الرد القويم على المجرم الأثيم

التويجري، حمود بن عبد الله

التعريف بالكتاب المردود عليه وبمؤلفه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله نحمده ونستعينه, ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الذي أنزل على عبده الكتاب والحكمة, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قال الله فيه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) أرسله الله رحمة للعالمين, وحجة على المعاندين. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليما كثيرا. أما بعد فقد رأيت كتاباً لبعض أهل الزيغ والفساد والإلحاد من العصريين, تهجم فيه على بعض الصحابة والتابعين وعلى مائة وعشرين حديثا في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد القرآن وزعم أنها أحاديث إسرائيلية وأنه يكتسحها بالأضواء القرآنية ويطهر البخاري منها. وتهجم أيضا على غير ذلك من الأحاديث الصحيحة وقابلها بالرد والإنكار. وقد سمى المؤلف نفسه بالسيد صالح أبي بكر, وليس بسيد ولا صالح ولا كرامة له ولا نعمة عين. لما رواه أبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد عن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل» ورواه الحاكم في مستدركه والبيهقي بنحوه وصححه الحاكم. وفي تهجمه على بعض الصحابة والتابعين وعلى الأحاديث الصحيحة أوضح دليل على زيغه وفساد عقيدته وأنه ليس بصالح في الحقيقة. وقد سمى الملحد كتابه «الأضواء القرآنية, في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها «وهو مطبوع في شركة مطابع محرم الصناعية في سنة 1974 ميلادية, وقد جعله جزءين, تصدى في الجزء الأول للطعن في بعض الصحابة والتابعين والطعن في بعض الأحاديث الصحيحة أو الحسنة بالشبه الباطلة, وتصدى في الجزء الثاني للطعن في مائة وعشرين حديثا في صحيح البخاري. وكثيرا ما كان يعتمد على ظلمات الملحد أبي رية وشبهاته في كتابه الذي سماه «أضواء على السنة المحمدية» «أو دفاع عن الحديث» وهو في الحقيقة ظلمات بعضها فوق بعض ودفع للأحاديث الصحيحة واطراح لها, كما أن كلام الملحد الثاني في كتابه المسمى «بالأضواء القرآنية» كله شبهات وحمل لكتاب الله على غير محامله فهو في الحقيقة

وجوب الإيمان بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم

ظلمات بعضها فوق بعض كما سأبينه إن شاء الله تعالى. ومن تأمل كتابه لم يشك أنه محارب للإسلام والمسلمين وأنه إنما أراد بكتابه الطعن في الإسلام وأهل الإسلام. وإن أظهر ذلك في قالب الإصلاح فهو بلا شك ممن يسعى في الأرض فساداً وإن كان يزعم لنفسه أنه مصلح. وقد قال الله تعالى مخبراً عن سلف هذا الملحد (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما انحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال الملحد غاية المطابقة, طهر الله الأرض منه ومن أمثاله من المفسدين في الأرض إنه سميع مجيب. وقد رأيت من الواجب الرد على أباطيل هذا الزائغ المفتري على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وتطهير الأحاديث الصحيحة في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة من تلطيخ هذا الظالم المعتدي. والله المسئول أن يريني وإخواني المسلمين الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل, والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل. فصل وكل حديث صح إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالإيمان به واجب على كل مسلم وذلك من تحقيق الشهادة بأن محمدا رسول الله, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومن كذّب بشيء مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ممن يشك في إسلامه لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمداً رسول الله, ومن تحقيقها تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه انتهى.

تشديد أحمد وغيره من العلماء في رد الأحاديث الثابتة وتصريح بعضهم بتكفير من فعل ذلك

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). وروى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة من طريق أبي بكر الآدمي المقري حدثنا الفضل بن زياد القطان قال سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة. وذكر محمد بن نصر المروزي ونقله عنه ابن حزم في كتابه الإحكام أن إسحاق بن راهويه قال من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر. وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة الحسن بن علي بن خلف أبي محمد البربهاري - وهو من أعيان العلماء في آخر القرن الثالث وأول القرن الرابع من الهجرة - أنه قال في كتابه «شرح السنة» , إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها أو ينكر شيئا من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتهمه على الإسلام فإنه رجل رديء المذهب والقول وإنما يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه لإِنا إنما عرفنا الله وعرفنا رسوله صلى الله عليه وسلم وعرفنا القرآن وعرفنا الخير والشر والدنيا والآخرة بالآثار, وإن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. وقوله إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن معناه أن السنة تفسر القرآن وتبين معانيه وما أراد الله به فلهذا كان القرآن محتاجا إلى السنة قال الله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم). وقال البربهاري أيضا ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام. وقال البربهاري أيضا من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله ومن رد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم. وقال البربهاري أيضا واعلم أنه ليس بين العبد وبين أن يكون كافراً إلا أن

إجماع أهل الحديث والسنة على الإقرار بما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

يجحد شيئا مما أنزل الله أو يزيد في كلام الله أو ينقص أو ينكر شيئا مما قال الله عز وجل أو شيئا مما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البربهاري أيضا وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يرد الآثار أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام ولا شك أنه صاحب هوى مبتدع. وقال البربهاري أيضا وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة فقم من عنده ودعه. وقال البربهاري أيضا ومن جحد أو شك في حرف من القرآن أو في شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الله مكذبا. انتهى ملخصا مما ذكره صاحب طبقات الحنابلة. وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا أنه قال من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها وتجرأ على ردها فقد تهجم على رد الإسلام لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت انتهى. وقال الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين» جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا انتهى. وهذا حكاية إجماع من أهل الحديث والسنة على الإقرار بما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم لا يردون من ذلك شيئا, والعبرة بأهل الحديث والسنة ولا عبرة بمن خالفهم من أهل الأهواء والبدع والضلالة والجهالة. وقال الموفق أبو محمد المقدسي في كتابه «لمعة الاعتقاد» ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا نعلم أنه حق وصدق وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإسراء والمعراج, ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من

الأخذ بالحديث الصحيح فرض على الأمة

مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «إعلام الموقعين» والذي ندين به ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره انتهى المقصود من كلامه. فصل وتكذيب الأحاديث الصحيحة ليس بالأمر الهين ولا سيما ما ثبت في الصحيحين أو في أحدهما, وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد «باب فيمن كذب بما صح من الحديث» ثم ذكر حديث جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب ثلاثة, الله ورسوله والذي حدث به» رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وفيه محفوظ بن ميسور ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا انتهى. وهذا الحديث وإن لم يبلغ درجة الصحيح فمعناه صحيح لأن من كذب حديثا صحيحا فلا شك أنه قد كذب الله تعالى في قوله مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم حيث رد ما ثبت عنه برواية الثقات الأثبات. وقد كذب الرواة الثقات الذين حفظوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبلغوها إلى الأمة, ومن كذب أهل الصدق والعدالة فهو الكاذب في الحقيقة. فصل وقد ورد التشديد في معارضة السنة بالقرآن وذلك فيما رواه الإمام أحمد عن أبي رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا أعرفن ما يبلغ أحدكم من حديثي شيء وهو متكئ على أريكته فيقول ما أجد هذا في كتاب الله تعالى» في إسناده ابن لهيعة وهو حسن الحديث وفيه كلام وبقية رجاله ثقات. وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه. ورواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين ولفظه عن النبي صلى الله

عليه وسلم قال «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» ورواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه وقال الترمذي هذا حديث حسن وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أعرفن الرجل يأتيه الأمر من أمري إما أمرت به وإما نهيت عنه فيقول ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله ليس هذا فيه». وفي رواية للحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والناس حوله «لا أعرفن أحدكم يأتيه أمر من أمري قد أمرت به أو نهيت عنه وهو متكئ على أريكته فيقول ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا». وعن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وصححه الحاكم وأقره الذهبي. ولفظه عند ابن ماجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله» ورواه الترمذي والدارمي بهذا اللفظ, وفي رواية ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وذكر بقية الحديث بنحو ما تقدم. وقد بوب الترمذي على هذا الحديث وحديث أبي رافع بقوله «باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم» وبوب عليه ابن ماجه بقوله «باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه»

وترجم عليه ابن حبان بقوله «ذكر الخبر المصرح بأن سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها عن الله لا من تلقاء نفسه». وبوب عليه الآجري بقوله «باب التحذير من طوائف تعارض سنن النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل وشدة الإنكار على هذه الطبقة». قوله صلى الله عليه وسلم «ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول عليكم بالقرآن» قال الخطابي ونقله عنه ابن الأثير في جامع الأصول أنه صلى الله عليه وسلم يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها هو مما ليس في القرآن. وإنما أراد بالأريكة صفة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه انتهى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أعرفن أحدا منكم أتاه عني حديث وهو متكئ على أريكته فيقول اتل به قرآناً» رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. وقد رواه ابن ماجه بإِسناد رجاله كلهم ثقات ولفظه قال «لا أعرفن ما يحدث أحدكم عني الحديث وهو متكئ على أريكته فيقول اقرأ قرآنا. ما قيل من قول حسن فأنا قلته». وعن الحسن قال بينما عمران بن حصين يحدث عن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال له رجل يا أبا نجيد حدثنا بالقرآن فقال له عمران أنت وأصحابك تقرءون القرآن أكنت محدثي عن الصلاة وما فيها وحدودها أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال ولكن قد شهدت وغبت أنت ثم قال فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا فقال الرجل أحييتني أحياك الله قال الحسن فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين. رواه الحاكم في مستدركه وصححه وأقره الذهبي. وقد رواه مسدد كما في «المطالب العالية» ولفظه قال بينما عمران بن حصين وعنده أصحاب له يحدثهم فقال رجل لا تحدثنا إلا بالقرآن - أو لا نريد إلا القرآن - فقال أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد صلاة الظهر أربعا وصلاة العصر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا تقرأ في الركعتين الأوليين, أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد في كل مائتين من الغنم خمسا وفي الإبل كذا وكذا وفي البقر كذا وكذا. أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد

الحكمة هي السنة

الطواف بالبيت أسبوعا وبين الصفا والمروة كذا وكذا. وعن أبي نضرة عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه قال لرجل أنك إحمق أتجد في كتاب الله عز وجل الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحوهما ثم قال أتجد هذا في كتاب الله عز وجل مفسرا إن كتاب الله جل وعلا أحكم ذلك وإن السنة تفسر ذلك رواه الآجري في كتاب الشريعة. وعن سعيد بن جبير أنه حدث يوما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل في كتاب الله ما يخالف هذا قال ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك, رواه الدارمي في سننه ورواته ثقات. وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه. وعن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهر المحرم فقال ائتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي فقرأ عليه (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. وعن بكير بن عبد الله بن الأشج قال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «سيأتي ناس يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل» رواه الدارمي وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. وعن يحيى بن أبي كثير قال «السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة» رواه الدارمي في سننه ورواته ثقات. وعن حسان - وهو ابن عطية أحد التابعين - قال كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن» رواه الدارمي في سننه ورجاله رجال الصحيح. ويدل لهذا قول الله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) قال ابن كثير الكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة انتهى. وقوله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) قال ابن جرير في قوله (والحكمة) يعني وما أنزل عليكم من الحكمة وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم. وقال ابن كثير في قوله (وما أنزل عليكم من الكتاب) يعني القرآن

كلام حسن لابن حزم وفيه أن اتباع الحديث الصحيح فرض

(والحكمة) يعني السنة وقيل مواعظ القرآن, وقال تعالى مخبراً عن إبراهيم وإسماعيل أنهما قالا (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة) قال ابن كثير في قوله (ويعلمهم الكتاب) يعني القرآن (والحكمة) يعني السنة قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك. وقيل الفهم في الدين ولا منافاة انتهى. وقال تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) قال ابن كثير الكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة. وقال ابن جرير يعني بالحكمة السنن والفقه في الدين انتهى. ونقل البيهقي في كتابه المدخل عن الشافعي أنه قال سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم روى بأسانيده عن الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير أنهم قالوا الحكمة في هذه الآية السنة انتهى. وقد ثبت في قضايا كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن الشيء الذي لا علم له به نزل عليه الوحي ببيان ذلك. وفي كل منها دليل لما قاله حسان بن عطية. قال ابن حزم في كتاب الأحكام. لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن, والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا قال الله تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها وآخرها وهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله) فهذا أصل وهو القرآن, ثم قال تعالى (وأطيعوا الرسول) فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى (وأولي الأمر منكم) فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله حكمه, وصح لنا بنص القرآن أن

كلام حسن للآجري في ذم من عارض السنة بالقرآن

الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) انتهى. وقال ابن حزم أيضا في كتاب الأحكام جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله انتهى. وقد تقدم في الفصل الأول قول البربهاري إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة انتهى. وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة ينبغي لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء قد ثبت عند العلماء فعارض إنسان جاهل فقال لا أقبل إلا ما كان في كتاب الله عز وجل قيل له أنت رجل سوء وأنت ممن حذرناك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منك العلماء. وقيل له يا جاهل إن الله عز وجل أنزل فرائضه جملة وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أنزل إليهم قال الله عز وجل (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) فأقام الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم مقام البيان عنه وأمر الخلق بطاعته ونهاهم عن معصيته وأمرهم بالانتهاء عما نهاهم عنه وقال عز وجل (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ثم حذرهم أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم) وقال تبارك وتعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) ثم فرض على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم في نيف وثلاثين موضعا من كتابه عز وجل. وقيل لهذا المعارض لسنن الرسول صلى الله عليه وسلم يا جاهل قال الله عز وجل (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أين تجد في كتاب الله عز وجل أن الفجر ركعتان وأن الظهر أربع وأن العصر أربع وأن المغرب ثلاث وأن العشاء أربع وأين تجد أحكام الصلاة ومواقيتها وما يصلحها وما يبطلها إلا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومثلها الزكاة أين تجد في كتاب الله عز وجل من مائتي درهم خمسة دراهم ومن عشرين دينارا نصف دينار ومن أربعين شاة شاة ومن خمس من الإِبل شاة, ومن جميع أحكام الزكاة أين تجدها في كتاب الله عز وجل. وكذلك جميع فرائض الله عز وجل التي فرضها الله جل وعلا في كتابه لا يعلم الحكم فيها إلا بسنن الرسول صلى

كلام حسن لابن القيم في الرد على من عارض السنة بالقرآن

الله عليه وسلم. هذا قول علماء المسلمين ومن قال غير هذا خرج عن ملة الإِسلام ودخل في ملة الملحدين, نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وفيما ذكرته أبلغ رد على الملحد الجاهل صالح أبي بكر وعلى أمثاله من الملحدين الذين يردون الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويعارضونها بالشبه والآراء والأهواء. فصل قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «إعلام الموقعين» وقد صنف الإِمام أحمد رضي الله عنه كتابا في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم رد فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الاحتجاج بها فقال في أثناء خطبته. إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه وما قصد له الكتاب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه. شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه فكانوا هم أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم وما قصد له الكتاب فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جابر رضي الله عنه, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا. ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال - ثم ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن وردها بذلك. قال ابن القيم وهذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم فإن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفا متشابها وردوه به فلهم طريقان في رد السنن أحدهما ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن, الثاني جعلهم المحكم متشابها ليعطلوا دلالته, وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي

وأحمد مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا ويصدق بعضها بعضا فإِنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى. وقال ابن القيم أيضا في كتابه «إعلام الموقعين» ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخا له لبطل أكثر سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع في صدورها وأعجازها وقال القائل هذه زيادة على ما في كتاب الله فلا تقبل ولا يعمل بها. وهذا بعينه هو الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيقع وحذر منه كما في السنن من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» وفي لفظ «يوشك أن يقعد الرجل على أريكته فيحدث بحديثي فيقول بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله» قال الترمذي حديث حسن وقال البيهقي إسناده صحيح. وقال صالح بن موسى عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما ويرد أحدهما بالآخر - إلى أن قال - والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها, الثاني أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيراً له، الثالث أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما. فما كان منها زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته وليس هذا تقديما لها على كتاب الله بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله, ولو

تعظيم السلف للسنة وإنكارهم على من يتهاون بالأحاديث الصحيحة ويعارضها بالرأي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى وسقطت طاعته المختصة به. وأنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به وقد قال الله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله). وكيف يمكن أحداً من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائداً على كتاب الله فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا حديث التحريم بالرضاعة. لكل ما يحرم من النسب ولا حديث خيار الشرط ولا أحاديث الشفعة ولا حديث الرهن في الحضر مع أنه زائد على ما في القرآن ولا حديث ميراث الجدة ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة - ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة كثيرة من الأحاديث التي أخذ الناس بها وهي زائدة على ما في القرآن إلى أن قال - بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها فلو ساغ لنا رد كل سنة كانت زائدة على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا سنة دل عليها القرآن وهذا هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع ولا بد من وقوع خبره - إلى أن قال - والله سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء كما ولاه منصب البيان لما أراد بكلامه, بل كلامه كله بيان عن الله والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه, بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبداً أن هذه زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به, ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى. فصل وقد كان السف الصالح يعظون السنة غاية التعظيم وينكرون أشد الإِنكار على الذين يتهاونون بالأحاديث الصحيحة وعلى الذين يعارضونها بأقوال الناس وآرائهم وربما هجروا بعضهم إلى الممات. وقد روى مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

«لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها» قال فقال بلال بن عبد الله والله لنمنعهن قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن, وفي رواية له عن مجاهد أنه ضرب في صدره. وقد روى البخاري المرفوع منه فقط. ورواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم بنحو رواية مسلم. وروى أبو داود الطيالسي رواية مجاهد وقال فرفع يده فلطمه فقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا, وفي رواية لأحمد فما كلمه عبد الله حتى مات. قال النووي فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه, وفيه تعزير الوالد ولده وإن كان كبيراً انتهى. وفيه أيضا جواز التأديب بالهجران قاله الحافظ ابن حجر وفي مستدرك الحاكم عن عمرو بن مسلم قال خذف رجل عند ابن عمر رضي الله عنهما فقال لا تخذف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن الخذف» ثم رآه ابن عمر رضي الله عنهما بعد ذلك يخذف فقال أنبأتك أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم خذفت والله لا أكلمك أبداً. وفي الصحيحين عن عبد الله بن بريدة قال رأى عبد الله بن المغفل رضي الله عنه رجلا من أصحابه يخذف فقال له لا تخذف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو قال ينهى عن الخذف فإِنه لا يصاد به الصيد ولا ينكأ به العدو ولكنه يكسر السن ويفقأ العين ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو ينهى عن الخذف ثم أراك تخذف لا أكلمك كلمة كذا وكذا, هذا لفظ مسلم. وقد رواه الدارمي في سننه بنحوه وقال فيه والله لا أكلمك أبدا, وإسناده صحيح على شرط الشيخين, ورواه الإِمام أحمد وأبو داود مختصرا. ورواه مسلم أيضا وابن ماجه من حديث سعيد بن جبير أن قريبا لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه خذف قال فنهاه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الخذف وقال إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدواً ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» قال فعاد فقال أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ثم تخذف لا أكلمك أبداً. هذا لفظ مسلم. وفي رواية ابن ماجه أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه كان جالسا

إلى جنب ابن أخ له فخذف فنهاه وذكر تمام الحديث بنحو رواية مسلم وفيه قال لا أكلمك أبداً. وروى الدارمي في سننه عن خراش بن جبير قال رأيت في المسجد فتى يخذف فقال له شيخ لا تخذف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن الخذف» فغفل الفتى فظن أن الشيخ لا يفطن له فخذف فقال له الشيخ أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم تخذف والله لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبداً. وروى الدارمي أيضا عن أيوب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف وقال إنها لا تصطاد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» فرفع رجل بينه وبين سعيد قرابة شيئا من الأرض فقال هذه وما تكون هذه فقال سعيد ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تهاون به لا أكلمك أبداً, إسناده صحيح على شرط الشيخين. وروى الدارمي أيضا عن قتادة قال حدث ابن سيرين رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل قال فلان كذا وكذا فقال ابن سيرين أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول قال فلان كذا وكذا لا أكلمك أبداً. إسناده جيد رجاله كلهم ثقات. قال النووي في الكلام على حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم وأنه يجوز هجرانه دائما. والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا. وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائما, وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له كحديث كعب بن مالك وغيره انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الحديث جواز هجران من خالف السنة وترك كلامه ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه انتهى. وفي سنن ابن ماجه أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه غزى مع معاوية رضي الله عنه أرض الروم فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر

الفضة بالدراهم فقال يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل لا زيادة بينهما ولا نظرة» فقال له معاوية يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة فقال عبادة أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة فلما قفل لحق بالمدينة فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أقدمك يا أبا الوليد فقص عليه القصة وما قال من مساكنته فقال ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه واحمل الناس على ما قال فإِنه هو الأمر. ورواه الدارمي في سننه مختصراً ولفظه عن أبي المخارق قال ذكر عبادة بن الصامت رضي الله عه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن درهمين بدرهم فقال فلان ما أرى بهذا بأسا يداً بيد فقال عبادة أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لا أرى به بأسا والله لا يظلني وإياك سقف أبداً. وفي هذا الحديث جواز هجر من خالف السنة وعارضها برأيه وروى مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل فقال له معاوية ما أرى بمثل هذا بأسا فقال أبو الدراء رضي الله عنه من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. قوله فقال أبو الدرداء رضي الله عنه من يعذرني من معاوية إلى آخره قال ابن عبد البر كان ذلك منه أنفة من أن يرد عليه سنة علمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه, وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي. قال وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين تخلف عن تبوك. قال وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع

الكلام عنه. وقد رأى ابن مسعود رضي الله عنه رجلا يضحك في جنازة فقال والله لا أكلمك أبداً. انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى. وهذا الأثر الذي ذكره عن ابن مسعود رضي الله عنه قد رواه الإِمام أحمد في كتاب الزهد فقال حدثنا سفيان حدثنا عبد الرحمن بن حميد سمعه من شيخ من بني عبس أبصر عبد الله رجلا يضحك في جنازة فقال تضحك في جنازة لا أكلمك أبداً. وفي المسند بإِسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تمتع النبي صلى الله عليه وسلم فقال عروة بن الزبير نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس رضي الله عنهما ما يقول عرية قال يقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس رضي الله عنهما أراهم سيهلكون أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون نهى أبو بكر وعمر. وإذا كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما لمن عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكيف بمن اطرح الأحاديث الصحيحة ونبذها وراء ظهره ولم يعبأ بها مثل صالح أبي بكر وأشباهه من الملحدين فهؤلاء أولى بالإِنكار الشديد والتأديب الذي يردعهم عن معارضة الأحاديث الصحيحة والاستهانة بها والله المستعان. وروى الإِمام أحمد والبخاري والنسائي عن الزبير بن عربي قال سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر فقال رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يستلمه ويقبله قال قلت أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت قال اجعل أرأيت باليمن, رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا الزبير بن العربي قال سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن المزاحمة على الحجر فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله فقلت أرأيت أن أغلب أو أزحم قال اجعل أرأيت مع ذلك الكوكب رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ويستلمه. قوله اجعل أرأيت باليمن قال الحافظ بن حجر في فتح الباري إنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وأمره إذا سمع الحديث أن

يأخذ به ويتقي الرأي انتهى. وروى الدارقطني بإِسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإِنه لا يدري أين باتت يده منه أو أين طافت يده» فقال له رجل أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أرأيت إن كان حوضا. وقد رواه ابن ماجه مختصرا ولم يذكر قصة الرجل مع ابن عمر وإسناده صحيح على شرط مسلم. وإنما حصب ابن عمر رضي الله عنهما الرجل لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه وحصبه. وروى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده» فقال له قيس الأشجعي فإِذا جئنا مهراسكم هذا فكيف نصنع به فقال أبو هريرة أعوذ بالله من شرك. هذا لفظ البيهقي. وإنما تعوذ أبو هريرة رضي الله عنه من شره لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وتعوذ بالله من شره. وقال الترمذي في جامعه «باب ما جاء في اشعار البدن» حدثنا أبو كريب أخبرنا وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «قلد نعلين وأشعر الهدي في الشق الأيمن بذي الحليفة وأماط عنه الدم» قال الترمذي حديث حسن صحيح. قال والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون الإشعار وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال سمعت يوسف بن عيسى يقول سمعت وكيعا يقول حين روى هذا الحديث فقال لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا فإن الإِشعار سنة وقولهم بدعة. قال سمعت أبا السائب يقول كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أبو حنيفة هو مثلة, قال الرجل فإِنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال الإِشعار مثلة قال فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا وقال أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا.

وقال الشافعي في كتاب الرسالة أخبرني أبو حنيفة سماك بن الفضل الشيباني قال حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود» فقلت لابن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح عليّ صياحا كثيرا ونال مني وقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول تأخذ به. نعم آخذ به وذاك الفرض عليّ وعلى من سمعه. إن الله عز وجل اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. قال وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت. وقال الفضل بن زياد عن أحمد بن حنبل قال بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث «البيعان بالخيار» فقال يستتاب في الخيار فإِن تاب وإلا ضربت عنقه, قال أحمد ومالك لم يرد الحديث ولكن تأوله على غير ذلك, فقال شامي من أعلم مالك أو ابن أبي ذئب فقال ابن أبي ذئب في هذا أكثر من مالك وابن أبي ذئب أصلح في بدنه وأورع وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين انتهى من طبقات الحنابلة. وإذا كان هذا قول ابن أبي ذئب في الإِمام مالك حين تأول حديثا واحداً على غير تأويله فكيف بأدعياء العلم من العصريين الذين يردون المئات من الأحاديث الصحيحة وينبذونها وراء ظهورهم زاعمين كذبا وزوراً أنها أحاديث إسرائيلية تخالف القرآن فهؤلاء أولى أن يستتابوا فإِن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. والله المسئول أن يبعث لدينه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم أنصاراً يجاهدون أهل الزيغ والفساد ولا تأخذهم في الله لومة لائم. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب حدثني محمد بن عبيد بن ميمون حدثني عبد الله بن إسحاق الجعفري قال كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة قال فتذاكروا يوما السنن فقال رجل كان في المجلس ليس العمل على هذا فقال عبد الله أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة فقال ربيعة أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء ذكره ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان».

وروى الخطيب البغدادي في تأريخه من طريق يعقوب بن سفيان قال سمعت علي بن المديني يقول قال محمد بن خازم كنت أقرأ حديث الأعمش عن أبي صالح على أمير المؤمنين هارون فكلما قلت قال رسول الله. قال صلى الله على سيدي ومولاي حتى ذكرت حديث «التقى آدم وموسى» فقال عمه - وسماه عليٌّ فذهب عليَّ - فقال يا محمد أين التقيا قال فغضب هارون وقال من طرح إليك هذا وأمر به فحبس ووكل بي من حشمه من أدخلني إليه في محبسه فقال يا محمد والله ما هو إلا شيء خطر ببالي وحلف لي بالعتق وصدقة المال وغير ذلك من مغلظات الأيمان. ما سمعت ذلك من أحد ولا جرى بيني وبين أحد في هذا كلام وما هو إلا شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام قال فلما رجعت إلى أمير المؤمنين كلمته قال ليدلني على من طرح إليه هذا الكلام فقلت يا أمير المؤمنين قد حلف بالعتق ومغلظات الأيمان أنه إنما هو شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام قال فأمر به فأطلق من الحبس وقال لي يا محمد ويحك إنما توهمت أنه طرح إليه بعض الملحدين هذا الكلام الذي خرج منه فيدلني عليهم فأستبيحهم وإلا فأنا على يقين أن القرشي لا يتزندق. قال هذا أو نحوه من الكلام. وروى أبو عثمان الصابوني في عقيدته بإِسناده عن محمد بن حاتم المظفري قال كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد فحدثه بحديث أبي هريرة «احتج آدم وموسى» فقال عيسى بن جعفر كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما قال فوثب به هارون وقال يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف قال فما زال يقول حتى سكت عنه. قال الصابوني هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق وينكر أشد الإِنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف على طريق الإِنكار له والابتعاد عنه ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى عجبت لقوم عرفوا الإِسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في

قلبه شيء من الزيغ فيهلك, ثم جعل يتلو هذه الآية (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). وقال الحاكم سمعت الأصم يقول سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول وروى حديثا فقال له رجل تأخذ بهذا يا أبا عبد الله فقال متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب وأشار بيده إلى رأسه - يعني أن منزلة الحديث الصحيح عنده على الرأس. وقال شارح العقيدة الطحاوية طريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان كما قال البخاري رحمه الله سمعت الحميدي يقول كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فقال رجل للشافعي ما تقول أنت فقال سبحان الله تراني في كنيسة, تراني في بيعة, تراني على وسطي زنار, أقول لك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول ما تقول أنت. وقال الحاكم أنباني أبو عمرو السماك مشافهة أن أبا سعيد الجصاص حدثهم قال سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول وسأله رجل عن مسألة فقال روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا. فقال له السائل يا أبا عبد الله أتقول بهذا فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال ويحك أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم أقل به. نعم على الرأس والعينين نعم على الرأس والعينين. وقال الربيع قال الشافعي لم أسمع أحداً نسبته عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه فإِن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله وإن ما سواهما تبع لهما وإن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ياقوت الحموي في كتابه «معجم الأدباء» مناظرة جرت بين الشافعي وإسحاق بن راهويه وقد نقلها ياقوت من تاريخ نيسابور للحاكم ومن كتاب مناقب الشافعي للآبري. وهذا ملخص ما ذكره.

الأخذ بالأحاديث الصحيحة دليل على قوة الإيمان

قال الآبري قال إسحاق فسألته - يعني الشافعي - عن سكنى بيوت مكة - أراد الكراء - فقال جائز فقلت أي يرحمك الله وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كره كراء بيوت مكة وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه فلما فرغت سكت ساعة وقال أي يرحمك الله أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار» قال فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها ولا أرى أن أحداً فهمه. قال الحاكم فقال إسحاق أتأذن لي في الكلام فقال نعم فقلت حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك. وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك. قال الحاكم ولم يكن الشافعي عرف إسحاق فقال الشافعي لبعض من عرفه من هذا فقال هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ابن راهوية الخراساني فقال له الشافعي أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم قال إسحق هكذا يزعمون. قال الشافعي ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بعرك أذنيه. وقال الحاكم في خبر آخر قال له الشافعي لو قلت قولك احتجت إلى أن أسلسل أنا أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول عطاء وطاوس ومنصور وإبراهيم والحسن هولاء لا يرون ذلك. هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة. وفي خبر الآبري أن إسحاق قال فلما تدبرت ما قال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار» علمت أنه قد فهم ما ذهب عنا. قال إسحاق ولو كنت قد أدركني هذا الفهم وأنا بحضرته لعرفته ذاك انتهى المقصود مما ذكره ياقوت. فصل والأخذ بالأحاديث الصحيحة وتعظيمها دليل على قوة الإِيمان في قلب العبد. والتهاون بها ونبذها واطراحها دليل على ضعف الإِيمان أو عدمه بالكلية قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) فأقسم سبحانه وتعالى بنفسه الكريمة المقدسة على نفي الإِيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع ويرض بحكمه ويطمئن إليه قلبه ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى به ويسلم له تسليما وينقاد له ظاهراً وباطناً. وهذه الآية هي الحكم الفاصل في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم

من أشكل عليه حديث صحيح فينبغي أن يظن به أحسن الظن

فمن قبلها واطمئن قلبه إليها وانقاد لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً فهو مؤمن. ومن قابلها بالرد والإِنكار فليس بمؤمن قال الله تعالى (فإِن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» قال النووي حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإِسناد صحيح. قال الحافظ ابن رجب في كتابه «جامع العلوم والحكم» يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق, وكتابه هذا هو كتاب الحجة على تاركي سلوك طريق المحجة، قال وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب الأربعين وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه وخرجته الأئمة في مسانيدهم. ثم خرجه عن الطبراني. قال ورواه الحافظ أبو بكر ابن أبي عاصم الأصبهاني, انتهى المقصود من كلامه. فصل ومن أشكل عليه شيء من الأحاديث الصحيحة أو وقع في نفسه منه شيء فينبغي له أن يظن به أحسن الظن ولا يبادر إلى إنكاره ورده كما يفعله أهل الزيغ والإِلحاد. قال علي رضي الله عنه «إذا حدثتم شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أتقى والذي هو أهيأ» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي وابن ماجه وعبد الله بن الإِمام أحمد في زوائد المسند بأسانيد صحيحة. وعن عون بن عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «إذا حدثتم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهيأ والذي هو أهدى والذي هو أتقى» رواه الإِمام أحمد والدارمي وابن ماجه وفيه انقطاع بين عون بن عبد الله وابن مسعود فإِنه لم يسمع منه ولكن حديث علي رضي الله عنه يشهد لحديث ابن مسعود رضي الله عنه ويقويه.

الإذن في التحديث عن بني إسرائيل

فصل وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عن بني إسرائيل. وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدث أصحابه عنهم, وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة. منها ما رواه الإِمام أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» زاد ابن حبان في روايته «وحدثوا عني ولا تكذبوا علي». ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حدثوا عني ولا تكذبوا علي ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» إسناده صحيح على شرط الشيخين. ومنها ما رواه أبو يعلى والبزار عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حدثوا عن بني إسرائيل فإِنه قد كان فيهم الأعاجيب». ومنها ما رواه الإِمام أحمد في مسند عمران بن حصين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل لا يقوم فيها إلا إلى عظم صلاة» ورواه أبو داود والبزار بنحوه, ولفظ البزار «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل حتى نصبح ما نقوم فيها إلى لمعظم صلاة» وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا اليوم والليلة عن بني إسرائيل لا يقوم إلا لحاجة». ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل لا يقوم إلا إلى عظم صلاة» وفي رواية يعني الفريضة المكتوبة, قال الهيثمي إسناده حسن, وقد

لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم

رواه البزار والطبراني في الكبير قال الهيثمي وإسناده صحيح. ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله فإِن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم» زاد ابن حبان وقال «قاتل الله اليهود لقد أوتوا علما». ومنها ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم». قال ابن كثير في النهاية وأما الأخبار الإِسرائيلية فيما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جدا, ومنها ما هو صحيح موافق لما وقع. وكثير منها بل أكثرها مما يذكره القصاص مكذوب مفترى وضعته زنادقتهم وضلالهم, وهي ثلاثة أقسام منها ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنها ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله وسنة رسوله, ومنها ما يحتمل الصدق والكذب فهذا هو الذي أمرنا بالتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه. قال في التفسير ويجوز حكايته لما تقدم - يعني من قول النبي صلى الله عليه وسلم «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». قلت وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي أخبر فيها عن الأمم الماضية من بني إسرائيل وغيرهم فهو حق لا ريب فيه قال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) ومن كذّب بشيء من الأحاديث الصحيحة التي أخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل أو عن غيرهم أو شك فيها فهو ممن يشك في إسلامه لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمداً رسول الله ومن تحقيقها تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من أنباء الغيب مما مضى وما سيأتي. وأما الأحاديث الصحيحة التي ليس فيها إخبار عن بني إسرائيل ولا عن غيرهم من الأمم الماضية ومع ذلك يزعم المؤلف الملحد أنها أحاديث إسرائيلية وأنها

التحذير من كل منافق عليم اللسان

مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم فتلك مكابرة منه ومعارضة لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله بمجرد الرأي والهوى. وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). فصل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته من المنافقين الذين يجادلون بالقرآن كما في الحديث الذي رواه البزار والطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان» قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح, وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخوف ما أخاف عليكم جدال منافق عليم اللسان». وروى الإِمام أحمد والبزار وأبو يعلى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافق عليم اللسان» قال الهيثمي رجاله موثقون. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إني أخاف على أمتي اثنتين القرآن واللبن أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين» رواه الإِمام أحمد والطبراني, قال الهيثمي وفيه دراج أبو السمح وهو ثقة مختلف في الاحتجاج به. قلت قد صحح له ابن حبان والحاكم والذهبي, وعلى هذا فالحديث صحيح على شرط ابن حبان والحاكم, وقد رواه الإِمام أحمد أيضا عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل قال لم أسمع من عقبة بن عامر إلا هذا الحديث. قال ابن لهيعة وحدثنيه يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «هلاك أمتي في الكتاب واللبن» قالوا يا رسول الله ما الكتاب واللبن قال «يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله عز وجل ويحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمع

التحذير من زلة العالم

ويبدون» ابن لهيعة حسن الحديث وفيه كلام وبقية رجاله ثقات. ويروى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أخاف عليك ثلاثاً وهن كائنات زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تفتح عليكم» رواه الطبراني بإِسناد ضعيف. ويروى أيضا عن معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إياكم وثلاثة زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم» رواه الطبراني بإِسناد ضعيف. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن يضعه على غير مواضعه» الحديث رواه الطبراني بإِسناد ضعيف. وعن زياد بن حدير قال قال لي عمر رضي الله عنه هل تعرف ما يهدم الإِسلام قال قلت لا قال «يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين» رواه الدارمي بإِسناد حسن وله حكم الرفع. وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا وما فيها من ضعيف فالحسن منها يشهد له ويقويه, وهي تنطبق على المؤلف وعلى أمثاله من الزائغين الذين يجادلون بالقرآن ويتأولونه على غير تأويله ويضعونه على غير مواضعه. فصل قال القاضي عياض في كتابه الشفاء. اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرّض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له فهو ساب له والحكم فيه حكم السّاب يقتل وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور أو عيّرة بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه, وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن

الإجماع على قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تكفيره

الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا. قال أبو بكر ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل وممن قال ذلك مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي. قال القاضي عياض وهو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولا تقبل توبته عند هولاء. وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأهل الكوفة والأوزاعي في المسلمين لكنهم قالوا هي ردة وروى مثله الوليد بن مسلم عن مالك وحكى الطبري مثله عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه صلى الله عليه وسلم أو برئ منه أو كذبه. وقال سحنون فيمن سبه ذلك ردة كالزندقة. قال القاضي عياض ولا نعلم خلافا في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره. قال محمد بن سحنون أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له. وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر. وقال ابن القاسم في العتبية من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإِنه يقتل وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق. وروى ابن وهب عن مالك من قال إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم ويروى زر النبي صلى الله عليه وسلم وسخ أراد به عيبه قتل. وقال حبيب بن ربيع القروي مذهب مالك وأصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه وسلم ما فيه نقص قتل دون استتابة. وقال ابن عتاب الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بأذى أو نقص معّرضا أو مصرحا وإن قلّ فقتله واجب. قال القاضي عياض فهذا الباب كله مما عده العلماء سباً أو تنقصاً يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم. وكذلك أقول حكم من غمصه أو عيّره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه أو أذى من عدوه أو شدة من زمنه أو بالميل إلى نسائه فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل انتهى ملخصا. وذكر ابن حجر الهيتمي في كتاب الزواجر أن من استخف بالرسول صلى الله عليه وسلم أو استهزأ به أو بشيء من أفعاله كلحس الأصابع أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو فعله أو عرّض بذلك أو شبهه بشيء على طريق الإزراء أو التصغير لشأنه والغض منه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه أنه يكفر بواحد مما ذكر

جراءة المؤلف على الطعن في الصحابة

إجماعا انتهى. وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن كتاب «الأضواء القرآنية» قد اشتمل على الشيء الكثير من الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم والغض منه والعبث في جهته العزيزة بسخف الكلام ومنكر القول والاعتراض على كثير مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال كما سيأتي التنبيه على ذلك في مواضعه من الرد على المؤلف إن شاء الله تعالى, فالحكم بردة المؤلف ثابت من عدة أوجه. والله المسئول أن يقيض له ولأشباهه من المارقين من يصنع بهم مثل ما صنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمنافق الذي لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ضربه عمر رضي الله عنه بالسيف فقتله. فصل وقد تجرأ المؤلف على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الطعن فيهم بالزور والبهتان كما سيأتي التنبيه على ذلك في مواضعه من الرد على المؤلف إن شاء الله تعالى. والوقيعة في الصحابة وإساءة الظن بهم ليس بالأمر الهين, وقد روى الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم «لا تسبوا أحداً من أصحابي فإِن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» وفي رواية الترمذي وإحدى الروايتين لأحمد «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. قال ومعنى قوله «نصيفه» يعني نصف المد وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه». ورواه ابن ماجه بأسانيد صحيحة أحدها أحد أسانيد مسلم وليس في روايته تكرير قوله «لا تسبوا أصحابي». وروى ابن ماجه بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول

«لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره». وروى الترمذي بإِسناد ضعيف عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا «إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة الله على شركم». وروى الإِمام أحمد والترمذي واللفظ له عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه». وروى الحاكم في مستدركه عن عويم بن ساعدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تبارك وتعالى اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل» قال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «شرار أمتي أجراؤهم على صحابتي». وروى مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال قالت لي عائشة رضي الله عنها يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم. وروى رزين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قيل لعائشة رضي الله عنها إن ناسا يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر. وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا». وإذا علم ما في هذه الأحاديث من تحريم عيب الصحابة وسبهم وبغضهم وأذيتهم وأن شرار هذه الأمة أجرأهم على الصحابة رضي الله عنهم فليعلم أيضا أن المؤلف قد أخذ بنصيب وافر من أذية بعض الصحابة وعيبهم وسبهم كما سيأتي بيان ذلك في مواضعه من هذا الرد إن شاء الله تعالى, فبعداً للمؤلف ولأمثاله من المبغضين للصحابة

المتنقصين لهم بالزور والبهتان, والله المسئول أن يجازيهم على ذلك بعدله. وقد قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى في الرسالة التي رواها عنه أبو العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب الأصطخري وذكرها القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة في ترجمة أبي العباس. هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق» - ثم ذكر كثيرا من أقوال أهل السنة ومنها قوله. «ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن ذكر مساويهم والخلاف الذي شجر بينهم, فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدا منهم أو تنقصه أو طعن عليهم أو عرّض بعيبهم أو عاب أحداً منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا, بل حبهم سنة, والدعاء لهم قربة, والاقتداء بهم وسيلة, والأخذ بآثارهم فضيلة, وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر, وعمر بعد أبي بكر, وعثمان بعد عمر, وعلي بعد عثمان, وهم خلفاء راشدون مهديون, ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هولاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب قبل منه وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع». ثم ذكر الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أهل البدع وذكر بعض أقوالهم ومنهم الرافضة قال «وهم الذين يتبرءون من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم وينتقصونهم, قال وليست الرافضة من الإِسلام في شيء». ثم ذكر الخشبية وهم رافضة قال «وهم فيما يزعمون ينتحلون حب آل محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا, بل هم المبغضون لآل محمد صلى الله عليه وسلم دون الناس, إنما الشيعة لآل محمد المتقون أهل السنة والأثر من كانوا وحيث كانوا الذين

من أحب أبا هريرة فهو صاحب سنة

يحبون آل محمد صلى الله عليه وسلم وجميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون أحداً منهم بسوء ولا عيب ولا منقصة. فمن ذكر أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بسوء أو طعن عليهم أو تبرأ من أحد منهم أو سبهم أو عرض بعيبهم فهو رافضي خبيث مخبث, انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى. وقال أبو طالب سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال القتل أجبن عنه ولكن أضربه ضربا نكالا, وقال عبد الله سألت أبي عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أرى أن يضرب وقال ما أراه على الإِسلام, وقال الميموني سمعت أحمد يقول ما لهم وما لمعاوية, وقال لي يا أبا الحسن إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإِسلام, وقال إسحاق بن راهويه من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس, وروى أبو بكر الخطيب في كتاب «الكفاية» بسنده عن أبي زرعة الرازي أنه قال إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة, والجرح بهم أولى وهم زنادقة. وذكر القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة عن أبي محمد البربهاري أنه قال في «شرح كتاب السنة» إذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة وأسيداً فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله, قال ومن تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم وقد آذاه في قبره. وذكر عن سفيان بن عيينة أنه قال من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى انتهى. وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن ابن السمعاني أنه قال في «الاصطلام» التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة انتهى ذكره الحافظ في «باب النهي للبايع أن لا يحفل الإِبل والبقر والغنم». فصل قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح في «المقدمة» أول من صنف الصحيح البخاري وتلاه مسلم بن الحجاج, وكتابهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز.

إجماع علماء المسلمين على صحة الصحيحين

ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحا وأكثرهما فوائد. وذكر عن الحافظ أبي نصر الوائلي السجزي أنه قال أجمع أهل العلم الفقهاء وغيرهم أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صح عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لا شك فيه لا يحنث والمرأة بحالها في حبالته انتهى. وذكر الشيخ أبو عمرو أيضا اتفاق الأمة على تلقي ما اتفق عليه البخاري ومسلم بالقبول, قال وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به. وذكر أيضا أن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول انتهى. وقال النووي في شرح مسلم اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول, وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة. ونقل النووي عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه قال جميع ما حكم مسلم رحمه الله بصحته في هذا الباب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر. وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع. ونقل النووي أيضا عن إمام الحرمين أنه قال لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألرمته الطلاق ولا حنثته لإِجماع علماء المسلمين على صحتهما انتهى. وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» في ترجمة البخاري «كتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه وكذلك سائر أهل الإِسلام انتهى. وفيما قاله أبو نصر السجري وإمام الحرمين وابن الصلاح والنووي وابن كثير أبلغ رد على صالح أبي بكر وعلى أمثاله من زنادقة العصريين الذين شذوا عن المسلمين وخالفوا إجماع العلماء فتصدوا لتكذيب الأحاديث الثابتة في الصحيحين أو في أحدهما ومعارضتها بالشبه والآراء وحمل القرآن على غير محامله. ولا شك أن هذا من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (إن الذين يحادون الله

جراءة المؤلف على صحيح البخاري والرد عليه

ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد) وقال تعالى (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) وقال تعالى (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم) وقال تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). فصل وهذا أوان الشروع في الرد على أباطيل المؤلف وترهاته قال في الصفحة الأولى ما نصه. كتابنا هذا أضواء نلقيها على قضية الحديث وعلى أمثلة من الإسرائيليات الدخيلة على صحيح البخاري وتتلخص الغاية منه في أمرين, الأمر الأول هو أن لا نصدق بكلام يخالف كلام الله وهدي رسوله فنقع في خطيئة الشرك العلمي وذلك بمنازعة الله في حق الكلمة والتشريع. الأمر الثاني أن لا نحقق للشيطان مأربه فنبعد عن الحق المنزل من الله بسبب قبولنا لما دسه علينا أعداء الإِسلام من أحاديث باطلة. ووصولا إلى تلك الغاية صار تكوين الكتاب من جزئين, الجزء الأول قضية الحديث ومراجعها العلمية منذ الخلافة الأولى إلى عصرنا هذا. الجزء الثاني نماذج من الأحاديث الإسرائيلية المدسوسة على البخاري والتعقيب القرآني على كل منها بالنفي وببراءة النبي والبخاري منها. وقد كانت الحكمة في أن يكون البخاري هو الكتاب الذي أخذنا منه تلك الأحاديث هي أن يكون الرجوع بأحاديث غيره إلى القرآن أولى وأهم باعتبار أنه عمدة المراجع لأصح الأحاديث. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس في كتاب المؤلف شيء من الأضواء البتة. وإنما هو ظلمات بعضها فوق بعض أراد بها هدم السنة وتنفير الناس منها. وقد ذكرت في أول فصول الكتاب تشديد العلماء في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والحكم على من فعل ذلك بالكفر فلتراجع أقوالهم (¬1) ففيها أبلغ رد على المؤلف. ¬

(¬1) ص: 13 - 22.

