم يفعله، ولم يأمر به أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يفعله أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولا التابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فهو بدعة وضلالة يجب ردها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وقد زعم الرفاعي أن هذه البدعة من السنن الحسنة، وزعم في كلامه الذي سيأتي ذكره قريبًا أنها سنة مباركة وبدعة حسنة، هكذا قال وذلك مبلغه من العلم، وفيه دليل على انعكاس الحقائق عنده، حيث لم يفرق بين السنة والبدعة، بل إنه قد غلب عليه التكلف حتى جعل البدعة سنة مباركة حسنة، وهذا من مصداق الحديث الذي رواه رزين عن علي، رضي الله عنه مرفوعًا «كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا» قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن، قال: نعم. وروى أبو يعلي والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا مثله، وروي ابن وضاح عن ضمام بن إسماعيل المعافري عن غير واحد من أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكر مثله. وروى ابن وضاح أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: يأتي على الناس زمان تكون السنة فيه بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا.

وقد ذكر الشاطبي في كتاب «الاعتصام» ما رواه ابن حبيب عن ابن ماجشون قال: سمعت مالكًا يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فلما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا»، وذكره الشاطبي في موضع آخر من كتاب «الاعتصام»، ولفظه قال: «من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة»، وذكر بقيته بمثل ما تقدم، انتهى. وأما قول الرفاعي: وإن كانت بدعة فهو بدعة حسنة محمودة كغيرها من البدع التي ابتدعت في الإسلام، وأفتى بها وأثنى عليها علماء أهل السنة والجماعة. فجوابه أن يقال: ليس في البدع التي قد ابتدعت في الدين شيء حسن محمود البتة، بل البدع في الدين كلها شر وضلالة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال في حديث جابر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة»، وفي حديث العرباض بن سارية، -رضي الله- عنه الذي تقدم ذكره «وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة»، وكل بدعة ضلالة، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه، الذي تقدم ذكره «ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». وهل يقول عاقل: إن من الشر والضلالة ما هو حسن محمود، كلا لا يقول ذلك عاقل، ومن زعم أن في البدع التي قد ابتدعت في الدين

شيئًا حسنًا محمودًا فإنما هو في الحقيقة يستدرك على الشريعة، ويرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذان الأمران خطيران جدًا لما فيهما من المحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فليتأمل الرفاعي قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فهذه الآية الكريمة تقضي على البدع كلها، وترد على من تعلق بها، أو بشيء منها، وعلى من أفتى بجوازها، أو جواز شيء منها، وعلى من زعم أن بدعة المولد حسنة محمودة وسنة مباركة، قال الشاطبي في كتاب «الاعتصام»: إن المستحسن للبدع يلزمه أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعدُ، فلا يكون لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} معنى يعتبر به عندهم، انتهى. ويلزم على القول بأن الاحتفال بالمولد سنة حسنة محمودة مباركة لوازم سيئة جدًا أحدها: أن يكون الاحتفال بالمولد من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم. وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بالاحتفال بالمولد، ولم يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفعله ولا فعله أحد من الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، بل ولم يكن معروفًا عند المسلمين إلى أن مضى عليهم نحو من ستمائة سنة، فحينئذ ابتدعه سلطان إربل وصار له ذكر عند الناس. وعلى هذا فمن زعم أن الاحتفال بالمولد من الدين، فقد قال: على الله، وعلى كتابه، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم. الثاني: من اللوازم السيئة أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم قد تركوا العمل بسنة حسنة

مباركة محمودة، وهذا مما ينزه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. الثالث: أن يكون المحتفلون بالمولد قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة، لم تحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه، رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل ودين. وليتأمل الرفاعي أيضًا نصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثي جابر والعرباض، رضي الله عنهما، وما رواه ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وليقابل بين الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} مع النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات على وجه العموم، ووصفها بأنها شر وضلالة، وبين قوله إن بدعة الاحتفال بالمولد بدعة حسنة محمودة كغيرها من البدع الحسنة التي ابتدعت في الإسلام، وقوله أيضًا: أنها سنة مباركة ليعلم ما في كلامه من المعارضة للكتاب والسنة؛ وليتأمل أيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقوله أيضًا: «من رغب عن سنتي فليس مني»، ولعله بعد التأمل يراجع الحق، فإن الرجوع إلى الحق نبل وفضيلة، كما أن الجدال بالباطل لإدحاض الحق نقص ورذيلة، وقد ذم الله الذي يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، وتوعدهم على ذلك بأشد الوعيد، فقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}، وذم تبارك وتعالى الذين إذا ذكروا لا يذكرون، وذم الذين لا يسمعون ولا يعقلون، فقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ

الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}، فليحذر الرفاعي أن يصاب بما جاء في هذه الآيات أو ببعضه. وإن لم يفهم الرفاعي دلالة النصوص على تحريم بدعة المولد وغيرها من البدع والمنع منها، فينبغي له أن يعرف قدر نفسه، ولا يتطاول على العلماء الذين ينهون عن الفساد في الأرض، ويحذرون الناس من البدع التي حذر منها رسول - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بردها. وإذا علم هذا فمن أفتى بجواز البدع، وأثنى عليها وزعم أنها حسنة محمودة فقوله مردود عليه كائنًا من كان، لأنه لا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا}، وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أتدري ما الفتنة، الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وقال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن له أن يدعها لقول أحد.

ولما عارض بعض التابعين قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في متعة الحج، رد عليهم ابن عباس، رضي الله عنهما، وقال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر». وإذا كان هذا قول ابن عباس، رضي الله عنهما، لمن عارض قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فكيف بمن عارض قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول فلان وعلان، ممن زعم أنهم أفتوا بجواز الاحتفال بالمولد، وأثنوا على هذا العمل، فهذا القول مردود على قائليه، وفي الأحاديث التي تقدم ذكرها عن العرباض بن سارية، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وعائشة، رضي الله عنهم، أبلغ رد عليهم، وعلى الرفاعي الذي قدم أقوالهم على أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى الترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة» قالوا من هي يا رسول الله قال: «ما أنا عليه وأصحابي»، وروى الطبراني نحوه من حديث أنس بن مالك، وأبي أمامة، ووائلة بن الأسقع، رضي الله عنهم. ومن المعلوم عند أهل العلم أن الاحتفال بالمولد لم يكن في عهد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد أصحابه، ولا في القرون الثلاثة المفضلة، وإنما حدث ذلك بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بنحو من ست مائة سنة، وما لم يكن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، رضي الله عنهم، فلا شك أنه مذموم ويخشى على فاعله أن يكون من الثنتين وسبعين فرقة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها في النار. وقد استدل الرفاعي على أن عيد المولد بدعة حسنة محمودة بثناء أبي شامة على سلطان إربل الذي ابتدع عيد المولد وهو الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ابن زين الدين علي بن بكتكين التركماني، واستدل أيضًا بأقوال لبعض الذين ألفوا في المولد واستحسنوا الاحتفال به، وأفتوا بجواز ذلك. والجواب أن يقال: إن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الرأي والاستحسان والابتداع، ولا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم في الأحاديث الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وقال أيضًا: «وشر الأمور محدثاتها»، وقال أيضًا: «من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، فهذه النصوص تقضي على كل ما خالفها من أقوال الناس واستحسانهم، وقد تقم قول الشافعي -رحمه الله تعالى- أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وتتقدم في وصف الفرقة الناجية من هذه الأمة أنهم من كان على مثل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم.

وقد ذم الاحتفال بالمولد عدد كثير من أكابر العلماء، وعدوا ذلك من البدع، وسيأتي ذكر أقوالهم في آخر الكلام على ما يتعلق ببدعة المولد إن شاء الله تعالى. وقد روي الإمام أحمد في الزهد عن ابن مسعود، رضي الله عنه أنه قال: «عليكم بالسمت الأول»، وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب "السنة" عنه، رضي الله عنه، أنه قال: «إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول»، وروى الإمام أحمد، ومحمد بن نصر عنه، رضي الله عنه أنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة»، وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال «من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، - صلى الله عليه وسلم - ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة»، وقد روى رزين نحو هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: رحمه الله تعالى، الأفضل للناس اتباع السلف الصالح في كل شيء، انتهى. وقال الراجز وأحسن فيما قال: وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف والثناء على من ابتدع عيد المولد واستحسان بعض الناس لبدعة

المولد، وإفتاؤهم بجوازها لا شك أنه من أخطاء العلماء وزلاتهم. وقد ورد التحذير من تتبع أخطاء العلماء وزلاتهم، وبيان أنها من هوادم الإسلام. فروى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء، رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أخاف على أمتي ثلاثًا: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، والتكذيب بالقدر»، وروى أبو نعيم في الحلية عن عمرو بن عوف المزني، رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إني أخاف على أمتي من بعدي، ثلاثة أعمال» قالوا: وما هي يا رسول الله، قال: «زلة عالم، وحكم جائر، وهوى متبع»، وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أشد ما أتخوف على أمتي زلة عالم، وجدل منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم»، وروى الطبراني في الصغير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني أخاف عليكم ثلاثًا، وهي كائنات، زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم»، وروى الدارمي، وأبو نعيم في الحلية عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه، هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال «يهدمه، زلة عالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين»، وروي الإمام أحمد في الزهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إنما أخشى عليكم زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن»، وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا فليتأملها الرفاعي الذي قد اعتمد على زلات بعض العلماء في استحسان بدعة المولد، وقدمها على النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع وبيان أنها شر وضلالة. وإذا علم أنه لا دليل مع الذين قالوا بجواز بدعة المولد

واستحسانه، وأنهم قد زلوا واخطئوا حيث خالفوا الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع، وبيان أنها شر وضلالة، وأنها مردودة على من أحدثها، ومن عمل بها. وقد خالفوا أيضا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان، فليعلم أيضًا أن القائلين بجواز بدعة المولد واستحسانها قد خالفهم كثير من المحققين، وردوا عليهم، وصرحوا بذم الاحتفال بالمولد، وأن ذلك من البدع السيئة، وسيأتي ذكر أقوالهم في آخر الكلام على ما يتعلق ببدعة المولد إن شاء الله تعالى. وأما زعم الرفاعي أن علماء أهل السنة والجماعة أفتوا بما زعم أنها بدعة حسنة ابتدعت في الإسلام، وأنهم أثنوا عليها. فجوابه أن يقال: أما علماء أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدي من بعدهم، فكلهم على إنكار البدع في الدين على سبيل العموم. ومن زعم أنهم استحسنوا شيئًا من البدع في الدين وأفتوا بها وأثنوا عليها فقد تقول عليهم. وأما المتساهلون ببعض البدع من المتأخرين الذين ذكرهم الرفاعي واعتمد على أقوالهم في استحسان بدعة المولد، فهؤلاء محجوجون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وبقوله أيضًا: «وشر الأمور محدثاتها»، وبقوله أيضًا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا}، وسيأتي ذكر أقوال

الذين خالفوهم وردوا عليهم في آخر الكلام على ما يتعلق ببدعة المولد إن شاء الله تعالى. فإن قيل إن عمر -رضي الله عنه- قد استحسن جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان، وقال: «نعمت البدعة هذه». فالجواب أن يقال: إن ما فعله عمر -رضي الله عنه- من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان ليس ببدعة، وإنما هو سنة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين»، وأيضا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بالناس جماعة في قيام رمضان، ثم ترك ذلك خشية أن يفرض على أمته، وعلى هذا ففعل عمر رضي الله عنه موافق لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس من البدع وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وأما ما ذكره الرفاعي عن السخاوي أنه قال: ولو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان، وسرور أهل الإيمان من المسلمين لكفى. فجوابه أن يقال: وما يدريه أن بدعة المولد ترغم الشيطان، بل إن ذلك مما يفرح به الشيطان ويسر به؛ لأن البدع في الدين كلها من عمل الشيطان وتزيينه، وإذا عمل المسلمون بما يدعوهم إليه من البدع والمعاصي فلا شك أنه يسر بذلك. وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده إلى سفيان الثوري أنه قال: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها»، والدليل على أن البدع في الدين كلها من عمل الشيطان قول الله تعالى مخبرًا عن إبليس أنه قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ}، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في

الأحاديث التي تقدم ذكرها: وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة فدلت الآية والأحاديث الصحيحة على أن البدع في الدين من إضلال الشيطان، وقد روى الإمام أحمد عن غضيف بن الحارث الثمالي رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة»، وهذا يدل على شؤم البدع في الدين، وأنها مما يفرح به الشيطان لما يقع بسببها من رفع السنن. وأما زعمه أن بدعة المولد فيها سرور أهل الإيمان. فجوابه أن يقال: إنه لا يسر ببدعة المولد من المسلمين إلا من هو جاهل بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحذير من المحدثات والنص على أنها شر، وأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما ثبت عنه أيضًا أن من عمل عملاً ليس عليه أمره فهو رد، أي مردود، فأما أهل العلم والإيمان فإنما يكون سرورهم بإحياء السنن، وإماتة البدع كما أنه يسوءهم إحياء البدع، وإماتة السنن. وأما ما ذكره الرفاعي عن السخاوي أنه قال: وإذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر. فجوابه أن يقال: لا شك أن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيدًا مبني على التشبه بالنصارى في اتخاذهم مولد المسيح عيدًا، وهذا مصداق ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟ رواه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله

عنه- وروى الإمام أحمد، والبخاري أيضًا، وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة نحوه من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- وإسناده جيد، وروى محمد بن نصر أيضًا، والبزار، والحاكم نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم، والذهبي، وروى أبو داود الطيالسي، والترمذي، ومحمد بن نصر بعضه من حديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- وقال الترمذي: حسن صحيح، وروى أبو داود الطيالسي، ومحمد بن نصر، وأبو بكر الآجري نحوه من حديث عمرو بن عوف المزني -رضي الله عنه- وروى الطبراني نحوه من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه. وإذا علم أن عيد المولد عند جهال المسلمين مبني على التشبه بالنصارى، فليعلم أيضًا أن التشبه بالنصارى وغيرهم من المشركين حرام شديد التحريم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من تشبه بقوم فهو منهم»، رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وصححه ابن حبان، وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: إسناده جيد، وقال ابن حجر العسقلاني: إسناده حسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد احتج أحمد وغيره بهذا الحديث، قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وقال شيخ الإسلام أيضًا في موضع آخر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقًا، انتهى. وقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى»، قال ابن مفلح في قوله: «ليس منا» هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم، انتهى. وأما ما ذكره الرفاعي عن أبي شامة أنه قال في إقامة عيد المولد: إنه مشعر بمحبته، - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه، وفيه إغاظة للكفرة والمنافقين. فجوابه أن يقال: إن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون بارتكاب البدع التي حذر منها، وأخبر أنها شر وضلالة، وأنها في النار، وإنما يكون تعظيمه بطاعته، واتباع هديه، والتمسك بسنته، ونشر ما دعا إليه كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فهؤلاء هم المحبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - حقًا والسير على منهاجهم هو الذي يشعر بمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه، وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»، قال النووي في الأربعين: له حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح، ثم قال في الكلام على هذا الحديث، يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، وهذا نظير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، فليس لأحد مع الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر ولا هوى، انتهى.

وقد قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في أول كتابه «إغاثة اللهفان»: لا تجد مشركًا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يعظمه بذلك كما إنك لا تجد مبتدعًا إلا وهو متنقص للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة، فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلا مقلدًا، وإن كان مستبصرًا في بدعته فهو مشاق لله ورسوله انتهى. وأما قوله: وفيه إغاظة للكفرة والمنافقين. فجوابه أن يقال: بل الأمر بالعكس فإن الكفار والمنافقين يفرحون بما يكون من بعض المسلمين من المخالفة لهدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وارتكابهم لما حذرهم منه من البدع والضلالات، وقد قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، وإذا يئسوا من كفر المسلمين رضوا منهم بإظهار البدع في الدين؛ لأنها تئول إلى الشرك. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية. رحمه الله تعالى، المبتدع يئول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، انتهى. وقال السدي في تفسير هذه الآية: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم قلت: وهذا هو المطابق لحال المشركين وأهل البدع، فإنهم استنصحوا الذين يدعوهم إلى الشرك والبدع في الدين، ونبذوا كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم.

وأما ما ذكره الرفاعي عن السيوطي أنه قال: إن عمل المولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها. فجوابه أن يقال: إن كلام السيوطي مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي تقدم ذكرها "وشر الأمور محدثاتها"، وقوله أيضًا: «وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وقوله أيضًا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، فقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - البدع بأنها شر وضلالة، وهذه صفات سيئة ذميمة، وأخبر أنها مردودة على أصحابها، وأنها في النار. وهذا يدل على أن صاحب البدعة لا يثاب على بدعه، بل إنه يخشى عليه من الفتنة والعذاب الأليم؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وكل ضلالة في النار»، والثواب إنما يكون على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتقديم هديه على هدي غيره، ويدل على ذلك قول الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقوله تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فقد جعل الله تبارك وتعالى اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - سببًا لمحبته لمن اتبعه وهدايته ومغفرة ذنوبه، وعمل المولد ليس من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وإنما هو من هدي سلطان إربل وسنته، وذلك بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ست مائة سنة، وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، وأحسن فيما قال: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها

وأما ما ذكره الرفاعي عن ابن حجر المكي أنه خرّج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال ما زعمه الرفاعي من أن الذي خرج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء هو ابن حجر المكي فهو غلط ظاهر، وإنما هو ابن حجر العسقلاني صاحب "فتح الباري"، وقد نقل ذلك عنه السيوطي في رسالته التي سماها "حسن المقصد، في عمل المولد" وهي الرسالة الرابعة والعشرون مما في كتاب "الحاوي للفتاوي" وقد توفي السيوطي في سنة إحدى عشرة وتسع مائة من الهجرة، وذلك بعدما ولد ابن حجر الهيتمي المكي بسنتين؛ لأنه قد ولد في سنة تسع وتسع مائة من الهجرة، وهذا الذي في سن الفطام حين توفي السيوطي، لا يقول عاقل إن السيوطي قد نقل عنه، والظاهر أن الرفاعي نقل تخريج ابن حجر من رسالة السيوطي، وتوهم أنه أراد به ابن حجر الهيتمي المكي. الوجه الثاني أن يقال: إن ابن حجر العسقلاني قد صرح في أول كلامه الذي نقله السيوطي عنه أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، وهذه الجملة من كلام ابن حجر كافية في ذم المولد إذ لو كان خيرًا لسبق إليه الصحابة والتابعون وأئمة العلم والهدى من بعدهم. ثم قال ابن حجر: ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا، قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم لمدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى فنحن

نصومه شكرًا لله تعالى فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، انتهى. وهذه الجملة من كلام ابن حجر مردودة بما صرح به في الجملة أولى من كلامه وهو قوله: إن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، وقد ذكرت الآيات والأحاديث لدالة على ذم البدع والتحذير منها، والأمر بردها في أول الكتاب فلتراجع ففيها أبلغ رد على الجملة الأخيرة من كلام ابن حجر. ومما يرد به عليه أيضًا كلامه في "فتح الباري" لما ذكر حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، قال: هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه، قال وفيه رد المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من مر الدين فيجب ردها، انتهى. وقد صرح في كلامه الذي تقدم ذكره أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة فيلزم على قوله في "فتح الباري" أنه يجب ردها؛ لأنها من المحدثات وليست من أمر الدين.

الوجه الثالث: أن يقال إن تخريج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء ليس بوجيه، وإنما هو من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الرأي والاستحسان والابتداع، ولم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر أمته بالاحتفال بمولده، ولا أنه خص ليلة المولد أو يومه بشيء من الأعمال دون سائر الليالي والأيام، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقال أيضًا: «من رغب عن سنتي فليس مني»، وفي هذين الحديثين أبلغ رد على من جعل ليلة المولد عيدًا وخصها بأعمال لم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة ولم يفعلها، وفيهما أيضًا رد على من خرج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء؛ لأن صيام يوم عاشوراء قد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغب فيه بخلاف الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ولم يرغب فيه، ولو كان في الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا أدنى شيء من الفضل لبين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، لأنه لا خير إلا وقد دلهم عليه ورغبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذره منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنه وحذرهم منه كما تقدم النص على ذلك في أحاديث العرباض بن سارية، وجابر بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم. ولو قال قائل بتخريج بدعة المولد على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره عيدًا لكان أولى وأقرب من تخريجها على صيام يوم عاشوراء، وكذلك تخريج بدعة المولد على قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» هو أولى

وأقرب من تخريجها على صيام يوم عاشوراء، ويؤيد هذا التخريج أن عيد المولد النبوي مبني على التشبه بالنصارى في اتخاذهم يوم مولد المسيح عيدًا، فعيد مولد المسيح عند النصارى وعيد مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند جهال المسلمين متشابهان ولا فرق، وكلاهما من ثمرة الغلو والإطراء ونتائجهما السيئة. وفيه وجه ثالث لتخريج بدعة المولد النبوي: وهو المنع من تعظيم أعياد أهل الجاهلية وتعظيم مواضعها، والنص على أن ذلك معصية لله تعالى وأنه لا يجوز الوفاء بالنذر في ذلك. وقد جاء فيه حديث صحيح رواه أبو داود في سننه بإسناد على شرط البخاري ومسلم عن ثابت بن الضحاك، ورضي الله عنه، قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد»، قالوا: لا، قال: «هل كان فيها عيد من أعيادهم»، قالوا: لا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم»، وهذا الحديث الصحيح يدل على تحريم مضاهاة أهل الجاهلية والتشبه بهم في تعظيم الأوثان والأعياد التي شرعها لهم أولياؤهم من شياطين الجن والإنس، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ}، والذين يحتفلون بالمولد النبوي قد جمعوا بين التشبه بأهل الجاهلية في تعظيم الأعياد المبتدعة وبين التشبه بالنصارى في تعظيم مولد المسيح واتخاذه عيدًا، والتشبه بأهل الجاهلية وبالنصارى حرام شديد التحريم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم»، ولقوله أيضًا: «ليس منا من تشبه

بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى»، وقد ذكرت هذين الحديثين قريبًا وذكرت من خرجهما من الأئمة فليراجع ما تقدم (¬1). وأما زعم الرفاعي أن بدعة المولد سنة مباركة وبدعة حسنة واستدلاله على ذلك باحتفال جمهور المنتسبين إلى الإسلام بهذه البدعة، وزعمه أن احتفالهم بها دليل ساطع على إجماعهم عليها. فجوابه أن يقال ليس في البدع في الدين شيء مبارك ولا حسن البتة، ووصفها بالبركة والحسن من مجازفات أهل الغلو والإطراء ومجاوزة الحد، وقد تقدم في الأحاديث الصحيحة عن العرباض بن سارية، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود -رضي الله عنهم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذر أمته من محدثات الأمور، وأخبرهم أنها شر وأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن بدعة المولد شر وضلالة، واحتفال جمهور العوام بها لا يحيلها من الشر والضلالة إلى البركة والحسن؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}، وقد افتتن كثير من المنتسبين إلى الإسلام بالقبور واتخذوا بعضها أوثانًا، وجعلوا لبعض الأموات أعيادًا زعموها لمواليدهم، كما يفعلون ذلك في مولد البدوي وغيره من الأموات الذي يعظمهم الجهال، وهذه الأعياد كلها شر وبدعة وضلالة، ولا فرق في ذلك بين بدعة مولد النبي - صلى ¬

(¬1) ص 6 - 12.

الله عليه وسلم - وبدعة مولد البدوي وغيره من الأموات، فكلها داخلة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وشر الأمور محدثاتها»، وقوله أيضًا: «وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وكلها مردودة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه مرنا فهو رد»، وبدع المواليد في الإسلام مأخوذة مما ابتدعه النصارى في مولد المسيح حيث جعلوا ذلك عيدًا يعود كل عام، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم». وأما قول الرفاعي: وهذا الإجماع يعتبر إجماعًا سكوتيًا يعتد به عند فقهاء المسلمين. فجوابه ن يقال: هذه الجملة مما كتبه الرفاعي من غير تثبت ولا تعقل، وهل يقول عاقل له أدنى علم ومعرفة: إن الإجماع يؤخذ من أفعال العوام والجهال وسكوتهم على ما يفعلونه من البدع، وأن ذلك يعتبر إجماعًا سكوتيًا يعتد به عند فقهاء المسلمين، كلا لا يقول ذلك من له أدنى علم ومعرفة. ويقال أيضًا: إن الإجماع الذي يعتد به عند فقهاء المسلمين هو إجماع الصحابة وأئمة العلم والهدى من بعدهم، فأما العوام والجهال، فلا عبرة بهم، ولا بأقوالهم وأفعالهم، وقد ذكر الشاطبي أن منشأ الاحتجاج بعمل الناس في تحسين البدع الظن بأعمال المتأخرين، وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك، والوقوف مع الرجال دون التحري للحق، وقال الشاطبي أيضًا: لا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام، وإن ادعوا الإمامة، انتهى. وأما قول الرفاعي: ودليل كونها بدعة وحسنة قوله - صلى الله عليه

وسلم -: «ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة». فجوابه أن يقال: هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وحمل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير المراد به، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حث على الأخذ بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضي الله عنهم- وحذر مما سوى ذلك من محدثات الأمور التي لم تكن على عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولا على عهد الخلفاء الراشدين، وأخبر أن شر الأمور محدثاتها، وأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإذا علم هذا فليعلم أيضًا أن ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سنه أحد الخلفاء الراشدين فهو السنة الحسنة، وما أحدثه غيرهم مما ليس له أصل في الشريعة يرجع إليه فهو بدعة سيئة وضلالة مردودة، وإن كان صاحبه يريد الخير، ومن ذلك بدعة المولد. وقد أنكر ابن مسعود، وأبو موسى الأشعري -رضي الله عنهما- هو دون بدعة المولد بكثير، وعده ابن مسعود -رضي الله عنه- من البدع وإن كان في الظاهر حسنًا، ومن أفعال الخير، وقد روي ذلك من عدة طرق، منها ما رواه الطبراني في الكبير عن عمرو بن سلمة قال: كنا قعودًا على باب ابن مسعود -رضي الله عنه- بين المغرب والعشاء، فأتى أبو موسى -رضي الله عنه- فقال: أخرج إلينا أبا عبد الرحمن، فخرج ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال: أبا موسى ما جاء بك هذه الساعة، قال: لا والله إلا أني رأيت أمرًا ذعرني وإنه لخير، ولقد ذعرني وإنه لخير، قوم جلوس في المسجد ورجل يقول: سبحوا كذا وكذا، احمدوا كذا

وكذا، قال: فانطلق عبد الله وانطلقنا معهم حتى أتاهم فقال: «ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحياء، وأزواجه شواب، وأبنيته لم تغير، أحصوا سيئاتكم، فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم». ومنها ما رواه الدارمي عن عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا فقال: له أبو موسى يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا، ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم. قال: ما قل لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحق، فوقف عليهم فقال: «ما هذا الذي أراكم تصنعون» قالوا يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير، والتهليل، والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله

يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه». ومنها ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، وأبو الفرج ابن الجوزي، واللفظ له عن أبي البختري، قال: أخبر رجل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن قومًا يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول: كبروا الله كذا وكذا، وسبحوا الله كذا وكذا، واحمدوا الله كذا وكذا، قال عبد الله فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فائتني فأخبرني بمجلسهم، فجلس فلما سمع ما يقولون، قام فأتى ابن مسعود -رضي الله عنه- وكان رجلاً حديدًا، فقال: أنا عبد الله بن مسعود والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما، عليكم بالطريق فالزموه، ولئن أخذتم يمينًا وشمالا لتضلن ضلالاً بعيدا، وفي رواية الطبراني فمرهم أن يتفرقوا. ومنها ما رواه ابن وضاح أن عبد الله بن مسعود، -رضي الله عنه- حدث أن ناسًا يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم، وقد كوم كل رجل منهم كومة من حصى فلم يزل يحصبُهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، وهو يقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا. وإذا كان ابن مسعود، وأبو موسى -رضي الله عنهما- قد أنكرا على الذين يجتمعون للذكر، وعد التكبير، والتهليل، والتسبيح بالحصى، وعد ابن مسعود -رضي الله عنه- فعلهم من البدع الظلماء والهلكة والضلالة، وقال لهم إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله

عليه وسلم -، أو مفتتحو باب ضلالة، ولم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، فكيف بالذين يقيمون بدعة المولد كل عام ويجتمعون لذلك، فهؤلاء أولى بالإنكار، وأن يعد فعلهم من البدع الظلماء والهلكة والضلالة. فليتأمل الرفاعي ما جاء عن ابن مسعود، وأبي موسى -رضي الله عنهما- من إنكار الأمر الذي لم يكن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضي الله عنهم- وإن كان ظاهره الخير، وليتأمل أيضًا قول الذين أنكر عليهم ابن مسعود -رضي الله عنه- والله ما أردنا إلا الخير وجواب ابن مسعود -رضي الله عنه- لهم بقوله وكم من مريد للخير لن يصيبه، وليتأمل أيضًا قول ابن مسعود -رضي الله عنه- لهم، عليكم بالطريق فالزموه، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيدًا، ولعل الرفاعي بعد التأمل يراجع الحق في إنكار بدعة المولد ولا يكون عونًا للشيطان في تأييد هذه البدعة والذب عنها، ولا ينس قول الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}. ومما يدل على أن عيد المولد بدعة وضلالة أن الله شرع لهذه الأمة على لسان نبيها - صلى الله عليه وسلم - سبعة أعياد في سبعة أيام وهي: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، فأما يوم الجمعة فقد جاء فيه عدة أحاديث، منها ما رواه مالك في الموطأ، والشافعي في مسنده من طريق مالك عن ابن شهاب

عن عبيد بن السباق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: «يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيدا، فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك»، هكذا رواه مالك، والشافعي مرسلا، وقد رواه ابن ماجه، والطبراني من حديث صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عبيد بن السباق عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره بنحوه. ومنها ما رواه الإمام أحمد، والبخاري في الكنى، والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده». ومنها ما رواه الطبراني عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: «معاشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله لكم عيدًا، فاغتسلوا، وعليكم بالسواك». ومنها ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: أشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد، ثم رخص في الجمعة، فقال: «من شاء أن يصلي فليصل» صححه الحاكم، والذهبي.

ومنها ما رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس، رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث بي هريرة رضي الله عنه. ومنها ما رواه ابن ماجه أيضًا عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال اجتمع عيدان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس ثم، قال: «من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها، ومن شاء أن يتخلف فليتخلف». ومنها ما رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «من أحب أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج». وفي الباب أحاديث موقوفة منها ما رواه مالك في الموطأ، والشافعي في مسنده من طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فجاء فصلى، ثم انصرف، فخطب، وقال: إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له. ومنها ما رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه عن وهب بن كيسان، قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير

فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: «أصاب السنة»، زاد ابن خزيمة، والحاكم فبلغ ابن الزبير، فقال: رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد رواه أبو داود في سننه من حديث عطاء بن أبي رباح بنحوه، وفي رواية له عن عطاء، قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: «عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر». ومنها ما رواه ابن جرير في تفسيره، والطبراني في الأوسط عن قبيصة بن ذؤيب قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية؛ لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه، فقال عمر -رضي الله عنه-: أي آية يا كعب فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فقال عمر -رضي الله عنه-: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. ومنها ما رواه وابن جرير عن عمار بن أبي عمار، قال: قرأ ابن عباس -رضي الله عنهما- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وعنده يهودي، فقال: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم الجمعة ويوم عرفة، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وأما يوم الفطر ويوم الأضحى، فقد جاء فيهما عن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان»، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل قد أبدلكم بهما خيرًا منهما، يوم الأضحى، ويوم الفطر»، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد جاء ذكر يوم النحر أيضا في حديث عقبة بن عامر الذي سيأتي ذكره. وأما يوم عرفة، وأيام التشريق فالدليل على أنها من أعياد المسلمين ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل، وشرب» صححه الترمذي، والحاكم وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وإذا علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأمته عيدًا سوى السبعة الأيام التي تقدم ذكرها في الأحاديث الثابتة فليعلم أيضًا أن ما سوى ذلك من الأعياد فهو بدعة وضلالة مثل عيد المولد النبوي، وليلة المعراج، وليلة النصف من شعبان، ومن هذا الباب أيضًا أعياد الجلوس عند بعض الملوك والرؤساء، وأعياد الثورة عند المنازعين للملوك والرؤساء وانتصار بعضهم على بعض، وأعياد جلاء المستعمرين عند بعض المنتسبين إلى الإسلام، فكل هذه الأعياد المحدثة من باب واحد وكلها داخلة في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وفي

عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وأما قول الرفاعي: أما دليل كونها بدعة حسنة، فقد روي البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي، قال: المحدثات من الأمور ضربان أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابًا، أو سنة، أو أثرًا، أو إجماعًا فهذه البدعة ضلالة؛ الثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر -رضي الله عنه- في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه" يعني أنها محدثة لم تكن، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى. فجوابه من وجوه، أحدها: أن يقال إن الأدلة على جواز الشيء وتحسينه، أو على منعه وذمه لا تؤخذ من أقوال العلماء، وإنما تؤخذ من القرآن، أو من السنة، أو من الإجماع، أو من قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره منهم على القول الراجح. وما ذكره البيهقي عن الشافعي -رحمه الله تعالى- ليس فيه دليل على تحسين بدعة المولد، ولا غيرها من البدع، بل يؤخذ من كلامه ذم الاحتفال بالمولد لمخالفته للكتاب والسنة والأثر وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها كما سيأتي بيانه إن شاء الله -تعالى، وقد روي كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- بلفظ آخر وهو ما رواه الحافظ أبو نعيم في الحلية من طريق إبراهيم بن الجنيد حدثنا حرملة بن يحيى، قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: «البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في قيام رمضان نعمت البدعة هذه»، قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في كتابه "جامع العلوم والحكم": ومراد الشافعي -رضي الله

عنه- ما ذكرناه من قبل (¬1) أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعًا لموافقتها للسنة، انتهى. الوجه الثاني: أن يقال إن بدعة المولد ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه، وإنما هي مخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وعلى هذا فهي بدعة مذمومة، وفي الرواية التي ذكرها أبو نعيم عن الشافعي -رحمه الله تعالى- أبلغ رد على الرفاعي فيما تعلق به من الرواية الأولى عن الشافعي، وزعم أنها تدل على تحسين بدعة المولد. الوجه الثالث: أن يقال إن الاحتفال بالمولد مخالف للكتاب والسنة والأثر، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، فأما مخالفته للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها فقد تقدم بيانه في أول الكتاب فليراجع (¬2). وأما مخالفته للأثر، فقد قال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا معاذ بن معاذ قال: أخبرنا ابن عون عن نافع، قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها قال: فأمر بها فقطعت، إسناده صحيح إلى نافع، ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر -رضي الله عنه-، فإنه لم يدركه وهذا الأثر مشهور عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن أبي شيبة أيضًا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر رضي الله عنه ¬

(¬1) 13. (¬2) ص 6 - 13.

في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} فلما قضى حجه، ورجع والناس يبتدرون، فقال: ما هذا، فقال: مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرض له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل» إسناده صحيح على شرط الشيخين، وفي هذين الأثرين عن عمر -رضي الله عنه- دليل على أنه لا يجوز الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا لما في ذلك من الغلو ومضاهاة أهل الكتاب في تتبعهم لآثار أنبيائهم، وقد صرح عمر -رضي الله عنه-، أن تتبع آثار الأنبياء من الهلاك، وقد ذكرت فيما تقدم أن الاحتفال بالمولد النبوي مبني على التشبه بالنصارى في اتخاذهم مولد المسيح عيدًا والتشبه بهم حرام شديد التحريم، وقد ذكرت الأدلة على ذلك فيما تقدم فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على الرفاعي الذي قد نصب نفسه لتأييد بدعة المولد والذبّ عنها. الوجه الرابع: أن يقال إن الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا يعود في كل عام لم يكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من سنة الخلفاء الراشدين، ولم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم بإحسان، وإنما أحدثه سلطان إرببل في آخر القرن السادس من الهجرة، أو في أول القرن السابع، وقد تقدم إيراد النصوص في التحذير من محدثات الأمور، وبيان أن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبيان أن شر الأمور محدثاتها، وتقدم أيضا ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه ¬

(¬1) ص 26 - 27.

وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وفي هذه النصوص أبلغ تحذير من بدعة المولد وغيرها من المحدثات، وقد قال الله تعالى {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وبدعة المولد داخلة فيما نهى عن رسول الله لأنها من محدثات الأمور التي قد حذر منها، وأخبر أنها شر وضلالة، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والذين يعملون بدعة المولد لا شك أنهم قد خالفوا الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لم يقتصروا على الأعياد المشروعة للمسلمين، بل زادوا عليها عيدًا لم يأذن به الله، ولم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنهم، فهم بذلك متعرضون للفتنة والعذاب الأليم. وقد أمر الله المؤمنين باتباع ما أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن اتباع الأولياء من دونه، وعلق محبته للعباد ومغفرته لذنوبهم وهدايته إياهم ونيلهم الفلاح على اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وذم الذين ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وفي هذا أبلغ تحذير من الابتداع في الدين واتباع المبتدعين للأعياد وغيرها من البدع. وأما قوله: وقد قال عمر -رضي الله عنه- في قيام رمضان نعمت البدعة هذه، يعني أنها محدثة لم تكن، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى.

فجوابه أن يقال: إن الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان ليس ببدعة، وإنما هو سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد صح عنه من عدة أوجه أنه صلى بالناس جماعة في شهر رمضان ثلاث ليال، ثم ترك ذلك مخافة أن تفرض صلاة الليل على أمته فيعجزوا عنها. وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، منها ما رواه مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، واللفظ له، وأبو داود، والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلته، فأصبح الناس يحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الثانية، فصلوا بصلاته فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطفق رجال منهم يقولون الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد، فقال: «أما بعد، فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها» وفي رواية لهم، وذلك في رمضان. ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضًا واللفظ له، وأهل السنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل، ثم لم يقم بنا الليلة الرابعة، وقام بنا الليلة التي تليها حتى ذهب نحو من شطر الليل، قال: فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه قال: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى

ينصرف حسب له بقية ليلته»، ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا السابعة قال: وبعث إلى أهله واجتمع الناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال: قلت: وما الفلاح؟ قال السحور. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له بقية ليلته» دليل على أن الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان سنة وليس ببدعة. ومنها ما رواه الإمام أحمد، والنسائي أيضًا بإسناد جيد عن نعيم بن زياد أبي طلحة الأنماري، قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما على منبر حمص يقول: قمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح وكانوا يسمونه السحور. وإذا علم ما جاء في هذه الأحاديث من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثلاث ليال في رمضان فليعلم أيضًا أن ما فعله عمر -رضي الله عنه- من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان هو السنة لأمرين: أحدهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بالناس ثلاث ليال في رمضان، ثم قطع ذلك خشية أن يفرض على أمته، وما فعله النبي ص فهو سنة وليس ببدعة. الأمر الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»، فهذا النص الصحيح يدل على أن ما فعله عمر- رضي الله عنه- من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان فهو سنة وليس ببدعة، ويدل على ذلك أيضًا ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه،

والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم، والذهبي، وللترمذي والحاكم أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وقد قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده سننًا الأخذ بها، تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا. رواه أبو بكر الخطيب من طريق الزهري عن عمر بن عبد العزيز، -رحمه الله تعالى-، وقد ذكره الشاطبي في كتاب "الاعتصام"، فقال ومن كلامه الذي عني به وبحفظه العلماء وكان يعجب مالكًا جدًا، فذكر كلام عمر الذي رواه الخطيب، ثم قال: وبحق ما كان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة منها قوله: ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، قطع لمادة الابتداع جملة، وقوله من عمل بها مهتد إلى آخر الكلام مدح لمتبع السنة، وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك، وهو قول الله سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو سنة لا بدعة فيه البتة، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة،

وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، حيث قال فيه: «فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور»، فقرن عليه السلام كما ترى سنة الخلفاء الراشدين بسنته، وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم، وإن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء؛ لأنهم -رضي الله عنهم-، فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنته - صلى الله عليه وسلم - في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله، لا زائد على ذلك. ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله: «الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة في دين الله»، وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع، فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز، رحمه الله أصولا حسنة وفوائد مهمة انتهى كلام الشاطبي -رحمه الله تعالى-. وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، إنما سمى ما فعله من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان بدعة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستمر على فعله ولم يكن يفعل في زمان أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فلهذا قال عمر رضي الله عنه فيه ما قال. وقد صرح الشاطبي في كتاب "الاعتصام" أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إنما سمى قيام الناس في ليالي رمضان بدعة على المجاز، وقال في موضع آخر من كتاب "الاعتصام" وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال، وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد، فقد قام بها

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد واجتمع الناس خلفه، ثم ذكر الشاطبي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- في قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثلاث ليال في العشر الأواخر من رمضان، وذكر أيضًا حديث عائشة -رضي الله عنها- في ذلك وفيه أنهم لما اجتمعوا في الليلة الثالثة أو الرابعة، لم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال: «قد رأيت صنيعكم، فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم»، وقد ذكرت هذين الحديثين قريبًا ومعهما حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- بنحو حديث أبي ذر -رضي الله عنه- ثم قال الشاطبي بعد ذكره لحديث عائشة -رضي الله عنها- فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة، فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقًا؛ لأن زمانه كان زمان وحي وتشريع فيمكن أن أوحى إذا عمل به الناس بالإلزام. فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع الأمر إلى أصله، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له، وإنما لم يقم ذلك أبو بكر رضي الله عنه، لأحد أمرين: إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ذكره الطرطوشي، وإما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح، فلما تمهد الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه، ورأى الناس في المسجد أوزاعًا كما جاء في الخبر، قال: لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر

الليل أفضل، ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجتمع على ضلالة، وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي. فإن قيل فقد سماها عمر، رضي الله عنه، بدعة وحسنها بقوله: «نعمت البدعة هذه»، وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع. فالجواب: إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق إن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه، انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم": فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فإنه قال: «إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه»، ولا صلاتها جماعة بدعة، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثًا، وصلاها أيضًا في العشر الأواخر في جماعة مرات، وقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن، وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها

في حال الانفرد، وفي قوله هذا ترغيب في قيم شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم، وإقراره سنة منه - صلى الله عليه وسلم -، انتهى. وقد ذكر الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في كتابه "جامع العلوم والحكم" قول عمر -رضي الله عنه-، لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: «نعمت البدعة هذه»، قال وروي عنه أنه، قال: «إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة»، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليه، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانًا، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللاً بأنه خشي أن يكتب عليهم فيعجزوا عن القيام، وهذا قد أُمن بعده - صلى الله عليه وسلم -، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الإفراد في العشر الأواخر، ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين، وهذا قد صار من سنة الخلفاء الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر، وعثمان، وعلي -رضي الله عنهم-، انتهى. وأما قول الرفاعي في العدد الأخير وهو الصادر في 23 من ربيع الأول سنة 1402 هـ عدد 4870 من جريدة السياسة الكويتية، ونورد اليوم المزيد من الأدلة على جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وهي كثيرة أهمها ما يلي:

1 - أن الاحتفال بالمولد الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقد انتفع بذلك الاحتفال الكافر فقد جاء في صحيح البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك قال الحافظ شمس الدين الدمشقي: إذا كان هذا كافرًا جاء ذمه ... بتبّت يداهُ في الجحيم مخلدًا أتى أنه في يوم الاثنين دائمًا ... يخفف عنه للسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذي كان عمره ... بأحمد مسرورًا ومات موحدًا فجوابه من وجوه، أحدها: أن يقال هذا الكلام منقول بالنص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 267 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وهذا الكتاب مملوء من الشركيات والشطحات والخرافات، وعسى الله أن يَهُيئ الفرصة للرد عليه وبيان ما فيه من البلايا العظيمة، ولو أن الرفاعي نسب الكلام إلى قائله لكان أولى به من الاتصاف بصفة الاختلاس، وقد ذكر ابن علوي هذا الكلام أيضًا مختصرًا ومبسوطًا في صفحة، 6 وصفحة 98، وصفحة 161، وصفحة 261، وجميع أدلة الرفاعي التي سيأتي ذكرها والرد عليها كلها مأخوذة من كتاب ابن علوي، وسيأتي التنبيه على ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أن يقال إن الأدلة على جواز الشيء أو منعه

لا تؤخذ من أفراح الناس وسرورهم، ولا من أحزانهم وغمومهم، وإنما تؤخذ من القرآن أو السنة أو الإجماع، وليس مع من ادعى جواز الاحتفال بالمولد النبوي دليل على ما ادعاه لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع، وعلى هذا فدعواه باطلة مردودة. الوجه الثالث: أن يقال قد دلت السنة على ذم المحدثات والتحذير منها، وقد تَقدَّم إيراد الأحاديث الدالة على ذلك في أول الكتاب فلتراجع، وبدعة المولد من المحدثات التي قد أحدثت بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ست مائة سنة وهي داخلة فيما ذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحذر منه. الوجه الرابع: أن يقال إن الفرح والسرور بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يكون على الدوام، ولا يكون مقصورًا على ليلة واحدة من كل سنة. وأما قوله: وقد انتفع بذلك الاحتفال الكافر، فقد جاء في صحيح البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال لم يجيء في صحيح البخاري أنه يخفف عن أبي لهب العذاب كل اثنين ولا أن أبا لهب أعتق ثويبة من أجل بشرتها إياه بولادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فكل هذا من التقول على البخاري، وقد روى البخاري في أول "كتاب النكاح" من صحيحه في باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} من طريق الزهري عن عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أن

أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- أخبرتها إنها قالت: يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: «أو تحبين ذلك»، فقلت: نعم لست لك بمخيلة، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن ذلك لا يحل لي»، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: «بنت أم سلمة» قلت: نعم، فقال: «لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن على بناتكن، ولا أخواتكن» قال عروة وثويبة مولاة لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات أبو لهب أُريه بعض أهله بشرِّ حِيْبة (¬1) قال له ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة، هذا لفظ الحديث عند البخاري، وليس فيه ما تقوَّله ابن علوي والرفاعي على البخاري. الوجه الثاني: أن يقال لم يثب من طريق صحيح أنا أبا لهب فرح بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أن ثويبة بشرته بولادته، ولا أنه أعتق ثويبة من أجل البشارة بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل هذا لم يثبت، ومن ادعى ثبوت شيء من ذلك فعليه إقامة الدليل على ما ادعاه، ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلاً، وسيأتي في الوجه الثالث أن إعتاق أبي لهب لثويبة كان بعدما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. الوجه الثالث: أن يقال ظاهر قول عروة بن الزبير: إن إعتاق ¬

(¬1) حِيْبة بكسر الحاء وسكون الياء. قال الحميدي أي بشر حال، ذكره عنه ابن الأثير في جامع الأصول.

أبي لهب لثويبة كان قبل أن ترضع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": والذي في السير يخالفه وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة، وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل، انتهى. وقد روى ابن سعد في الطبقات عن محمد بن عمر الواقدي عن غير واحد من أهل العلم قالوا: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها وهي يومئذ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها، فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث إليها بصلة وكسوة حتى جاءه خبرها أنها قد توفيت سنة سبع مرجعه من خيبر، انتهى. وهذا الذي ذكره ابن سعد يرد قول من قال إن أبا لهب أعتقها لما بشرته بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الرابع: أن يقال إن خبر عروة مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به. والمرسل لا يثبت به شيء، قال الحافظ ابن حجر في "فتح لباري": وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد، فلا يحتج به، انتهى. الوجه الخامس: أن يقال إن الله تبارك وتعالى قد أخبر في آيات من القرآن أن أعمال الكفار حابطة، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}، وفي هاتين

الآيتين مع الآيات الدالة على إحباط أعمال الكفار دليل على أن أبا لهب لا ينتفع بإعتاقه ثويبة؛ لأن أعماله كلها حابطة، وقد جعلت هباء منثورًا وكالرماد الذي قد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وفيها أيضًا أبلغ رد على ما جاء في خبر عروة. الوجه السادس: أن يقال إن أبا لهب كان من أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة، وكان يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الأذى، وعلى تقدير أن يكون قد فرح بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أعتق ثويبة لما بشرته بولادته، فإن عداوته للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة ومبالغته في أذيته تهدم كل ما كان أسلفه من الفرح والسرور بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعتق ثويبة وغير ذلك من الأعمال الحسنة إن كان له أعمال حسنة، ومن كان بهذه المثابة فلا يتعلق بالرؤيا التي ذكرت عنه ويستدل بها على جواز الاحتفال بالمولد، إلا من هو بعيد كل البعد عن السداد وإصابة الحق. الوجه السابع: أن يقال إن نصوص القرآن دالة على أن العذاب لا يخفف عن الكفار، وقد جاء ذلك في عدة آيات منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}، وأبو لهب ممن تنطبق عليه هاتان الآيتان لشدة كفره بالله وشدة عداوته لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وأذيته له، وقد عمّر عمرًا طويلاً وجاءه النذير وهو

محمد - صلى الله عليه وسلم - على القول الراجح، وهو قول أكثر المفسرين، فكذب النذير وبارزه بالعداوة والأذى. ومن الآيات أيضًا قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، وأبو لهب ممن تنطبق عليه هذه الآيات؛ لأنه قد جاءه الحق على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - فكرهه أشد الكراهة، وعادى من جاء به أشد العداوة وآذاه أشد الأذى. ومن الآيات أيضًا قول الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}، وأبو لهب ممن تنطبق عليه هذه الآيات لكفره بآيات الله وتكذيبه سيد المرسلين وبمالغته في عداوته وإيذائه، وقد قال الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}، ولم يأت في كتاب الله، ولا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على تخفيف العذاب عن أبي لهب طرفة عين، ومن ادعى تخفيف العذاب عنه كل يوم اثنين فعليه إقامة الدليل على ذلك من الكتاب أو من السنة، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً البتة. وأما الرؤيا التي ذكرها عروة فهي مرسلة كما تقدم بيان ذلك، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها إلا أن أبا لهب أخبر عن نفسه أنه جوزي عن إعتاقه ثويبة بأن سقي في النقرة التي في الأبهام، وماذا تغني عنه هذه القطرة الصغيرة مع

شدة عطشه في النار، وليس في سقيه القطرة الصغيرة تخفيف عنه من العذاب كما قد يتوهم ذلك من لا علم عندهم. والمقصود ههنا أن الرؤيا التي ذكرها عروة لم تثبت من طريق صحيح متصل فلا يعول عليها، وأما التخفيف عن أبي لهب في كل يوم اثنين فهذا لم يثبت بإسناد صحيح يعتمد عليه، بل ولم يرو بإسناد ضعيف، وإنما ذكره بعض المؤرخين بدون إسناد، ومثل هذا لا ينبغي أن يلتفت إليه فضلاً عن أن يحتج به، والله أعلم. وأما قول الرفاعي: 2 - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعظم يوم مولده ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه وتفضله عليه بالوجود لهذا الوجود إذ سعد به كل موجود، وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «فيه ولدت، وفيه أنزل علي» كما ورد في صحيح مسلم. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام منقول من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 267 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية"، وقد نقله الرفاعي نصًا، ولم يبين أنه نقله من كلام ابن علوي وهذا عمل غير مرضي عند أهل العلم لما فيه من الاتصاف بصفة الاختلاس. الوجه الثاني: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص اليوم الثاني عشر من ربيع الأول بالصيام، ولا بشيء من الأعمال دون سائر الأيام، ولو كان يعظم يوم مولده كما زعم ذلك ابن علوي

والرفاعي؛ لكان يتخذ ذلك اليوم عيدًا في كل سنة، أو كان يخصه بالصيام أو بشيء من الأعمال دون سائر الأيام، دليل على أنه لم يكن يفضله على غيره، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، والتأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو التمسك بهديه، والبعد عما أحدثه أهل البدع ومنه بدعة المولد، لأنها لم تكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم. الوجه الثالث: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رغب في صيام يوم الاثنين من كل أسبوع، كما رغب في صيام يوم الخميس ويوم عرفة ويوم عاشوراء وأيام البيض وست من شوال، وكان يصوم حتى يقول القائل لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل لا يصوم، وكان يكثر الصوم في شعبان، وكان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص يوم الاثنين بالصيام دون يوم الخميس فاستدلال ابن علوي والرفاعي بصوم يوم الاثنين على جواز الاحتفال ببدعة المولد في غاية البعد والتكلف. الوجه الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل صيامه ليوم الاثنين والخميس بأنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله تعالى، وأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم، وقد جاء ذلك في حديثين عن أبي هريرة وأسامة بن زيد -رضي الله عنهم- فأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- فقد رواه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعرض الأعمال يوم الاثنين

والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم». وأما حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- فرواه الإمام أحمد، والنسائي بإسناد حسن ولفظه قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: «أي يومين»، قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس. قال: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم»، وقد جاء في ذلك حديث ثالث رواه الإمام أحمد بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس. قال فقيل له فقال: «إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس أو كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول أخرهما»، وقد رواه ابن ماجه مختصرًا وإسناده جيد، وفي تعليله - صلى الله عليه وسلم - صيامه ليوم الاثنين والخميس بأنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم أبلغ رد على من استدل بصيام يوم الاثنين على جواز الاحتفال ببدعة المولد. الوجه الخامس: أن يقال قد زعم ابن علوي والرفاعي أنه قد سعد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كل موجود، وهذا الإطلاق خطأ كبير؛ لأنه يلزم عليه إثبات الإيمان لجميع الإنس والجن، ونفي الكفر عن الكافرين منهم وهم الأكثرون، وهذا خلاف ما أخبر الله به في آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ

لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على قلة السعداء وكثرة الأشقياء، ولو كان الموجودون كلهم قد سعدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قد زعم ذلك الذين يهرفون بما لا يعرفون؛ لكان الناس كلهم على الإسلام والإيمان وكانوا جميعًا من أهل الجنة، وهذا خلاف قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، وقد أخبر الله تعالى عن السعداء أنهم في الجنة فقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وهذا يدل على أن السعادة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة بمن آمن به وبما جاء به من الهدى ودين الحق، وأنه لا حظ فيها لأحد من الكافرين والمنافقين، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أنه قد سعد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كل موجود، وأما قول الرفاعي: 3 - أن الفرح به - صلى الله عليه وسلم - مطلوب بأمر القرآن الكريم من قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، فالله تعالى أمرنا أن نفرح برحمته والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الرحمة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام منقول من كلام

محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 268 من كتابه المسمى بالذخائر المحمدية"، ومع هذا لم ينسبه الرفاعي إلى قائله، وهذا من ضعف الأمانة عنده. الوجه الثاني: أن يقال إن الله تعالى لم يأمر عباده أن يخصوا ليلة المولد بالفرح والاحتفال، وإنما أمرهم أن يفرحوا بما أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق، ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، ثم قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، فأمر تبارك وتعالى عباده أن يفرحوا بما جاءهم من ربهم من الموعظة والشفاء لما في الصدور والهدى والرحمة. قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهلال بن يساف، وقتادة: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: فضل الله القرآن، ورحمته حين جعلهم من أهل القرآن، وقال زيد بن أسلم، والضحاك: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام، روى هذه الأقوال كلها ابن جرير، وقال القرطبي في تفسيره: قال أبو سعيد الخدري، وابن عباس -رضي الله عنهما-: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام، وعنهما أيضًا: فضل الله القرآن، ورحمه أن جعلكم من أهله، وعن الحسن، والضحاك، ومجاهد، وقتادة: فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن، على العكس من القول الأول. قلت: ولا منافاة بين القولين، فإن الإسلام والقرآن كلاهما من فضل الله ورحمته

وفيما ذكرته عن المفسرين أبلغ رد على من حمل الآية التي تقدم ذكرها على غير محملها، وخالف ما قاله علماء السلف في تفسيرها. الوجه الثالث: أن يقال إن الرحمة للناس لم تكن بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كانت ببعثه وإرساله إليهم، وعلى هذا تدل النصوص من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فنص على أن الرحمة للعالمين إنما كانت في إرساله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتعرض لذكر ولادته، وأما السنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة»، وروي الإمام أحمد، وأبو داود بإسناد حسن عن سلمان، -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب، فقال: «أيما رجل من أمتي سببته سبة، أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من بني آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثتني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة». وفيما ذكرته من الآية والحديثين أبلغ رد على ما توهمه ابن علوي والرفاعي في معنى الآية التي تقدم ذكرها، وجعلاه دليلا على جواز الاحتفال بالمولد. وأما قول الرفاعي: 4 - أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كان يهتم بالحوادث الدينية الهامة التي مضت وانقضت، فإذا مر الوقت الذي وقعت به وصادف ذكراها جعلها فرصة لتذكرها وتعظيم يومها بطاعة من الطاعات، سواء كان ذلك بصيام أو إطعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة

عليه - صلى الله عليه وسلم - أو سماع شمائله الشريفة وقراءة سيرته العطرة، وقد أصّل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه القاعدة وقعّدها بنفسه فقد صح في الحديث أنه لما وصل إلى المدينة ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء شكرًا لله؛ لأنه نجا فيه نبيهم سيدنا موسى عليه السلام، وأغرق عدوه صامه ودعا أصحابه لصومه قائلاً: ونحن أولى بموسى منهم (مقدمة المورد الروي في المولد النبوي، لعلي القاري). فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام منقول من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 268 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية"، وقد غير فيه الرفاعي بالزيادة والنقصان في بعض الكلمات، ومنها جملة ذكرها ابن علوي في الثاني من أدلته وجعلها الرفاعي في الرابع من أدلته وهي قوله: سواء كان ذلك بصيام، أو إطعام طعام، أو اجتماع على ذكر، أو صلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، أو سماع شمائله الشريفة. الوجه الثاني: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحتفل بمولده ويتخذه عيدًا، ولا كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفعلون ذلك، ولا التابعون، ولا أئمة العلم والهدي من بعدهم، ولو كان ذلك خيرًا لسبقوا إليه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» فالاحتفال بالمولد مردود على من ابتدعه، ومن عمل به، ومن دعا إليه، ومن زعم أنه بدعة حسنة. الوجه الثالث: أن يقال ما ذكره ابن علوي والرفاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاهتمام وملاحظة ارتباط الزمان

بالحوادث الدينية الهامة التي قد مضت وانقضت فهو شيء جاء به ابن علوي والرفاعي من عندهما ولا صحة له ولا دليل عليه، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جعل شيئًا من أوقات الحوادث التي قد مضت وانقضت فرصة لتذكرها وتعظيم أمرها، ولم يرد عنه أنه كان يصوم أو يطعما لطعام لتذكر الحوادث التي قد مضت وانقضت، ولا أنه كان يعمل الاجتماع على الذكر لتذكر الحوادث التي قد مضت وانقضت وتعظيم يومها، ولا أنه كان يعمل الاجتماع للصلاة عليه وسماع شمائله وقراءة سيرته، فكل هذا لم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله، وما زعمه ابن علوي والرفاعي ونسباه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلامهما الذي تقدم ذكره فهو من توهمهما وتقولهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن أعظم الأمور التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مجيء الملك إليه بالنبوة وهو في غار حراء وتعليمه أول سورة {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ومن أعظم الأمور أيضًا الإسراء به إلى بيت المقدس، والعروج به إلى السماوات السبع وما فوقها، وتكليم الرب تبارك وتعالى له، وفرضه الصلوات الخمس عليه وعلى أمته، ومن أعظم الأمور أيضًا هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومن أعظم الأمور أيضًا وقعة بدر، ومن أعظم الأمور أيضًا فتح مكة ولم يرد عنه، - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعمل الاجتماع لتذكر شيء من هذه الأمور العظيمة وتعظيم أيامها، ولو كانت قاعدة ابن علوي والرفاعي التي توهماها وابتكراها صحيحة؛ لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم بأوقات هذه الأمور العظيمة، ويعقد الاجتماعات لتذكرها، وتعظيم أيامها وفي تركه - صلى الله عليه وسلم - ذلك أبلغ

رد على مزاعم ابن علوي والرفاعي وتقولهما على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد زعم الرفاعي في العاشر من أدلته الوهمية إن أكثر أعمال الحج هي إحياء لذكريات مشهودة، وسيأتي الجواب عن هذا الخطأ الكبير في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأما قول ابن علوي والرفاعي وقد أصّل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه القاعدة وقعّدها بنفسه إلى آخر كلامهما الذي تقدم ذكره. فجوابه أن يقال ليس في صيامه، - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء تأصيل لشيء من القواعد البتة، وإنما الأمر بصيامه قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شاء صام ومن شاء ترك» متفق عليه من حديث عائشة وابن عمر رضي الله -عنهم-، وزاد بعد حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه، وفي الصحيحين أيضًا عن علقمة بن قيس النخعي أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وهو يأكل يوم عاشوراء فقال: يا أبا عبد الرحمن إن اليوم يوم عاشوراء، فقال: «قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك»، وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه وتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده، وفي هذه الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على ما زعمه ابن علوي والرفاعي من التأصيل والتقعيد بصيام يوم عاشوراء. وأما قول الرفاعي: 5 - إن المولد الشريف مناسبة وفرصة مناسبة للإكثار من

الصلاة والسلام على المصطفى الحبيب - صلى الله عليه وسلم - المطلوبين بنص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. فجوابه من وجهين أحدهما: أن يقال هذا الكلام مأخوذ من كلام محمد بن علوي المالكي إلا أن الرفاعي قد غير في العبارة بعض التغيير وهو في صفحة 269 من كتاب ابن علوي المسمى "بالذخائر المحمدية". الوجه الثاني: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بإكثار الصلاة عليه في يوم لجمعة ولم يأمر بذلك في ليلة مولده فيعمل بما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرد ما لم يأمر به والحديث في الأمر بإكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة قد رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما، والحاكم في مستدركه من حديث أوس بن أوس الثقفي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ»، فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت يعني وقد بليت؟ قال: «إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ويستحب الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل وقت لما رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن

أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن ربيعة، وعمار، وأبي طلحة، وأنس، وأبي بن كعب انتهى. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا» الحديث قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وتتأكد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير من الصلاة، وعند الشافعية، وجمهور الحنابلة أنها واجبة في التشهد الأخير، وبعض الحنابلة يرى أنها ركن في التشهد الأخير لا تصح الصلاة بدونه. وتتأكد أيضًا في خطبتي الجمعة والعيدين، وعند الشافعية، والحنابلة أنها شرط في الخطبة، وتجب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة، وتسن بعد الأذان والدعاء، وعند دخول المسجد والخروج منه، وتستحب عند ذكره - صلى الله عليه وسلم - فكلما مر ذكره فإنه يستحب لمن ذكره ولمن سمع ذلك أن يصلي عليه، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين. وأما قول الرفاعي: 6 - إن المولد الشريف يشمل ذكر مولده الشريف وشمائله

ومعجزاته وسيرته ومعرفة خصاله الكريمة، ونحن مأمورون بمعرفة ذلك للاقتداء به والتأسي بأعماله والإيمان بمعجزاته، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام مأخوذ من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 269 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية"، وقد غير فيه الرفاعي بعض التغيير وزاد فيه ذكر الآية. الوجه الثاني: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته بالاحتفال بمولده، ولم يأمرهم بذكر مولده وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله الكريمة في ليلة المولد بخصوصها، بل هذا من البدع التي أحدثت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ست مائة سنة، وقد تقدم في أول الكتاب (¬1) ذكر الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم المحدثات وبيان أنها شر وضلالة، وقدم أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الحديث والأحاديث المشار إليها قبله تدل على ذم الاحتفال بالمولد، وأنه من الأعمال المردودة. الوجه الثالث: أن يقال إن معرفة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله الكريمة متيسرة لمن أراد الاطلاع على هذه الأمور، ومعرفتها في أي وقت من الأوقات ولا يتقيد ذلك بوقت معين وعلى هيئة اجتماعية مبتدعة، كما يفعله المفتونون ¬

(¬1) ص (10، 11).

ببدعة المولد، حيث جعلوا قراءة المولد والشمائل والمعجزات في ليلة المولد خاصة دون سائر الليالي والأيام وعلى هيئة اجتماعية مبتدعة، وهذه التقاليد الذميمة ينطبق عليها قول الله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، والمراد بالأمة ههنا الدين والطريقة التي تؤم أي تقصد والذين يحتفلون بالمولد إنما هم سائرون على طريقة سلطان إربل وما أحدثه من الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا يعتادون إقامته في كل عام، وهذا الاحتفال من الأمور التي لم يأذن بها الله، ولم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخل في عموم قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ}. الوجه الرابع: أن يقال إن الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به لا يتم إلا بتحقيق المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره، وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى في بعض فتاويه العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له؛ والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نعبده بالأهواء والبدع، قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من واجب ومستحب، ولا يعبده بالأمور المبتدعة، انتهى.

وقال شيخ الإسلام أيضًا في موضع آخر وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان أحدهما: أن لا نعبد إلا الله؛ والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله الله وأن محمدًا رسول الله كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه. قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة، وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في مرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي لفظ في الصحيح «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، ولهذا قال الفقهاء العبادات مبناها على التوقيف، والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته، ومحبته محبة الله وكرامته، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، وأمثال ذلك في القرآن كثير، ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه، ولا يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لا يعلم، فإن الله قد حرم ذلك كله، انتهى.

وقال شيخ الإسلام أيضًا في موضع آخر، وأصل الإسلام أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن طلب بعبادته الرياء والسمعة فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله، ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدًا رسول الله، وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله، ولم يخرج عن شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي بلغها عن الله فإنه قال: «تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، وقال: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به»، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، فالعبادات والزهادات، والمقالات، والتورعات الخارجة عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته، وهو ما دلت عليه السنة هي سبل الشيطان انتهى كلامه، فليتأمل من أوله إلى آخره ففيه رد على المفتونين ببدعة المولد، وليتأمل قوله أنه لا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة ففي هذه الجملة أبلغ رد على المفتونين ببدعة المولد». الوجه الخامس: أن يقال إن الاحتفال بالمولد ليس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من عمل أصحابه، ولا التابعين، ولا أئمة العلم والهدي من بعدهم، وإنما هو من هدي سلطان إربل، فمن احتفل بالمولد فقد تأسى بسلطان إربل واتبع هديه شاء أم أبى.

الوجه السادس: أن يقال من أراد الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والتأسي بأعماله وهو صادق النية، فلا بد له من لزوم الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر عن الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بأنهم من كان على مثل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا بد له أيضًا من إنكار البدع كلها ومخالفة أهلها ومنها بدعة المولد؛ لأنها من المحدثات التي أحدثت بعد زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ست مائة سنة فهي داخلة فيما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنه شر وضلالة، فأما من يفعل بدعة المولد ويذب عنها وعن أهلها أو يفعل غير ذلك من البدع، ثم يدعي أنه يريد بذلك الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بأعماله فإنه غير صادق في دعواه؛ لأن عمله يكذب دعواه. وأما قول الرفاعي: 7 - الاحتفال فرصة لأداء بعض حقه الكبير علينا؛ لأن الله تعالى هدانا به، وأنقذنا من النار، وأخرجنا من الظلمات إلى النور جزاه الله عنا ما هو أهله، وقد كان الشعراء يتقربون إليه - صلى الله عليه وسلم - في حياته المنيفة بالقريض والقصائد مثل كعب بن زهير، وحسان بن ثابت فكان يرضى عملهم ويكافئهم على ذلك بالصلات والطيبات، فإذا كان يرضى عمن مدحه فكيف لا يرضى عمن جمع شمائله الشريفة مثل: «مولد البرزنجي» وغيره أو تلاه أو جمع الناس للاستماع إليه، ففي ذلك كل التقرب والتحبب إليه باستجلاب محبته ورضاه - صلى الله عليه وسلم -.

فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام مأخوذ من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 269 من كتابه المسمى «بالذخائر المحمدية»، وقد غير فيه الرفاعي بعض التغيير وزاد فيه ونقص. الوجه الثاني: أن يقال إن الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا ليس فيه أداء لشيء من حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو في الحقيقة إساءة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهتين. إحداهما: أن الذين يحتفلون بالمولد قد شرعوا عيدًا لم يأذن به الله ولم يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد زعموا مع ذلك أن هذه البدعة بدعة حسنة، وزعم الرفاعي أنها سنة مباركة وبدعة حسنة محمودة، وقد تقدم في أول الكتاب (¬1) ما ذكره الشاطبي عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- أنه قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن لله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا. انتهى. الجهة الثانية: معصيتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث نبذوا تحذيره من محدثات الأمور وراء ظهورهم، ولم يبالوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الثابتة عنه: «وشر الأمور محدثاتها»، وقوله أيضًا: «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وقوله أيضًا: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». ¬

(¬1) ص (15).

الوجه الثالث: أن يقال إن أداء حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتم إلا بطاعته، واتباع هديه، والتمسك بسنته، ونشر دعوته، والبعد عن كل ما خالف أمره، وليس لأداء حقه وقت مخصوص، بل هو واجب في جميع الأوقات، ومن زعم أنه يؤدي بعض حق النبي، - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المولد بخصوصها فلا شك أنه قد بخسه حقه. الوجه الرابع: أن يقال من آكد حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة الصلاة والسلام عليه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإكثار الصلاة عليه في يوم الجمعة كما تقدم ذلك في حديث أوس بن أوس الثقفي -رضي الله عنه- (¬1) ولم يأمر بذلك في ليلة مولده. فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، وتشبهوا بالذين اتخذوا مولد المسيح عيدًا، وزعموا أن فعلهم هذا بدعة حسنة محمودة وسنة مباركة، وهذا مصداق ما جاء في عدة أحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، ولو كان في إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مولده زيادة فضل لبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا خير إلا وقد دل أمته عليه ورغبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه. وأما قول الرفاعي: وقد كان الشعراء يتقربون إليه - صلى الله عليه وسلم - بالقريض والقصائد مثل كعب بن زهير، وحسان بن ثابت فكان يرضى عملهم ويكافئهم على ذلك بالصلات والطيبات. ¬

(¬1) ص (70).