الوجه الثاني أن يقال ليس في صحيح البخاري شيء من الأحاديث الدخيلة - أي المدسوسة - كما زعمه المؤلف كذبا وزوراً, وما جاء فيه من الأحاديث عن بني إسرائيل وعن غيرهم من الأمم الماضية فكله حق وصدق لثبوت ذلك عن النبي صلى الله علي وسلم بالأسانيد الصحيحة. وقد قال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى). الوجه الثالث أن يقال ليس في صحيح البخاري ولا في غيره من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف كلام الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه. ولا غيره بما يهذو به المؤلف وأشباهه من الجهلة الأغبياء الذين يتبعون المتشابه ويلبسون الحق بالباطل ويلحدون في آيات الله تعالى ويتأولونها على غير تأويلها. الوجه الرابع أن يقال إذا كان المؤلف لا يصدق بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما خرجه البخاري في صحيحه وما خرجه غيره من أهل الصحاح والسنن والمسانيد ويزعم أنها أحاديث إسرائيلية وأنها تخالف كلام الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم فأهل الإِيمان على خلاف ما هو عليه فهم يؤمنون بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يردون من ذلك شيئا ولا يتركون من الأحاديث الصحيحة شيئا إلا حديثا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه فيأخذون بالأصح منهما أو يجمعون بينهما إذا أمكن الجمع. الوجه الخامس أن المؤلف قد وقع في شر مما فر منه فإِنه قد فر من خطيئة الشرك العلمي كما زعم ذلك ووقع فيما يهدم الإِسلام من أصله وذلك في أمور وقعت منه أحدها مناقضته لشهادة أن محمداً رسول الله فإِنه قد كذب بكثير مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الثقات الأثبات. ومن كذب بشيء مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو لم يحقق الشهادة بأن محمداً رسول الله. ومن لم يحققها فليس بمسلم. ولا بد في تحقيقها من أربعة أمور. أحدها طاعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر. والثاني تصديقه فيما أخبر, والثالث اجتناب ما عنه نهى وزجر. والرابع أن لا يعبد الله إلا بما شرع, وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإِذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي

الله عنه, فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أن عصمة الدم والمال لا تتم إلا بشيئين, أحدهما شهادة أن لا إله إلا الله, وثانيهما الإِيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, والمؤلف لم يؤمن بكثير مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان بهذا حلال الدم والمال. الأمر الثاني والثالث والرابع ما اشتمل عليه كتابه من الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم والغض منه والعبث في جهته العزيزة بسخف الكلام ومنكر القول. وسيأتي بيان ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. وقد تقدم حكاية الإِجماع على كفر من صدر منه شيء من هذه الأمور (¬1). الوجه السادس أن المؤلف قد حقق للشيطان مأربه حيث أبعد عن كثير من الحق المنزل من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وحث الناس على الإِبعاد عنه. وقد تقدم حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وفي رواية ابن حبان «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» فثبت بهذا الحديث الصحيح أن السنة كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم كما ينزل عليه القرآن. وتقدم عن حسان بن عطية أحد التابعين أنه قال «كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن» ويدل لهذا قول الله تعالى (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى, علمه شديد القوى) وقد نفى المؤلف عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من أقواله وأفعاله الثابتة عنه برواية الثقات الأثبات. وكذب بكثير من المعجزات وخوارق العادات وسماها قصصا خيالية وخوارق خرافية وحث الناس على رفضها واطراحها. فقد تلاعب الشيطان بالمؤلف غاية التلاعب وأراه الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق وجعله من دعاته وجنوده وهذا غاية مأرب الشيطان. الوجه السابع أن الله تعالى أقام للسنة جهابذة نقاداً ميزوا الأحاديث الصحيحة الثابتة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وميزوا الثقات من رجال ¬

(¬1) ص: 27 - 29.

كيد المؤلف للإسلام والمسلمين والرد عليه

الأحاديث من المجروحين منهم وقد أجمعوا على قبول الصحيحين ولم يقل أحد منهم أن فيهما شيئا من الأحاديث الباطلة التي دسها علينا أعداء الإِسلام فما زعمه المؤلف من دس الأحاديث الباطلة في الصحيحين أو في غيرهما من الصحاح فهو قول باطل مردود. الوجه الثامن أن يقال قد اتضح من كلام المؤلف أنه من ألد الأعداء لكتب السنة وذلك أنه عمد إلى أصحها فطعن فيه وشن الحملة على جملة من أحاديثه التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه فزعم أنها دخيلة عليه ومدسوسة فيه ثم ختم كلامه بما يقتضي أن غير صحيح البخاري من كتب السنة أولى عنده بشن الحملة والمعارضة. وقد ذكرت في الفصل الذي قبل هذا الفصل أن هذا من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين. وقد جاء الوعيد الشديد على هذا كما تقدم ذكره (¬1) فصل وقال المؤلف في صفحة (3) ما نصه «تعريف الكتاب في بنود رئيسية» أولا العرض الكامل لقضية الحديث وأقوال العلماء فيها ابتداء من الخليفة الأول لرسول الله (ص) إلى آخر عالم مارس التحصيل والبيان في هذا المجال حتى يعلم المسلمون أساليب الكيد التي حيكت لدينهم ممن يعادونه ومن اليهود بنوع خاص. والجواب أن يقال ليس في الصحيحين ولا في غيرهما من الأحاديث الصحيحة شيء من أساليب الكيد التي حيكت لدين الإِسلام من أعدائه كما زعم ذلك المؤلف كذباً وزوراً, ولكن المؤلف هو الذي أراد الدس على المسلمين وتشكيكهم فيما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم, وهو الذي حاك أساليب الكيد للإِسلام والمسلمين وأظهر ذلك في قالب الإِصلاح فهو في الحقيقة شر على الإِسلام والمسلمين من اليهود ومن غيرهم من أعداء الإِسلام والمسلمين. ¬

(¬1) ص: 33.

تخبيطه في تقسيم الأحاديث ورفضه لبعضها والرد عليه

فصل وقال المؤلف في صفحة (3) ما نصه ثانيا الدعوة العملية إلى تقسيم الحديث المنسوب إلى النبي (ص) إلى ثلاثة أنواع. النوع الأول حديث يوافق القرآن في مضمونه أو في معناه, والنوع الثاني هو حديث يأتينا بفضائل الأعمال ولا يعارضه القرآن. وهذان النوعان يفرض الله تبارك وتعالى الإِيمان بهما كجزء من رسالة النبي عليه الصلاة والسلام, ونوع ثلاث يأتينا بمعان أو أحكام أو قصص تخالف القرآن في مضمونه أو في معناه, وهذا النوع يجب رفضه وتبرئة النبي (ص) منه وذلك عملا على تطهير ديننا من شوائب الدس الإسرائيلي حتى يعود إليه الرونق الجميل الذي يحمل العالم على احترامه والدخول فيه. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس في الأحاديث الصحيحة ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه, ومن زعم أن شيئا من الأحاديث الصحيحة يخالف القرآن فذلك من سوء فهمه للقرآن والأحاديث الصحيحة. وربما يكون ذلك لزيغ في قلبه فيتأول القرآن على غير تأويله ويعارض به الأحاديث الصحيحة كما فعل ذلك المؤلف, وقد جمع في فعله بين أمرين ذميمين أحدهما تحريف الكلم عن مواضعه, والثاني رد الأحاديث الصحيحة واطراحها. وقد قال الله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) قالت عائشة رضي الله عنها تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) إلى قوله (أولو الألباب) قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان وأهل السنن إلا النسائي وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقد تقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى في الذين يعارضون السنن بظاهر

القرآن ويردون الأحاديث الصحيحة بذلك. قال وهذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم فإِن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفا متشابها وردوه به انتهى. الوجه الثاني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا بلغهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تمسكوا به وقابلوه بالقبول والتسليم, وكذلك التابعون وأئمة العلم والهدى من بعدهم فإِنهم كانوا إذا بلغهم شيء من الأحاديث المروية بالأسانيد الصحيحة تمسكوا به وقابلوه بالقبول والتسليم, ولم يكن الصحابة والتابعون وأئمة العلم والهدى من بعدهم يرفضون شيئا من الأحاديث الصحيحة أو يعارضونها بالقرآن. فمن رفض شيئا من الأحاديث الصحيحة أو حث على رفضها وزعم أن ذلك واجب فلا شك أنه مشاق للرسول صلى الله عليه وسلم ومتبع لغير سبيل المؤمنين وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). الوجه الثالث أن تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه بالأسانيد الصحيحة لا يقول بها عاقل لأن تبرئته مما ثبت عنه حاصلها تكذيبه ورد قوله, ولا يصدر ذلك من مسلم يؤمن بالله ورسوله. الوجه الرابع أن تطهير الدين لا يكون برفض الأحاديث الصحيحة وردها وإنما يكون ذلك برد البدع ومحاربة المبتدعين الزائغين عن الحق المتبعين لغير سبيل المؤمنين, ومنهم الذين يعارضون الأحاديث الصحيحة بالمتشابه من القرآن وبآرائهم وآراء شيوخهم ومن يعظمونه من أهل البدع. الوجه الخامس أن تكذيب الأحاديث الصحيحة ورفضها ليس هو الذي يعود على دين الإِسلام بالرونق الجميل كما زعم ذلك المؤلف المفتون. وإنما يعود عليه بالشكوك والظنون السيئة وعدم الثقة فهو في الحقيقة تشويه للدين وتدنيس له وليس تطهيراً له كما قد زعم ذلك من أعمى الله بصيرته. الوجه السادس أن يقال قد كان الدين محترما حينما كان المسلمون يحكمون بالكتاب والسنة ويحترمون القرآن والأحاديث الصحيحة وكتب السلف وأئمة الخلف ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجاهدون في سبيل الله ويفعلون ما أمر الله به

تهجمه على صحيح البخاري والرد عليه

ورسوله صلى الله عليه وسلم, فلما استهان الأكثرون بالكتاب والسنة واستبدلوا عن الأحكام الشرعية بالنظم والقوانين الوضعية واستهانوا بكتب الحديث والفقه والتفسير وغيرها من الكتب النافعة وسموها الكتاب الصفراء واستبدلوا عنها بالصحف والمجلات وما أشبهها من الكتب التي لا خير فيها وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتركوا كثيراً من الأوامر وارتكبوا كثيراً من المحرمات عاد رونق الدين غير جميل عند الأكثرين وقلّ احترام العالم له وقلّ الدخول فيه. ولا يعود إلى الدين رونقه الجميل الذي يحمل العالم على احترامه والدخول فيه إلا بالتمسك بالكتاب والسنة واحترامهما والعمل بهما في كل قليل وكثير واحترام كتب السلف وأئمة الخلف مع القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وفعل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم فحينئذ يعود رونق الدين وجماله كما كان في أول الأمر. والله المسئول أن يعيده كما كان في صدر هذه الأمة وما ذلك على الله بعزيز. الوجه السابع أن القول برفض الأحاديث الصحيحة وردها يلزم منه أحد أمرين كل منهما سيء ذميم. أحدهما الطعن في الثقات الأثبات ورميهم بوضع الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثماً مبيناً). الأمر الثاني رمي ذوي العقول والنباهة بالغباوة والتغفيل بحيث يروج عليهم ما يدسه الزنادقة من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في كلام المؤلف كل من الأمرين كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولا شك أن المؤلف وأشياخه الذين يعتمد على أقوالهم في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها أولى بالأوصاف الذميمة من رجال الصحيحين وغيرهم من رواة الأحاديث الصحيحة. فصل وقال المؤلف في صفحة (3) ما نصه ثالثا تقديم حصيلة الفحص الدقيق للأحاديث المعارضة للقرآن والمنافية لما يليق بالله وبرسوله والتي جمعناها من صحيح البخاري باعتباره عمدة المراجع في هذا

إساءة المؤلف إلى البخاري والرد عليه

المجال وعددها مائة وعشرون حديثا. والتعقيب القرآني على كل منها بما يثبت أنها دخيلة على كلام النبي (ص) وبما لا يسيء إلى البخاري الذي حسبه عند ربه صدق نيته وإخلاصه حتى يعلم المسلمون كيف استطاع الشيطان أن يستخدم أعوانه من كفار الإِنس في الكيد للإِسلام والمسلمين. مع التأكيد مرة أخرى على براءة البخاري رحمه الله من هذا الحزب اللعين, ولا يعتبر هذا العدد حصراً لكل ما يعارضه القرآن وإنما هو مثال ضوئي يدعو إلى جعل القرآن سنداً أساسيا لكل حديث ينسب إلى رسول الله. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس في صحيح البخاري ما يعارض القرآن بوجه من الوجوه وليس فيه حديث ينافي ما يليق بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وليس فيه حديث دخيل على كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما قد زعم ذلك من استزله الشيطان وزين له معارضة الأحاديث الصحيحة واطراحها والتهاون بشأنها. الوجه الثاني أن المؤلف قد أساء إلى البخاري إساءة عظيمة ثم زعم أن فعله لا يسيء إلى البخاري. وهذه المنافقة والمراوغة لا تخفى على عاقل. وإساءته إلى البخاري واضحة من جهتين. الأولى صولته على كتابه الصحيح واستهانته به ومحاولته الحط من قدره عند الناس وأنه لا ينبغي الاعتماد عليه, وأي إساءة أعظم من هذه الإِساءة لو كان المؤلف الجاهل يعقل. الثانية محاولته الحط من قدر البخاري وإلحاقه بالأغبياء المغفلين الذين تروج عليهم دسائس الزنادقة الوضاعين. وهذه الإساءة العظيمة لا تؤثر في قدر البخاري عند أهل السنة والجماعة لأنهم يعلمون بطلانها ويعلمون ما جعل الله في البخاري من العقل الرزين والنباهة العظيمة بحيث لا يستطيع المبطلون أن يدسوا عليه شيئا أبدا. وقد قال الخطيب البغدادي في تاريخه حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي قال أنبانا أحمد بن الحسن الرازي قال سمعت أبا أحمد بن عدي يقول سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإِسناد لإِسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا الموعد

للمجلس فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فما زال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم. ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم. ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه, فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد آخر حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه, ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على «لا أعرفه» فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بعد أن ذكر هذه القصة رواية عن الخطيب, قلت هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإِنه كان حافظا بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة. قال الحافظ وقال أبو الأزهر كان بسمرقند أربعمائة محدث فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد العراق في إسناد الشام وإسناد الحرم في إسناد اليمن فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة انتهى ما ذكره الحافظ ابن حجر وفيه أبلغ رد على من استهان بالبخاري وحاول الغض منه وإلحاقه بالأغبياء المغفلين. الوجه الثالث أن إساءة المؤلف ليست مقصورة على البخاري رحمه الله تعالى بل إنه قد حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بمعارضته للأحاديث الصحيحة ورفضها. وقد أساء إلى الصحابة الذين حفظوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغوها إلى من بعدهم. وقد أساء إلى الثقات الأثبات الذين حفظوا الأحاديث

الصحيحة وبلغوها إلى من بعدهم حتى وصلت إلى البخاري وغيره من الأئمة الذين دونوا الأحاديث الصحيحة وحفظوها على الأمة الإسلامية. الوجه الرابع أن يقال أن رجال الجامع الصحيح كلهم ثقات عدول من لدن الصحابة إلى شيوخ البخاري وليس فيهم كذاب ولا وضاع ولامتهم ولا مجروح بجرح يؤثر في حديثه. وليس فيهم أحد من الأغبياء المغفلين الذين يقبلون التلقين, ومع هذا يقول المؤلف إن الشيطان استطاع أن يستخدم أعوانه من كفار الإِنس في الكيد للإسلام والمسلمين ثم يؤكد براءة البخاري من هذا الحزب اللعين. فهل يقول المؤلف أن رجال البخاري أو بعضهم كانوا من كفار الإنس وأعوان الشيطان الذين استخدمهم في الكيد للإسلام والمسلمين وأنهم من الحزب اللعين كما هو ظاهر كلامه. أم ماذا يجيب به عن تهوره وجراءته القبيحة. الوجه الخامس أن يقال الواقع في الحقيقة أن الشيطان استطاع أن يستخدم المؤلف في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها وفي الكيد للإسلام والمسلمين وذلك بتشكيك المسلمين في الأحاديث الصحيحة وحثهم على رفضها واطراحها فهو من أكبر أعوان الشيطان وجنوده. الوجه السادس أن يقال ما ذهب إليه المؤلف من جعل القرآن سنداً أساسيا لكل حديث ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض قول الله تعالى في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) وقوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. ويعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من حديث المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وصححه الحاكم وأقره الذهبي.

تهجم المؤلف على المراجع الدينية وعلى القصص والتشريع والرد عليه

ويعارض أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى مالك في الموطأ بلاغا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي. وورى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض». وما عارض قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على قائله كائنا من كان. فصل وقال المؤلف في صفحة (4) ما نصه رابعا تقديم التذكرة لأصحاب العقول الناضجة من المسلمين كي ينفضوا عن دينهم وعن عقائدهم غبار الزيف الذي ران على الجمال الإسلامي والصفاء المحمدي حتى ملأ المراجع الدينية بما لا يقتضيه عقل من القصص الخيالي والتشريع المبتدع. وأصل ذلك الحديث الباطل الذي أصابنا بغباره القبيح في عقائدنا وعبادتنا وماسنه الله لنا من تشريع. والجواب أن يقال إن أصحاب العقول السليمة من المسلمين قد نفضوا عن دينهم وعن عقائدهم غبار الزيف الذي أحدثه أهل الأهواء والبدع من الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية والمعتزلة والفلاسفة وغيرهم من أهل الكلام الباطل الذين ذمه السلف وحذروا منه. ونفض أصحاب العقول السليمة من المسلمين عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منها من أحاديث الكذابين والوضاعين. وميزوا الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة, وميزوا الثقات من رجال الأحاديث من المجروحين, فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء فقد تركوا الأمر واضحا جليا لمن أراد الله هدايته.

زعم المؤلف أن الحديث ينازع القرآن ومحاولته إبعاد كتب الحديث والرد عليه

وقد خالفهم أهل القلوب المريضة والعقول الناقصة من العصريين ومنهم المؤلف الجاهل وأشياخه الذين يعتمد على أقوالهم في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها وتنفير الناس منها. وقد أظهر المؤلف كيده للإسلام والمسلمين في قالب النصيحة لأصحاب العقول الناضجة من المسلمين ليكون لقوله الباطل موقع وقبول عند الجهلة الأغبياء. ومراده بغبار الزيف الذي يحث المسلمين على نفضه عن دينهم وعقائدهم وكذلك مراده بالحديث الباطل إلى آخر كلامه ما جمعه من صحيح البخاري وزعم كذبا وزورا أنها أحاديث إسرائيلية دخيلة على صحيح البخاري. وما ذكره قبل ذلك في الجزء الأول من الأحاديث الصحيحة وعارضه وحث على رفضه واطراحه. وسيأتي الكلام على ما لا يقتضيه عقله الناقص وما زعم كذبا وزورا أنه من القصص الخيالي والتشريع المبتدع في موضعه إن شاء الله تعالى. والواقع في الحقيقة أن المؤلف الجاهل نفض عن دينه وعقيدته جملة كثيرة من الأحاديث الصحيحة وحث الناس على نفضها وأظهر ذلك في قالب النصيحة والإصلاح فأشبه الذي كاد الأبوين وغرهما وقال الله تعالى فيه (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) وأشبه الذي قال لقومه (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وأشبه الذين قال الله فيهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون). فصل وقال المؤلف في صفحة (4) ما نصه خامسا القضاء على منازعة الحديث الباطل للقرآن الكريم وإبعاد كتب التحصيل والتخريج الفني التي تحمل كلاما يخالف المفاهيم القرآنية وحذفها من مستوى المعادلة لكتاب الله قبل أن يتقادم الزمن فتنزل هذه الكتب من القرآن منازل النسخ العديدة لأي كتاب من كتب السماء السابقة والتي أقرها تقادم الزمن فتبوأت منازل التقديس, مع ما بينها وبين الأصول المنزلة من خلاف في الحكم والمعنى مثل ما حدث للتوراة الأصلية وما تعدد بعدها من نسخ طفيلية تختلف معها في النص والمعنى.

الحث على التمسك بالسنة وذكر الأحاديث في ذلك

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس في صحيح البخاري ولا في غيره من الصحاح حديث باطل وليس فيها حديث ينازع القرآن وليس فيها ما يخالف مفهوم القرآن كما زعم ذلك المؤلف كذبا وزوراً. فالحث على إبعاد كتب التحصيل والتخريج التي هي الصحاح والسنن والمسانيد لا يدعو إليه أحد يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن فقال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فلا يتطرق إلى القرآن تحريف ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان ولا معادلة من شيء من الكتب. وقد مضى بعد نزول القرآن قريب من أربعة عشر قرنا ولا يزال القرآن غضا طريا مصونا محفوظا بحفظ الله له. ولا يزال كذلك ما دام في الأرض إلى أن يسرى عليه في آخر الزمان ويرفع إلى السماء كما جاء ذلك في أحاديث صحيحة. فمن ظن أن شيئا من كتب السنة ينازع القرآن أو يعادله أو ينزل منه مع طول الزمان منزلة النسخ العديدة للكتب المتقدمة فقد ظن بالله ظن السوء ولم يؤمن بقوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقد رام بعض أعداء الله إدخال التغيير على القرآن فأبطل الله كيدهم وصان كتابه من أعمالهم السيئة. الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على التمسك بسنته وأمرهم بتبليغ أحاديثه ودعا لمن بلغها بالرحمة والنضارة, وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة. منها ما رواه الإِمام أحمد وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإِن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم وقال ليس له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها ما رواه مالك في الموطأ بلاغا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي. ومنها ما رواه الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض».

الحث على حفظ الأحاديث وتبليغها وذكر الأحاديث في ذلك

ومنها ما رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فربّ مبلغ أحفظ له من سامع» هذا لفظ أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «رحم الله من سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع». قال ابن الأثير في جامع الأصول «نضر الله امرءاً» دعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة انتهى. ومنها ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه» قال الترمذي هذا حديث حسن. قال وفي الباب عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأنس رضي الله عنهم. قلت قد روى ابن ماجه حديثي جبير بن مطعم وأنس رضي الله عنهما. وفي الباب أيضا عن أبي سعيد الخدري وعبيد بن عمير والنعمان بن بشير وأبيه وأبي قرصافة وجابر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. وإذا علم ما ذكرنا من الأحاديث التي يصدق بعضها بعضا فلا يخفى ما في الحث على إبعاد كتب التحصيل والتخريج من المعارضة لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التمسك بسنته وتبليغ أحاديثه. وما عارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو مردود على قائله كائنا من كان. فصل وقال المؤلف في صفحة (4) ما نصه سادسا إدراك العواقب المترتبة على ترك الأحاديث المخالفة للقرآن الكريم دون تجريح وإظهار لعيوبها حتى لا تزداد عقائد الناس انحرافا عن عقيدة نبيهم بسبب تركها بغير كشف يفصل بين الحديث الصحيح الذي يستند إلى القرآن وبين الحديث الخرافي

الذي نسجه الخيال الإسرائيلي وردده المسلمون بحسن قصد. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال أن الأحاديث التي أشار إليها المؤلف وجمعها من صحيح البخاري كلها أحاديث صحيحة ولا مطعن فيها بوجه من الوجوه وليس فيها ما يخالف القرآن وليس فيها شيء من الخرافات وما نسجه الخيال الإسرائيلي. ولكن المؤلف كان زائغ القلب فاسد التصور فلهذا تخيل في الأحاديث الصحيحة ما تخيل ورام تجريحها وإلصاق العيوب بها كذبا وزورا. وقد قال الله تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال المؤلف غاية المطابقة. وكذلك قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين). الوجه الثاني ظاهر كلام المؤلف أن عقائد الناس قد انحرفت عن عقيدة نبيهم بسبب قبولهم لما في صحيح البخاري وغيره من الأحاديث الصحيحة التي تخالف رأيه الفاسد وعقله الناقص فهو لذلك يهاجمها بالتجريح وإلصاق العيوب بها حتى لا تزداد عقائد الناس انحرافا عن عقيدة نبيهم على حد زعمه الكاذب فهو يزعم لنفسه أنه مصلح لما فسد من عقائد الناس. والأمر في الحقيقة والواقع بعكس ما يقول فإِنه فاسد العقيدة ومفسد لعقائد الذين يقبلون كلامه الباطل في تجريح الأحاديث الصحيحة. وإنه لينطبق على المؤلف قول الله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون, ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون). الوجه الثالث أن يقال إن المسلمين في العقائد على قسمين. القسم الأول أهل السنة والجماعة والقسم الثاني أهل البدعة والضلالة, فأما أهل السنة والجماعة فإِنهم لم يزالوا على عقيدة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعقيدة أصحابه والتابعين لهم بإِحسان, وأما أهل البدعة والضلالة فهم الذين انحرفت عقائدهم عن عقيدة نبيهم وأصحابه وهم متفاوتون في الانحراف فمستقل منه ومستكثر, وقد ذكر الله القسمين في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) ومن هاجم الأحاديث الصحيحة ورام تجريحها وإلصاق العيوب بها فهو من الزائغين بلا شك قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر

زعمه أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم خيالية وأن كراماته وكرامات الأنبياء والأولياء مصطنعة وغمطه المؤمنين بالمعجزات والكرامات والرد عليه

بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). الوجه الرابع أن المؤلف الجاهل رمى المسلمين بالغباوة والتغفيل كما رمى الأحاديث الصحيحة بأنها أحاديث خرافة نسجها الخيال الإِسرائيلي ورددها المسلمون بحسن قصد. والجواب أن يقال (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) والمؤلف وأشباهه من الزائغين أولى بوصف الغباوة والتغفيل لأنهم انخدعوا للشيطان وصاروا من حزبه ودعاته. فصل وقال المؤلف في صفحة (4) ما نصه سابعا الاستكشاف الفعلي لانحراف عقائد من سبقونا من أمم الدراويش وجماعات التنسك الشكلي وأصحاب الدعاوي بخروج بشريتهم أو بشرية شيوخهم على سنن الله في خلقه ادعاءاً للكرامات المصطنعة وزعما للمعجزات الخيالية التي ملأت المدونات الصفراء وليس لهم فيها من سند ولا أصل إلا أحاديث الخيال المفتراة على رسول الله (ص) تلك التي استقرت في كتب الأحاديث المعتمدة لدى المسلمين بحسن القصد من الناشرين والمستطلعين. والجواب أن يقال هذه الجملة في أول كتاب المؤلف الجاهل كافية في بيان عداوته للرسول صلى الله عليه وسلم وللسلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم, وبيان ذلك من وجوه. أحدها زعمه أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم خيالية وأن كراماته وكرامات غيره من أنبياء الله وأوليائه مصطنعة. وهذا قول أعداء الله تعالى من الإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال. وقد تلقاه هذا الجاهل وأشباهه من زنادقة العصريين بالقبول والرضا. وهذا القدر كاف في الحكم بردة المؤلف وخروجه من الإِسلام. وقد أجمع العلماء على تكفير من عبث في جهة النبي صلى الله عليه وسلم بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور. وأجمعوا على تكفير من استخف بالرسول صلى الله عليه وسلم أو استهزأ به أو بشيء من أفعاله أو نسب إليه ما لا يليق

ذكر ما يصير به المسلم كافرا

بمنصبه. ذكر ذلك القاضي عياض وابن حجر الهيتمي وتقدم ذكره (¬1) وكلام المؤلف ههنا داخل فيما أجمع العلماء على تكفير قائله. الوجه الثاني زعمه انحراف عقائد الذين يؤمنون بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وكراماته وكرامات غيره من أنبياء الله وأوليائه. وهذا يتضمن القدح في جميع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإِحسان. ولا يقدح فيهم إلا من متبع لغير سبيلهم وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). وقد قال في الإقناع في ذكر ما يصير به المسلم كافراً «أو قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أي أمة الإِجابة فهو كافر لأنه مكذب للإِجماع على أنها لا تجتمع على ضلالة» انتهى. ولا يخفى ما في كلام المؤلف من تضليل الأمة على إيمانهم بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وكراماته وكرامات غيره من أولياء الله تعالى فيكون بهذا كافراً حلال الدم والمال. الوجه الثالث تسميته علماء السلف وأئمة الخلف بالدراويش وجماعات التنسك الشكلي وأصحاب الدعاوي وزعمه أنهم قد خرجوا ببشريتهم على سنن الله في خلقه, وهذه الأوصاف أولى به وبأشباهه من زنادقة العصريين وملاحدتهم. الوجه الرابع تسميته كتب الحديث المعتمدة عند المسلمين بالمدونات الصفراء تحقيراً لها وتصغيراً لشأنها وزعمه أن الأحاديث الواردة فيها في المعجزات والكرامات أحاديث خيالية مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من أعظم المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لما عليه المسلمون من الاعتناء بكتب الحديث والتعظيم لشأنها والإِيمان بما جاء في الصحيح منها من أخبار الغيوب والمعجزات والكرامات واعتقاد أن ذلك حق وصدق. وقد روى الترمذي والحاكم في مستدركه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ إلى النار». الوجه الخامس رميه المسلمين بالغباوة والتغفيل من أجل اعتمادهم على ¬

(¬1) ص: 27 - 29.

الرد على زعمه أن القرآن هو الدين بداية ونهاية وأن بعض الأحاديث الصحيحة من وحي الخيال الخرافي

كتب الحديث وإيمانهم بما جاء في الصحيح منها من إخبار الغيوب والمعجزات والكرامات. والواقع في الحقيقة أن المؤلف هو الغبي المغفل الذي انقاد للشيطان فأغواه وتلاعب به حتى انسلخ من الدين وهو لا يشعر وصار حرباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأحاديث الصحيحة والمحدثين وسائر المؤمنين وقد قال الله تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). فصل وقال المؤلف في صفحة (5) ما نصه ثامناً إثبات أن دين الله هو القرآن بداية ونهاية وأن رسول الله (ص) قد بلغ ذروة الأمانة وقمة الوفاء في بلاغه للناس نصاً كاملاً وفي بيانه لهم تطبيقاً وعملاً, والتأكيد القوي على أن كل ما يأتينا من أخبار منسوبة إلى النبي وليس لها سند قرآني إنما هي من وحي الخيال الخرافي الشارد أو الكيد الإِسرائيلي اللعين وأن رسول الله (ص) هو صاحب الساحة البريئة من تلك الأخبار لأنه لا يستطيع أن يضيف إلى كتاب الله شيئا من عنده بعد أن ضرب الله للناس فيه من كل مثل وأكد تمامه بقوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال أما قوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ ذروة الأمانة وقمة الوفاء في إبلاغ القرآن للناس وفي بيانه لهم فهذا مما لا نزاع فيه, وكذلك لا نزاع أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ السنة وبينها للناس غاية البيان وأراهم من المعجزات وخوارق العادات ما آمن به المؤمنون وكذب به الزنادقة الملحدون. قال أبو ذر رضي الله عنه «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما» رواه الإِمام أحمد والطبراني وزاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» قال الهيثمي رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة وفي إسناد أحمد من لم يسم. وأما قوله إن دين الله هو القرآن بداية ونهاية فجوابه أن يقال هذا خطأ مردود

معنى قوله (فردوه إلى الله والرسول)

بقول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» الحديث, وفي رواية «ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وقد تقدم هذا الحديث وما في معناه في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (¬1). وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في أمته أناس يعارضون السنة بالقرآن ويردن كل حديث جاء فيه ما ليس في القرآن فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه. الوجه الثاني أن يقال إن دين الله هو ما جاء في القرآن والسنة والدليل على ذلك قول الله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) قال ابن كثير في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة انتهى. وقال البغوي في قوله (فردوه إلى الله والرسول) أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حياً وبعد وفاته إلى سنته, والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإِن لم يوجد فسبيله الاجتهاد انتهى. وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال إلى الله إلى كتابه وإلى الرسول إلى سنة نبيه, وروى أيضا عن ميمون بن مهران وقتادة نحو ذلك. وروى مالك في الموطأ بلاغا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي. وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى ¬

(¬1) ص: 5 - 7.

قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء» الحديث

الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض». وروى الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني والترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإِن لم تجد في كتاب الله قال أقضي بسنة رسول الله قال فإِن لم تجد في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله». وروى النسائي عن شريح القاضي أنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله فكتب إليه «أن اقض بما في كتاب الله فإِن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِن لم يكن في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون فإِن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض به الصالحون فإِن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيراً لك والسلام». وروى النسائي أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحو قول عمر رضي الله عنه. وقد قال الله تعالى (لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) والآيات بنحو هذه الآية كثيرة وقد ذكرت جملة منها في الفصل الثالث في أول الكتاب وذكرت أيضا ما قيل في تفسير الحكمة بأنها السنة فليراجع (¬1). وفي هذه الآية وما في معناها من الآيات دليل على أن دين الله هو ما جاء في القرآن والسنة. الوجه الثالث أن يقال كل ما جاء من أخبار الثقات متصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء شهد له القرآن أو لم يشهد له لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وليس هو من وحي الخيال الخرافي ¬

(¬1) ص: 8 - 9.

الشارد أو الكيد الإِسرائيلي اللعين كما زعمه المؤلف كذبا وزورا. وقد تقدم في الفصل الأول في أول الكتاب قول الشافعي وأحمد والموفق وابن القيم في الأخذ بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فليراجع (¬1) فإنه مهم جدا. الوجه الرابع أن يقال من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه بنقل الثقات الأثبات. ولا يقول بهذا من له أدنى مسكة من عقل. الوجه الخامس أن يقال ما كان من السنة زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته لقول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقوله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) وكذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات والكرامات وما أخبر به عن الأنبياء وغيرهم من الماضين مما لم يكن في القرآن فكله حق وصدق يجب على كل مؤمن تصديقه كما يجب عليه تصديق ما جاء في القرآن قال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى, علمه شديد القوى). ومن آمن بما جاء في القرآن ولم يؤمن بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله قال الله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا, أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا, والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما). الوجه السادس أنه لا يجوز أن يقال فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أضاف إلى القرآن ما ليس منه كما هو مقتضى كلام المؤلف وهو قول سوء لا يقوله أحد يؤمن بالله ورسوله. فصل وقال المؤلف صفحة (5) ما نصه ¬

(¬1) ص: 2 - 5.

تهجم المؤلف على الأسانيد الجيدة والأحاديث الصحيحة والرد عليه

تاسعا إقامة الحجة القوية على الذين يتعصبون لآراء شيوخهم أو معتقدات آبائهم أو يلغون عقولهم أمام أسانيد تأتيهم بأحاديث تكذب كتاب الله زعما منهم أن الشلل الإرادي لعقولهم احتراما لتلك الأسانيد هو التعبد المطلوب, متناسين أن تقديس رجال الأسانيد هو التعبد المرفوض, وقد أنساهم الشيطان أن تقديس هؤلاء الرجال فيما يخالف كتاب الله هو أعظم أنواع الشرك الصحيح لأنه منازعة لله في حق الكلمة والتشريع وذلك أعظم ما لله من حقوق على خلقه. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال أن كلام المؤلف قد اشتمل على ترهات وأباطيل كثيرة, منها زعمه أن قبول الأسانيد الصحيحة من التعصب لآراء الشيوخ ومعتقدات الآباء ومن إلغاء العقول. ومنها زعمه أن في الأحاديث المروية بالأسانيد الصحيحة ما يخالف كتاب الله ويكذبه, ومنها زعمه أن احترام الأسانيد الصحيحة من الشلل الإرادي للعقول, ومنها زعمه أن احترام الأسانيد الصحيحة من تقديس رجال الأسانيد وأنه من التعبد المرفوض وأنه أعظم أنواع الشرك وأنه منازعة لله في حق الكلمة والتشريع. وجوابنا عن هذه الترهات والأباطيل أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). الوجه الثاني أن يقال إن احترام الأسانيد الثابتة والأحاديث الصحيحة هو مقتضى العقل الصحيح كما أنه عنوان على الإِيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأما عدم احترامها فإِنه دليل على ضعف العقل أو ذهابه بالكلية كما أنه عنوان على زيغ القلب وبعده عن الإِيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف هو الذي قد شل عقله في الحقيقة حينما نصب نفسه لعداوة الأحاديث الصحيحة وتعصب لآراء أبي رية وأشباهه من الزائغين الذين يعارضون الأحاديث الصحيحة بالآراء والشبهات ولا يبالون برفض الأسانيد الثابتة وتكذيب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والمعجزات والكرامات. وما أشبه هذا الضرب الرديء بالذين قال الله تعالى فيهم (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) وقال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله

ترغيبه الجهال في سلوك منهجه الباطل والرد عليه

على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). فصل وقال المؤلف في صفحة (5) و (6) ما نصه عاشراً إرشاد الراغبين في تحصيل العلم الديني إلى الباب الفسيح الذي وسعنا الله فيه فعلمنا بفضله حينما طرقنا بابه لهذا الغرض طرق الضعفاء المخلصين الباذلين جهدهم في الوفاء بالشرط الذي فرضه الله على طلاب العلم بقوله (واتقوا الله ويعلمكم الله) ذلك ليعلم المخلصون أن باب العلم مفتوح على مصراعيه لعباد الله المستطلعين لأمور دينهم الذين يحصرون أنفسهم في دائرة القرآن فيدرسونه دراسة العقلاء المتدبرين ويعكفون أيضا على دراسة السنة المتواترة التي قدمها النبي - ص - تطبيقا عمليا للقرآن الكريم. مع النصيحة الخالصة بالمداومة والصبر الجميل في دراسة آراء العلماء السابقين والمعاصرين, ومن هنا يصبح العلم الديني حقا مباحا للعاديين والرسميين. ولهذا أقول لأخي في الله وصديقي على درب الموحدين إني أهديك نصيحة صادقه هي أنك لو أردت العلم الديني فما عليك إلا أن تتقي الله وتأخذ بأسباب التحصيل اطلاعا طويلا مرتكزا على القاعدة القرآنية والسنة الصحيحة. وبالصبر الجميل على طريق الاطلاع سوف تكون عالما واعيا ولا ينبئوك مثل خبير. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن العلم النافع هو الفقه في الدين قال الله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) وفي الصحيحين وغيرهما عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وروى الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قال وفي الباب عن عمر وأبي هريرة ومعاوية رضي الله عنهم. والفقه في الدين هو العلم بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قال الشاعر: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأي فقيه

ذكر حديث «من سلك طريقا يطلب فيه علما» الخ

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم أولو العرفان ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأي فلان فالعلم بما جاء في الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم هو العلم في الحقيقة وهو الذي ينبغي للإنسان أن يجد ويجتهد في طلبه ويحرص غاية الحرص على تحصيله. قال أبو الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في الجوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه. فأما ما جمعه المؤلف في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها وتأويل القرآن على غير تأويله والاعتماد على آراء أبي رية وأشباهه من الملحدين فليس بعلم وإنما هو جهل وضلال وإضلال للأغبياء الجهال, وما أضر ذلك وأسوأ عاقبته على صاحبه قال الله تعالى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون). وروى الإِمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قال النووي سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه انتهى. الوجه الثاني أن يقال الذي يظهر من كلام المؤلف أنه يرى أنه قد حصل له حظ وافر من العلم الديني وهو ما جمعه في كتابه الذي نرد عليه. وما علم المسكين أن الشيطان قد تلاعب به وأراه الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل. وما عمل أيضا أن حقيقة كتابه هو الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفض أقواله

وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصا خيالية فهذا حاصل علمه الذي تعب في تحصيله مدة طويلة. ولا شك أنه بعيد كل البعد عن العلم الديني, ولا شك أيضا أن الجهل الكثيف خير من علم المؤلف وأحرى بسلامة الدين. الوجه الثالث أن يقال كل رأي لم يستند إلى دليل من الكتاب أو السنة فليس من العلم الديني. وأكثر الآراء غث لا خير فيه وخصوصا آراء بعض العصريين. وعلى هذا فلا ينبغي للعاقل أن يشغل نفسه بما لا فائدة فيه وأن يضيع أوقاته في دراسة الآراء التي لا خير فيها. وأما نصيحة المؤلف بالمداومة والصبر على دراسة الآراء فإِنها لا تروج إلا على أشباهه من الأغبياء الذين لا يفرقون بين الغث والسمين. وينبغي للعاقل أن يعتبر بحال المؤلف وما وقع فيه من الزيغ والإلحاد بسبب دراسته لآراء أهل الزيغ والضلال من العصريين فكانت نتيجته من أسوأ النتائج وذلك أنه بذل غاية جهده في الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفض أقواله وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات والكرامات. وكذلك قد انتحى على بعض أفاضل الصحابة والتابعين فطعن في عدالتهم ورمى بعضهم بالعظائم. ومن له أدنى عقل لا يرضى لنفسه أن تكون حاله كحال المؤلف. وأما قوله ولا ينبؤك مثل خير. فجوابه أن يقال إن المؤلف قد وصف نفسه بما وصف الله به نفسه في كتابه وهذا من إساءة الأدب مع الرب تبارك وتعالى, قال قتادة وغيره في قول الله تعالى (ولا ينبؤك مثل خبير) يعني نفسه تبارك وتعالى, فالله تبارك وتعالى هو الخبير بجميع الأمور العالم بما كان وما يكون, وأما غيره فلا يوصف بأنه خبير على الإطلاق وإنما يوصف بأنه خبير بما أحاط به علمه فقط. والعلم بمآل الأمور من خصائص الرب تبارك وتعالى فهو الذي يعلم من يكون عالما واعيا بسبب القراءة والاطلاع ومن لا يستفيد بكثرة القراءة والاطلاع والصبر على الدراسة شيئا أو يستفيد ما يضره ويضر غيره كحال المؤلف. ويقال أيضا أن المؤلف قد أكثر القراءة والإِطلاع كما صرح بذلك في البند

تصريحه بأنه قد سلك في كتابه درب الذين يقولون بحرية الفكر والرد عليه

الحادي عشر ومع هذا لم يكن عالماً واعياً وإنما كان جاهلاً محاداً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومتبعاً لغير سبيل المؤمنين. ومن كانت هذه حاله وكان غير خبير بالأمر الذي وقع فيه بنفسه فكيف يكون خبيراً بما تؤول إليه حال غيره. فصل وقال المؤلف في صفحة (6) ما ملخصه حادي عشر كتابنا هذا يستند إلى كتاب الله نصاً ومعنى وقد سلكنا في تدوينه درب الأحرار المفكرين من الموحدين والسلفيين الذين يلتزمون بالقرآن وبتطبيق النبي تعبداً وتشريعا. ثم ذكر أنه عكف على القراءة والاستنباط طول حياته الماضية حتى فتح الله عليه بمعرفة الحق من الباطل بسبب رجوعه في كل شيء قرأه إلى القرآن, ثم قال وعلينا أن نشير بسهم الإِشارة لأستاذ المخرجين البخاري الذي لا يؤثر في كثرة الصحيح عنده ما نستبعده من أحاديث تخالف القرآن الكريم, ونحن على يقين من أن ذلك لا يغضبه لأنه لا يحب أن يسئل يوم القيامة عن كلام يخالف كلام الله. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن كتاب المؤلف لم يستند إلى كتاب الله لا نصاً ولا معنى وإنما استند إلى القول في كتاب الله بغير علم وحمل الآيات على غير محاملها, واستند أيضا إلى رأيه وآراء أهل الزيغ والإلحاد كأبي رية وأشباهه من أعداء الأحاديث الصحيحة. يوضح ذلك الوجه الثاني وهو أن المؤلف صرح أنه سلك في تدوين كتابه درب الأحرار المفكرين - يعني الذين يقولون بحرية الفكر من العصريين فيتبعون ما يرونه بأفكارهم ولا يعبأون بالآيات والأحاديث الصحيحة وأقوال الصحابة ولا يبالون برفضها واطراحها إذا عارضت شيئا من آرائهم الفاسدة. الوجه الثالث أن يقال لم يكن سلف الأمة وأئمتها يتأولون القرآن على غير تأويله ويعارضون به الأحاديث الصحيحة ولم يكونوا يقولون بحرية الفكر فيما يخالف الكتاب أو السنة أو الإِجماع أو قول صاحب لم يخالفه غيره من الصحابة, وإنما كانوا يحترمون القرآن والأحاديث الصحيحة وإجماع أهل العلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ويجتهدون الرأي فيما لم يجدوا فيه دليلا من القرآن أو من السنة أو من الإجماع أو من أقوال الصحابة رضي الله عنهم. ومن سلك سبيلاً غير سبيل السلف

الصالح من صدر هذه الأمة فليس من السلفيين, ودعواهم أو دعوى أتباعهم إنهم سلفيون دعوى على غير حقيقة فلا تقبل. الوجه الرابع أن يقال إن الذين يلتزمون بالقرآن وبتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في القرآن ويرفضون ما سوى ذلك من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وما ثبت عنه من المعجزات والكرامات ليسوا سلفيين وإنما هم أهل بدعة وضلالة. قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وحذر منهم في عدة أحاديث تقدم ذكرها في الفصل الثالث في أول الكتاب فلتراجع (¬1). الوجه الخامس أن يقال إن السلفيين هم أهل السنة والجماعة وهم الذين يتمسكون بالقرآن والسنة وهي ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال سواء كانت موافقة للقرآن أو زائدة على ما فيه وسواء كانت متواترة أو آحاداً. ومن أصول السلفيين أيضا أنهم يؤمنون بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات مما وقع له صلى الله علي وسلم وما أخبر به عن الأنبياء وغيرهم من أولياء الله تعال ولا يردون من ذلك شيئاً كما يفعله تلامذة الإفرنج ومقلدوهم من العصريين ومنهم المؤلف وأبو رية وأبو عبية وغيرهم من أدعياء العلم في زماننا. الوجه السادس أن يقال إن الذين يزعمون أنهم يلتزمون بالقرآن ليسوا صادقين في زعمهم ولو كانوا صادقين لآمنوا بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان موافقاً للقرآن أو كان زائداً على ما فيه وسواء كان متواتراً أو آحاداً لأن الله تعالى قال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك, وتقدم في الفصل الأول في أول الكتاب قول الإمام أحمد أيضا كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). ¬

(¬1) ص: 5 - 7.

كلام حسن لابن القيم في التحذير من رد الحق ومن التهاون بالأمر

وأما ما ذكره المؤلف عن نفسه أنه عكف على القراءة والاستنباط طول حياته الماضية حتى فتح الله عليه بمعرفة الحق من الباطل بسبب رجوعه في كل شيء قرأه إلى القرآن. فجوابه أن يقال إن عكوفه على القراءة والاستنباط طول حياته لم يزده إلا جهلا ولبسا للحق بالباطل ومحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباعا لغير سبيل المؤمنين. وذلك أنه نصب نفسه للرد على رسول الله صلى الله علي وسلم واطراح كثير من أقواله وأفعاله وما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وقد قال الله تعالى (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وقال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) وقال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون). قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء أحدهما رد الحق لمخالفته هواك فإِنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأسا ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثاني التهاون بالأمر إذا حضره وقته فإِنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك قال تعالى (فإِن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فلتهنه السلامة انتهى. ومن نظر في كتاب المؤلف وكان ذا بصيرة لم يشك أنه قد أصيب بتقليب القلب والبصر فصار يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق. وما زعمه من رجوعه في كل شيء قرأه إلى القرآن لم يكن سوى القول في كتاب الله بغير علم وحمل الآيات على غير محاملها. ولا شك أن المؤلف داخل فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه في قوله «لا أعرفن أحداً منكم أتاه عني حديث وهو متكئ على أريكته فيقول اتل به قرآنا» وفي رواية «لا أعرفن أحدكم يأتيه أمر من أمري قد أمرت به أو نهيت

زعم المؤلف أن في صحيح البخاري أحاديث تخالف القرآن والرد عليه

عنه وهو متكئ على أريكته فيقول ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا» وقد تقدم هذا الحديث وأحاديث في معناه في الفصل الثالث في أول الكتاب فلتراجع (¬1) وأما قوله وعلينا أن نشير بسهم الإشارة لأستاذ المخرجين البخاري الذي لا يؤثر في كثرة الصحيح عنده ما نستبعده من أحاديث تخالف القرآن الكريم ونحن على يقين من أن ذلك لا يغضبه لأنه لا يحب أن يسئل يوم القيامة عن كلام يخالف كلام الله. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال ليس البخاري أستاذاً لأحد من المخرجين سوى الترمذي. وقد روى عنه مسلم في غير الصحيح. وروى عنه النسائي حديثا واحداً, وكثير من المخرجين كانوا من أقران البخاري وبعضهم من شيوخه وبعضهم من شيوخ شيوخه وبعضهم كانوا بعد زمانه وعلى هذا فلا يصح أن يقال إن البخاري أستاذ للجميع وإنما يصح أن يقال إنه مقدم على الذين اعتنوا بجمع الأحاديث الصحيحة. الوجه الثاني أن يقال ليس في صحيح البخاري ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه, واستبعاد المؤلف لبعض الأحاديث التي في صحيح البخاري لا يؤثر فيها بشيء وإنما يؤثر في المؤلف ويدل على غباوته وكثافة جهله بالأحاديث الصحيحة, ومن المطابق للمؤلف في تهجمه على صحيح البخاري قول الأعشى. كناطح صخرة يوما ليوهيها ... فلم يضره وأوهى قرنه الوعل وأما قوله ونحن على يقين من أن ذلك لا يغضبه. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال من أين للمؤلف على أن يعلم يقيناً أن تهجمه على صحيح البخاري لا يغضب البخاري (أعنده علم الغيب فهو يرى). وما ادعاه من اليقين فهو في الحقيقة ظن كاذب وليس يقيناً صادقاً وقد قال الله تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) وفي الحديث الصحيح «الظن أكذب الحديث» رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الوجه الثاني أن يقال إن تهجم المؤلف على صحيح البخاري ليس بالأمر الهين, ولا أظن أن أحداً من المسلمين يرضى بصنيع المؤلف فضلاً عن أن يرضى بذلك البخاري لو كان حياً. وكيف لا يغضب المؤمنون عامة والبخاري خاصة من الاستهانة ¬

(¬1) ص: 5 - 7.