فجوابه أن يقال: لم يذكر عن أحد من شعراء الصحابة -رضي الله عنهم- أنه كان يتقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنشاد القصائد في ليلة مولده، وإنما كان إنشادهم في الغالب عند وقوع الفتوح، والظفر بالأعداء. وكان إنشاد كعب بن زهير -رضي الله عنه- لقصيدته المشهورة حين قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على الإسلام، وعلى هذا فليس في إنشاد كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من شعراء الصحابة -رضي الله عنهم- بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يتعلق به الرفاعي في تأييد بدعة المولد. وأما قول الرفاعي: فإذا كان يرضى عمن مدحه فكيف لا يرضى عمن جمع شمائله أو تلاه أو جمع الناس للاستماع إليه؟، ففي ذلك كل التقرب والتحبب إليه باستجلاب محبته ورضاه - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه أن يقال إن الاحتفال بالمولد ليس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل أصحابه - رضي الله عنهم - وإنما هو بدعة محدثة في الإسلام، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وشر الأمور محدثاتها»، وثبت عنه أيضًا أنه قال: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وثبت عنه أيضًا أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وما كان بهذه المثابة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحبه، ولا يرضاه، ولا يحب أهله، ولا يرضى عنهم، ولا عن محدثاتهم، ولا شك أن الإصرار على فعل البدع يجلب البغض، والمقت، والسخط، والبعد من الله تعالى ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» رواه الإمام أحمد،

والبخاري، ومسلم، والنسائي من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وروى الإمام أحمد أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله وإسناده صحيح على شرط الشيخين، قال الشاطبي في كتاب «الاعتصام» على قوله - صلى الله عليه وسلم - «من رغب عن سنتي فليس مني»: هذه العبارة أشد شيء في الإنكار، انتهى. وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مولده لا تختلف عن سنته في سائر الليالي فإنه لم يرو عنه أنه كان يخصها بشيء من الأعمال، ولا أنه كان يجمع الناس فيها لتلاوة مدائحه وشمائله والاستماع إلى ذلك، والخير كل الخير في لزوم هديه - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنته وترك ما أحدثه الناس من بعده. وأما قول الرفاعي: 8 - يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في فضل يوم الجمعة وعد مزاياه (وفيه ولد آدم) تشريف الزمان الذي ثبت أنه يوم ميلاد نبي، فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين وأكرم الخلق أجمعين على رب العالمين؟، كما يؤخذ تكريم وتعظيم المكان المرتبط بنبي من قوله تعالى مخاطبًا هذه الأمة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وكذلك من طلب جبريل عليه السلام ليلة الإسراء والمعراج من النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة ركعتين ببيت لحم، ثم قال أتدري أين صليت قال لا. قال صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى عليه السلام. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام مأخوذ من كلام

محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 270 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية"، وقد غير فيه الرفاعي بعض التغيير وزاد فيه ذكر الآية من سورة البقرة. الوجه الثاني: أن يقال إن ابن علوي والرفاعي قد حرفا ما نقلاه من حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه، فقد جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قُبض» الحديث، وقد تقدم إيراده قريبًا (¬1) فقال ابن علوي والرفاعي ما نصه (وفيه ولد آدم)، ثم زعما أنه يؤخذ من هذا تشريف الزمان الذي ثبت أنه يوم ميلاد نبي. وإنا نسأل ابن علوي والرفاعي من هو أبو آدم، ومن هي أمه التي قد ولدته، وندعو بما دعا به نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر الله عنه أنه قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وأي جهل أقبح من القول بأن آدم مولود. وإذا كان ابن علوي والرفاعي قد خفي عليهما أن الله تعالى قد خلق آدم بيديه من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له، فينبغي لكل منهما أن يعرف قدر نفسه، ولا يتكلف الكتابة فيما لا علم له به. وأرجو أن لا يكون ابن علوي والرفاعي من أتباع داروين الذين يقولون بالنشوء والارتقاء، ويزعمون أن الإنسان متولد من القرود، وهذه المقالة الخبيثة من أقبح مقالات أهل الكفر والعناد الذين ينكرون ¬

(¬1) ص (70).

وجود الخالق جل وعلا، ويرون أن المخلوقات إنما تكونت من قبل الطبيعة، لا بفعل الرب الفاعل المختار الذي أوجد جميع المخلوقات بعد عدمها وصورها على غير مثال سابق، فقتل الله من قال بهذه المقالة الخبيثة ومن تلقاها بالقبول. الوجه الثالث: أن يقال إن إبدال ابن علوي والرفاعي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «فيه خلق آدم» بقولهما (وفيه ولد آدم) يعد من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». الوجه الرابع: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال، وقد نهى عن تخصيصه بالصيام، وعن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم»، وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال من أجل أن آدم قد خلق فيه فأي متعلق لابن علوي والرفاعي في ذكر ذلك والاستدلال به على جواز الاحتفال بالمولد؟. الوجه الخامس: أن يقال إن العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الرأي والابتداع، وإذا كان النبي - صلى الله عليه

وسلم - لم يخص يوم مولده بشيء من الأعمال دون سائر الأيام فليس لأحد من الناس أن يبتدع فيه أعمالا لم يأذن بها الله ولم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكرت في أول الكتاب (¬1) حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الحديث الصحيح هو الحجة القاطعة على رد ما أحدثه سلطان إربل وغيره في ليلة المولد. وأما قول الرفاعي: كما يؤخذ تكريم وتعظيم المكان المرتبط بنبي من قوله تعالى مخاطبًا هذه الأمة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. فجوابه أن أقول: قد ذكرت مرارًا أن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الرأي والابتداع، فما عظمه الله ورسوله من زمان أو مكان فإنه يستحق التعظيم وما لا فلا، والله تبارك وتعالى قد أمر عباده أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ولم يأمرهم أن يتخذوا يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا ويبتدعوا فيه بدعًا لم يؤمروا بها، وأما قياس المكان لمرتبط ببعض الأنبياء على الصلاة خلف مقام إبراهيم فهو من أفسد القيام، وهو من جنس قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا، وتعظيم الأمكنة المرتبطة ببعض الأنبياء من أعظم الوسائل إلى الشرك، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن اتخاذ قبره عيدًا، وأنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وثبت عنه أنه لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وإنما ¬

(¬1) ص (11).

تركت إيراد الأحاديث في ذلك إيثارًا للاختصار. وقد تقدم (¬1) ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى نافع أنه قال: بلغ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن ناسًا يأتون الشجرة التي بويع تحتها، قال: فأمر بها فقطعت، وتقدم أيضًا (¬2) ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن المعرور بن سويد، قال: خرجنا مع عمر رضي الله عنه في حجة حجها، فلما قضى حجه ورجع رأى الناس يبتدرون، فقال ما هذا؟ فقالوا مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل»، فهذا قول الخليفة الراشد في الإنكار على الذين يعظمون الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذين يعظمون المكان الذي قد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان تعظيم الأمكنة المرتبطة ببعض الأنبياء جائزًا لما قطع عمر -رضي الله عنه- الشجرة التي بويع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتها، ولما نهى الناس عن تحري الصلاة في المسجد الذي قد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي فعل عمر -رضي الله عنه- وقوله أبلغ رد على ما رآه الرفاعي من القياس الفاسد، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ¬

(¬1) ص45. (¬2) ص46.

غريب، قال: وفي الباب عن الفضل بن العباس وأبي ذر وأبي هريرة، انتهى. ولفظه عند ابن حبان: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به»، وروى الإمام أحمد أيضًا، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»، وروي الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم في مستدركه، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به»، قال: الحاكم صحيح على شرط الشيخين، وقال الذهبي في تلخيصه صحيح على شرط مسلم. وروي الإمام أحمد أيضًا، والترمذي، وابن ماجه والبخاري في التاريخ، والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر»، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم، والذهبي. وقد قال ابن وضاح في كتاب "البدع والنهي عنها": كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما عدا قباء وأحدًا، قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضًا ممن يقتدى به، وقدم وكيع أيضًا مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان، قال ابن وضاح: فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال: بعض من مضى كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس

كان منكرا عند من مضى، ومتحبب إليه بما يبغضه عليه، ومتقرب إليه بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة، انتهى. وأما قول الرفاعي تقليدًا لابن علوي: وكذلك من طلب جبريل -عليه السلام- ليلة الإسراء والمعراج من النبي، - صلى الله عليه وسلم - بصلاة ركعتين ببيت لحم، ثم قال: أتدري أين صليت قال: لا، قال: صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى عليه السلام. فجوابه أن يقال: قد جاء ذكر الصلاة في بيت لحم في حديثين عن أنس بن مالك، وشداد بن أوس -رضي الله عنهم-، وقد تكلم الحافظ ابن كثير في كل من الحديثين، فأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فقال فيه غرابة، ونكارة جدًا قلت: قد رواه النسائي في سننه عن عمرو بن هشام عن مخلد، وهو ابن يزيد القرشي عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- وقد قال الحافظ ابن حجر في كل من يزيد ومخلد: إنه صدوق له أوهام، وقال الذهبي في "الميزان": يزيد بن أبي مالك صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك، وقال يعقوب الفسوي: يزيد بن أبي مالك فيه لين، وقال الذهبي أيضًا في ترجمة مخلد بن يزيد القرشي: صدوق مشهور روى حديثًا في الصلاة مرسلا فوصله، قال أبو داود: مخلد شيخ، إنما رواه الناس مرسلا، وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة مخلد بن يزيد القرشي من "تهذيب التهذيب": قال الأثرم عن أحمد لا بأس به، وكان يهم، وقال الساجي: كان يهم، ثم ذكر ابن حجر من أوهامه حديثًا وصله وهو مرسل. قلت: وهذا مما يدعو إلى التوقف في قبول الحديث؛ لأنه يحتمل أن يكون قد وقع فيه وهم من أحد الرجلين، ولهذا قال الحافظ ابن كثير: إن فيه غرابة ونكارة جدًا.

وأما حديث شداد بن أوس -رضي الله عنهما- فرواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق أبي إسماعيل الترمذي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي، قال: حدثنا عمرو بن الحارث، وساق بقية الإسناد ومتن الحديث، وقال بعد إيراده: هذا إسناد صحيح، قلت: وفي تصحيحه نظر؛ لأن في إسناده إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي المعروف بابن زبريق، قال الذهبي في "الميزان": قال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو داود: ليس بشيء وكذّبه محدث حمص محمد بن عوف الطائي. وقال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب": روى الآجري عن أبي داود أن محمد بن عوف قال: ما أشك أن إسحاق بن زبريق يكذب، انتهى. وقد أثنى عليه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وثناء ابن معين عليه، وما قاله أبو حاتم فيه لا يقاوم ما قيل فيه من الجرح الشديد، وهذا مما يدعو إلى رد الحديث وعدم قبوله، وقد أورده الحافظ ابن كثر في تفسير سورة الإسراء، ثم قال: ولا شك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي، ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك والله أعلم انتهى كلام ابن كثير -رحمه الله تعالى- والمقصود هنا بيان أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى في بيت لحم؛ لأن الحديثين اللذين ذكر ذلك فيهما قد تكلم في كل منهما، والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل،

فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى انتهينا إلى بيت المقدس» الحديث، وقد رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم، والذهبي. وفي قوله: - صلى الله عليه وسلم - «فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى انتهينا إلى بيت المقدس» أبلغ رد على ما جاء في حديثي أنس، وشداد بن أوس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بيثرب، وطور سيناء، وبيت لحم حين مر بهذه المواضع في ليلة الإسراء وهو ذاهب إلى بيت المقدس، ولو ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ليلة الإسراء في بيت لحم لم يكن في ذلك ما يؤيد بدعة المولد ولا غيرها من البدع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته بتعظيم بيت لحم، ولم يأمرهم بالصلاة فيه، ولم يكن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- يعظم بيت لحم ويصلي فيه والخير كل الخير في اتباع ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، والشر كل الشر في مخالفتهم، والأخذ بالبدع وتعظيمها وتعظيم أهلها، وإطراح الأحاديث الصحيحة في ذم المحدثات والتحذير منها. وأما قول الرفاعي: 9 - إن الاحتفال بالمولد كما أسلفنا استحسنه العلماء والمسلمون من السلف والخلف في جميع البلاد والأصقاع وجري به العمل، فهو مطلوب شرعًا للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح) أخرجه الإمام أحمد. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام مأخوذ من كلام

محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 270، وصفحة 271 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية"، وقد غير فيه الرفاعي بعض التغيير. الوجه الثاني: أن يقال إن الاحتفال بالمولد بدعة في الإسلام أحدثها سلطان إربل في آخر القرن السادس من الهجرة، أو في أول القرن السابع، والمحدثات كلها شر وضلالة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسواء في ذلك بدعة المولد وغيرها من البدع؛ لأن ألفاظ الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم البدع والتحذير منها ووصفها بصفة الشر والضلالة كلها على العموم وليس فيها استثناء لشيء من البدع. وقد جاء ذم المحدثات والنص على أنها شر وضلالة في ثلاثة أحاديث صحيحة عن العرباض بن سارية، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع، وذكرت في أول الكتاب أيضًا حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في مرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الحديث الصحيح يعم كل بدعة وهو الحكم القاطع في بدعة المولد وغيرها من البدع فكلها مردودة بنص حديث عائشة -رضي الله عنها- ومن توقف في هذا فهو إما جاهل أو مكابر معاند. الوجه الثالث: أن يقال: ما زعمه ابن علوي والرفاعي من استحسان العلماء والمسلمين من السلف والخلف في جميع البلاد

والأصقاع لبدعة المولد فهو من مجازفاتهما التي كتباها من غير تثبت، ولا يخفى ما في هذه المجازفة من التقول على الصحابة وجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى آخر القرن السادس من الهجرة؛ لأن هؤلاء لم يكونوا يعرفون بدعة المولد، ولا كانت تفعل في زمانهم، فكيف يستحسنونها وهم لا يعرفونها؟. وأما من كان بعد القرن السادس من الهجرة إلى زماننا في أول القرن الخامس عشر من الهجرة، فالمتمسكون منهم بالكتاب والسنة كلهم ينكرون بدعة المولد أشد الإنكار وينهون عن فعلها عملاً بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من البدع، ووصفه إياها بأنها شر وضلالة من غير استثناء شيء منها، وعملاً أيضًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وأما المتساهلون الذين استحسنوا بدعة المولد وقالوا بجوازها فلا شك أنهم قد خالفوا النصوص الدالة على ذم البدع والتحذير منها والأمر بردها، وهؤلاء على خطر عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا}، ويقول تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}، ويقول تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، ويقول تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية. {فَلَا وَرَبِّكَ

لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. الوجه الرابع: أن يُقال إنه يلزم على استحسان بدعة المولد والعمل بها أن يكون الدين ناقصا، وأن يكون العمل بهذه البدعة من مكملات الدين. وهذا اللازم لا محيد عنه، وقد قال الشاطبي -رحمه الله تعالى- في أول كتاب "الاعتصام": إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله تعالى قال فيها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وفي حديث العرباض بن سارية وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا قال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» الحديث. وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة، فإذا كان كذلك فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب، أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم، قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا، ثم قال الشاطبي: إن المبتدع معاند للشرع ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر

والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، فالمبتدع راد لهذا كله فإنه يزعم أن ثم طرقًا أخر ليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلل مبين، وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إذ كتب له عدي بن أرطاة يستشيره في بعض القدرية فكتب إليه «أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، وهم كانوا على كف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى، فلئن قلتم أمر حدث بعدهم ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم، ورغب بنفسه عنهم إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فضلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم»، انتهى. فليتأمل كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وما قبله من كلام الشاطبي وما نقله عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- ففي ذلك أبلغ رد على من استحسن بدعة المولد وعلى من عمل بها. الوجه الخامس: أن يقال ظاهر كلام ابن علوي والرفاعي أن

الاحتفال بالمولد قد جري به العمل في زمن السلف، وهذا لا أساس له من الصحة، وقد ذكرت في الوجه الثالث أن الصحابة الذين هم خيرة السلف وصفوتهم لم يكونوا يعرفون الاحتفال بالمولد، ولم يكن معروفا في زمن التابعين وتابعيهم ومن كان بعد ذلك إلى آخر القرن السادس من الهجرة، وبهذا يتضح لكل عاقل ما في كلام ابن علوي والرفاعي من التهور والتلبيس على ضعفاء البصيرة. وأما قول ابن علوي والرفاعي فهو مطلوب شرعًا للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح). فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن المطلوب شرعًا هو ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك ما سنه الخلفاء الراشدون وهم: أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي رضي الله عنهم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حث على الأخذ بسنته وسنتهم والتمسك بها والعض عليها بالنواجذ، وما سوى ذلك من المحدثات في الدين، فهي من الشرع الذي لم يأذن به الله، وما كان من هذا القبيل فهو مردود؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي مردود، وهذا الحديث عام لجميع المحدثات في الدين فيدخل فيه الاحتفال بالمولد، واتخاذه عيدًا، وكذلك غيره من الأعياد المبتدعة والأمور المحدثة في الدين. الوجه الثاني: أن يقال لا يخفى ما في كلام ابن علوي والرفاعي من التهور والجراءة على الله تعالى حيث زعم كل منهما أن الاحتفال

بالمولد مطلوب شرعًا فزادا في شرع الله ما ليس منه، أما يخشى ابن علوي والرفاعي أن يكونا ممن عناهم الله بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أما يخشى كل منهما أن يكون داخلا في عموم قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. الوجه الثالث: أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أشد الناس قيامًا بالأمور المشروعة وأشد الناس محافظة عليها، وكذلك كان أصحابه من بعده، ومع هذا فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم يحتفلون بالمولد ولا يخصون ليلته بشيء من الأعمال دون غيرها من الليالي، وعلى هذا فهل يقول ابن علوي والرفاعي إن الذين يحتفلون بالمولد كانوا أشد قيامًا بالأمور المشروعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأشد منهم محافظة عليها، أم ماذا يجيبان به عن التهور والجراءة على الله تعالى وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الشريعة المطهرة. الوجه الرابع: أن يقال إنه يلزم على قول ابن علوي والرفاعي لوازم شنيعة جدًا. أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قصر في البيان والتبليغ حيث لم يخبر أمته أن الاحتفال بمولده مطلوب شرعًا. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ترك العمل بأمر مطلوب شرعًا.

الثالث: تكذيب قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. الرابع: أن الدين كان ناقصًا منذ زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أُقيم الاحتفال بالمولد في آخر القرن السادس من الهجرة، أو في أول القرن السابع. الخامس: الطعن في الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى آخر القرن السادس من الهجرة بأنهم قد تركوا العمل بمر مطلوب شرعًا. السادس: تكذيب ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القرون الثلاثة المفضلة حيث قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» وما لزمت عليه هذا اللوازم السيئة فهو قول سوء لا يصدر من رجل له عقل ودين. الوجه الخامس: أن يقال إن الاحتفال بالمولد من شرع سلطان إربل الملك المظفر أبي سعيد كوكبوري التركماني فهو أول من ابتدع هذه البدعة وشرعها للجهال وقد أمر الله تبارك وتعالى باتباع الشرع الذي أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ونهى عن اتباع ما سوى ذلك فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}. الوجه السادس: أن يقال قول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيئ» إنما أراد به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد به كل من هب ودب من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام وكلامه صريح في ذلك وهذا لفظه عند الإمام أحمد، رحمه

الله تعالى، قال: «إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد، - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقتلون على دينه فما رأي المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ». وروى ابن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله» بإسناده عن قتادة قال. قال ابن مسعود رضي الله عنه: «من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا وأقومها هديًا وأحسنها حالا قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» إسناده منقطع لأن قتادة لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه، ولكن هذا الأثر مشهور عن ابن مسعود، رضي الله عنه وقد ذكره ابن الأثير في جامع الأصول ونسب في بعض النسخ منه إلى رواية رزين. وقد روى أبو نعيم في الحلية نحوه عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، وهذا الأثر والأثر قبله قد تطابقا على شيء واحد وهو الحث على اتباع الصحابة رضي الله عنهم والتأسي بهم وأن ما رآه الصحابة رضي الله عنهم حسنًا فهو حسن وما رأوه سيئًا فهو سيئ فما من بعد الصحابة رضي الله عنهم فقد تفرقت بالأكثرين منهم الأهواء والملل وظهر مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة» وفي رواية ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وفي رواية أنهم قالوا وما هي تلك الفرقة قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي».

وإذا علم هذا فليعلم أيضًا أن كل فرقة من فرق أهل الأهواء والبدع تستحسن بدعتها وتدعو إليها وترى أنها هي التي على الحق ومن سواها فهم على الباطل، فإذا كان ابن علوي والرفاعي ومن كان يرى رأيهما قد زعموا أن الاحتفال بالمولد حسن ومطلوب شرعًا فإن الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع لا يتوقفون عن استحسان بدعهم وعن الدعوى أنها مطلوبة شرعًا وسواء قالوا ذلك بلسان الحال أو بالمقال، وليس أحد من أهل البدع ومنها بدعة المولد، إلا وهو مبطل فيما يدعيه من تحسين بدعته ومشروعيتها. الوجه السابع: أن يقال إن ابن علوي والرفاعي قد حرفا في آخر كلام ابن مسعود، رضي الله عنه حيث قالا: «وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح» وقد ذكر ابن علوي والرفاعي أن الإمام أحمد أخرجه والذي في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى هو ما ذكرته في الوجه السادس ولفظه «وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء». الوجه الثامن: أن يقال إن استدلال ابن علوي والرفاعي على تحسين بدعة المولد ومشروعيتها بقول ابن مسعود رضي الله عنه ليس بمطابق وإنما هو في الحقيقة من تحريف الكلم عن مواضعه، ومن تأمل كلام ابن مسعود رضي الله عنه، عرف أنه إنما أراد به الصحابة رضي الله عنهم، ولم يرد به من بعدهم، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورأوا ذلك حسنًا وأجمعوا على بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أبي بكر رضي الله عنه، ورأوا ذلك حسنًا وأجمعوا على تسمية عمر رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء بأمير

المؤمنين وروا ذلك حسنًا وأجمعوا على العمل بالتاريخ والابتداء به من الهجرة ورأوا ذلك حسنًا، وأجمعوا على الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان ورأوا ذلك حسنًا، وأجمعوا على وضع ديوان العطاء في زمان عمر، رضي الله عنه، ورأوا ذلك حسنًا وأجمعوا على بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه ورأوا ذلك حسنًا وأجمعوا على كتابة المصاحف على العرضة الأخيرة ورأوا ذلك حسنًا، إلى غير ذلك مما رآه الصحابة رضي الله عنهم حسنًا وكل ما رأوه حسنًا فلا يشك المسلم العاقل في حسنه. وأما ما رآه الصحابة رضي الله عنهم سيئًا، فمنه التحلق والاجتماع على عد التسبيح والتحميد والتكبير، وقد أنكر ذلك ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما على الذين فعلوا ذلك وقال لهم ابن مسعود رضي الله عنه: «ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم» وقال لهم أيضًا: «والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو مفتتحوا باب ضلالة» وفي رواية أنه قال لهم «لقد جئتم ببدعة ظلماء أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يمينًا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدًا» وقد ذكرت هذه القصة في أول الكتاب من عدة طرق فلتراجع ولم يذكر عن أحد من الصحابة رضي الله عنه أنه خالف ما جاء عن ابن مسعود وأبي موسى، رضي الله عنهما من الإنكار على الذين يجتمعون للتسبيح والتحميد والتكبير ويعدونه بالحصى فكان كالإجماع على أنه عمل سيئ. ومن ذلك بدعة الخوارج فقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم،

مذهبهم ورأوه سيئًا، ومن ذلك غلو الرافضة في علي رضي الله عنه فقد أنكر ذلك علي، رضي الله عنه، وغيره من الصحابة، رضي الله عنهم ورأوا ذلك سيئًا ومن ذلك قول القدرية فقد أنكر ذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة، رضي الله عنهم ورأوا ذلك سيئًا وأما غير ذلك من البدع والملل فإنما حدثت بعد زمان الصحابة رضي الله عنهم وقد أنكر علماء التابعين ما حدث في زمانهم منها وأنكر اتباع التابعين ومن بعدهم من علماء أهل السنة والجماعة ما حدث بعد ذلك من البدع وصنفوا المصنفات الكثيرة في الرد على أهل البدع والتحذير من بدعهم. ومن ذلك بدعة المولد فقد أنكرها غير واحد من أكابر العلماء وعدوها من البدع، وسيأتي إيراد أقوالهم في ذلك في آخر الرد على ما يتعلق ببدعة المولد إن شاء الله تعالى وقد تقدم في أول الكتاب قول النووي رحمه الله تعالى أن البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: ويستثنى من ذلك سنة الخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فإنها سنة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست ببدعة وقد تقدم التنبيه على ذلك وقال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه «الاعتصام» في تعريف البدعة «إنها عبارة عن طريق في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه» ثم ذكر أن منها التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى

الله عليه وسلم - عيدًا وما أشبه ذلك ومنها التزام العبادات المعينة في وقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته إلى أن قال إن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة حتى يكون ملبسًا بها على الغير أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع لأنه إذ ذاك لا يستجلب في ذلك الابتداع نفعًا ولا يدفع به ضررًا ولا يجيبه غيره إليه، ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في هل الخير فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما أحدثوه احتجاجًا منهم كقولهم في أصل الإشراك (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وكترك لحمس الوقوف بعرفة لقولهم لا نخرج من الحرم اعتدادًا بحرمته وطواف من طاف منهم بالبيت عريانًا قائلين: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، وما أشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع، فما ظنك بمن عد أو عد نفسه من خواص أهل الملة فهم أحرى بذلك وهم المخطئون وظنهم الإصابة انتهى. المقصود من كلام الشاطبي فليتأمل كلامه رحمه الله تعالى ففيه أبلغ رد على ما تخيله ابن علوي والرفاعي في بدعة المولد، حيث زعم كل منهما أن الاحتفال بهذه البدعة مطلوب شرعًا وأن ذلك مأخوذ من قول ابن مسعود رضي الله عنه: «وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

وأما قول الرفاعي: 10 - أن المولد اجتماع لإحياء ذكرى المصطفى، - صلى الله عليه وسلم - وذلك أمر مشروع عندنا في الإسلام فإن ذلك قياس على أعمال الحج التي هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة فالسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والذبح بمنى كلها حوادث ماضية سابقة للأنبياء الكرام يحيي المسلمون كل عام ذكراها بتجديد صورتها وتجسيدها في الواقع. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذا الكلام منقول من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في - صلى الله عليه وسلم - 273 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد غير فيه الكاتب بعض الكلمات وزاد فيه ونقص منه شيئًا يسيرًا. الوجه الثاني: أن يقال ما زعمه ابن علوي والرفاعي من أن الاجتماع في المولد لإحياء ذكرى المصطفى، - صلى الله عليه وسلم - أمر مشروع في الإسلام فهو من التقول على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تعالى لم يشرع الاجتماع لإحياء ذكرى المصطفى لا في يوم المولد ولا في غيره من الأيام ولم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بقوله ولا بفعله، وإن ابن علوي والرفاعي ومن كان على منوالهما لعلى خطر عظيم من تهجمهم على الشريعة وإلصاقهم بدعة المولد بها وزعمهم أن ذلك مشروع في الإسلام. الوجه الثالث: أن يقال إن الله تعالى قد رفع ذكر نبيه، - صلى الله عليه وسلم - بما شرعه لعباده من الشهادة له بالرسالة في الصلاة.

والأذان والإقامة والخطب في الجمعة والعيدين والاستسقاء وما شرعه أيضًا من الصلاة والسلام عليه في الصلاة والخطبة وبعد الأذان والدعاء وعند دخول المسجد والخروج منه وعند ذكره صلوات الله وسلامه عليه وكذلك قد رفع الله ذكر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن العظيم وعظم شأنه فيه غاية التعظيم اقرأ قول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقوله تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} وقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يعظم فيها الرب تبارك وتعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ولو تتبعتها لطال الكلام جدا وفيما ذكرته كفاية إن شاء الله تعالى ولا شك أن قراءة القرآن تشتمل على أعظم الإحياء لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعظم الشعور بتعظيم شأنه عند ربه وكذلك قراءة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أعظم الإحياء لذكر النبي

- صلى الله عليه وسلم - وأعظم الشعور بعظم شأنه عند الله تعالى وعند المسلمين. وبالجملة فالمسلمون لم يزالوا محيين لذكر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أوقاتهم ولم يميتوا ذكره فيحتاجوا إلى إحيائه كما يفعل ذلك الجاهلون الذين لا يعرفون نبيهم إلا في ليلة المولد وعلى هيئة مبتدعة، ومن لم يتسع له في إحياء ذكر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما اتسع للصحابة رضي الله عنهم، ومن سار على منهاجهم من المتمسكين بالكتاب والسنة فهو على خطر عظيم لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من الوقوع فيما جاء في هذه الآية الكريمة. الوجه الرابع: أن يقال من أكبر الخطأ وأقبح الجهل قياس بدعة المولد على أعمال الحج، وهذا القياس من أفسد القياس لما فيه من التسوية بين الأعمال التي شرعها الله تعالى لعباده وبين البدعة التي شرعها الشيطان لأهل لجهل والضلال بواسطة سلطان إربل. الوجه الخامس: أن يقال من أكبر الخطأ أيضًا زعم ابن علوي والرفاعي أن أعمال الحج هي إحياء لذكريات مشهودة إلى آخر كلامهما الذي تقدم ذكره، وهذا الخطأ مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الحجار لإقامة ذكر الله» رواه أبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنه، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

وأما قول الرفاعي: 11 - إن الله تبارك وتعالى وجل شأنه قال: {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وهذا يشير أن الحكمة في قص أنباء الرسل وأخبارهم، عليهم السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لتثبيت فؤاده الشريف بذلك، ولا شك أننا اليوم محتاجون إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه وأخباره وسيرته العطرة وجهاده - صلى الله عليه وسلم - أكثر وأشد من احتياجه هو - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك والاحتفال السنوي بالمولد يحقق هذه الغاية العظيمة النبيلة. فجوابه من وجهين أحدهما: أن يقال هذا الكلام منقول منن كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 271 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد غير فيه الرفاعي وزاد الجملة التي في آخره وهي قوله: والاحتفال السنوي بالمولد يحقق هذه الغاية العظيمة النبيلة. الوجه الثاني: أن يقال إن البدع كلها شر وضلال بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلها مردودة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا فرق في ذلك بين بدعة المولد وغيرها من البدع، وما كان من الشر والضلالة والأمور المردودة فإنه لا خير فيه، ولا يرجى من ورائه تحقيق شيء من الغايات النبيلة، بل الفاعلون له متعرضون للوعيد الشديد على ارتكابهم لما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالصفات الذميمة ونص على رده قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ومن أراد الاطلاع على أخبار رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - وسيرته وجهاده فإنه يمكنه ذلك في غير ليلة المولد وحيث لا تكون بدعة. وأما قول الرفاعي: 12 - ليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول فهو بدعة منكر سيئة يحرم فعلها ويلزم الإنكار عليها بل يجب أن يعرض ما أحدث على أدلة الشرع فما اشتمل على مصلحة فهو واجب أو على محرم فهو محرم أو على مكروه فهو مكروه أو على مباح فهو مباح أو على مندوب فهو مندوب، إذ للوسائل حكم المقاصد فقد قسم العلماء البدعة إلى خمسة أقسام، واجبة كالرد على أهل البدع وتعلم النحو، ومندوبة كإحداث الربط والمدارس والأذان على المنابر وصنع إحسان لم يع هد في الصدر الأول، مكروه كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف مباحة كالتوسع في المأكل والمشرب، ومحرمة وهي ما أحدث لمخالفة السنة ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية (خلاصة آراء الإمام الشافعي وسلطان العلماء العز بن عبد السلام والإمام النووي وابن الأثير) وعمل المولد وإن حدث بعد عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد صحابته رضوان الله عليهم ليس فيه مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لإجماع المسلمين فلا يقال بأنه مذموم فضلا عن كونه منكرًا وبدعة سيئة وكون السلف الصالح الأول لم يفعلوه ليس بدليل للمعترض وإنما هو عدم دليل، ويستقيم الدليل على كونه ممنوعًا أو منكرا لو نهى الله تعالى عنه في كتابه العزيز أو نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة ولم ينه عنه فيهما.

فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن بعض هذا الكلام منقول من كلام محمد بن علوي المالكي وهو من أول الكلام إلى قوله ولم يحتو على مصلحة شرعية، وقد ذكره ابن علوي في كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وهو في - صلى الله عليه وسلم - 271، 272. الوجه الثاني: ن أقول قد ذكرت فيما تقدم قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى إن العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين. أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له. والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نعبده بالهواء والبدع قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من واجب ومستحب، ولا يعبده بالأمور المبتدعة، انتهى. وقال أيضًا ولا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة انتهى. وقد تقدم إيراده بأبسط من هذا فليراجع فإنه مهم جدًا. وإذا علم أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع وأن من أصول الإسلام أن نعبد الله

بما شرعه على لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - ولا نعبده بالأهواء والبدع وأنه لا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة، فليعلم أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأمته سوى سبعة أعياد في سبعة أيام وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة وأيام التشريق فمن زاد على هذه الأعياد عيدًا غيرها فقد ابتدع في الدين وخالف الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم وقد ذكرت الأعياد المشروعة فيما تقدم وذكرت بعدها جملة من الأعياد المبتدعة ومنها: عيد المولد النبوي فليراجع ما تقدم (¬1) وليراجع أيضًا (¬2) حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الحديث الصحيح أصل في رد المحدثات التي لم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تكن من هديه، ولا من سنة خلفائه الراشدين، وعيد المولد من الأمور المردودة بنص حديث عائشة -رضي الله عنها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به، ولم يكن من هديه، ولا من سنة خلفائه الراشدين، ومن توقف في هذا فلا يخلو من أحد أمرين، إما الجهل بعموم حديث عائشة -رضي الله عنها- لجميع البدع المحدثة في الإسلام، وإما المكابرة في رد الحق والجدال بالباطل لإدحاضه، وما أكثر المتصفين بهذه الصفة الذميمة من المنتسبين إلى العلم. ¬

(¬1) ص (39 - 43). (¬2) ص (11).

الوجه الثالث: أن يقال إذا عرضنا عيد المولد النبوي على أدلة الشرع وجدناه زائدًا على الأعياد التي شرعها الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ووجدناه داخلا في عموم قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ}، وفي عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وحينئذ فإنه يكون من الأعمال التي يجب إنكارها وردها. الوجه الرابع: قد ذكرت في أول الكتاب إن الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا مبني على التشبه بالنصارى في احتفالهم بمولد المسيح واتخاذه عيدًا، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»، وقد ذكرت كلام العلماء على هذا الحديث في أول الكتاب، ومنه قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية إن هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، وقوله أيضًا موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقًا، فليراجع ما تقدم (¬1) ففيه أبلغ رد على الذين لا يبالون بالتشبه بأعداء الله. وأما ما ذكره ابن علوي والرفاعي من تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام فهو تقسيم لا دليل عليه ولا حاصل تحته. والجواب عنه من وجوه أحدها: أن يقال إن هذا التقسيم مناقض للنص على أن شر الأمور محدثاتها وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وهذا النص عام فيدخل فيه جميع البدع ولا يخرج عنه شيء منها، وما ناقض النص ¬

(¬1) ص (26، 27).

الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه مردود على قائله كائنًا من كان. الوجه الثاني: أن الشاطبي رحمه الله تعالى نقل في كتاب "الاعتصام" عن القرافي أنه قال: «اعلم أن الأصحاب فيما رأيت متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره، والحق التفصيل وأنها خمسة أقسم» ثم ذكر الشاطبي كلام القرافي على الأقسام الخمسة وأتبعه بكلام شيخه عز الدين ابن عبد السلام عليها ثم قال انتهى محصول ما قال وهو يصرح مع ما قبله بأن البدع تنقسم بأقسام الشريعة فلا يصح أن تحمل أدلة ذم البدع على العموم، بل لها مخصصات. والجواب أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل ع ليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعًا وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين، أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعًا لا من جهة أخرى إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة إلا الكراهية والتحريم. فما ذكره القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع صحيح، وما قسمه فيها غير صحيح، ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزم في خرق الإجماع، انتهى المقصود من كلام الشاطبي وقد رد على

القائلين بتقسيم البدع إلى خمسة أقسام ردًا وافيًا شافيًا فليراجع في الجزء الأول من كتاب "الاعتصام". الوجه الثالث: أن يقال إن ابن علوي والرفاعي قد أدخلا في مسمى البدعة أشياء ليست من البدع مثل الرد على أهل البدع وتعليم النحو وبناء المدارس والأذن على المآذن وصنع الإحسان الذي لم يعهد في الصدر الأول والتوسع في المأكل والمشرب، وهذه الأشياء ليست من البدع. ما الرد على أهل البدع فإنه من إنكار المنكر لأن البدع هي أعظم المنكرات بعد الشرك بالله، وهو أيضًا من الجهاد في سبيل الله ومن النصيحة للمسلمين. والآيات والأحاديث في الأمر بإنكار المنكر والحث على ذلك كثيرة جدًا وكذلك الآيات والأحاديث في فضل الجهاد. وكذلك الأحاديث في فضل النصيحة للمسلمين وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا وقال آخر أنا أصوم ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا فقال رسول الله ص: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي ورقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد أيضًا بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما قال أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتيته فقال لي: «أتصوم النهار» قلت: نعم قال: «وتقوم الليل» قلت: نعم قال: «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» فهذه الأعمال التي كان يعملها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والرجلان اللذان قال

أحدهما: أما أنا فأصلي الليل أبدًا وقال الآخر وأنا أصوم ولا أفطر كلها من أعمال الخير، ومع هذا فقد أنكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدها من الرغبة عن سنته، وفي هذا أبلغ رد على الذين يحتفلون بالمولد لأن الاحتفال به لم يكن من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم، ما ابتدع في زمانهم من البدع، فمن ذلك ما تقدم (¬1) عن ابن مسعود، وأبي موسى -رضي الله عنهما- أنهما أنكرا على الذين يجتمعون للذكر ويعدون التسبيح والتهليل والتكبير بالحصى، وقال لهم ابن مسعود -رضي الله عنه-: «ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحياء»، وفي رواية أنه قال لهم: «ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو مفتتحو باب ضلالة»، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير قال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه»، وفي رواية أنه قال لهم: «والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا، عليكم بالطريق فالزموه، ولئن أخذتم يمينًا وشمالا لتضلن ضلالاً بعيدًا»، وفي رواية فأمرهم أن يتفرقوا، وفي رواية أنه لم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، وهو يقول: «لقد أحدثتم بدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا». ولما خرج الخوارج وأظهروا بدعتهم، أنكر ذلك أمير المؤمنين ¬

(¬1) ص (36 - 39).

علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة وقاتلوهم، ولم يخالف أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- في إنكار بدعتهم ووجوب قتالهم، وقد وردت الأحاديث الكثيرة في ذمهم والأمر بقتالهم إذا خرجوا، وليس هذا موضع ذكرها. ولما أظهر الغلاة من الروافض بدعتهم، أنكر ذلك أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وحرقهم بالنار ولم يخالف أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- في إنكار بدعتهم إلا أن ابن عباس -رضي الله عنهما- رأى أن يقتلوا قتلا ولا يحرقوا بالنار. ولما أظهر القدرية بدعتهم أنكر ذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم- وتبرءوا منهم. وفيما ذكرته من الأحاديث والآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم- دليل على مشروعية الرد على هل البدع، وفيه أيضًا أبلغ رد على من جعل الرد على أهل البدع داخلا في أقسام البدعة. وأما علم النحو فإنه مهم جدًا إذ به يعرف الإعراب، ويجتنب الإنسان اللحن في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو أول من تكلم فيه ووضع أصوله، وعلي -رضي الله عنه- أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بسنتهم، وعلى هذا فلا يجوز عد النحو مع البدع، ومن عده معها فقد أخطأ، وقد رد الشاطبي -رحمه الله تعالى- على من عده من البدع، فقال في أول كتابه الاعتصام بعد أن ذكر البدعة وأنها عبارة عن

طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله -سبحانه-: ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم، فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها، خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع: أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصتها: أنها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادئ الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين: كعلم النحو، والتصريف، ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة، فأنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع، إذ الأمر بإعراب القرآن منقول، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة، فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدى. وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين، وعند الطالب سهلة الملتمس، وكذلك أصول الدين وهو علم الكلام، إنما حاصله تقرير لأدلتها في الفروع العبادية (فإن قيل) فإن تصنيفها على ذلك الوجع مخترع. (فالجواب) أن له أصلاً في الشرع ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعيًا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدله التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد فليست ببدعة البتة. وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة؛ لأن كل بدعة

ضلالة من غير إشكال، ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحًا وهو باطل بالإجماع فليس إذا ببدعة، ويلزم أن يكون له دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال وهو المأخوذ من جملة الشريعة، وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة ثبت مطلق المصالح المرسلة، فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو، أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول، أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلا، ومن سماه بدعة فإما على المجاز كما سمى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قيام الناس في ليالي رمضان بدعة، وإما جهلا بمواقع السنة والبدعة، فلا يكون قول من قال ذلك معتدًا به، ولا معتمدًا عليه، انتهى. وأما بناء المدارس فلا يدخل في مسمى البدعة؛ لأن البدعة عبارة عن الإحداث في الدين كما يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وبناء المدارس ليس فيه إحداث في الدين، وإنما فيه الإحسان إلى من بنيت لهم من الناس؛ ليتعلموا كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك من العلوم النافعة، وقد قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقد رد الشاطبي في كتاب "الاعتصام" على من جعل بناء المدارس من قبيل البدع، فقال: وأما المدارس فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله بدعة، إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا بالمساجد، وهذا لا يوجد بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان من مسجد، أو منزل، أو سفر وحضر، أو غير ذلك حتى في الأسواق، فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعني بإعدادها الطلبة، فلا يزيد بذلك على إعداده له منزلا من منازله، أو حائطًا من حوائطه

أو غير ذلك، فأين مدخل البدعة ههنا، وإن قيل أن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره، قيل التخصيص ههنا ليس بتخصيص تعبدي، وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعين سائر الأمور المحبسة وتخصيصها ليس ببدعة، فكذلك ما نحن فيه، انتهى. وأما الأذان على المنار فلا يدخل في مسمى البدعة؛ لأن البدعة في الأذان هي لزيادة في ألفاظه، مثل قول الرافضة: أشهد أن عليا ولي الله، وقول بعضهم: أشهد أن عليًا حجة الله، وقولهم: حي على خير العمل، وتكريرهم قول: لا إله إلا الله مرتين في آخر الأذان، ورفعهم الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله بعد الأذان، فهذا هو المبتدع في الأذان، وأما الأذان على المكان المرتفع فهو مروي عن بلال -رضي الله عنه- في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومروي أيضًا عن ابن مسعود، وأبي هريرة -رضي الله عنهما- فأما المروي عن بلال -رضي الله عنه- فهو في سنن أبي داود عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم إني أحمدك واستعينك على قريش أن يقيموا دينك. قالت: ثم يؤذن، قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة هذه الكلمات، وقد سكت عليه أبو داود، والمنذري، ورواه البيهقي في سننه من طريق أبي داود، وترجم له أبو داود بقوله: "باب الأذان فوق المنارة"، وترجم له البيهقي بقوله: "الأذان في المنارة"، ويستفاد من ترجمتي أبي داود، والبيهقي على حديث عروة أن الأذان فوق المنارة مثل الأذان فوق البيت المرتفع، ولا فرق بينهما. وروي أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه بإسناد صحيح عن

عروة بن الزبير، قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن يؤذن يوم الفتح فوق الكعبة، وقال ابن إسحاق حدثني والدي، حدثني بعض آل جبريل بن مطعم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة أمر بلالا فعلا على الكعبة على ظهرها فأذن عليها بالصلاة، وروي عبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال: قال ابن أبي مليكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا، فأذن يوم الفتح فوق الكعبة. وأما المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، فقال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا عبد الأعلى عن الجريري عن عبد الله بن شقيق، قال: من السنة الأذان في المنارة، والإقامة في المسجد، وكان عبد الله يفعله إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد ترجم ابن أبي شيبة على هذا الأثر، والأثر الذي رواه عن عروة بن الزبير بقوله: «في المؤذن يؤذن على المواضع المرتفعة المنارة وغيرها». وأما المروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن أبيه، قال: قلت لأبي هريرة -رضي الله عنه- أهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بكم، قال: وما أنكرت من صلاتي، قال: قلت أردت أن أسألك عن ذلك، قال: نعم وأوجز، قال: وكان قيامه قدر ما ينزل المؤذن من المنارة، ويصل إلى الصف، إسناده حسن، أبو خالد هو البجلي الأحمسي ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب": مقبول، وقد ذكره الذهبي في "الميزان"، وقال: قد صحح له الترمذي، وبقية رجال الإسناد كلهم من رجال الصحيحين.

وفيما ذكرته من الآثار والتراجم عليها كفاية في الرد على من جعل الأذان على المنار من البدع. وأما صنع الإحسان فإنه من المعروف، وليس من البدع سواء كان معهودًا في الصدر الأول أو لم يكن معهودا فيه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، والآيات والأحاديث الصحيحة في الحث على الإحسان كثيرة جدًا، وإنما يذم منه ما تجاوز الحد وكان من التبذير. وأما التوسع في المأكل والمشرب فلا يدخل في مسمى البدعة وإنما هو من المباح ما لم يبلغ إلى حد الإسراف فحينئذ يكون منهيًا عنه؛ لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. وأما إحداث الربط فإن كان المراد بذلك ما أحدثه الصوفية من اتخاذ الربط والزوايا للاعتزال عن الناس والانقطاع للعبادة فهذا داخل في مسمى البدعة، وليس من المندوبات والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة رضي الله عنها: «من أحدث في مرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثي أنس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم: «من رغب عن سنتي فليس مني» وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه «عليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، وقوله - صلى الله عليه

وسلم - في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب معزوة إلى مخرجيها فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على ابن علوي والرفاعي وغيرهما ممن زعم أن إحداث الربط من البدع المندوبة، وقد رد الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه "الاعتصام" على من جعل إحداث الربط من البدع المندوبة فقال: إن عني بالربط ما بني من الحصون والقصور قصدا للرباط فيها فلا شك إن ذلك مشروع بشرعية الرباط ولا بدعة فيه. وإن عنى بالربط ما بني لالتزام سكناها قصد الانقطاع للعبادة لأن إحداث الربط التي شأنها أن تبني تدينًا للمنقطعين للعبادة في زعم المحدثين ويوقف عليها أوقاف يجري منها على الملازمين لها ما يقوم بهم في معاشهم من طعام ولباس وغيرهما لا يخلو أن يكون لها أصل في الشريعة أم لا، فإن لم يكن لها أصل دخلت في الحكم تحت قاعدة البدع التي هي ضلالات فضلاً عن أن تكون مندوبًا إليها، وإن كان لها أصل فليست ببدعة فإدخالها تحت جنس البدع غير صحيح. ثم إن كثيرًا ممن تكلم على هذه المسألة من المصنفين في التصوف تعلقوا بالصفة التي كانت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتمع فيها فقراء المهاجرين، وهم الذين نزل فيهم {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية ¬

(¬1) ص (10 - 11) (79، 80).

فوصفهم الله بالتعبد والانقطاع إلى الله بدعائه قصدًا لله خالصًا فدل على أنهم انقطعوا لعبادة الله بدعائه قصدًا لله لا يشغلهم عن ذلك شاغل، فنحن إنما صنعنا صفة مثلها أو تقاربها يجتمع فيها من أراد الانقطاع إلى الله ويلتزم العبادة ويتجرد عن الدنيا والشغل بها وذلك كان شأن الأولياء ينقطعون عن الناس ويشتغلون بإصلاح بواطنهم ويولون وجوههم شطر الحق فهم على سيرة من تقدم، وإنما يسمى ذلك بدعة باعتبار ما بل هي سنة وأهلها متبعون للسنة فهي طريقة خاصة لأناس. وهذا كله من الأمور التي جرت عند كثير من الناس، هكذا غير محققة ولا منزلة على الدليل الشرعي ولا على أحوال الصحابة والتابعين، ولا بد من بسط طرف من الكلام في هذه المسألة بحول الله حتى يتبين الحق فيها لمن أنصف ولم يغالط نفسه وبالله التوفيق، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة كانت الهجرة واجبة على كل مؤمن بالله ممن كان بمكة أو غيرها، فكان منهم من احتال على نفسه فهاجر بماله أو شيء منه فاستعان به لما قدم المدينة في حرفته التي كان يحترف من تجارة أو غيرها كأبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه هاجر بجميع ماله وكان خمسة آلاف، ومنهم من فرّ بنفسه ولم يقدر على استخلاص شيء من ماله فقدم المدينة صفر اليدين، وكان الغالب على أهل المدينة العمل في حوائطهم وأموالهم بأنفسهم فلم يكن لغيرهم معهم كبير فضل في العمل، وكان من المهاجرين من أشركهم الأنصار في موالهم وهم الأكثرون ومنهم من لم يجد وجهًا يكتسب به لقوت ولا لسكنى فجمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة كانت في مسجده وهي سقيفة كانت من

جملته إليها يأوون وفيها يقعدون إذ لم يجدوا مالا ولا أهلا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحض الناس على إعانتهم والإحسان إليهم، وقد وصفهم أبو هريرة، رضي الله عنه إذ كان من جملتهم وهو أعرف الناس بهم، قال في الصحيح وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فوصفهم أنهم أضياف وحكم لهم كما ترى بحكم الأضياف، وإنما وجبت الضيافة في الجملة لأن من نزل بالبادية لا يجد منزلا ولا طعامًا لشراء إذ لم يكن لأهل الوبر أسواق ينال منها ما يحتاج إليه من طعام يشترى، ولا حانات يؤوى إليها فصار الضيف مضطرًا وإن كان ذا مال فوجب على أهل الموضع ضيافته وإيواؤه حتى يرتحل، فإن كان لا مال له فذلك أحرى فكذلك أهل الصفة لما لم يجدوا منزلا آواهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد حتى يجدوا، كما أنهم حين لم يجدوا ما يقوتهم ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إعانتهم وفيهم نزل {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} ألا ترى كيف قال: أخرجوا ولم يقل: خرجوا فإنه قد كان يحتمل أن يخرجوا اختيارًا فبان أنهم إنما خرجوا منها اضطرارًا ولو وجدوا سبيلا أن لا يخرجوا لفعلوا، ففيه دليل على أن الخروج عن المال اختيارًا ليس بمقصود للشارع وهو الذي تدل عليه أدلة الشريعة فلأجل ذلك بوأهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفة فكانوا في أثناء ذلك ما بين طالب للقرآن والسنة كأبي هريرة فإنه قصر نفسه على ذلك، وكان منهم من يتفرغ لذكر الله وعبادته وقراءة القرآن فإذا غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا معه وإذا أقام أقام معه

حتى فتح الله على رسوله وعلى المؤمنين، فصار إلى ما صار إليه غيرهم ممن كان ذا أهل ومال وطلب للمعاش واتخاذ المسكن؛ لأن العذر الذي حبسهم في الصفة قد زال فرجعوا إلى الأصل لما زال العارض. فالذي تحصل أن القعود في الصفة لم يكن مقصودًا لنفسه ولا بناء الصفة للفقراء مقصودًا بحيث يقال إن ذلك مندوب إليه لمن قدر عليه، ولا هي رتبة شرعية تطلب بحيث يقال إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الزوايا يشبه حالة أهل الصفة وهي الرتبة العليا؛ لأنها تشبه بأهل صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين وصفهم الله تعالى في القرآن بقوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}، وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية فإن ذلك لم يكن على ما زعم هؤلاء بل كان على ما تقدم. والدليل من العمل أن المقصود بالصفة لم يدم ولم يثابر أهلها ولا غيرهم على البقاء فيها ولا عمرت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان من قصد الشارع ثبوت تلك الحالة لكانوا هم أحق بفهمها أولا ثم بإقامتها والمكث فيها عن كل شغل، وأولى بتجديد معاهدها لكنهم لم يفعلوا ذلك البتة، فالتشبه بأهل الصفة إذًا في إقامة ذلك المعنى واتخاذ الزوايا والربط لا يصح، فليفهم الموفق هذا الموضع فإنه مزلة قدم لمن لم يأخذ دينه عن السلف الأقدمين والعلماء الراسخين. ولا يظن العاقل أن القعود عن الكسب ولزوم الربط مباح أو مندوب إليه أفضل من غيره إذ ليس ذلك بصحيح، ولن يأتي آخر

هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا كفى المسكين المغتر بعمل الشيوخ المتأخرين أن صدور هذه الطائفة المتصفين بالصوفية لم يتخذوا رباطًا ولا زاوية ولا بنوا بناء يضاهون به الصفة للاجتماع على التعبد والانقطاع عن أسباب الدنيا كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والجنيد وإبراهيم الخواص والحارث المحاسبي والشبلي وغيرهم ممن سابق في هذا الميدان، وإنما محصول هؤلاء أنهم خالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالفوا السلف الصالح، وخالفوا شيوخ الطريقة التي انتسبوا إليها ولا توفيق إلا بالله، انتهى كلام الشاطبي رحمه الله. وأما قول الرفاعي وعمل المولد وإن حدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد صحابته رضوان الله عليهم ليس فيه مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لإجماع المسلمين فلا يقال بأنه مذموم فضلا عن كونه منكرًا وبدعة سيئة. فجوابه أن يقال: إن عيد المولد محدث في الإسلام، والاحتفال بهذا العيد مخالف للكتاب والسنة ولما كان عليه المسلمون منذ زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر القرن السادس من الهجرة فأما مخالفته للكتاب فإن الله تعالى أمر عباده باتباع ما أنزله إليهم ونهاهم عن اتباع الأولياء من دونه فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} والاحتفال بالمولد داخل في عموم ما نهى الله عنه في هذه الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى لم يأمر به ولا أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما أمر به من أحدثه وهو سلطان إربل، فالمحتفلون بالمولد قد اتبعوا سلطان إربل وارتكبوا ما نهى الله عنه من اتباع الأولياء من دونه.

وأيضا فإن الله تعالى قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} وعيد المولد داخل في عموم هذه الآية الكريمة لأن الله تعالى لم يشرعه وإنما شرعه سلطان إربل، فالمحتفلون به قد اتبعوا شرعًا لم يأذن به الله. وأيضًا فإن الله تعالى قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته أن يحتفلوا بمولده وقد حذرهم من محدثات الأمور وبالغ في التحذير، وعيد المولد من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون داخلاً فيما أمر الله تعالى بالانتهاء عنه. وأيضًا فإن الله تعالى قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والاحتفال بالمولد لم يكن من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففي الاحتفال به مخالفة للأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأيضا فإن الله تعالى قال: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} والآيات في الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحث على اتباعه كثيرة جدًا ولا شك أن الاحتفال بالمولد خارج عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه كما تقدم بيان ذلك وكما سيأتي إن شاء الله تعالى وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}. وأما مخالفة عيد المولد للسنة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا

بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» والاحتفال بالمولد لم يكن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين وإنما هو من محدثات الأمور فيكون داخلاً فيما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وفي رواية: «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» والاحتفال بالمولد لم يكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما حدث بعده بنحو من ست مائة سنة فيكون داخلاً فيما حذر منه وأخبر أنه شر وضلالة. وأيضًا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» والاحتفال بالمولد محدث في الإسلام فيكون مردودًا بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته سبعة أعياد في سبعة أيام وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة وأيام التشريق، ولم يشرع لهم عيدًا في يوم مولده ولا أمرهم بالاحتفال به، وقد تقدم إيراد الأحاديث الدالة على مشروعية الأعياد السبعة وبيان أن ما سواها من الأعياد المحدثة فهو شر وضلالة فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1). ¬

(¬1) ص (39 - 44).

وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وقوله أيضًا: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقوله أيضًا: «وكل ضلالة في النار» أبلغ رد على قول الرفاعي ن عمل المولد لا يقال بأنه مذموم فضلاً عن كونه منكرا وبدعة سيئة. ومما يرد به على الرفاعي أيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم، وما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - عن الخلوف أنهم يفعلون ما لا يؤمرون ينطبق على الذين يحتفلون بالمولد فإنهم يفعلون فيه أفعالا لم يأمر الله بها ولا رسوله، - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث الحث على جهادهم على قدر المستطاع باليد وباللسان أو بالقلب، وفي الحث على جهادهم دليل على أن فعلهم مذموم ومنكر وبدعة سيئة وفي ذلك أبلغ رد على الرفاعي. وأما مخالفة عيد المولد لما كان عليه المسلمون في القرون الستة الأولى فهو معلوم مما ذكره بعض المؤرخين عن سلطان إربل الملك المظفر أنه هو أول من احتفل بالمولد وجعل ذلك عيدا يعود في كل عام، وكان ابتداعه له في آخر القرن السادس من الهجرة أو في أول

القرن السابع ولم يكن قبل ذلك معروفًا عند المسلمين، ولو كان خيرًا لسبق إليه الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا أحرص على الخير ممن جاء بعدهم وكانوا أعظم الأمة محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأشدها تمسكًا بسنته واتباعًا لهديه، وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفرقة الناجية من أمته بأنهم من كان على مثل ما كان عليه هو وأصحابه، رضوان الله عليهم. وأما قول الرفاعي وكون السلف الصالح لم يفعلوه ليس بدليل للمعترض وإنما هو عدم دليل. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال هذه الجملة مأخوذة من كلام محمد بن علوي المالكي وهي في ص (273) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" الوجه الثاني: أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أسبق إلى الخير وأحرص عليه ممن جاء بعدهم ومع هذا لم يكونوا يحتفلون بالمولد ويتخذونه عيدًا، ولو كان في ذلك خير لسبقوا إليه، وتركهم للشيء مع وجود سببه في زمانهم وعدم المانع من فعله يدل على أنه غير جائز. الوجه الثالث: أن الله تعالى قال فيما امتن به على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه، رضي الله عنهم وعلى سائر الأمة بعدهم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وفي هذه الآية دليل على أن الاحتفال بالمولد لا يجوز لأنه ليس من الدين الذي أكمله الله تعالى لهذه الأمة في حياة نبيها ورضيه لهم.

الوجه الرابع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة» قالوا من هي يا رسول الله. قال: «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي وحسنه. وهذا الحديث يدل على أن الاحتفال بالمولد لا يجوز لأنه من الأعمال التي لم يكن عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. الوجه الخامس: ما رواه ابن عبد البر عن ابن مسعود، رضي الله عنه أنه قال: «من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا وأقومها هديًا وأحسنها حالا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم». فقد ذكر ابن مسعود، رضي الله عنه أن الصحابة، رضي الله عنهم كانوا أقوم الأمة هديًا وأحسنها حالا وأنهم كانوا على الهدى المستقيم، وهم مع هذا لم يكونوا يحتفلون بالمولد ويتخذونه عيدًا فهل يقول عاقل مؤمن أن المحتفلين بالمولد قد أدركوا من الخير ما لم يحصل مثله لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يقول إن المحتفلين بالمولد كانوا أقوم هديًا, أحسن حالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلا لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل ودين. الوجه السادس: أن يقال إن عيد المولد النبوي قد وجد سببه في

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه رضي الله عنهم ولم يوجد مانع يمنع من فعله ومع هذا لم يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله ولم يأمر به أحد من الخلفاء الراشدين ولم يفعلوه ولم يفعله غيرهم من الصحبة، رضي الله عنهم، وكما أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله حجة فكذلك تركه للشيء مع وجود سببه وعدم المانع من فعله يكون حجة على أنه غير جائز وكذلك ترك الصحابة رضي الله عنهم للشيء مع وجود سببه وعدم المانع من فعله يدل على أنه غير جائز والأصل في هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الفرقة الناجية من هي قال: «ما أنا عليه وأصحابي». وهذه الأحاديث الثلاثة تدل على المنع من الأعمال التي لم تكن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم وفيها أبلغ رد على قول ابن علوي والرفاعي إن كون السلف الصالح الأول لم يعملوا المولد ليس بدليل على أنه ممنوع وإنما هو عدم دليل. وأما قول الرفاعي ويستقيم الدليل على كونه ممنوعا أو منكرًا لو نهى الله تعالى عنه في كتابه العزيز أو نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة ولم ينه عنه فيهما. فجوابه أن يقال قد دل الكتاب والسنة على المنع من جميع البدع

والنهي عنها ولا فرق في ذلك بين بدعة المولد وغيرها من البدع. فأما الدليل من الكتاب ففي عدة آيات منها قول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وهذه الآية تدل على المنع من الاحتفال بالمولد لأن الله تعالى لم يأمر به ولم يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أمر به سلطان إربل فالمحتفلون بالمولد قد اتبعوا سلطان إربل وذلك من اتباع الأولياء من دون الله، واتباع الأولياء من دون الله من أعظم المنكرات. ومن الآيات أيضًا قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ}. وهذه الآية عامة لك لبدعة في الدين ومنها بدعة المولد فهي من الشرع الذي لم يأذن به الله. ومنها أيضًا الآيات الكثيرة في الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من معصيته ومخالفة أمره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أمته بالأخذ بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وحذرهم من محدثات الأمور وبالغ في التحذير وأخبرهم أنها شر وضلالة وأنها في النار وأمرهم بردها، وفي هذا أوضح دليل على المنع من بدعة المولد وغيرها من البدع وبيان أنها من المنكرات. وأما الدليل من السنة فهو ما أشرت إليه آنفًا مما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين، رضي الله عنهم، وكذلك ما رواه ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه وقد ذكرت

أحاديثهم في أول الكتاب فلتراجع ففيها أوضح دليل على المنع من بدعة المولد وغيرها من البدع وبيان أنها من المنكرات. وأما قول الرفاعي: 13 - ليس الاحتفال بالمولد من مخترعات الدولة الفاطمية كما أشار الأخ سليمان معرفي في تعليقه على مقالي السابق، بل هو السلطان مظفر صحب إربل المتوفى سنة 630 هـ كما ذكرت سابقًا نقلا عن "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 273) وسبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان" وقد أكد ذلك الإمام السيوطي في رسالة "حسن المقصد في عمل المولد" حيث قال: (وأول من أحدث المولد صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد وكان له آثار حسنة وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون) وقال ابن كثير في تاريخ عنه (كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا وكان شهمًا شجاعًا بطلا عاقلا عالمًا عادلاً، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر للإفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وست مائة محمود السيرة والسريرة. فجوابه من وجهين أحدهما: أن يقال قد قرر الرفاعي في هذه الجملة أن أول من أحدث بدعة المولد صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي، وقد ذكر ذلك في أول مقاله أيضًا وعلى هذا فلا يخلو الرفاعي من أحد أمرين إما أن يكون جاهلا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حذر أمته من

المحدثات على وجه العموم من غير استثناء شيء منها وما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وصف المحدثات بالشر والضلالة من غير استثناء شيء منها وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، وما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» وإما أن يكون عالمًا بهذه الأحاديث وببعضها ولكنه لم يبال بها ولم يقم لها وزنًا وما أعظم هذا الأمر وأشد خرطه كما أن الأمر الأول قبيح جدًا ممن ينتسب إلى العلم، ولا محيد للرفاعي من أحد هذين الأمرين الذميمين فليختر لنفسه ما يناسبه منهما. الوجه الثاني: أن يقال إن ثناء ابن كثير والأسيوطي وغيرهما على سلطان إربل معارض بكلام ياقوت الحموي فيه وهو من معاصريه وقد مات قبله بأربع سنين، وقد دخل ياقوت مدينة إربل واطلع على أحوال سلطانها وغيره من أكابر أهلها، وقد ذكرها في كتابه «معجم البلدان» وذكر سلطانها الملك المظفر كوكبري وقال فيه ما نصه وطباع هذا أمير مختلفة متضادة فإنه كثير الظلم عسوف بالرعية راغب في أخذ الأموال من غير وجهها وهو مع ذلك مفضل على الفقراء كثير الصدقات على الغرباء يسير الأموال الجمة الوافرة يستفك بها الأسارى من أيدي الكفار، وفي ذلك يقول الشاعر: كساعية للخير من كسب فرجها ... لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

انتهى كلام ياقوت الحموي وما ذكره عن سلطان إربل من كثرة الظلم والعسف بالرعية وأخذ الأموال من غير وجهها فيه أبلغ رد على من تجاوز الحد في مدحه والثناء عليه بالعدل وحسن السيرة والسريرة وقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" نقلاً عن سبط ابن الجوزي أنه قال فيما ذكره عن سلطان إربل أنه كان يعمل للصوفية في المولد سماعًا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم. قلت: وهذا أيضًا مما يزري به ويقدح فيه لأن عمل السماع من البدع المحدثة في الإسلام والبدع كلها شر وضلالة بالنص الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثي العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما وكلها مردودة بالنص الثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع (¬1). وأما الرقص فإنه من خوارم المروءة ومما يزري بالعقل والأدب قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام الرقص لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، وقال أبو الفرج ابن الجوزي حدثني بعض المشايخ عن الغزالي أنه قال الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالتعب، قال وقال أبو الفواء ابن عقيل قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال عز وجل {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} والرقص أشد المرح والبطر، وهل شيء يزري بالعقل والوقار ويخرج عن سمت الحلم والأدب أقبح من ذي لحية يرقص فكيف إذا كانت شيبة ترقص وتصفق على أوقاع ¬

(¬1) ص (10، 11).

الألحان انتهى وقد ذكر الفقهاء أن شهادة الرقاص غير مقبولة لأن الرقص من خوارم المروءة. وفيما ذكرته في هذا الوجه أبلغ رد على من بالغ في إطراء سلطان إربل وتجاوز الحد في مدحه والثناء عليه. وأما قول الرفاعي: 14 - لقد قيد العلماء رضوان الله عليهم حديث (وكل بدعة ضلالة) بالبدعة السيئة والدليل على هذا القيد ما وقع من أكابر الصحابة والتابعين من المحدثات التي لم تكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - (راجع كتاب إقامة الحجة على أن الإكثار من العبادة ليس بدعة تحقيق أبي غدة) ونحن اليوم قد أحدثنا مسائل كثيرة لم يفعلها السلف الصالح وذلك كجمع الناس على إمام واحد في آخر الليل من العشر الأواخر في شهر رمضان (صلاة القيام بعد صلاة التراويح وكختم المصحف فيها وقراءة دعاء ختم القرآن وكخطبة الإمام بالحرمين الشريفين ليلة سبع وعشرين من رمضان في صلاة القيام، وكنداء المنادي بقوله (صلاة القيام أثابكم الله) وكالزيارات والتهاني المتبادلة في ليالي رمضان المبارك، فكل هذا لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من السلف فهل يكون فعلنا له بدعة سيئة. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن أول هذا الكلام مأخوذ من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 272 وصفحة 273 من كتاب المسمى "بالذخائر المحمدية" الوجه الثاني: أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد

أطلق القول في التحذير من المحدثات ووصفها بالشر وأخبر أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وقال - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود والأحاديث في هذا مذكورة في أول الكتاب فلتراجع (¬1) وإذا كانت أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البدع وذمها والأمر بردها كلها على الإطلاق فلا يجوز لأحد أن يقيدها لأن تقييدها يكون استدراكًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أعظم ذلك وأشد خرطه وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. الوجه الثالث: أن يُقال ما ذكره ابن علوي والرفاعي عن أكابر الصحابة والتابعين أنه قد وقع منهم محدثات لم تكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن أراد أنه قد وقع منهم محدثات في الدين فهذا لا صحة له، وإن أراد بها المحدثات في غير الدين فهذا غير مدفوع. فإن اعترض بعض الناس وأورد في هذا ما فعله الخلفاء الراشدون من جمع القرآن وترتيب سوره وكتابته في المصاحف وجمع الناس على إمام واحد في صلاة القيام في رمضان وزيادة التأذين الأول يوم الجمعة قلنا هذه كلها من السنن بنص رسول الله - صلى الله ¬

(¬1) ص (10، 11).

عليه وسلم - في حديث العرباض بن سارية، رضي الله عنه حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» وقال في حديث حذيفة رضي الله عنه: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وقد تقدم كل من الحديثين معزوًا إلى مخرجيه فليرجع إليهما (¬1). الوجه الرابع: أن يُقال إن جمع الناس على إمام واحد في آخر الليل من العشر الأواخر من رمضان ليس بمحدث وإنما هو سنة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فعله ثم تركه خشية أن يُفرض على أمته، وقد ذكرت الأحاديث الواردة في قيامه - صلى الله عليه وسلم - بالناس في العشر الأواخر من رمضان في أول الكتاب فلتراجع (¬2) وقد ذكر أبو ذر والنعمان بن بشير رضي الله عنهما في حديثهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام بهم ليلة سبع وعشرين حتى خشوا أن يفوتهم السحور، وروى مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه عن السائب بن يزيد رضي الله عنه أنه قال أمر عمر بن لخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميمًا الداري رضي الله عنهما، أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. وروى مالك أيضًا والبيهقي من طريقه عن عبد الله بن أبي بكر يعني ابن محمد بن عمرو بن حزم قال: سمعت أبي يقول كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر، وروى البيهقي أيضًا عن السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون ¬

(¬1) ص (10، 85). (¬2) ص (48، 49).

على عهد عمر بن لخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة قال: وكانوا يقرؤون بالمئين وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه من شدة القيام، وروى مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان بثلاث وعشرين ركعة وقد تتقدم في رواية السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أُبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال البيهقي: ويمكن الجمع بين الروايتين فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث والله أعلم انتهى. وأما قول الرفاعي وكختم المصحف فيها. فجوابه أن يقال: إن ختم القرآن في العشر الأواخر في رمضان ليس بمحدث فقد روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن حذيفة، رضي الله عنه، أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة, وفي رواية لأحمد والنسائي أن ذلك كان في رمضان، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من قراءة القرآن في قيام رمضان، وعلى هذا فلا يبعد أنه كان يختم القرآن في العشر الأواخر من رمضان أكثر من مرة وقد تقدم في خبر السائب بن يزيد أن عمر رضي الله عنه أمر أبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، وهذا يدل على أنهم كانوا يطيلون القيام ويكثرون من قراءة القرآن، وعلى هذا فلا يبعد أنهم كانوا يختمون في العشر الأواخر من رمضان أكثر من مرة والله أعلم.

وقد جاء في هذا آثار كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين رواها أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، منها عن عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير أن كلا منهم قرأ القرآن في ركعة، وقرأه سعيد بن جبير أيضًا في ركعتين، وقرأه علقمة في ليلة وكان علي الأزدي يختم القرآن في رمضان في كل ليلة، وكان ابن مسعود يقرأ القرآن في كل ثلاث، وكان أبي يختم القرآن في ثمان وكان تميم الداري يختم القرآن في سبع، وكان الأسود يقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلتين ويختم في سوى رمضان في ست، وكان علقمة يختمه في خمس، وكان عبد الرحمن بن يزيد وإبراهيم وعروة بن الزبير كل منهم يقرأ القرآن في كل سبع، وكان أبو مجلز واسمه لاحق بن حميد يؤم الحي في رمضان وكان يختم في سبع، وكان المسيب بن رافع يختم القرآن في كل ثلاث. وفيما ذكرته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن بعض الصحابة والتابعين أبلغ رد على زعم الرفاعي أن ختم المصحف في العشر الأواخر من رمضان محدث. وأما قول الرفاعي وقراءة دعاء ختم القرآن. فجوابه أن يقال: قد ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم رواه الطبراني قال الهيثمي ورجاله ثقات. وقال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب "قيام رمضان" "باب الترغيب في الدعاء عند ختم القرآن" ثم ذكر في هذا الباب عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فدعا لهم. وذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" عن إبراهيم الحربي أنه قال سئل أحمد يعني ابن حنبل، رحمه الله عن الرجل يختم القرآن في شهر رمضان في الصلاة، أيدعو

قائمًا في الصلاة أم يركع ويسلم ويدعو بعد السلم فقال: بل يدعو في الصلاة وهو قائم بعد الختمة، قيل له فيدعو في الصلاة بغير ما في القرآن؟ قال: نعم، وذكر القاضي أيضا عن الفضل بن زياد القطان قال: سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قلت: أختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح حتى يكون لنا دعاءان اثنان كيف أصنع؟ قال إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام قلت بم أدعو؟ قال: بما شئت ففعلت كما أمرني وهو خلفي يدعو قائمًا ورفع يديه. وفيما ثبت عن أنس رضي الله عنه وقول الإمام أحمد وفعله رد على الرفاعي حيث جعل الدعاء بعد ختم القرآن من المحدثات، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى، من أعلم الناس بالسنة وأتبعهم لها فلا يظن به أنه كان يفعل شيئًا محدثًا أو يفتي بجواز المحدثات. وإذا علم هذا فينبغي لمن أراد أن يدعو بعد ختم القرآن أن يقتصر في الدعاء على الأدعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يجتنب السجع والكلام الذي لا فائدة فيه. وأما قول الرفاعي وكخطبة الإمام بالحرمين الشريفين ليلة سبع وعشرين من رمضان في صلاة القيام. فجوابه أن يقال: ما فعله بعض الأئمة من الموعظة والتذكير في ليلة سبع وعشرين من رمضان قد ترك منذ سنوات فلا متعلق للرفاعي في ذكره. وأما قوله وكنداء المنادي بقوله (صلاة القيام أثابكم الله).