بكتاب قد تلقته الأمة بالقبول واتفق العلماء المعتد بأقوالهم على أنه أصح الكتب بعد القرآن. وكيف لا يغضب المؤمنون عامة من اطراح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. وكيف لا يغضب البخاري والمؤمنون الذين يعرفون عظم قدر البخاري من محاولة الحط من قدره وإلحاقه بالأغبياء المغفلين الذين تروج عليهم دسائس الكذابين. وكيف لا يغضب المؤمنون عامة من الطعن في بعض الصحابة والتابعين ورميهم بالدس على الإسلام. ولا شك أن المؤلف قد تعرض لغضب الله تعالى لأنه قد بالغ في إساءة الأدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بعض الصحابة رضي الله عنهم وعلى الثقات الأثبات من رجال الأحاديث من التابعين ومن بعدهم وعلى الذين ألفوا الصحاح والسنن المسانيد فالله يجازيه على أفعاله السيئة بعدله. وأما قوله لأنه لا يحب أن يسئل يوم القيامة عن كلام يخالف كلام الله. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ليس في صحيح البخاري ما يخالف كلام الله بوجه من الوجوه, وقد تقدم بيان ذلك في عدة مواضع. وما زعمه المؤلف من مخالفة ما فيه لكلام الله تعالى فهو كذب وبهتان. الوجه الثاني أن يقال على سبيل الفرض والتقدير لو كان في صحيح البخاري أحاديث كثيرة تخالف كلام الله لما كان عمل المؤلف في معارضتها ورفضها نافعا للبخاري في معاده ومانعا من سؤاله عما خرجه في كتابه قال الله تعالى (كل امرئ بما كسب رهين) وقال تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة). ولو أن المؤلف حاسب نفسه على عمله في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها وخاف من السؤال عن ذلك يوم القيامة لكان خيراً له. الوجه الثالث أن يقال أن البخاري رحمه الله تعالى قد اعتنى بجمع الأحاديث الصحيحة وحفظها على الأمة فصار كتابه نوراً يستضيء به المؤمنون. وقد جاء في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالرحمة والنضارة لمن حفظ أحاديثه وبلغها, وقد تقدم ذكرها, والبخاري من الذين ترجى لهم الرحمة والنضارة والدرجة العالية في الدار الآخرة. وأما المؤلف فيخشى عليه من العذاب الشديد على

قلبه للحقيقة في ذكر الدوافع لتأليف كتابه والرد عليه

معارضته للأحاديث الصحيحة ورفضها وتكذيب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصاً خيالية وخوارق خرافية, وعلى طعنه في بعض الصحابة والتابعين ورميهم بالدس على الإسلام .. فصل وقال المؤلف في صفحة (8) في مقدمة الكتاب وذكر الدوافع لتأليفه ما ملخصه. الدافع الأول هو صدورنا في تأليفه عن رهبة وخوف من عقاب الله للمقصرين في دعوة الحق - إلى أن قال - ولا شيء علينا إلا أن نحتمي بالله وحده من الراجمين لنا بغير حق ومن المعتدين علينا بغير عدل نتيجة جهرنا بما أمر الله به عندما نخالفهم بكلمة الحق فيما يقولون أو ما يعتقدون. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الشيطان قد تلاعب بالمؤلف الجاهل غاية التلاعب فأراه الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق وأوهمه أن تأليفه لكتابه صادر عن رهبة وخوف من عقاب الله. وقد سلك المؤلف في دعواه الخوف من الله تعالى مسلك شيخه إبليس حينما كان مع كفار قريش يوم بدر يحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الله تعالى مخبراً عنه (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) وقال تعالى (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين). الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف هو الجائر المعتدي في الحقيقة لأنه قد بذلك جهده في معارضة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصاً خيالية وخوارق خرافية وهذا من أقبح الجور والاعتداء والرجم بغير الحق. فأما الرد على أباطيل المؤلف وترهاته فهو من أهم المهمات وآكد الحقوق الواجبة على من يستطيع ذلك من العلماء وهو من العدل والانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث أن يقال قد زعم المؤلف أنه قد جهر بما أمر الله به وهذا من

الكذب على الله تعالى. فإن الله تعالى لم يأمر قط بمعارضة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. وإنما أمر تبارك وتعالى بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه وتوقيره واحترامه والأخذ بما جاء به والانتهاء عما نهى عنه وحذر غاية التحذير من مخالفة أمره قال الله تعالى (فآمنوا بالله رسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) وقال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) وقال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) وقال تعالى (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا. لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو هذه الآية (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وقال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). ولا شك أن المؤلف قد وقع في نفسه حرج عظيم من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ومعجزاته وكراماته فلذلك أطلق العنان لنفسه في معارضته ورفض أقواله وأفعاله وتكذيب معجزاته وكراماته وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. والله المسئول أن يعافينا وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به. الوجه الرابع أن المؤلف زعم أنه قد قال كلمة الحق وهذا من قلب الحقيقة لأنه إنما قال الأباطيل والترهات وعارض الحق ورفضه وأبعد عنه غاية البعد وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون). فصل وقال المؤلف في صفحة (8) وصفحة (9) ما نصه

إعلانه للعناد والطعن في الأحاديث الصحيحة والرد عليه

الدافع الثاني هو إعلان الغيرة التي لا تقبل من المؤمن صمتا ولا كتمانا وإنما يفرضها الله جهارة وإعلانا وحملة وإنكاراً على باطل القول وزور الحديث الذي نسب إلى رسول الله (ص) وتغلغل في سطور كلامه الصحيح حتى أصبح معارضا للقرآن الكريم ومعطلا لأحكامه الصريحة الواضحة ثم غشي بغشائه القبيح على أجمل وأطيب سيرة منحها الله لخاتم النبيين والمرسلين. وليس لنا من مخرج العقاب على وجود هذا الباطل في كتب الأحاديث الصحيحة ومضارعته للقرآن إلا بإعلان تلك الصيحة والتعريض الكتابي بعيوب وبطلان ما دسه الإسرائيليون وأقحموا فوقه اسم نبينا زورا وبهتانا ليشوهوا دين الإسلام بما في تلك الأحاديث من عيوب الوثنية وقبيح الباطل وبطلان التخريف. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن المؤلف إنما أعلن العناد والزندقة والإلحاد وأظهر ذلك في قالب النصيحة والإصلاح كما قال تعالى عن سلفه وإخوانه (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) فقد أعلن غيرته جهارة وإعلاناً وحملة وإنكاراً لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله ومعجزاته وكراماته كما لا يخفى على من نظر في كتابه المملوء بالأباطيل والترهات. الوجه الثاني أن يقال ليس في صحيح البخاري شيء من باطل القول وزور الحديث وإنما ذلك في كتاب المؤلف فهو الذي قد ملئ بالأباطيل والزور والبهتان, وسأبين ذلك في مواضعه من الرد عليه إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث أن يقال ليس في صحيح البخاري شيء يعارض القرآن الكريم ويعطل أحكامه الصريحة كما زعم ذلك المؤلف كذبا وزورا. وقد تقدم في الفصل الثاني عشر في أول الكتاب ما نقله النووي من اتفاق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وأن الأمة تلقتهما بالقبول وأن ما حكم البخاري ومسلم بصحته فهو مقطوع بصحته في نفس الأمر وأن علماء المسلمين أجمعوا على صحتهما سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع. وتقدم أيضا ما ذكره ابن كثير من إجماع العلماء وسائر أهل الإسلام على قبول صحيح البخاري وصحة ما فيه. فليراجع ذلك (¬1) ففيه أبلغ رد على كذب المؤلف وإلحاده. ¬

(¬1) ص: 32 - 33.

الوجه الرابع أن يقال ما ذكر في صحيح البخاري وغيره من الصحاح من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات فقد غشى السيرة النبوية بأحسن الغشاء وأجمله كما لا يخفى على أهل العلم النافع والعقول السليمة, وليس الأمر على ما قاله من أعمى الله قلبه فزعم أن ذلك قد غشى السيرة النبوية بغشائه القبيح. وجوابنا عن هذه الفرية أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). الوجه الخامس أن يقال قد تعرض المؤلف للعقاب الشديد على معارضته لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتكذيبه لمعجزاته وكراماته وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. ولو أنه أعرض عن الكتابة في هذا الموضوع لكان خيراً له وأحرى لسلامته. الوجه السادس أن يقال إن معاندة المؤلف للأحاديث الصحيحة وإعلانه الصيحة واللغو في معارضتها شبيه بمعاندة الكفار للقرآن ولغوهم في معارضته قال الله تعالى (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديداً ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون. ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون). الوجه السابع أن يقال إن الله تبارك وتعالى قد صان الصحيحين من دس الإسرائيليين ومن كل ما يشوه دين الإسلام من الوثنية وقبيح الباطل وبطلان التخريف. ولكن المؤلف هو الذي أراد الدس على المسلمين وتشكيكهم في الأحاديث الصحيحة فهو في الحقيقة شر على الإسلام والمسلمين من الإسرائيليين ومن غيرهم من أعداء الله تعالى. الوجه الثامن أن يقال إن كتب السنة كانت محترمة عند علماء أهل السنة والجماعة منذ زمان تأليفها إلى أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة فحينئذ ظهرت فئة من تلاميذ الإفرنج ومقلديهم والمتزلفين إليهم بالطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها. ومنهم المؤلف وأبو رية وبعض مشايخه الذين بثوا في المسلمين كثيرا مما يراه الإفرنج ويعتقدونه مما هو مخالف للقرآن والأحاديث الصحيحة. وقد تنوعت طرق طعنهم في الأحاديث الصحيحة فتارة يطعنون فيها بأنها تخالف القرآن. وإنما يقولون ذلك لقصور فهمهم للأحاديث الصحيحة وحملهم القرآن على غير محامله. وتارة

تزلف المؤلف إلى الله بالتعطيل والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم والاعتراض عليه والاطراح لبعض الأحاديث الثابتة عنه والطعن في بعض الصحابة والتابعين والرد عليه

يطعنون فيها بأنها أخبار آحاد. وتارة يزعمون أنها من الدس الإسرائيلي. وتارة يصرفونها عن ظاهرها ويتأولونها على غير المراد بها مما يوافق آراءهم أو آراء من يعظمونهم من الإفرنج وتلاميذ الإفرنج. وبالجملة فقد كانت هذه الفئة معاول هدم وتخريب للإسلام وعقائد المسلمين وآلة لنشر الإلحاد والزندقة والله المسؤل أن يطهر الأرض منهم ومن أشباههم من المفسدين إنه على كل شيء قدير. فصل وقال المؤلف في صفحة (9) ما نصه الدافع الثالث هو التزلف إلى الله تبارك وتعالى بإعلان تنزيهه عما جاء بهذه الأحاديث الكاذبة من صفات النقص والعيب الذي لا يليق بجلاله في صنعه وتقديره وإحكام قوله بغير تبديل. وبضرورة الرجوع بأحاديث الدس إلى كتاب الله حتى يفضح القرآن ما فيها من كيد أخفى شره أعداء الإسلام تحت كلمات التكريم الصناعي لرسول الله (ص) مع ما في تلك الأحاديث المزينة بكلمات التكريم من انحراف للعقائد وزيغ للقلوب. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الشيطان قد تلاعب بالمؤلف غاية التلاعب حتى إنه زين له التزلف إلى الله تعالى بالكفر الذي هو أبغض الأشياء إلى الله. وذلك أنه نفى عن الرب تبارك وتعالى بعض صفات الكمال يقصد بذلك التنزيه فوقع في التعطيل. والتعطيل كفر. قال نعيم بن حماد شيخ البخاري من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد شيئا مما وصف الله به نفسه فقد كفر. وهذا الذي قاله نعيم بن حماد رحمه الله تعالى هو قول أهل السنة والجماعة لا خلاف بينهم في ذلك, وقد تزلف المؤلف إلى الله تعالى أيضا بالاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم والغض منه والعبث في جهته العزيزة بسخف الكلام ومنكر القول والاعتراض على كثير من أقواله وأفعاله ومعجزاته وكراماته ورفضها واطراحها وتسمية معجزاته وكراماته قصصا خيالية وخوارق خرافية. وكل نوع من هذه الأنواع كفر. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك وبيان ما نفاه من صفات الرب تبارك وتعالى عند الكلام على الأحاديث التي رفضها وزعم أنها مدسوسة. ومما تزلف به المؤلف إلى الله تعالى أيضا الوقيعة في بعض الصحابة والتابعين والقدح في عدالتهم بالزور والبهتان. ومنهم عبد الله بن سلام الذي شهد له رسول الله

صلى الله عليه وسلم بالجنة. ومنهم أنس بن مالك الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة, ودعوته صلى الله عليه وسلم مستجابة بلا شك, وقول الزور والبهتان من كبائر الإثم ومن أبغض الأشياء إلى الله تعالى وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون). الوجه الثاني أن المؤلف نزه الله تعالى عن الاتصاف ببعض صفات الكمال وزعم أنها صفات نقص وعيب لا تليق بجلال الله. وهذا يدل على انتكاس قلبه. والله تبارك وتعالى منزه عن كلام المؤلف وتعطيله الذي زعم أنه تنزيه. الوجه الثالث أن المؤلف زعم أن الأحاديث الصحيحة الواردة في صفات الرب تبارك وتعالى أحاديث كاذبة. والجواب أن يقال بل المؤلف هو الكاذب الأفاك. والأحاديث التي قدح فيها وهي في صحيح البخاري كلها أحاديث صادقة على رغم أنفه وأنف من يقول بقوله. الوجه الرابع أن يقال ليس في صحيح البخاري ولا في غيره من الصحاح شيء من الدس وقد تقدم بيان ذلك مراراً وبيان كذب المؤلف فيما زعمه من الدس في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة. الوجه الخامس أن يقال إن الأحاديث الصحيحة فيها الهدى والنور وليس فيها شيء من الكيد والشر وإنما ذلك في كلام المؤلف وكتابه وكتب أشباهه من العصريين. الوجه السادس أن يقال ليس في رواة الأحاديث الصحيحة أحد من أعداء الإسلام وإنما عدو الإسلام في الحقيقة هو المؤلف الذي استهان بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ومعجزاته وكراماته وجعلها غرضا لسهامه الخبيثة. الوجه السابع أن يقال إن نسبة الأحاديث الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة عند أهل العلم وليس ذلك من كلمات التكريم الصناعي كما زعم ذلك المؤلف كذباً وبهتاناً. الوجه الثامن أن يقال إن انحراف العقائد وزيغ القلوب لا يكون بالإيمان بالأحاديث الصحيحة وإنما يكون بنبذها واطراحها كما وقع للمؤلف الجاهل فقد

تهور المؤلف في ذم الأحاديث الصحيحة والطعن فيها، والرد عليه

انحرفت عقيدته وزاغ قلبه بسبب تكذيبه للأحاديث الصحيحة ورفضه واطراحه لها. الوجه التاسع أن يقال إن رسوخ العقيدة الصحيحة وثباتها واستقامة القلوب إنما يكون بالإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة. فمن آمن بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة رسخت العقيدة الصحيحة في قلبه وثبتت واستقام قلبه, ومن رفض شيئاً مما جاء في القرآن أو الأحاديث الصحيحة فلا بد أن تنحرف عقيدته ويزيغ قلبه. فصل وقال المؤلف في صفحة (9) ما نصه الدافع الرابع هو إبعاد الشوائب الإسرائيلية عن معاني القرآن والسنة النبوية حتى يتوقف طوفان البدع الدينية عند حدود ما شرع الله في كتابه وبيّن رسوله بعمله وبذلك يصبح القرآن شفاء مجدياً لأمراض الصدور بعد أن تعطلت فاعليته في هذا الشفاء نتيجة لمزجه بمحلول وتركيبة الحديث الدخيل على كلام النبي فازدادت معظم القلوب مرضا على أمراضها رغم أنه تستوعب القرآن حفظاً أو سمعاً حتى أصبح الواجب الأول على علماء الدين أن يثبتوا أن العيب لم يكن نقصا في فاعلية القرآن وتأثيره في أمراض الصدور وإنما العيب كل العيب في مزجه بمخلوط الحديث الخيالي المخترع والتشريع المبتدع المستمد من روايات الخيال السابح في أودية التخريف الإسرائيلي. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن أقول قد ذكرت مراراً أن صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاح والسنن والمسانيد ليس فيها شيء من الدس الإسرائيلي وليس فيها شيء يخالف القرآن أو يدعو إلى البدع الدينية. وما زعمه المؤلف من الدس فيها بما يخالف القرآن أو يدعو إلى البدع الدينية فهو زعم كاذب فلا يغتر به. الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف لم يبعد عن معاني القرآن شيئاً من الشوائب الإسرائيلية وإنما أبعد الأحاديث الصحيحة النبوية واختار للإبعاد صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد القرآن. ولا أعلم أن أحداً سبق المؤلف إلى هذا العمل الخبيث فالله يجازيه على ذلك بعدله. الوجه الثالث أن المؤلف فرق بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله

فقبل الأعمال ورد الأقوال وزعم أنها دسائس إسرائيلية فكان مثله مثل اليهود الذين قال الله تعالى فيهم (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون). الوجه الرابع أن الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور منذ أنزله إلى أن يرفع إلى السماء في آخر الزمان. ولم تتعطل فاعليته في الشفاء إلا عند الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم كالمؤلف وأشباههم من الزنادقة. الوجه الخامس أن المؤلف صرح أن القرآن قد تعطلت فاعليته في شفاء أمراض الصدور نتيجة لمزجه بمحلول الحديث الدخيل على كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ومراد المؤلف بالحديث الدخيل ما جمعه من صحيح البخاري وزعم أنه من الدس الإسرائيلي وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى حد كلام المؤلف يكون القرآن قد تعطلت فاعليته في شفاء أمراض الصدور منذ زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمان المؤلف. وهذا قول سوء لا يقوله مسلم. الوجه السادس أن المؤلف رمى الأحاديث الصحيحة التي جمعها من صحيح البخاري بأنها من الحديث الخيالي المخترع والتشريع المبتدع المستمد من روايات الخيال السابح في أدوية التخريف الإسرائيلي. والجواب عن هذا التهور القبيح أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا). الوجه السابع أن يقال من أوجب الواجبات على علماء الدين أن ينفوا عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وأن ينفوا عن الأحاديث الصحيحة كل شناعة وزور وبهتان مما يفتريه الدجالون والزنادقة الملحدون كالمؤلف وأشباهه من أدعياء العلم والإسلام. والقيام بهذا الواجب من أعظم الجهاد في سبيل الله. وقد قال الله تعالى (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم, والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم).

تبرئته للنبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الثابتة عنه والرد عليه

الوجه الثامن أن يقال ليس في صحيح البخاري ولا في غيره من الأحاديث الصحيحة عيب البتة وإنما العيب كل العيب فيمن عابها وعارضها ورفضها واطرحها وكذب بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات وسماها قصصا خيالية وخوارق خرافية, ورمى بعض الصحابة والتابعين بالعظائم وطعن في عدالتهم بالزور والبهتان. وهذا هو ما عمله المؤلف في كتابه واستحسنه وبذل جهده في كتابته ونشره وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون). فصل وقال المؤلف في صفحة (9) وصفحة (10) ما نصه الدافع الخامس هو تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه من أحاديث القول الزائد على البيان القرآني لصفات الله وأفعاله وأقداره وتصريفه لأمور خلقه وما بينه القرآن عن العالم العلوي والروح وأحوال ما بعد الموت والعلم بالغيب وموعد الساعة وعن عالم الجن رؤية واتصالا وأحوال النبيين وأممهم. إذ المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء في تلك الأمور أكثر مما جاءه في القرآن الذي يقول الله عنه وفيه (ما فرطنا في الكتاب من شيء). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه بنقل الثقات الأثبات. ولا يقول بهذا القول الباطل إلا من هو زائغ القلب فاسد العقيدة والتصور. الوجه الثاني أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله». وقد تقدم هذا الحديث في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (¬1) ففيه أبلغ رد على المؤلف في إنكاره للأحاديث الصحيحة الزائدة على ما جاء بيانه في القرآن. الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بسنتي وسنة ¬

(¬1) ص: 6.

الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» وقال صلى الله عليه وسلم أيضا «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله». وقد تقدم إيراد هذين الحديثين (¬1) وذكر من رواهما وصححهما من الأئمة, وفيهما أبلغ رد على المؤلف لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على التمسك بسنته وهي تشمل أقواله وأفعاله. ومن فرق بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله فآمن بالأفعال وأنكر الأقوال فهو ممن آمن ببعض السنة وكفر ببعضها. وإيمانه بالأفعال مع إنكاره للأقوال لا ينفعه إذ لا بد من الإيمان بهما معا, وقد تقدم في الفصل الأول في هذا الكتاب (¬2) قول البربهاري, من رد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم. الوجه الرابع أن الله تعالى قال في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وفي هذه الآيات أوضح دليل على أنه يجب على المسلمين قبول ما جاء في الأحاديث الصحيحة من بيان صفات الله تعالى وأفعاله وأقداره وتصريفه لأمور خلقه وما جاء فيها من الإِخبار عن العالم العلوي والروح وأحوال ما بعد الموت وغير ذلك من أمور الغيب وعن أحوال النبيين وأممهم وعن رؤية الجن واتصالهم ببني آدم. فكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الثقات الأثبات فهو حق يجب قبوله ولا يجوز رد شيء منه ولو كان زائداً على ما جاء في القرآن إلا إذا عارضه ما هو أصح منه من الأحاديث. ومن رد شيئاً مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله أمره في قوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ولم يصدق بما أخبر الله به عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى. الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن موعد الساعة البتة. ولما قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم اخبرني عن الساعة قال «ما المسؤل عنها بأعلم من السائل» رواه الإِمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ¬

(¬1) ص: 44. (¬2) ص: 3.

تبرئته للنبي صلى الله عليه وسلم من الخوارق وزعمه أنها خرافية وخيالية والرد عليه

وقد قال الله تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها. فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها). وقد جاء في عدة أحاديث صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). وإذا علم هذا فما زعمه المؤلف من أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في موعد الساعة فهو كذب من المؤلف لا أصل له. الوجه السادس أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة لم تكن في القرآن وقد أمر الله المسلمين بقبولها فقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وأخبر تبارك وتعالى أنها من الوحي فقال تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) وهذا هو المعروف عند أهل العلم وإنما يجهله الأغبياء ويتجاهله الزنادقة الأشقياء. فصل وقال المؤلف في صفحة (10) ما نصه الدافع السادس هو تبرئة النبي (ص) من الخوارق الخرافية والخيالية التي كان غنيا عنها بمعجزة القرآن الكريم. ورفع منزلته على ما نسجه خيال المادحين له بجهالة وطيش. وعلى ما وضعه الماكرون من اليهود في سيرته من عيوب أساءت إلى صفحته الرفيعة الطاهرة وخصاله العالية الحميدة كما سيرى القارئ الكريم في أبواب هذا الكتاب. وأعظم من ذلك دافعا وأكبر قصداً هو تبرءته عليه الصلاة والسلام مما نسبه إليه الإِسرائيليون من تعصب نحو شخصه حينما اتهموه بأنه قال إنه سيشفع في عمه. وفضل بنته على أهل الجنة ورفع زوجته عائشة على نساء العالمين. وفي كتابنا هذا من تلك المفتريات الإِسرائيلية على رسول الله والتي جمعناها من صحيح البخاري ما يملأ نفوس المؤمنين غيرة على نبيهم ودينهم فيعلنون محاربتهم لها وما يحمل الساكتين عن محاربتها وزر الكاتمين لما أنزل الله.

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الخوارق الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها حق وهي من أعلام النبوة وليست بخرافية ولا خيالية كما زعم ذلك المؤلف ظلما وزوراً وبهتاناً. الوجه الثاني أن يقال ليست معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على القرآن بل كان له من المعجزات وخوارق العادات شيء كثير, وأعظم معجزاته القرآن العظيم الذي عجز الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بسورة من مثله ولو كانت من قصار السور. ومن أعظم معجزاته أيضا انشقاق القمر وقد ذكر الله ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى (اقتربت الساعة وانشق القمر) قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «خمس قد مضين الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر» وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجع في تفسيره. وقال في «البداية والنهاية» وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة انتهى. ومن معجزاته أيضا تكثير الطعام القليل وقد ثبت ذلك في قضايا متعددة. ومن معجزاته أيضا تكثير الماء القليل ونبع الماء من بين أصابعه في الإِناء وقد ثبت ذلك في قضايا متعددة. ومن كراماته صلى الله عليه وسلم سرعة إجابة دعائه في الاستسقاء والاستصحاء وغير ذلك. ومن كراماته أيضا تسليم الشجر والحجر عليه وتسبيح الحصى في كفه. وكذلك تسبيح الطعام وهو يؤكل. وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون تسبيحه. وكل ما ذكرنا فهو ثابت بالأسانيد الصحيحة وليس شيء من ذلك من نسج خيال المادحين للنبي صلى الله عليه وسلم كما قد زعم ذلك من استزله الشيطان وأغواه. وله صلى الله

نفيه الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب عنه، والرد عليه

عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات غير ما ذكرنا وهي كثيرة جدا. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين. وقال البيهقي في المدخل بلغت ألفا. وقال الزاهدي من الحنفية ظهر على يديه ألف معجزة وقيل ثلاثة آلاف. وقد اعتنى بجمعها جماعة من الأئمة كأبي نعيم والبيهقي وغيرهما انتهى. الوجه الثالث أن يقال إن الأحق بوصف الجهالة والطيش من يخبط خبط عشواء في إنكار الأحاديث الصحيحة وردها وذلك هو صاحب الكتاب الذي نرد عليه. الوجه الرابع أن يقال إن الله تعالى قد صان الأحاديث الصحيحة من مكر الماكرين وأقام لها من الثقات الأثبات من حفظها وأداها إلى الأمة. وما زعمه المؤلف عن الماكرين من اليهود أنهم وضعوا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عيوبا أساءت إلى صفحته الرفيعة الطاهرة وخصاله العالية الحميدة فهو كذب وزور مردود على قائله الذي هو شر على الإسلام والمسلمين من اليهود وغيرهم من أعداء الإِسلام والمسلمين. الوجه الخامس أن المؤلف قد أصيب بتقليب القلب وعمى البصيرة فكان يرى المحاسن في صورة المساوئ والفضائل في صورة المعائب. ومن ذلك قوله عن المعجزات وخوارق العادات التي جعلها الله تعالى كرامات للنبي صلى الله عليه وسلم وأعلاما من أعلام نبوته أنها من العيوب التي أساءت إلى صفحته وخصاله. والجواب أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). وأما قوله وأعظم من ذلك دافعاً وأكبر قصداً هو تبرءته عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه الإِسرائيليون من تعصب نحو شخصه حينما اتهموه بأنه قال أنه سيشفع في عمه. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما, فأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما أنه سمع رسول الله

ذكر القاعدة الخبيثة التي يعتمد عليها المؤلف وأشباهه من أهل الزيغ والضلال

صلى الله عليه وسلم وذكر عنده أبو طالب فقال «لعله أن تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه». وأما حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما أنه قال يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال «نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» رجال الحديثين كلهم ثقات أثبات من لدن الصحابيين إلى الأئمة المخرجين للحديثين, فأي طريق للإِسرائيليين إلى الدس في هذين الحديثين لو كان المؤلف الجاهل يعقل. الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف المفتون هو الذي أراد الدس في هذين الحديثين الصحيحين وتشكيك المسلمين فيما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فهو في الحقيقة شر من اليهود وأعظم ضرراً على الإِسلام والمسلمين. الوجه الثالث أن يقال إن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه ليست من التعصب نحو شخصه صلى الله عليه وسلم كما زعم ذلك المؤلف الأحمق. وليس في ذلك ما يدعو إلى اتهامه صلى الله عليه وسلم كما زعم ذلك أيضا. وإنما هي من إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وقبول شفاعته في عمه. وأعظم من هذا شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف يوم القيامة حينما يطول وقوفهم ويشتد الكرب عليهم فيشفعه الله ويأتي لفصل القضاء بين عباده كما هو ثابت في الصحاح والسنن والمسانيد. ولا ينكر ذلك إلا من هو مكابر معاند. وكذلك لا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه إلا من هو مكابر معاند. الوجه الرابع أن المؤلف الجاهل ومن كان على شاكلته من العصريين قد وضعوا لأنفسهم قاعدة خبيثة بل معولاً من معاول هدم الإِسلام وتضليل المسلمين. وهذه القاعدة الخبيثة هي إنكار ما خالف آراءهم أو آراء شيوخهم من الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه. فتارة يزعمون أنها من الدس الإِسرائيلي. وتارة يزعمون أنها تخالف القرآن. والواقع في الحقيقة أنها تخالف عقولهم الفاسدة وآراءهم الكاسدة وعقائدهم التي تلقوها من الإفرنج وتلاميذ الإفرنج ومن يعظمهم ويحذو حذوهم ويتبع آراءهم التي تخالف الكتاب والسنة.

ذكر حديث حذيفة في الدعاة على أبواب جهنم وأنه ينطبق على المؤلف وأشباهه من العصريين

ومن الرؤساء الزائغين المرتدين عن الإِسلام من ذهب إلى اطراح السنة بالكلية زاعماً أن الكذب قد دخل في الأحاديث واختلط الصحيح بالمكذوب بحيث لا يمكن التمييز بينهما فوجب اطراح الجميع. وهذا قول خبيث لا يصدر من رجل مسلم وإنما يصدر من كافر فاجر لا يمت إلى الإِسلام بصلة. وقد وضع هذا المرتد كتابا أملاه عليه شيطانه وجعله شريعة لأتباعه يتمسكون به ويتبعون ما فيه. وقد قال الله تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) وقال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون). وهذا المرتد الذي أشرنا إليه والمؤلف الجاهل وأشباههم من أعداء الأحاديث الصحيحة ينطبق عليهم ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه يكون في آخر الزمان دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قال حذيفة رضي الله عنه فقلت يا رسول الله صفهم لنا قال «نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» وفي رواية عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تكون فتن على أبوابها دعاة إلى النار فلأن تموت وأنت عاض على جذل شجرة خير لك من أن تتبع أحداً منهم». رواه ابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. وفي رواية «تكون فتنة عمياء صماء دعاة الضلالة أو قال دعاة النار فلأن تعض على جذل شجرة خير لك من أن تتبع أحداً منهم» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وأبو داود السجستاني وغيرهم. وأما قوله وفضل بنته على أهل الجنة ورفع زوجته عائشة على نساء العالمين. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ظاهر كلام المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل بنته على أهل الجنة على وجه العموم فيدخل في ذلك الرجال والنساء

وهذا خطأ ظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة خاصة دون الرجال. الوجه الثاني أن يقال قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا فاطمة أما ترضين أنت تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة» وفي رواية «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة». وفي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ورجال هذه الأحاديث كلهم ثقات أثبات من لدن الصحابة إلى الأئمة المخرجين لهذه الأحاديث فأي طريق للإِسرائيليين إلى الدس في هذه الأحاديث الصحيحة لو كان المؤلف الجاهل يعقل, ولا ينكر ما جاء في هذه الأحاديث الصحيحة إلا من هو مكابر معاند. الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف المفتون هو الذي أراد الدس في هذه الأحاديث الصحيحة وتشكيك المسلمين فيما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فهو في الحقيقة شر من اليهود وأعظم منهم ضرراً على الإِسلام والمسلمين. الوجه الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان مبلغا عن الله كما قال تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى). وإخباره صلى الله علي وسلم بما أكرم الله به بنته فاطمة من السيادة لنساء أهل الجنة وما أكرم الله به زوجته عائشة من التفضيل على النساء ليس من التعصب نحو بنته وزوجته كما زعم ذلك عدو الله وليس في ذلك ما يدعو إلى اتهامه صلى الله عليه وسلم كما زعم ذلك أيضا. وقد روى الترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هذا ملك نزل من السماء لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن أن يسلم علي ويبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» فهذا يدل على

ذكر بعض خصائص عائشة وفضائلها

أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان مبلغا لما أخبره به الملك عن الله تعالى من سيادة فاطمة لنساء أهل الجنة. وكذلك ما أخبر به عن زوجته عائشة هو من باب التبليغ عن الله تعالى. وقد قال الله تعالى (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم). قال ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة عائشة رضي الله عنها. ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل أعلم النساء على الإطلاق. قال الزهري لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. وقال عطاء بن أبي رباح كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال عروة ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها. وقال أبو موسى الأشعري «ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما» رواه الترمذي. وقال أبو الضحى عن مسروق رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال الشعبي كان مسروق إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من فوق سبع سموات, وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال «عائشة قلت ومن الرجال قال أبوها» انتهى. وإذا علم ما ذكرنا فلا ينكر فضل عائشة رضي الله عنها على النساء إلا من هو مكابر معاند وكذلك لا ينكر سيادة فاطمة رضي الله عنها لنساء أهل الجنة إلا من هو مكابر معاند لأن فاطمة رضي الله عنها كانت بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم سيد بني آدم في الدنيا والآخرة فلا ينكر أن تكون بنته التي أصيبت بفقده سيدة نساء أهل الجنة, كما أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة, وكما أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين. وكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره إلا من هو مكابر معاند. الوجه الخامس أن المؤلف قد زعم أن الإِسرائيليين نسبوا إلى النبي صلى الله

زعمه أن في البخاري مفتريات إسرائيلية والرد عليه

عليه وسلم أنه يتعصب نحو شخصه وأنهم اتهموه بأنه قال إنه يشفع في عمه وأنه فضل بنته على أهل الجنة ورفع زوجته عائشة على نساء العالمين. وفي الحقيقة أن الإِسرائيليين بريئون مما نسبه المؤلف إليهم وأن المؤلف هو الذي نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتعصب نحو شخصه. وهو الذي اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بما زعم أنه تهمة في حقه, وهذه ردة صريحة لأن هذا القول صريح في سب النبي صلى الله عليه وسلم وعيبه وإلحاق النقص به. وقد تقدم في أول الكتاب ذكر الإِجماع على تكفير من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا وذكر الإِجماع على قتله فليراجع (¬1). وأما قوله وفي كتابنا هذا من تلك المفتريات الإِسرائيلية على رسول الله والتي جمعانها من صحيح البخاري ما يملأ المؤمنين غيرة على نبيهم ودينهم فيعلنون محاربتهم لها وما يحمّل الساكتين عن محاربتها وزر الكاتمين لما أنزل الله. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن ما جمعه المؤلف من صحيح البخاري كله ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه شيء مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي جراءة المؤلف على تلك الأحاديث الصحيحة دليل على أن الله تعالى قد أعمى بصيرته فكان يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق. الوجه الثاني أن يقال إن الإِسرائيليين بريئون مما نسبه المؤلف إليهم من افتراء الأحاديث الصحيحة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الحقيقة أن الكاذب المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤلف وأشباهه من الزنادقة الذين يلحدون في آيات الله ويردون الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبالون برفضها واطراحها. الوجه الثالث أن يقال إن إعلان المحاربة لما في صحيح البخاري وغيره من الأحاديث الصحيحة ليس فيه غيرة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على الدين وإنما هو في الحقيقة محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومحاربة لدين الإِسلام, والذي يحارب الأحاديث الصحيحة ولا يبالي برفضها واطراحها هو الذي يحمل الوزر العظيم على أفعاله السيئة ويحمل أوزار الذين يتبعونه على أباطيله ويضلون بسببه. ¬

(¬1) ص: 27 - 29.

زعمه أن الحديث الباطل قد تغلغل في كتب الحديث الصحيحة والرد عليه

فصل وقال المؤلف في صفحة (10) ما نصه الدافع السابع هو الوازع التعبدي الذي حملنا على إبراز البيان الحقيقي لمولد ونشأة الحديث الباطل وعصر تغلغله في كتب الحديث الصحيحة حتى أصبح شيئاً منازعاً لكتاب الله. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس ما فعله المؤلف في رد الأحاديث الصحيحة من الوازع التعبدي كما قد توهم ذلك وإنما هو من الدافع الشيطاني بلا شك فإن الشيطان قد لعب بالمؤلف وزين له أعماله السيئة في رد الأحاديث وعدم المبالاة برفضها واطراحها. وهذه الأفعال السيئة من أحب الأشياء إلى الشيطان لما فيها من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني أن يقال ليس في الصحيحين شيء من الأحاديث الباطلة وما زعمه المؤلف من تغلغل الحديث الباطل في كتب الحديث الصحيحة فهو زعم كاذب ومكابرة ومحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع لغير سبيل المؤمنين لأنهم قد أجمعوا على قبول الصحيحين وصحة أحاديثهما وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً). الوجه الثالث أن يقال ليس في الأحاديث الصحيحة ما ينازع كتاب الله بوجه من الوجوه ولكن المؤلف وأشباهه من أدعياء العلم يتأولون كتاب الله على غير تأويله ويحملونه على ما يوافق آراءهم وعقولهم الفاسدة حتى يجعلوا بين بعض الآيات والأحاديث الصحيحة نزاعا لا حقيقة له في نفس الأمر ثم يحكّمون أفهامهم الخاطئة في الأحاديث الصحيحة فيقبلون منها ما أحبوا ويردون ما لا يوافق آراءهم وعقولهم الفاسدة. الوجه الرابع أن يقال كل حديث صحيح لا يخلو من أن يكون موافقا للقرآن أو زائداً على ما جاء فيه. وكل من النوعين يجب قبوله ويحرم رده لقول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) وقوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإِمام أحمد أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض

زعمه أن في صحيح البخاري أحاديث تخالف القرآن والرد عليه

قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو هذه الآيات (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وقد تقدم هذا الحديث في الفصل الثالث في أول هذا الكتاب فليراجع (¬1). وإذا علم هذا فمن رد حديثا صحيحا لم يعارضه ما هو أقوى منه من الأحاديث الصحيحة فلا شك أن ذلك لزيغ في قلبه. فصل وقال المؤلف في صفحة (11) ما نصه الدافع الثامن هو تقديم ما استطعنا حصره من الأحاديث المخالفة للقرآن في مضمونه أو في معناه. وقد اخترنا لهذا الحصر كتاب البخاري باعتباره عمدة الأصول والمراجع في هذا المجال حتى يكون البحث في غيره عن مثل هذه الأحاديث أولى وأهم باعتبار أن ما سواه من تلك الأصول وهذه المراجع أدنى منه صحة وسنداً وتقييما - إلى أن قال - ولسنا مغالين إذا قطعنا بسرعة التأييد لمقاصدنا من كل مؤمن يقرأ هذا الكتاب وهو يفرق بين قيمته العلمية المستمدة من كتاب الله والسنة العملية لرسوله وبين ما لا حجة لصوابه سوى أننا توارثناه في كتب الحديث - إلى أن قال - ومن هنا استطعنا رفض الحديث الدخيل وتفنيد الرد بإبطاله أخذاً من معاني القرآن الكريم. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس في الأحاديث التي حصرها المؤلف وجمعها من صحيح البخاري ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه كما سأبين ذلك عند كل حديث مما جمعه المؤلف إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني أن يقال ما قطع به المؤلف من سرعة التأييد لمقاصده الخبيثة من كل مؤمن يقرأ كتابه قد انعكس عليه وخاب ظنه الكاذب فكل مؤمن له أدنى علم وفهم قد سخط غاية السخط من سوء فعل المؤلف في رد الأحاديث الصحيحة وعدم المبالاة برفضها واطراحها, وكذلك قد سخط المؤمنون العالمون غاية السخط من تهجم ¬

(¬1) ص: 6.

المؤلف على النبي صلى الله عليه وسلم وإلحاق العيوب والنقص به وإنكار كراماته ومعجزاته وتسميتها قصصاً خيالية وخوارق خرافية كما تقدم بيان ذلك في الجواب عن الدافع السادس من دوافع المؤلف لتأليف كتابه المشئوم عليه وعلى من اغتر به من الجهلة الأغبياء, وكذلك قد سخط المؤمنون العالمون غاية السخط من تهجم المؤلف على بعض الصحابة والتابعين ورميهم بما هم براء منه من العيوب كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى, وكذلك قد سخط المؤمنون العالمون غاية السخط من تهجم المؤلف على صحيح البخاري واستهانته بشأنه ومحاولته الحط من قدره وقدر مؤلفه كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وما أكثر الذين يحثون على الرد على المؤلف ويتمنون أن تجرى عليه أحكام المرتدين. الوجه الثالث أن يقال كل ما توارثه أهل العلم في كتب الصحاح والسنن والمسانيد مما روي بالأسانيد الصحيحة فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم والحجة لصوابه صحة الإِسناد. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه انتهى. وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). الوجه الرابع أن يقال إن المؤلف لم يرفض شيئاً من الأحاديث الدخيلة وإنما رفض الأحاديث الصحيحة التي خرجها البخاري في صحيحه الذي هو أصح الكتب بعد القرآن وهو بهذا الفعل السيء قد شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين الذين أجمعوا على صحة ما في صحيح البخاري وقبوله. وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).

قبوله للسنة العملية دون غيرها من السنة وزعمه أن في صحيح البخاري أحاديث دخيلة تنازع القرآن وطعنه في المعجزات والكرامات والرد عليه

فصل وقال المؤلف في صفحة (12) ما نصه الدافع التاسع هو ضرورة التأكيد على أن السنة العملية هي البيان التطبيقي لأحكام الله في العبادات. وقد بينها النبي (ص) بيانا عمليا مشهوداً من الأمة كلها. ولعلمه عليه الصلاة والسلام أن الناس أدركوا هذا التطبيق بمشاهدتهم وأنه أمرهم بنقله بياناً وعملاً لمن بعدهم كما تعلموه منه ولعلمه وتأكده تماماً أن ما عرفوه من تطبيقه العملي لما جاء به القرآن أصبح علماً معروفاً بالمشاهدة وسنة منقولة نقلا جماعياً متواتراً. فإِنه لم يأمرهم بتدوين شيء اسمه الحديث خشية أن يصبح كتاب الحديث في مكانه المنازع لكتاب الله بعد مضي السنين وتعاقب الزمن كما هو حادث الآن من الأحاديث التي رصدناها كأمثلة على ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب, وبنفس الدافع اضطررنا إلى التأكيد على أن الشيطان هو الذي جند الإِسرائيليين لعملية التخريب العقائدي في صدور المسلمين عن طريق الحديث الدخيل حينما عجز عن الوصول إلى عقائدهم عن طريق القرآن الكريم الذي وجدوه محفوظا من التبديل بمقتضى قول الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) - إلى أن قال - ولقد برع اليهود في حبك تركيبة الحديث الباطل بحيث لا يخلو أبداً من جملة براقة في تمجيد النبي وتكريمه حتى تكون هذه الجملة دثاراً وغشاء لما فيه من زور وباطل يبرأ الله ورسوله منه, وتأكيداً على تلك الحقيقة فإِنا قد حشدنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب من أحاديث العيب والعوار ما يقنع العقلاء بأن وضاعي الحديث قد دسوا لنا السم في العسل. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن السنة ليست مقصورة على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فقط كما زعم ذلك المؤلف وإنما هي شاملة لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته, هذا هو المعروف عند علماء المسلمين قديما وحديثا. ولا عبرة بما يهذو به تلامذة الإِفرنج من العصريين الذين فرقوا بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وبين أقواله وتقريراته فقبلوا الأفعال وردوا ما سواها, وهؤلاء مشابهون للذين قال الله تعالى فيهم (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا). الوجه الثاني أن الله تعالى قال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه

إذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث والجمع بين إذنه في الكتابة ونهيه عنها وكلام العلماء في ذلك

فانتهوا) وهذه الآية الكريمة تشمل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وقال تعالى في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) وهذا يدل على أنه يجب تصديقه فيما أخبر به من أمور الغيب وأنه يجب الأخذ بأقواله كما يجب الأخذ بأفعاله, وقد جاء الأمر بالإِيمان بالرسول في آيات كثيرة, ومن الإِيمان به الإِيمان بما أعطاه الله من المعجزات وأنواع الكرامات وخوارق العادات. الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يكتبوا خطبته التي خطب بها يوم الفتح لأبي شاه كما هو مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأذن صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يكتب كل ما سمعه منه, رواه الإِمام أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم من طرق وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وله طرق عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضاً. وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قلت يا رسول الله إني أحب أن أعي حديثك ولا يعيه قلبي أفأستعين بيميني قال «إن شئت» قال البوصيري سنده حسن. وروى الإِمام أحمد والبخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإِنه كان يكتب ولا أكتب». وروى ابن عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال «ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان. الصادقة والوهط. فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها». وقد كان عند علي رضي الله عنه صحيفة فيها أسنان الإِبل وأشياء من الجراحات وأشياء غير ذلك من الأحكام روى ذلك أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن. وفي رواية لأحمد عن علي رضي الله عنه أنه قال هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فرائض الصدقة قال الحافظ ابن حجر سنده حسن.

أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث ولم يخالفه أحد من العلماء

وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات. وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» فاختلفوا وكثر اللغط فقال «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع». وروى الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أسمع منك الحديث ولا أحفظه فقال «استعن بيمينك» وأومأ بيده للخط, قال الترمذي ليس إسناده بذاك القائم. وروى ابن عبد البر عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها «ملعون من أضل أعمى عن السبيل». وروى الرامهرمزي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها قال «اكتبوا ذلك ولا حرج» نقله السيوطي في تدريب الراوي. وفيما ذكرته من الأحاديث دليل على الإِذن في كتابة الحديث وفي الإِذن في الكتابة دليل على جواز التدوين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث وهو من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ولم يخالفه أحد من التابعين ولا من بعدهم من العلماء فكان ذلك كالإِجماع على جواز التدوين. فإِن قيل فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه». قيل قد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأجوبة سأذكرها فيما يلي إن شاء الله تعالى, وجمع بعضهم بين النهي عن الكتابة وبين الإِذن فيها بجمع حسن, قال ابن الأثير في جامع الأصول الجمع بين قوله «لا تكتبوا عني غير القرآن» وبين إذنه في الكتابة أن الإِذن ناسخ للمنع منه بإِجماع الأمة على جوازه ولا يجمعون إلا على أمر

الزهري أول من دون الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز

صحيح, وقيل إنما نهى عن الكتابة أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة فيختلط به فيشتبه على القارئ انتهى. ونقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض أنه قال كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع على جوازها وزال ذلك الخلاف. واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب وتحمل الأحاديث الواردة بالإِباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث «اكتبوا لأبي شاه» وحديث صحيفة علي رضي الله عنه. وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات, وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا رضي الله عنه حين وجهه إلى البحرين, وحديث أبي هريرة أن ابن عمرو ابن العاص كان يكتب ولا أكتب وغير ذلك من الأحاديث, وقيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. وقيل إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ والله أعلم انتهى. قال علي القاري فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا فلا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ وقال «ليبلغ الشاهد الغائب» فإِذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث فلا يبلغ آخر القرون من الأمة, ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف فدل على جواز كتابة الحديث والعلم انتهى. وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن منهم من أعل حديث أبي سعيد وقال الصواب وقفه على أبي سعيد قاله البخاري وغيره. قال العلماء كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا كما أخذوا حفظاً, لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه, وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز ثم كثر التدوين ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير فلله الحمد انتهى. وذكر الحافظ ابن حجر أيضا أن السلف اختلفوا في كتابة العلم عملاً وتركاً وان كان الأمر استقر والإِجماع انعقد على جواز كتابة العلم بل على استحبابه بل

الدليل على أن السنة محفوظة كالقرآن وكلام حسن لابن حزم في ذلك

لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم انتهى. الوجه الرابع قد ذكرت مراراً أن الأحاديث الصحيحة لا تنازع كتاب الله - وأما ما زعمه المؤلف من الأحاديث التي رصدها وجمعها من صحيح البخاري أنها قد نازعت كتاب الله فهو زعم كاذب وقول باطل فليس في صحيح البخاري ما ينازع القرآن البتة, وإنما أتي المؤلف من سوء فهمه وزيغ قلبه. الوجه الخامس أن يقال إن الشيطان قد جند المؤلف وأشباهه من زنادقة العصريين لعملية التخريب في صدور المسلمين عن طريق الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها ولم يجند الإِسرائيليين لذلك وإن كانوا من شر جنوده, فالبلاء كل البلاء من المؤلف وأشباهه من أعداء السنة. فهم في الحقيقة شر من اليهود وأعظم منهم ضرراً على الإسلام والمسلمين. الوجه السادس أن يقال إن الله تعالى قد حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ القرآن. قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وهذه الآية الكريمة تشمل القرآن والسنة لأن كلاً منهما وحي منزل من الله تعالى. قال الله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) والحكمة هي السنة على أصح الأقوال. وقال تعالى في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى). وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وقد تقدم هذا الحديث في الفصل الثالث في أول هذا الكتاب فليراجع (¬1). وتقدم فيه أيضا قول حسان بن عطية إن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن. قال ابن حزم في كتاب الأحكام والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض وهما شيء واحد في أنهما عند الله تعالى وحكمهما حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما. ثم ذكر قول الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقوله تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي) ثم قال فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي والوحي بلا خلاف ذكر, والذكر محفوظ بنص القرآن فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء إذ ¬

(¬1) ص: 6.

تلاعب الشيطان بالمؤلف والرد عليه

ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله فلله الحجة علينا أبدا انتهى. الوجه السابع أن يقال ليس في الأحاديث التي جمعها المؤلف من صحيح البخاري ولا في غيرها من الأحاديث الصحيحة عيب ولا عوار ولا زور ولا باطل البتة. وإنما العيب كل العيب والعوار كل العوار والزور كل الزور والباطل كل الباطل في ثرثرة المؤلف وتشدقه وتنطعه وجراءته على الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها, فهو الذي قد دس السم للمسلمين وأراد تشكيكهم في أحاديث نبيهم وما آتاه الله من المعجزات والكرامات وخوارق العادات, فالله يعامله بعدله ويجازيه بما يستحقه من النكال. فصل وقال المؤلف في صفحة (13) ما نصه المبرر العاشر لتأليفنا هذا الكتاب يتلخص في حرصنا الشديد على براءة الذمة من عهدة تطوق أعناقنا ناراً إن لم نوفها حقها من القول والبيان الإِعلاني وليس علينا من دور في هذا المجال أكثر من تدوين تلك السطور بهذا المداد فقط, وعند هذا الحد تنتهي مهمتنا. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن الشيطان قد تلاعب بالمؤلف غاية التلاعب وأغراه على جمع كتابه المملوء من العيب والعوار والزور والباطل والثرثرة والتشدق والتنطع والجراءة على الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها. فهذا حاصل كتابه الذي هو في الحقيقة عين المشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) وقال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين, وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون). الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف المسكين قد أصيب بتقليب القلب وعمى البصيرة فكان يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ويرى براءة ذمته في معارضة النبي صلى الله عليه وسلم والطعن فيما ثبت عنه من الأحاديث الصحيحة

زعمه وجود الدس في الحديث وتكذيبه لما جاء في الحبة السوداء والرد عليه

وفي معجزاته وكراماته وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. وهذه جراءة قبيحة غايتها الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وإلحاق النقص به. وهذا من أعظم ما يبعده عن الله ويشغل ذمته بأوزاره التي جمعها في كتابه وأوزار من يضل بسببه ويطوق عنقه ناراً إن لم يبادر إلى التوبة الصادقة من أقواله الباطلة وبيانه الإِعلاني الخبيث وينقض ما حبكته يده الأثيمة في كتابه المملوء من الأباطيل والأضاليل والذي هو مشئوم عليه وعلى من اغتر به وضل بسببه. فصل وقال المؤلف في صفحة (16) و (17) ما نصه دليل يؤخذ على وجود الدس في الحديث النبي (ص) كان يأمر أصحابه باللجوء إلى الطبيب وفي إثبات ذلك تكذيب لحديث الحبة السوداء, عن سعد بن أبي وقاص قال مرضت فعادني رسول الله (ص) فقال لي إئت الحارث بن كلدة فإِنه رجل يتطبب, وبديهي أن التطبيق العلاجي يكذب أن الحبة السوداء شفاء من كل داء. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ما زعمه المؤلف من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه باللجوء إلى الطبيب فهو كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أصحابه بذلك, وما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو في قضية خاصة بسعد فلا عموم لها. الوجه الثاني أن يقال إن الالتجاء نوع من أنواع العبادة ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل, والالتجاء إلى غير الله شرك. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالشرك, فأما إتيان المريض إلى الطبيب ليشخص له المرض ويصف له الدواء من غير التجاء إليه فهذا جائز. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يأتي الطبيب ليعمل له الدواء ولم يأمره بالالتجاء إليه. الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر سعداً بمرضه ووصف له العلاج وأمره أن يأتي الحارث بن كلدة الثقفي ليعالجه بما وصفه له رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث رواه أبو داود في سننه من حديث مجاهد عن سعد رضي الله

تعلقه بأحاديث النهي عن كتابة الحديث والرد عليه

عنه قال «مرضت مرضا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي وقال لي إنك رجل مفؤد فأت الحارث بن كلدة من ثقيف فإِنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن». قال ابن الأثير في جامع الأصول رجل مفؤد يشكو وجع فؤاده. وقال في النهاية فليجأهن أي فليدقهن. قال واللدود بالفتح من الأدوية ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم. ولديدا الفم جانباه انتهى. الوجه الرابع أن يقال ليس في حديث سعد رضي الله عنه ما يدل على الدس في حديث الحبة السوداء, فأي متعلق للمؤلف فيه. الوجه الخامس أن التطبيق العلاجي يصدق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبة السوداء, قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «زاد المعاد» هي كثيرة المنافع جدا. وقوله شفاء من كل داء مثل قوله تعالى (تدمر كل شيء بأمر ربها) أي كل شيء يقبل التدمير ونظائره. وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض - ثم ذكر منافعها وهي كثيرة جدا فلتراجع في «زاد المعاد» ففيها رد لما زعمه المؤلف. وقال داود الأنطاكي في كتابه «التذكرة» في ذكر الحبة السوداء قد أخبر صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح بأنه دواء من كل داء إلا السام يعني الموت. والمراد من كل داء بارد فالعموم نوعي - ثم ذكر منافعها وهي كثيرة جدا فلتراجع في «التذكرة» ففيها رد لما زعمه المؤلف. وقد ذكر كثير من أهل العلم بالطب ما في الحبة السوداء من المنافع الكثيرة ولو ذكرت أقوالهم لطال الكلام. وفيما أشرت إليه ههنا عن ابن القيم وداود الأنطاكي كفاية إن شاء الله تعالى. فصل وقال المؤلف في صفحة (17) و (18) ما نصه نهي صريح لرسول الله عن كتابة شيء غير القرآن. الإِمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله (ص) لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه, وفي مراسيل ابن مليكة أن

أبا بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (ص 3 تذكرة الحفاظ للذهبي جـ 1 وابن مليكة هو قاضي مكة في زمن ابن الزبير وتوفي سنة 117 هـ). ومن كلام رشيد رضا في ص 766 مجلد 10, ص 511 مجلد 19 من المنار (نهى النبي (ص) عن كتابة أي شيء غير القرآن. وأسند ذلك إلى الإِمام أحمد ومسلم وابن عبد البر في كتاب العلم عن أبي سعيد الخضري مرفوعاً لا تكتبوا عني غير القرآن فمن كتب غير القرآن فليمحه. ونقول لو كتبوه في عهده ما اختلف الأئمة فيه. ويقول رشيد رضا إن العلة في نهي الصحابة عن كتابة شيء غير القرآن هو الخوف من الخطأ (حسبما جاء في تقييد العلم للخطيب البغدادي ص 37) عن أبي نضرة قال قلت لأبي سعيد الخدري. ألا نكتب ما نسمع منك قال أتريدون أن تجعلوها مصاحف بينكم إن نبيكم كان يحدثنا فنحفظ, وروى الحاكم ونقله الحافظ الذهبي في جـ 1 في تذكرة الحفاظ عن عائشة قالت جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب ولما أصبح قال أي بنية هلمي بالأحاديث التي عندك فجئته بها فأحرقها وقال خشيت أن أموت وهي عندك فيكون منها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك. والجواب عن هذا من وجوه أحدها عن غلط المؤلف في بعض الأحاديث والرواة, فمن ذلك قوله في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه رواه الترمذي والنسائي وهذا غلط فإِنهما لم يروياه. ومن ذلك قوله «ابن مليكة» في موضعين. وصوابه ابن أبي مليكة. ومن ذلك قوله «عن أبي سعيد الخضري» وصوابه الخدري. الوجه الثاني أن يقال قد تقدم قريباً ذكر الأحاديث الدالة على الإِذن في كتابة الحديث فلتراجع (¬1) , وتقدم أيضا الجواب عما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه من النهي عن كتابة غير القرآن فليراجع (¬2). الوجه الثالث أن يقال ليس المرسل بحجة فأي متعلق للمؤلف في مرسل ابن أبي مليكة. ¬

(¬1) ص: 86 - 87. (¬2) ص: 87 - 89.

الحث على تبليغ الحديث والدعاء بالرحمة والنضارة لمن بلغه

الوجه الرابع أن يقال على تقدير ثبوت ما رواه ابن أبي مليكة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو معارض بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب مبلغ أحفظ له من سامع» هذا لفظ أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رحم الله من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع». وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه» قال الترمذي هذا حديث حسن قال وفي الباب عن عبد الله ابن مسعود ومعاذ بن جبل وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأنس رضي الله عنهم. قلت قد روى ابن ماجه حديثي جبير بن مطعم وأنس رضي الله عنهما. وفي الباب أيضا عن أبي سعيد الخدري وعبيد بن عمير والنعمان بن بشير وأبيه وأبي قرصافة وجابر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. وقد أجاب الحافظ الذهبي عما رواه ابن أبي مليكة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بجواب حسن فقال في تذكرة الحفاظ هذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية. ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج انتهى. وأمر الجدة الذي أشار إليه الذهبي هو ما رواه مالك وأهل السنن عن قبيصة بن ذؤيب قال جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر رضي الله عنه مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو

كذب المؤلف على الأئمة الثلاثة والرد عليه

بكر رضي الله عنه هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه. وأما ما رواه الحاكم ونقله الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عن عائشة رضي الله عنها قالت جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره فقد قال الذهبي بعد إيراده. هذا لا يصح. وقد ترك المؤلف قول الذهبي فلم يذكره لأنه يفسد عليه ما رامه من الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها, وقد ذكر هذا الأثر صاحب كنز العمال في باب آداب العلم والعلماء نقلا عن مسند الصديق للحافظ ابن كثير ثم قال بعده قال ابن كثير هذا حديث غريب من هذا الوجه جداً, وعلي بن صالح «يعني أحد رواته» لا يعرف, والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من هذا المقدار بألوف. ثم وجهه ابن كثير على فرض صحته. فصل وقال المؤلف في صفحة (18) ما نصه الأئمة الثلاثة يخالفون كثيراً من نصوص الحديث ولا أحد يعتبرهم غير أئمة ولا من الخارجين على الدين. وهاهم الحنفية والمالكية والشافعية لم يجتمعوا على تجريد الصحيح أو الاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في مذاهبهم فيها مئات المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها ولا يعد أحد منهم مخالفاً لأصول الدين (50 أضواء على السنة). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ظاهر كلام المؤلف وأبي رية أن الأئمة الثلاثة كانوا يخالفون كثيراً من نصوص الحديث عمداً, وهذا كذب عليهم فإِنهم ما كانوا يتعمدون مخالفة الأحاديث الصحيحة إذا بلغتهم, فأما ما لم يبلغهم أو لم تثبت عندهم صحته فهذا لا لوم عليهم إذا قالوا بخلافه. الوجه الثاني أن يقال إن الأئمة الثلاثة كانوا يعظمون الأحاديث الصحيحة غاية التعظيم, وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه وابن عبد البر في الانتقاء أن أبا حنيفة قال آخذ بكتاب الله فإِن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم, فأما

إذا انتهى الأمر - أو جاء - إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب - وعدد رجالا - فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا. وقال شارح العقيدة الطحاوية - حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد وأن حماد بن زيد لما روى له حديث «أي الإِسلام أفضل» إلى آخره قال, ألا تراه يقول «أي الإِسلام أفضل قال الإِيمان» ثم جعل الهجرة والجهاد من الإِيمان, فسكت أبو حنيفة فقال بعض أصحابه ألا تجيبه يا أبا حنيفة قال بما أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل إنما نأخذ بالرأي ما لم نجد الأثر فإذا وجدنا الأثر تركنا الرأي وأخذنا بالأثر, ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين. وقال معن بن عيسى القزاز سمعت مالكاً يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في قولي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه, ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين. وروى أبو نعيم عن مالك أنه سأله رجل عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فقال له الرجل أرأيت. قال مالك (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). وقال عبد الله بن الإِمام أحمد قال أبي قال لنا الشافعي إذا صح لكم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه. ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بهذا اللفظ, وقد رواه أبو نعيم في الحلية عن سليمان بن أحمد الطبراني قال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول قال محمد بن إدريس الشافعي يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرونا به حتى نرجع إليه. قال وقال الإِمام أحمد كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله. وروى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة بإِسناده إلى عبد الله بن الإِمام أحمد قال قال لي أبي قال لنا الشافعي أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإِذا كان الحديث صحيحا فأعلموني إن شاء أن يكون كوفياً أو بصرياً أو شامياً إذا كان صحيحاً, وقد رواه أبو نعيم في الحلية عن سليمان بن أحمد الطبراني قال سمعت

عبد الله بن أحمد يقول سمعت أبي يقول فذكره بنحوه, قال القاضي أبو الحسين وهذا من دين الشافعي حيث سلم هذا العلم لأهله انتهى. وقال الشافعي إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله آخر يخالفه. وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول إذا وجدتم سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي فإِني أقول بها. وقال الربيع أيضا سمعت الشافعي يقول كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وقال الشافعي أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس وكلام الشافعي بنحو ما ذكرنا كثير جداً. ومما ذكرته عن الأئمة الثلاثة يعلم أنهم لم يكونوا يخالفون الأحاديث الصحيحة إذا بلغتهم, وفي هذا رد على المؤلف وأبي رية فيما افترياه عليهم. الوجه الثالث أن يقال إن كثيراً من الذين صنفوا كتب الفقه في مذاهب الحنفية والمالكية والشافعية وغيرها من المذاهب ليسوا من أهل الاجتهاد وإنما هم مقلدون لمن سبقهم من علماء مذاهبهم في إيراد المسائل والاستدلال عليها بما استدل به من كان قبلهم من الأحاديث سواء كانت صحيحة أو ضعيفة إذا كان فيها تأييد لرأي من قلدوه, وهؤلاء لا يخلون من الذم على التقليد واللوم على التقصير فيما يجب عليهم من البحث عن الأحاديث الصحيحة والاعتماد عليها دون الأحاديث الضعيفة, وقد تصدى للرد على هؤلاء غير واحد من أكابر العلماء, ومن أحسن ما صنف في ذلك كتاب «أعلام الموقعين» للإِمام ابن القيم رحمه الله تعالى فليراجع فإنه مهم جداً ولا يستغني عنه طالب العلم. فصل وقال المؤلف في صفحة (18) ما نصه

رد المؤلف لقول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» والرد عليه

السبب في وجود الروايات المخالفة للقرآن. حديث يقول ألا إني أوتيت القرآن ومثله, ومعنى ذلك أن يكون النبي - ص - قد كلف بتدوين هذا المثل مثل ما كلف بتدوين هذا القرآن, فلماذا لم يدونه كما دون القرآن. وهنا يعجز الناس كل الناس عن اتهام النبي - ص - بالتفريط في تدوين نصف الرسالة التي كلف بها لأن ذلك شيء مستحيل على رسول الله -ص - وإنما جاءت البلية في التقول عليه ونسبة هذا الحديث إليه في حين أن يقول الله تبارك وتعالى «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» ومعنى ذلك أن القرآن هو البداية وهو النهاية ولا شيء سواه (ص 52 أضواء). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وصححه الحاكم وأقره الذهبي. ولفظه عند ابن ماجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله» ورواه الترمذي والدارمي بنحو هذا اللفظ. وفي رواية ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وذكر بقية الحديث بنحو ما تقدم. وقد ترجم ابن حبان على هذا الحديث بقوله «ذكر الخبر المصرح بأن سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها عن الله لا من تلقاء نفسه» وبوب عليه الآجري بقوله «باب التحذير من طوائف تعارض سنن النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل وشدة الإنكار على هذه الطبقة».

وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والناس حوله «لا أعرفن أحدكم يأتيه أمر من أمري قد أمرت به أو نهيت عنه وهو متكئ على أريكته فيقول ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا» هذا لفظ الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث المقدام وأبي رافع رضي الله عنهما. وفي هذه الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وأشباههما من أعداء السنة لما فيها من التشديد والإِنكار على من عارض السنة بالقرآن. الوجه الثاني أن الله تعالى قال (وأنزل الله عليك بالكتاب والحكمة) والحكمة هي السنة على أصح التفاسير. وهذه الآية تؤيد حديث المقدام رضي الله عنه. وفيها رد على المؤلف وأبي رية في إلغائهما للسنة وقولهما أن القرآن هو البداية وهو النهاية ولا شيء سواه. الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتدوين السنة خوفا من اختلاطها بالقرآن. فلما أمن ذلك في زمن التابعين أمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بتدوين الحديث وأجمع المسلمون على جواز ذلك. وقد تقدم بيان ذلك قريباً فليراجع (¬1). وفي إجماع المسلمين على جواز التدوين أبلغ رد على من خالفهم وشذ عنهم من جهلة العصريين وزنادقتهم. الوجه الرابع أن يقال مما يدل على جواز ما فعله المسلمون من تدوين الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة خطبته يوم الفتح لأبي شاه وإذنه لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يكتب ما سمعه منه من الحديث. وما كتب به صلى الله عليه وسلم لبعض عماله من الكتب التي فيها فرائض الصدقة وبعض ¬

(¬1) ص: 87 - 89.

الأحكام, وكذلك الصحيفة التي أخذها علي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم وفيها جملة من الأحكام, وقد تقدم بيان ذلك قريباً فليراجع (¬1). وهذه القضايا تدل على جواز ما فعله المسلمون من تدوين الحديث لما خشي الأئمة ضياع العلم. الوجه الخامس أن يقال إن البلية كل البلية والآفة كل الآفة في معارضة السنة ورفضها واطراحها والسعي في تضليل المسلمين وتشكيكهم في سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات كما هو الواقع من المؤلف وأشباهه من الزنادقة المارقين من الإِسلام. وهؤلاء الزنادقة وأهل التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرفي نقيض. فأما أهل التقول فيضعون الأحاديث المكذوبة وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وأما المؤلف وأشباهه من أعداء السنة فينفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ثبت عنه من الأحاديث الصحيحة, ولا يبعد أن يكون الوعيد الشديد على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم شاملاً لمن يضع الحديث عليه ولمن ينفي الأحاديث الثابتة عنه لأن نفيها داخل في الكذب عليه والله اعلم. الوجه السادس أن يقال إن قول الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) لا يدل على المعنى الذي ذهب إليه أبو رية والمؤلف لأن إكمال الدين وإتمام النعمة إنما كان بإكمال فرائض الإسلام ومن آخرها فريضة الحج وبه كمل الدين, قال البغوي في تفسير قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) يعني يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض والسنن والحدود والأحكام, وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما, قال ابن الجوزي فعلى هذا يكون المعنى اليوم أكملت لكم شرائع دينكم. قلت وشرائع الدين منها ما جاء في القرآن إما مفصلاً وإما مجملاً وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أو فعله. ومنها ما جاء في السنة وليس له ذكر في القرآن, والكل داخل في عموم قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ¬

(¬1) ص: 86 - 87.

ورضيت لكم الإِسلام ديناً) ومن زعم أن القرآن هو البداية وهو النهاية ولا شيء سواه وأن هذا هو معنى قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) فقد ألغى السنة وتأول القرآن على غير تأويله ورام هدم الإِسلام. الوجه السابع أن يقال إن قول المؤلف وأبي رية أن القرآن هو البداية والنهاية ولا شيء سواه قول باطل مردود بقول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وبقوله تعالى (فإِن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) قال ابن كثير في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله, وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة انتهى. وقال البغوي في قوله (فردوه إلى الله والرسول) أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حياً وبعد وفاته إلى سنته, والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإِن لم يوجد فسبيله الاجتهاد انتهى. وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال إلى الله إلى كتابه وإلى الرسول إلى سنة نبيه, وروى أيضا عن ميمون بن مهران وقتادة نحو ذلك. ومما يرد به قول المؤلف وأبي رية أيضا قول الله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإِمام أحمد أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو هذه الآية (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً). ومما يرد به على المؤلف وأبي رية قول النبي صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» رواه مالك في الموطأ بلاغا والحاكم موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي. وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن

زعمه أن عمر رضي الله عنه حبس بعض الصحابة على إكثار الحديث والرد عليه

يتفرقا حتى يردا علي الحوض». وروى الإِمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه. فصل وقال المؤلف في صفحة (18) و (19) ما نصه دليل يثبت أن الصحابة كانوا يلاحظون الزيادة على رسول الله من بعضهم البعض ولو دوّنه النبي ما اختلفوا فيه. أخرج ابن عساكر ومحمد بن إسحاق عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر فقال ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق. قالوا أتنهانا. قال لا. أقيموا عندي لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم نأخذ منكم ونرد عليكم فما فارقوه حتى مات. وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه ابن عبد الرحمن أن عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال قد أكثرتم الحديث عن رسول الله - ص - وكان قد حبسهم في المدينة حتى أطلقهم عثمان. وفي جامع بيان العلم وفضله للحافظ المغربي ابن عبد البر. الشعبي عن قرظة بن كعب قال خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا أتدرون لم مشيت معكم قلنا أردت أن تشيعنا وتكرمنا. قال إن مع ذلك لحاجة خرجت لها إنكم لتأتون بلدة لأهلها دوي كدوي النحل بالقرآن فلا تصدوهم لتشغلوهم وأنا شريككم وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم قرظة قالوا حدثنا فقال نهانا عمر تذكرة الحفاظ للذهبي وصححه الحاكم في المستدرك ص 102 جـ1. والجواب أن يقال ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في حبس عمر رضي الله عنه لبعض الصحابة لا يصح منه شيء. أما ما رواه ابن عساكر من طريق محمد بن إسحاق فهو مردود من وجوه أحدها أن صاحب كنز العمال ذكره في باب آداب العلم والعلماء وقد ذكر قبل ذلك في خطبة الكتاب أن ما يرويه ابن عساكر فهو ضعيف فيستغنى بالعزو إليه عن بيان ضعفه.

الوجه الثاني أن يقال قد اختلف في سماع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من عمر رضي الله عنه والراجح أنه لم يسمع منه. قال البيهقي في سننه لم يثبت له سماع من عمر. قلت ويؤيد هذا أن المصنفين في أسماء الرجال ذكروا أنه توفي في سنة خمس وتسعين أو ست وتسعين وله من العمر خمس وسبعون سنة فعلى هذا يكون مولده قبل موت عمر رضي الله عنه بسنتين أو ثلاث سنين. ومثل هذا السن يبعد أن يحفظ فيه الصبي شيئاً فتكون الرواية عن إبراهيم مرسلة والمرسل ليس بحجة. الوجه الثالث أنه ذكر فيه عبد الله بن حذيفة ولا يعرف في الصحابة أحد بهذا الاسم فضلا عن أن يكون من المكثرين للحديث وهذا يدل على أن هذا الأثر موضوع. الوجه الرابع أن أبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر ليسوا من المكثرين بالنسبة إلى أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم فيبعد جداً أن يخصهم عمر بالإِنكار على نشرهم للحديث ويترك الذين هم أكثر منهم حديثاً فلا ينكر عليهم. الوجه الخامس أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم قد انتشروا في الآفاق وكل منهم يحدث بما عنده من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت في أثر صحيح أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة كلهم ولا أنه أنكر عليهم نشرهم للحديث. فهذا الأثر الذي رواه ابن عساكر في جمع الصحابة من الآفاق يظهر عليه أثر الوضع والتركيب. الوجه السادس أن يقال لو كان عمر رضي الله عنه جمع الصحابة من الآفاق وأنكر عليهم نشرهم للحديث وأمرهم أن يقيموا عنده لكان ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله وينتشر ذكره في الآفاق. ولما لم يأت ذكر ذلك إلا في أثر مرسل ضعيف الإِسناد دل ذلك على أنه لا أصل له. الوجه السابع أنه ذكر في هذا الأثر أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة من الآفاق ثم لم يذكر سوى أربعة أحدهم مجهول لا يعرف له ذكر في الصحابة وهذا أوضح دليل على أن هذا الأثر موضوع.

يوضح ذلك الوجه الثامن وهو أنه قد صرح في هذا الأثر أن عمر رضي الله عنه بعث إلى الصحابة فجمعهم من الآفاق وهذا يقتضي أنه جمعهم من مكة والطائف واليمن ونجد والبحرين وعمان والعراق وخراسان والشام ومصر والجزيرة. ولا شك أن هذا لم يقع ولو وقع لما كان يقتصر في الأثر على ذكر رجلين من الشام ورجل مشغول بالجهاد ويترك سائر الأقطار فلا يذكر منهم أحداً. وهذا يدل على أن هذا الأثر مصنوع من بعض أعداء السنة. الوجه التاسع أن يقال إن عمر رضي الله عنه كان يحدث بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث وقد روي عنه أكثر من خمسمائة حديث فهو مكثر بالنسبة إلى كل واحد من الثلاثة الذين قيل انه أنكر عليهم نشرهم للحديث. وعلى هذا فلا ينبغي أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه أنكر شيئاً كان يفعل مثله. الوجه العاشر مما يدل على أن الأثر موضوع ما ذكر فيه عن عمر رضي الله عنه أنه قال «نحن أعلم» لأن هذه الكلمة تدل على الإِعجاب بالنفس والترفع على الغير, ولا شك أن عمر رضي الله عنه من أبعد الناس عن هذه الصفات الذميمة, ولا ينبغي أن يظن هذا بمن هو دون عمر من الصحابة فضلا عن عمر رضي الله عنه لأنه كان معروفاً بمزيد التواضع والبعد عن مساوئ الأخلاق. وقد ثبت عنه أنه قام على المنبر فنهى الناس عن المغالاة في مهور النساء ونهاهم أن يزيدوا على أربعمائة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن قال وأي ذلك فقالت أما سمعت الله يقول (وآتيتم إحداهن قنطارا) الآية فقال اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر. الحديث رواه أبو يعلى قال ابن كثير إسناده جيد قوي. وروى الإِمام أحمد وابن مردويه عن عمر رضي الله عنه أنه قال «من قال هو عالم فهو جاهل» وإذا كان هذا قول عمر رضي الله عنه فلا ينبغي أن يظن به أن يقول الكلمة التي تدل على الإِعجاب بالنفس والترفع على الغير. الوجه الحادي عشر أن أبا الدرداء كان ساكنا في الشام في زمان عمر رضي الله عنه وقد قيل إن عمر رضي الله عنه ولاه قضاء دمشق ولم يزل في الشام حتى توفي في سنة اثنتين وثلاثين. وأما أبو ذر فكان ساكنا في الشام في زمان عمر وبعض زمان

عثمان. قال ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة أبي ذر رضي الله عنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة. وأما عقبة بن عامر فإِنه كان مشغولاً بالجهاد وقدم المدينة حين فتحت دمشق وكان هو البريد إلى عمر رضي الله عنه بفتحها. ولم يذكر عنه أنه قدم المدينة بعد ذلك في زمان عمر رضي الله عنه. فما ذكر في هذا الأثر أن عمر رضي الله عنه أمرهم بالقدوم إلى المدينة وأنه أمرهم بالإِقامة عنده ما عاش وأنهم لم يفارقوه حتى مات. كل ذلك لا أصل له فلا يغتر به. الوجه الثاني عشر أن الذهبي ذكر في تذكرة الحفاظ عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عمر رضي الله عنه حبس ثلاثة ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه الرواية تخالف رواية ابن عساكر لأن فيها أن عمر رضي الله عنه أنكر على عبد الله بن حذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر وعقبة بن عامر إفشاءهم للأحاديث وأمرهم بالإِقامة عنده, وفي هذه الرواية أنه أنكر على ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهم في إكثارهم للحديث وأنه حبسهم, وهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا الأثر غير محفوظ. وأما ما نقله المؤلف عن تذكرة الحفاظ فالجواب عنه من وجوه أحدها أن يقال إن هذه الرواية مرسلة على القول الراجح الذي تقدم ذكره في أول الجواب عن الأثر الذي رواه ابن عساكر. والمرسل ليس بحجة, قال الهيثمي في مجمع الزوائد هذا أثر منقطع ولا يصح هذا عن عمر انتهى, وقد ذكر ابن حزم هذا الأثر في كتاب الأحكام وفيه أن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر, وهذه الرواية تخالف ما جاء في تذكرة الحفاظ لأنه ذكر فيها أبا ذر وذكر في تذكرة الحفاظ بدلاً عنه أبا مسعود. وهذا الاضطراب يدل على أن الأثر موضوع. قال ابن حزم بعد إيراده «مرسل ومشكوك فيه ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد» انتهى. الوجه الثاني أن المؤلف زاد في هذا الأثر زيادة من عنده وهي قوله «وكان حبسهم في المدينة حتى أطلقهم عثمان» وهذه الزيادة ليست في تذكرة الحفاظ وإنما زادها المؤلف من كيسه ليؤيد بها مذهبه الخبيث في معارضة الأحاديث الصحيحة

ورفضها واطراحها. الوجه الثالث أن يقال لم يأت في أثر صحيح أن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري رضي الله عنهم ولا أنه حبس غيرهم من الصحابة على نشرهم للحديث, وقد ذكرت في الجواب عما رواه ابن عساكر أن أبا الدرداء رضي الله عنه لم يزل ساكناً في الشام في زمان عمر وبعد زمان عمر رضي الله عنه ولم يثبت أنه قدم المدينة في زمان عمر رضي الله عنه فضلاً عن أن يكون عمر رضي الله عنه قد حبسه. وأما أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقد سكن الكوفة ولم يثبت أن عمر رضي الله عنه أمره بالقدوم إلى المدينة فضلا عن أن يكون قد حبسه. وأما ابن مسعود رضي الله عنه فقد أرسله عمر رضي الله عنه معلماً لأهل الكوفة ولم يزل بها حتى قدم المدينة في آخر زمان عثمان رضي الله عنه ومات بها. ولم يثبت أنه قدم المدينة في زمان عمر رضي الله عنه بعد ما أرسله عمر رضي الله عنه إلى الكوفة فضلاً عن أن يكون عمر رضي الله عنه قد حبسه. وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ عن حارثة بن مضرب قال قرئ علينا كتاب عمر. إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما واسمعوا وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي. وإذا كان هذا قول عمر رضي الله عنه في حق ابن مسعود رضي الله عنه فكيف يقال أنه حبسه في المدينة. هذا لا يصح. وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ أن ابن مسعود رضي الله عنه كان ممن يتحرى في الأداء ويتشدد في الرواية ويزجر تلامذته عن التهاون في ضبط الألفاظ وأنه كان يقل من الرواية للحديث ويتورع في الألفاظ. وذكر أيضا عن أبي عمرو الشيباني قال كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا لا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استقلته الرعدة وقال هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا. وذكر أيضاً عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع».

رد ابن حزم وابن عبد البر لحديث قرظة بن كعب عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بإقلال الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام ابن عبد البر في ذلك مهم جدا فليراجع

وإذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يتحرى في الأداء ويتشدد في الرواية ويقل من رواية الحديث ويتورع في الألفاظ وتشتد عليه رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال إن عمر رضي الله عنه حبسه على إكثار الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذا لا يصح أبداً «وما آفة الأخبار إلا رواتها». وذكر الذهبي أيضا في تذكرة الحفاظ عن أبي قلابة قال قال ابن مسعود رضي الله عنه «عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله فإِن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق. وما جاء في هذا الأثر من الإِخبار عن الأقوام الذين يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ينطبق على المؤلف وعلى أشباهه من أهل التبدع والتنطع وعداوة الأحاديث الصحيحة وأهلها, فهولاء شر من اليهود وأعظم ضررا على الإِسلام والمسلمين. وأما ما نقله المؤلف عن جامع بيان العلم وفضله عن الشعبي عن قرظة بن كعب رضي الله عنه. فجوابه أن يقال إن سماع الشعبي من قرظة غير متحقق. وقد جزم ابن حزم في كتاب الأحكام بأنه لم يلقه ورد هذا الخبر وبالغ في الرد ومما قاله أن عمر رضي الله عنه نفسه روي عنه خمسمائة حديث ونيف فهو مكثر بالقياس إلى المتوفين قريباً من وفاته, وكذلك رده ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله فقال, احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا وقوله «أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها. والطعن على أهلها ولا حجة في هذا الحديث ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم. منها أن وجه قول عمر إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه إذ هو الأصل لكل علم. هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك, وقال غيره إن عمر إنما نهى عن الحديث عما لا يفيد حكما ولا يكون سنة, وطعن غيرهم في حديث قرظة وردوه لأن الآثار الثابتة عن عمر

خلافه, منها ما روى مالك ومعمر وغيرهما عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عمر بن الخطاب في حديث السقيفة أنه خطب يوم جمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال, أما بعد فإِني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته, ومن خشى أن لا يعيها فإِني لا أحل له أن يكذب علي, إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل معه الكتاب فكان مما أنزل معه الرجم. وذكر الحديث. وهذا يدل على أن نهيه عن الإِكثار وأمره بالإِقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوفاً أن يكونوا مع الإِكثار يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه ولم يعوه لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإِكثار. فلهذا أمرهم عمر بالإِقلال من الرواية. ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإِقلال منها والإِكثار. ألا تراه يقول فمن حفظها ووعاها فليحدث بها فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينهاهم عنه. هذا لا يستقيم, بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم بالإِقلال منه وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه بقوله «من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته, ثم قال ومن خشي أن لا يعيها فلا يكذب علي» وهذا يوضح لك, ما ذكرنا والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا, وإنما يدور على بيان عن الشعبي وليس مثله حجة في هذا الباب لأنه يعارض السنن والكتاب قال الله جل وعز (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقال (وما آتاكم الرسول فخذوه) وقال فيه (النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) وقال (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم, صراط الله) ومثل هذا في القرآن كثير, ولا سبيل إلى اتباعه والتأسي به والوقوف عند أمره إلا بالخبر عنه, فكيف يتوهم أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر الله به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها» الحديث, وفيه الحظ الوكيد على التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم وقال «خذوا عني» في غير ما حديث «وبلغوا عني» والكلام في هذا أوضح من النهار لأولي النهى والاعتبار. ولا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون خيراً أو شراً فإِن كان خيراً ولا شك فيه أنه خير فالإِكثار من الخير أفضل وإن كان شراً

فلا يجوز أن يتوهم أن عمر يوصيهم بالإِقلال من الشر. وهذا يدلك على أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه. وذكر مسلم في كتاب التمييز عن قيس بن عباد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول «من سمع حديثا فأداه كما سمع فقد سلم». ومما يدل على هذا ما يروى عن عمر أنه كان يقول «تعلموا الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن» فسوى بينهما. ثم روى ابن عبد البر بإِسناده عن مورق العجلي قال كتب عمر «تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن» قالوا اللحن معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به. وعمر هو الناشد للناس في غير موقف بل في مواقف شتى من عنده علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا. نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها. وفي الجنين يسقط ميتا عند ضرب بطن أمه وغير ذلك مما لو ذكرناه طال به كتابنا وخرجنا عن حد ما له قصدنا. وكيف يتوهم على عمر ما توهمه الذين ذكرنا قولهم وهو القائل «إياكم والرأي فإِن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها. وعمر أيضا هو القائل «خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» وهو القائل «سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإِن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله». وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه ومن حفظ شيئا وأتقنه جاز له أن يحدث به. وإن كان الإِكثار يحمل الإِنسان على التقحم في أن يحدث بكل ما سمع من جيد ورديء وغث وسمين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع». ولو كان مذهب عمر ما ذكرنا لكانت الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قوله فهو القائل «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها وبلغها» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم».

زعم المؤلف أن الصحابة كانوا يتركون التحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من الزيادة والنقصان, والرد عليه

قال أبو عمر الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإِكثار دون تفقه ولا تدبر, والمكثر لا يأمن مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته عمن يؤمن وعمن لا يؤمن انتهى. فصل وقال المؤلف في صفحة (19) و (20) ما نصه أصحاب النبي كانوا يتركون التحدث عن رسول الله - ص - خوفا من الزيادة أو النقصان في كلامه. أخرج البخاري عن السائب بن يزيد قال صحبت طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فما سمعت أحداً منهم يحدث عن رسول الله إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد. وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قال ابن بطال وغيره كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد أو النقصان. وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث. وكان كثير من عظماء الصحابة وأهل الخاصة برسول الله كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس يخافون الرواية وكسعيد بن الزبير أحد العشرة المبشرين بالجنة الذي لم يرو شيئاً أبدا, ولو أنت تصفحت البخاري ومسلم ما وجدت فيهما حديثاً واحداً لأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وليس فيهما كذلك حديث لعقبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم وقال ابن القيم إن الصحابة كانوا يهابون الرواية عن رسول الله - ص - ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقصان ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي مراراً ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله. والجواب أن يقال أما ما رواه البخاري عن السائب بن يزيد أنه صحب طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف فلم يسمع أحداً منهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال قد روي عن هؤلاء الأربعة أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنهم غير السائب بن يزيد وهي في

الصحاح والسنن والمسانيد. ولولا خشية الإِطالة لذكرت من ذلك كثيراً. ومن أراد الاطلاع على أكثرها فعليه بمسند الإِمام أحمد ففيه ما يكفي عن الوقوف على غيره. وقد قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر, ثم ذكر سبعة عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم, وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي لطلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثاً, وكذا قال الخزرجي في الخلاصة قال النووي واتفقا منها على حديثين. وقال الخزرجي اتفقا على حديث قالا وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة. وقال الحافظ أيضا في ترجمة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن خولة بنت حكيم. ثم ذكر خمسة وعشرين من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم, وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتان وسبعون حديثاً. وقال الخزرجي في الخلاصة له مائتا حديث وخمسة عشر حديثاً قالا واتفق البخاري ومسلم على خمسة عشر منها وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بثمانية عشر. وقال الحافظ أيضا في ترجمة المقداد بن الأسود رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر ثلاثة عشر من الرواة عنه, وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وأربعون حديثا اتفقا على حديث واحد وانفرد مسلم بثلاثة. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة. وقال الحافظ أيضا في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر, ثم ذكر ثمانية عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم, قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثاً اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بخمسة. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة. الوجه الثاني أن يقال ما نقله الحافظ ابن حجر عن ابن بطال وغيره أنهم قالوا إن كثيراً من كبار الصحابة لا يحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم خشية المزيد والنقصان ليس على إطلاقه وإنما معناه أنهم يقلون الرواية عن النبي صلى الله عليه

وسلم ويتورعون عن التحديث بما لم يحفظوه ويضبطوا ألفاظه. والدليل على أنه ليس على إطلاقه أنه ليس أحد من كبار الصحابة إلا وقد روي عنه جملة من الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم فمقل منهم ومكثر. ومن أراد الوقوف على بعض أحاديثهم فعليه بمسند الإِمام أحمد ففيه ما يشفي ويكفي في الرد على المؤلف وعلى غيره من أعداء السنة الذين قد جندهم الشيطان للتمويه على الناس وتضليل المسلمين وتشكيكهم فيما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم من الأحاديث والمعجزات وخوارق العادات. وأما ما نقله المؤلف عن ابن قتيبة فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن المؤلف قد حرف كلام ابن قتيبة وغير فيه. وهذا نص كلام ابن قتيبة, قال «وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه, بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة» انتهى كلام ابن قتيبة, وقد حرف المؤلف قوله «من جلة الصحابة» بقوله من عظماء الصحابة, وقوله «يقلون الرواية عنه» بقوله يخافون الرواية, وقوله «كسعيد بن زيد» بقوله وكسعيد بن الزبير, وقوله «بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً» بقوله وكسعيد بن الزبير الذي لم يرو شيئاً أبداً, ثم إن المؤلف زاد على كلام ابن قتيبة كلاماً لأبي رية نقله من ظلماته ولم ينسبه إليه وهو قوله, ولو أنت تصفحت البخاري ومسلم إلى آخر كلامه الذي تقدم ذكره ولم يفصل بين كلام ابن قتيبة وكلام أبي رية, وقد تبع أبارية في ذلك فإِن أبا رية لقلة الأمانة عنده لم يفصل بين كلامه وكلام ابن قتيبة ليوهم أن الجميع من كلام ابن قتيبة وقد قلده المؤلف وسار على إثره كما يسير الأعمى خلف الأعمى وكأنه يظن أن الجميع من كلام ابن قتيبة وهذا من غباوته وكثافة جهله. الوجه الثاني أن يقال إن أبا بكر والزبير وأبا عبيدة والعباس وسعيد بن زيد رضي الله عنهم كلهم قد رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر أربعة وعشرين من الرواة عنه وأكثرهم من الصحابة ومنهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأشار إلى جماعة ممن روى عنه سوى الأربعة والعشرين

قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي للصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً اتفق البخاري ومسلم على ستة وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بحديث, وكذا قال الخزرجي في الخلاصة. وقال الحافظ أيضا في ترجمة الزبير رضي الله عنه, روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر سبعة من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم. وقال الخزرجي في الخلاصة له ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بسبعة. وقال الحافظ أيضا في ترجمة أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر اثني عشر من الرواة عنه وبعضهم من الصحابة. وقال الخزرجي في الخلاصة له أربعة عشر حديثاً انفرد له مسلم بحديث. وذكر الحافظ أيضا في ترجمة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه اثني عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم, وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وثلاثون حديثا اتفقا على حديث وانفرد البخاري بحديث ومسلم بثلاثة. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة. وقال الحافظ أيضاً في ترجمة سعيد بن زيد بن عمر وبن نفيل رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر خمسة عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم, وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وأربعون حديثاً اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث. وقال الخزرجي في الخلاصة له ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بآخر. وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية ولو أنك تصفحت البخاري ومسلم ما وجدت فيه حديثاً واحداً لأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وليس فيها كذلك حديث لعقبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم. فجوابه أن يقال أما أبو عبيدة رضي الله عنه فقد تقدم قول صاحب الخلاصة أن مسلماً انفرد له بحديث. وأما عتبة بن غزوان رضي الله عنه فقد أخطأ المؤلف حيث سماه عقبة وإنما

كلام لأبي رية يتضمن الطعن في بعض الصحابة, والرد عليه وعلى المؤلف

هو عتبة بالتاء لا بالقاف وقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» والخزرجي في الخلاصة أن له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أحاديث انفرد له مسلم بحديث. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة روى له مسلم وأصحاب السنن. وأما أبو كبشة الأنماري رضي الله عنه فقد روى له الإِمام أحمد في مسنده عدة أحاديث بعضها صحيح, وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وقد صحح الترمذي بعض ما رواه عنه. وأما قول المؤلف وكثيرين غيرهم. فجوابه أن يقال هذه مجازفة يكذبها الواقع لأن أكابر الصحابة الذين تأخرت وفياتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ليس منهم أحد إلا وقد روي له عدة أحاديث فمقل ومكثر. وأما ما نقله المؤلف عن ابن القيم رحمه الله تعالى فمعناه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها فيما لم تدع الحاجة إليه. فأما ما دعت إليه الحاجة فقد روي عنهم في ذلك الكثير الطيب. وليس أحد من أكابر الصحابة وعلمائهم ممن تأخرت وفياتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد روي عنه جملة أحاديث يصرح فيها بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم أو يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم من أكابر الصحابة وعلمائهم, وأحاديثهم موجودة في الصحاح والسنن والمسانيد ولا سيما مسند الإِمام أحمد, فمن أراد الوقوف على كثير من أحاديثهم فليرجع إلى مسند الإِمام أحمد ففيه ما يكفي عن مراجعه غيره. فصل وقال المؤلف في صفحة (21) ما نصه الصحابة كانوا يتفاوتون في صدق الرواية عن بعضهم (ص 70 أضواء على السنة, ص 48 جـ1 سير أعلام النبلاء للذهبي, وفي البخاري ومسلم «صدق عمر عبد الرحمن بن عوف وقال له أنت عندنا العدل والرضا, وفي قصة الاستئذان يقول لأبي موسى الأشعري إئت بمن يشهد معك. مع أن كلاهما صحابي جليل ولكن رسول الله - ص - أعظم من الأمة كلها.

والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال لا خلاف بين العلماء أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول وأهل صدق وأمانة في روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية بعضهم عن بعض وليس فيهم من يتهم بالكذب في الرواية .. وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية إن الصحابة كانوا يتفاوتون في صدق الرواية عن بعضهم فمعناه أن المؤلف وأبا رية كانا يريان أن بعض الصحابة كانوا يتصفون بالصدق في الرواية وبعضهم بخلاف ذلك. وهذا قول باطل مردود لأنه يتضمن الطعن في بعض الصحابة بأنهم ليسوا أهل صدق في الرواية. والطعن في الصحابة ليس بالأمر الهين. ومن طعن فيهم أو في بعضهم ووصفهم بعدم الصدق في الرواية فهو الكاذب الأفاك. الوجه الثاني أن يقال إن عمر رضي الله عنه لم يتهم أبا موسى بالكذب في روايته وإنما شدد عليه لعلل ثلاث قد صرح بها في الحديث إحداها أن عمر رضي الله عنه أحب أن يتثبت. والثانية أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد, والثالثة أنه خشي أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي في شرح مسلم وأما قول عمر لأبي موسى أقم عليه البينة فليس معناه رد خبر الواحد من حيث هو خبر واحد ولكن خاف عمر مسارعة الناس إلى القول على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول عليه بعض المبتدعين أو الكاذبين أو المنافقين ونحوهم ما لم يقل وأن كل من وقعت له قضية وضع فيها حديثا على النبي صلى الله عليه وسلم فأراد سد الباب خوفاً من غير أبي موسى لا شكاً في رواية أبي موسى فإِنه عند عمر أجل من أن يظن به أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل بل أراد زجر غيره بطريقه فإِن من دون أبي موسى إذا رأى هذه القضية أو بلغته وكان في قلبه مرض أو أراد وضع حديث خاف من مثل قضية أبي موسى فامتنع من وضع الحديث والمسارعة إلى الرواية بغير يقين انتهى. وقد أنكر أبي بن كعب رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه تشديده على أبي موسى رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال السلام

طعن المؤلف في رواية ابن عباس وزعمه أن الصحابة جميعا ضحايا للدس الإسرائيلي, والرد عليه

عليكم هذا عبد الله بن قيس فلم يأذن له فقال السلام عليكم هذا أبو موسى السلام عليكم هذا الأشعري ثم انصرف فقال ردوا علي ردوا علي فجاء فقال يا أبا موسى ما ردك كنا في شغل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الاستئذان ثلاث فإِن أذن لك وإلا فارجع» قال لتأتيني على هذا ببينة وإلا فعلت وفعلت فذهب أبو موسى قال عمر إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية وإن لم يجد بينة فلم تجدوه فلما أن جاء بالعشي وجدوه قال يا أبا موسى ما تقول أقد وجدت قال نعم أبي بن كعب قال عدل قال يا أبا الطفيل ما يقول هذا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سبحان الله إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت. وقد رواه أبو داود مختصرا. وفي رواية له أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى رضي الله عنه «إني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد» وفي رواية لمالك وأبي داود من طريق مالك أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى رضي الله عنه «أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين وسنن أبي داود أن عمر رضي الله عنه قال «خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق بالأسواق». فصل وقال المؤلف في صفحة (21) ما نصه عدد ما سمعه ابن عباس من النبي - ص - وعدد ما نسب إليه من الحديث. ذكر الآمدي في كتاب (الإِحكام في أصول الأحكام ص 78 - 180 جـ 2) أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أربعة أحاديث لصغر سنه, ولما روى عن النبي - ص - (إنما الربا في النسيئة, وأن النبي - ص - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. قال في الجزء الأول لما روجع فيه أخبرني به أسامة بن زيد, وقال في الخبر الثاني أخبرني أخي الفضل بن العباس. ولما روى أبو هريرة عن النبي - ص - أنه قال من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له راجعوه في ذلك فقال ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمداً قال, ثم عاد فقال حدثني به الفضل بن العباس, وقال ابن القيم في (الوابل الصيب) إن ما سمعه ابن عباس عن النبي

- ص - لم يبلغ العشرين حديثاً, وعن ابن معين والقطان وأبي داود في السنن أنه روى تسعة أحاديث وذلك لصغر سنه ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثاً. (فتأمل أيها المؤمن العاقل لتعلم أنهم جميعا ضحايا للدس الإسرائيلي). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن ابن عباس رضي الله عنهما قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث وروى عن الخلفاء الأربعة وعن غيرهم من أكابر الصحابة وعلمائهم كما سيأتي ذكر أسمائهم إن شاء الله تعالى. ولا خلاف أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول وموثوق بروايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وبرواية بعضهم عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يضر إرسالهم لأنهم لم يكونوا يرسلون إلا ما سمعوه من الصحابة الذين سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلحق أحداً منهم شك في روايته ولا تتطرق إليه التهمة أبداً. الوجه الثاني أن يقال إن ابن عباس رضي الله عنهما كان في غاية من النباهة والفطنة وكمال العقل وكان يقال له الحبر والبحر لكثرة علمه وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وكان يتتبع الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل عنها كبار الصحابة رضي الله عنهم حتى حفظ منها شيئاً كثيراً. وقد قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما, روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيه وأمه أم الفضل وأخيه الفضل وخالته ميمونة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي ذر وأبي بن كعب وتميم الداري وخالد بن الوليد - وهو ابن خالته - وأسامة بن زيد وحمل بن مالك بن النابغة وذؤيب والد قبيصة والصعب بن جثامة وعمار بن ياسر وأبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري وأبي هريرة ومعاوية بن أبي سفيان وأبي سفيان وعائشة وأسماء بنت أبي بكر وجويرية بنت الحارث وسودة بنت زمعة وأم هانئ بنت أبي طالب وأم سلمة وجماعة انتهى. وروى البزار عن ابن عباس رضي الله نهما قال لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا وأقبلت على عمر فكان عامة حديثه عن عمر, قال الهيثمي رجاله

رجال الصحيح. وذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ عن عبد الرزاق عن معمر قال عامة علم ابن عباس رضي الله عنهما من ثلاثة عمر وعلي وأبي بن كعب رضي الله عنهم. وذكر الذهبي أيضاً عن أبي بكر بن عياش عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت أسمع بالرجل عنده الحديث فآتيه فاجلس حتى يخرج فأسأله ولو شئت أن أستخرجه لفعلت. وروى الدارمي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإِنهم اليوم كثير قال واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى فترك ذلك وأقبلت على المسألة فإِن كان ليبلغني الحديث علن الرجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح على وجهي التراب فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ألا أرسلت إلي فآتيك فأقول أنا آتيك فأسأله عن الحديث قال فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي فقال كان هذا الفتى أعقل مني. وروى الدارمي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجدت أكثر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار والله إن كنت لآتي الرجل منهم فيقال هو نائم فلو شئت أن يوقظ لي فادعه حتى يخرج لأستطيب بذلك حديثه. وروى ابن سعد عن أبي سلمة الحضرمي قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سُرَّ بإِتياني إليه لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أسأل أبي بن كعب وكان من الراسخين في العلم. وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكره ابن كثير في البداية والنهاية.