فجوابه أن يُقال: هذا لا أصل له وينبغي أن يُترك. وأما قوله وكالزيارات والتهاني المتبادلة في ليالي رمضان المبارك. فجوابه أن يُقال: هذه من الأمور العادية وليست من العبادات فلا تدخل في مسمى البدعة. وأما قول الرفاعي: 15 - ليس كل بدعة محرمة ولو كانت كذلك لحرم جمع أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت ورضي الله عنهم القرآن الكريم وكتبه عنهم في حروب الردة ولما تم جمع وتدوين الحديث الشريف في كتب الصحاح والسنن وغيرها ولما ألف علم الفقه والتجويد والتوحيد وغيرها من العلوم الشرعية التي صنفت وابتكرت بعد العهد النبوي الشريف. فجوابه من وجهين أحدهما: أن يُقال هذا الكلام مأخوذ من كلام محمد بن علوي المالكي بعضه بالنص وبعضه بالمعنى وهو في ص (272) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية". الوجه الثاني: أن يُقال أما قول ابن علوي والرفاعي ليست كل بدعة محرمة فهو قول باطل مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقوله أيضًا: «وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة كل ضلالة في النار» وقوله أيضًا: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». فهذه الأحاديث الثابتة تدل على رد البدع في الدين والتشديد فيها، وفي

وصفها بالشر والضلالة والإخبار عنها أنها في النار أوضح دليل على تحريمها والله أعلم. وأما جمع القرآن وكتابته في المصاحف فهو سنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» وقوله أيضًا: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». وأما جمع الحديث وتدوينه والتأليف في التوحيد والفقه والتجويد وغيرها من العلوم الشرعية فالأصل في جواز ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أصحابه أن يكتبوا خطبته التي خطب بها يوم الفتح لأبي شاه، وكذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يكتب كل ما سمعه منه، رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم من طرق وصححه الحاكم والذهبي وكذلك كتابة الصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه، وكان فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات وأشياء غير ذلك من الحكام، روى ذلك أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن وفي رواية لأحمد عن علي رضي الله عنه أنه قال هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فرائض الصدقة قال الحافظ ابن حجر سنده حسن وكذلك كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه لعمرو بن حزم وفيه الفرائض والسنن والديات وكذلك كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي كتبه لأنس رضي الله عنه حين وجهه إلى البحرين وفيه بيان

الصدقة ونصب الزكاة، فهذه الأحاديث هي الأصل في جواز جمع الحديث وتدوينه ثم انعقد الإجماع على الجواز، قال القاضي عياض فيما نقله النووي عنه في شرح مسلم كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع على جوازها وزال ذلك الخلاف. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قال العلماء كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظًا كما أخذوه حفظًا لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز ثم كثر التدوين ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير، وذكر الحافظ أيضًا أن السلف اختلفوا في كتابة العلم عملا وتركًا وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم انتهى. وأما قول الرفاعي وأخيرًا نقول إن التسامح الديني هو سمة ديننا الحنيف الذي أمرنا به مع المسلم وغيره عندما نجادله ونخاطبه ونناقشه. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن التسامح إنما يكون في الأمور الدنيوية وما لا يخل بالدين، فأما الشرك والبدع في الدين والمعاصي فلا يجوز التسامح فيها، بل يجب إنكار ما ظهر منها وتغييره بحسب القدرة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك

أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى مسلم أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» وفي هذين الحديثين أبلغ رد على من بذل جهده في تأييد بدعة المولد والذب عنها وزعم أن التسامح الديني هو سمة ديننا الحنيف. الوجه الثاني: أن يُقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتسامح في البدع ولا مع أهل البدع، وكذلك الصحابة والتابعون وأئمة العلم والهدي من بعدهم، والآثار عنهم في ذلك كثيرة جدًا وهي مذكورة في كتب السنة وغيرها من الكتب المؤلفة في ذم البدع والتحذير منها وقد ذكرت طرفًا منها في "تحفة الإخوان، بما جاء في الموالاة والمعادة والحب والبغض والهجران" فلتراجع هناك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض بن سارية، رضي الله عنه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». وقال في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» زاد النسائي في روايته «وكل

ضلالة في النار» وقال في حديث عائشة رضي الله عنها: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقال في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» وقال فيما رواه أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «من رغب عن سنتي فليس مني» وقد تقدم إيراد هذه الأحاديث مع عزوها إلى مخرجيها في أول الكتاب وفي أثنائه فلتراجع (¬1). وتقدم أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن ناسًا يأتونها، وتقدم عنه أيضًا أنه أنكر على الذين يبتدرون إلى مسجد قد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له فيه الصلاة فلا يصل» وتقدم أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أنكر أشد الإنكار على الذين يجتمعون للذكر ويعدون التسبيح والتهليل والتكبير بالحصى وقال لهم: «والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو مفتتحو باب ضلالة» وفي رواية أنه قال لهم: «والذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا» وفي رواية أنه لم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، وقد أنكر عليهم أبو موسى الأشعري أيضًا ¬

(¬1) (10، 11) (27، 110).

فصل والمنكرون لبدعة المولد كثيرون

وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم على الخوارج وقاتلهم علي رضي الله عنه ومن معه، وأنكر الصحابة على الغلاة من الروافض وعلى القدرية، وقد تقدم كل هذا فليراجع (¬1) ففيه مع ما تقدم قبله من الأحاديث المرفوعة أبلغ رد على من نصب نفسه لتأييد بدعة المولد والذب عنها وزعم أن التسامح الديني هو سمة ديننا الحنيف. الوجه الثالث: أن يُقال إن التسامح في المجادلة والمخاطبة والمناقشة مع المسلمين إنما تكون مع الجاهل منهم إذا وقع منه ما لا يجوز من قول أو فعل فيوعظ بلطف ولين فإن أصر بعد العلم عومل بما يستحقه من هجر أو تأديب، وأما غير الجاهل ممن يكابر في رد الحق أو يجادل في نصر الباطل فإنه يقابل بالشدة ويعامل بما يمنعه ويردعه وأما غير المسلمين فمن رجي إسلامهم فإنهم يجادلون بالتي هي أحسن، ومن لم يرج إسلامهم فإنهم يقاتلون إن أمكن قتالهم والله أعلم. فصل: والمنكرون لبدعة المولد كثيرون، ومنهم شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» فقد بسط القول في ذم أعياد المشركين من أهل الكتاب والأعاجم وغيرهم ثم قال بعد ذلك: ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه وذلك أن أعياد أهل الكتاب ¬

(¬1) ص (36 - 39، 45، 46، 110 - 120).

والأعاجم نهي عنها لسببين أحدهما: أن فيها مشبهة للكفار والثاني: أنها من البدع، فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب لوجهين: أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وفي رواية للنسائي «وكل ضلالة في النار» وفيما رواه أيضًا في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي لفظ في الصحيحين «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضًا قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال عدي بن حاتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله ما عبدوهم قال: «ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم» فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب، ويلحق الذم من يبين له الحق فيتركه أو من قصر في طلبه حتى لم يتبين له أو أعرض عن طلب معرفته لهوى أو لكسل أو نحو ذلك. قال والأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به، قال واعلم أن هذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عظيمة ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى بعد كلام طويل أن العيد يكون اسمًا لنفس المكان ولنفس الزمان ولنفس الاجتماع، قال وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء. أما الزمان فثلاثة أنواع ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال أحدها يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً ولم يكن له ذكر في وقت السلف ولا جري فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونة فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب، والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزية أصلاً.

النوع الثاني: ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسمًا ولا كان السلف يعظمونه كثامن عشر ذي الحجة الذي خطب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغدير خم مرجعه من حجة الوداع، ثم ذكر الشيخ أن اتخاذ هذا اليوم عيدًا محدث لا أصل له فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيدً حتى يحدث فيه أعمالاً إذ الأعياد شريعة من الشرائع، فيجب فيها الاتباع لا الابتداع وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعهود ووقائع في أيام معددة مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخول المدينة وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعيادًا وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثل أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادًا واليهود، وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنًا وظاهرا، ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم

حرصاء على أمثال هذه البدع مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها إلى أن قال: فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمته لك، أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد انتهى المقصود من كلامه ملخصا. وقد علق الشيخ حامد الفقي رحمه الله تعالى على موضعين من كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى أولهما قوله: عن الذين يتخذون المولد محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، قال الشيخ حامد الفقي كيف يكون لهم ثواب على هذا وهم مخالفون لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهدي أصحابه، فإن قيل لأنهم اجتهدوا فأخطئوا فنقول أي اجتهاد في هذا، وهل تركت نصوص العبادات مجالاً للاجتهاد؟، والأمر فيه واضح كل الوضوح، وما هو إلا غلبة الجاهلية وتحكم الأهواء حملت الناس على الإعراض عن هدي رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى دين اليهود والنصارى والوثنين فعليهم ما يسحقونه من لعنة الله وغضبه، وهل تكون محبة وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن هديه وكرهه وكراهية ما جاء به من الحق لصلاح الناس من عند ربه والمسارعة إلى

الوثنية واليهودية والنصرانية، ومن هم أولئك الذين أحيوا تلك الأعياد الوثنية هل هم مالك، أو الشافعي، أو أحمد، وأبو حنيفة، أو السفيانان، أو غيرهم من أئمة الهدي رضي الله عنهم حتى يعتذر لهم ولأخطائهم كلا بل ما أحدث هذه الأعياد الشركية إلا العبيديون الذين أجمعت الأمة على زندقتهم، وأنهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى وأنهم كانوا وبالا على المسلمين وعلى أيديهم وبدسائسهم وما نفثوا في الأمة من سموم الصوفية الخبيثة، انحرف المسلمون عن الصراط المستقيم حتى كانوا مع المغضوب عليهم والضالين وكلام شيخ الإسلام نفسه يدل على خلاف ما يقول من إثابتهم؛ لأن حب الرسول وتعظيمه الواجب على كل مسلم إنما هو باتباع ما جاء به من عند الله كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. الموضع الثاني: قوله وكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع ما لهم فيها من حسن القصد الذي يرجى لهم به المثوبة إلى آخر كلامه الذي تقدم ذكره، قال الشيخ حامد الفقي: فكيف مع هذا يرجى لهم ثواب أو تقبل منهم دعوى حسن قصد، وهل الأعمال الظاهرة إلا عناوين للمقاصد والنوايا وإذا كان لهؤلاء ثواب على بدعتهم فليكن لليهود والنصارى وكل كافر إذا ثواب على ما يأتون من الكفر والوثنية لأنهم يقسمون جهد أيمانهم أنهم لا يقصدون به إلا الإحسان والتوفيق انتهى كلام الشيخ حامد الفقي. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الذين يتخذون المولد عيدًا أن الله تعالى قد يثيبهم، وقوله أيضًا: أنه يرجى لهم

المثوبة على حسن القصد والاجتهاد، وقوله أيضًا: إن تعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون فيه أجر عظيم، كل هذا فيه نظر وقد تتقدم حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومسّاكم ويقول: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه والدارمي ورواه النسائي ولفظه: «إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وفي النص على أن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أوضح دليل على أنه لا ثواب ولا أجر للذين يأخذون المولد عيدًا بل فيه دليل على الوعيد الشديد لهم؛ لأنهم قد فعلوا شرًا وضلالة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «وكل ضلالة في النار». وأيضًا فإن الله تعالى قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي هذه الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لمن خالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ابن كثير رحمه الله تعالى: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنًا من كان انتهى. قلت: ولا يخفى ما في اتخاذ المولد عيدًا من الزيادة على ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأعياد وما في ذلك من مخالفة

الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، وارتكاب ما حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - منه حيث قال: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وقال أيضًا: «وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وعلى هذا فالذين يتخذون المولد عيدًا ليسوا من الذين ترجى لهم المثوبة على هذه البدعة وإنما هم من الذين تخشى عليهم العقوبة على مخالفتهم للأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. وأيضًا فإن الله تعالى قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وفي هذه الآية وعيد شديد لمن خالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وارتكب نهيه، ومن ذلك اتخاذ المولد عيدًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به ولم يكن من هديه ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم وإنما هو نوع من أنواع المحدثات التي حذر منها وأخبر أنها شر وضلالة، وما كان بهذه المثابة فإنه لا يرجى لفاعليه مثوبة وإنما تخشى عليهم العقوبة. وقد تقدم (¬1) ما قرره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع، وأن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نعبده بالأهواء والبدع وأنه ليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه على ¬

(¬1) ص (73 - 75).

لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من واجب ومستحب، ولا يعبده بالأمور المبتدعة، وأنه لا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة، وأن من خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدًا رسول الله، وما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذ كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} فليراجع كلامه ففي كل جملة منه رد على الذين يتخذون المولد عيدًا، ورد أيضًا لقوله عن الذين يتخذون المولد عيدًا أن الله قد يثيبهم ولقوله أيضًا أنه يرجى لهم المثوبة على حسن القصد والاجتهاد ولقوله أيضًا أن تعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم فكلام الشيخ رحمه الله تعالى في هذه الجمل الثلاث مردود بكلامه الذي تقدم ذكره في أثناء الكتاب (¬1) ومردود أيضًا بقوله في كلامه الذي تقدم ذكره قريبًا (¬2) أن سائر الأعياد والمواسم المبتدعة من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه، وبقوله أيضًا: إن ما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب. وبقوله أيضًا: إن من ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به ¬

(¬1) ص (73 - 75). (¬2) ص (144، 145).

الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله، وبقوله إن من أطاع أحدًا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من الذم نصيب، فلتتأمل هذه الجمل من كلام شيخ الإسلام أبي العباس، رحمه الله تعالى ففيها رد لما جاء في كلامه من رجاء المثوبة والأجر العظيم للذين يخذون المولد عيدًا ويعظمونه وكيف ترجى المثوبة والأجر العظيم للذين لم يحققوا شهادة أن محمدًا رسول الله وكان عملهم مخالفًا لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان هذا بعيد جدًا والله أعلم. وقد ذكر الشاطبي في كتاب «الاعتصام» ما جاء في المبسوطة عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع، ثم قال: قوم أرادوا وجهًا من الخير فلم يصيبوه فقيل له: يا أبا محمد أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب فقال ليس في خلاف السنة رجاء ثواب انتهى، وفيه رد لما جاء في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس أيضًا في جواب له في صفحة 298 من المجلد الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى، وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها انتهى. ومن المنكرين لبدعة المولد من أكابر العلماء المحققين إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي رحمه الله تعالى فقد ذكر بعض

أنواع البدع في أول كتابه «الاعتصام» وعد منها اتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا وكلامه في ذم المولد في صفحة 34 من الجزء الأول المطبوع في مطبعة المنار بمصر سنة 1331 هـ. ومنهم أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه «المدخل» فقد قال فيه «فصل في المولد» ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى على بدع ومحرمات جمة، فمن ذلك استعمالهم الأغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع، ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحرمات ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكريم على ربه عز وجل وقد نقل ابن الصلاح رحمه الله تعالى أن الإجماع منعقد على أن آلات الطرب إذا اجتمعت فهي محرمة، ومذهب مالك أن الطار الذي فيه الصراصر محرم، وكذلك الشبابة، ويجوز الغربال لإظهار النكاح فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينها وبني تعظيم هذا الشهر الكريم الذي من الله تعالى علينا فيه بسيد الأولين والآخرين، ثم أطال الكلام في ذكر المولد وصرح في عدة مواضع من كلامه أنه بدعة وأطال الكلام أيضًا في ذكر ما يفعل فيه من أنواع المنكرات من الغناء والرقص واستعمال آلات اللهو والطرب واختلاط الرجال والنساء وغير ذلك من المنكرات التي ذكرها وبالغ في ذمها والتحذير منها إلى أن قال: ألا ترى أنهم لما خالفوا السنة المطهرة وفعلوا المولد

لم يقتصروا على فعله، بل زادوا عليه ما تقدم ذكره من الأباطيل المتعددة فالسعيد من شد يده على امتثال الكتاب والسنة والطريق الموصلة إلى ذلك وهي اتباع السلف الماضين؛ لأنهم أعلم بالسنة منا إذ هم أعرف بالمقال وأفقه بالحال، وكذلك الاقتداء بمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وليحذر من عوائد أهل لوقت وممن يفعل العوائد الرديئة وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع فإن خلا منه وعمل طعامًا فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى بل وجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه لأنهم أشد الناس اتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له ولسنته - صلى الله عليه وسلم - ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم إلى أن قال: ثم انظر رحمنا الله وإياك إلى مخالفة السنة ما أشنعها، ألا ترى أنهم لما ابتدعوا فعل المولد على ما تقدم تشوفت نفوس النساء لفعل ذلك. وقد تقدم ما في مولد الرجال من البدع والمخالفة للسلف الماضين فكيف إذا فعله النساء لا جرم أنهن لما فعلنه ظهرت فيه عورات جمة ومفاسد عديدة، ثم ذكر بعض لمفاسد التي تقع في المولد الذي تفعله النساء إلى أن قال: وقد تقدم أن خروج المرأة لا يكون إلا لضرورة شرعية، وخروجها للمولد ليس لضرورة شرعية بل للبدع والمناكر والمحرمات، قال: ثم العجب العجيب كيف يعملون المولد بالأغاني والفرح والسرور لأجل مولده، عليه الصلاة والسلام في هذا الشهر الكريم، وهو عليه الصلاة والسلام انتقل فيه إلى

كرامة ربه عز وجل وفجعت الأمة فيه وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبدًا، فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير لما أصيب به، فانظر في هذا الشهر الكريم كيف يلعبون فيه ويرقصون ولا يبكون ولا يحزنون، ولو فعلوا ذلك لكان أقرب إلى الحال، مع أنهم لو فعلوا ذلك والتزموه لكان أيضًا بدعة، ولو قال قائل أنا أعمل المولد للفرح والسرور لولادته - صلى الله عليه وسلم - ثم أعمل يومًا آخر للمأتم والحزن والبكاء عليه. فالجواب أنه قد تقدم أن من عمل طعامًا بنية المولد ليس إلا، وجمع له الإخوان فإن ذلك بدعة فكيف إذا كرر ذلك مرتين مرة للفرح ومرة للحزن فتزيد البدع ويكثر اللوم عليه من جهة الشرع؟، انتهى المقصود من كلامه ملخصا وفيه رد على ما زعمه الرفاعي تقليدًا للسيوطي، حيث أوهم من لا علم عندهم أن كلام ابن الحاج على عمل لمولد حاصله مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، والواقع في الحقيقة بخلاف ما زعمه السيوطي ومن قلده فإن ابن الحاج قد صرح في عدة مواضع من كلامه أن عمل المولد من البدع، وصرح أيضًا أنه زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين. وقد جاء في أول كلام ابن الحاج في ذم المولد جملة ينبغي التنبيه عليها وهي قوله: «فكان يجب أن يزاد فيه أي في شهر ربيع الأول من العبادات والخير شكرًا للمولى سبحانه وتعالى على ما أولانا من هذه النعم العظيمة، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات وما ذاك إلا لرحمته، - صلى الله عليه وسلم - بأمته ورفقه بهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار

عليه الصلاة والسلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله عليه الصلاة والسلام: «ذلك يوم ولدت فيه» فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة إلى أن قال: فإن قال قائل قد التزم عليه الصلاة والسلام ما التزمه في الأوقات الفاضلة مما قد علم ولم يلتزم في هذا الشهر ما التزمه في غيره، فالجواب إن المعنى الذي لأجله لم يلتزم عليه الصلاة والسلام شيئًا في هذا الشهر الشريف إنما هو ما قد علم من عادته الكريمة في كونه عليه الصلاة والسلام يريد الخفيف عن أمته - إلى أن قال- فتعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات انتهى. والجواب: أن يُقال أما زعمه أنه يجب أن يزد في شهر ربيع الأول من العبادات والخير فهو مردود بقوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات فلا يجوز لأحد أن يزيد فيه شيئًا لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع، وقد قال الله تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» وقال - صلى الله عليه وسلم - «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقال - صلى

الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» (¬1). وأما قوله إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات رحمة بأمته ورفقًا بهم. فجوابه أن يقال إنه يجب على كل أحد أن يتبع هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يزيد عليه فإن الزيادة على هديه شر وضلالة كما جاء في الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة». وقال أيضًا: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». وأما قوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى فضيلة شهر ربيع الأول بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذلك يوم ولدت فيه». فجوابه أن يُقال إنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على فضيلة شهر ربيع الأول وإنما جاء عنه الترغيب في صيام يوم الاثنين من كل أسبوع في السنة كلها كما جاء عنه الترغيب في صيام يوم الخميس أيضًا، وقد علل صيامهما بأنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله تعالى وأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم. وقد ¬

(¬1) قد تقدم إيراد هذه الأحاديث في ص (11، 27، 79/ 80).

ذكرت الوارد في ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1) ففيه أبلغ رد على من توهم أن ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صيام يوم الاثنين إنما أراد به الإشارة إلى فضيلة شهر ربيع الأول ولو كان الأمر على ما توهمه هذا القائل لكان الترغيب في صوم يوم الاثنين مقصورا على أيام الاثنين التي تكون في شهر ربيع الأول دون غيره من سائر الشهور. وأما قوله: فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة. فجوابه: أن يُقل إن الله تعالى قد نوه في كتابه العزيز بذكر شهر رمضان وأشهر الحج وعشر ذي الحجة ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق والأشهر الحرم، ولم يذكر غيرها من الشهور، وعلى هذا فلا ينبغي أن يسوى في التفضيل بين ما نوه الله بذكره من الشهور والأيام وبين ما لم يذكر في القرآن فإن هذا من الجمع بين ما فرق الله بينه. وأما قوله: إن المعنى الذي لأجله لم يلتزم عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول ما التزمه في غيره إنما هو ما قد علم من عادته في كونه عليه الصلاة والسلام يريد التخفيف عن أمته. فجوابه: أن يُقال ليست إرادة النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف على الأمة خاصة بشهر ربيع الأول وإنما هي عامة في جميع الأشهر، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه كان ¬

(¬1) ص62/ 63.

يريد الإكثار من العمل في شهر ربيع الأول وأنه ترك ذلك قصدًا للتخفيف على الأمة وإنما هذا من التوهمات التي لم تستند إلى دليل. وأما قوله فتعظيم هذا الشهر إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات. فجوابه أن أقول قد ذكرت قريبًا القاعدة المشهورة: وهي أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع، وبناء على هذه القاعدة فإنه لم يقم دليل على ما ذهب إليه ابن لحاج في تعظيم شهر ربيع الأول، وما ليس عليه دليل فليس عليه تعويل، وقد كرر القول في ذم المولد وصرح في عدة مواضع من كلامه بأنه بدعة ومع هذا فقد قابل بدعة المولد ببدعة أخرى وهي الترغيب في تعظيم شهر ربيع الأول بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات وغير ذلك من القربات، وهذه البدع كلها مردودة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وبقوله أيضًا: «من رغب عن سنتي فليس مني» وبقوله أيضًا: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» وقد تقدمت هذه الأحاديث وأشرت إلى مواضعها قريبًا. وممن ألف في إنكار بدعة المولد وذمها تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية وقد سمي كتابه «المورد في الكلام على عمل المولد» وقال فيه بعد لخطبة ما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد هل له أصل في

الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك فقلت وبالله التوفيق؛ لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولم ينقل عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون بدليل أنا إذا درنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا وليس بواجب إجماعًا ولا مندوبًا؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ولا جائز أن يكون مباحًا لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حرامًا وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين. أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ولا يقترفون شيئًا من الآثام وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام. والثاني: أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه لا سيما إن أنصاف إلى ذلك شيء من الغناء بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات إما مختلطات بهم أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد وهذا لا يختلف في تحريمه اثنان إلى أن قال هذا مع أن الشهر الذي ولد

فيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، انتهى المقصود من كلامه ملخصًا، وممن كتب في إنكار بدعة المولد أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي وشيخه بشير الدين القنوجي ذكر ذلك شمس الحق في تعليقه على "كتاب الأقضية والأحكام" من سنن الدارقطني عند الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» قال شمس الحق ولشيخنا العلامة بشير الدين القنوجي في ذلك الباب كتاب مستقل سماه "غاية الكلام في إبطال عمل المولد والقيام". وممن كتب في إنكار بدعة المولد وذمها رشيد رضا في - صلى الله عليه وسلم - 111 من الجزء السابع عشر من المنار وهو أيضًا في - صلى الله عليه وسلم - 1242 - 1243 من المجلد الرابع من فتاوى رشيد رضا فقد سئل عن قراءة القصص المسماة بالموالد هل هي سنة أم بدعة ومن أول من فعل ذلك فأجاب بقوله: «هذه الموالد بدعة بلا نزاع وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر». قلت قد جزم السيوطي في رسالته التي سماها "حسن المقصد في عمل المولد" أن أول من أحدث الاحتفال بالمولد صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين وكانت وفاته في سنة ثلاثين وست مائة وقد ذكر ابن كثير وابن خلكان وغيرهما عنه أنه كان يعمل المولد في ربيع الأول. ولرشيد رضا أيضًا جواب آخر عن بدعة المولد وهو مذكور في ص664 - 668 من الجزء التاسع والعشرين من المنار، وهو أيضًا

في ص2112 - 2115 من المجلد الخامس من فتاوى رشيد رضا. قال فيه سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي هل هو بدعة أم له أصل، فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن جرد عمله في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة ومن لا فلا. وأقول إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل فقد كان أحفظ حفاظ السنة والآثار ولكنه لم يؤت ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط فحسبنا من فتواه ما تعلق بالنقل وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ومن زعم بأنه يأتي في هذا الدين بخير مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجرى عليه ناقلو سنته بالعمل فقد زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤد رسالة ربه كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى وقد أحسن صاحب عقيدة الجوهرة في قوله. وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف وأما قول الحافظ: من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها كان عمله بدعة حسنة ومن لا فلا ففيه نظر، ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته والصدقات وهي مشروعة لا تعد من البدع، وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص بالهيئة المخصوصة والوقت المخصوص، وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع بحيث

يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب المطلوبة شرعًا وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه تعد من شرع ما لم يأذن به الله، ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه؟ كأنه من قواعد العقائد المعلومة من الدين بالضرورة، ليس يعد في هذه الحال وبين هؤلاء الجهال من أكبر كبائر البدع التي قد تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه فإن الزيادة في ضروريات الدين القطعية وشعائره، كالنقص منها يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء به خاتم النبيين عن الله تعالى القائل فيه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فهو تشريع ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان دينهم ناقصًا أو كفارًا، وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم قد تركوا التضحية في عيد النحر لئلا يظن الناس أنها واجبة، أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه الحفلات المولدية وإن خلت من القبائح واشتملت على المحاسن؛ لئلا يظن العوام أنها من الفرائض التي يأثم فاعلها (¬1) أو يكفر كما يقول بعض مبتدعة العلويين الجاهلين فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وأقواله وأفعاله كما هو المعهود في أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات، وأما القيام عند ذكر وضع أمه له - صلى الله عليه وسلم - وإنشاد بعض الشعر أو الأغاني في ذلك فهو من جملة هذه البدع، وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم فقال عند ذكر الإنكار على من يقوم عند ¬

(¬1) كذا وصوابه يأثم تاركها كما هو ظاهر السياق ..

قراءة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ما نصه ونظير ذلك فعل كثير عند مولده - صلى الله عليه وسلم -، ووضع أمه له من القيام، وهو أيضًا بدعة لم يرد فيه شيء، على أن العوام إنما يفعلون ذلك تعظيما له - صلى الله عليه وسلم - فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص انتهى من الفتاوى الحديثية (60). وإنما يصح قول الحافظ ابن حجر في كون حفلة المولد بدعة حسنة بشرط خلوها من المساوئ والمعاصي المعتادة فيها إذا كان القائمون بها لا يعدونها من القرب الثابتة في الشرع بحيث يكفر تاركها أو يأثم أو يعد مرتكبًا للكراهة الشرعية، فإن البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة ويقال إن منها حسنة وسيئة هي البدع في العادات، وأما البدع في الدين فلا تكون إلا سيئة كما صرح به المحققون وذكر ذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي في موضعين من الفتاوى الحديثية، انتهى المقصود من كلامه. وقد سئل رشيد رضا عن معنى البدعة والمحدثة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». فأجاب بقوله: كل ما أحدثه الناس في أمر الدين ولم يأخذوه من كتاب الله أو سنة رسوله المبينة لكتابه فهو بدعة سيئة وضلالة يستحق متبعها العقوبة في النار، فقد أتم الله الدين وأكمله فمن زاد فيه كمن نقص منه كلاهما جان عليه وغير راض بما شرعه الله، وأعني بالدين هنا مسائل العقائد والعبادات والحلال والحرام دون الأحكام الدنيوية التي فوض الشرع أمرها إلى أولي الأمر ليقيسوها على الأصول العامة التي وضعها لها، ذلك أن الجزئيات لا تنحصر فيحددها الشرع، بل تختلف باختلاف العرف والزمان والمكان فمن ابتدع طريقة لتسهيل

التعامل أو التقاضي غير ما كان عليه السلف وكانت نافعة غير منافية للأصول الشرعية العامة كبعض نظام المحاكم الجديد كان له أجر ذلك، وأما ما يعتقد في الله واليوم الآخر وما يتقرب إلى الله تعالى به من العبادة فهو لا يختلف ولذلك لا يقبل رأي أحد فيه، بل يؤخذ كما ورد عن الشارع من غير زيادة ولا نقصان انتهى. وممن كتب في إنكار بدعة المولد وذمها محمد بن عبد السلام خضر الشقيري في كتابه المسمى «بالسنن والمبتدعات» قال فيه «فصل» في شهر ربيع الأول وبدعة المولد فيه، لا يختص هذا الشهر بصلاة ولا ذكر ولا عبادة ولا نفقة ولا صدقة ولا هو موسم من مواسم الإسلام كالجمع والأعياد التي رسمها لنا الشارع، صلوات الله وتسليماته عليه وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين ففي هذا الشهر ولد - صلى الله عليه وسلم - وفيه توفي فلما يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته فاتخاذ مولده موسمًا والاحتفال به بدعة منكرة ضلالة لم يرد بها شرع ولا عقل، ولو كان في هذا خير فكيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة وأتباعهم، لا شك أنه ما أحدثه إلا المتصوفون الأكالون البطالون أصحاب البدع، وتبع الناس بعضهم بعضًا فيه إلا من عصمه الله ووفقه لفهم حقائق دين الإسلام. ثم أي فائدة تعود وأي ثواب في هذه الأموال الباهظة التي تعلق بها هذه التعاليق وتنصب بها هذه السرادقات وتضرب بها الصواريخ وأي رضا لله في اجتماع الرقاصين والرقاصات والمومسات والطبالين والزمارين واللصوص والنشالين والحاوي والقرداتي، وأي خير في اجتماع ذوي العمائم الحمراء والخضراء والصفراء والسوداء، أهل الإلحاد في أسماء الله والشخير والنخير والصفير بالغابة والدق بالبارات والكاسات والشهيق والنعيق بأح أح يا ابن المرة أم أم أن أن

سابينها يا رسول الله يا صاحب الفرح المداا آد يا عم يا عم، اللع اللع، كالقرود. ما فائدة هذا كله؟ فائدته سخرية الإفرنج بنا وبديننا وأخذ صور هذه الجماعات لأهل أوروبا فيفهمون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حاشاه حاشه كان كذلك هو وأصحابه فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم هو خراب ودمار فوق ما فيه الناس من فقر وجوع وجهل وأمراض فلماذا لا تنفق هذه الأموال الطائلة في تأسيس مصانع يعمل فيها الألوف من العاطلين. أو لماذا لا تنفق هذه النفقات الباهظة في إيجاد آلات حربية تقاوم بها أعداء الإسلام والأوطان وكيف سكت العلماء على هذا البلاء والشر، بل وأقروه، ولماذا سكتت الحكومة الإسلامية على هذه المخازي وهذه النفقات التي ترفع البلاد إلى أعلى عليين، فإما أن يزيلوا هذا المنكر وإما وصمتهم بالجهالة انتهى. فلينظر العاقل إلى ما ذكره الشقيري، رحمه الله تعالى عن المفتونين ببدعة المولد من ذوي العمائم وغيرهم من العوام وأشباه الأنعام ومن هم أضل سبيلا من الأنعام، وليقابل بين ما ذكره عنهم من المنكرات التي يفعلونها في المولد وببين قول الرفاعي: «إن احتفال المسلمين بجمهوريتهم وغالبيتهم من أندونسيا حتى تركيا ومن المغرب حتى أفغانستان كل عام بهذه المناسبة الكريمة العظيمة ومشاركة الأزهر الشريف بعلمائه الأجلاء وجامعات الزيتونة والقيروان مرورًا بجامعة ديوبند الإسلامية العريقة في القارة الهندية لدليل ساطع على إجماع المسلمين عامة وخاصة على هذه السنة المباركة والبدعة الحسنة. وهذا الإجماع يعتبر إجماعًا سكوتيًا يعتد به عند فقهاء المسلمين» انتهى كلامه الذي لم يتثبت فيه ولم ينظر إلى ما يترتب عليه من تأييد بدعة

المولد بالباطل وإقرار ما يفعل فيها من المنكرات الشنيعة ومجاوزة الحد في وصفها بأنها سنة مباركة وبدعة حسنة، ثم إن الرفاعي لم يقف عند هذا الحد من الغلو في بدعة المولد، بل حملته جراءته على القول في دين الله بغير علم فجعل أفعال العوام وأشباههم من المنتسبين إلى العلم في المولد واحتفالهم به دليلاً ساطعًا على إجماع المسلمين عامة وخاصة على بدعة المولد، وزعم أن هذا الإجماع يعتبر إجماعا سكوتيًا يعتد به عند فقهاء المسلمين. وأقول إن هذا الإجماع المزعوم لا وجود له إلا في ذهن الرفاعي وظنه، وهل يقول عاقل إن الأفعال السيئة التي ذكرها ابن الحاج والشقيري عن المفتونين بالمولد تعتبر دليلا ساطعًا على إجماع المسلمين عامة وخاصة على بدعة المولد، وعلى القول بأنها سنة مباركة وبدعة حسنة، وأن هذا الإجماع يعتد به عند الفقهاء، كلا لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل. وممن كتب في إنكار بدعة المولد وذمها الشيخ الفاضل العلامة مفتي البلاد السعودية في زمانه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمهم الله تعالى وله في ذلك عدة رسائل بعضها مطول وبعضها مختصر وهي في صفحة 48 إلى آخر صفحة 95 من الجزء الثالث من مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى فلتراجع فإنها قيمة ومفيدة. وممن كتب في إنكار بدعة المولد وذمها الشيخ الفاضل العلامة عبد الله بن محمد بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية وعضو هيئة كبار العلماء أيضًا، وله في ذلك رسالة

لطيفة مطبوعة مع كتابه المسمى "هداية الناسك إلى أهم المناسك" فلتراجع فإنها قيمة ومفيدة. وممن كتب في إنكار بدعة المولد وذمها الشيخ الفاضل العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية وعضو هيئة كبار العلماء أيضًا. وقد نشرت كتاباته في إنكار بدعة المولد وذمها في أعداد كثيرة من الصحف والمجلات في سنين كثيرة وكتاباته في هذا الموضوع وفي غيره من المواضيع كلها قيمة ومفيدة فلتراجع. وممن كتب في إنكار بدعة المولد حامد الفقي وقد ذكرت كلامه في ذلك قريبًا فليراجع. تنبيه ليعلم طالب العلم إن الذين ذكر عنهم التساهل في الاحتفال بالمولد قد صرحوا بأن الاحتفال بالمولد بدعة ولكنهم قالوا إنها بدعة حسنة لما يترتب عليها من الأفعال المستحسنة عندهم، وهؤلاء قد جمعوا بين حق وباطل، أما الحق فهو تصريحهم بأن الاحتفال بالمولد بدعة وهذا التصريح يلائم الأحاديث الواردة في التحذير من البدع والأمر بردها ويوافق عمومها لجميع البدع، وأما الباطل فهو دعواهم أنها بدعة حسنة، وهذه الدعوى لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب بل هي مخالفة للأحاديث لصحيحة التي جاءت في ذم البدع والتحذير منها والأمر بردها والنص على أنها شر وضلالة وقد تقدم إيرادها في أول الكتاب فلتراجع (¬1). ¬

(¬1) ص (148، 149) (10، 11).