وروى محمد بن هارون الروياني في مسنده عن عبيد الله بن علي بن أبي رافع قال كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم يوم كذا ومع ابن عباس من يكتب ما يقول, ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري, ورواه ابن سعد في الطبقات عن عبيد الله بن علي عن جدته سلمى قالت رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن سعد أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال كان ابن عباس قد فات الناس بخصال بعلم ما سبقه وفقه فيم احتيج إليه من رأيه وحلم وسيب ونائل وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه. وإذا علم ما ذكرنا من حرص ابن عباس رضي الله عنهما على رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الخلفاء الراشدين وغيرهم من أكابر الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم فماذا ينقم عليه المؤلف وأشباهه من زنادقة العصريين ويستكثرون عليه ما أسنده له أحمد في مسنده, ثم يحملهم التهور القبيح على أن يجعلوه من ضحايا الدس الإِسرائيلي, قاتل الله الزنادقة أنى يؤفكون. الوجه الثالث أن يقال من أقبح التهور قول الأفاك المفتري أن الصحابة جميعا ضحايا للدس الإِسرائيلي. والجواب أن يقال (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) وهل يظن عدو السنة وعدو حملتها أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مغفلين بحيث تروج عليهم دسائس اليهود وغيرهم من أعداء الله حتى يكونوا ضحايا للدس حاشاهم من هذا الظن الكاذب. الوجه الرابع أن يقال إذا روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الصحابة الذين ذكرنا أسماءهم في الوجه الثاني ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك غيره من الصحابة إذا روى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة البعض الآخر ولم يذكروا الواسطة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقبول اتفاقا, ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في

تشكيكه في الأحاديث الصحيحة وإنكاره وجوب التسليم لها والرد عليه

فتح الباري في الباب الرابع من كتاب العلم وقرر صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة رضي الله عنهم, وقرر في أول كتاب بدء الوحي أن مرسل الصحابة محكوم بوصله عند الجمهور. الوجه الخامس أن يقال ظاهر كلام المؤلف أنه يرى أن الصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة صحابي آخر ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك يكون من الدس الإِسرائيلي ولهذا ذكر حديثي ابن عباس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم وجعل هذه الأحاديث مثالاً للدس الإِسرائيلي, وهذا غاية الوقاحة والجراءة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورميهم بالغباوة والتغفيل, وهِذا يدل على شدة بغضه لهم ولما حفظوه من السنة. وقد روى الترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه». الوجه السادس أن يقال إن ضحايا الدس الإِسرائيلي في الحقيقة هم أبو رية والمؤلف وأشباههما من العصريين الذين تأثروا بخزعبلات جولد زيهر وإخوانه من المستشرقين الذين قد ملئوا كتبهم من الطعن في الإِسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقد نقل أبو رية في ظلماته نقولا كثيرة عن جولد زيهر في طعنه على الصحابة واعتمد عليها. وكذلك كان أشباهه من الحاقدين على السنة وأهلها يعتمدون على كلام عدو الله جولد زيهر وإخوانه عن المستشرقين الذين قد شرقوا بالإِسلام وأهله, وأما المؤلف المسكين فهو أعمى البصيرة يسير خلف أبي رية أينما سار ويعتمد على ما نقله عن المستشرقين من اليهود وغيرهم من الحاقدين على الإِسلام وأهله فهو فريسة من فرائس المستشرقين وضحية من ضحايا دسهم وكيدهم للإِسلام والمسلمين. فصل ونقل المؤلف في صفحة (24) عن أبي رية أنه قال يحسب الذين لا خبرة لهم بالعلم أن أحاديث الرسول التي يقرأونها في الكتب أو يسمعونها قد جاءت صحيحة

المبنى محكمة التأليف وأن ألفاظها قد وصلت إلى الرواة مصونة كما نطق النبي - ص - بها بلا تحريف فيها ولا تبديل, ولقد كان لهذا الفهم أثره في أفكار شيوخ الدين فاعتقدوا أن هذه الأحاديث في منزلة آيات الله في كتابه العزيز من وجوب التسليم بها وفرض الإِذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتد أو يفسق من يخالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال أما الأحاديث التي ليست جيدة الأسانيد فهذه لا قائل من العلماء بوجوب التسليم لها وفرض الإِذعان لأحكامها. وأما الأحاديث الثابتة بالأسانيد الصحيحة فالإِيمان بها والتسليم لها والإِذعان لأحكامها واجب على كل مسلم وذلك من تحقيق الشهادة بأن محمداً رسول الله, ومن كذب بشيء مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ممن يشك في إسلامه. وقد قال الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه. وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). وقال إسحاق بن راهويه من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر. وقال الحسن بن علي بن خلف البربهاري في كتابه شرح السنة ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإِسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله فقد وجب عليك أن تخرجه من الإِسلام. وقال البربهاري أيضا من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله ومن رد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم. وللبربهاري في هذا الموضوع كلام أكثر من هذا وقد ذكرته في الفصل الأول

طعنه في حديث الواهبة نفسها وزعمه أنه من الأحاديث المدسوسة, والرد عليه

في هذا الكتاب فليراجع فإِنه مهم جداً. الوجه الثاني أن يقال ما اعتقده شيوخ الدين من وجوب التسليم للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفرض الإِذعان لإِحكامها هو الحق الواجب على كل مسلم قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) فأقسم تبارك وتعالى بنفسه على نفي الإِيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ويرض بحكمه ويذعن له ويسلم له تسليماً, وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو تصيبهم عذاب أليم) قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة, الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. الوجه الثالث أن يقال من خالف الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر وجوب التسليم لها وفرض الإِذعان لأحكامها فلا شك في كفره فضلا عن القول بأنه يأثم ويفسق. ومن عرضت له شبهة أو شك في شيء منها وجب عليه أن يسأل أهل العلم عما عرض له فإن أصر بعد العلم وقيام الحجة عليه فلا شك في كفره. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإِذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فدل هذا الحديث الصحيح على أن من خالف الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر وجوب التسليم لها وفرض الإِذعان لأحكامها فهو كافر حلال الدم والمال. فصل وقال المؤلف في صفحة (25) ما نصه اختلاف في حديث واحد وموضوع واحد هو الزواج والمهور جاءت امرأة إلى النبي - ص - وأرادت أن تهب نفسها له فتقدم رجل فقال يا رسول الله أنكحنيها ولم يكن معه من المهر غير بعض القرآن فقال له النبي - ص - أنكحتكها بما معك من القرآن. وفي رواية ثانية قد زوجتكها بما معك من القرآن. وفي ثالثة زوجتكها

جواز الرواية بالمعنى ومن قال بذلك من السلف

على ما معك. وفي رواية رابعة قد ملكتكها بما معك من القرآن. وفي رواية خامسة أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها. وفي رواية سادسة أنكحناكها. وفي رواية سابعة خذها بما معك, فهذه اختلافات سبعة في موضوع ولفظ واحد, فهل يعقل أن يكون النبي - ص - كررها على هذا النحو أم أن ذلك دليل على نشاط وفاعلية الدس عليه بسبب فتنة المسلمين ببعضهم, مع أن اليقين بأن القرآن لا يصلح صداقاً ولا يصلح تأهيلاً للزواج, وذلك أصدق الأدلة على براءة النبي - ص - من هذا الحديث برواياته السبعة, إذ أن الزوج علاقة تقوم على كفاءة مادية يملكها الزوج حتى يعول بها زوجته وأبناءه. وحفظ القرآن بغير قدرة مالية لا يصلح نفقة إلا إذا باعه الزوج بلقيمات من العيش الرخيص وذلك حرام. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن جميع الروايات في حديث الواهبة نفسها معناها واحد وإن اختلفت الألفاظ في أداة التزويج, وحاصلها هو تزويج الرجل على أن يعلم المرأة مما معه من القرآن ويكون ذلك صداقها, وليس في اختلاف الألفاظ على أداة التزويج ما يغير معنى الحديث ولا ما يترتب عليه مفسدة. الوجه الثاني أن يقال إن الطعن في حديث الواهبة نفسها من أجل اختلاف الألفاظ في أداة التزويج لا شك أنه من التنطع والتشدق الذي لا يصدر إلا من رجل في قلبه زيغ ومحبة للفتنة وتشكيك المسلمين في الأحاديث الصحيحة التي لا شك في ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث أن يقال إن الرواية بالمعنى جائزة وقد روي ذلك عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم, قال الدارمي في سننه «باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى» ثم روى عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال «إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم» وروى أيضا عن الحسن أنه كان إذا حدث قدم وأخر. وروى أيضا عن جرير بن حازم قال كان الحسن يحدث بالحديث الأصل واحد والكلام مختلف, وروى أيضا عن ابن عون قال كان الشعبي والنخعي والحسن يحدثون بالحديث مرة هكذا ومرة هكذا فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين فقال أما إنهم لو حدثوا به كما سمعوا كان خيراً لهم. وقال الخطيب البغدادي في كتابه «الكفاية في علم الرواية» «باب ذكر من

كان يذهب إلى إجازة الرواية على المعنى من السلف» ثم روى ذلك عن واثلة بن الأسقع وأبي سعيد وعائشة وابن مسعود وأبي الدرداء وأنس بن مالك وعمرو بن دينار والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وابن أبي نجيح وعمرو بن مرة وجعفر بن محمد وسفيان الثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد ويحيى بن سعيد ومحمد بن مصعب القرقساني. وروى أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال كنا نجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن نكون عشرة نفر نسمع الحديث فما منا اثنان يؤديانه غير أن المعنى واحد. وروى أيضاً عن أيوب عن محمد بن سيرين قال كنت أسمع الحديث عن عشرة المعنى واحد واللفظ مختلف. وروى أيضاً عن أزهر بن جميل قال كنا عند يحيى بن سعيد ومعنا رجل يتشكك فقال له يحيى يا هذا إلى كم هذا, ليس في يد الناس أشرف ولا أجل من كتاب الله تعالى وقد رخص فيه على سبعة أحرف. وروى أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه قال قالت لي عائشة رضي الله عنها يا بني إنه يبلغني أنك تكتب عني الحديث ثم تعود فتكتبه فقلت لها أسمعه منك على شيء ثم أعود فأسمعه على غيره فقالت هل تسمع في المعنى خلافاً قلت لا قالت لا بأس بذلك. ونقل السخاوي في فتح المغيث عن ابن الصلاح أنه قال في الرواية بالمعنى أنه الذي شهدت به أحوال الصحابة والسلف الأولين فكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمرٍ واحد بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ انتهى. وقال الشافعي وإذا كان الله عز وجل برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد يزل لتحل لهم قرائته وإن اختلف لفظهم فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه, وسبقه لنحوه يحيى بن سعيد القطان فإِنه قال القرآن أعظم من الحديث ورخص أن تقرأه على سبعة أحرف وكذا قال أبو أويس سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال إن هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث

جواز جعل القرآن صداقا وجواز أخذ الأجرة على تعليمه والرقية به

إذا أصبت معنى الحديث فلم تحل به حراماً ولم تحرم به حلالاً فلا بأس به. واحتج حماد بن سلمة بأن الله تعالى أخبر عن موسى عليه السلام وعدوه بألفاظ مختلفة في شيء واحد كقوله (بشهاب قبس) و (بقبس أو جذوة من النار) وكذلك قصص سائر الأنبياء عليهم السلام في القرآن وقولهم لقومهم بألسنتهم المختلفة وإنما نقل إلينا ذلك بالمعنى. وقد قال أبي بن كعب كما أخرجه أبو داود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك وقل للذين كفروا والله الواحد الصمد, فسمى السورتين الأخيرتين بالمعنى انتهى. الوجه الرابع أن المؤلف استدل على وقوع الدس في حديث الواهبة نفسها باختلاف الألفاظ في أداة التزويج. واستدلاله بذلك يدل على عداوته للسنة وتشكيكه في الأحاديث الصحيحة ورغبته في نبذها واطراحها مهما أمكنه, وهذا عنوان على ما في قلبه من الزيغ والزندقة. الوجه الخامس أنه يجوز أن يجعل الصداق تعليم سورة أو سور من القرآن أو آيات منه كما يجوز أخذ الأجرة على تعليمه وعلى الرقية به لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقد رقى بعض الصحابة لديغاً بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم فأجاز ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم «اضربوا لي بسهم معكم» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وروى الإِمام أحمد وأبو داود بأسانيد حسنة عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه رضي الله عنه أنه أتى على حي من العرب عندهم رجل مجنون فرقاه بفاتحة الكتاب قال فأعطوني جعلاً, وفي رواية مائة شاة فقلت لا حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال «خذها فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق». قال النووي في الكلام على حديث الواهبة نفسها, في هذا الحديث دليل لجواز كون الصداق تعليم القرآن وجواز الاستئجار لتعليم القرآن وكلاهما جائز عند الشافعي وبه قال عطاء والحسن بن صالح ومالك وإسحاق وغيرهم، ومنعه جماعة منهم الزهري وأبو حنيفة، وهذا الحديث مع الحديث الصحيح «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» يردان قول من منع ذلك. ونقل القاضي عياض جواز

الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة سوى أبي حنيفة. وقال النووي أيضا في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قوله صلى الله عليه وسلم «خذوا واضربوا لي بسهم معكم» هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر وأنها حلال لا كراهة فيها, وكذا الأجرة على تعليم القرآن وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وآخرين من السلف ومن بعدهم ومنعها أبو حنيفة في تعليم القرآن وأجازها في الرقية انتهى. قلت وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة الواهبة مع حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره قريباً يردان قول أبي حنيفة. الوجه السادس أن يقال إن يقين المؤلف بأن القرآن لا يصلح صداقا ليس بيقين وإنما هو ظن كاذب وتخرص باطل مردود بقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل «انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن» رواه مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. ورواه البيهقي في سننه بإِسناد مسلم وقال فيه «انطلق فقد زوجتكها بما تعلمها من القرآن». وروى ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً امرأة على أن يعلمها سورة من القرآن. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وقال فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل «قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك». الوجه السابع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل «التمس ولو خاتما من حديد» ومن المعلوم أن خاتم الحديد لا يقوم بالتأهيل للزواج ولا بشيء من التأهيل للزواج لأن قيمته تافهة جداً ومع هذا يصلح جعله صداقاً. وإذا كان خاتم الحديد مع حقارته وتفاهة قيمته يصلح جعله صداقاً فكيف بتعليم القرآن الذي يفوق العلم بأقل القليل منه على خواتم الذهب فضلاً عن خاتم الحديد. الوجه الثامن أن يقال إن حديث الواهبة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء مما هو ثابت عنه فلا شك أنه معاند مكابر يحاول رد الأحاديث الصحيحة واطراحها وإبطال السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله

تعالى (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم) وقال تعالى (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين) وقال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين). الوجه التاسع أن المؤلف اعتمد على عقليته الفاسدة محتجا بها على معارضة الحديث الصحيح ورده وذلك في قوله إن الزواج علاقة تقوم على كفاءة مادية يعول بها زوجته وأبناءه, إلى آخر كلامه, وهذه حجة داحضة مردودة على قائلها فإِن النكاح يصح عقده على خاتم من حديد وليس كفاءة مادية يعول بها الزوج زوجته وأبناءه. ويصح عقده على تعليم شيء من الأدب أو صنعة أو كتابة وعلى تعليم أبواب من الفقه أو الحديث أو قصيدة من الشعر المباح لأنه يصح أخذ الأجرة على تعليم هذه الأشياء فصح كونها صداقاً, وليس في تعليم هذه الأشياء كفاءة مادية يعول بها الرجل زوجته وأولاده. وقد روى الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرضيت من نفسك ومالك بنعلين» قالت نعم قال فأجازه قال الترمذي حديث حسن صحيح. وروى الإِمام أحمد أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يده طعاماً كانت له حلالاً» ورواه أبو داود ولفظه قال «من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل» ورواه البيهقي في سننه ولفظه قال «من أعطى في صداق ملء كفيه براً أو تمراً أو سويقاً أو دقيقاً فقد استحل» وفي رواية لأبي داود قال «كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نستمتع بالقبضة من الطعام على معنى المتعة» وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن حريج عن أبي الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم». قال البيهقي والنسخ إنما ورد بإِبطال الأجل لا قدر ما كانوا عليه ينكحون من الصداق انتهى.

تشكيك المؤلف في حديث «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» وتشكيكه في روايات المحدثين للأحاديث وعزوها إلى كتب السنة, وتشكيكه فيما يكتبه البخاري من حفظه والرد عليه في جميع ذلك

ورواه البيهقي من حديث يعقوب بن عطاء عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال كنا ننكح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبضة من الطعام». وروى ابن ابي شيبة والبيهقي عن ابن أبي لبيبة عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استحل بدرهم فقد استحل» يعني في النكاح. ولا يخفى أنه ليس في النعلين, ولا في القبضة من الطعام ولا في ملء الكفين من البر أو التمر أو السويق أو الدقيق كفاءة مادية يعول بها الزوج زوجته وأولاده ومع هذا يصلح جعلها صداقاً, ولا شك أن تعليم سورة أو سور من القرآن يفوق على النعلين والقبضة من الطعام وملء الكفين من البر أو التمر أو السويق أو الدقيق فيكون جعله صداقاً أولى من جميع هذه الأشياء والله أعلم. فصل وقال المؤلف في صفحة (25) و (26) ما نصه مثال آخر يثبت اختلاف البخاري ومسلم في الموضوع وليس في الرواية وحقيقة هامة. روى البخاري عن ابن عمران النبي - ص - قال يوم الأحزاب لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة الخ الحديث. قال ابن حجر في شرح هذا الحديث وقع النص في جميع النسخ عند البخاري على صلاة العصر ووقع في جميع النسخ عند مسلم على صلاة الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإِسناد واحد وقد وافق مسلماً أبو يعلى وآخرون. وكذا أخرجه ابن سعد, وأما أصحاب المغازي فقد اتفقوا على أنها العصر, قال ابن حجر بعد ذلك إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم فإِنه يحافظ على اللفظ كثيراً ولم يجوز مثله لموافقة من وافق مسلماً على لفظه بخلاف البخاري, وقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة والذي قاله ابن حجر عن البخاري يؤيده ما رواه الخطيب البغدادي عن البخاري قال رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقيل له يا أبا عبد الله بكماله, فسكت, وقال حيدر بن أبي جعفر والي بخارى قال لي محمد بن إسماعيل البخاري يوما رب حديث سمعته

بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت يا أبا عبد الله بتمامه, فسكت. والجواب أن يقال الذي يظهر من إيراد المؤلف لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على سرعة السير إلى بني قريظة أنه يريد التشكيك فيه باختلاف رواية البخاري ومسلم في تعيين الصلاة التي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصلوها إلا في بني قريظة فعند البخاري أنها العصر وعند مسلم أنها الظهر, وقد رواه كل منهما عن عبد الله بن محمد بن أسماء عن عمه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن مسلماً وافقه أبو يعلى وآخرون. قال وكذلك أخرجه ابن سعد عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عن جويرية بلفظ الظهر. وابن حبان من طريق أبي غسان كذلك, غير أن أبا نعيم في المستخرج أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية فقال العصر. قال وأما أصحاب المغازي فاتفقوا على أنها العصر, ثم ذكر قول ابن إسحاق وفيه أنها العصر, قال وكذلك أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل بإِسناد صحيح إلى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن عمه عبيد الله بن كعب وفيه أنها العصر, قال وأخرجه الطبراني من هذا الوجه موصولا بذكر كعب بن مالك فيه. قال وللبيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه مطولاً, قال وهذا كله يؤيد رواية البخاري في أنها العصر انتهى. وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ما رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها وفيه أنها العصر ثم قال ابن كثير ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها انتهى. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وفيه أنها العصر ثم قال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن أبي الهذيل وهو ثقة انتهى. قلت ويؤيد رواية البخاري ما جاء في حديثي كعب بن مالك وعائشة رضي الله عنهما أن طائفة من الذين ساروا إلى بني قريظة لم يصلوا حتى نزلوا بني قريظة بعد ما غربت الشمس, ولم يأت في شيء من الأخبار أنهم صلوا سوى صلاة واحدة فدل على أنها العصر, ولو كان الأمر واقعاً على صلاة الظهر لكان يلزمهم أن يصلوا صلاتين الظهر والعصر ولما لم ينقل هذا دل على أن رواية البخاري هي المطابقة للواقع.

والذي يظهر من حديث جويرية بن أسماء أنه قال مرة العصر ورواه عنه بهذا اللفظ أبو حفص السلمي, وقال مرة الظهر ورواه عنه بهذا اللفظ أبو غسان مالك بن إسماعيل, وأما عبد الله بن محمد بن أسماء فرواه عن عمه جويرية باللفظين فسمعه البخاري من عبد الله على أحدهما وسمعه مسلم وغيره على اللفظ الآخر والله أعلم. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية قال ابن حجر بعد ذلك إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيراً ولم يجوز مثله لموافقة من وافق مسلماً على لفظه بخلاف البخاري. فجوابه أن يقال إن المؤلف وإمامه في الضلال قد تصرفا في بعض كلام الحافظ ابن حجر بما غير لفظه ومعناه, وبيان ذلك من وجهين أحدهما أن الحافظ ابن حجر لم يجزم بأن البخاري رحمه الله تعالى كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه ولم يراع فيه اللفظ وإنما أبدى ذلك احتمالا كما هو واضح من كلامه في فتح الباري. وقد ساق أبو رية والمؤلف كلام الحافظ ابن حجر مساق الجازم بأن البخاري كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه ولم يراع اللفظ وهذا خطأ وغلط على الحافظ ابن حجر. الوجه الثاني أن الحافظ ابن حجر قال بعد أن أبدى احتمالا أن البخاري كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم فإِنه يحافظ على اللفظ كثيراً. قال وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلماً على لفظه بخلاف البخاري. ومراد الحافظ أنه لا يجوز أن يكون مسلم كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه كما جوز ذلك على البخاري. وقد أبدل المؤلف وأبو رية قول الحافظ ابن حجر (وإنما لم أجوز عكسه) بقولهما (ولم يجوز مثله) وهذا من قلة أمانتهما في النقل, وكلمتهما تقتضي أن يكون الحافظ ابن حجر لا يجوز مثل ما يجوزه البخاري من الكتابة من الحفظ من غير مراعاة اللفظ. وهذا خطأ وغلط على الحافظ ابن حجر فإِنه إنما أراد ما ذكرته آنفا ولم يرد ما توهمه المؤلف وأبو رية. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث

بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة. فجوابه أن يقال مراد المؤلف وأبي رية بذلك ما فعله البيهقي في سننه والبغوي في شرح السنة فإِنهما إذا أخرجا الحديث من الطريق التي أخرجها منه البخاري ومسلم أو أحدهما قالا بعده رواه البخاري عن فلان ومسلم عن فلان, وقد يكون في لفظ البيهقي أو البغوي بعض المخالفة للفظ البخاري ومسلم مع اتفاق المعنى ومع ذلك لا يبين اختلاف اللفظ, وهذا جائز عند المحدثين, ولا يقدح في الحديث ما يقع فيه من الاختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى, وعلى هذا جرى عمل العلماء من أهل الحديث قديماً وحديثاً, ولا عبرة بمن خالفهم من تلامذة الإِفرنج ومقلديهم من جهال العصريين وزنادقتهم. ويظهر من كلام المؤلف وأبي رية أنهما أرادا به الاعتراض على البيهقي والبغوي ومن صنع مثل صنيعهما في إيراد الحديث وذكر من خرجه من أهل الكتب الستة مع ما يقع بينهم من الاختلاف في بعض الألفاظ. وأرادا أيضا التشكيك في الأحاديث الصحيحة التي يرويها البيهقي في سننه والبغوي في شرح السنة وقد قال الله تعالى (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم). وأما ما ذكره عن الخطيب البغدادي أنه روى عن البخاري أنه قال رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقيل له يا أبا عبد الله بكماله, فسكت, وقال حيدر بن أبي جعفر والي بخارى قال لي محمد بن إسماعيل البخاري يوماً رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت يا أبا عبد الله بتمامه, فسكت. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن البخاري رحمه الله تعالى كان آية في الحفظ والإِتقان ومشهوراً بذلك عند المحدثين. وقد كان كثير من شيوخه يقرون له بالفضل والتقدم وكذلك أقرانه ومن بعدهم من أئمة الحديث. وقد تقدم (¬1) ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي أحمد ابن عدي أن البخاري لما قدم بغداد اجتمع أصحاب الحديث وأرادوا امتحانه فعمدوا إلى مائة ¬

(¬1) ص: 40 - 41.

حديث فقلبوا أسانيدها ثم ألقوها عليه فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل. وتقدم (¬1) أيضا ما ذكره الحافظ ابن حجر عن أبي الأزهر قال كان بسمرقند أربعمائة محدث فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد العراق في إسناد الشام وإسناد الحرم في إسناد اليمن فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة. وروى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة بإِسناده عن محمد بن أبي حاتم قال سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل يختلف معنا إلى مشايخ الحديث في البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له إنك تختلف معنا ولا تكتب فما معناك فيما تصنع فقال لنا بعد ستة عشر يوماً إنكما قد أكثرتما علي وألححتما فأعرضا علي ما كتبتما فأخرجنا ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه, ثم قال أترون أني اختلف هدراً وأضيع أيامي فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. وروى القاضي أبو الحسين أيضا عن عبد الله بن الإِمام أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل. فهذه شهادة من إمام أهل السنة والجماعة للبخاري بالفضل والتقدم. وبهذه الشهادة وأمثالها من شهادات شيوخه وأقرانه وأئمة العلم والهدى من بعدهم يرد على من حاول التشكيك في حفظ البخاري والحط من قدره. وأما سكوت البخاري لما سئل عما كان يكتبه من حفظه هل كان يكتبه بتمامه أم لا. فجوابه أن يقال يحتمل أن يكون سكوته عن الجواب من باب الاحتياط خشية أن يكون قد وقع منه تقديم أو تأخير أو تغيير في بعض الألفاظ وإن كان ذلك لا يؤثر في الحديث, ويحتمل أن يكون سكوته عن الجواب خوفاً من العجب وتزكية النفس, ولعل هذا الاحتمال هو الأقرب, وأيا ما كان فلا عيب على البخاري في سكوته عن الجواب ولا يؤثر ذلك فيما اتصف به من مزيد الحفظ والإِتقان. ¬

(¬1) ص: 42.

تشكيكه في أحاديث تأبير النخل, والرد عليه

الوجه الثاني أن يقال الذي يظهر من إيراد المؤلف وأبي رية لما ذكره الخطيب البغدادي وحيدر بن أبي جعفر عن البخاري أنهما أرادا بذلك التشكيك فيما يكتبه البخاري من حفظه واتهامه بأنه كان يتساهل في كتابة الحديث ولا يعتني بضبط الألفاظ. وفيما ذكرته آنفا عن ابن عدي وأبي الأزهر وحاشد بن إسماعيل كفاية في الرد على من توهم النقص في حفظ البخاري أو ظن به التساهل في كتابة الحديث وقلة الاعتناء بضبط الألفاظ. وقد جعل الله تعالى للبخاري لسان صدق عند جميع أهل السنة والجماعة فلا يضره تشدق العصريين وتنطعهم بما يرون أنه يحط من قدره, وقد جعل الله لصحيحه القبول التام عند جميع أهل السنة والجماعة فلا يلحق أحداً منهم شك في شيء من أحاديثه. وقد خالفهم تلامذة الإِفرنج ومقلدوهم من العصريين فأثاروا التشكيكات في حفظ البخاري واتهموه بالتساهل في كتابة الحديث وأثاروا التشكيكات في صحيحه وطعنوا في كثير من أحاديثه وقابلوها بالرد والاطراح. وهذا لا يضر البخاري ولا يؤثر في صحيحه. وإنما يعود وبال ذلك على أولئك المتشدقين المتنطعين فيظهر للناس ما كانوا يخفونه من الزندقة والإِلحاد ومحادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين. وإنه لينطبق على البخاري وعلى المشككين في حفظه وإتقانه وفي صحيحه قول الشاعر: وما ضر نور الشمس أن كان ناظراً ... إليه عيون لم تزل دهرها عميا وقول الأعشى: كناطح صخرة يوما ليوهيها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وقول الحسين بن حميد يا ناطح الجبل العالي ليكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل فصل وقال المؤلف في صفحة (26) و (27) ما نصه مثل آخر على اختلاف الرواية في تأبير النخل في أربع روايات. الرواية الأولى, روى مسلم في كتابه عن موسى بن طلحة عن أبيه قال «مررت مع رسول

الله - ص - على قوم على رؤوس النخل فقال ما يصنع هؤلاء فقلت يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح فقال رسول الله - ص - ما أظن يغني ذلك شيئاً, قال فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله بذلك قال إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإِذا ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإِني لن أكذب على الله عز وجل». الرواية الثانية, عن رافع بن خديج قال قدم نبي الله المدينة وهم يؤبرون النخل فقال «ما تصنعون قالوا كنا نصنعه قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً قال فتركوه فنقصت أو قال فتنقصت, قال فذكروا ذلك له فقال إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإِنما أنا بشر» رواه مسلم أيضاً ورواه النسائي. الرواية الثالثة, عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن أنس أن النبي - ص - مر بقوم يلقحون فقال «لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصاً فمر بهم فقال ما لنخلكم, قالوا قلت كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمر دنياكم». الرواية الرابعة رواها الإِمام أحمد وفيها «ما كان من أمر دينكم فإِلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به» وفي رواية رويت عن ابن رشد في كتاب التحصيل والبيان ما أنا بزراع ولا صاحب نخل. ونقول للعقلاء من المؤمنين بالله وبرسوله, هذه أربع روايات في موضوع واحد ومنها روايتين في كتاب مسلم, وكلهم مختلفين اختلافا واضحاً, فهل معنى ذلك أن النبي - ص - وأصحابه هم السبب أم أن الرواة قد دسوا ذلك أم أنه اندس عليهم فصدقوه. والجواب عن هذا من وجوه أحدها عما وقع من المؤلف من التغيير في بعض الكلمات في الأحاديث الأربعة, فمن ذلك قوله في الحديث الأول (على قوم) وصوابه (بقوم) ومن ذلك قوله (فقلت يلحقونه) وصوابه (فقالوا يلحقونه) ومن ذلك قوله (فإذا ظننت ظناً) وصوابه (فإِني إنما ظننت ظنا) , ومن ذلك قوله في الحديث الثاني (وهم يؤبرون) وصوابه (يأبرون) ومن ذلك قوله (فنقصت أو قال فتنقصت) وصوابه (فنفضت أو فنقصت) قال النووي نفضت بالفاء والضاد المعجمة وهو بفتح الحروف

كلها ومعناه أسقطت ثمرها. قال أهل اللغة ويقال لذلك المتساقط النفض بفتح النون والفاء بمعنى المنفوض انتهى. ومن ذلك قوله (من رأي) وصوابه (من رأيي) , ومن ذلك قوله في الحديث الثالث والحديث الرابع (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن أنس) وصوابه (حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة, وعن ثابت عن أنس) فهذان حديثان رواهما حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها, وعن ثابت عن أنس رضي الله عنه وقد جعلهما المؤلف حديثاً واحداً فأخطأ في ذلك وغلط غلطاً فاحشاً أبان به عن غباوته وكثافة جهله. والرواية التي ذكرها عن ابن رشد فيها نكارة شديدة ولم أرها في شيء من كتب الحديث, والأحرى أنها موضوعة, وفي آخر كلامه لفظتان لحن فيهما وهما (روايتين) و (مختلفتين) والصواب (روايتان) و (مختلفتان). الوجه الثاني أن يقال إن الاختلاف في ألفاظ هذه الأحاديث لا يؤثر فيها لأن المعنى في الجميع واحد وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الذين يلقحون النخل عن رأيه وظنه ولم يخبرهم عن وحي جاءه من الله تعالى. والعبرة بالمعنى لا بالألفاظ, وعلى هذا فتشكيك المؤلف في هذه الأحاديث الصحيحة من أجل اختلاف ألفاظها لا شك أنه من التشدق والتنطع, وكذلك قوله هل معنى ذلك أن النبي وأصحابه هم السبب إلى آخر كلامه فكل ذلك من التشدق والتنطع وإظهار العداوة للأحاديث الصحيحة ورواتها. الوجه الثالث أن المؤلف تردد في توجيه الاتهام في سبب الاختلاف الواقع في ألفاظ الأحاديث التي تقدم ذكرها فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وما أعظم ذلك وأبشعه وأشنعه ولاسيما في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وجه الاتهام إلى الرواة بأحد شيئين إما دس الكذب في الأحاديث التي تقدم ذكرها, وإما التغفيل بحيث يروج عليهم الكذب ويندس عليهم فيصدقونه ويروونه. وهذا قول سوء مردود على قائله ولا شك أن الرواة بريئون من جميع التهم التي وجهها إليهم المؤلف ظلما وزوراً. الوجه الرابع أن يقال إن رواة الأحاديث الأربعة كلهم ثقات لا مطعن في أحدٍ منهم, فاتهام المؤلف لهم بأنهم قد دسوا في هذه الأحاديث أو اندس عليهم

كلام حسن للشيخ أحمد محمد شاكر في الرد على ملحدي مصر وصنائع أوربه

فصدقوه لا شك أنه إفك وبهتان والمؤلف أولى بصفة الدس لأنه قد بذل جهده في دس الشبه والشكوك على المسلمين واستفرغ وسعه في تشكيكهم في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أيضاً أولى بصفة الغباوة والتغفيل لأنه قد قلد أبا رية في دسائسه وأباطيله وترهاته وتشكيكه في الأحاديث الصحيحة ووقيعته في الصحابة وتنقصه لهم, ومثل المؤلف مع أبي رية كمثل أعمى قد وضع يده في يد أعمى يقوده إلى مهاوي الهلاك والدمار, وقد قيل «قد ضل من كانت العميان تهديه». الوجه الخامس قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإِمام أحمد في الكلام على حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, هذا الحديث مما طنطن به ملحدو مصر وصنائع أوربة فيها من عبيد المستشرقين وتلامذة المبشرين فجعلوه أصلا يحتجون به على أهل السنة وأنصارها وخدام الشريعة وحماتها. إذا أرادوا أن ينفوا شيئا من السنة وأن ينكروا شريعة من شرائع الإِسلام في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها يزعمون أن هذه من شؤون الدنيا يتمسكون برواية أنس «أنتم أعلم بأمر دنياكم» والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين ولا بالألوهية ولا بالرسالة ولا يصدقون القرآن في قرارة نفوسهم, ومن آمن إنما يؤمن لسانه ظاهراً. ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه لا عن ثقة وطمأنينة ولكن تقليداً وخشية, فإذا ما جَدَّ الجِدّ وتعارضت الشريعة - الكتاب والسنة - مع ما درسوا في مصر أو في أوربة لم يترددوا في المفاضلة ولم يحجموا عن الاختيار, فضلوا ما أخذوه عن سادتهم, واختاروا ما أشربته قلوبهم. ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإِسلام. والحديث واضح صريح لا يعارض نصاً ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن لأن رسول الله لا ينطق عن الهوى. فكل ما جاء عنه فهو شرح وتشريع (وإن تطيعوه تهتدوا) وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم «ما أظن ذلك يغني شيئاً» فهو لم يأمر ولم ينه ولم يخبر عن الله ولم يسن في ذلك سنة حتى يتوسع في هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع بل ظن ثم اعتذر عن ظنه قال «فلا تؤاخذوني بالظن» فأين هذا مما يرمي إليه أولئك. هدانا الله وإياهم سواء السبيل. انتهى. فصل وقال المؤلف في صفحة (27) ما نصه اختلاف واضح في موضوع واحد أورده البخاري في ثماني روايات مختلفة

- ثم ذكر روايات أبي جحيفة وإبراهيم التيمي عن أبيه للصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه فيها العقل - أي الدية - وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وفيها أشياء غير ذلك في رواية التيمي - ثم قال في صفحة (29) و (30) ولنا الحق بعد تقديم هذا المثال على أن الحديث النبوي كان يروى بالمعنى وليس بالنص وأن باب النقل بالمعنى هو الذي جاءنا بالزيادات وبالنقص في كلام رسول الله - ص - أقول إن لنا الحق أن نقول كلمتين. الكلمة الأولى نقول فيها مَنْ مِن المسلمين العقلاء يصدق أن تكون هذه الروايات كلها صحيحة وهي ثمانية روايات مختلفة وواردة كلها بهذا الاختلاف في صحيح البخاري. فأي معنى وأي حقيقة تكون وراء ذلك التناقض الصريح في كلام ينسب لرسول الله ويأتينا في أصح موارد الحديث إلا أن يكون أمر الحديث وموضوعه كان يؤخذ بغير عناية ولا التفات إلى ما يترتب على ذلك وأنه جاءنا من طرق الوضع والدس لغرض واحد هو التضليل ولهذا أفرغه الوضاعون في عدة روايات متباينة في الألفاظ حتى يموهوا على المسلمين وحتى يظل باب الدس مفتوحاً أمامهم دون أن تغلقه عقول المؤمنين. وأي شيء أعجب من أن يكون البخاري شيخ واحد وكتابه سجل واحد والحديث أيضاً في موضوع واحد وبعد ذلك تأتي الروايات الثمانية فيه مختلفة اختلافا صريحاً في اللفظ والمعنى. أما الكلمة الثانية فإِنا نقول فيها قطعاً ويقيناً بأن ما جاء في تلك الرواية المختلفة هو الدليل على وجود الكذب على رسول الله - ص - وعلى صاحبه وابن عمه علي بن أبي طالب وأن علياً لو أراد أو أمره النبي أن يدون حديثاً لضاقت بحصيلة وعيه الكتب والمجلدات. ولقد كان لديه من القضايا ما هو أهم من عقل الإِبل أمام بيت صاحب الدم وما هو أهم من تسنينها وهو التوحيد وما يتشعب عنه, فهل آن لنا أن نعطي لكلام نبينا كل اهتمامنا الذي يصفيه من الكذب الإِسرائيلي. والجواب عن هذا من وجوه أحدها في بيان ما جاء في كلام هذا الجاهل المركب من اللحن وفساد التعبير, فمن ذلك قوله (في ثماني روايات) وصوابه (في ثمان روايات) ومن ذلك قوله (وهي ثمانية روايات) وصوابه (وهي ثمان روايات) ومن ذلك قوله (أن يكون البخاري شيخ واحد وكتابه سجل واحد) وصوابه أن يكون البخاري شيخاً واحداً وكتابه سجلاً واحداً) ومن ذلك قوله (وبعد ذلك تأتي

اتفاق العلماء على أن الصحيحين هما أصح الكتب بعد القرآن وقد تلقتهما الأمة بالقبول

الروايات الثمانية) وصوابه (وبعد ذلك تأتي الروايات الثمان). الوجه الثاني أن يقال ليس كل الأحاديث النبوية يروى بالمعنى كما زعم ذلك المؤلف, بل منها ما يروى بالنص ومنها ما يروى بالمعنى. ولا شك أن الرواية بالنص أولى من الرواية بالمعنى, والرواية بالمعنى جائزة كما تقدم تقريره. الوجه الثالث أن المؤلف ادعى أن له الحق على أن الحديث النبوي كان يروى بالمعنى وليس بالنص, ولم يأت ببينة على ما ادعاه سوى الظن والتخرص, وقد قال الله تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإِن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الوجه الرابع أن يقال إن الزيادة في بعض الروايات والنقص في بعضها لها أسباب كثيرة وأهمها شيئان أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأحيان يكرر الحديث على أصحابه مراراً في المجلس أو في مجالس متعددة وربما قال في بعض المجالس ما لم يقل في غيره فيسمعه من لم يسمع ما قال في غير ذلك المجلس فيحدث هذا بما سمع ويحدث الآخر بما سمع في المجلس الآخر وتختلف رواياتهم بحسب ما سمعه كل منهم وحفظه. الثاني قوة الحفظ في بعض الرواة وضعفها في بعضهم فبعضهم يحفظ كل ما سمعه وبعضهم يحفظ البعض وينسى البعض فيحدث هذا بما حفظه ويحدث الآخر بما حفظه. ومن حدث بما حفظه ولو غير تام فقد أدى ما يجب عليه قال الله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها). وأما قول المؤلف في الكلمة الأولى مَنْ مِنَ المسلمين العقلاء يصدق أن تكون هذه الروايات كلها صحيحة وهي ثمان روايات مختلفة وواردة بهذا الاختلاف في صحيح البخاري. فجوابه أن يقال كل علماء المسلمين يصدقون بصحة ما رواه البخاري في صحيحه ويقبلون كل ما فيه من الأحاديث المتصلة. وقد ذكر النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم, قال وتلقتهما الأمة بالقبول.

ونقل النووي عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه قال جميع ما حكم مسلم بصحته فهو مقطوع به والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر. وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإِجماع. ونقل النووي أيضا عن إمام الحرمين أنه قال لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإِجماع علماء المسلمين على صحتهما. وذكر ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» أن العلماء أجمعوا على قبول صحيح البخاري وصحة ما فيه, وكذلك سائر أهل الإِسلام. وفيما قاله هؤلاء الأئمة الأعلام أبلغ رد على المؤلف الذي قد حاد الله ورسوله وخالف إجماع المسلمين واتبع غير سبيل المؤمنين, وعلى أشباهه من تلامذة المستشرقين ومقلديهم الذين هم أعدى عدو للسنة وأهلها. وإذا علم هذا فنقول من لم يصدق بما رواه الشيخان في صحيحيهما أو رواه أحدهما فليس من العقلاء ولا كرامة له ولا نعمة عين. وأما قوله فأي معنى وأي حقيقة تكون وراء ذلك التناقض الصريح في كلام ينسب لرسول الله ويأتينا في أصح موارد الحديث. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ليس بين رواية أبي جحيفة رضي الله عنه لما كان في صحيفة علي رضي الله عنه وبين رواية التيمي شيء من التناقض, وما كان من الزيادة في رواية التيمي لا يناقض رواية أبي جحيفة لأن أبا جحيفة روى طرفا مما في الصحيفة وروى التيمي أكثر منه, وسيأتي ذكر رواية أبي جحيفة ورواية التيمي عن أبيه وعن الحارث بن سويد وروايات أبي حسان الأعرج وأبي الطفيل وطارق بن شهاب, وفي كل رواية من الزيادة ما ليس في غيرها, والسبب في ذلك تفاوت الرواة في الحفظ فكل منهم نقل ما حفظه مما كان في الصحيفة, وكل رواياتهم صحيحة لا مطعن في شيء منها بوجه من الوجوه, وقد توهم المؤلف أن الزيادة في بعض الروايات والاختصار في بعضها يكون من التناقض الصريح, وهذا من غباوته وكثافة جهله, وما رأيت أحداً سبقه إلى هذا القول الباطل والرأي الفاسد, وإنه لينطبق على المؤلف قول الشاعر:

ذكر الروايات لصحيفة علي رضي الله عنه

لقد كان في الإِعراض ستر جهالة ... غدوت بها من أشهر الناس في البُلْد وقول الآخر زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدى ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر الوجه الثاني في ذكر الروايات لصحيفة علي رضي الله عنه ليتضح لطالب العلم أن المؤلف قد تهور فيما زعمه من وجود التناقض الصريح بين روايات البخاري لبعض ما في الصحيفة. فمنها ما رواه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح والبخاري في صحيحه والنسائي بإِسناد صحيح وابن ماجه مختصراً عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال قلت لعلي رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله قال «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة, قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر» هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد. قوله العقل أي الدية, والمراد بيان أحكام الديات ومقاديرها وأصنافها. وسميت الدية عقلا لأن القاتل إذا جمع الدية من الإِبل عقلها بفناء أولياء المقتول ليسلمها إليهم فسميت الدية عقلا بالمصدر قاله ابن الأثير في النهاية. قوله وفكاك الأسير أي حكم تخليصه من أيدي العدو والترغيب في ذلك. ومنها ما رواه الإِمام أحمد بإِسنادين صحيحين والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال قال علي رضي الله عنه «ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة قال فأخرجها فإِذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإِبل, قال وفيها المدينة حرم ما بين عير الى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل» هذا لفظ البخاري في كتاب الفرائض, وزاد أحمد في إحدى روايتيه ومسلم

والترمذي «ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً». قوله وأسنان الإبل, المراد والله أعلم بيان أسنان الإِبل التي تؤخذ في دية النفس وفي الجراحات وفي فرائض الصدقة. ومنها ما رواه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد قال قيل لعلي رضي الله عنه إن رسولكم كان يخصكم بشيء دون الناس عامة قال ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس إلا بشيء في قراب سيفي هذا فأخرج صحيفة فيها شيء من أسنان الإِبل وفيها أن المدينة حرم ما بين ثور إلى عائر من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فإِن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل وذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ومن تولى مولى بغير إذنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل». ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا بإِسناد صحيح عن أبي حسان الأعرج أن علياً رضي الله عنه كان يأمر بالأمر فيؤتى فيقال قد فعلنا كذا وكذا فيقول صدق الله ورسوله, قال فقال له الأشتر إن هذا الذي تقول قد تفشغ في الناس أفشيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي رضي الله عنه ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً خاصة دون الناس إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي قال فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة. قال فإِذا فيها «من أحدث حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف وعدل» قال وإذا فيها «إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة حرم ما بين حرتيها وحماها كلها لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره ولا يحمل فيها السلاح لقتال» وإذا فيها «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» وقد روى أبو داود والنسائي طرفا منه, ورواه النسائي أيضاً عن أبي حسان عن الأشتر.

قوله تفشغ أي فشا وانتشر قاله ابن الأثير في النهاية. ومنها ما رواه الإِمام أحمد والنسائي أيضا بإِسناد صحيح عن قيس بن عباد قال انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه فذكر بعض ما في حديث التيمي عن أبيه وعن الحارث بن سويد. ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا بإِسناد صحيح عن أبي الطفيل عامر بن وائلة رضي الله عنه قال سئل علي رضي الله عنه هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقال ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا قال فأخرج صحيفة مكتوب فيها «لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من سرق منار الأرض ولعن الله من لعن والده ولعن الله من آوى محدثاً». ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضاً وابنه عبد الله بأسانيد صحيحة عن طارق بن شهاب قال رأيت علياً رضي الله عنه على المنبر يخطب وعليه سيف حليته حديد فسمعته يقول والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فرائض الصدقة, قال لصحيفة معلقة في سيفه. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوباً فيها فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه, قال وأتمها سياقاً طريق أبي حسان انتهى. الوجه الثالث أن يقال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف, وهذه الأحرف عبارة عن أنواع من المخالفة في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ بعض أصحابه على حرف من السبعة وبعضهم على حرف آخر وبعضهم على حرف آخر غير الحرفين وهكذا إلى تمام الأحرف السبعة, ولم يزالوا على القراءة بالأحرف السبعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى جمعهم عثمان رضي الله عنه على حرف واحد وهو ما وافق العرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من حياته وأمر بالمصاحف فكتبت على ذلك وأرسلها إلى الآفاق وعزم عليهم أن لا يقرءوا بغيرها, وكان رسم الخط يومئذ خالياً من النقط والشكل وكان يحذف فيه كثير من الألفات كما هو معروف في رسم بعض المصاحف فلهذا كان رسم الخط عندهم

عناية الصحابة بحفظ الأحاديث

يحتمل غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخص بها بعض الناس. وإذا علم هذا فهل يقول المؤلف أن قراءة الصحابة بالأحرف السبعة تناقض صريح, وكذلك ما يذكر في كتب التفاسير عن القراء المشهورين من الاختلاف في بعض الكلمات هل يقول المؤلف أن ذلك تناقض صريح كما زعم ذلك في الأحاديث الصحيحة. أم ماذا يجيب به عن تهوره في رمي الأحاديث الصحيحة بالتناقض الصريح من أجل الاختلاف في بعض الألفاظ أو البسط في بعض الروايات والاختصار في بعضها. وقد جاء اختلاف اللفظ في قصص الأنبياء في القرآن وكذلك البسط في قصصهم في بعض المواضع والاختصار في مواضع أخر, فهل يقول المؤلف أن ذلك تناقض صريح أم لا. فإِن قال بالتناقض في القرآن كما قال ذلك في الأحاديث الصحيحة فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه وحل دمه وماله, وإن نفى التناقض عن القرآن لزمه أن ينفيه عن الأحاديث الصحيحة, وإن لم يفعل كان من الذين يفرقون بين الله ورسله وقد قال الله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً, أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً). وقد ذكرت في أول الكتاب عن إسحاق بن راهويه وأبي محمد البربهاري أنهما قالا بتكفير من رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فليراجع (¬1) ذلك في الفصل الأول. وأما قوله إلا أن يكون أمر الحديث وموضوعه كان يؤخذ بغير عناية ولا التفات إلى ما يترتب على ذلك وأنه جاءنا من طرق الوضع والدس لغرض واحد هو التضليل ولهذا أفرغه الوضاعون في عدة روايات متباينة في الألفاظ حتى يموهوا على المسلمين وحتى يظل باب الدس مفتوحاً أمامهم دون أن تغلقه عقول المؤمنين. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتنون ¬

(¬1) ص: 3.

عناية التابعين وتابعيهم بحفظ الأحاديث

بحفظ الأحاديث أشد الاعتناء. وكان أبو هريرة رضي الله عنه قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء, جزءاً لقراءة القرآن وجزءاً ينام فيه وجزءاً يتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكره ابن كثير في البداية والنهاية. وذكر أيضاً عن حماد بن زيد حدثنا عمرو بن عبيد الأنصاري حدثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة فأقعدني خلف السرير وجعل مروان يسأل أبا هريرة وجعلت أكتب عنه حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم لا أخر. وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد سمع عروة بن الزبير عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يحدث بحديث رفع العلم فحدث عروة عائشة رضي الله عنها بذلك فأعظمت ذلك فلما كان بعد عام حج عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فأمرت عائشة رضي الله عنها عروة أن يسأله عن حديث رفع العلم قال فلقيته فسألته فذكره على نحو ما حدثني به في مرته الأولى فأتيت عائشة فأخبرتها فعجبت وقالت والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو, وفي رواية قالت ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بلفظ أبسط من هذا. وهذا الذي ذكرته نموذج من عناية الصحابة بالحديث وحرصهم على حفظه, وجميع علماء الصحابة كانوا على غاية من الحفظ والإِتقان لما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما سمعه بعضهم من بعض. وقد كان التابعون وتابعوهم وأئمة العلم والهدى من بعدهم يعتنون بالحديث غاية الاعتناء ويتحفظونه كما يتحفظون القرآن. وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ عن الإِمام أحمد أنه قال كان قتادة لا يسمع شيئاً إلا حفظه قرئت عليه صحيفة جابر مرة فحفظها, وذكر غيره عن قتادة أنه قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفا ثم قال لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة. وكان كثير منهم يحفظون ويكتبون ومنهم من يحفظ ولا يكتب. وقد تقدم قريبا (¬1) ما ذكره حاشد بن إسماعيل أنهم عرضوا على البخاري ما كتبوه عن مشايخ ¬

(¬1) ص: 132.