فصل مقال مجلة المجتمع الكويتية

فصل وبعد الانتهاء من الرد على كلام الرفاعي في المولد رأيت مقالاً منشورًا في مجلة المجتمع الكويتية الصادرة في 8/ 4/ 1402 هـ عدد 559 تحت عنوان "المولد النبوي" وقد ذكر صاحب المقال في ختام مقاله أنه من البلاد السعودية ولم يذكر اسمه، وكذلك لم يذكره أصحاب المجلة وقد قابلت بين المقال وبين كلام محمد بن علوي المالكي في المولد وهو ما ذكره في كتابه المسمى «بالذخائر المحمدية» فإذا هو هو بعينه إلا أنه قد قدم فيه وأخر وزاد ونقص، وقد ذكر أصحاب المجلة أن المقال مطول وأنهم قد اختصروه، فلعل اختصارهم له هو السبب في التقديم والتأخير والنقص عما كان عليه في كتاب ابن علوي، ويحتمل أن المقال لغير ابن علوي إلا أن صاحبه قد سلبه من كلام ابن علوي وزاد فيه ونقص كما قد فعل ذلك قبله يوسف بن هاشم الرفاعي في مقاله المنشور في جريدة السياسة الكويتية، فإن الأدلة التي استدل بها على جواز الاحتفال بالمولد وتحسين هذه البدعة كلها مأخوذة من كلام محمد بن علوي، وقد نبهت على ذلك فيما مضى من الرد على الرفاعي، وبالجملة فالرفاعي وصاحب المقال المنشور في مجلة المجتمع الكويتية كل منهما عيال على ابن علوي في تأييد بدعة المولد وتحسينها، وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه

فصل: قال صاحب المقال المنشور في مجلة «المجتمع»

الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال النووي: سواء كان ذلك الهدى أو الضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقًا إليه انتهى، فليحذر ابن علوي ومن قلده وسار على طريقته في تأييد بدعة المولد والذب عنها أن يكون لهم نصيب وافر مما جاء في الآية والحديث. فصل: قال صاحب المقال المنشور في مجلة «المجتمع»: كلنا يعلم مدى محبة المسلمين لنبينا محمد ومدى تعظيمنا وتوقيرنا له، صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا أتى احتفالنا به. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما: أن يقال إن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وتوقيره لا يكون بمخالفة هديه - صلى الله عليه وسلم - والابتداع في الدين الذي قد أكمله الله له ولأمته، وإنما تكون محبته وتعظيمه وتوقيره بلزوم طاعته واتباع أمره والأخذ بهديه الذي هو خير الهدي والعض على سنته بالنواجذ وإحيائها بالقول والفعل واجتناب سائر المحدثات التي حذر منها وأخبر أنها شر وضلالة وأنها في النار، وهذه الطريقة هي التي كان عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد

وسنن النسائي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» وروى الإمام أحمد أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله إسناده صحيح على شرط الشيخين. وروي الإمام أحمد أيضًا والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقًا مجزومًا به «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وروى عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» قال النووي في الأربعين: له حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح. الوجه الثاني: أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أشد الأمة محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأشدهم تعظيمًا له وكانوا أحرص على الخير ممن جاء بعدهم ومع هذا فإنهم لم يكونوا يحتفلون بالمولد ويتخذونه عيدًا، ولو كان في ذلك أدنى شيء من الفضل والمحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والتعظيم له لكان الصحابة رضي الله عنهم أحرص عليه وأسبق إليه من غيرهم وعلى هذا فهل يقول صاحب المقال وأمثاله من المفتونين ببدعة المولد أنهم أشد محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة، رضي الله عنهم أم يعترفون للخلفاء الراشدين وسائر الصحابة، رضي الله عنهم بفضل المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والتعظيم له فإن قالوا بالأول فكل

عاقل يعلم أن ذلك حمق وسوء أدب مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن اعترفوا للصحابة رضي الله عنهم بفضل المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والتعظيم له، قيل لهم ينبغي أن يسعكم ما وسعهم من ترك الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدًا؛ لأن ذلك من الشرع الذي لم يأذن به الله ولم يكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل أصحابه، رضي الله عنهم ومن لم يتسع له في المولد وغيره ما اتسع للصحابة، رضي الله عنهم فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة. وقد رأيت لرشيد رضا كلامًا حسنًا يرد به على الذين يعظمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمور المحدثة فأحببت أن أذكره ههنا لما فيه من الرد على الذين يزعمون أن الاحتفال بالمولد النبوي فيه تعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في كتابه «ذكرى المولد النبوي» إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين والدنيا في طور ضعفهم (¬1) في أمر الدين أو الدنيا لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس فيجعلونه بدلا مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر لدين والدنيا وإنما التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز دينه إن كان رسولا وملكه إن كان ملكًا، وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وناهيك ببذلك أموالهم وأنفسهم في هذا لسبيل ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم للساني، ولا شك أن الرسول الأعظم ¬

(¬1) أي ضعف البشر.

- صلى الله عليه وسلم - أحق الخلق بكل تعظيم وليس من تعظيمه أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به وإن كان بحسن نية فإن حسن النية لا يبيح الابتداع في الدين وقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية وما زالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية حتى صارت ديانتهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبرا بشبر وذراعًا بذراع لضاع أصل ديننا أيضًا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل فعلينا أن نرجع إليه ونعض عليه بالنواجذ انتهى كلامه ولقد أجاد فيه وأفاد رحمه الله. وأما قول الكاتب المجهول وإن كان هناك أناس لا يحبون الاحتفال بالمولد فإنهم لا يستطيعون الإنكار على من يحتفل له طالما أن هناك علماء أجلاء خدموا العلم وبينوا الحق ومنهم الإمام ابن حجر والإمام السيوطي والإمام ابن كثير والشيخ ملا علي قاري والإمام العراقي وغيرهم كثير جوزوا ذلك. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال ما ادعاه الكاتب المجهول في قوله إن الذين لا يحبون الاحتفال بالمولد لا يستطيعون الإنكار على من يحتفل به فهي دعوى مبنية على الظن والتوهم، وكيف لا يستطيع أهل الحق أن ينكروا على أهل الباطل الذين ابتدعوا في الدين واتخذوا عيدًا لم يأذن به الله ولم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنهم ولا التابعون وتابعوهم بإحسان، بل الإنكار على المبتدعين لعيد المولد مستطاع ومحفوف بالأدلة الكثيرة من

الكتاب والسنة، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (¬1) ولتراجع أيضًا أقوال العلماء الذين كتبوا في إنكار بدعة المولد ففيها أبلغ رد على دعوى الكاتب المجهول وقد تقدم إيرادها قريبًا (¬2). الوجه الثاني: أن يُقال إن تجويز بعض العلماء لبدعة المولد معدود من أخطائهم وزلاتهم وقد ورد التحذير من تتبع أخطاء العلماء وزلاتهم وبيان أنها من هوادم الإسلام، وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في أول الكتاب فلتراجع (¬3) ففيها أبلغ رد على من تتبع أخطاء العلماء وزلاتهم وجادل بها ليدحض الحق ويؤيد الباطل كما قد فعل ذلك الرفاعي والكاتب المجهول وأمثالهما من أنصار الباطل. الوجه الثالث: أن أقول إني لم أر في شيء من كتب ابن كثير، رحمه الله تعالى، أنه كان يقول بجواز بدعة المولد وإنما ذكر الآثار الواردة في الحمل بالنبي، - صلى الله عليه وسلم - وولادته ورضاعه وتربيته وما كان بعد ذلك من أحواله، ذكر ذلك مبسوطًا في كتابه "البداية والنهاية" وقد رأيت له جزءًا في المولد ذكر فيه ما ذكره في "البداية والنهاية" ولم يتعرض فيه للاحتفال بالمولد فضلا عن أن يقول بجوازه فالواجب على الكاتب وعلى غيره من الكتاب أن يتثبتوا فيما ينقلونه عن العلماء فلا يذكرون عنهم إلا ما رأوه ثابتًا في كتبهم أو ما نقله العلماء الأمناء عنهم. ¬

(¬1) ص (6 - 12). (¬2) ص (144 - 169). (¬3) ص (22).

الوجه الرابع: أن يُقال إن القائلين بجواز الاحتفال بالمولد محجوجون بالنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من محدثات الأمور والنص على أنها شر وضلالة وأنها في النار والأمر بردها ورد الأعمال التي ليست من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} قال مجاهد رحمه الله تعالى: ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي، - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري في جزء رفع اليدين بإسناد صحيح. وأما قول الكاتب المجهول إن المولد النبوي أو الاحتفال به لم يكن في عهده، - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة ولكنها حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية والقواعد الكلية فهي بدعة باعتبار هيئتها الاجتماعية لا باعتبار أفرادها لوجود أفرادها في العهد النبوي كما ستعلمه بعد قليل من وجوه الاستحسان. فجوابه من وجوه أحدها: أن يُقال هذا هو كلام محمد بن علوي المالكي في صفحة 268 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية"، وهو الخامس من أدلته الوهمية على جواز الاحتفال بالمولد النبوي. الوجه الثاني: أن يُقال إن الكاتب المجهول قد اعترف تبعًا لابن علوي أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بدعة وفي هذا الاعتراف أبلغ رد عليهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر أمته من محدثات الأمور على

وجه العموم وبالغ في التحذير وأمر برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره والأمر بذلك يعم البدع كلها كما هو ظاهر النص. الوجه الثالث: أن يُقال ما زعمه الكاتب المجهول تبعًا لابن علوي أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة وأنها تندرج تحت الأدلة الشرعية والقواعد الكلية فهو زعم باطل مردود بالنص الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وبقوله - صلى الله عليه وسلم - «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكرت هذه الأحاديث معزوة إلى مخرجيها في أول الكتاب فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على الكاتب المجهول وابن علوي وعلى غيرهما ممن ادعى أن بدعة المولد بدعة حسنة وأنها تندرج تحت الأدلة الشرعية والقواعد الكلية. وأما دعوى الكاتب المجهول وابن علوي أن أفراد بدعة المولد موجودة في العهد النبوي. فجوابه أن يُقال هذه الدعوى باطلة مردودة لأن أعظم أفرد بدعة المولد هو الاجتماع لها في ليلة مخصوصة من شهر ربيع الأول واتخاذ تلك الليلة عيدًا يعود في كل عام، وإظهار الفرح والسرور في تلك الليلة كما يفعل الناس في عيدي الفطر والأضحى أو أعظم، ¬

(¬1) ص (10، 11).

وقراءة الآثار الواردة في المولد والشمائل والمعجزات والسيرة في تلك الليلة بخصوصها، وإنشاد المدائح التي قد قيلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل الأطعمة في تلك الليلة، وهذه الأمور لم تكن تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد أصحابه، رضي الله عنهم ولا في عهد التابعين ولا في القرون الثلاثة المفضلة، وأول من أحدث ذلك سلطان إربل الملك المظفر في آخر القرن السادس وفي أول القرن السابع: وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف وأما الأدلة التي استدل بها الكاتب المجهول على جواز الاحتفال بالمولد فهي ستة عشر دليلاً وكلها مأخوذة من كلام ابن علوي المالكي وهذا يقوي الظن بأنه هو صاحب المقال المنشور في مجلة المجتمع الكويتية، وسأذكر أدلته وأذكر مواضعها في كتاب ابن علوي إن شاء الله تعالى. قال الكاتب المجهول: الأول أن الاحتفال بالمولد النبوي يعبر عن البهجة والسرور والفرح وقد انتفع به الكافر كما جاء في صحيح البخاري بأنه يخفف عن أبي لهب كل يوم الاثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما فرحته وبشرته بولادة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والجواب: أن يُقال هذا الكلام منقول من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 267 من كتاب المسمى «بالذخائر المحمدية»

وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬1). وقال الكاتب المجهول: الثاني: أن المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وما كان يبعث على المطلوب شرعًا فهو مطلوب شرعًا. والجواب: أن يُقال هذا الكلام منقول بالنص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة 269 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬2). وقال الكاتب المجهول: الثالث: أن المولد النبوي يشتمل على مولده الشريف ومعجزاته وسيرته والتعريف به وكلنا مأمورون بمعرفته والاقتداء به والتأسي بأعماله والإيمان بمعجزاته والتصديق بآياته، وكتب المولد تؤدي هذا المعنى تمامًا. والجواب: أن يُقال هذا الكلام منقول من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص269 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬3). ¬

(¬1) ص (55 - 61). (¬2) ص (69 - 71). (¬3) ص (71 - 76).

وقال الكاتب المجهول: الرابع: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعظم يوم مولده ويشكر الله تعالى فيه على نعمته وفضله، وكان تعبيره - صلى الله عليه وسلم - بالصيام فقد جاء في صحيح مسلم كتاب الصيام عن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «فيه ولدت وفيه أنزل عليه» وهذا يدل على أن معنى الاحتفال موجود. والجواب: أن يُقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في - صلى الله عليه وسلم - 267 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬1). وقال الكاتب المجهول: الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث العظيمة ودليل ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما وصل المدينة ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء سأل عن ذلك فقيل له إنهم يصومونه لأن الله نجى نبيهم وأغرق عدوهم فهم يصومونه شكرًا لله على هذه النعمة فقال عليه الصلاة والسلام: «نحن أولى بموسى منكم» فصامه وأمر بصيامه. والجواب أن يقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في - صلى الله عليه وسلم - 268 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬2). ¬

(¬1) ص (61 - 64). (¬2) ص (67 - 69).

وقال الكاتب المجهول: السادس: مدحه بالقصائد كان يفعل أمامه، - صلى الله عليه وسلم - ويكافئ الشعراء على ذلك فكيف بمن جمع شمائله الشريفة. والجواب أن يُقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص269 من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬1). وقال الكاتب المجهول السابع: أن تعظيم الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - مطلوب ومشروع والفرح بيوم مولده من أفضل وأظهر مظاهر الابتهاج والسرور والشكر لله. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يُقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (270) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية". الوجه الثاني: أن يُقال إن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب في جميع الأوقات على ممر الأزمان ومن لم يعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في ليلة مولده فقد بخسه حقه، وكذلك الفرح والسرور والابتهاج بإيجاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعثته وكوننا من أمته والشكر لله على ذلك يجب أن يكون على الدوام، ومن لم يكن فرحه وابتهاجه وسروره بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في ليلة المولد فقد بخسه حقه. ¬

(¬1) ص 55 - 61.

الوجه الثالث: أن يُقال إن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون بفعل البدع التي حذر منها وأخبر أنها شر وضلالة وأنها في النار، وإنما يكون تعظيمه بطاعته واتباع هديه والتمسك بسنته وإحياء ما أميت منها ونشر ما بعثه الله به من الهدى ودين الحق والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، وهذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فمن سلك سبيلهم فهو من المعظمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن خالفها وسلك سبيلاً من سبل أهل البدع فهو في الحقيقة معظم للبدع وأهل البدع وليس معظمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن زعم أنه معظم له وهل يقول عاقل إن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون بفعل المحدثات التي قد حذر منها غاية التحذير؟ وأمر بردها وأخبر أنها شر وضلالة وأنها في النار، كلا لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل. الوجه الرابع: أن يُقال إن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجتمع مع مخالفة أمره وارتكاب نهيه، فمن عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من البدع فتعظيمه له أشبه بالسخرية والاستهزاء منه بالتعظيم وقد تقدم قريبًا (¬1) ما ذكره الشقيري في كتابه المسمى "بالسنن والمبتدعات" عن ذوي العمائم وغيرهم من أشباه الأنعام من أنواع المنكرات والسخافات التي يفعلونها في بدعة المولد، فهل يقول عاقل أن تلك المخازي من التعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلا لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل. ¬

(¬1) ص (166ـ 167).

وقال الكاتب المجهول: الثامن يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في فضل يوم الجمعة وما فيه من المزايا وإنه فيه ولد آدم فكيف باليوم الذي ولد فيه، صلوات الله وسلامه عليه، ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه، بل يكون له خصوصا ولنوعه عمومًا مهما تكرر كما هو الحال في يوم الجمعة. والجواب: أن يُقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (270) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه مع التنبيه على قول ابن علوي والرفاعي "وفيه ولد آدم" فليراجع ما تقدم (¬1). وقال الكاتب المجهول التاسع: قال تعالى: {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} يظهر لنا من الآية أن الحكمة من قص أنباء الرسل تثبيت فؤاد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونحن اليوم أحوج إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه وأخباره وذكره. والجواب: أن يُقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي لمالكي وهو في صفحة (271) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬2). وقال الكاتب المجهول: العاشر المولد النبوي ما هو إلا اجتماع ¬

(¬1) ص (80 - 83). (¬2) ص (104، 105).

ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي وهذه الأمور مطلوبة شرعًا وممدوحة. والجواب: عن هذا من وجهين أحدهما: أن يُقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (271) من كتاب المسمى "بالذخائر المحمدية". الوجه الثاني: أن يُقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع الاجتماع للذكر في ليلة المولد ولم يشرع الصدقة والمدح والتعظيم لجنابه في ليلة المولد خاصة وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} وفي الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي هذه الآية والحديث دليل على أنه لا يجوز تخصيص ليلة المولد بشيء من الأعمال التي ذكرها الكاتب لأن تخصيصها بهذه الأعمال بدعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذر من البدع وأخبر أنها شر وضلالة. وقال الكاتب المجهول: الحادي عشر: أن المولد أمر استحسنه العلماء والمسلمون في سائر البلاد وجري به العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعًا للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود الموقوف (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح) أخرجه الإمام أحمد. والجواب: أن يقال هذا الكلام منقول بالنص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (270) - (271) من كتابه المسمى "بالذخائر

المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬1). وقال الكاتب المجهول: الثاني عشر: ليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول بدعة منكرة سيئة يحرم فعلها ويجب الإنكار عليها، بل يجب أن يعرض ما أحدث على أدلة الشرع فما اشتمل على مصلحة فهو واجب أو على محرم فهو محرم أو على مكروه فهو مكروه أو على مباح فهو مباح أو على مندوب فهو مندوب، والعلماء قسموا البدعة إلى خمسة أقسام وهي ما ذكرناه آنفًا وممن قسم البدعة من العلماء الإمام العز ابن عبد السلام والإمام النووي وابن الأثير. والجواب أن يُقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في صفحة (271)، (273) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وزاد عليه وقد تقدم الجواب عنه فليراجع (¬2). وقال الكاتب المجهول: الثالث عشر: ليست كل بدعة محرمة ولو كانت كذلك لحرم جمع القرآن وكتبه في المصاحف خوفًا على ضياعه بموت الصحابة القراء رضي الله عنهم ولحرم جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على إمام واحد في صالة القيام مع قوله "نعمت البدعة ولهذا قيد العلماء حديث كل بدعة ضلالة بالبدعة السيئة وعصرنا الراهن مملوء بأمور كثيرة لم يفعلها السلف كجمع الناس على إمام واحد في صلاة التهجد وختم المصحف ودعاء ¬

(¬1) ص (88 - 100). (¬2) ص (105 - 122).

ختم القرآن والمناداة لصلاة القيام، فهل كل هذه الأمور بدعة مع أن لها فضائل جمة كما لا يخفى. والجواب أن يُقال هذا الكلام بعضه منقول من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (272) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وبعضه منقول من كلام يوسف بن هاشم الرفاعي الذي نشره في عدد ((4870)) من جريدة السياسة الكويتية وقد ذكر يوسف كلام ابن علوي أيضًا وتقدم الجواب عن ذلك كله فليراجع (¬1). وقال الكاتب المجهول: الرابع عشر: قال إمامنا الشافعي رحمه الله، ما أحدث وخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئًا من ذلك فهو المحمود. والجواب أن يُقال: هذا الكلام منقول بالنص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (273) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد ذكره يوسف الرفاعي في أدلته على جواز الاحتفال بالمولد وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬2). وقال الكاتب المجهول: الخامس عشر: كل ما تشمله الأدلة الشرعية ولم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة ولم يشتمل على منكر فهو من الدين وقد سمي الشارع بدعة الهدي سنة ووعد فاعلها أجرًا فقال عليه الصلاة والسلام: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء». ¬

(¬1) ص (47 - 54) وص (133 - 141). (¬2) ص (44 - 47).

والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يُقال هذا الكلام منقول بالنص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (273) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية". الوجه الثاني: أن يُقال إن الاحتفال بالمولد النبوي لم يشمله شيء من الأدلة الدالة على الجواز وإنما شملته الأدلة الدالة على المنع من البدع والتحذير منها، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (¬1). الوجه الثالث: أن يُقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر على الرجلين اللذين قال أحدهما أما أنا فأصلي الليل أبدًا وقال الآخر أنا أصوم ولا أفطر، وأنكر أيضًا على عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما كان يقوم الليل ولا ينام ويصوم ولا يفطر وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعال هؤلاء من الرغبة عن سنته مع أنهم لم يقصدوا مخالفة الشريعة ولم تشتمل أفعالهم على منكر ومع هذا فلم يقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعتبر أفعالهم من الدين، وفي هذا أبلغ رد على القول الباطل الذي قرره الكاتب المجهول وابن علوي. الوجه الرابع: أن يُقال إن الكاتب المجهول وابن علوي قد تقولا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث زعما أنه سمى بدعة الهدى سنة ووعد فاعلها أجرًا ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شيئًا من البدع باسم السنة إلا مع التقييد بأنها سنة ¬

(¬1) ص (6 - 13).

سيئة أو سنة شر، وفي الحديث الذي ذكره الكاتب المجهول وابن علوي كفاية في الرد عليهما فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: «من سن في الإسلام سنة حسنة» ولم يقل من ابتدع بدعة هدى. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذر من البدع على وجه العموم وأخبر أنها شر وضلالة ولم يستثن منها شيئًا وفي هذا أبلغ رد على قول الكاتب المجهول وابن علوي أن الشارع سمى بدعة الهدى سنة. الوجه الخامس: قال الشاطبي في كتاب "الاعتصام" ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها ثم ذكر أن الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه: أحدها: أنها جاءت مطلقة عامة لم يقع فيها استثناء البتة ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدي ولا جاء فيها كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا ولا شيء من هذه المعاني، فلو كان هنا محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات لذكر ذلك في آية أو حديث، لكنه لا يوجد فدل على أن الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد. والثاني: أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتي بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرره وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم وما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال مختلفة أن كل بدعة ضلالة وأن كل

محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها. والثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية فهو بحسب الاستقراء إجماع ثابت فدل على أن كل بدعة ليست بحق بل هي من الباطل إلى أن قال: ولما ثبت ذمها ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط، بل من حيث اتصف بها المتصف، فهو إذا المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم وذلك على الإطلاق والعموم انتهى. الوجه السادس: قال صاحب تحفة الأحوذي في قوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة» أي أتى بطريقة مرضية يشهد لها أصل من أصول الدين «ومن سن سنة شر» وفي رواية مسلم «ومن سن في الإسلام سنة سيئة» أي طريقة غير مرضية لا يشهد لها أصل من أصول الدين انتهى. قلت: والاحتفال بالمولد النبوي لم يشهد له شيء من أصول الدين بالجواز وإنما تشهد أصول الدين بعدم جوازه، وبيان ذلك من وجوه أحدها: أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم وإنما هو من هدي سلطان إربل وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} والتأسي

برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباع هديه من أعظم أصول الدين كما أن التأسي بغيره من أعظم أصول الشر والفساد قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقال الله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}. الوجه الثاني: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وهذا الحديث من جوامع الكلم وهو أصل من أصول الدين فيدخل في عمومه جميع المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها الاحتفال بالمولد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به ولم يفعله ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم وإنما حدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ست مائة سنة، وقد قال الشاطبي في كتاب «الاعتصام» هذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام، ويستوي في ذلك، ما كان بدعة أو معصية انتهى. الوجه الثالث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» وقد كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مولده لا تختلف عن سنته في غيرها من الليالي ولم يكن يحتفل بها ويتخذها عيدًا ولا كان يخصها بشيء من الأعمال دون غيرها من الليالي، فمن رغب عن سنته - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المولد فهو داخل في عموم قوله: «من رغب عن سنتي فليس مني».

الوجه الرابع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». قال الحافظ ابن رجب، رحمه الله تعالى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه انتهى. قلت: ومن ذلك الاحتفال بالمولد النبوي فقد أحدثه سلطان إربل بعد زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ست مائة سنة وجعله مضاهيا لعيدي الفطر والأضحى، ولا شك أنه من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنها شر وضلالة ومع هذا فقد زعم ابن علوي والرفاعي والكاتب المجهول أنه مطلوب شرعًا، وزعم ابن علوي والرفاعي أيضا أن الاحتفال بالمولد مشروع في الإسلام، هكذا قالوا وتجرءوا على الشريعة، حيث ألصقوا بها ما ليس منها ونسبوا إلى الدين ما هو بريء منه، وقد وصفوا بدعة المولد بأنها بدعة حسنة ووصفها الرفاعي أيضًا بأنها سنة مباركة وبدعة حسنة محمودة وهذه الصفات لا تنطبق عليها وإنما ينطبق عليه ما جاء في الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». الوجه الخامس: أن الله تعالى شرع لهذه الأمة على لسان نبيها

- صلى الله عليه وسلم -، سبعة أعياد في سبعة أيام وهي يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة وأيام التشريق، فمن زاد على هذه الأعياد السبعة عيدًا غيرها فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، والاحتفال بالمولد النبوي من الأعياد الزائدة على الأعياد المشروعة فيدخل في عموم قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ}. الوجه السادس: قال رشيد رضا في ص (93) من الجزء الأول من فتاويه، وأما السنة الحسنة والسنة السيئة في الحديث الآخر أي في قوله - صلى الله عليه وسلم - «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» فهي تشمل كل ما يخترعه الناس من طرق المنافع والمرافق الدنيوية أو طرق المضار والشرور فمن اخترع طريقة نافعة كان مأجورًا عند الله تعالى ما عمل الناس بسنته وله مثل أجر كل عامل به لأنه السبب فيه، وكذلك حكم مخترعي طرائق الشرور والمضار كالضرائب والغرامات والفواحش عليهم وزرها ما عمل الناس بها وقولهم بدعة حسنة وبدعة سيئة يصح في البدعة اللغوية أو الدنيوية، ومن قال من العلماء إن البدعة لا تكون إلا سيئة أراد البدعة الشرعية أي الابتداع في الدين. وقد ذكر نحو هذا ابن حجر في الفتاوى الحديثية، انتهى. وقال الكاتب المجهول: السادس عشر: كل ما ذكر آنفًا إنما هو في المولد الذي خلا من المنكرات المذمومة التي يجب الإنكار عليها أما إذا كان هناك اختلاط أو ارتكاب محرمات فهذا ولا شك محرم شرعًا أي إنه خرج عن نطاق البدع إلى التحريم.

والجواب: عن هذا من وجهين أحدهما: أن يقال هذا الكلام ملخص من كلام محمد بن علوي المالكي وهو في ص (274) من كتاب المسمى "بالذخائر المحمدية" وقد غير الكاتب المجهول في آخره بعض التغيير. الوجه الثاني: أن يُقال إن الاحتفال بالمولد منكر وإن لم يكن فيه اختلاط ولا غيره من المحرمات لأنه لم يكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم ولا من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان، وإنما هو من البدع التي أحدثت في الإسلام وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات على وجه العموم وأخبر أنها شر وضلالة وإنها في النار وأمر بردها من غير استثناء شيء منها فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. فالمحتفلون بالمولد قد خالفوا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها ومن خالف هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبع غير سبيل المؤمنين فهو على خطر عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ويقول تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ويقول تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وإذا اشتمل الاحتفال بالمولد على شيء من المنكرات كان أعظم لخطره وأشد في تحريمه، وقد ذكر ابن الحاج في كتابه المسمى «بالمدخل»

والشقيري في كتابه المسمى "بالسنن والمبتدعات" أشياء كثيرة من العظائم والمهازل التي تفعل في بدعة المولد ومن له عقل وإيمان لا يرضى بشيء منها. وأما قول الكاتب المجهول والآن نذكر رأي علمائنا الأجلاء والأئمة الأعلام الذين قالوا رأيهم صراحة في الاحتفال بالمولد النبوي وسأذكر كتبهم المؤلفة في هذا الشأن وذلك للرجوع إليها والتأكد من حكم الاحتفال به - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه من وجوه أحدها: أن يُقال إن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من آراء العلماء وإنما تؤخذ من الكتاب والسنة والإجماع وقد ذكرت في أول الكتاب جملة من أدلة الكتاب والسنة على المنع من بدعة المولد فلتراجع ففيها أبلغ رد على الكاتب المجهول وعلى أمثاله من المتكلفين الذين يعتمدون على الآراء في تأييد بدعة المولد ويعرضون عن أدلة الكتاب والسنة على ذم البدع والتحذير منها على وجه العموم. الوجه الثاني: أن يقال إن الله تعالى قد أمر المؤمنين بالرد إلى كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً}. قال مجاهد وغير واحد من السلف في قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أي إلى كتاب الله وسنة رسوله وقال البغوي: أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيًا وبعد وفاته إلى

سنته قال والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد انتهى. قلت: وحكم الاحتفال بالمولد موجود في الكتاب والسنة فلا يعدل عنهما إلى كتب الناس وآرائهم وقد ذكرت جملة من أدلة الكتاب والسنة على المنع من بدعة المولد وغيرها من البدع فلتراجع في أول الكتاب (¬1). الوجه الثالث: أن يقال إن الكاتب المجهول قد جمع بين أربعة أمور خطيرة، أحدها: أنه قد قضي ما ليس له به علم وذلك في جميع الأدلة التي استدل بها على جواز الاحتفال بالمولد وتحسين بدعته. ثانيها: مصادمته للكتاب والسنة بالآراء والأقوال التي ما أنزل الله بها من سلطان. ثالثها: إلصاقه بالشريعة ما ليس منها وذلك في زعمه أن الاحتفال بالمولد مطلوب شرعًا ومن بلغت به الجراءة إلى هذه الغاية السيئة فإنه يخشى عليه أن يكون ممن عناهم الله تعالى بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} وقد اشترك في هذه الأمور الثلاثة كل من الرفاعي والكاتب المجهول وابن علوي. رابعها: تقوله على بعض العلماء الذين قال عنهم أنهم يؤيدون بدعة المولد وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. الوجه الرابع: أن يقال إذا كان الاحتفال بالمولد مطلوبًا شرعًا على حد زعم الكاتب المجهول وأمثاله من المتكلفين كابن علوي والرفاعي فلم لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، رضي الله عنهم مع أنه لم يكن هناك مانع يمنعهم من فعله فهل ¬

(¬1) ص6 - 13.

يظن الكاتب المجهول وغيره من المتكلفين أن الذين يحتفلون بالمولد كانوا أتقى لله تعالى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم وأحرص على الخير منهم أم يظنون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحبه كانوا يتهاونون ببعض الأمور المطلوبة شرعًا ويتركونها عمدًا ولا يبالون بتركها، فالكاتب المجهول وابن علوي والرفاعي بين أمرين لا بد لهم من أحدهما. إما أن يظنوا ظنون السوء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، وإما أن يرجعوا عن زعمهم أن الاحتفال بالمولد مطلوب شرعًا ولا يحرفوا كلام ابن مسعود رضي الله عنه عن مواضعه ولا يتأولوه على غير تأويله. وأما قول الكاتب المجهول: رأي الإمام الشيخ ابن تيمية في المولد النبوي (يقول في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد. فجوابه أن يقال: إن الكاتب المجهول قد سلك فيما نقله عن شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى مسلك التلبيس والتضليل فأوهم من لا علم عندهم أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يرى جواز الاحتفال بالمولد والواقع في الحقيقة أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يرى خلاف ذلك وقد ذكرت كلامه في ذلك قريبًا مع التنبيه على ما وقع فيه من العبارات الموهمة وهي التي قد تعلق بها الكاتب المجهول وغيره من المفتونين ببدعة المولد. فليراجع

كلامه (¬1) مع التنبيه على ما وقع فيه من العبارات الموهمة وليراجع (¬2) أيضًا ما نقلته عنه من التصريح بأن اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد أنها من البدع التي لم يسحبها السلف ولم يفعلوها. وقال الكاتب المجهول الإمام السيوطي ألف كتابًا في المولد النبوي سماه "حسن المقصد في عمل المولد" وكتابه "الحاوي للفتاوي" يبين في أحد فصول الكتاب حكم الاحتفال بالمولد النبوي ويرد فيه على من قال بأن المولد بدعة مذمومة. الإمام الحافظ ابن كثير (777) - (842) هـ ألف في المولد النبوي كتبًا عدة ذكر صاحب كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون (319) أن الحافظ ابن كثير قد صنف في المولد الشريف أجزاء عديدة، منها "جامع الآثار في مولد النبي المختار" في ثلاث مجلدات و"اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق" وهو مختصر وقال ابن فهد إن لابن كثير كتابًا يسمى "مورد الصادي في مولد الهادي". ومنهم الإمام الحافظ العراقي، صنف هذا الإمام كتابًا في المولد الشريف سماه "المورد الهني في المولد السني". ومنهم الإمام الحافظ السخاوي له كتاب في المولد يسمى "التبر المسبوك في ذيل السلوك". ¬

(¬1) ص144 - 153. (¬2) ص153.