بيان أن الله تعالى قد حفظ السنة كما حفظ القرآن

البصرة فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب. وكان الإِمام أحمد رحمه الله تعالى غاية في الحفظ. وكذلك كان كثير من أقرانه ومن قبلهم من الأئمة الحفاظ. وكذلك كان كثير من أقران البخاري وكثيرون ممن بعدهم. ومن طالع تذكرة الحفاظ للذهبي رأى العجب مما ذكره عن أهل الحفظ والإِتقان من المتقدمين والمتأخرين. ومن شكك في عناية الصحابة بالحديث أو شكك في عناية التابعين وتابعيهم وأئمة العلم والهدى من بعدهم وأراد بذلك التشكيك في الأحاديث الصحيحة فهو مفتر أفاك ولا شك في عداوته للسنة وأهلها. الوجه الثاني أن يقال إن الله تعالى قد حفظ السنة كما حفظ القرآن لأن كلاً منهما من الذكر الذي قال اله تعالى فيه (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والدليل على أن السنة من الذكر قول الله تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) وقوله تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي) وقوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) قال البغوي أراد بالذكر الوحي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً للوحي, وبيان الكتاب يطلب من السنة انتهى. وقوله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) وقوله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) والحكمة المذكورة في هاتين الآيتين هي السنة على القول الصحيح. وقد جاء ذكرها أيضاً في قوله تعالى في سورة آل عمران (ويعلمهم الكتاب والحكمة) ومثلها في سورة الجمعة, وقد تقدم في الفصل الثالث في أول الكتاب قول الشافعي سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم روى بأسانيده عن الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير أنهم قالوا الحكمة في هذه الآية السنة, وتقدم فيه أيضاً قول حسان بن عطية أحد التابعين (كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن) رواه الدارمي بإِسناد جيد. وقد تقدم في أثناء الكتاب (¬1) قول ابن حزم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي والوحي بلا خلاف ذكر والذكر محفوظ بنص القرآن, قال فصح بذلك أن ¬

(¬1) ص: 89 - 90.

كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء انتهى. وتقدم قريباً (¬1) ذكر الإِجماع على صحة ما في الصحيحين من الأحاديث وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو محفوظ من الوضع والدس وما يدعو إلى التضليل خلافاً لما توهمه المؤلف بعقله الفاسد من أن أمر الحديث وموضوعه كان يؤخذ بغير عناية وأنه جاء من طرق الوضع والدس لغرض التضليل إلى آخر كلامه الذي لم يتثبت فيه. وحاصله إظهار العداوة للسنة وأهلها ورمي أهلها ظلما وزوراً بأحد أمرين إما الوضع والدس لغرض التضليل, وإما شدة الغباوة والتغفيل بحيث يتمكن الوضاعون من دس الأحاديث الموضوعة عليهم. ولو طالع المؤلف تذكرة الحفاظ للذهبي لرأى ما يغيظه مما هو مذكور عن رواة الحديث من الحفظ والإِتقان والعناية بالحديث. ولاسيما ما ذكر فيها عن الإِمام البخاري الذي قد جعله المؤلف غرضاً لسهامه الخبيثة, وعمد إلى صحيحه الذي هو أصح الكتب بعد القرآن فجعله غرضا للطعن والتحطيم, وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال المؤلف غاية المطابقة. الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف هو صاحب الدس والتضليل في الحقيقة لأنه قد ملأ كتابه من التشكيك في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وغرضه من ذلك تضليل المسلمين وتنفيرهم من قبول الأحاديث الصحيحة, وقد سبقه إلى ذلك أبو رية وأشباهه من تلامذة المبشرين والمستشرقين ومقلديهم من العصريين, ولكن المؤلف أربى على من سبقه بكثرة التشكيكات والشطحات والترهات. فكتابه في الحقيقة ظلمات بعضها فوق بعض. الوجه الرابع أن المؤلف اعتمد في معارضته لصحيفة علي رضي الله عنه ورميها بالوضع على تعدد رواياتها وزعم أنها روايات متباينة في الألفاظ. والجواب أن يقال أما تعدد الروايات فصحيح وليس ذلك مما يقدح في صحة الحديث. وأما الاختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى فلا يضر ولا يقدح في صحة ¬

(¬1) ص: 138 - 139.

عناية أئمة الجرح والتعديل ببيان أحوال الرواة

الحديث, والمقصود هنا بيان أن الروايات التي ذكرها البخاري في صحيحه لصحيفة علي رضي الله عنه كلها صحيحة ولا مطعن فيها بوجه من الوجوه. وكلام المؤلف فيها ضرب من الهوس الذي يشبه هذيان المجانين. الوجه الخامس أن يقال إن أئمة الجرح والتعديل قد بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وبينوا أحوال المجروحين على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم في الضعف أو الانحطاط وصنفوا في ذلك مصنفات كثيرة وأفردوا الموضوعات بمصنفات خاصة بينوا فيها أسماء الوضاعين وأغلقوا أبواب الدس عليهم وتركوا الأمر واضحاً جلياً لمن أراد الله هدايته. فجزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء. وقد قابلهم أهل الزيغ والإِلحاد من تلامذة الإِفرنج ومقلديهم من العصريين ففتحوا باب الطعن في الأحاديث الصحيحة ورواتها من الثقات الأثبات فكلما وجدوا حديثاً صحيحا لا يوافق أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الإِفرنج وتلاميذهم ومقلديهم لم يتوقفوا في رده والطعن فيه بالشبه والتشكيكات الباطلة والطعن في الرواة بالتغفيل وقبول الدس. وهذه طريقة المؤلف وأبي رية عاملهما الله بعدله. ولم يقف المؤلف وأبو رية وأشباههما عند هذا الحد بل تعدوا ذلك إلى الكلام في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدحوا في عدالة بعضهم ورموا بعضهم بالدس وبعضهم بالتغفيل وقبول الدس من اليهود. وسيأتي بيان ذلك عند كلام المؤلف فيهم إن شاء الله تعالى. وقد نزه الله أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم عما يفتريه أعداؤهم من أهل الزيغ والإِلحاد, وكذلك رواة الأحاديث الصحيحة من أئمة التابعين وتابعيهم ومن بعدهم من أئمة العلم والهدى فكلهم منزهون عما يفتريه المؤلف وأبو رية وأشباههما من أعداء السنة وأهلها. وأما قوله وأي شيء أعجب من أن يكون البخاري شيخ واحد وكتابه سجل واحد والحديث أيضا في موضوع واحد وبعد ذلك تأتي الروايات الثمانية فيه مختلفة اختلافاً صريحاً في اللفظ والمعنى. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال أعجب من ذلك أن يجيء في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة جاهل أحمق طائش لا يعرف المرفوع من المنصوب ولا المذكر من

اشتمال صحيفة علي رضي الله عنه على أكثر من عشرين حكما

المؤنث ثم يتصدى للاعتراض على إمام المحدثين ومقدمهم في معرفة الحديث والتمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع, ويتصدى أيضا للطعن في بعض أحاديث الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب بعد القرآن ويحكم عليه بالوضع, وليس أهلا للحكم في الأشياء التافهة فضلا عن الحكم على الأحاديث الصحيحة بالوضع وإِنه لينطبق على المؤلف قول الشاعر. ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل وهل يظن الجاهل الأحمق أنه قد نال من العلم ما لم ينله البخاري وأمثاله من الأئمة النقاد حتى يتصدى للطعن فيه وفي صحيحه, أو يظن أن الأئمة النقاد من أقران البخاري ومن بعدهم يعرضون عن الطعن في البخاري أو في صحيحه لو وجدوا فيهما موضعاً للطعن. وقد روى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» ورواه أيضاً من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وإسناده صحيح. وهذا الحديث ينطبق على المؤلف لأنه قد انتزع منه الحياء الذي يمنع الإِنسان من تجاوز الحد وارتكاب ما لا يليق. ولما لم يكن عند المؤلف شيء من الحياء تطاول على الإِمام البخاري وتصدى للاعتراض عليه والقدح في صحيحه وجعل يهرف بما لا يعرف ولم يبال من ضحك العقلاء من حمقه وسخفه وغروره, ولقد أحسن الشاعر - وهو قيس بن الخطيم حيث يقول: - وداء الجسم ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له دواء النوك بالضم الحمق. الوجه الثاني أن يقال إن صحيفة علي رضي الله عنه ليست في موضوع واحد كما زعمه المؤلف وإنما هي مشتملة على أكثر من عشرين حكماً, روى البخاري منها اثني عشر, ثلاثة منها في حديث أبي جحيفة وتسعة في حديث التيمي. ومنها واحد في رواية أحمد ومسلم والترمذي عن إبراهيم التيمي عن أبيه وباقيها في روايات أبي

حسان الأعرج وأبي الطفيل وطارق بن شهاب. وقد تقدم ذكر هذه الروايات قريباً (¬1) فليراجعها من أراد الوقوف على ما فيها من الأحكام الكثيرة وما فيها أيضا من التحذير من بعض الكبائر والتشديد فيها. وفي قول المؤلف إن صحيفة علي رضي الله عنه كانت في موضوع واحد دلالة كافية على غباوته وكثافة جهله, وإذا كان جاهلاً بما في روايات البخاري من الأحكام الكثيرة ويحسب أنها في موضوع واحد مع أنه قد أوردها في كتابه فما باله لا أبا له يتطاول على إمام المحدثين وعلى صحيحه مع أنه ليس بأهل أن يتطاول على أحد من علماء عصره ولا أن ينتقد كتبهم فضلاً عن البخاري وأمثاله من كبار الأئمة المتقدمين. الوجه الثالث أن يقال إن روايات البخاري لصحيفة علي رضي الله عنه ليس بينها اختلاف في المعنى البتة. وما زعمه الأهوج الطائش من وجود الاختلاف الصريح في المعنى فهو قول باطل مردود. وأما الاختلاف اليسير في بعض اللفظ فهو موجود في بعض الروايات ولا يضر ذلك لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ, ولو كانت الأحاديث ترد باختلاف ألفاظ الرواة لذهب غالب السنن ولم يبق إلا القليل. وقد ذكرت قريباً (¬2) أن الاختلاف في اللفظ موجود في مواضع كثيرة من القرآن ولاسيما قصص الأنبياء وكذلك ما اختلف القراء فيه من الحروف. ولو أن أحداً اعترض على القرآن من أجل ما فيه من الاختلاف في بعض الألفاظ لكن كافراً بالإجماع, وأما الأحاديث الصحيحة فإِنه لا يعترض عليها ويقدح فيها من أجل ما يقع فيها من الاختلاف في بعض الألفاظ إلا زائغ القلب خبيث الاعتقاد. وأما قوله أما الكلمة الثانية فإِنا نقول فيها قطعاً ويقيناً بأن ما جاء في تلك الرواية المختلفة هو الدليل على وجود الكذب على رسول الله - ص - وعلى صاحبه وابن عمه علي بن أبي طالب وأن عليا لو أراد أو أمره النبي أن يدون حديثاً لضاقت بحصيلة وعيه الكتب والمجلدات ولقد كان لديه من القضايا ما هو أهم من عقل الإِبل ¬

(¬1) ص: 140 - 142. (¬2) 142 - 143.

صحيفة علي رضي الله عنه كانت على غاية من الأهمية

أمام بيت صاحب الدم وما هو أهم من تسنينها وهو التوحيد وما يتشعب عنه, فهل آن لنا أن نعطي لكلام نبينا كل اهتمامنا الذي يصفيه من الكذب الإِسرائيلي. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن يقين المؤلف الذين قطع به في تكذيبه لروايات البخاري لصحيفة علي رضي الله عنه ليس بيقين في الحقيقة وإنما هو تخرص وظن كاذب, وقد قال الله تعالى (قتل الخراصون) وقال تعالى (إن بعض الظن إثم) وقال تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) وفي الحديث الصحيح «إياكم والظن فإِن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وما قطع به المؤلف وتيقنه فهو باطل قطعاً ومردود لما فيه من تكذيب الحق الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني أن يقال إن صحيفة علي رضي الله عنه ثابتة من طرق صحيحة تفيد القطع عند أهل العلم, وقد تقدم ذكرها قريباً فلتراجع, ولا ينكر صحيفة علي رضي الله عنه أو يقدح فيها أو في شيء مما ذكر فيها إلا مكابر معاند. الوجه الثالث أن يقال إن صحيفة علي رضي الله عنه كانت على غاية من الأهمية لأنها قد اشتملت على أحكام كثيرة وقضايا مهمة ومنها فرائض الصدقة, وزيادة على ذلك أنها مأخوذة من النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في رواية طارق بن شهاب أن عليا رضي الله عنه قال أن النبي صلى الله علي وسلم أعطاه الصحيفة. وعلى هذا فكتابته صلى الله عليه وسلم لهذه الصحيفة مثل كتابته لأهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات وقد بعث به مع عمرو بن حزم رواه مالك مختصراً والنسائي مطولاً وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم, وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال «كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر حتى قبض ثم عمل به عمر حتى قبض» الحديث. وفي كتابته صلى الله عليه وسلم لهذه الكتب الثلاثة دليل على أهميتها, ومن أنكر أهمية صحيفة علي رضي الله عنه فلا يبعد أن ينكر أهمية الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن وينكر أهمية كتاب الصدقة الذي كتبه

رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات قبل أن يخرجه وعمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ولا ينكر أهمية الفرائض والسنن وأحكام الديات وغير ذلك من القضايا التي اهتم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبها في الكتب الثلاثة إلا من هو زائغ القلب محاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه الرابع أن يقال مما يدل على غباوة المؤلف وكثافة جهله ظنه أن العقل المذكور في صحيفة علي رضي الله عنه هو مجرد عقل الإِبل أمام بيت صاحب الدم, وقد تقدم بيان العقل (¬1) وأنه الدية. والمراد بما في الحديث بيان أحكام الديات ومقاديرها وأصنافها. وأما عقل الإِبل بفناء أولياء المقتول فليس بشرط يلزم القاتل فعله وإنما هو من العادات المعروفة عند العرب ولأجل هذه العادة سمو الدية عقلاً وقد أقر الإِسلام هذه التسمية. ولو أن القاتل سلم الإِبل لأولياء المقتول بغير فنائهم وبدون عقلها لما كان عليه في ذلك شيء ولم يكن تغييره للعادة مزيلاً لاسم العقل عن الدية. والمقصود هنا بيان أن عقل الإِبل بفناء أولياء المقتول ليس له أهمية كما توهم ذلك المؤلف وإنما الأهمية لبيان أحكام الديات وهو المراد في صحيفة علي رضي الله عنه. الوجه الخامس أن يقال إن بيان أسنان الإِبل التي تؤخذ في دية النفس والجراحات وفرائض الصدقة له أهمية كبيرة ولا يستهين بهذه الأهمية إلا جاهل أو معاند, والمؤلف لا يخرج عن أحد الوصفين. الوجه السادس أن يقال إن الأحاديث الصحيحة التي خرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما كلها صافية من أكاذيب الوضاعين. وكذلك الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما خرجه أهل السنن والمسانيد فكلها صافية من الكذب. وإنما البلاء كل البلاء من تلامذة الإِفرنج ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من جهال العصريين وزنادقتهم فهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة للأحاديث الصحيحة وشككوا فيها وزعموا أن كثيراً منها من الدس الإِسرائيلي, وقد كذبوا فيما زعموا وجاءوا ظلماً وزوراً, ولا شك أن هؤلاء هم أهل الدس على المسلمين وأنهم شر من ¬

(¬1) ص: 140.

اعتماد المؤلف وأبي رية في معارضتهما للأحاديث الصحيحة على حديث موضوع, والرد عليهما

اليهود وأعظم منهم ضرراً على الإِسلام والمسلمين. والله المسئول أن يطهر الأرض منهم ومن أمثالهم من أهل الشر والفساد. فصل وقال المؤلف في صفحة (30) ما نصه تحذير النبي - ص - للأمة من التقول عليه وضرورة الرجوع إلى القرآن في كل حديث. يقول صاحب أضواء على السنة ص 99 وقد نبه رسول الله - ص - وحذر من التقول عليه فقال عليه الصلاة والسلام «إن الأحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الأنبياء قبلي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه كتاب الله فهو عني قلته أم لم أقله». والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ما زعمه المؤلف من ضرورة الرجوع إلى القرآن في كل حديث. فهو قول باطل يرده قول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وهذا أمر مطلق بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به والانتهاء عما نهى عنه ولم يقيد ذلك بالعرض على القرآن وموافقته, وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) وقال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) وفي هذه الآية الكريمة الحث على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الآية قبلها التحذير من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والتشديد في ذلك. وليس في الآيتين تقييد التأسي والطاعة بالعرض على القرآن وموافقته, فمن ادعى التقييد واستدل على ذلك بالحديث الموضوع فقد خالف كتاب الله تعالى وقيد ما هو مطلق فيه. ومما يرد به زعم المؤلف أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» الحديث رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من حديث المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب

وصححه الحاكم وأقره الذهبي وزاد الترمذي وابن ماجه والدارمي «ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مثل ما حرم الله» وفي رواية ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إني أوتيت الكتاب وما يعدله». وروى الإِمام أحمد عن أبي رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا أعرفن ما يبلغ أحدكم من حديثي شيء وهو متكئ على أريكته فيقول ما أجد هذا في كتاب الله تعالى» ورواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه, ولفظه عند أبي داود «لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» وفي رواية ابن حبان «لا أعرفن الرجل يأتيه الأمر من أمري إما أمرت به وإما نهيت عنه فيقول ما ندري ما هذا, عندنا كتاب الله ليس هذا فيه» وفي رواية الحاكم «فيقول ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا». وفي هذا الحديث والحديث قبله علم من أعلام النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في أمته أقوام يعارضون السنة بالقرآن, وقد وقع الأمر طبق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وقد كثروا في زماننا لا كثرهم الله. الوجه الثاني أن يقال إن الحديث الذي أورده أبو رية في ظلماته على السنة ونقله عنه المؤلف في ظلماته أيضا حديث موضوع, قال البيهقي في المدخل والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح وهو ينعكس على نفسه بالبطلان فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن انتهى وقد نقله عنه السيوطي في كتابه «مفتاح الجنة». وقال الشيخ أبو عمر ابن عبد البر النمري في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» في «باب موضع السنة من الكتاب وبيانها له» وقد أمر الله جل وعز بطاعته - أي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم - واتباعه أمراً مطلقاً مجملاً لم يقيد بشيء كما أمرنا باتباع كتاب الله ولم يقل وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ, قال عبد الرحمن بن مهدي الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث, يعني ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإِن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله» وهذه

اتهام المؤلف للرواة بالزيادة والنقص في الأحاديث تسوية للمواقف من الأمراء والخلفاء والحكام والرد عليه

الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه. وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك قالوا فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال انتهى. وقريب من الحديث الذي اعتمد عليه المؤلف وأبو رية في معارضة الأحاديث الصحيحة ما ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من طريق أشعث بن نزار عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت أو لم أحدث» قال ابن الجوزي بعد إيراده قال العقيلي ليس لهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد يصح, وللأشعت هذا غير حديث منكر قال يحيى أشعت ليس بشيء, وذكر أبو سليمان الخطابي عن الساجي عن يحيى بن معين قال هذا الحديث وضعته الزنادقة, قال الخطابي هو باطل لا أصل له انتهى. الوجه الثالث أن يقال من عجيب أمر المؤلف وأبي رية ردهما للأحاديث الصحيحة وقبولهما للحديث الموضوع واعتمادهما عليه في معارضة الأحاديث الصحيحة واطراحها والدس على ضعفاء البصيرة من المسلمين وإدخال الشبه والشكوك عليهم وتنفيرهم من قبول الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن فعلهما هذا ناشئ عما في قلوبهما من الزيغ وفساد الاعتقاد. وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون). فصل وقال المؤلف في صفحة (31) ما نصه ويقول الأستاذ أبو ريا في كتابه أضواء على السنة في ص 99 وقد روي أن قوماً من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا أن الإِسلام قد ظهر وعم ودوخ وأذل جميع

عناية الأئمة ببيان أحوال الرواة

الأمم ورأوا أنه لا سبيل إلى مناصبته رجعوا إلى الحيلة والمكيدة فأظهروا الإِسلام من غير رغبة فيه وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف فلما حمد الناس طريقتهم دسوا الأحاديث والمقالات وفرقوا الناس فرقاً, قال المؤلف ونضيف إلى ذلك أن نقل الحديث بالمعنى وليس باللفظ والنص الذي نطق به النبي فتح باب الزيادة والنقص في كلامه وجعل للرواة علة في الإِضافة والحذف تسوية لمواقف معينة من الأمراء والخلفاء والحكام في زمن الفتنة التي غشيت المسلمين وفتحت عليهم أبواب الشرور. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن الله تعالى قد أقام للسنة المحمدية جهابذة نقاداً بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وبينوا أسماء الوضاعين وذكروا أحاديثهم الموضوعة ولم يتركوا شيئاً من الأحاديث التي وضعتها الزنادقة وأرادوا بها الدس واللبس على ضعفاء البصيرة إلا وقد نبهوا عليها, وكذلك قد نبهوا على الأحاديث الضعيفة والمنكرة وبسبب هذه العناية جاءت الأحاديث الصحيحة خالصة صافية من الشوائب وفي طليعتها الصحيحان اللذان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى وقد تلقتهما الأمة بالقبول وأجمع العلماء على صحتهما. وقد أجار الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أجاركم من ثلاث خلال لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة». وروى الإِمام أحمد والطبراني عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها». وروى الترمذي والحاكم وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ إلى النار». وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة». وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبداً».

رمي المؤلف لأبي هريرة بالتحريف والزيادة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم, والرد عليه

وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وفيها رد على من طعن في شيء من أحاديث الصحيحين وشذ بذلك عن جماعة المسلمين الذين تلقوهما بالقبول وخالف إجماع العلماء على صحتهما, ومن أولئك الشاذين عن جماعة المسلمين أبو رية والمؤلف وأشباههما من تلامذة الإِفرنج ومن يقلدهم ويتزلف إليهم بالطعن في الأحاديث الثابتة ورواتها. الوجه الثاني أن المؤلف وجه التهمة إلى الرواة على وجه العموم في الإضافة إلى الأحاديث والحذف منها تسوية للمواقف من الأمراء والخلفاء والحكام, وهذا خطأ ظاهر لأن الرواة فيهم الثقات الأثبات الذين يحافظون على أداء الحديث كما سمعوه وهؤلاء لا يتوجه إليهم شيء من التهم, ومن وجه التهمة إليهم فقد افترى عليهم ووصفهم بما ليس فيهم. ومن الرواة الثقات من يحافظ على المعنى وإن كان قد يقع منه تغيير في بعض الألفاظ وهؤلاء دون الذين قبلهم في الحفظ والضبط ومع هذا فلا يتوجه إليهم شيء من التهم. وأما الرواة الذين ليسوا بثقات فهم أهل الزيادة والنقص في المعاني والألفاظ وهم أهل التزلف عند الأمراء والخلفاء والحكام, وهؤلاء ليسوا أمناء على الحديث فلا يعتد بهم وقد بين العلماء من أهل الجرح والتعديل أحوالهم كما تقدم التنبيه على ذلك في الوجه الأول, وفي تسوية المؤلف بين هؤلاء المجروحين وبين الثقات الأثبات تمويه وتبليس على ضعفاء البصيرة. فصل وقال المؤلف في صفحة (31) ما نصه التحريف من أسباب الزيادة في كلام النبي - ص - ومثال ذلك أن عائشة حينما سمعت أن أبا هريرة حدث أن رسول الله - ص - قال «إن يكن الشؤم ففي ثلاث الدار والمرأة والفرس» غضبت وقالت والله ما قال هذا رسول الله قط وإنما قال «أهل الجاهلية يقولون إن يكن الشؤم ففي ثلاث الدار والمرأة والفرس» فدخل أبو هريرة فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن عنوان المؤلف ظاهر في رميه أبا هريرة رضي الله عنه بالتحريف والزيادة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم,

ذكر الأحاديث «أن الشؤم في ثلاث»

ويدل على ذلك تمثيله لذلك بالحديث الذي حدث به أبو هريرة رضي الله عنه وأنكرته عائشة رضي الله عنها. ورمي أبي هريرة رضي الله عنه بالتحريف والزيادة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر الهين, وقد قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً). الوجه الثاني أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية حديث «الشؤم في ثلاث» بل قد رواه عمر وابنه عبد الله وسهل بن سعد وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وأم سلمة رضي الله عنهم, فأما حديث عمر رضي الله عنه فسيأتي في آخر الأحاديث. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة» هذا لفظ البخاري في باب الطيرة. وأما حديث سهل بن سعد رضي الله عنه فرواه مالك والبخاري ومسلم وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن» يعني الشؤم. وأما حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فرواه مسلم والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس». وأما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فرواه أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار». وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فرواه ابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا طيرة والطيرة على من تطير وإن يك في شيء ففي الدار والفرس والمرأة» وقد أشار الترمذي إلى حديث أنس رضي الله عنه بعد إيراده لحديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها فرواه ابن ماجه بعد رواية الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار» قال الزهري فحدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن جدته زينب

حدثته عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تعد هؤلاء الثلاثة وتزيد معهن السيف, قال في الزوائد إسناده صحيح على شرط مسلم فقد احتج مسلم بجميع رواته وأصل الحديث في الصحيحين وانفرد ابن ماجه بذكر السيف فلذلك أوردته, أي في الزوائد. وأما حديث عمر رضي الله عنه فرواه أبو يعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الشؤم في ثلاثة في الدابة والمسكن والمرأة» قال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن بديل بن ورقاء وهو ثقة انتهى. فهذه سبعة أحاديث صحيحة تؤيد حديث أبي هريرة رضي الله عنه وترد على من أنكره وعلى من رمى أبا هريرة رضي الله عنه بما هو بريء منه من التحريف والزيادة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث أن يقال إن الحديث الذي ذكره المؤلف قد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث مكحول قال قيل لعائشة إن أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس» فقالت عائشة لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قاتل الله اليهود يقولون الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس» فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله, وهذا منقطع لأن مكحولاً لم يسمع من عائشة رضي الله عنها, لكن رواه الإِمام أحمد في مسنده بأسانيد صحيحة عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» قال فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض فقالت والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «كان أهل الجاهلية يقولون الطيرة في المرأة والدار والدابة» ثم قرأت عائشة (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب) إلى آخر الآية. قوله فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض, قال ابن الأثير في النهاية هو مبالغة في الغضب والغيظ يقال قد انشق فلان من الغضب والغيظ كأنه امتلأ باطنه منه حتى انشق ومنه قوله تعالى (تكاد تميز من الغيظ) انتهى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «مفتاح دار السعادة» وقد اختلف في

معنى قوله «الشؤم في ثلاث»

هذا الحديث - يعني قوله «الشؤم في ثلاث» وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تنكر أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وتقول إنما حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الجاهلية وأقوالهم - إلى أن قال - والمقصود أن عائشة رضي الله عنها ردت هذا الحديث وأنكرته وخطأت قائله, ولكن قول عائشة رضي الله عنها هذا مرجوح ولها رضي الله عنها اجتهاد في رد بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة وهي رضي الله عنها لما ظنت أن هذا الحديث يقتضي إثبات الطيرة التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده ولكن الذين رووه ممن لا يمكن رد روايتهم, ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده ولو انفرد به فهو حافظ الأمة على الإطلاق وكل ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحيح. بل قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر بن الخطاب وسهل بن سعد الساعدي وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم وأحاديثهم في الصحيح فالحق أن الواجب بيان معنى الحديث ومباينته للطيرة الشركية. ثم ذكر كلام العلماء في بيان معنى الحديث وأطال في ذلك فليراجع فإِنه مهم جداً. وقد جاء بيان معنى الحديث في حديث عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها مرفوعاً «إن من شقاء المرء في الدنيا ثلاثة سوء الدار وسوء المرأة وسوء الدابة قالت يا رسول الله ما سوء الدار قال سوء ساحتها وخبث جيرانها قيل فما سوء الدابة قال منعها ظهرها وسوء خلقها قيل فما سوء المرأة قال عقم رحمها وسوء خلقها» رواه الطبراني قال الهيثمي وفيه من لم أعرفهم. وقال النووي في شرح مسلم اختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة هو على ظاهره وإن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سببا للضرر أو الهلاك وكذا اتخاذ المرأة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى, ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة كما صرح به في رواية «إن يكن الشؤم في شيء». وقال الخطابي وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة, وقال آخرون شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وقيل

حفظ الله لأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم

حرانها وغلاء ثمنها وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه, وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة انتهى. وقد ذكر ابن القيم كلام الخطابي وقال بعد قوله فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه. قال ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فإِنه شؤم, وقد سلك هذا المسلك أبو محمد ابن قتيبة في كتاب مشكل الحديث له لما ذكر أن بعض الملاحدة اعترض بحديث هذه الثلاثة انتهى المقصود ويراجع بقية كلامه في كتابه «مفتاح دار السعادة». فصل وقال المؤلف في صفحة (31) و (32) ما نصه النقل المطبوع دون التقيد بنص تركه رسول الله مدوناً كان سبباً للتغيير والتحريف في الحديث, وتجديد الطبع وتكرار النسخ على مر الأيام وتعاقب السنين الطويلة وخصوصاً السنين المشحونة بمكر المتآمرين على الدين الإِسلامي وعلى المسلمين يعتبر باباً فسيحاً للتغيير والتحريف في الحديث وخصوصاً بعد أن تلقفه المسلمون من سبل متعددة ومن نصوص مفتوحة دون تقيد بصيغة محددة اكتفاء بالمعنى الواسع فقط لأنه لم يدون في عهد النبي - ص - ولا في عهد الخلفاء الراشدين. وإنا نعتقد أننا لو واجهنا البخاري الآن ببعض ما جاء في كتابه لاستبرأ مما لا يرضاه لدينه ولنبيه وللمسلمين استناداً إلى أن الناس قد تداولوها بمعاني نصوصها مفتوحة للناقلين وليس بلفظ مقيد مربوط عن رسول الله. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الله تبارك وتعالى قد حفظ أحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه العزيز وأقام لها من العلماء الأمناء من اعتنى بها وحافظ على سلامتها من التغيير والتحريف مما قد يقع من تكرار النسخ وتجديد الطبع فلم تزل سليمة بحمد الله تعالى. ولا تزال كذلك ما دامت الطائفة المنصورة باقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» رواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبرقاني في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث صحيح, والأحاديث في هذا المعنى كثيرة صحيحة تبلغ حد التواتر. وقد ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط

الساعة» فلتراجع هناك في «باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة». وفي قوله «ظاهرين على الحق» دليل على تمسكهم بالكتاب والسنة لأن الحق هو ما جاء فيهما ومن يكون ظاهراً على الحق لا بد أن يكون عاملا بالكتاب والسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» رواه مالك في الموطأ بلاغاً والحاكم في مستدركه موصولاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي. وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض». ويدل حديث ثوبان أيضا على أن السنة لا تزال محفوظة من التغيير والتحريف لأنها من الحق الذي كانت عليه الطائفة المنصورة والحق لا بد أن يكون محفوظاً لقول الله تعالى (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). وأيضا فإِن السنة من الذكر وقد قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقد تقدم تقرير ذلك وكلام ابن حزم فيه عند الكلام على الدافع التاسع من دوافع المؤلف لتأليف كتابه المشؤم عليه وعلى من اغتر به فليراجع (¬1) كلام ابن حزم فإنه كلام حسن جيد جداً. فأما التغيير في بعض الحروف والكلمات مما لا يتغير به معنى الحديث فهذا لا ينكر وجوده ولكن ذلك لا يضر ولا يعد من التغيير والتحريف المذموم الذي يتغير به معنى الحديث ويؤدي إلى تغيير مراد النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني أن يقال لهذا الأحمق المعجب بنفسه إنك لو واجهت البخاري لكنت مثل الأرنب عند الأسد فكما أن الأرنب لا تبرز عند الكلب والسنور فضلا عن الذئب فضلاً عن الأسد فكذلك هذا الأهوج المغرور لا يقدر أن يبرز عند صغار المحدثين فضلاً عن الأئمة الحفاظ فضلاً عن أكابر الأئمة كالبخاري وأمثاله فمنزلته مع هؤلاء أصغر وأحقر من منزلة الأرنب مع الأسد ولكن الأمر فيه كما قيل: ¬

(¬1) ص: 89 - 90.

ثناء الأئمة على البخاري وعلى كتابه الصحيح

وإذا الجبان خلا بأرض قفر ... طلب الطعن وحده والنزالا الوجه الثالث أن يقال إن البخاري قد واجهه أكابر علماء الحديث والجرح والتعديل في زمانه فما تعلق عليه أحد منهم بسقطة ولا عاب عليه أحد منهم ولا خطأه في شيء من الأحاديث التي جمعها في صحيحه. بل إنهم أكثروا الثناء عليه وأقروا له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل. وقد تقدم ذكر بعض ما وقع له معهم في الكلام على البند الثالث من بنود المؤلف التي جعلها للتعريف بكتابه فليراجع (¬1). ويكفي في الثناء على البخاري قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل رواه القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة من طريق عبد الله بن الإِمام أحمد. ورواه النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات». قال النووي وروينا عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الفربري راوية صحيح البخاري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال أين تريد قلت أريد محمد بن إسماعيل البخاري فقال اقرئه مني السلام. ورواه الخطيب في تاريخه بمثله. قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه أنه قال «من رآني في المنام فقد رآني فإِن الشيطان لا يتمثل بي» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه, ورواه الترمذي أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه, ورواه مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, ورواه البخاري أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ورواه البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه. قال النووي وروينا عن الفربري قال رأيت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في النوم خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي كلما رفع قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع. قلت وروى الخطيب في تاريخه عن أبي أحمد بن عدي سمعت الفربري يقول سمعت نجم بن فضيل وكان من أهل الفهم - يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام خرج من قبره والبخاري يمشي خلفه فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ¬

(¬1) ص: 41 - 42.

خطا خطوة يخطو محمد ويضع قدمه على خطوة النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الحافظ ابن حجر عن الفربري سمعت محمد بن حاتم وراق البخاري يقول رأيت البخاري في المنام خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه وضع أبو عبد الله قدمه في ذلك الموضع. قال النووي وعن الحافظ أبي علي صالح بن محمد جزرة قال ما رأيت خراسانيا أفهم من البخاري. وعن محمد بن بشار شيخ البخاري ومسلم قال حفاظ الدنيا أربعة أبو زرعة بالري ومسلم بن الحجاج بنيسابور وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ومحمد بن إسماعيل ببخارى. وعنه قال ما قدم علينا يعني البصرة مثل البخاري. وعنه أنه قال حين دخل البخاري البصرة دخل اليوم سيد الفقهاء. وعنه أنه حين قدم البخاري البصرة قام إليه فأخذ بيده وعانقه وقال مرحباً بمن أفتخر به منذ سنين. وروينا عن إسحاق بن أحمد بن خلف قال سمعت البخاري غير مرة يقول ما تصاغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني فذكر لعلي بن المديني قول البخاري هذا فقال ذروا قوله هو ما رأى مثل نفسه. وروينا عن محمد بن نمير وأبي بكر بن أبي شيبة قالا ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل, وروينا عن عمرو بن علي الفلاس قال حديث لا يعرفه البخاري ليس بحديث. وروينا عن عبدان شيخ البخاري قال ما رأيت شاباً أبصر من هذا وأشار إلى البخاري, وروينا عن عبد الله بن محمد المسندي بفتح النون قال محمد بن إسماعيل إمام فمن لم يجعله إماما فاتهمه, وروينا عن الإِمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع من أبي عبد الله البخاري. وروينا عن أبي سهل محمود بن النضر قال دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر البخاري فضلوه على أنفسهم, وروينا عن علي بن حجر قال أخرجت خراسان ثلاثة أبا زرعة بالري ومحمد بن إسماعيل ببخارى والدارمي بسمرقند قال والبخاري عندي أعلمهم وأفهمهم, وروينا عن أبي حامد الأعمش قال رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في جنازة ومحمد بن يحيى الذهلي يعني شيخ البخاري وإمام نيسابور يسأله عن الأسماء والكنى وعلل الحديث والبخاري يمر فيها مثل السهم كأنه يقرأ (قل هو الله أحد) , وروينا عن حاشد بالحاء المهملة وكسر الشين المعجمة بن إسماعيل قال رأيت إسحاق بن راهويه جالساً على السرير

كان الرؤساء من أصحاب الحديث يهابون البخاري ويقضون له على أنفسهم في النظر والمعرفة

ومحمد بن إسماعيل معه فأنكر عليه محمد بن إسماعيل شيئاً فرجع إسحاق إلى قول محمد وقال إسحاق يا معشر أصحاب الحديث اكتبوا عن هذا الشاب فإِنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج الناس إليه لمعرفته بالحديث وفهمه, وروينا عن أبي عمرو أحمد بن نصر الخفاف قال حدثني محمد بن إسماعيل البخاري التقي النقي العالم الذي لم أر مثله. وروينا عن أبي عيسى الترمذي قال لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل, وروينا عن عبد الله بن حماد الآملي وهو شيخ البخاري أنه قال وددت أني شعرة في صدر محمد بن إسماعيل, وروينا عن محمد بن يعقوب الحافظ عن أبيه قال رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي المعلم, وروينا عن الإِمام مسلم بن الحجاج أنه قال للبخاري لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك, وروى الحاكم أبو عبد الله في تأريخ نيسابور بإِسناده عن أحمد بن حمدون قال جاء مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقبل بين عينيه وقال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ويا طبيب الحديث في علله, وروينا عن حاشد بن إسماعيل قال كان أهل البصرة يعدون خلف البخاري في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في الطريق ويجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه, وروينا عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة قال ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن إسماعيل البخاري, قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي وحسبك بإِمام الأئمة ابن خزيمة يقول فيه هذا القول مع لقيه الأئمة والمشايخ شرقاً وغرباً, قال أبو الفضل ولا عجب فيه فإِن المشايخ قاطبة أجمعوا على قدمه وقدموه على أنفسهم في عنفوان شبابه, وابن خزيمة إنما رآه عند كبره وتفرده في هذا الشأن, وروينا عن إبراهيم بن محمد بن سلام بتخفيف اللام على الأصح وقيل بتشديدها قال إن الرتوت من أصحاب الحديث مثل سعيد بن أبي مريم المصري ونعيم بن حماد والحميدي والحجاج بن منهال وإسماعيل بن أبي أويس والعدني والحسن الخلال ومحمد بن ميمون صاحب ابن عينية ومحمد بن العلاء والأشج وإبراهيم بن المنذر الحزامي وإبراهيم بن موسى الفراء كلهم كانوا يهابون محمد بن إسماعيل ويقضون له على أنفسهم في النظر والمعرفة. قال النووي الرتوت الرؤساء قاله ابن الأعرابي وغيره, وذكر الحاكم أبو عبد الله البخاري فقال هو إمام أهل الحديث بلا خلاف بين أهل النقل.

ثناء النسائي على صحيح البخاري

واعلم أن وصف البخاري رحمه الله بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان ويكفي في فضله أن معظم من أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخه الأعلام المبرزون والحذاق المتقنون انتهى كلام النووي, وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة البخاري في آخر كتابه «هدي الساري مقدمة فتح الباري» أكثر مما ذكره النووي فليراجع هناك, ولتراجع أيضا ترجمة البخاري في تاريخ بغداد لأبي بكر بن ثابت الخطيب, ففيما ذكره الخطيب والنووي وابن حجر أبلغ رد على المؤلف الذي غلب عليه الهوس فاستهان بالبخاري وغض من شأنه وتوهم أنه يقدر على تخطئته ومعارضته في بعض الأحاديث التي وضعها في صحيحه وأنه لو واجهه لاستبرأ منها, ونقول للمؤلف ما قاله امرؤ القيس. تلك الأماني يتركن الفتى ملكاً ... دون السماء ولم ترفع به رأسا وقد قيل الجنون فنون, ومن فنون الجنون هوس المؤلف ورقاعته في تعرضه للبخاري بكلامه الذي يضحك منه كل عاقل وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال لا يضر البحر أمسى زاخراً ... أن رمى فيه غلام بحجر. الوجه الرابع أن يقال إن البخاري قد نصح لنبيه ولنفسه وللمسلمين في جمعه كتابه الصحيح, ولم يضع فيه حديثاً مرفوعاً إلا وقد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رضيه لدينه وللمسلمين, وقد رضي المسلمون كل الرضا بصحيحه وأجمع العلماء على صحته وقبوله, وقد تقدم بيان ذلك في الفصل الثاني عشر في أول الكتاب فليراجع (¬1). وقال النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» اتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة صحيحا البخاري ومسلم واتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحاً وأكثرهما فوائد, قال وأجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما انتهى. وروى الخطيب بإِسناده عن محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل. ¬

(¬1) ص: 32 - 33.

استحسان أحمد وابن معين وابن المديني لصحيح البخاري وشهادتهم له بالصحة إلا أربعة أحاديث والقول فيها قول البخاري أنها صحيحة

وقال أبو جعفر العقيلي لما صنف البخاري كتاب الصحيح عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث, قال العقيلي والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة, وقال الحاكم أبو أحمد رحمه الله محمد بن إسماعيل الإِمام فإِنه الذي ألف الأصول وبين للناس وكل من عمل بعده فإِنما أخذه من كتابه, ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري. وذكر أيضاً عن أبي زيد المروزي قال كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي فقلت يا رسول الله وما كتابك قال جامع محمد بن إسماعيل, وقد ذكره النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» بنحوه. وإذا علم ما ذكره النووي من إجماع الأمة على صحة الصحيحين ووجوب العمل بأحاديثهما وما ذكره العقيلي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم أنهم استحسنوا صحيح البخاري لما عرضه عليهم وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث قال العقيلي والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة, فماذا يقال في المؤلف المبرسم الذي شذ عن جماعة المسلمين وخالف إجماع الأمة على صحة الصحيحين ووجوب العمل بأحديثهما ونصب نفسه لمعارضة البخاري والطعن في مائة وعشرين حديثاً من صحيحه وزعم أنها من دسائس الإِسرائيليين وزعم أيضاً أن هذا العدد نموذج لما في الصحيح من الأحاديث وليس بحصر لها, والجواب أن يقال (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) , وفي الحقيقة أن المؤلف هو صاحب الدس على المسلمين والتشكيك. فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو وأشباهه من الزنادقة شر من اليهود وأضر على الإِسلام والمسلمين منهم وبعد فهل يظن الأهوج المعجب بنفسه أنه أعلم من علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم من أكابر المحدثين وأئمة الجرح والتعديل الذين استحسنوا صحيح البخاري وشهدوا له بالصحة. أم أنه غلب عليه الهوس فجعل يهذي من غير شعور يحتمل هذا ويحتمل ذاك وبئس كل من الأمرين. وللمؤلف سلف ممن يشار إليهم في هذا العصر وهو القرن الرابع عشر من الهجرة وهم ما بين تلميذ للإِفرنج متخرج من بعض جامعاتهم وما بين مقلد لهم ومتقرب

زعم المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استغنى بالقرآن عن التحدث بغيره, والرد عليه

إليهم بما يحبونه من الطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا عبرة بهؤلاء وأمثالهم لأنهم قد شذوا عن جماعة المسلمين وخالفوا إجماع العلماء, فأما أهل السنة والجماعة فإِنهم لم يزالوا على تعظيم الصحيحين والعمل بأحاديثهما وبكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غيرهما من كتب الصحاح والسنن والمسانيد فلله الحمد لا نحصي ثناءا عليه, والله المسئول أن يهدي ضال المسلمين ويثبت مطيعهم. فصل وقال المؤلف في صفحة (32) ما نصه دليل يثبت استغناء النبي - ص - بالقرآن عن التحدث بغيره ثبت أن النبي - ص - قال في حديثه الصحيح القوي «بعثت بجوامع الكلم ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة» وفي هذا يقول ابن حجر العسقلاني إن معنى الحصر في قوله «إنما كان الذي أوتيته» أن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع إلى آخر الدهر وكأن ما عاداه بالنسبة إليه لم يقع (ص 210 - 211 جـ 13 فتح الباري). والجواب عن هذا من جوه أحدها أن يقال إن المؤلف قد أبدى وأعاد وبذل جهده في الطعن في الأحاديث الصحيحة من أجل الرواية بالمعنى وما يقع فيها من التغيير في بعض الألفاظ وزيادة بعض الحروف أو نقصها, وها هو ذا قد وقع فيما هو أشد مما أنكره. فهذا الحديث الذي ذكره ليس بحديث واحد وإنما جمعه من حديثين ولم يفرق بينهما, وهذا خطأ كبير. وهذان الحديثان قد ذكرهما البخاري في أول كتاب الاعتصام من صحيحه. فأما الحديث الأول فهو عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي». وأما الحديث الثاني فهو عن سعيد وهو ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي

من الآيات ما مثله أومن - أو آمن - عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجوا أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وقد أسقط منه المؤلف قوله «أومن» و «أو» بعدها, وغير قوله «تابعاً» بقوله تبعاً. وقد نقص من كلام ابن حجر وغير فيه فقال «وكأن ما عاداه بالنسبة إليه لم يقع» والذي في كلام ابن حجر بعد قوله «ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر, فلما كان لا شيء يقاربه فضلاً عن أن يساويه كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع» وقد غير قول ابن حجر «ما عداه» بقوله «ما عاداه» ولم يفهم الفرق بين الحرفين, وهذا التغيير يحيل المعنى فإِن «ما عداه» فعل يستثنى به في الكلام مثل خلا وسوى, قال ابن منظور في لسان العرب ورأيتهم عدا أخاك وما عدا أخاك أي ما خلا. وقد يخفض بها دون ما قال الجوهري وعدا فعل يستثنى به مع ما وبغير ما تقول جاءني القوم ما عدا زيداً وجاءوني عدا زيداً تنصب ما بعدها بها والفاعل مضمر فيها, قال الأزهري من حروف الاستثناء قولهم ما رأيت أحداً ما عدا زيداً كقولك ما خلا زيداً وتنصب زيداً في هذين فإِذا أخرجت ما خفضت ونصبت فقلت ما رأيت أحداً عدا زيداً وعدا زيد وخلا زيداً وخلا زيد فالنصب بمعنى إلا والخفض بمعنى سوى انتهى. وأما عاداه فهو من العداوة يقال عاداه معاداة وعداء ويقال فلان يعادي بني فلان قال الله تعالى (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة). وإذا كان المؤلف قد بلغ به الجهل وسوء التصرف في حديث واحد وشرحه إلى هذا الحد الذي ذكرناه عنه فما باله يحمل على الأحاديث الصحيحة ورواتها ويكثر الطعن فيها وفيهم من أجل الرواية بالمعنى فهلا بدأ بنفسه فنقل الأحاديث على ما هي عليه حرفاً حرفاً ولم يغير فيها. وكذلك إذا نقل كلام أحد من العلماء فينبغي أن ينقله على ما هو عليه ولا يغير فيه وقد قيل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف قد أكثر الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه تمهيداً لما أقدم عليه من الطعن في جملة من أحاديثه التي رواها البخاري في صحيحه وهي مما يخالف رأي المؤلف وآراء شيوخه وشيوخهم من الإِفرنج ومن يقلدهم من العصريين. وأما في هذا الموضع فقد جزم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه بأنه صحيح قوي, وإنما جزم بصحته وقوته لأنه ظن أنه

الحث على التمسك بالسنة

يؤيد ما ذهب إليه من الاستغناء بالقرآن ورفض الأحاديث الصحيحة واطراحها. وقد تبين من صنيعه في هذا الموضع وفيما سيأتي من طعنه في أبي هريرة رضي الله عنه وفي أحاديثه أنه يدور مع هواه ورأيه الفاسد حيثما دار وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين). الوجه الثالث أن يقال ليس في حديث «بعثت بجوامع الكلم» ولا في الحديث الآخر ما يدل على استغناء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن عن التحدث بغيره كما قد توهم ذلك المؤلف, وكون القرآن أعظم المعجزات لا يدل على الاستغناء به عن السنة لأن السنة تفسر القرآن وتبين معانيه وما أراد الله منه قال الله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فلولا بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة لما عرف الناس كثيراً مما أجمل في القرآن. الوجه الرابع أن يقال لولا تحديث النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتعليمه إياهم لما عرف الناس كيف يتوضئون وكيف يصلون وكيف يزكون وكيف يحجون, وكذلك كثير من أصول الدين وفروعه إنما عرفها الناس من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, ولا ينكر هذا إلا من هو من أجهل الناس وأشدهم غباوة. الوجه الخامس أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على التمسك بسنته كما حثهم على التمسك بالقرآن فقال صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» رواه الإِمام أحمد وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا ابن حبان والحاكم والذهبي. وروى مالك في الموطأ بلاغاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصولاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال - فذكر الحديث وفيه - «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه». قال الحاكم قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة واحتج مسلم بأبي أويس

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمن حفظه أحاديثه وبلغها

وسائر رواته متفق عليهم ووافقه الذهبي في تليخصه قال وله أصل في الصحيح. وروى الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض». وفي حثه صلى الله عليه وسلم على التمسك بالسنة أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استغنى بالقرآن عن السنة. الوجه السادس أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» الحديث وفيه بعض الروايات «ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله» وقد تقدم هذا الحديث وما في معناه في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (¬1). وفي هذا الحديث أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استغنى بالقرآن عن السنة. الوجه السابع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه فرب مبلغ أحفظ له من سامع» رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضاً ابن حبان. وروى الإِمام أحمد أيضاً وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. والأحاديث بنحوه كثيرة وفيها أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استغنى بالقرآن عن السنة. الوجه الثامن أن يقال لا شك أن القرآن من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذلك كلامه صلى الله عليه وسلم ففيه كثير من جوامع الكلم وهي أيضا داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بجوامع الكلم». ¬

(¬1) ص: 6.

زعم المؤلف أن الأحاديث قد رويت بالمعنى والرد عليه

ومن أمثلة جوامع الكلم في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وقوله صلى الله عليه وسلم «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» وقوله صلى الله عليه وسلم «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» وقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم فأتوا منه ما استطعتم» وقوله صلى الله عليه وسلم «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه» وقوله صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة» وقوله صلى الله عليه وسلم «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع, وفيما ذكرته منها وما لم أذكره أبلغ رد على المؤلف في زعمه أن في قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بجوامع الكلم» دليلاً يثبت استغناء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن عن التحدث بغيره. فصل وقال المؤلف في صفحة (32) ما نصه طبيعة وعادة تثبت أن الأحاديث رويت بالمعنى وليس بالنص من الطبيعة ومن العادة ما يصلح أن يكون دليلاً, ومن عادة الخطباء أن نسمع منهم كلمة (أو كما قال في نهاية كل حديث) حتى أصبحت هذه الجملة كأنها أصل الحديث. وليس معنى ذلك أن الخطباء يردفون كلامهم بتلك العبارة إلا لتكون اعتذاراً مقدماً عما يتوقعه الخطيب من زيادة أو نقصان في كل كلمة يقولها لأنه يقدر كلام النبي - ص - حق التقدير ويؤمن بمسئولية نفسه في التحدث به مع الناس خطيباً كان أم مدرساً. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إنه لا يوجد دليل يدل على أن الأحاديث كلها مروية بالمعنى, وليس في الطبيعة ولا في العادة ما يدل على ذلك. ولا ينبغي الاستدلال بالطبيعة والعادة على الأحاديث ولا يصلح ذلك. الوجه الثاني أن يقال قد كان الصحابة رضي الله عنهم يعتنون بحفظ الأحاديث أشد الاعتناء ويتحرون ضبط الألفاظ, وكان ابن عمر رضي الله عنهما ممن يشدد في ذلك, وقد تقدم ما رواه أبو الزعيزعة كاتب مروان ابن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة رضي الله عنه وأقعده خلف السرير وجعل مروان يسأل أبا هريرة وجعلت أكتب عنه حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب

زعم المؤلف أن علماء الحديث تساهلوا في الأسانيد والرد عليه

فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر, وتقدم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما نحو ذلك, وهذا يدل على أن المشهورين بالحفظ من الصحابة كانوا يروون الأحاديث بالنص لا بالمعنى. وأما غيرهم فالظاهر أنهم كانوا كذلك لأنهم كانوا يتحرون ضبط ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ما أمكنهم, وقد يقع لبعضهم تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك وهذا لا يضر. فصل وقال المؤلف في صفحة (33) ما نصه علماء الحديث تساهلوا في السند ويعترفون بحريتهم في ذلك أخرج البيهقي في المدخل قول ابن مهدي إذا روينا عن رسول الله - ص - في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال, وممن جوز التساهل في رواية الحديث إذا كان في فضائل الأعمال أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك, وقال الحاكم أبا زكريا العنبري يقول, الخبر إذا لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكما في ترغيب أو ترهيب, وقال من أحاديث الفضائل ما لا يحتاج منها إلى من يحتج به, وقال أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديما في روايتها ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم في أحاديث الأحكام (ص 45 جـ1 جامع بيان العلم) , وابتغاء مرضات الله نقول أليس ما ورد في الأحكام وبيان الثواب والعقاب مما تساهلوا فيه أو تشددوا في سنده منسوب كله إلى النبي - ص - وما ينسب إليه يعتبر تشريعاً لله صاحب التشريع المحكم, وما دام الأمر كذلك فكيف يستهان بما ينسب إلى رسول الله بتلك الصورة من علماء وحراس الحديث النبوي الشريف, وهل هذه هي الأمانة المطلوبة منهم, وهل يرضى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك التصرف في سنته وهو الذي يعترض على البراء بن عازب عندما غير البراء لفظ نبيك بلفظ رسولك وقتما كان يعلمه النبي - ص - يقوله عندما يأوي إلى فراشه. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن المؤلف نقل الكلام الذي في أول هذا الفصل من كتاب أبي رية وقد تصرف فيه تصرفاً سيئاً فاختصر ما نقله عن الحاكم اختصاراً أخل به وأضاف الكلام الذي بعده إلى رواية الحاكم وليس

كلام العلماء في العمل بالحديث الضعيف

الأمر كذلك في كتاب أبي رية فقد ذكره أبو رية عن ابن عبد البر وعزاه في الهامش إلى جامع بيان العلم ص 45 جـ 1, وهذا سياق أبي رية, وقال الحاكم سمعت أبا زكريا العنبري يقول الخبر إذا لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكما في ترغيب أو ترهيب أغمض وتسوهل في روايته, وقال ابن عبد البر أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به, وقال أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديماً في روايتها عن كل, ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم في أحاديث الأحكام. وأقول قد راجعت كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وتتبعته من أوله إلى آخره فما وجدت هذا الكلام فإِما أن يكون أبو رية قد أخطأ في نسبته إلى كتاب جامع بيان العلم وفضله, وإما أن يكون ذلك في بعض النسخ دون بعض, وأما ما نقله عن الحاكم فلم أجده في المستدرك وإنما فيه كلام ابن مهدي, قال الحاكم في «كتاب الدعاء» سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلى يقول كان أبي يحكي عن عبد الرحمن بن مهدي يقول إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات تساهلنا في الأسانيد. الوجه الثاني أن يقال قد روي عن الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أنه يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال مما ليس فيه تحليل ولا تحريم, قال أبو عبد الله النوفلي سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام شددنا في الأسانيد وإذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد رواه الخطيب والقاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة. وعن الإِمام أحمد ما يدل على أنه لا يعمل بالحديث الضعيف في الفضائل والمستحبات ذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» قال ولهذا لم يستحب صلاة التسبيح لضعف خبرها عنده مع أنه خبر مشهور عمل به وصححه غير واحد من الأئمة ولم يستحب أيضا التيمم بضربتين على الصحيح عنه مع أن فيها أخباراً وآثاراً وغير ذلك من مسائل الفروع فصارت المسألة على روايتين عنه, ويحتمل أن يتعين الثاني لأنه إذا لم يشدد في الرواية في الفضائل لا يلزم أن يكون ضعيفا واهيا ولا أن يعمل به

بانفراده بل يرويه ليعرف ويبين أمره للناس أو يعتبر به ويعتضد به مع غيره. وقال الشيخ تقي الدين عن قول أحمد وعن قول العلماء في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال, قال العمل به بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب ومثل ذلك الترغيب والترهيب بالإِسرائيليات والمنامات وكلمات السلف والعلماء ووقائع العالم ونحو ذلك مما لا يجوز إثبات حكم شرعي به لا استحباب ولا غيره لكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإِن ذلك ينفع ولا يضر وسواء كان في نفس الأمر حقاً أو باطلاً - إلى أن قال - فالحاصل أن هذا الباب يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب, ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي. وقال أيضاً في شرح العمدة في التيمم بضربتين, والعمل بالضعاف إنما يشرع في عمل قد علم أنه مشروع في الجملة فإِذا رغب في بعض أنواعه بحديث ضعيف عمل به, أما إثبات سنة فلا, انتهى كلامه. قال ابن مفلح وأما العمل بالضعيف في الحلال والحرام فإِن كان حسناً فإِنه يحتج به وقد يطلق عليه بعضهم أنه حديث ضعيف وإن لم يكن حسناً لم يحتج به, ثم ذكر أن أحمد كان مذهبه إذا ضعف إسناد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مال إلى قول أصحابه وإذا ضعف إسناد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن معارض قال به فهذا كان مذهبه انتهى. الوجه الثالث أن المؤلف الأهوج قد انتقد علماء الحديث على تساهلهم في الأسانيد إذا كانت في الفضائل والثواب والعقاب وقال في حقهم هل هذه هي الأمانة المطلوبة منهم, وهل يرضى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك التصرف في سنته. وأقول إن المؤلف ينطبق عليه ما قيل في المثل المشهور «يرى القذاة في عين غيره ولا يرى الجذع في عينه» فهلا بدأ المؤلف بنفسه ونظر في أفعاله السيئة الوخيمة التي قد جمعها في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض من قبل أن يعترض على علماء الحديث وينتقدهم بمجازفاته وقوله الباطل, فإِن علماء الحديث لم يخلوا بالأمانة في الأحاديث بل أدوها حق الأداء وبينوا الصحيح من الضعيف وبينوا الأحاديث

زعم المؤلف أن بعض الصحابة امتنعوا من التحديث والرد عليه

الواهية والموضوعة وتركوا الأمر واضحاً جلياً لا لبس فيه, وقد تقدم توجيه عملهم بالحديث الضعيف في الوجه الثاني فليرجع إليه. أما المؤلف فإِنه قد جد واجتهد في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها والطعن في الثقات الأثبات من رواتها, فهل هذه هي الأمانة المطلوبة منه. وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التصرف السيء في أحاديثه الثابتة عنه وفي رواتها, كلا إن رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ينافي الأمانة غاية المنافاة, وكذلك الطعن في بعض الصحابة وفيمن بعدهم من الثقات الأثبات الذين اعتنوا بحفظ الأحاديث وتبليغها فإِنه ينافي الأمانة غاية المنافاة, والله تبارك وتعالى لا يرضى برد أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بإِيذاء المؤمنين بالبهتان, قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإِذن الله) وقال تعالى (من يطع الرسول فقط أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً) وقال تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) , وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى برد أحاديثه الثابتة عنه ولا بالطعن في أصحابه, وقد ذكرت الأحاديث في تشديده صلى الله عليه وسلم في معارضة أحاديثه في الفصل الثالث في أول الكتاب فلتراجع (¬1) وذكرت أيضاً الأحاديث في تشديده صلى الله عليه وسلم في إيذاء أصحابه وسبهم والطعن فيهم في الفصل الحادي عشر في أول الكتاب فلتراجع (¬2). فصل وقال المؤلف في صفحة (33) و (34) ما نصه من أصحاب النبي - ص - من امتنع من التحدث عن رسول الله صلى عمداً لأنه لاحظ الشبهة على غيره من الصحابة في ص 49 - 50 من تأويل الحديث لابن قتيبة, يقول عمران بن حصين ¬

(¬1) ص: 5 - 7. (¬2) ص: 29 - 30.

وهو من الصحابة والله إني لأستطيع الحديث عن رسول الله يومين متتابعين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب النبي - ص - سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمك أنهم كانوا يخطئون إلا أنهم كانوا لا يتعمدون. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن ابن قتيبة لم يذكر لهذا الأثر سنداً وإنما اقتصر على قوله وروى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين, ومثل هذا لا يثبت به شيء. وقد أخطأ المؤلف في قوله تأويل الحديث لابن قتيبة, وصوابه تأويل مختلف الحديث. الوجه الثاني أن يقال إن عمران بن حصين رضي الله عنهما لم يمتنع من التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قد توهم ذلك المؤلف وكذلك غيره من الصحابة الذين تأخرت وفياتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر عن أحد منهم أنه امتنع من التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولاسيما إذا احتيج إلى ما عنده من الحديث, وقد روى أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أحاديث كثيرة, وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثمانون حديثاً اتفقا منها على ثمانية وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بتسعة, وكذا قال الخزرجي في الخلاصة إلا أنه قال له مائة وثلاثون حديثاً قال وكان من علماء الصحابة انتهى. فصل وذكر المؤلف في صفحة (34) عن أبي رية أنه قال في صفحة (111) من ظلماته ما ملخصه. وقد امنتع بعض الصحابة عن التحديث خوفاً من الخطأ وأنه لما خرجت الخوارج وتحزب الناس فرقاً بدأوا يتخذون من الحديث صناعة فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب ثم ظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة بما يشبه أحاديث الخرافة فوقع الشوب والفساد في الحديث, إلى آخر كلامه الذي لا فائدة في ذكره, وذكر في آخره أن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما كان يكذب في الأحاديث

الإشارة إلى أهل الشكوك واللبس والتشكيك في الأحاديث الصحيحة

وكذلك برد مولى سعيد بن المسيب. والجواب أن يقال أما قوله عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم امتنعوا من التحديث خوفاً من الخطأ, فقد تقدم الجواب عنه في الفصل الذي قبل هذا الفصل. وأما ما ذكره من وقوع الشوب والفساد في الحديث لما خرجت الخوارج وتحزب الناس وظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة. فجوابه أن يقال إن الله تعالى قد أقام للأحاديث رجالاً أمناء بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وذكروا الكذابين والوضاعين بأسمائهم ليجتنب الناس أحاديثهم فلم يبق بعد ذلك ما يخشى منه اللبس والشوب والفساد في الحديث, فالأحاديث الصحيحة معروفة عن أهل العلم من أهل السنة والجماعة, وكذلك الأحاديث الحسنة والأحاديث الضعيفة والأحاديث الموضوعة والإِسرائيليات فكل ذلك معروف عندهم, وإنما تقع الشكوك واللبس والتشكيك من أعداء السنة ومنهم المؤلف وأبو رية وأناس من أضرابهما ممن عاصرهما وممن كان قبلهما بزمن يسير, وبعضهم قد تتلمذوا للإِفرنج وتأثروا بآرائهم وأفكارهم الفاسدة وسهامهم المسمومة التي يوجهونها نحو الأحاديث الصحيحة التي لا تتفق مع أفكارهم المنحرفة ليطعنوا بذلك في الإِسلام والمسلمين, فهؤلاء الذين أشرنا إليهم من تلامذة الإِفرنج وأتباعهم هم معاول الهدم للسنة, فكل حديث صحيح لا يوافق آراءهم أو آراء من يعظمونه لا يتوقفون في رده وتكذيبه ثم يزعمون أنه من دسائس الإِسرائيليين وهم كاذبون في ذلك وإنما الدس والتشكيك منهم لا من الإِسرائيليين. وأما قول المؤلف إن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما كان يكذب في الأحاديث. فجوابه أن يقال قد تكلم بعض العلماء في عكرمة ورماه بعضهم بالكذب ولعل مرادهم بالكذب الخطأ والغلط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «كذب أبو السنابل» لما أفتى أن الحامل المتوفى عنها زوجها لا تتزوج حتى تتم لها أربعة أشهر وعشر ولو وضعت قبل ذلك, ومن هذا قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه «كذب أبو محمد» لما قال إن الوتر واجب, أي أخطأ, ومنه قول سعيد بن جبير كذب جابر

توثيق عكرمة واحتجاج البخاري وغيره من العلماء به وتشديد ابن معين على من يتكلم فيه

بن زيد, يعني في قوله الطلاق بيد السيد أي أخطأ, ومنه قول أبي طالب: كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن ألا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ... ولما نطاعن دونه ونناضل معناه أخطأتم وغلطتم فيما قلتم, وأمثال هذا في أشعار العرب كثير يطلقون كلمة التكذيب على الخطأ والغلط, قال ابن عبد البر فيما نقله عنه ابن القيم في كتابه «مفتاح دار السعادة» العرب تقول كذبت بمعنى غلطت فيما قدرت وأوهمت فيما قلت ولم تظن حقاً ونحو ذلك وذلك معروف من كلامهم موجود في أشعارهم كثيراَ انتهى. ومن العلماء من رمى عكرمة ببعض البدع, وقد ذكر النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» عن ابن معين أنه قال عكرمة ثقة, قال وإذا رأيت من يتكلم في عكرمة فاتهمة على الإِسلام وقال أبو حاتم هو ثقة وإنما أنكر عليه مالك ويحيى بن سعيد لرأيه وقال البخاري ليس أحد من أصحابنا إلا يحتج بعكرمة, وقال أحمد بن عبد الله العجلى عكرمة ثقة وهو بريء مما يرميه به الناس, وقال الحافظ ابن حجر في التقريب ثقة ثبت عالم بالتفسير ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا يثبت عنه بدعة, وقال الخزرجي في الخلاصة عكرمة أحد الأئمة الأعلام رموه بغير نوع من البدعة قال العجلي ثقة بريء مما يرميه الناس به ووثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي ومن القدماء أيوب السختياني انتهى. وأما برد مولى سعيد بن المسيب فلم أر أحداً من أهل العلم ذكر عنه شيئاً من الكذب بل إنه لم يرو عنه شيء من الأحاديث فيما أعلم, وإنما ذكر ابن عبد البر عن المروزي أنه روى بإِسناد فيه انقطاع أنه كان بين سعيد بن المسيب وبين عكرمة خلاف في بعض المسائل وأنه بهذا السبب قال سعيد لغلامه برد لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس. وهذا الحكاية فيها نظر والأحرى أنها لا تصح والله أعلم. فصل وقال المؤلف في صفحة (35) ما نصه دليل قاطع يثبت مناقضة الصحابة لبعضهم في الرواية عن النبي روى ابن الجوزي في كتاب (شبهة التشبيه) قال سمع الزبير ابن العوام رجلاً

يحدث فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه فقال الزبير أنت سمعت هذا من رسول الله فقال الرجل نعم فقال الزبير هذا وأشباهه مما يمنعنا في أن نتحدث عن النبي, قد لعمري سمعت هذا من رسول الله وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله, وقال بسر بن سعد اتقوا الله وتحفظوا في الحديث فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله - ص - ويحدثنا عن كعب ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ويجعل حديث كعب عن رسول الله (ص 436 جـ2 سير أعلام النبلاء للذهبي). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ما زعمه المؤلف من مناقضة الصحابة بعضهم بعضاً في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو زعم كاذب, والأثر الذي استدل به على ذلك ليس فيه ما يصلح دليلاً على ما ذهب إليه فضلاً عن أن يكون دليلاً قاطعاً. الوجه الثاني أن يقال إن الأثر الذي أورده عن الزبير رضي الله عنه ضعيف جداً. قال المعلمي رحمه الله تعالى في رده على أبي رية أسنده البيهقي في الأسماء والصفات «أخبرنا أبو جعفر الغرابي أخبرنا أبو العباس الصبغي حدثنا الحسن بن علي بن زياد حدثنا ابن أبي أويس حدثنا ابن أبي الزناد عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة بن الزبير أن الزبير بن العوام سمع رجلاً» قال المعلمي أبو جعفر لم أعرفه والصبغي هو محمد بن إسحاق بن أيوب مجروح وابن أبي الزناد فيه كلام وعبد الله بن عروة ولد بعد الزبير بمدة فالخبر منقطع وكأنه مصنوع انتهى. ولو ثبت أثر الزبير رضي الله عنه لم يكن فيه سوى الإِنكار على من لم يتثبت في الرواية وليس فيه ما يدل على المناقضة. وأما قول بسر بن سعيد فليس فيه سوى الحث على التحفظ في الرواية وليس فيه تأييد لما زعمه المؤلف من مناقضة الصحابة بعضهم بعضاً في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث أن يقال من عجيب أمر المؤلف أنه قد استدل لقوله الباطل

تشكيك المؤلف وأبي رية في كتب السنة والرد عليهما

بأثر واه جداً وزعم أنه دليل قاطع وهو مع ذلك يطعن في بعض الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى ويزعم أنها من دسائس الإِسرائيليين ولا يبالي بردها واطراحها, وهذا يدل على أن الرجل منكوس القلب مسلوب العقل والدين, عافانا الله وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به. فصل وقال المؤلف في صفحة (35) و (36) ما نصه الوضع في الأحاديث وأسبابه - تحقيق لمؤلف أضواء على السنة ص 118 كان من آثار تأخير تدوين الحديث وربط ألفاظه بالكتابة إلى ما بعد المائة الأولى من الهجرة وصدر كبير من المائة الثانية أن اتسعت أبواب الرواية وفاضت أنهار الوضع بغير ما ضابط ولا قيد حتى لقد بلغ ما روي من الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف لا يزال أكثرها مثبتا بين تضاعيف الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن الذي يظهر من كلام أبي رية الذي ساقه المؤلف أن أكثر الأحاديث الموضوعة مثبت بين تضاعيف كتب السنة المنتشرة بين المسلمين ولم يستثن منها شيئاً. وهذا خطأ كبير فإِن الصحيحين ليس فيهما شيء من الأحاديث الضعيفة فضلاً عن الأحاديث الموضوعة, والمسلمون إنما يرجعون إلى ما جاء في الصحيحين وما ثبت في غيرهما من كتب الصحاح والسنن والمسانيد. ويندر وجود الموضوعات في السنن الأربع والمسانيد المشهورة وإنما توجد الموضوعات غالباً في المجاميع التي يعتني مصنفوها بجمع ما وجدوا من الأحاديث من أي جهة كانت الأحاديث. وقد صنف العلماء في بيان الموضوعات مصنفات كثيرة جمعوا فيها ما كان متفرقا في الكتب وبذلك سهل على طالب العلم معرفة الموضوعات ومعرفة الوضاعين والتمييز بين الأحاديث الصحيحة وبين غيرها من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة. الوجه الثاني أن يقال إن الذي يظهر من كلام أبي رية أنه أراد التشكيك في كتب السنة بما توهمه بعقله الفاسد من أن أكثر الأحاديث الموضوعة مثبتة بين

تشكيكه في تبشير العشرة من الصحابة بالجنة والرد عليه

تضاعيفها ومراده بذلك الطعن في كتب السنة والتنفير منها وهو أيضا مراد المؤلف من سياقه لكلام أبي رية. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويرد كيد الكائدين في نحورهم. فصل وقال المؤلف في صفحة (36) ما نصه: معادلة صعبة تستوجب النظر لأنها بين خبرين مختلفين والمجال هو الحديث, هناك حديث يقول إن النبي - ص - بشر عشرة من أصحابه بالجنة منهم طلحة والزبير, والتأريخ الصادق الذي تعززه الوقائع التأريخية يقول إنهما أول من نقض البيعة مع علي بتأثير من عائشة أم المؤمنين لما كان بينها وبين علي من أمور خاصة, وعلي أيضا كان من هؤلاء العشرة التي هما منها فكيف يكون هذا؟ وكيف يتم وبينهم تلك الخصومة التي لا يعلم الظالم من المظلوم فيها إلا الله وحده رغما ما بها من ظواهر العدل التي تعطي حق الخلافة لعلي بعد عثمان. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن تبشير العشرة بالجنة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن رغمت أنوف المبغضين للصحابة المتعرضين لما شجر بينهم, فروى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح عن رياح بن الحارث أن المغيرة بن شعبة كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره فجاءه رجل يدعى سعيد بن زيد فحياه المغيرة وأجلسه عند رجليه على السرير فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرة فسب وسب فقال من يسب هذا يا مغيرة؟ قال يسب علي بن أبي طالب قال يا مغيرة بن شعب يا مغيرة بن شعب, ثلاثا ألا أسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك لا تنكر ولا تغير فأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعت أذناي ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِني لم أكن أروي عنه كذبا يسألني عنه إذا لقيته أنه قال «أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعلي في الجنة وعثمان في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن في الجنة وسعد بن مالك في الجنة وتاسع المؤمنين في الجنة لو شئت أن أسميه لسميته قال فضج أهل المسجد يناشدونه يا صاحب رسول الله من التاسع قال ناشدتموني بالله والله العظيم أنا تاسع المؤمنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم العاشر ثم أتبع ذلك يمينا قال والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل أحدكم ولو عمّر عمر نوح عليه السلام» وقد رواه أبو داود بنحوه وسمى الساب قيس بن

كذب المؤلف على عائشة رضي الله عنها والرد عليه

علقمة. ورواه ابن ماجه مختصراً, وزاد رزين ثم قال «لا جرم لما انقطعت أعمارهم أراد الله أن لا يقطع عنهم الأجر إلى يوم القيامة والشقي من أبغضهم والسعيد من أحبهم» ذكره ابن الأثير في جامع الأصول, وقد رواه الإِمام أحمد وأبو داود أيضا والترمذي من حديث عبد الله بن ظالم المازني عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه بنحوه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, ورواه الترمذي أيضا والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «عشرة في الجنة» فذكر التسعة وزاد معهم أبا عبيدة بن الجراح. الوجه الثاني أن يقال يظهر من كلام المؤلف أنه لا يصدق بالحديث الثابت في تبشير العشرة بالجنة ولهذا عارضه بما ذكره عن الوقائع التأريخية وصرح بالإِنكار في قوله فكيف يكون هذا وكيف يتم وبينهم تلك الخصومة إلى آخر كلامه, فالتأريخ صادق عند المؤلف, والحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بصادق عنده, وما ذاك إلا لأنه مبغض للأحاديث الصحيحة ومنابذها ومشكك فيها, ومن كانت هذه حاله فأبعده الله وأتعسه. الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف قد أخطأ خطأ كبيراً في زعمه أن طلحة والزبير رضي الله عنهما نقضا بيعة علي رضي الله عنه بتأثير من عائشة رضي الله عنها لما كان بينها وبين علي رضي الله عنه من أمور خاصة, وهذا كذب على عائشة رضي الله عنها فإِنها إنما سارت إلى العراق في طلب دم عثمان رضي الله عنه لا غير, وكذلك طلحة والزبير رضي الله عنهما, ولم يكن بين علي وعائشة رضي الله عنهما أمور خاصة تدعو إلى سعي عائشة رضي الله عنها في نقص بيعة علي رضي الله عنه, فما زعمه المؤلف في ذلك كله زور وبهتان. ومما يرد على المؤلف زعمه الكاذب أن عليا رضي الله عنه لما فرغ من أمر الجمل جاء إلى الدار التي فيها عائشة رضي الله عنها فاستأذن ودخل فسلم عليها ورحبت به فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة وأن يخرجهما من ثيابهما, ولما أرادت عائشة رضي الله عنها الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي

من أصول أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بين الصحابة

من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي رضي الله عنه فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه على معتبتي لمن الأخيار فقال علي رضي الله عنه صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة, وسار علي رضي الله عنه معها مودعا ومشيعا أميالا وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم. ولو كان بين علي وعائشة رضي الله عنهما أمور خاصة تدعو إلى سعي عائشة رضي الله عنها في نقض بيعة علي رضي الله عنه لما رحبت عائشة رضي الله عنها بعلي رضي الله عنه لما دخل عليها ولما قالت في حقه ما قالت ولما فعل علي رضي الله عنه معها ما فعل من الحفاوة والتكريم. الوجه الرابع أن يقال من أصول أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم. فلا يثير الكلام فيما شجر بينهم إلا من كان يبتغي الطعن فيهم من أهل البدع والأهواء المخالفين لما عليه أهل السنة والجماعة, وفي إثارة الكلام فيما شجر بينهم دليل على ما في قلب المتكلم فيهم من الغل والبغض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون). الوجه الخامس أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» رواه الإِمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه ابن حبان, ورواه الإِمام أحمد أيضا والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يغزوهم عام الفتح فقال عمر رضي الله عنه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم» , وقد كان علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم من أهل بدر فما كان لهم من

رد دعوى المؤلف إمامة محمد عبده

أعمال سيئة فهي مغفورة لهم بلا شك, وكذلك عائشة رضي الله عنها لأنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته في الدنيا والآخرة. ومن لم يؤمن بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المغفرة لأهل بدر وأن تبشير العشرة بالجنة حق وأن عليا وطلحة والزبير منهم وإن وقع منهم يوم الجمل ما وقع فهو ممن يشك في إسلامه لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمداً رسول الله, ومن تحقيقها الإِيمان بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب فيما مضى وما يأتي. فصل وقال المؤلف في صفحة (36) و (37) ما نصه: كلمة حق للإِمام السلفي محمد عبده في تعليل نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث, قال الإِمام توالت الأحداث بعد ذلك ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع ما عقدوا وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين غير أن بناء الجماعة قد تصدع وانفصمت عرى الوحدة بينهم وتفرقت بهم المذاهب في الخلافة وأخذت الأحزاب في تأييد آرائهم كل ينشر رأيه على رأي خصمه بالقول والعمل وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل. وعلا كل قبيل على الآخر فافترق الناس. قال المؤلف ولهذا يمكننا أن نقول إن وضع الحديث على رسول الله - ص -كان كما قال أحد الأئمة هو أشد خطراً على الدين, وأنكى ضرراً بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين وأن تفرق المسلمين إلى شيع وفرق ومذاهب كان أصله وسببه افتعال الحوادث وبناء الأحاديث الموضوعة على أساس افتعالها ثم كانت سلبية بعض العلماء هي السبب في تثبيت هذه الأحاديث في بواطن وسطور المراجع ومعاملتها في تلك المراجع معاملة الصحيح تماما. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الإِمامة في الدين لا تنال بالشقاشق وكثرة الخطب والكلام ولا بالتفكير العصري والثقافة الغربية, ولا باتباع أهل الكلام المذموم, ولا بتأويل الآيات القرآنية على غير تأويلها وحملها على غير محاملها وما يراد بها, ولا بالطعن في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبها وردها, ولا بالتوفيق بين العلوم الشرعية وأقوال فلاسفة المسلمين وملاحدة

الإِفرنج, ولا بدعوى الأتباع في متبوعهم أنه إمام, ولا بترضيهم عنه كما يترضى أهل السنة والجماعة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين, وإنما تنال بالتمسك بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان وبالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر واليقين, فمن كان بهذه الصفة استحق الإِمامة وإلا فلا, قال الله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). وكذلك قول بعض الناس فلان سلفي وهو على خلاف ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان فمثل هذا لا يستحق أن يقال إنه سلفي لأن هذا اللقب لا يطابق حاله فيكون تلقيبه بذلك من قول الزور. وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن تلقيب محمد عبده بالإِمام والسلفي لا يطابق حاله لأنه متصف بجميع ما تقدم ذكره من الصفات التي تخالف ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان, والشاهد على ذلك ما يوجد في كتبه ومقالاته وما ينقله عنه أتباعه في كتبهم, ولولا إيثار الاختصار لذكرت من ذلك شيئا كثيراً, ويكفي من ذلك تصريحه بالقول بخلق القرآن في رسالته التي سماها رسالة التوحيد, وما أعظم ذلك وأشنعه. وقد قال الشيخ عبد الله بن علي بن يابس في رده على محمود شلتوت صفحة 149 بعد ذكره لمحمد عبده, قال الوجه الثاني أنه حرف آية البقرة وهي قوله تعالى (فرجل وامرأتان) وقصرها على الاستيثاق محتجا بقول رجل رضع من ثدي باريس وعب من فلسفة الرازي والغزالي وصاحب المواقف وقل نصيبه في علوم الدين فإِذا ذهب يكتب فيه جاء بأقوال ممزوجة بشبه ملاحدة الغرب وفلاسفة الإِسلام, وذلك الرجل هو محمد عبده انتهى. فلينظر إلى قول هذا العالم الجليل الذي درس حال محمد عبده وعرفه حق المعرفة. الوجه الثاني أن يقال إن خطر الطعن في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وردها واطراحها ليس بدون الخطر في وضع الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم, فالوضاعون يزيدون في الأحاديث والمكذبون للأحاديث الصحيحة

رمي المؤلف علماء الحديث بالسلبية والرد عليه

ينقصون منها وكلا الأمرين شديد الخطر على الدين, وقد جاء الوعيد الشديد لمن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمداً, وجاء التشديد أيضا على رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعارضتها بالقرآن, وقد تقدم ذكر الأحاديث في ذلك في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (¬1). الوجه الثالث أن المؤلف رمى علماء الحديث بالسلبية التي معناها السكوت عن إنكار تثبيت الأحاديث الموضوعة في المراجع من كتب الحديث ومعاملتها في تلك المراجع معاملة الأحاديث الصحيحة, وهذا إنما يكون من أحد شيئين إما الغباوة والتغفيل من المخرجين ومن العلماء الذين أقروهم وسكتوا عنهم, وإما قلة العناية والاهتمام بالسنن وإقرار ما يلصق بها من الأحاديث الموضوعة, والجواب عن هذه الفرية أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) فليس في الصحيحين ولا في غيرهما من أمهات الكتب شيء من الأحاديث الموضوعة. وقد أعطى الله تعالى كبار المحدثين من النباهة والذكاء والفطنة ما فاقوا به كثيراً من الناس, فلا تخفى عليهم أحاديث الكذابين والوضاعين ولا تروج عليهم, وأعطاهم الله من العناية والاهتمام بالأحاديث وتمييز الصحيح من الضعيف والواهي والموضوع وبيان الكذابين والوضاعين والتحذير منهم ما هو معلوم عند أهل العقول السليمة والعدل والإنصاف, وإنما السلبية كل السلبية في تلامذة الإفرنج من العصريين ومن يقلدهم من الأغبياء المغفلين الذين لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والأحاديث الموضوعة, ومنهم المؤلف وأبو رية وأشباههما من أعداء السنة وحملتها, فهؤلاء يخطبون خبط عشواء فيصححون الأحاديث الضعيفة والموضوعة ويعتمدون عليها إذا كانت موافقة لآرائهم أو آراء من يعظمونه من شيوخهم وغير شيوخهم من المسلمين وغير المسلمين, ويطعنون في الأحاديث الصحيحة ويزعمون أنها من الدس الإِسرائيلي إذا كانت مخالفة لآرائهم أو آراء من يعظمونه من شيوخهم وغير شيوخهم من المسلمين وغير المسلمين, فهؤلاء يدورون مع الأهواء حيثما دارت بهم وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين). ¬

(¬1) ص: 5 - 7.

طعن المستشرقين في الإسلام وتشكيكهم في السنة والرد عليهم وعلى المؤلف

فصل وقال المؤلف في صفحة (37) ما نصه: قال المرتضى اليماني في كتابه إيثار الحق إن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإِسلام إنما يرجع إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما الزيادة في الدين أو النقص منه. ومن أنواع الزيادة في الدين الكذب على رسول الله - ص -. والجوب أن يقال إن المؤلف أورد هذا الكلام يحسب أنه يؤيد أقواله الباطلة في معارضة الأحاديث الصحيحة, وهو ينعكس بالرد عليه وإلحاقه بالمبتدعين الذين ينتقصون من الدين بتكذيبهم للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فالمؤلف معول من معاول هدم الدين, وهو مع الوضاعين في طرفي نقيض. فالوضاعون يزيدون في الأحاديث بالكذب, والمؤلف وأشباهه ينتقصون من الأحاديث الصحيحة بالكذب وكلا الطائفتين على شفا هلكة. فصل وفي صفحة (37) و (38) و (39) نقل المؤلف كلاما طويلا عن دائرة المعارف المصرية وقد أخذه من هامش كتاب أبي رية صفحة (119) و (120) وهو من كلام المستشرقين أعداء الإِسلام والمسلمين أرادوا به الطعن في دين الإِسلام وتشكيك المسلمين في سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومما ذكروا فيه أن الرواة استباحوا لأنفسهم اختراع أحاديث تتضمن القول أو الفعل ونسبوها إلى النبي - ص - لكي تتفق وآراء العصر الثاني وأنها قد كثرت الأحاديث الموضوعة المتناقضة أشد التناقض في سنة محمد - ص - إلى آخر كلامه الذي هو غاية في التلبيس والتشكيك, ثم قال المؤلف بعده ونقول تعقيبا على ذلك إنه لمن أكبر وأعظم أسباب الأسى والأسف أن يعلم أولئك المستشرقون من أمر المسلمين والإِسلام ما لا يعلمه كثير من أهله, ولا شك أن الواجب يقضي ويفرض علينا تبرئة النبي - ص - مما قاله المستشرقون, ويفرض علينا أيضا تطهير سنة النبي - ص - من الأحاديث الموضوعة والتي وضعت في فترة الفتنة وغيرها في فرصة النفاذ إلى الأحاديث الصحيحة وفي فرصة الوصول إلى صفحات الكتب الشهيرة سواء كان وضع الحديث قد تم بحسن قصد من بعض السذج من المسلمين أم بسوء قصد من الكتابيين أو المنافقين.

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال مثل الذي ينقل كلام المستشرقين في طعنهم في السنة ويرضى به كمثل الذي ذهب إلى غنم ليأخذ شاة يأكلها فوقع اختياره على كلب الغنم فأخذه وقد قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) وقال تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) الآية. الوجه الثاني أن يقال ما زعمه أعداء الله تعالى من أن الرواة استباحوا لأنفسهم اختراع الأحاديث وأن الأحاديث الموضوعة المتناقضة أشد التناقض قد كثرت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إفك مفترى وزور وبهتان, فإِن الرواة الأثبات الذين خرج لهم أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد المشهورة ليسوا من الوضاعين وإنما هم أعداء الوضاعين في الحقيقة, وقد قام أكابر الأئمة منهم بتمييز الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة وجدوا واجتهدوا في ذلك واعتنوا به أشد الاعتناء وبينوا أسماء الكذابين والوضاعين وتركوا الأمر واضحا جليلا لا لبس فيه فجزاهم الله عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء, وهذا مما يتجاهله المستشرقون ويتعامون عنه, وكذلك المقلدون لهم من العصريين. الوجه الثالث أن يقال إن الله تعالى قد حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من التناقض ومن امتزاج الأحاديث الموضوعة بها. فالأحاديث الصحيحة معروفة عند علماء المسلمين وعليها المعول عندهم والأحاديث الموضوعة معروفة عندهم وقد اجتنبوها وحذروا الناس منها, فمن زعم غير ذلك فقوله باطل مردود عليه. الوجه الرابع أن يقال ما ألصقه المستشرقون بالسنة وأهلها فكله باطل أرادوا به التلبيس والتشكيك في دين الإِسلام وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن الغباوة والجهل المزري بصاحبه تصديق المستشرقين في هذيانهم وأكاذيبهم على الإِسلام وأهله, ومن أقبح الغباوة والجهل أيضا زعم المؤلف تقليداً لأبي رية أن المستشرقين يعلمون من أمر المسلمين والإِسلام ما لا يعلمه كثير من أهله, والواقع في الحقيقة أن المستشرقين يخبطون خبط عشواء في كتاباتهم عن الإِسلام والمسلمين, وكثيراً ما ينكرون الحقائق ويصدقون بالأكاذيب ويعتمدون عليها, وكثير من ضعفاء

حديث موضوع في ذم الشافعي

البصيرة من العصريين يعتمدون على كتاباتهم وهي مما لا يعتمد عليه. الوجه الخامس أن يقال إذا كان المؤلف لا يشك أن الواجب يقضي ويفرض عليه تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما قاله المستشرقون ويفرض عليه تطهير سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الموضوعة, فما باله يعكس الأمر فيمدح المستشرقين ويزعم أن عندهم من العلم بالإِسلام والمسلمين ما ليس عند كثير من المسلمين, وما باله يحمل أقبح الحمل على بعض الأحاديث الصحيحة فيطعن فيها ويردها بمجرد الهوى ويعرض عن الأحاديث الموضوعة فلا يذكرها ولا يطعن في شيء منها. وربما أورد منها في بعض المواضع ما يوافق هواه فيصححه ويعتمد عليه, فهل هذا هو المفروض عليه؟ وهل في أفعاله السيئة تطهير لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب أن يقال إن المؤلف قد نبذ المفروض عليه وراء ظهره وأتى بما يخالفه, ويقال أيضا إنه يجب تطهير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ألصقه بها المؤلف وأبو رية وأشباههما من أهل الإِلحاد والشك والتشكيك, ويجب أيضا تنزيه الصحيحين وغيرهما من الكتب الشهيرة عند المسلمين كالسنن والمسانيد المشهورة مما زعمه المؤلف من وصول الموضوعات إلى صفحاتها, ويجب أيضا تنزيه الثقات الأثبات الذين جمعوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنوا بتنقيتها من الأحاديث الموضوعة مما رماهم به المؤلف من السذاجة التي معناها الغباوة والتغفيل, ولا شك أن المؤلف وأبا رية وأشباههما من الذين يصغون إلى أكاذيب المستشرقين ويغترون بما ينشرونه من زخرف القول أولى بوصف السذاجة والغباوة والتغفيل. فصل وقال المؤلف في صفحة (40) و (41) ما ملخصه: الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه - إلى أن قال - وليت أسباب الوضع لنصرة المذاهب محصورة في المبتدعة وأصل المذاهب في الأصول, بل من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه, وإليك حديثا واحداً وهو (يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس) ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي) , وهنا اضطرت الشافعية إزاء ذلك إلى أن يرووا في إمامهم حديثا يفضلونه على كل إمام. وهذا نصه: قال رسول الله - ص - (أكرموا قريشا فإِن عالمها يملأ طباق

حديث ضعيف أو موضوع في ذكر عالم قريش

الأرض علما) , وأنصار الإِمام مالك لم يلبثوا أن وضعوا في إمامهم هذا الحديث ونصه (يخرج الناس من المشرق إلى المغرب فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة) يعني مالك. والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وهو من الأباطيل المردودة على قائلها, فأما قوله إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه. فجوابه أن يقال إنما يعرف وضع الأحاديث عن الزنادقة وأهل البدع وهؤلاء ليسوا من أهل السنة وإن انتسبوا إلى بعض المذاهب, فأما المتمسكون بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان فليسوا ممن يضع الحديث, وهم أهل السنة على الحقيقة, وقد يقع الوضع من بعض الجهال المنتسبين إلى السنة ومن المغفلين وهم الذين يقبلون التلقين وممن اختلطت عقولهم فخلطوا في الرواية وممن لا حفظ لهم ولا تمييز فيحدثون من حفظهم فيغلطون, هؤلاء وإن انتسبوا إلى السنة فلا عبرة بهم لأن وجودهم في أهل السنة كعدمهم. وأما حديث (يكون في أمتي رجل يقال له محمد ابن إدريس) إلى آخره فقد رواه مأمون بن أحمد السلمي عن أحمد بن عبد الله الجويباري وكل منهما دجال معروف بكثرة الوضع, قال ابن الجوزي بعد إيراده لهذا الحديث في كتابه «الموضوعات» هذا حديث موضوع لعن الله واضعه. وهذه اللعنة لا تفوت أحد الرجلين وهما مأمون والجويباري. وكلاهما لا دين له ولا خير فيه كانا يضعان الحديث. قال ابن حبان كان مأمون دجالا من الدجالين حدث عمن لم يره وكان الجويباري كذاباً دجالاً يضع على الذين يروي عنهم ما لم يحدثوه لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الجرح فيه. وذكر هذا الحديث أبو عبد الله الحاكم في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل فقال قيل لمأمون بن أحمد ألا ترى إلى الشافعي وإلى من تبع له بخراسان فقال حدثنا أحمد بن عبد الله فذكر الحديث فبان بهذا أن الواضع له مأمون الذي ليس بمأمون انتهى كلام ابن الجوزي. وأما قول المؤلف تقليداً لأبي رية. وهنا اضطرت الشافعية إزاء ذلك إلى أن يرووا في إمامهم حديثا يفضلونه على كل إمام. وهذا نصه. قال رسول الله - ص - (أكرموا قريشا فإِن عالمها يملأ طباق الأرض علما).

حديث صحيح في ذكر عالم المدينة والرد على المؤلف في زعمه أنه موضوع

فجوابه من وجوه أحدها أن يقال هذا الحديث لم يروه أحد من الشافعية وإنما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا جعفر بن سليمان عن النضر بن معبد الكندي أو العبدي عن الجارود عن أبي الأحوص عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا قريشا فإِن عالمها يملأ طباق الأرض علما» الحديث. وأبو داود الطيالسي ليس هو من الشافعية وإنما هو من أقران الشافعي ومات هو والشافعي في سنة أربع ومائتين من الهجرة. وكان أكبر من الشافعي بسبع عشرة سنة. وإذا علم هذا فلا يخفى كذب المؤلف في قوله تبعا لأبي رية إن الشافعية هم الذين رووا هذا الحديث في إمامهم يفضلونه على كل إمام. الوجه الثاني أن يقال إن أبا رية قد حرف أول الحديث حيث قال فيه. أكرموا قريشا. والذي في الحديث «لا تسبوا قريشا» وقد تبعه المؤلف على التحريف لغباوته وجهله. الوجه الثالث أن يقال إن الحديث ضعيف جداً لأن في إسناده النضر بن معبد, وسماه الذهبي في الميزان النضر بن حميد وقال قال أبو حاتم متروك الحديث وقال البخاري منكر الحديث, ثم أورد الذهبي هذا الحديث من روايته, وفيه أيضا الجارود وقال الذهبي في الميزان أبو الجارود وهو زيد بن المنذر قال ابن معين كذاب وقال النسائي وغيره متروك وقال ابن حبان كان رافضيا يضع الحديث في الفضائل والمثالب وقال الدارقطني إنما هو منذر بن زياد متروك, وفيه أيضا أبو الأحوص قال الذهبي في الميزان قال يحيى بن معين ليس بشيء وحسن الترمذي حديثه. فإِن قلنا إن الحديث موضوع فآفته من النضر بن حميد أو من أبي الجارود وكلاهما كان قبل الشافعي بزمان. وإذا علم هذا فمن أقبح الجهل قول المؤلف إن الشافعية هم الذين رووا هذا الحديث في إمامهم يفضلونه به على كل إمام. وهذا كلام لا يقوله عاقل وإنما يقوله من يهرف بما لا يعرف, وهل يقول عاقل إن النضر بن حميد وأبا الجارود كانا من الشافعية مع كونهما قبل زمان الشافعي بزمان؟! الوجه الرابع أن يقال لو فرضنا أن الحديث صحيح فليس فيه تصريح باسم

الشافعي ولا غيره من أكابر العلماء القرشيين فيحتمل أن يكون المراد به الشافعي ويحتمل أن يكون المراد به غيره كالزهري فإِنه قد نشر عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيراً وكان أول من دون الحديث, وقد ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني أنه قال هو الشافعي, وذكر أيضا في موضع آخر من «البداية والنهاية» عن عبد الملك بن محمد الاسفراييني أنه قال لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي حكاه الخطيب انتهى, ولا شك أن الشافعي قد ملأ طباق الأرض علما فلو كان الحديث صحيحا لم يبعد أن يكون هو المراد به والله أعلم. وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية إن أنصار الإِمام مالك لم يلبثوا أن وضعوا في إمامهم هذا الحديث ونصه (يخرج الناس من المشرق إلى المغرب فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة) يعني مالك. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال هذا الحديث لم يروه أحد من المالكية وإنما رواه الإِمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإِبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» هذا لفظ الحاكم, ولفظ الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه رواية. «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإِبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة» قال الترمذي هذا حديث حسن. وفي نسخة حسن صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه, وبوب عليه الترمذي بقوله «باب ما جاء في عالم المدينة» وبوب عليه الهيثمي في «موارد الظمآن» إلى زوائد ابن حبان» بقوله: «باب في عالم المدينة». وإذا علم هذا فمن الزور والبهتان قول المؤلف تبعا لأبي رية إن أنصار الإِمام مالك هم الذين وضعوا هذا الحديث في إمامهم, ومن أكبر الخطأ زعم المؤلف وأبي رية إن هذا الحديث موضوع مع أنه حديث صحيح كما تقدم بيانه. الوجه الثاني أن يقال إن أبا رية قد حرف لفظ الحديث وهذا من قلة أمانته أو عدمها وقد تبعه المؤلف على التحريف لغباوته وجهله, وقد تقدم لفظ الحديث فليقارن بينه وبين ما أورده المؤلف, ومن عجيب أمر المؤلف وأبي رية أنهما قد أنكرا

الرد على ما توهمه المؤلف على العلماء في العمل بالحديث الضعيف وذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك

رواية الحديث بالمعنى وأكثرا من القول في ذلك, وها هما قد نقلا ما تقدم ذكره في هذا الفصل بالمعنى وغيرا لفظ الحديثين وحرفا فيهما فهلا بدأ كل منهما بنفسه فنقل الأحاديث على ما هي عليه ولم يغير فيها.؟! الوجه الثالث قال الترمذي بعد إيراد الحديث وقد روي عن ابن عينية أنه قال في هذا سئل من عالم المدينة؟ فقال إنه مالك بن أنس, وقال إسحاق بن موسى سمعت ابن عينية يقول هو العمري عبد العزيز بن عبد الله الزاهد, وسمعت يحيى بن موسى يقول قال عبد الرزاق هو مالك بن أنس. والعمري هو عبد العزيز بن عبد الله من ولد عمر بن الخطاب انتهى كلام الترمذي. والصحيح أن اسم العمري عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله كما جاء ذلك في رواية الخطيب لهذا الحديث فعنده قال أبو موسى يعني إسحاق بن موسى الأنصاري شيخ الترمذي - فقلت لسفيان أكان ابن جريح يقول نرى أنه مالك بن أنس؟ فقال إنما العالم من يخشى الله ولا نعلم أحداً كان أخشى لله من العمري يعني عبد الله بن عبد العزيز العمري انتهى, وليس في الحديث تصريح باسم مالك ولا غيره فيحتمل أن يكون مالك هو المراد به ويحتمل أن يكون المراد به غيره من أكابر العلماء ممن كان في زمان مالك أو قبل زمانه أو بعده بزمان يسير أو أزمان, ويحتمل أن يكون ذلك في آخر الزمان حين يأرز الإِيمان إلى المدينة والله أعلم. فصل وقال المؤلف في صفحة (41) ما نصه: ولا شك أن المبالغة في شدة الترهيب وزيادة الترغيب سهلت على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة, ومن ذلك قول العلماء إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال, وعجيب أن تقوم فضائل الأعمال على ضعيف الحديث. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال قد تقدم الكلام في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال (¬1) وأنه لا يعمل به بانفراده بل يعتبر به ويعتضد به مع غيره وأنه لا يجوز إثبات حكم شرعي به لا استحباب ولا غيره لكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإِن ذلك ينفع ¬

(¬1) تقدم في ص: 173 - 174.