ومنهم الإمام ملا علي قاري له كتاب في المولد سماه "المورد الروي في المولد النبوي" والجواب أن يقال أما الحافظ ابن كثير، رحمه الله تعالى، فإنه قد ذكر الآثار الواردة في المولد النبوي في كتابه «البداية والنهاية» ولم يتعرض لذكر الاحتفال بالمولد إلا في ترجمة سلطان إربل الملك المظفر فإنه ذكر عنه أنه كان يعمل المولد في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، ولم يصرح بجواز ذلك ولا عدم جوازه، ولابن كثير أيضًا رسالة في المولد مختصرة ذكر فيها الآثار الواردة فيه ولم يتعرض فيها لذكر الاحتفال به. وقد أخطأ الكاتب المجهول عدة أخطاء فيما ذكره عن ابن كثير الأول زعمه أنه من الذين قالوا رأيهم صراحة في لاحتفال بالمولد النبوي الثاني زعمه أن ابن كثير قد ولد في سنة سبع وسبعين وسبع مائة وأنه توفي في سنة اثنتين وأربعين وثمان مائة من الهجرة، الثالث زعمه أنه قد ألف في المولد النبوي كتبًا عدة الرابع ما ذكره عن صاحب كشف الظنون أنه ذكر عن الحافظ ابن كثير أنه قد صنف في المولد أجزاء عديدة منها «جامع الآثار في مولد النبي المختار» في ثلاث مجلدات و «اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق» وهو مختصر الخمس ما ذكره عن ابن فهد أنه قال إن لابن كثير كتابًا يسمى "مورد الصادي في مولد الهادي" والجواب عن هذه الأخطاء أن أقول. أما زعم الكاتب المجهول أن ابن كثير قد قال رأيه صراحة في الاحتفال بالمولد النبوي، فهو من أوهامه وتقوله على ابن كثير، وأما زعمه أن ابن كثير قد ولد في سنة

سبع وسبعين وسبع مائة وأنه توفي في سنة اثنتين وأربعين وثمان مائة فهو خطأ واضح. والصواب: أنه قد ولد في سنة إحدى وسبع مائة من الهجرة وتوفي في سنة أربع وسبعين وسبع مائة وأما زعمه أن ابن كثير قد ألف في المولد النبوي كتبًا عدة، فهو قول لا صحة له وإنما ألف في المولد رسالة مختصرة وذكر الآثار الواردة فيه أيضًا في كتابه «البداية والنهاية» ولم يتعرض في الرسالة ولا في "البداية والنهاية" لحكم الاحتفال بالمولد وأما زعمه أن صاحب "كشف الظنون" ذكر عن الحافظ ابن كثير أنه صنف في المولد أجزاء عديدة منها «جامع الآثار في مولد النبي المختار» في ثلاث مجلدات و «اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق» فهو من أوهامه على صاحب «كشف الظنون» والذي ذكره صاحب «كشف الظنون» أن هذين الكتابين للحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي. وذكر صاحب «كشف الظنون» أيضًا عن الحافظ السخاوي أنه ذكر في "الضوء اللامع" جماعة ممن ألف في مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي له فيه «جامع الآثار في مولد النبي المختار» في ثلاث مجلدات و «المورد الصادي في مولد الهادي» في كراسة و «اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق» وهو أخصر من الذي قبله. وأما زعمه أن ابن فهد قال: إن لابن كثير كتابًا يسمى «مورد الصادي في مولد الهادي» فهو من أوهامه على ابن فهد. والذي ذكره ابن فهد في كتابه «لحظ الألحاظ» بذيل طبقات الحفاظ أن «مورد الصادي في مولد الهادي» للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، وذكر أيضًا أنه صنف في المولد النبوي ثلاثة أسفار، وذكر أيضًا من مصنفاته «اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق» وهذا يوافق ما ذكره صاحب «كشف

الظنون» وهذه المؤلفات لم أر شيئًا منها فلا أدري هل كان ابن ناصر الدين يقول بجواز الاحتفال بالمولد أم أنه قد مشي على طريقة ابن كثير في جمع الآثار الواردة في لمولد من غير تعرض لحكم الاحتفال به هل هو جائز أم غير جائز؟ , وكذلك الحافظ العراقي لا أدري هل كان يقول بجواز الاحتفال بالمولد أم لا؟ فإني لم أر كتابه في المولد. وأما السيوطي فقد صرح بتحسين بدعة المولد، وكذلك السخاوي وملا علي قاري قد نقل عنهما القول بتحسين بدعة المولد وهؤلاء ومثالهم محجوجون بالنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من المحدثات على وجه العموم وأنها شر وضلالة وأنها في النار، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في أول الكتاب فلتراجع ففيها أبلغ رد على الذين أجازوا بدعة المولد واستحسنوها وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يأمر الله فيها بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه والتي يحذر الله فيها من

فصل: رسالة محمد بن علوي

معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفته وقد ذكرت جملة من أقوال العلماء الذين ذموا بدعة المولد ونهوا عنها فلتراجع أقوالهم ففيها أبلغ رد على الذين أجازوا بدعة المولد واستحسنوها. فصل وعند مقاربة الانتهاء من الرد على الكاتب المجهول الذي نشر مقاله في مجلة المجتمع الكويتية وقفت على رسالة في المولد لمحمد بن علوي المالكي سماها "حول الاحتفال بالمولد النبوي" لم يبدأ فيها ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا بالحمد لله فكانت لذلك بتراء جذماء قطعاء، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع» ورواه أبو داود ولفظه: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع» ورواه ابن ماجه بنحوه قال السندي: الحديث قد حسنه ابن الصلاح والنووي. وروى الطبراني في الكبير عن كعب بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أجذم أو أقطع» قال الخطابي: قوله «أجذم» معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام فيه انتهى. وقال ابن علوي في - صلى الله عليه وسلم - إنه يقول بجواز الاحتفال بالمولد. والجواب أن يقال هذا القول مردود على قائله لمصادمته للنصوص الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من

البدع والأمر بردها وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع ففيها أبلغ رد على ابن علوي وعلى كل من جاز شيئًا من البدع. وقال ابن علوي في ص (4) أيضًا إننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة، بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين لأن ذكره - صلى الله عليه وسلم - والتعلق به يجب أن يكون في كل حين. والجواب أن يقال إن هذه الجملة من كلام ابن علوي قد اشتملت على أمرين عظيمين مع ما فيها من التناقض الأمر الأول: زعمه أن الاحتفال بالمولد سنة، فجعل البدعة التي أحدثها سلطان إربل من السنة وهذا من الاستدراك على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - لن الله تعالى يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ومن زعم أن الاحتفال بالمولد سنة فقد جعله من مكملات الدين ويلزم على قوله أن يكون الدين ناقصًا إلى أكمله سلطان إربل بعيد المولد الذي قد أحدثه وسن الاحتفال به وما الاستدراك على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حث على الأخذ بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين لا غير فما ما سوى ذلك من المحدثات في لدين فقد حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاية التحذير وأمر بردها وأخبر أنها شر وضلالة وأنها في النار، وما كان الأمر فيه هكذا فلا يقول عاقل إنه من السنة، ومن كابر وزعم أنه من السنة فلازم قوله أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قصر في البيان والتبليغ حيث ترك سنة سلطان إربل في المولد فلم يذكرها ولم يأمر بالأخذ بها مع سنته وسنة الخلفاء الراشدين.

الأمر الثاني: قوله إنه يجب التعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حين وهذه لكلمة من الشرك بالله تعالى لأن التعلق إنما يكون بالله وحده فهو الذي يتعلق به جميع الخلائق في جلب النفع ودفع الضر وقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} وفي هذه الآية والآية قبلها أبلغ رد على ابن علوي وعلى غيره ممن يتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويرجو الإمداد منه كما سيأتي ذلك في كلام ابن علوي وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا فماذا يستفيد المتعلقون به والراجون للإمدادات منه؟. وأما التناقض في كلام ابن علوي ففي زعمه أن الاحتفال بالمولد سنة، ثم نقض ذلك في الخامس من أدلته على جواز الاحتفال بالمولد فصرح فيه أن الاحتفال بالمولد بدعة قال ولكنها حسنة، وكما أن الجملة الأولى من كلام ابن علوي تستلزم الاستدراك على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالجملة الثانية من كلامه تستلزم مناقضة النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم البدع والتحذير منها والأمر بردها، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (¬1) وليراجع أيضًا (¬2) ما نقله الشاطبي عن ابن الماجشون قال: سمعت مالكًا يقول من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله يقول {الْيَوْمَ ¬

(¬1) ص: (10، 11). (¬2) ص (15).

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا انتهى. فليتأمل ابن علوي كلام إمام المذهب الذي ينتمي إليه ولا ينس قول الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. وفي ص (4) زعم ابن علوي أن الاجتماعات يعني في المولد وسيلة للدعوة إلى الله. والجواب أن يقال: هذا من مغالطات ابن علوي وتأييده لبدعة المولد بما لا حقيقة له في الواقع، والذي يعرفه أهل العلم عن الاجتماعات في المولد أنها وسيلة إلى الافتتان ببدعة المولد واستحسانها وعدم المبالاة بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات وأمره بردها، فهذا هو الذي يشهد به الواقع من حال الذين يحتفلون بالمولد من العوام وأشباه العوام من الذين ينتسبون إلى العلم وليسوا من أهله، وهي أيضًا وسيلة إلى فتن ومفاسد كثيرة، وقد ذكر ابن الحاج في كتابه المسمى "بالمدخل" والشقيري في كتابه المسمى "بالسنن والمبتدعات" كثيرًا من المنكرات التي تفعل في بدعة المولد، وقد ذكرت كلامهما في ذلك قريبًا فليراجع ففيه أبلغ رد على المغالطة التي موه بها ابن علوي على من لا علم عندهم بمفاسد الاحتفال بالمولد. وفي آخر ص (5) إلى أثناء صفحة (19) ذكر ابن علوي أدلة على جواز الاحتفال بالمولد وهي عشرون دليلا وقد ذكرها في كتابه المسمى «بالذخائر المحمدية» وهي في ص (267) إلى صفحة (274)

وقد اعتمد عليها يوسف بن هاشم الرفاعي ونقل أكثرها في مقاله المنشور في عددين من جريدة السياسة الكويتية واعتمد عليها أيضًا صاحب لمقال المنشور في مجلة المجتمع الكويتية فنقل أكثرها، وقد تقدم الرد على كل من المقالين في هذا الكتاب ولله الحمد، وفي ضمن الرد على المقالين رد على ابن علوي أيضًا إلا أن يكون في مقاله زيادة تحتاج إلى التنبيه فسوف أنبه عليها إن شاء الله تعالى. وفي آخر ص (9) وأول ص (10) قال ابن علوي فكم للصلاة عليه أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - من فوائد نبوية وإمدادات محمدية يسجد القلم في محراب البيان عاجزًا من تعداد آثارها ومظاهر أنوارها. قلت: وهذه الجملة من كلام ابن علوي مذكورة في ص (269) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية". والجواب أن يقال هذه لجملة مشتملة على الشرك بالله تعالى لأن الله تعالى هو الذي يتفضل على من شاء من عباده بالهداية والتوفيق والإمداد بأنواع الخير قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {كُلاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}. وقال تعالى مخبرًا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ *

وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} وقال تعالى مخبرًا عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}، وقال تعالى مخبرًا عن هود عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} وقال تعالى مخبرًا عن أهل الجنة {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا كما قال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}. وإذا علم هذا فليعلم أيضًا أن الفوائد والإمدادات التي ترجى من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترجى من الله وحده لا شريك له فهو الذي يجزي من صلى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - خير الجزاء ويصلي عليه بكل صلاة عشر صلوات ويسلم عليه بكل تسليمة عشر تسليمات ويكتب له عشر حسنات ويمحو عنه عشر سيئات ويرفع له عشر درجات وقد جاء في ذلك أحاديث صحيحة وليس هذا موضع ذكرها. وقال ابن علوي في ص (10) الثامن: التعرض لمكافأته بأداء

بعض ما يجب له علينا ببيان أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة. قلت: هذه الجملة من كلام ابن علوي مذكورة في صفحة ... (269) من كتابه المسمى "بالذخائر المحمدية" والجواب أن يقال إن حق النبي - صلى الله عليه وسلم - على المؤمنين أعظم من حقوق آبائهم وأمهاتهم عليهم، وقد روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يجزي ولد، والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه» قال النووي في شرح مسلم يجزي يفتح لأوله أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه انتهى. وإذا كان الولد لا يكافئ إحسان والده عليه ولا يقضي حقه إلا بالعتق إذا وجده مملوكًا فلا ينبغي لأحد منا أن يتوهم أنه يقدر على مكافأة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما الله تعالى هو الذي يكافئه عنا، وحسبنا أن نحرص على طاعته واتباع هديه والتمسك بسنته ورد ما خالفها من البدع والضلالات وينبغي أيضًا أن نحرص على الإكثار من الصلاة والسلام عليه في كل وقت وحين ولا نجعل ذلك من خصائص ليلة المولد فإن ذلك بخس لحقه - صلى الله عليه وسلم - مع ما فيه من ارتكاب نهيه عن المحدثات ومخالفة أمره بردها. وفي أثناء ص (19) إلى آخر ص (21) نقل ابن علوي جملا من كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" وهي العبارات الموهمة التي إذا سمعها من لا علم عنده ظن أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يرى جواز الاحتفال بالمولد، مع أنه قد صرح إن الاحتفال بالمولد بدعة، وقد ذكر

الكاتب المجهول الذي نشرت مقالته في مجلة المجتمع الكويتية بعض ما ذكره ابن علوي عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وتقدم الرد عليه قريبًا فليراجع (¬1) ففيه رد على ابن علوي أيضًا. وذكر ابن علوي في ص (22) مفهوم المولد في نظره، ثم قال: فلو اجتمعنا على شيء من المدائح التي فيها ذكر الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وفضله وجهاده وخصائصه ولم نقرأ قصة المولد النبوي التي تعارف الناس على قراءتها واصطلحوا عليها، ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ وإرشادات وإلى ما يتلوه القارئ من آيات أقول لو فعلنا ذلك فإن ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف ويحقق به معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وأظن أن هذا المعنى لا يختلف عليه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان. والجواب أن يقال إن تخصيص ليلة المولد بالاجتماع على سماع المدائح التي ذكر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يأمر به أمته ولم يفعله الصحابة ولا التابعون وتابعوهم بإحسان ولو كان ذلك خيرًا لسبقوا إليه وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الأخذ بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وأمرهم بالتمسك بها والعض عليها بالنواجذ وحذرهم من محدثات الأمور وبالغ في التحذير وأخبرهم أن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وأمرهم برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره، وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في أول الكتاب فلتراجع ففيها أبلغ ¬

(¬1) ص (196، 197).

رد على ما قرره ابن علوي في هذه الجملة من كلامه وظن أنه لا يختلف عليه اثنان، وهذا الظن مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي ص (24) إلى آخر ص (31) ذكر ابن علوي ما يفعله المفتونون ببدعة المولد من القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد على الذين يظنون أن الناس يقومون معتقدين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل إلى المجلس في تلك اللحظة بجسده الشريف، وقد تبرأ ابن علوي من هذا الظن ورد على الذين يعتقدونه ثم نقض بعض ما تبرأ منه فزعم في آخر ص (25) أن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - جوالة سياحة في ملكوت الله ويمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور والعلم وقرر نحو ذلك في ص (31). والجواب: أن يقال أما القيام في الاحتفال بالمولد النبوي عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الدنيا فهو من المحدثات الداخلة في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القيام له وأخبر أن ذلك من فعل الأعاجم قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئًا على عصا فقمنا إليه فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا» رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وقال المنذري في

«الترغيب والترهيب» إسناده حسن، وروى البخاري في "الأدب المفرد" بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: «ما كان شخص أحب إليهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» ورواه الإمام أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كره القيام له ونهى عنه وأخبر أنه من فعل الأعاجم فكيف بالقيام عند ذكر ولادته وخروجه إلى الدنيا، فهذا أولى بالنهي لجمعه بين البدعة والتشبه بالأعاجم وقد تقدم كلام رشيد رضا في هذا القيام المبتدع وتصريحه أنه من جملة البدع وما نقله عن ابن حجر المكي من التصريح بأنه بدعة فليراجع ما تقدم عنها (¬1). وأما قول ابن علوي في ص (25) أن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - جوالة سياحة في ملكوت الله. فجوابه أن يقال إثبات مثل هذا يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة ولا دليل على ذلك، فأما التخرص واتباع الظن فليس بدليل لقول الله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وفي الحديث الصحيح: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأما قوله في ص (25)، ص (26) ويمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهدة النور والعلم، وكذلك أرواح خلص المؤمنين من أتباعه. ¬

(¬1) ص (164، 165).

فجوابه أن يقال هذا من شطحات الصوفية وأتباعهم من ذوي الجهل المركب. والعاقل ينزه نفسه عن الإصغاء إلى هذه الشطحات والدعاوي الباطلة، وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فالأنفس المرسلة هي أنفس الأحياء وهي التي تجول مع أصحابها فيما شاءوا من الأرض، وأما الأنفس التي قد أمسكها الله تعالى وهي أنفس الموتى فهذه لا يعلم بحالها إلا الله تعالى، ومن زعم أنها أو بعضها يجول ويسبح في ملكوت الله تعالى فقد تكلف ما لا علم له به وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}. وفي ص (26) شرع ابن علوي يوجه القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتوجيهات باطلة، وذكر في ص (27) أنه قد استحسنه من استحسنه من أهل العلم. ونقل عن البرزنجي ما ذكره عن بعضهم من استحسان القيام وأن أهل العلم والفضل والتقي قد سنوه إلى أن قال في آخر ص (28) أن من لم يقم قد يفسر موقفه ذلك بسوء الأدب أو قلة الذوق أو جمود الإحساس. والجواب: أن يقال كل ما ذكره ابن علوي في الصفحات الثلاث وما نقله عن البرزنجي فهو مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود وبقوله أيضًا: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وبقوله أيضًا: «وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» فهذه الأحاديث الصحيحة تقضي على كل ما جاء في

كلام ابن علوي والبرزنجي من التوجيه والترغيب في بدعة القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا}. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وأما ما نقله ابن علوي عن البرونجي أنه قال إن أهل العلم والفضل والتقى قد سنوا القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه أن يقال لا شك إن هذه السنة من سنن الشر التي يترتب عليها عظيم الوزر لما فيها من المعارضة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القيام له وكراهيته لذلك كما تقدم في حديثي أبي إمامة الباهلي وأنس بن مالك رضي الله عنهما وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء» رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة وحذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وأبي جحيفة وعمرو بن عوف المزني وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم نحو ذلك، وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول كتابي "فصل الخطاب في الرد على أبي تراب" فلتراجع هناك.

وإذا علم ما يترتب على سنن الشر من كثرة الأوزار فليعلم أيضًا أن الذين سنوا بدعة القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسوا بأهل أن يوصفوا بالعلم والفضل والتقى، وإنما يوصفون بالجهل وسوء الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين الذين كانوا لا يقومون للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما يعلمون من كراهيته لذلك. وأما قول ابن علوي إن من لم يقم قد يفسر موقفه ذلك بسوء الأدب أو قلة الذوق أو جمود الإحساس. فجوابه أن يقال إن سوء الأدب على الحقيقة وقلة الذوق وجمود الإحساس إنما هو في استحسان البدع وتأييدها والرغبة عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة الأحاديث الثابتة عنه في ذم البدع والتحذير منها والأمر بردها ومخالفة ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، فإن هؤلاء لم يكونوا يعرفون الاحتفال بالمولد فضلا عما ابتدعه الجهال فيه من القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن القيام له وقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا». وتقدم في حديث أنس رضي الله عنه: «أنهم كانوا إذا رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» فما فعله الصحابة رضي الله عنهم من ترك القيام للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأدب الحسن الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ورضيه لهم، وما خالفه فهو من سوء الأدب الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكرهه لأصحابه، وقد قال الله تعالى:

{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وبعد فهل يقول ابن علوي إن ترك الصحابة، رضي الله عنهم للقيام للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند رؤيته قد يفسر بسوء الأدب أو قلة الذوق أو جمود الإحساس كما قد قال ذلك في ترك القيام عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الدنيا؟ أم ماذا يجيب به عن كلامه الذين لم يتثبت فيه ولم ينظر إلى ما يلزم عليه من معارضة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القيام له وكراهيته لذلك وما يلزم عليه أيضًا من الطعن في الصحابة رضي الله عنهم من أجل تركهم القيام للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند رؤيته فابن علوي بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما أن يرجع عن كلامه الذي لم يتثبت فيه وإما أن يبوء بما يلزم على كلامه من معارضة النبي - صلى الله عليه وسلم - والطعن في الصحابة رضي الله عنهم وما أعظم ذلك وأشد خطره. وفي ص (29) إلى آخر ص (31) ذكر ابن علوي خمسة وجوه في استحسان القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - الوجه الأول: أنه جرى عليه العمل في سائر الأقطار والأمصار واستحسنه العلماء شرقًا وغربًا، والقصد به تعظيم صاحب المولد الشريف - صلى الله عليه وسلم - وما استحسنه المسلمون فهو عند الله حسن وما استقبحوه فهو عند الله قبيح كما تقدم في الحديث.

والجواب أن يقال: أما قوله إنه جرى عليه العمل في سائر الأقطار والأمصار فهو من مجازفاته ومن أين له العلم بأن سائر أهل الأقطار والأمصار يعملون بدعة المولد وإنهم يقومون عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا القول مبني على اتباع الظن والقول بغير علم وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} وقال تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهذه الجزيرة العربية التي هي من أكبر الأقطار والأمصار الإسلامية لا يعرف عن أهلها الاحتفال ببدعة المولد فضلاً عن القيام الذي ابتدعه الجهال زيادة على بدعة المولد. وأما قوله واستحسنه العلماء شرقًا وغربًا. فجوابه أن يقال وهذا أيضًا من المجازفات المردودة فإن القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستحسنه أحد من العلماء المعتبرين وإنما يستحسنه الجهال وأمثالهم من الذين ينتسبون إلى العلم وليسوا من أهل العلم وقد تقدم (¬1) عن ابن حجر المكي ورشيد رضا أنهما صرحا بأن هذا القيام بدعة. وأما قوله والقصد به تعظيم صاحب المولد الشريف - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقال ليس في قيام الجهال عند ¬

(¬1) ص (164، 165).

ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من التعظيم المشروع في حقه - صلى الله عليه وسلم - وإنما فيه ارتكاب نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن القيام له ومضاهاة الأعاجم بالقيام الذي يقصدون به التعظيم وهو الذي تسميه العامة الاحترام، وفيه أيضًا مخالفة هديه - صلى الله عليه وسلم - في كراهة القيام له، وقد ذكرت قريبًا ما رواه أبو أمامة الباهلي وأنس بن مالك، رضي الله عنهما في ذلك فليراجع إلى الحديثين (¬1) ففيهما أبلغ رد على الذين زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة وأوهمهم أن قيامهم المبتدع فيه تعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بضد ذلك ولو كان في هذا القيام المبتدع أدنى شيء من التعظيم المشروع في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لكان الصحابة رضي الله عنهم أسبق إليه من غيرهم فإنهم كانوا أشد الأمة تعظيمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأشدهم بعدًا عما كان يكرهه وينهى عنه من الأقوال والأفعال، وكذلك كان التابعون وتابعوهم بإحسان وهل يظن الذين يحتفلون بالمولد ويقومون عند ذكر ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم قد بلغوا في تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- غاية لم يبلغها الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون وتابعوهم بإحسان إنه لا يظن ذلك إنسان له أدنى مسكة من عقل. الوجه الثاني: أن يقال إنه لا ينبغي تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بما شرعه الله تعالى في حقه من التعظيم ولا يجوز أن يعظم بالبدع ولا بما كان يكرهه وينهى عنه من القيام الذي هو من فعل الأعاجم ولا شك أن تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬

(¬1) ص (209، 210).

واجب على كل مؤمن، وإنما يكون ذلك بطاعة أوامره واجتناب نواهيه واتباع هديه والتمسك بسنته وإحياء ما أميت منها ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بحسب الاستطاعة فهذا هو الغاية في تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فمن سلك سبيلهم فقد اهتدى ومن سلك سبيلا غير سبيلهم فقد ضل وهلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وأما قوله وما استحسنه المسلمون فهو عند الله حسن وما استقبحوه فهو عند الله قبيح كما تقدم في الحديث. فجوابه أن يقال قد روي الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: «إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحاب خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ» وما ذكرت فيما تقدم أن قول ابن مسعود رضي الله عنه فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، إنما أراد به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد به من بعدهم فما رآه الصحابة رضي الله عنهم حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئ، فأما استحسان الجهال للبدع في الدين فليس بحسن عند الله، ولا عند

المؤمنين؛ لأن البدع في الدين من عمل الشيطان وتضليله. وما كان من عمل الشيطان فهو سيئ عند الله وعند المؤمنين والدليل على أن البدع في الدين من عمل الشيطان قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وفي المسند بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ورواه الحاكم في مستدركه وصححه والشاهد منه قوله في السبل إن على كل سبيل منها شيطانًا يدعو إليه والسبل هي البدع في الدين فمن دعا إلى شيء منها فلا شك أنه من إخوان الشياطين ومن استحسن شيئًا منها فهو على خطر عظيم، وقد ذكرت في أول الكتاب تشديد الإمام مالك على من يستحسن البدع في الدين فليراجع كلامه فإنه مهم جدًا». وقال ابن علوي في ص (29) الوجه الثاني أن القيام لأهل الفضل مشروع بالأدلة الكثيرة من السنة. والجواب أن يقال بل القيام مكروه ومنهي عنه بالأدلة الصريحة من السنة، وسواء في ذلك القيام لأهل الفضل وغيرهم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد الخلق وإمام أهل الفضل على

الإطلاق كان يكره القيام له، وقد نهى أصحابه أن يقوموا له وقال لهم: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا» وهذا الحديث مروي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وقد تقدم ذكره قريبًا وتقدم أيضًا حديث أنس رضي الله عنه قال: «ما كان شخص أحب إليهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة عن أبي مجلز (¬1) قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر اجلس فإن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار» وقد رواه البخاري في الأدب المفرد بإسنادين صحيحين على شرط مسلم وبوب عليه بقوله «باب قيام الرجل للرجل تعظيمًا» وبوب عليه أبو داود وعلى حديث أبي أمامة الذي تقدم ذكره بقوله باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك وبوب الترمذي على حديثي أنس ومعاوية رضي الله عنهما بقوله باب كراهية قيام الرجل للرجل. وقد فرق النووي وغيره من العلماء بين القيام لأهل الفضل والخير وبين القيام لغيرهم فجازوه لأهل الفضل والخير ولم يجيزوه لغيرهم وهذا التفريق لا دليل عليه وفي الأحاديث التي تقدم ذكرها عن أبي أمامة وأنس ومعاوية رضي الله عنهم، أبلغ رد على من قال بهذا التفريق، وقد قال إسحاق بن إبراهيم خرج أبو عبد الله يعني ¬

(¬1) بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام بعدها زاي اسمه لاحق بن حميد السدوسي.

أحمد بن حنبل على قوم في المسجد فقاموا له فقال: لا تقوموا لأحد فإنه مكروه وقال أحمد أيضًا في رواية مثنى: لا يقوم أحد لأحد وقال حنبل: قلت لعمي: ترى للرجل أن يقوم للرجل إذا رآه قال لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو أمه، فأما لغير الوالدين فلا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وظاهر هذه الروايات عن أحمد أنه لا فرق بين القيام لأهل الفضل والخير وبين القيام لغيرهم ودليل ذلك ما تقدم عن أبي إمامة وأنس ومعاوية رضي الله عنهم وقد روي عن الإمام مالك نحو قول الإمام أحمد. قال ابن القاسم في المدونة قيل لمالك الرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه قال أكره ذلك ولا بأس أن يوسع له في مجلسه قال وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا فليس هذا من فعل أهل الإسلام. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: أبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم فاستحبوا لطائفة وكرهوه لأخرى والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر قال وأما أحمد فمنع منه مطلقًا لغير الوالدين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأئمة ولم يكونوا يقومون له فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقًا خطأ وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور تقتضي ذلك، وما أراد أبو عبد الله والله أعلم إلا لغير القادم من سفر فإنه قد نص على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم فلا بأس به، وحديث سعد يخرج على هذا وسائر الأحاديث فإن القادم يتلقى لكن هذا قام فعانقهم والمعانقة لا تكون إلا بالقيام وأما

الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته والذي ليس من عادته المجيء إليه فمحل نظر فما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام كإمام المسجد أو السلطان في مجلسه أو العالم في مقعده فاستحباب القيام له خطأ بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب انتهى. وقصة ابن أبي ذئب التي أشار إليها الشيخ قد ذكرت له مع المهدي وأنه لما حج دخل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال المسيب بن أبي زهير لابن أبي ذئب قم هذا أمير المؤمنين فقال: ابن أبي ذئب إنما يقوم الناس لرب العالمين فقال المهدي: دعه فلقد قامت كل شعرة في رأسي، وقد ذكر هذه القصة الخطيب في تاريخه والذهبي في تذكرة الحفاظ. وأما حديث سعد الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله تعالى فالمراد به حديث سعد بن معاذ رضي الله عنه حين جاء ليحكم في بني قريظة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار «قوموا إلى سيدكم» وسيأتي الكلام على هذا الحديث قريبًا إن شاء الله تعالى. وإذا علم أن القيام مكروه ومنهي عنه لما فيه من التشبه بالأعاجم وأن النهي عام لأهل الفضل وغيرهم فليعلم أيضًا أن القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالكراهة والمنع لأنه من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفها بالشر والضلالة وأمر بردها. وقد ذكرت الأحاديث في ذلك في أول الكتاب فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على ابن علوي وعلى غيره من ¬

(¬1) ص10 - 11.

ذوي الغلو والإطراء ومجاوزة الحد فيما يزعمون أنه من تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن علوي في ص (29) وص (30) الوجه الثالث ورد في الحديث المتفق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - خطابًا للأنصار قوموا لسيدكم وهذا القيام كان تعظيمًا لسيدنا سعد رضي الله عنه ولم يكن من أجل كونه مريضًا وإلا لقال قوموا إلى مريضكم ولم يقل إلى سيدكم ولم يأمر الجميع بالقيام بل كان قد أمر البعض. والجواب: أن يقال إما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار بالقيام إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه لينزلوه عن الحمار لأنه كان مريضًا بسبب الجرح الذي أصابه يوم الخندق، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواها بإسناد حسن من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا آثار الناس فذكر الحديث مطولا في قصة الخندق وحصار بني قريظة وفيه أن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتي به على حمار قال: قال أبو سعيد فلما طلع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قوموا إلى سيدكم فانزلوه» فقال عمر سيدنا الله عز وجل قال: «فانزلوه» الحديث قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري سنده حسن، وقال الهيثمي فيه محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات قال الحافظ ابن حجر: وهذه الزيادة يعني قوله "فانزلوه" تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه انتهى.

قلت: وفي هذه الزيادة أبلغ رد على من استدل بقصة سعد، رضي الله عنه على جواز القيام المنهي عنه وهو ما قصد به التعظيم فأما الاستدلال بقصة سعد، رضي الله عنه على استحسان القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي غاية البعد والتكلف والتعسف ومن قياس الضلالة على الأمور الجائزة، وهذا القياس الفاسدة مردود بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات وأمره بردها. وقال ابن علوي في ص (30) الوجه الرابع كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم تعظيمًا للداخل عليه وتأليفًا كما قام لابنته فاطمة وأقرها على تعظيمها له بذلك وأمر الأنصار بقيامهم لسيدهم فدل ذلك على مشروعية القيام وهو - صلى الله عليه وسلم - أحق من عظم لذلك. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما: أن يقال بل المعروف من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكره القيام وينهى عنه وقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا». وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك قريبًا فلتراجع فما القيام للداخل عليه فلم يرو عنه أنه كان يفعل ذلك إلا مع ابنته فاطمة رضي الله عنها كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قال: «ما رأيت أحدًا كان أشبه سمتًا وهديًا ودلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاطمة رضي الله عنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في

مجلسها» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم إلى ابنته إذا دخلت عليه ليأخذ بيدها ويقبلها ويجلسها في مجلسه ومثل ذلك قيامها إليه إذا دخل عيها فإن المقصود منه أن تأخذ بيده وتقبله وتجلسه في مجلسها. وليس هذا من القيام المكروه وإنما هو من جنس القيام إلى القادم لتلقيه ومصافحته أو معانقته أو تقبيله أو إنزاله عن دابته كما تقدم في قصة سعد بن معاذ رضي الله عنه حين جاء للحكم في بني قريظة ومن هذا الباب ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريانًا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانًا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قولها عريانًا تريد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ساترًا ما بين سرته وركبته ولكن سقط رداؤه عن عاتقه فكان ما فوق سرته وما تحت ركبته عريانًا قال الطيبي وكان هذا من شدة فرحه حيث لم يتمكن من تمام التردي بالرداء حتى جره وكثيرًا ما يقع مثل هذا انتهى. فأما ما بين السرة والركبة فإنه لم يكن يرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم كلهم بإسناد واحد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره فقال له العباس عمه: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة قال: فحله فجعله على منكبيه فسقط مغشيًا عليه فما رئي بعد ذلك اليوم عريانًا.

ومن هذا الباب أيضًا ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب أن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثب إليه فرحًا وما عليه رداء حتى بايعه. ومن هذا الباب أيضًا ما جاء في الصحيحين وغيرهما في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما تاب الله عليه قال: وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني الحديث فهذا وما أشبهه من القيام جائز كما دلت عليه هذه الأحاديث وهو قيام إلى الشخص لتلقيه وليس من القيام له لأجل تعظيمه بالقيام. والقيام إلى الشخص من فعل العرب، والقيام له أو عليه من فعل العجم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في «تهذيب السنن»: المذموم القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم فلا بأس به انتهى. الوجه الثاني: أن يقال لا يخفى ما في كلام ابن علوي من التقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث زعم أنه كان يقوم تعظيما للداخل عليه ولو كان يفعل ذلك لكان يقوم لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليفعل شيئًا كان يكرهه لنفسه وينهى عنه ويشدد فيه؛ لأن هذا من التناقض الذي ينزه عنه آحاد العقلاء فيكف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أحق أن ينزه عن التناقض الذي يستلزمه كلام ابن علوي، فأما قيام

النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها وقيامه إلى زيد بن حارثة رضي الله عنه حين قدم من السفر وقيامه إلى عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه حين قدم مسلمًا فهو من القيام إلى الشخص لتلقيه وذلك جائز كما تقدم بيان ذلك في الوجه الأول وليس من القيام الذي يراد به التعظيم كما قد توهم ذلك ابن علوي. وأما قوله وأمر الأنصار بقيامهم لسيدهم فقد تقدم الجواب عنه وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالقيام إليه لينزلوه عن الحمار؛ لأنه كان مريضًا وفي حديث أبي سعيد الذي تقدم ذكره (¬1) أبلغ رد على من قال إن الأمر بالقيام إليه للتعظيم. وأما قوله: فدل على مشروعية القيام. فجوابه: أن يقال أما القيام الذي يراد به التعظيم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كرهه ونهى عنه وشدد فيه كما تقدم بيان ذلك فيما رواه أبو أمامة الباهلي وأنس ومعاوية رضي الله عنهم وأما القيام لتلقي القادم أو ليجلسه القائم إليه في مجلسه أو ليعانقه أو يقبله أو ينزله عن دابته فهذا جائز كما دلت على ذلك الأحاديث التي تقدم ذكرها في قصة فاطمة وسعد بن معاذ وزيد بن حارثة وعكرمة بن أبي جهل وليس هذا من القيام الذي يراد به التعظيم وقد تقدم بيان ذلك في الوجه الأول. وأما قوله وهو - صلى الله عليه وسلم - أحق من عظم لذلك. ¬

(¬1) ص 222.

فجوابه أن يقال: إن النبي قد كره القيام له ونهى أصحابه عن ذلك وقال لهم: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا» وشدد في ذلك كما تقدم في حديث معاوية، رضي الله عنه وبهذا يعلم أنه ليس في القيام للنبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيم له وإنما فيه ارتكاب نهيه ومقابلته بما كان يكرهه، واستدلال ابن علوي بما ذكره في هذا الوجه على استحسان القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - مردود بالأحاديث التي تقدم ذكرها وبقوله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الحديث الصحيح ينقض كل ما لفقه ابن علوي وغيره في تأييد بدعة المولد وبدعة القيام عند ذكر ولادة النبي، - صلى الله عليه وسلم - ويجتث أقوالهم الباطلة من أصلها وليس لأحد قول مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن علوي في ص (30) الوجه الخامس قد يقال إن ذلك في حياته وحضوره، - صلى الله عليه وسلم - وهو في حالة المولد غير حاضر ثم أجاب ابن علوي عن ذلك بقوله في ص (31) إن قارئ المولد الشريف مستحضر له، - صلى الله عليه وسلم - بتشخيص ذاته الشريفة فهو عليه الصلاة والسلام قادم في العالم الجسماني من العالم النوراني من قبل هذا الوقت بزمن الولادة الشريفة وحاضر عند قول التالي فولد - صلى الله عليه وسلم - بحضور ظلي هو أقرب من حضوره الأصلي ويؤيد هذا الاستحضار التشخيص والحضور الروحاني أنه عليه الصلاة والسلام، متخلق بأخلاق ربه وقد قال عليه الصلاة

والسلام في الحديث القدسي (أنا جليس من ذكرني) وفي رواية (أنا مع من ذكرني) فكان مقتضى تأسيه بربه وتخلقه بأخلاقه أن يكون - صلى الله عليه وسلم - حاضر مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه، بروحه الشريفة ويكون استحضار الذاكر ذلك موجبًا لزيادة تعظيمه - صلى الله عليه وسلم -. والجواب أن يقال: إن كلام ابن علوي في هذا الموضع قد اشتمل على بلايا شنيعة وطامات فظيعة الأولى منها زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضر عند قول التالي فولد - صلى الله عليه وسلم - بحضور ظلي هو أقرب من حضوره الأصلي. والجواب أن يقال: هذا من الشطحات التي يتوهمها غلاة الصوفية وأتباعهم من الهمج الرعاع الذين قد لعب الشيطان بعقولهم وزين لهم أعمالهم السيئة وأوهمهم حضور الروح النبوية عند بدعهم في المولد وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه غاية التنزيه عما يتوهمه الجاهلون من حضور روحه عند بدعهم التي قد حذر منها - صلى الله عليه وسلم - وأمر بردها وأخبر أنها شر وضلالة. ويقال أيضا إن الحضور الظلي تابع لحضور الذات فلا يتصور حضور ظل بدون حضور الذات التي ينبعث عنها الظل فيلزم على قول ابن علوي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حاضرًا عند بدعة المولد بذاته التي قد انبعث عنها الظل وقد رد ابن علوي في

ص (24)، وص (25) على الذين يظنون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل إلى مجالسهم في بدعة المولد بجسده الشريف عند ذكرهم لولادته وقيامهم من أجله، وقد بالغ ابن علوي في الرد عليهم وتبرأ من هذا الظن، وصرح أنه من الجراءة على مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحكم على جسده الشريف بما لا يعتقده إلا ملحد مفتر وأنه افتراء محض وفيه من الجراءة والوقاحة والقباحة ما لا يصدر إلا من مبغض حاقد أو جاهل معاند. قال والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى من ذلك وأكمل وأجل من أن يقال في حقه أنه يخرج من قبره ويحضر بجسده في مجلس كذا في ساعة كذا، هذا كلام ابن علوي وهو كلام جيد جدًا لو أنه اقتصر عليه لكنه نقضه بقوله في ص (31) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضر عند قول التالي فولد - صلى الله عليه وسلم - بحضور ظلي هو أقرب من حضوره الأصلي. وأقول لا يخفى على عاقل أن الحضور الظلي لا يكون إلا بعد حضور الجسد الذي ينبعث عنه الظل فإذا لم يكن الجسد حاضرًا فإن الظل يكون معدومًا، وهذا معلوم بالضرورة عند كل عاقل، ومن عارض في هذا فإنما يبرهن على كثافة جهله ونقصان عقله. الثانية: من البلايا والطامات زعمه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- متخلق بأخلاق ربه، وهذه كلمة بشعة جدًا من حيث إطلاقها على الله تعالى ومن حيث إطلاقها على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأما بشاعتها من حيث إطلاقها على الله تعالى فلأنه شبه الخالق بالمخلوقين ووصفه بصفاتهم وذلك في زعمه أن الرب تبارك وتعالى له أخلاق قد تخلق بها النبي -صلى الله عليه وسلم- والأخلاق من

صفات المخلوقين التي لا تطلق على غيرهم قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال تعالى مخبرًا عن قوم هود إنهم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} والأحاديث في مدح الأخلاق الحسنة وذم الأخلاق السيئة كثيرة جدًا قال ابن الأثير في النهاية وابن منظور في لسان العرب الخلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجية وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها انتهى. وإذا علم هذا فليعلم أيضا أنه لم يأت في الكتاب ولا في السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إطلاق الأخلاق على الله تعالى ولم يأت ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وعلى هذا فإطلاق الأخلاق على الله تعالى بدعة وتشبيه له بخلقه والله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكما أن له ذاتًا لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقد قال نعيم بن حماد شيخ البخاري من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد شيئًا مما وصف الله به نفسه كفر، وهذا الذي قاله نعيم بن حماد هو مذهب هل السنة والجماعة لا خلاف بينهم في ذلك. وأما بشاعتها من حيث إطلاقها على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلكونه قد جعله شريكًا لله في صفاته وأفعاله لأن قوله إن الرسول متخلق بأخلاق ربه معناه أنه متصف بصفاته وفاعل مثل أفعاله ويلزم على هذا التشريك والتسوية بين الله وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخلق

ويرزق ويحيى ويميت ويدبر الأمر ويفعل كل ما هو من خصائص الرب تبارك وتعالى، وهذا أعظم من شرك أهل الجاهلية لأن أهل الجاهلية كانوا يفردون الرب تبارك وتعالى بأفعال الربوبية وإنما كانوا يشركون به في توحيد الألوهية. الثالثة: من البلايا والطامات قوله فكان مقتضى تأسيه بربه وتخلقه بأخلاقه أن يكون - صلى الله عليه وسلم - حاضرًا مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه بروحه الشريفة. والجواب: أن يُقال إن هذه الكلمة من الشرك الأكبر لأن معنى التأسي بالغير هو الاقتداء به حتى يكون مثله ومعنى التخلق بأخلاقه هو أن يتصف بصفاته حتى يكون مثله، قال ابن منظور في لسان العرب الأسوة القدوة ويقال ائتنس به أي اقتد به وكن مثله، وذكر عن الليث أنه قال فلان يأتسي بفلان أي يرضى لنفسه ما رضيه ويقتدي به وكان في مثل حاله، والقوم أسوة في هذا الأمر أي حالهم فيه واحدة والتأسي في الأمور الأسوة وكذلك المواساة، وقال الهروي تأسى به اتبع فعله واقتدى به انتهى. وإذا علم معنى التأسي في لغة العرب وأنه اتباع فعل الغير والاقتداء به حتى يكون مثله فليعلم أيضًا أن التأسي والاقتداء إنما يكون من المخلوقين بعضهم لبعض قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية إلى قوله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ

مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» فأما الرب تبارك وتعالى فإنه لا يقدر أحد من المخلوقين أن يتأسى به ويقتدي به حتى يكون مثله قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي هل تعلم له نظيرًا أو مثلا أو شبيهًا مأخوذ من المساماة وهي المماثلة، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فمن زعم أن أحدًا من المخلوقين يقدر على أن يتأسى بالله ويقتدي به حتى يكون مثله فقد جعله ندًا لله تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو دون ما زعمه ابن علوي من تأسي النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه وتخلقه بخلاقه فأنكر على الذين قالوا له أنت سيدنا وأنكر على الذين قالوا له ما شاء الله وشئت فأما إنكاره على الذين قالوا له أنت سيدنا فقد رواه أبو داود بإسناد صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنه، قال انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى» قلنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال «قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا أيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» وفي رواية «قولوا بقولكم ولا يستهوينكم

الشيطان» وفي رواية: «ولا يستجرينكم الشيطان» وفي رواية قال «والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله عز وجل». وأما إنكاره على الذين قالوا له ما شاء الله وشئت فقد رواه الإمام أحمد بأسانيد حسنة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله وشئت فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أجعلتني لله عدلا، بل ما شاء الله وحده» وروى ابن ماجه بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رجلاً من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد وذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أما والله إن كنت لأعرفها لكم، قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد» ورواه أيضا بإسناد صحيح من حديث الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، ورواه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها بأطول من حديث حذيفة، رضي الله عنه، ورواه الدارمي في مسنده بإسناد صحيح عن الطفيل أخي عائشة رضي الله عنهما، قال: قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد» ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث جابر بن سمرة، رضي الله عنهما بنحو حديث الطفيل بن سخبرة رضي الله عنه. ومن هذا الباب أيضًا ما رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه قال كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق

يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله». ومن هذا الباب أيضًا ما رواه الإمام أحمد والبخاري والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله». فهذا كله من حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك بالله تعالى، وما جاء في كلام ابن علوي من الغلو والإطراء للنبي - صلى الله عليه وسلم - فليس ببعيد من غلو النصارى في عيسى بن مريم وإطرائهم له. وأما قول ابن علوي إنه - صلى الله عليه وسلم - يكون حاضرًا مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه بروحه الشريفة. فجوابه أن يقال هذا من توهمات الجهال وشطحاتهم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام» رواه الإمام أحمد والنسائي والدارمي بأسانيد صحيحة على شرط مسلم. ورواه أيضًا ابن حبان في صحيحه وفيه رد على من توهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون حاضرًا مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه بروحه الشريفة؛ لأنه لو كان الأمر على ما زعمه هذا المتكلف القائل بغير علم لكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع سلام

الذين يسلمون عليه في الأقطار البعيدة والقريبة ولا يحتاج إلى التبليغ من الملائكة. وقد نقل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى، في «شرح التوحيد» عن «الفتاوى البزازية» من كتب الحنفية أن المؤلف قال: قال علماؤنا من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، قال الشيخ سليمان فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك وإن أراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم على كفر معتقد ذلك انتهى. وإذا علم ما ذكره صاحب "الفتاوى البزازية" عن العلماء فليعلم أيضًا أنه لا فرق بين من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون حاضرًا مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه بروحه الشريفة، وبين من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم، فليتأمل ابن علوي ما ذكره صاحب "الفتاوى البرازية" عن العلماء وليراجع الحق فإن الرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل. وفي ص (32) إلى ص (40) ذكر ابن علوي عددًا من الذين صنفوا في المولد وذكر منهم الحافظ ابن كثير، وقد ذكرت في آخر الرد على الكاتب المجهول الذي قد نشرت مقالته في مجلة المجتمع الكويتية أن ابن كثير قد ألف في المولد رسالة مختصرة وقد ذكرها ابن علوي في ص (39) وكل ما ذكره ابن كثير فيها فالظاهر أنه قد ذكره في "البداية والنهاية" ولكنه لم يتعرض في "البداية والنهاية" ولا في الرسالة لحكم الاحتفال بالمولد. وأما ابن ناصر الدين والعراقي فلا أدري هل كانا يقولان بجواز الاحتفال بالمولد أم لا فإني لم أر شيئًا مما كتباه في المولد.

ما يتعلق بسياقة النساء للسيارات

وأما الذين قالوا بجواز الاحتفال بالمولد وقالوا إنها بدعة حسنة فهم محجوجون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ومحجوجون أيضًا بتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات ونصه على إنها شر وضلالة وأنها في النار، ولا قول لأحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فصل: وأما المقام الثاني وهو ما يتعلق بسياقة النساء للسيارات فقد كثر الخوض والجدال فيه من ذوي القلوب المريضة وأدعياء الأدب والثقافة وأكثروا من الدعاوي الباطلة في معارضة القائلين بمنع النساء من السفور وسياقة السيارات وغير ذلك من أسباب الشر والفساد وقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. ومن هذا الباب قول يوسف بن هاشم الرفاعي في سياقة النساء للسيارات إنه جائز ومباح، قال وباب سد الذرائع في هذه المسألة تجاوزه الوقت. كذا قال الرفاعي ولم يأت بدليل على ما ادعاه من الجواز والإباحة وتجاوز الوقت لباب سد الذرائع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الشاعر:

والدعاوي ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء والجواب عن دعاوي الرفاعي من وجوه: أحدها: أن يقال إن المرأة عورة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيتي في حديث ابن مسعود رضي الله عنه والعورة يجب سترها ولا يجب كشفها إلا لمن يباح لهم النظر إليه، وسياقة المرأة للسيارة يستدعي كشف الوجه واليدين منها عند الرجال الأجانب وذلك غير جائز كما سيأتي بيان ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أن يقال إن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان كما سيأتي النص على ذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ومعناه أن الشيطان يتعرض لها بالفتنة فيفتنها بالرجال ويفتن الرجال بها، وسياقة المرأة للسيارة وذهابها حيث شاءت من البلد وخارج البلد فيه أعظم تعريض للفتنة، وما كان سببًا للفتنة فإنه يجب المنع منه، وقد روى الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: «إنما النساء عورة وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس فيستشرفها الشيطان، فيقول إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته، وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال أين تريدين فتقول أعود مريضًا أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها» قال المنذري: إسناده حسن وقال الهيثمي: رجاله ثقات. الوجه الثالث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رغب المرأة في لزوم بيتها فقال فيما رواه عنه ابن مسعود، رضي الله عنه: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنها أقرب ما تكون إلى الله وهي في

قعر بيتها» رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والطبراني في الكبير والأوسط، وروى الترمذي أوله وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وفي ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة في لزوم بيتها دليل على أنه ينبغي لها أن تقلل الخروج من بيتها فلا تخرج منه إلا لحاجة لا بد منها وسياقة المرأة للسيارة تستدعي كثرة خروجها من بيتها وهو مخالف لما رغبها فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الرابع: أن يقال إن سياقة النساء للسيارات تكون في الغالب وسيلة إلى أشياء محرمة، وما كان وسيلة إلى شيء محرم فهو محرم لأن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد، فمن ذلك كشف الوجوه عند الرجال الأجانب وهو من أعظم أسباب الفتنة ولا سيما إذا كانت المرأة شابة وجميلة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما ورواه مسلم أيضًا والترمذي من حديث أسامة بن زيد وسعيد بن عمرو بن نفيل، رضي الله عنهما، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى الإمام أحمد ومسلم أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» وروى الترمذي بعضه في حديث طويل، ورواه ابن ماجه مختصرًا أيضًا وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية التستر

للنساء في جميع أبدانهن إذا كن بحضرة الرجال الأجانب، وجاء عن الصحابة رضي الله عنهم آثار كثيرة في ذلك وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فأما الأدلة من الكتاب ففي ثلاث آيات منه: إحداهن قول الله تعالى في سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} قال الجوهري: الجلباب الملحفة وقال ابن حزم الجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه، وقال ابن الأثير: الجلباب ما يتغطى به الإنسان كله من ثوب أو إزار، وقال البغوي: هو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال ابن كثير في تفسيره: هو الرداء فوق الخمار قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس، رضي الله عنهما في هذه الآية قال أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة، وروى الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى. وقال الواحدي قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا

عينًا واحدة فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الزمخشري في الكشاف: ومعنى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدنى ثوبك على وجهك وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار لا فصل بين الحرة والأمة وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة يقولون حسبناها أمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرءوس والوجوه ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن طامع وذلك قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن انتهى. وقال أبو حيان في تفسيره: كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة يقولون حسبناها أمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرءوس والوجوه ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن، وقال السدي تغطى إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة، والظاهر أن قوله ونساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء لأن الفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح و "من" في جلابيبهن للتبعيض

فصل وأما الأدلة من السنة على مشروعية استتار النساء عن الرجال الأجانب

وعليهن شامل لجميع أجسادهن أو عليهن على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه انتهى. وقال ابن جزي الكلبي: في تفسيره المسمى "كتاب التسهيل لعلوم التنزيل" كان نساء العرب يكشفن وجوهن كما تفعل الإماء وكان ذلك داعيًا إلى نظر الرجال لهن فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل هو الرداء، وصورة إدنائه عند ابن عباس رضي الله عنهما أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها انتهى. الآية الثانية: قول الله تعالى في سورة النور: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} الآية. الآية الثالثة: قوله تعالى في سورة النور {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وقد ذكرت كلام العلماء على هذه الآية والآية التي قبلها في كتاب "الصارم المشهور على هل التبرج والسفور" فليراجع هناك. فصل: وأما الأدلة من السنة على مشروعية استتار النساء عن الرجال الأجانب ففي أحاديث كثيرة منها حديث عائشة، رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد متفق عليه.

ومنها حديث مسلمة رضي الله عنها، قالت كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «احتجبا منه» فقلنا يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال النووي هو حديث حسن. وقال الحافظ ابن حجر إسناده قوي، ورد النووي وابن حجر على من تكلم فيه بغير حجة وبوب الترمذي عليه بقوله: باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال" وهذا التبويب مفيد بما فهمه الترمذي من عموم الحكم لجميع نساء هذه الأمة وأنه ليس خاصًا بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - والخطاب وإن كان قد وقع معهن فغيرهن تبع لهن. ومنها حديث فاطمة بنت قيس، رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» الحديث رواه مالك والشافعي وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وفي رواية لمسلم فإنك إذا وضعت ثيابك لم يرك. وفي رواية لأحمد نحوه، وفي رواية للنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «انطلقي إلى أم شريك» وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله عز وجل ينزل عليها الضيفان قلت سأفعل قال: «لا تفعلي فإن أم شريك كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط منك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين» الحديث. وفيه دليل على أنه لا يجوز

للمرأة وضع ثيابها عند البصير من الرجال الأجانب وذلك يقتضي ستر وجهها وغيره من أعضائها عنهم. ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين» رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن إلا ابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن انتهى. ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه» رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والدراقطني. ورواه ابن ماجة أيضًا عن عائشة، رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه وبوب عليه أبو داود بقوله: «باب في المحرمة تغطي وجهها» وبوب عليه ابن ماجه بقوله «باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها» وهذا التبويب مفيد بما فهمه أبو داود وابن ماجه من عموم الحكم لجميع نساء المؤمنين. ومنها حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن محرمات فيمر بنا الراكب فتسدل المرأة الثوب من فوق رأسها على وجهها، رواه الدارقطني.

ومنها حديث أم سلمة أيضًا، رضي الله عنها قالت قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» رواه الشافعي وأحمد وأهل السنن والحكم في مستدركه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضًا الحاكم والذهبي. ومنها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والطبراني في الكبير والأوسط وزادوا فيه «وإنها أقرب ما تكون إلى الله وهي في قعر بيتها» هذا لفظ الطبراني قال المنذري: ورجاله رجال الصحيح وقال الهيثمي: رجاله موثقون. قال ابن الأثير: العورة هي كل ما يستحيا منه إذا ظهر، قال ومنه الحديث «المرأة عورة» جعلها نفسها عورة لأنها إذا ظهرت يستحيا منها انتهى. وقال الراغب الأصفهاني: العورة أصلها من العار وذلك لما يلحق من ظهورها من العار أي المذمة ولذلك سمي النساء عورة انتهى. وقال المناوي في قوله: «المرأة عورة» أي هي موصوفة بهذه الصفة، ومن هذه صفته فحقه أن يستر والمعنى أنه يستقبح تبرزها وظهورها للرجال انتهى. وأما قوله: استشرفها الشيطان فمعناه أنه تطلع إليها وتعرض لها

فصل وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم

بالفتنة قال الطيبي: والمعنى أنها ما دامت في خدرها لم يطمع فيها وفي إغواء الناس فإذا خرجت طمع وأطمع؛ لأنها حبائله وأعظم فخوخه انتهى. وهذا الحديث يدل على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب وسواء في ذلك وجهها وغيره من أعضائها وقد نقل أبو طالب عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال ظفر المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها فلا تبن منها شيئًا ولا خفها فإن الخف يصف القدم وأحب إلي أن تجعل لكمها زرًا عند يدها حتى لا يبين منها شيء. وظاهره هذه الرواية أن المرأة كلها عورة في حق الرجال الأجانب فلا يجوز لها أن تبدي عندهم شيئًا من جسدها حتى ولا الظفر، وقد ذكر الخطابي عن أحمد، رحمه الله تعالى أنه قال المرأة تصلي ولا يرى منها شيء ولا ظفرها، وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه تعالى عن أحمد رحمه الله تعالى أنه قال كل شيء منها عورة حتى ظفرها، قال الشيخ وهو قول مالك انتهى. والأحاديث الدالة على مشروعية استتار النساء عن الرجال الأجانب كثيرة جدًا وقد ذكرت جملة منها في كتاب «الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور» فلتراجع هناك. فصل وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم: فكثيرة منها ما ذكره البغوي في تفسيره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه

قال في قول الله عز وجل: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} قال: «ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاّجة ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء» ورواه ابن أبي حاتم بإسناد صحيح والحاكم في مستدركه وقال صحيح: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال الجوهري: السلفع من الرجال الجسور ومن النساء الجريئة السليطة، وقال ابن الأثير وابن منظور: السلفعة هي الجريئة على الرجال انتهى والولاجة الخراجة هي كثيرة الدخول والخروج. ومنها ما رواه سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: «تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها» إسناده صحيح على شرط الشيخين وقد رواه أبو داود في كتاب المسائل عن الإمام أحمد عن هشيم به مثله وقال فيه «تسدل المحرمة» بدل المرأة وروى وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت: سألت عائشة رضي الله عنها ما تلبس المحرمة فقالت: «لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها» ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى في "إعلام الموقعين" ورجاله رجال الصحيح. ومنها ما رواه أبو داود في كتاب "المسائل" حدثنا حمد يعني ابن محمد بن حنبل قال: حدثنا يحيى وروح عن ابن جريح قال أخبرنا عطاء قال: خبرنا أبو الشعثاء أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به» قال روح في حديثه قلت: وما لا تضرب به فأشار لي كما تجلبب المرأة ثم أشار لي ما على خدها

من الجلباب قال: «تعطفه وتضرب به على وجهها كما هو مسدول على وجهها» إسناده صحيح على شرط الشيخين. ومنها ما رواه الحاكم في مستدركه عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما قالت: «كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام» قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "تهذيب السنن" ثبت عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة انتهى، وفي تعبير أسماء رضي الله عنها بصيغة الجمع في قولها «كنا نغطي وجوهنا من الرجال» دليل على أن عمل النساء في زمن الصحابة رضي الله عنهم كان على تغطية الوجوه من الرجال الأجانب. ومنها ما رواه مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر قالت: «كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنها». ومنها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قالت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان قد رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي الحديث. ومنها ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن صفية بنت شيبة قالت: حدثتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول

فصل وأما الإجماع على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب

الله يرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك واحد فأمر أخي عبد الرحمن فأعمرني من التنعيم وأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة فجعلت أحسر عن خماري فتناولني بشيء في يده فقلت هل ترى من أحد. وهذه الآثار تدل على أن احتجاب النساء من الرجال الأجانب في حال الإحرام وغيره كان هو المعروف المعمول به عند نساء الصحابة فمن بعدهن، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير سورة النور قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل بصفية قال أصحابه إن أرخى عليها الحجاب فهي من أمهات المؤمنين وإن لم يضرب عليها الحجاب فهي مما ملكت يمينه فضرب عليها الحجاب، وإنما ضرب الحجاب على النساء لئلا ترى وجوههن وأيديهن والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه أن الحرة تحتجب والأمة تبرز وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة مختمرة ضربها وقال أتتشبهين بالحرائر أي لكاع إلى أن قال: والأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب ووجب غض البصر عنها ومنها انتهى. فصل وأما الإجماع على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب: فقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن ابن المنذر أنه قال: أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيط كله والخفاف وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال الأجانب.

فصل ومن الأمور المحرمة أيضا سفر المرأة بدون محرم

قلت: وهذا يقتضي أن غير المحرمة مثل المحرمة فيما ذكر بل أولى، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار عن ابن رسلان أنه حكى اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما ملخصه أن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال ونقل عن الغزالي أنه قال: لم تزل النساء يخرجن منتقبات انتهى. فصل ومن الأمور المحرمة أيضًا سفر المرأة بدون محرم: وإذا كانت المرأة تسوق السيارة وتذهب حيث شاءت فإنها حينئذ تكون على خطر عظيم وتكون مثارًا للفتنة ومطمعًا للفساق ولا بد أن تذهب إلى أي بيت أو مكان إرادته بدون رقيب وأن تخلو مع من شاءت من الرجال الأجانب بدون رقيب، ولا بد أيضًا أن تسافر بدون محرم وأن تخرج إلى التنزه في البرية بدون محرم وحينئذ تكون فريسة لذئاب الرجال وكلابهم وكما أن الشاة لا يؤمن عليها من الذئاب والكلاب إذا لم يكن معها راع يحميها منهن فكذلك المرأة لا يؤمن عليها من ذائب الرجال وكلابهم إذا كانت تسوق السيارة وتذهب وتجيء حيث شاءت وتسافر وتخرج إلى البرية بدون محرم، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر المرأة بدون محرم وأن تخلو مع الرجال الأجانب صيانة للنساء عن الوقوع فيما يدنس ويشين وحسمًا لمادة الشر والفساد. والأحاديث في نهي النساء عن السفر بدون محرم كثيرة وقد ذكرت جملة منها في كتاب «الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور» فلتراجع هناك، وأعمها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:

سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» لحديث. رواه الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم، والعمل على هذا الحديث عند أكثر العلماء قال النووي كل ما يسمى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يومًا أو بريدًا أو غير ذلك لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المطلقة «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم» وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرًا انتهى، وهذا الذي قاله النووي موافق لما نقله الميموني عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فإنه قال قلت لأحمد تحج المرأة من مكة إلى منى بغير محرم قال: لا يعجبني قلت لم. قال لأن مذهبنا لا تسافر امرأة سفرًا إلا مع ذي محرم وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات انتهى. وقال النووي ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما يسمى سفرًا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه انتهى، ونقل الزرقاني عن الأبي أنه قال الفقه جمع أحاديث الباب فحق الناظر أن يستحضر جميعها وينظر أخصها فينيط الحكم به، وأخصها باعتبار ترتيب الحكم عليه يوم لأنه إذا امتنع فيه امتنع فيما هو أكثر ثم أخص من يوم وصف السفر المذكور في جميعها فيمنع في أقل ما يصدق عليه اسم السفر، ثم أخص من اسم السفر الخلوة بها فلا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد وإن قل الزمن لعدم الأمن لا سيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب انتهى. وقال ابن العربي المالكي النساء لحم علي وضم إلا ما ذب عنه

فصل ومن الأمور المحرمة أيضا خلوة المرأة مع الرجل الأجنبي

كل أحد يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام فحض الله عليهن بالحجاب وقطع الكلام ومباعدة الأشباح إلا مع من يستبيحها وهو الزوج أو يمنع منها وهم أولو المحرمية ولما لم يكن بد من تصرفهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة ومعدن الوحدة انتهى. وقال النووي المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كبيرة وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وحيائه انتهى. فصل ومن الأمور المحرمة أيضًا خلوة المرأة مع الرجل الأجنبي: وسياقة النساء للسيارات من أعظم الأسباب لخلوتهن مع الرجال الأجانب في بيوتهم وفي المنتزهات والبرية، والخلوة بالأجنبية من أعظم الذرائع وأقرب الطرق إلى وقوع الفاحشة الكبرى وقد صرح القرطبي في تفسير سورة الممتحنة بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر ومن أفعال الجاهلية وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} لا تخلو المرأة بالرجال ذكره البغوي في تفسيره وذكر أيضًا عن سعيد بن المسيب والكلبي وعبدا لرحمن بن زيد أنهم قالوا: لا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر إلا مع ذي محرم. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخلوة بالأجنبية، وشدد في ذلك، والأحاديث في ذلك كثيرة، منها حديث ابن عباس

رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم» الحديث رواه الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم. ومنها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في مستدركه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها حديث جابر، رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان» رواه الإمام أحمد وإسناده حسن. ومنها حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له فإن ثالثهما الشيطان إلا محرم» رواه الإمام أحمد وفي إسناده ضعف، والأحاديث الصحيحة تشهد له وتقويه. ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس بينه وبينها محرم» رواه الطبراني في الكبير، ورواه أيضًا في الأوسط ولفظه «لا يدخل رجل على امرأة إلا وعندها ذو محرم» قال الهيثمي فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: «إياك والخلوة بالنساء والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا ودخل الشيطان بينهما ولأن يزحم رجل خنزيرًا متلطخًا بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له» رواه الطبراني. ومنها حديث عقبة بن عامر، رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والدخول على النساء» فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو قال: «الحمو الموت» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن عمر وجابر وعمرو بن العاص، وقال مسلم رحمه الله تعالى وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب قال: وسمعت الليث بن سعد يقول: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه، وقال الترمذي: إنما معنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» ومعنى قوله الحمو يقال: الحمو أخو الزوج كأنه كره له أن يخلو بها، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قوله: «إياكم والدخول» بالنصب على التحذير وهو تنبيه المخاطب على محذور ليحترز عنه كما قيل. إياك والأسد. وقوله إياكم مفعول بفعل مضمر تقديره اتقوا وتقدير الكلام اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء والنساء أن يدخلن عليكم، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى، انتهى. ومنها حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهانا أن ندخل على المغيبات» رواه الإمام أحمد.

ومنها حديث جابر، رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. ومنها حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» رواه أبو نعيم في الحلية. قال الترمذي المغيبة المرأة يكون زوجها غائبًا، والمغيبات جماعة المغيبة، وقال النووي المغيبة بضم الميم وكسر لغين المعجمة وإسكان الياء وهي التي غاب عنها زوجها والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب عن المنزل وإن كان في البلد، هكذا ذكره القاضي وغيره وهذا ظاهر متعين انتهى. ومنها ما رواه الحكيم الترمذي عن سعد بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم ومحادثة النساء فإنه لا يخلو رجل بامرأة ليس لها محرم إلا هم بها». وقد حكى الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء ومنهم النووي وابن حجر العسقلاني قال النووي: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام، انتهى. وقد تقدم قول الأبي لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد وإن قل الزمن لعدم المن لا سيما مع فساد الزمن والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب انتهى.

فصل وقد استهان كثير من الناس في هذه الأزمان الأخيرة بأمر الحجاب والخلوة بالأجنبيات وسفر النساء بدون محرم

فصل وقد استهان كثير من الناس في هذه الأزمان الأخيرة بأمر الحجاب والخلوة بالأجنبيات وسفر النساء بدون محرم، وذلك لضعف الإيمان والغيرة فيهم، فترى كثيرًا من النساء لا يبالين بالسفور عند الرجال الأجانب والخلوة معهم في البيوت والمنتزهات والركوب معهم في السيارات بدون محرم والتحدث معهم في مواضع الخلوة والسفر إلى البلاد البعيدة بدون محرم، وأولياؤهن لا يبالون بشيء من ذلك بمخالفتهن لأمر الشارع وارتكابهن لنهيه، وكثير من الناس يجعلون عندهم سائقين للسيارات من المسلمين وغير المسلمين ويفوضون إليهم الذهاب والمجيء بنسائهم بدون محرم يرافقهن حتى كأن السائقين الأجانب من محارمهن فيخلون بهن في البيوت والسيارات ويتحدثون معهن وينظرون إليهن ويذهبون بهن إلى الأسواق وإلى ما شئن من البيوت وغيرها ويذهبون بالمعلمات منهن والطالبات إلى المدارس، وربما ذهبوا بهن أو ببعضهن إلى المنتزهات ومواضع الخلوة، وكثير من الناس يجعلون عند أزواجهم ومحارمهم رجالا من المسلمين وغير المسلمين يخدمونهن في بيوتهن ويخلون بهن ويتحدثون معهن وينظرون إليهن وينظرن إليهم. وهذا من نتائج عدم الغيرة فيهم وإضاعتهم لما استرعاهم الله تعالى من أمور نسائهم وسيسألون يوم القيامة عما أضاعوه كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن

رعيته» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن إلا ابن ماجة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروى الإمام أحمد أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يسترعي الله تبارك وتعالى عبدًا رعية قلت أو كثرت إلا سأله الله تبارك وتعالى عنها يوم القيامة أقام فيهم أمر الله تبارك وتعالى أم أضاعه حتى يسأله عن أهل بيته خاصة» وروى أبو نعيم في الحلية عن أنس، رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته». وكثير من الناس يستجلبون الخادمات من البلدان البعيدة من المسلمات وغير المسلمات ويجعلونهن في بيوتهم مثل بعض نسائهم فيخلون بهن وينظرون إليهن ويحدثون معهم وهذا من أعظم أبواب الفتنة وأقرب الطرق إلى وقوع الفاحشة ولا سيما إذا كانت الخادمة شابة وإن كانت مع ذلك جميلة فهو أعظم للافتتان بها، فلا ينبغي للعاقل الذي يهمه دينه أن يستجلب الخادمات إلى بيته ولو كن مسنات فيعرض نفسه أو بعض من فيه بيته من إخوة وبنين إلى الفتنة بهن فإن النفس أمارة بالسوء كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز والشيطان طلاّع رصّاد وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها ورواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود أيضًا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد تقدمت الأحاديث في النهي عن الخلوة بالمرأة الأجنبية وفيها أنه ما خلا رجل بامرأة لا تخجل له إلا كان ثالثهما

فصل وأما قول الرفاعي إن باب سد الذرائع في سياقة النساء للسيارات وفي استخدام غير المسلمين قد تجاوزه الوقت

الشيطان، وفي رواية ما خلا رجل بامرأة إلا ودخل الشيطان بينهما، وفي رواية «إياكم ومحادثة النساء فإنه لا يخلو رجل بامرأة ليس لها محرم إلا هم بها» وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «إن إبليس قال لموسى عليه الصلاة والسلام إياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها» وروى أيضًا عن عبد الرحمن بن زياد قال: «إن إبليس قال لموسى عليه الصلاة والسلام لا تخلون بامرأة لا تحل لك فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها». والقصص التي تروى عن حمل الخادمات في البيوت أكثر من أن تحصر ولعل اللاتي لا يحملن أكثر وأكثر، وينبغي للعاقل أيضًا أن لا يأمن الخادمين في بيته والسائقين لسياراته على نسائه وأبنائه الصغار فإنهم غير مأمونين عليهم، وكم من قصة تروى عن حمل بعض النساء من بعض السائقين والخادمين، ولعل من لا يحملن أكثر وأكثر، والعاقل يعتبر بما جري على غيره، والسعيد من وعظ بغيره، ومن لا غيرة له على محارمه وأولاده فلا خير فيه. فصل وأما قول الرفاعي إن باب سد الذرائع في سياقة النساء للسيارات وفي استخدام غير المسلمين قد تجاوزه الوقت. فجوابه أن يقال لا يخفى ما في هذا القول الخاطئ من الجناية على الشريعة المحمدية حيث ألغى منها باب سد الذرائع في سياقة النساء للسيارات وفي استخدام غير المسلمين وزعم أن الوقت قد تجاوز ذلك، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى قاعدة سد الذرائع في

كتابه «أعلام الموقعين» وذكر دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها، ثم عقد فصلاً في سد الذرائع وأشار فيه إلى كمال الشريعة وأنها في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال، قال ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سدًا الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرماها ونهيا عنها، والذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء، ثم ذكر تسعة وتسعين مثالاً من الكتاب والسنة على سد الذرائع، ثم قال وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي والأمر نوعان أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين انتهى. وذكر الشاطبي في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة» عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه حكم قاعدة الذرائع في أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة انتهى. وفيما ذكره ابن القيم والشاطبي، رحمهما الله تعالى أبلغ رد على من زعم أن باب سد الذرائع في سياقة النساء للسيارات، وفي استخدام غير المسلمين قد تجاوزه الوقت، وهل يظن الرفاعي أن النساء في هذا الزمان معصومات عن الوقوع في المحرمات، وأن السائقين للسيارات التي يركب فيها النساء والأولاد الصغار معصومون عن الافتتان بالنساء والأولاد. ومثلهم المستخدمون في البيوت من رجال ونساء هل يظن أنهم معصومون من الوقوع في المحرمات فلا يكون لسد الذرائع حاجة في حقهم أم أنه يريد أن يرضي النساء وأشباه لنساء بما لعله يكون

موجبًا لسخط الله وعقوبته، وإذا كان سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين فهل يقول عاقل إن الوقت قد تجاوز سد الذرائع في بعض الأمور التي يخشى منها الوقوع في الحرام؟ كلا لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل، وهل يرضى عاقل أن تكون أمه أو بنته أو أخته وغيرهن من محارمه سائقة للسيارة تذهب إلى حيث شاءت من البيوت والمنتزهات وأماكن الخلوة بدون رقيب، كلا إنه لا يرضى بذلك عاقل، وإنما يرضى به من لا عقل له ولا غيرة عنده على محارمه، ولا يدعو إلى ذلك ويرضى به لنساء المسلمين إلا من هو مريض القلب لا يبالي بانتشار الشر والفساد بين المسلمين والله المسئول أن يصلح حالي وأحوال المسلمين وأن يكفي الجميع شر الأشرار وكيد الفجار وأن يرى الجميع الحق حقًا ويرزقهم اتباعه ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه ولا يجعله ملتبسًا عليهم فيضلوا. وهذا آخر ما تيسر إيراده في الرد على أخطاء يوسف بن هاشم الرفاعي والكاتب المجهول ومحمد بن علوي المالكي فيما يتعلق ببدعة المولد، وعلى أخطاء الرفاعي فيما يتعلق بسياقة النساء للسيارات واستخدام غير المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد كان الفراغ من تسويد هذا الرد في يوم الأربعاء الموافق لليوم الثالث عشر من شهر جمادى الآخرة سنة (1402) ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في ليلة الأربعاء الموافق لليوم الثاني والعشرين من شهر شوال سنة (1402) والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

§1/1