ذكر بعض الوضاعين

ولا يضر وأن العمل بالضعيف إنما يشرع في عمل قد علم أنه مشروع في الجملة. أما إثبات سنة فلا, هذا كلام شيخ الإِسلام أبي العباس ابن تيمية وغيره من أكابر العلماء في العمل بالحديث الضعيف وبه يرد على المؤلف فيما توهمه على العلماء أنهم يقولون إن فضائل الأعمال تقوم على ضعيف الحديث. الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف أبدى عجبه مما توهمه على العلماء الذين قالوا إنه يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال, وأعجب من ذلك تشكيك المؤلف في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وطعنه فيها بغير حجة وتهجمه على صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد القرآن ومخالفته لإِجماع المسلمين على صحة ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وقبوله والعمل به, ولا شك أن هذا من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين فالإِقدام على هذه الأعمال من رجل ينتسب إلى الإِسلام من أعجب العجب. فصل وقال المؤلف في صفحة (43) ما ملخصه: كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به فأهدي إليه حمام وعنده أبو البختري قاضي المدينة فقال للرشيد روي عن النبي - ص - أنه قال (لا سبق إلا في زحف أو حافز أو جناح) فزاد جناح وهي لفظ وضعها للرشيد خاصة فأعطاه جائزة سنية ولما خرج قال الرشيد والله قد علمت أنه كذاب وأمر بالحمام أن يذبح فقيل وما ذنب الحمام قال من أجله كذب على رسول الله. والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد حرف فيه فقال «في زحف أو حافز» وصوابه في «خف أو حافر» وقال «وهي لفظ» وصوابه «وهي لفظة» وقد وهم أبو رية حيث زعم أن أبا البختري هو الذي وضع الزيادة في هذا الحديث للرشيد, وقد تبع المؤلف أبا رية على الوهم لغباوته وجهله. والصواب أن الذي وضع الزيادة في هذا الحديث غياث بن إبراهيم النخعي وضعها للمهدي لا للرشيد, قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» القسم الخامس قوم كان يعرض لهم غرض فيضعون الحديث, فمنهم من قصد بذلك التقرب إلى السلطان بنصرة غرض كان له كغياث بن إبراهيم فإِنه حين أدخل على المهدي وكان المهدي يحب الحمام إذا قدامه حمام فقيل له حدث أمير المؤمنين فقال حدثنا

فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح» فأمر له المهدي ببدرة فلما قام قال أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المهدي أنا حملته على ذلك ثم أمر بذبح الحمام ورفض ما كان فيه. قال الذهبي في الميزان غياث بن إبراهيم النخعي عن الأعمش وغيره قال أحمد ترك الناس حديثه, وروى عباس عن يحيى ليس بثقة وقال الجوزجاني كان فيما سمعت غير واحد يقول يضع الحديث وقال البخاري تركوه انتهى وقال ابن حجر في لسان الميزان قال الآجري سألت أبا داود فقال كذاب. وقال مرة ليس بثقة ولا مأمون وقال يحيى بن معين مرة كذاب خبيث وقال الساجي تركوه وقال صالح جزرة كان يضع الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم متروك الحديث وقال النسائي ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال ابن عدي بين الأمر في الضعف وأحاديثه كلها شبه الموضوع انتهى. وأما قصة أبي البختري مع الرشيد فقد ذكرها ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» من طريق زكريا بن يحيى الساجي قال بلغني أن أبا البختري دخل على الرشيد - وهو قاض - وهارون إذ ذاك يطير الحمام فقال هل تحفظ في هذا شيئا فقال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطير الحمام» فقال هارون اخرج عني ثم قال لولا أنه رجل من قريش لعزلته. قال ابن الجوزي هذا الحديث من عمل أبي البختري واسمه وهب بن وهب كان من كبار الوضاعين انتهى. وقال الذهبي في الميزان وهب بن وهب القاضي أبو البختري القرشي المدني ولي قضاء عسكر المهدي ثم قضاء المدينة متهم في الحديث قال يحيى بن معين كان يكذب عدو الله. وقال عثمان بن أبي شيبة أرى أنه يبعث يوم القيامة دجالا وقال أحد كان يضع الحديث وضعا فيما نرى انتهى. وقال ابن حجر في لسان الميزان قال أحمد بن حنبل هو أكذب الناس وكذا قال إسحاق بن راهويه وكان وكيع يرميه بالكذب وكذبه حفص بن غياث وقال شعيب بن إسحاق كذاب هذه الأمة أبو البختري وذكر آخر وقال ابن الجارود كذاب خبيث كان عامة الليل يضع الحديث وقال أبو طالب عن أحمد ما أشك في كذبه وأنه يضع الحديث واتهمه مالك بن أنس

الرد على تلبيس المؤلف تبعا لأبي رية في خلط الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة وجعلها من باب واحد

وقال النسائي في التمييز ليس بثقة ولا يكتب حديثه كذاب خبيث. وقال الحاكم روى عن جعفر وهشام الموضوعات. وذكره العقيلي في الضعفاء وقال لا أعلم له حديثا مستقيما كلها بواطيل. وقال ابن عدي بعد أن ساق له أحاديث وهذه بواطيل وأبو البختري من الكذابين الوضاعين وكان يجمع في كل حديث يرويه أسانيد من جسارته على الكذب ووضعه على الثقات انتهى. فصل وقال المؤلف في صفحة (43) ما نصه مما وضعته البكرية ثم ذكر ثلاثة أحاديث من الموضوعات في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم قال في صفحة (44) وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر أن النبي - ص - قال «إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحيي من الله ورسوله» وفي حديث البخاري أن رسول الله قال «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وفي حديث أن صورتها قد جاءت النبي في سرقة من حرير مع جبريل وقال له هذه زوجتك في الدنيا والآخرة» وفي حديث آخر «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» وفي رواية «خذوا شطر دينكم» وأخرج الترمذي أن النبي - ص - قال لمعاوية «اللهم اجعله هاديا مهديا» وفي حديث آخر أن النبي قال «اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب» هناك زيادة في الحديث «وأدخله الجنة» وعلى كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث لا أصل لها فإِن إسحاق بن راهويه وهو الإِمام الكبير وشيخ البخاري قد قال إنه لم يصح في فضائل معاوية شيء. والجواب أن يقال ما ذكر في هذا الفصل فهو مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وظلماته, ويظهر من صنيع أبي رية حيث ذكر الأحاديث الموضوعة في فضل أبي بكر رضي الله عنه وما جاء في عثمان ومعاوية رضي الله عنهم ولم يتعرض للأحاديث الموضوعة في فضل علي رضي الله عنه مع أنها أكثر مما جاء من الموضوعات في فضائل غيره من الصحابة أنه قد تأثر بالرافضة ومال إليهم فلهذا أعرض عما وضعته الرافضة في فضائل علي رضي الله عنه. وأما المؤلف فإِنما هو مقلد لأبي رية ينقل من كتابه ويعتمد على أقواله الباطلة وليس عنده تمييز بين الغث والسمين من أقوال أبي رية وما ينقله من كلام غيره وما يذكره من الأحاديث, وما أشبه المؤلف بالذين قال الله

تعالى فيهم (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). ولما كان أبو رية حريصا على التلبيس والتشكيك في الأحاديث الصحيحة جمع في هذا الموضع بين الأحاديث الصحيحة والأحاديث الضعيفة والأحاديث الموضوعة وجعلها كلها من الموضوعات, وهذا من مجازفته وتحامله على الأحاديث الصحيحة وإبراز ما يكنه لها من العداوة. فأما الأحاديث الثلاثة في فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد أشرت إليها وذكرت أنها موضوعة. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله» فهو حديث ضعيف وليس بموضوع ولم أر أحداً ذكره في الموضوعات, وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه أبو يعلى والطبراني وفيه إبراهيم بن عمر بن أبان وهو ضعيف, وأورده ابن كثير في «البداية والنهاية» من رواية الطبراني وقال هذا حديث غريب وفي سنده ضعف. قلت أما أول الحديث وهو قوله «إن الملائكة لتستحي من عثمان» فهو ثابت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» وقد رواه الإِمام أحمد بنحوه وإسناده صحيح. وعن حفصة رضي الله عنها نحوه رواه الإِمام أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى قال الهيثمي وإسناده حسن. وأما قوله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» فهو ثابت في الصحيحين وجامع الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, ومن حديث أبي موسى رضي الله عنه, وقد رواه النسائي من حديث

أبي موسى رضي الله عنه ومن حديث عائشة رضي الله عنها وإسناد كل منهما جيد. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» رواه الطبراني قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه. وعن مصعب بن سعد عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن عائشة تفضل على النساء كما يفضل الثريد على سائر الطعام» رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح. وعن قرة بن إياس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» رواه الطبراني قال الهيثمي وإسناده حسن. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من أنكر فضل عائشة رضي الله عنها على النساء. ومن زعم أن هذه الأحاديث موضوعة فلا شك أنه مكابر معاند. وأما الحديث الذي فيه أن صورة عائشة رضي الله عنها جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير مع جبريل وقال له هذه زوجتك في الدنيا والآخرة فقد رواه الترمذي من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها «أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وقد رواه البخاري ومسلم من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك فاكشف عن وجهك فإِذا أنت هي فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه» هذا لفظ مسلم. قال النووي على قوله «سرقة من حرير» هي فتح السين المهملة والراء وهي الشقق البيض من الحرير قاله أبو عبيد وغيره. وقال ابن الأثير في جامع الأصول هي الشقق البيض من الحرير خاصة. وفي هذا الحديث المتفق على صحته أبلغ رد على المؤلف وأبي رية حيث أدخلاه مع الموضوعات وزعما أنه منها وتلك مكابرة منهما واستهانة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» وفي رواية «خذوا شطر دينكم» فهو حديث لا أصل له, قال ابن كثير في «البداية والنهاية» فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء» فإِنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شيء من أصول الإِسلام, وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال لا أصل له انتهى. وقال علي القاري في «الأسرار المرفوعة» حديث «خذوا شطر دينكم عن الحميراء» قال العسقلاني لا أعرف له إسناداً ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرجه. وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل المزي والذهبي فلم يعرفاه. وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في «تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب» هو حديث غريب جداً بل هو حديث منكر سألت عنه شيخنا الحافظ المزي فلم يعرفه وقال لم أقف له على سند إلى الآن. وقال شيخنا الذهبي هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها إسناد انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» هو كذب مختلق. وأما ما أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية «اللهم اجعله هاديا مهديا» فقد رواه الإِمام أحمد والترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة الأزدي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله أنه ذكر معاوية وقال «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب, وروى الترمذي أيضا عن أبي إدريس الخولاني قال لما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عن حمص ولى معاوية فقال الناس عزل عميراً وولى معاوية فقال عمير لا تذكروا معاوية إلا بخير فإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم اهد به» قال الترمذي هذا حديث غريب. وإذا كان الترمذي قد حسن حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة رضي الله عنه فمن الخطأ إلحاقه بالموضوعات كما فعل ذلك المؤلف وأبو رية. وأما الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق معاوية «اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب» فقد رواه الإِمام أحمد والبزار والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال سمعت

كلام المؤلف تبعا لأبي رية في أحاديث فضائل الشام وزعم المؤلف أنها قيلت إرضاء لبني أمية, والرد عليه

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب» قال الهيثمي فيه الحارث بن زياد ولم أجد من وثقه ولم يرو عنه غير يونس بن سيف وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف, وروى الطبراني أيضا من طريق جبلة بن عطية عن مسلمة بن مخلد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, قال الهيثمي وجبلة لم يسمع من مسلمة فهو مرسل ورجاله وثقوا وفيهم خلاف. وإذا كان ابن حبان قد صحح حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه فمن الخطأ إلحاقه بالموضوعات. وأما قول إسحاق بن راهويه إنه لم يصح في فضائل معاوية شيء فجوابه أن يقال قد حسن الترمذي حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة في ذلك وصحح ابن حبان حديث العرباض بن سارية في ذلك. وفي هذين الحديثين ما يستأنس به في إثبات الفضيلة لمعاوية رضي الله عنه, وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس فأتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال دعه فإِنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي رواية له عن ابن أبي مليكة قال قيل لابن عباس رضي الله عنهما هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإِنه ما أوتر إلا بواحدة قال إنه فقيه. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ظاهر شهادة ابن عباس رضي الله عنهما له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير انتهى. ومن فضائل معاوية رضي الله عنه أنه كان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيان ذلك في آخر الفصل الثاني مما بعد هذا الفصل إن شاء الله تعالى. فصل وقال المؤلف في صفحة (44) و (45) ما نصه أما الأحاديث التي قيلت في حق الشام إرضاء لبني أمية فقد قالوا إنها أرض المحشر والأبدال ونزول عيسى, وروى أحمد والبغوي والطبراني وغيرهم عليكم بالشام فإِنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده وإن الله توكل بالشام وأهله, وفي حديث آخر الشام صفوة الله في بلاده يجتبي إليها صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه ومن دخلها من غيرها فبرحمته. وروى البيهقي في الدلائل

ذكر الآيات في فضل الشام وأنها أرض المحشر

عن أبي هريرة مرفوعا الخلافة بالمدينة والملك بالشام. وعن كعب الأحبار أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممن عصاه. ومن حديث ستفتح عليكم الشام فإِذا خيرتم فعليكم بمدينة يقال لها دمشق وهي حاضرة الأمويين فإِنها معقل المسلمين في الملاحم وفسطاطها منها بأرض يقال لها الغوطة. وقد جعلوا دمشق هذه هي الربوة في القرآن التي قال الله عنها (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) وذلك في حديث مرفوع, وقد جعلها أبو هريرة من مدائن الجنة في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا نصه أربع مدائن من مدائن الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وأما مدائن النار فالقسطنطينية وطبرية وأنطاكية وصنعاء, وإرضاء ليزيد بن معاوية أميرها في غزوها يجعلون القسطنطينية مرة أخرى ذات فضل كبير فيقولون حديثا عنها يقول (لتفتحن القسطنطينية فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش). والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال هذا الكلام قد نقله المؤلف من كتاب أبي رية ببعض زيادة وتصرف. ومن الزيادة قوله في الأحاديث التي جاءت في فضل الشام أنها قيلت إرضاء لبني أمية. وهذا خطأ كبير فإِن الأحاديث التي جاءت في فضل الشام ليست كلها موضوعة كما قد توهمه المؤلف, بل فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى, فأما الصحيح منها فلا شك في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الحسن فمقبول عند أهل العلم. وأما الضعيف فيقتصر على تضعيفه ولا يجوز الحكم عليه بالوضع بغير حجة. ويلزم على قول المؤلف أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ما قال في فضل الشام إرضاء لبني أمية, وما لزم عليه ذلك فهو قول سوء لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل ودين. الوجه الثاني أن يقال قد جاء في فضل الشام آيات من القرآن وأحاديث صحيحة. فمن الآيات قول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وقوله تعالى إخباراً عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم).

ذكر الأدلة من السنة على أن الشام أرض المحشر

وقوله تعالى (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) وقوله تعالى (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) وقوله تعالى (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) قال العلماء في تفسير الآيتين من سورة الأنبياء المراد بالأرض أرض الشام وقالوا في تفسير الآية من سورة سبأ المراد بالقرى قرى الشام. وإذا علم هذا فهل يقول المؤلف في هذه الآيات ما قاله في الأحاديث, أم ماذا يجيب به عن قوله الذي لم يتثبت فيه. وأما الأحاديث الواردة في فضل الشام فهي كثيرة ونقتصر منها على ما ذكره المؤلف وما أشار إليه في أرض المحشر والأبدال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام. فأما كون الشام أرض المحشر فهو ثابت بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله تعالى (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) الآية, وأهل الكتاب هم بنو النضير أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أذرعات من أرض الشام قال ابن عباس رضي الله عنهما «من شك أن أرض المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخرجوا» قالوا إلى أين قال «إلى أرض المحشر» رواه ابن أبي حاتم, وعن الحسن قال لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال «هذا أول الحشر وأنا على الأثر» رواه ابن جرير وابن حاتم, وقال الكلبي إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال مرة الهمداني كان أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر, وقال قتادة كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا. وأما الدليل من السنة فما رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول لهم «إنكم تحشرون إلى بيت المقدس ثم تجتمعون يوم القيامة» رواه البزار والطبراني قال الهيثمي وإسناد الطبراني حسن.

بيان أن أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة

وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذاكرون؟ قالوا نذكر الساعة قال «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات» الحديث وفيه «وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي حديث حسن صحيح. وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه رواه الطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ستخرج نار من حضرموت أو من نحو بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس» قالوا يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال «عليكم بالشام» رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي هذا الحديث دليل على أن أرض الشام هي أرض المحشر, وعن عمر رضي الله عنه أنه قال «تخرج من أودية بني علي نار تقبل من قبل اليمن تحشر الناس تسير إذا ساروا وتقيم إذا أقاموا حتى إنها لتحشر الجعلان حتى تنتهي إلى بصرى» رواه ابن أبي شيبة, وله حكم الرفع لأن فيه إخباراً عن أمر غيبي وذلك لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف, وبصرى من أرض الشام. وفيما ذكرته من الآيات والأحاديث أبلغ رد على من أنكر أن تكون الشام أرض المحشر, وفيها أيضا أبلغ رد على من زعم أن الأحاديث الواردة في ذلك إنما قيلت إرضاء لبني أمية. وأما الأبدال فقد جاء فيهم أحاديث كثيرة ولا يصح منها شيء, وقد روى الإِمام أحمد في مسنده حديثين منها أحدهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقال فيه أحمد هو منكر, والثاني عن علي رضي الله عنه وفية انقطاع, وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأقرب ما فيها «لا تسبوا أهل الشام فإِن فيهم البدلاء كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر» ذكره أحمد ولا يصح أيضا فإِنه منقطع انتهى.

الأحاديث في فضل الشام

وأما نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بأرض الشام فهو ثابت من حديث النواس بن سمعان وأوس بن أوس الثقفي ونافع بن كيسان عن أبيه, فأما حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وهو حديث طويل ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقال فيه «فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين» الحديث. قال الترمذي حديث غريب حسن صحيح. وأما حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه الطبراني ولفظه قال «ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق» قال الهيثمي رجاله ثقات. وأما حديث نافع بن كيسان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه البخاري في التأريخ الكبير ولفظه قال «ينزل عيسى بن مريم بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء» وذكر الحافظ ابن حجر في الإِصابة أن ابن السكن والطبراني وابن منده أخرجوه قال وكذا أخرجه الربعي في فضائل الشام وتمام في فوائده ورجاله ثقات قلت وقد ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب وذكر أن إسناده صالح. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من أنكر أن يكون نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بأرض الشام وعلى من زعم أن الأحاديث الواردة في ذلك إنما قيلت إرضاء لبني أمية. وأما الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والبغوي والطبراني وغيرهم «عليكم بالشام فإِنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده وإن الله توكل بالشام وأهله» فقد رواه أبو داود في سننه بإِسناد حسن عن ابن حوالة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق» قال ابن حوالة خرلي يا رسول الله إن أدركت ذلك فقال «عليك بالشام فإِنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم فإن الله توكل لي بالشام وأهله» وقد روى الطبراني بعضه بمعناه من طريقين قال الهيثمي ورجال أحدهما رجال الصحيح.

وروى الطبراني أيضا من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, قال الهيثمي ورجاله ثقات, وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا رواه الطبراني في الكبير من طريقين. قال الهيثمي وفيهما المغيرة بن زياد وفيه خلاف وبقية رجال أحد الطريقين رجال الصحيح. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا رواه البزار والطبراني قال الهيثمي وفيه سليمان بن عقبة وقد وثقه جماعة وفيه خلاف لا يضر وبقية رجاله ثقات. وإذا علم ما لحديث ابن حوالة من الشواهد الحسنة فمن الخطأ إلحاقه بالموضوعات كما قد توهم ذلك المؤلف تقليداً لأبي رية. وأما لحديث الآخر «الشام صفوة الله من بلاده يجتبي إليها صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيره فبسخطه ومن دخلها من غيرها فبرحمته» فهو حديث ضعيف رواه الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا قال الهيثمي وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف. وأما ما رواه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «الخلافة بالمدينة والملك بالشام» فهو حديث يشهد له الواقع وهو من أعلام النبوة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث سفينة رضي الله عنه, وفي رواية الترمذي «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك» قال الترمذي حديث حسن, وفي رواية ابن حبان «الخلافة ثلاثون سنة وسائرهم ملوك» وروى يعقوب بن سفيان من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, ورواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي بإِسناد حسن وفيه قصة لأبي بكرة رضي الله عنه مع معاوية رضي الله عنه وقد ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة, بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» في «باب ما جاء في خلافة النبوة» فلتراجع هناك. وقد كان الخلفاء الراشدون في المدينة وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم, وأما علي رضي الله عنه وهو رابع الخلفاء الراشدين فقد بويع له بالمدينة ثم سار

بعد ذلك إلى العراق ولم يزل فيه حتى قتل وكانت خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما نحوا من ستة أشهر وبذلك تمت خلافة النبوة ثلاثين سنة, ثم نزل الحسن رضي الله عنه عن الأمر لمعاوية رضي الله عنه وكان معاوية أول الملوك في الإِسلام وكان مقره بالشام وبذلك ظهر مصداق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبا. وأما ما ذكره المؤلف وأبو رية عن كعب الأحبار أنه قال «أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممن عصاه» فقد روي نحوه عن خريم بن فاتك الأسدي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده» الحديث رواه الطبراني مرفوعا والإِمام أحمد موقوفا على خريم قال الهيثمي ورجالهما ثقات. وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية, ومن حديث «ستفتح عليكم الشام فإِذا خيرتم فعليكم بمدينة يقال لها دمشق وهي حاضرة الأمويين فإِنها معقل المسلمين في الملاحم وفسطاطها منها بأرض يقال لها الغوطة». فجوابه أن يقال هذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد من حديث جبير بن نفير عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده ضعف. وله شاهد صحيح من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام» رواه الإِمام أحمد وأبو داود ورجالهما رجال الصحيح سوى زيد بن أرطأة وهو ثقة, وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال «يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ» قال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي على تصحيحه. وقد دلت رواية الحاكم على أن تفضيل السكنى بدمشق إنما يكون في آخر الزمان إذا وقعت الملاحم بين المسلمين والروم, والملاحم إنما تكون قبيل خروج الدجال كما جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة, بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» فلتراجع هناك في «باب ما جاء في الملحمة الكبرى».

وقد زاد أبو رية في أثناء حديث جبير بن نفير جملة من عنده وهي قوله «وهي حاضرة الأمويين» وقد نقلها المؤلف من كتاب أبي رية وأقرها, وهذه الجملة هي الموضوع في الحديث وما سواها من الحديث فليس بموضوع وإنما هو حديث ضعيف, وقد ذكرت ما يعضده ويقويه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه, وفي هذا رد على من زعم أنه من الموضوعات التي قيلت إرضاء لبني أمية. وقد نقص المؤلف كلمتين من أول الحديث فإِنه قال «فإِذا خيرتم فعليكم بمدينة يقال لها دمشق» وصوابه «فإِذا خيرتم المنازل فيها فعليكم بمدينة يقال لها دمشق». وقد كان المؤلف يشدد في الرواية بالمعنى خشية الزيادة والنقصان كما تقدم ذكر ذلك عنه في أثناء الكتاب, وهو مع هذا يزيد وينقص في حديث جبير بن نفير, فهلا بدأ بنفسه فنهاها عن غيها ومنعها مما كان ينكره على غيره, وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وأما قوله وقد جعلوا دمشق هذه هي الربوة في القرآن التي قال الله عنها (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) وذلك في حديث مرفوع. فجوابه أن يقال ليس في تعيين الربوة حديث مرفوع كما قد زعم ذلك المؤلف تقليداً لأبي رية. وإنما جاء في ذلك أقوال عن بعض الصحابة والتابعين, أحدها أنها دمشق رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحسن وزيد بن أسلم وخالد بن معدان ومقاتل. والثاني أنها غوطة دمشق قاله مجاهد والضحاك, والثالث أنها بيت المقدس رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال قتادة وكعب, وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) قال المعين الماء الجاري وهو النهر الذي قال الله تعالى (قد جعل ربك تحتك سريا) , والرابع أنها الرملة من أرض فلسطين قاله أبو هريرة رضي الله عنه, والخامس أنها مصر قاله وهب بن منبه وابن زيد وابن السائب, وقد رجح ابن كثير أنها بيت المقدس قال لأنه المذكور في الآية الأخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا وهذا أول ما يفسر به ثم الأحاديث ثم الآثار انتهى.

كذب المؤلف وأبي رية على أبي هريرة والرد عليهما

وأما قوله وقد جعلها أبو هريرة من مدائن الجنة في حديث رفعه إلى النبي - ص - هذا نصه «أربع مدائن من مدائن الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وأما مدائن النار فالقسطنطينية وطبرية وأنطاكية وصنعاء». فجوابه أن يقال هذا الحديث قد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وساقه من طريق الوليد بن محمد - وهو الموقري صاحب الزهري - عن الزهري عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. ثم قال ابن الجوزي هذا حديث لا أصل له قال أحمد بن حنبل الوليد ليس بشيء وقال يحيى كذاب, وذكر الذهبي عن أبي حاتم أنه قال ضعيف الحديث وقال ابن المديني لا يكتب حديثه وقال النسائي متروك الحديث وقال الذهبي مجمع على ضعفه وقال السيوطي الوليد كذاب, وكذا قال الشوكاني قال والحديث قد أورده ابن الجوزي في الموضوعات فأصاب انتهى. وقد أخطأ أبو رية خطأ كبيراً وأساء الأدب في كلامه حيث زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي جعل أربع مدائن من مدائن الجنة وأربعا من مدائن النار. وأخطأ المؤلف خطأ كبيراً حيث نقل كلام أبي رية وأقره. وإنما الذي قال في المدائن المذكورة ما قال هو الكذاب الذي وضع الحديث, وأما أبو هريرة رضي الله عنه فهو بريء من هذا الحديث وغيره من الأحاديث الموضوعة. ومن زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه قد وضع شيئا من الأحاديث فهو مفتر أفاك. وأما حديث «لتفتحن القسطنطينية فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش» فقد رواه الإِمام أحمد وابنه عبد الله والبزار وابن خزيمة والطبراني من حديث عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فذكره, قال الهيثمي ورجاله ثقات, ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وهذا الفتح إنما يكون في آخر الزمان بعد الملحمة الكبرى وقبل خروج الدجال بزمن يسير كما جاء ذلك في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه وقال الترمذي حديث حسن.

زعم المؤلف قاتله الله أن معاوية يضع الحديث والرد عليه

وإذا علم هذا فمن أكبر الخطأ والمجازفة زعم المؤلف أن هذ الحديث إنما قيل إرضاء ليزيد بن معاوية, وكذلك قول أبي رية ولعل هذا الحديث قد وضع من أجل يزيد بن معاوية, وهذا من استخفاف المؤلف وأبي رية بالأحاديث الصحيحة وجراءتهما على ردها واطراحها وإلحاقها بالموضوعات, نعوذ بالله من زيغ القلوب وانتكاسها. فصل وقال المؤلف في صفحة (45) ما نصه معاوية يضع نفسه, روى الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن 41 هـ خطب فقال أيها الناس إن رسول الله - ص - قال إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإِن فيها الابدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب (يعني علي بن أبي طالب) فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم وفيه, هو كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبيا وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيراً كاتبا فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه فقال الحاضرون صدقت (راجع ص 36 شرح نهج البلاغة) ولم يكن معاوية كاتب للوحي ولا خط لفظة واحدة من القرآن لأنه أسلم هو وأبوه عام الفتح سنة 8 هـ. والجواب أن يقال هذا الكلام قد نقله المؤلف من كتاب أبي رية الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض وزاد عليه قوله في أوله «معاوية يضع نفسه» وقوله في آخره «ولم يكن معاوية كاتبا للوحي إلى آخره». والكلام على هذه الأباطيل من وجوه أحدها أن يقال أما قول المؤلف إن معاوية نفسه يضع. فجوابه أن يقال (سبحانك هذا بهتان عظيم) والمؤلف لا يخلو في هذا البهتان من أحد أمرين إما أن يكون رافضيا أو قد تأثر بالرافضة ومال إلى أكاذبيهم وأقوالهم الباطلة في ذم معاوية رضي الله عنه والطعن فيه وفي غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن زعم أن معاوية رضي الله عنه قد وضع شيئا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب أفاك. وكذلك من زعم أن أحداً من الصحابة

زعمه أن معاوية لم يكن كاتبا للوحي والرد عليه

رضي الله عنهم قد وضع شيئا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب أفاك. الوجه الثاني أن يقال إن هذه الرواية كذب بلا شك وهي إما من وضع الواقدي فإِنه كان معروفا بالوضع, وإما من وضع ابن أبي الحديد وهذا هو الأقرب لأن ابن أبي الحديد رافضي غال في الرفض, والرافضة هم الذين كانوا يضعون الأحاديث في مدح علي رضي الله عنه وأهل بيته وذم معاوية رضي الله عنه وبني أمية. الوجه الثالث أن يقال إن معاوية رضي الله عنه منزه عن هذا الكلام الركيك السمج الذي لا يشبه كلامه ولا يليق بفصاحته وجزالة ألفاظه ورجاحة عقله, وإنما يليق بابن أبي الحديد وأمثاله من المولدين الذين قد عرفوا بركاكة الألفاظ وسماجتها وضعف العقول. الوجه الرابع أن يقال من عجيب أمر المؤلف أنه قد تصدى للطعن في الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه وزعم أنها من دسائس الإِسرائيليين, وهو مع هذا يعتمد على الأكاذيب الموضوعة بلا شك ويحتج بها كما فعل في هذا الموضع حيث اعتمد على هذه الرواية المكذوبة واحتج بها في الطعن على معاوية رضي الله عنه, وقد فعل مثل ذلك في مواضع تقدم ذكرها. وهذا يدل على أنه مصاب بزيغ القلب وانتكاسه بحيث كان يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق. وأما قوله ولم يكن معاوية كاتب للوحي ولا خط لفظة واحدة من القرآن لأنه أسلم هو وأبوه عام الفتح سنة 8 هـ. هكذا قال المؤلف كاتب وصوابه كاتبا ولكن المؤلف لغباوته وجهله لا يفرق بين المرفوع والمنصوب والمجرور, وقد تقدم له كثير من اللحن وقد نبهت على بعضه وكتبت بعضه على الصواب من غير تنبيه. والجواب عن قوله الخاطئ أن يقال قد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله ثلاث أعطنيهن قال «نعم» فذكر الحديث وفيه قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك قال «نعم».

الرد على أخطاء للمؤلف

وقد عده ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد ذكره مسلم بن الحجاج في كتابه عليه السلام, ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره ثم قال: فيه من المحفوظ تأمير أبي سفيان وتوليته معاوية منصب الكتابة بين يديه صلوات الله وسلامه عليه. وهذا قدر متفق عليه بين الناس قاطبة انتهى وقد ذكر ابن سعد في الطبقات عدة كتب كتبها معاوية رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وأرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض قبائل العرب. فصل وفي صفحة (47) ذكر المؤلف ستة أحاديث نقلها من كتاب أبي رية وزعم أنها وضعت إرضاء للعباسيين, وقد أخطأ المؤلف في حكمه على الجميع بالوضع لأن فيها حديثا صحيحا وحديثا حسنا وحديثين ضعيفين وحديثين موضوعين. فأما الحديث الصحيح فهو ما ذكره عن أبي هريرة «لا تقوم الساعة حتى يجيء قوم عراض الوجوه صغار العيون حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة». وهذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة» هذا لفظ البخاري في إحدى رواياته وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وأما الحديث الحسن فهو ما ذكره في قوله, وروى الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا للعباس بدعاء قال فيه «واجعل الخلافة باقية في عقبه». وهذا الحديث قد رواه الترمذي في مناقب العباس ولفظه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس «إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتى أدعو لكم بدعوة ينفعك الله بها وولدك» فغدا وغدونا معه فألبسنا كساء ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر

ذنبا اللهم احفظه في ولده» هذه رواية الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب, وزاد رزين «واجعل الخلافة باقية في عقبه». وهذه الزيادة منكرة والأحرى أنها موضوعة, قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» كل حديث في ذكر الخلافة في ولد العباس فهو كذب انتهى. وقد أخطأ المؤلف في نسبته الزيادة المنكرة إلى رواية الترمذي وهي ليست في روايته. وأما الحديثان قد رواه البيهقي وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن العامري قال ابن كثير وهو ضعيف. والحديث الثاني ذكره في قوله وقد امتد وضع الحديث إلى السفاح فقد روى أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال «يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح». وهذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له السفاح فيكون إعطاؤه المال حثوا» ورواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الصمد عن أبي عوانة عن الأعمش به وقال فيه «يخرج رجل من أهل بيتي يقال له السفاح» فذكره, قال ابن كثير وهذا الإِسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه. قلت في إسناده عطية العوفي والأكثرون على تضعيفه وقال ابن معين صالح وقال أبو زرعة لين وقال أبو حاتم ضعيف يكتب حديثه, وكذا قال ابن عدي وقال ابن سعد كان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة ومن الناس من لا يحتج به وقال أبو داود ليس بالذي يعتمد عليه وقال أبو بكر البزار روى عنه جلة الناس وقال ابن حجر في التقريب صدوق يخطئ كثيراً كان شيعيا مدلسا, وذكر الخزرجي في الخلاصة أن الترمذي حسن له أحاديث, وروى له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجه, وأما بقية رجال الحديث فكلهم ثقات من رجال الصحيح.

قال ابن كثير في «البداية والنهاية» في الكلام على حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأما السفاح فقد تقدم أنه يكون في آخر الزمان فيبعد أن يكون هو الذي بويع أول خلفاء بني العباس فقد يكون خليفة آخر. وهذا الظاهر وقد تكون صفة للمهدي الذي يظهر في آخر الزمان لكثرة ما يفسح. أي يريق من الدماء لإِقامة العدل ونشر القسط انتهى. قلت ومما يدل على أن المراد به المهدي الذي يكون في آخر الزمان قوله في رواية البيهقي «يخرج رجل من أهل بيتي» وقد جاء ذلك في عدة أحاديث من الأحاديث التي جاءت في ذكر المهدي, وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الأقربون ذرية فاطمة رضي الله عنها, وقد جاء في عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين وقال «اللهم هؤلاء أهل بيتي» وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب فلتراجع هناك. وقال أيضا في صفته «فيكون إعطاؤه المال حثوا» وهذه صفة المهدي كما جاء ذلك مصرحا به في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد والترمذي أن الرجل يقول يا مهدي أعطني فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل, وفي رواية لابن ماجه والحاكم أن المهدي يقول خذ, وفي رواية لأحمد أن خازن المهدي يقول احث, وفي رواية للطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه في ذكر المهدي قال «والمال كدوس يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني فيقول خذ» وقد ذكرت هذه الروايات مع غيرها من الأحاديث الواردة في المهدي في كتابي «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» فلتراجع هناك. وأما الحديثان الموضوعان فأحدهما ذكره في قوله, وروى الطبراني قال قال رسول الله - ص - «الخلافة في ولد عمي وصنو أبي حتى يسلموها للمسيح». وذكر الثاني في قوله, وعن ابن عباس «ليكونن الملك أو الخلافة في ولدي حتى يغلبهم على عزمهم الحمر الوجوه الذين كأن وجوههم المجان المطرقة». قوله «عزمهم» كذا هو في ظلمات المؤلف. وأما ظلمات أبي رية ففيها على «عزهم» وهو الصواب, وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» كل حديث في ذكر الخلافة في ولد العباس فهو كذب.

الكلام في حديث موضوع ذكره المؤلف

فصل وقال المؤلف في صفحة (47) ما نصه استندوا في وضع الحديث إلى ما أخرج الطحاوي في المشاكل عن أبي هريرة مرفوعا «إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أم لم أقله فإِني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني حديث تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإِني لا أقول ما ينكر ولا يعرف» وقال الحافظ ابن حجر هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإِسلام والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين فمن بعدهم وهذا إذا استحسنوا أمراً جعلوه حديثا وأشاعوه فربما سمع الرجل الشيء فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينا فيحمله من غيره ويجيء الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت (تحقيق الأستاذ أبو رية, ص 137 من أضواء على السنة) وكان خالد بن يزيد سمعت محمد بن سعد الدمشقي يقول إذا كان كلام حسن لم أر بأسا من أن أجعل له إسناداً (ص 32 جـ 1 النووي على مسلم). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال قد نقل المؤلف هذا الكلام من كتاب أبي رية وغير فيه وأخر ذكر ما يرتبط به كلام الحافظ ابن حجر وهو ما ذكره عن خالد بن يزيد, وترك قولا آخر مما يرتبط به كلام ابن حجر فلم ينقله وهو ما ذكره أبو رية بقوله وأخرج في الحلية عن ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعد أن تاب, إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإِنا كنا إذا هوينا أمراً صيرنا له حديثا, ثم ذكر أبو رية بعده كلام ابن حجر فظهرت بذلك فائدة كلام ابن حجر وارتبط كلامه بما جاء عن خالد بن يزيد وابن لهيعة. ومن تغييرات المؤلف قوله «أخرج الطحاوي في المشاكل» وصوابه «المشكل» وقوله «حديث تنكرونه» وصوابه «حديثا تنكرونه» وقوله «وهذا إذا استحسنوا» وصوابه «وهؤلاء إذا استحسنوا» وقوله «فيحمله من غيره» وصوابه «فيحمله عنه غيره» وقوله «تحقيق الأستاذ أبو رية» وصوابه «تحقيق الأستاذ أبي رية» وقوله «وكان خالد» وصوابه «وقال خالد» وقوله «محمد بن سعد» وصوابه «محمد بن سعيد» وهو المعروف بالمصلوب الدمشقي, قال أبو حاتم الرازي متروك الحديث قتل وصلب في الزندقة, وقال أحمد بن حنبل قتله أبو جعفر في الزندقة, حديثه موضوع, وكلامه الذي تقدم ذكره قد رواه عنه أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات, وروى

أبو الفرج أيضا ما تقدم ذكره عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول, فذكره. الوجه الثاني قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في الرد على قول أبي رية أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة رضي الله عنه, أقول لم أظفر به في مشكل الآثار للطحاوي المطبوع وإنما عزي في كنز العمال 5/ 323 إلى الحكيم الترمذي انتهى. قلت قد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات مختصراً من حديث أشعث بن براز عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت أو لم أحدث» قال العقيلي ليس لهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد يصح وللأشعث هذا غير حديث منكر, قال يحيى أشعث ليس بشيء, وذكر أبو سليمان الخطابي عن الساجي عن يحيى بن معين قال هذا الحديث وضعته الزنادقة, قال الخطابي هو باطل لا أصل له انتهى. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد مختصراً بنحو ما ذكره ابن الجوزي وقال رواه البزار وفيه أشعث بن بزار ولم أر من ذكره انتهى. قلت قد ذكره البخاري في التأريخ وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والذهبي في الميزان والحافظ ابن حجر في لسان الميزان وغيرهم من المصنفين في الجرح والتعديل وفي بيان الأحاديث الموضوعة, قال البخاري في التأريخ الكبير, أشعث بن براز الهجيمي كان يوهنه يحيى بن يحيى, وقال ابن أبي حاتم أشعث بن براز البصري السعدي الهجيمي ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال ليس بشيء, وعن عمرو بن علي أنه قال ضعيف جداً, وعن أبيه وأبي زرعة أنهما قالا ضعيف الحديث. وقال الذهبي في الميزان أشعث بن براز الهجيمي ضعفه ابن معين وغيره وقال النسائي متروك الحديث, وقال البخاري منكر الحديث, ثم ذكر الذهبي حديثه عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحو ما تقدم فيما ذكره ابن الجوزي ثم قال منكر جدا انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان وحديث أبي هريرة المذكور استنكره العقيلي وقال ليس له إسناد يصح قال وللأشعث غير حديث منكر, ثم ذكر ما ذكره

تفسير المؤلف لآية من القرآن بمجرد الرأي والرد عليه

ابن أبي حاتم عن عمرو بن علي وأبيه وأبي زرعة, قال وقال ابن حبان يروي عن قتادة كان يخالف الثقات ويروي المنكر في الآثار حتى يخرج عن حد الاحتجاج به, وقال البزار ضعيف حدث بمناكير انتهى. الوجه الثالث أن يقال إن أهل السنة والجماعة لم يكونوا يستندون إلى الأحاديث الضعيفة والواهية ولا يحتجون بها فضلا عن الأحاديث الموضوعة, وإنما تروج الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة على الزنادقة وأهل البدع ومن يحذو حذوهم من جهال العصريين وأغبيائهم ومنهم المؤلف وأبو رية وأضرابهما من المنتسبين إلى العلم وهم بعيدون كل البعد عن العلوم الشرعية النافعة, فهؤلاء هم الذين يستندون إلى ما يوافق أهواءهم وأفكارهم المنحرفة ولو كان واهيا أو موضوعا. وإذا لم يكن موافقا لأهوائهم وأفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الإفرنج وتلاميذ الإفرنج لم يبالوا برده واطراحه ولو كان متفقا على صحته. وفي كتاب أبي رية وكتاب المؤلف شيء كثير جداً من الأحاديث الصحيحة التي زعما إنها مكذوبة ومدسوسة على المسلمين, كما أن في الكتابين كثيراً من الأحاديث الواهية والأحاديث الموضوعة التي قد استندا إليها واحتجا بها على أقوالهما الباطلة, وقد ذكرت ما ساقه المؤلف من ذلك وما نقله من كتاب أبي رية فيما تقدم وما سيأتي وذكرت وجه الرد عليه. فصل وقال المؤلف في صفحة (51) ما نصه ولهذا قال الله تبارك وتعالى (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) يعني المستطلعين, والأحاديث الموضوعة لا تحاج إلا لفراسة المؤمن الذي تذوق طعم القرآن لأنها تخالفه لمجرد تلاوتها أو تفسيرها ببساطة. والجواب أن يقال أما تفسيره (للمتوسمين) بالمستطلعين فهو تفسير بمجرد الرأي ولم أر أحداً سبقه إلى هذا التفسير. والقول في القرآن بمجرد الرأي حرام وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك كما في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار» هذا لفظ ابن جرير وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

من شدة جهل المؤلف أنه لا يعرف الفرق بين المرفوع والمجرور

وروى أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» قال الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» صحيح وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح وقال البوصيري رواه أبو يعلى بسند الصحيح. وروى الترمذي وأبو داود وابن جرير والبغوي عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» قال الترمذي هذا حديث غريب, قال وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم انتهى. وقال البغوي قال شيخنا الإِمام قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم انتهى. وأما قوله إن الأحاديث الموضوعة لا تحتاج إلا لفراسة المؤمن إلى آخر كلامه. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن المؤلف جعل هذا الكلام مقدمة لما سيأتي من تخبيطه في تفسير آيات كثيرة من القرآن بمجرد آرائه الفاسدة وأفكاره المنحرفة, وإنما فعل ذلك ليجعل بين الآيات وبين الأحاديث الصحيحة معارضة يستند إليها في رد الأحاديث الصحيحة والحكم عليها بالوضع, وسيأتي ذكر أقواله الباطلة في تفسير الآيات ومعارضة الأحاديث الصحيحة بها والرد عليه إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني أن يقال إن معرفة الأحاديث الموضوعة يحتاج فيها إلى معرفة الكذابين والوضاعين والمتروكين ومن أجمع العلماء على ضعفهم ولا يحصل ذلك إلا بالبحث عنهم وعن أحاديثهم في كتب الجرح والتعديل وما صنفه العلماء في الموضوعات, وأما الفراسة فليست بمستند يعتمد عليه في تصحيح الأحاديث أو تضعيفها أو الحكم عليها بالوضع لأن المرجع في الفراسة إلى غلبة الظن, والظن لا يعتمد عليه في قبول الأحاديث أو ردها قال الله تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا). فصل وقال المؤلف في صفحة (51) ما نصه أسباب الدس هي كراهية الإسرائيليون للإِسلام والمسلمين, ومن أسباب كراهية الإسرائيليون للمسلمين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى يهود خيبر إلى أذرعان وغيرها.

الرد على كلام لابن خلدون نقله المؤلف

وأقول هكذا قال المؤلف «الإِسرائيليون» بالرفع وكررها مرتين وصوابه «الإِسرائيليين» بالخفض لكونه مجروراً بالإضافة, وقال أيضا «أذرعان» وصوابه «أذرعات» وإذا كان المؤلف لا يعرف الفرق بين المرفوع والمجرور فهو عن معرفة الأحاديث الموضوعة أبعد وأبعد, ولكن الجهل وقلة الحياء وحب الشهرة تحمل ضعيف العقل على إظهار نقائصه وعيوبه للناس. فصل وقال المؤلف في صفحة (51) و (52) ما نصه قال ابن خلدون عندما تكلم عن التفسير النقلي إنه كان يشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود, والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية, وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإِنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبعهم من النصارى مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مما كانوا يفترون. ولقد كان اليهود يأخذون من التوراة بعد تبديلها وتعدد نصوصها التي ابتدعوها. ومن أجل ذلك أخذ أولئك الأحبار يبثون في الدين الإسلامي أكاذيب وترهات يزعمون مرة أنها في كتابهم أو من مكنون علمهم. ويدّعون أخرى أنها مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من مفترياتهم, وأين للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتابهم, ومن ناحية أخرى كانوا أقل منهم دهاءا وأضعف مكرا؟ وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح. وذلك هو التعليل لقول الدكتور أحمد أمين في ص 139 جـ2 ضحى الإِسلام. ومن كلامه أنه قال اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام واتصل التابعون بابن جريح وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإِنجيل وشروحها وحواشيها فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات القرآن فكانت منبعا من منابع التضخم.

والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد جعل المؤلف نفسه مع أبي رية بمنزلة الأعمى يتابعه خطوة خطوة في كثير من ترهاته وما ينقله من كلام الناس وينقاد معه إلى مهاوي الغي والضلال. والكلام على ما في هذا الفصل من وجوه أحدها أن يقال إن أبا رية لخص كلام ابن خلدون وغير فيه وزاد, وأنا أذكر كلام ابن خلدون ليعلم الواقف عليه أن أبا رية غير مأمون في النقل وأنه يحرف فيما ينقله ويزيد فيه على حسب ما يمليه عليه شيطانه وهواه, وهذا نص كلام ابن خلدون وقد ذكره في علوم القرآن من مقدمته في صفحة (348) فقال, وصار التفسير على صنفين تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإِنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنه بعد صيتهم وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ انتهى المقصود من كلام ابن خلدون. وقد صرح فيه أن المنقول عن أهل الكتاب ليس مما يرجع إلى الأحكام الشرعية التي يحتاط لها ويتحرى فيها الصحة وإنما هي مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك, وقد قال النبي

صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإِن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم». الوجه الثاني أن يقال إن كلام ابن خلدون فيه ثلاثة مآخذ أحدها قوله إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. والجواب أن يقال إنما كان ذلك قبل الإِسلام فأما بعد الإِسلام فقد كانوا خير أمة أخرجت للناس علما وعملا, قال الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وهذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة كلها صفات كمال ولا تكون إلا لمن كان متصفا بالعلم والبصيرة في الدين, فدلت الآية على أن هذه الأمة أكمل من سائر الأمم في العلم والعمل. وقال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال تعالى (لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) وقال تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإِذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم). وقال تعالى (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإِذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) والآيات في هذا المعنى كثيرة. المأخذ الثاني قوله: وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإِنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم.

ذكر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك أمته وما يقلب طائر جناحيه إلا ذكر لهم منه علما، وأنه خطبهم فأخبرهم بما كان وبما هو كائن

والجواب أن يقال إن الله تعالى قد أغنى هذه الأمة عن مسألة أهل الكتاب عما يحتاجون إلى معرفته وذلك بما أنزله الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) , وقال أبو ذر رضي الله عنه «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» رواه الإِمام أحمد وابن جرير والطبراني وزاد وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» قال الهيثمي رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة, وفي إسناد أحمد من لم يسم. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في السماء طائر يطير بجناحيه إلا ذكر لنا منه علما» رواه الطبراني قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح. وعن حذيفة رضي الله عنه قال «لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله» متفق عليه. وعن أبي زيد - وهو عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه - قال «صلى الله بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا» رواه الإِمام أحمد ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبر به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي والحاكم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن عمر رضي الله عنه قال «قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه» رواه البخاري تعليقا مجزوما به ووصله الطبراني وأبو نعيم.

النهي عن سؤال أهل الكتاب عن شيء

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما أخبرنا بما يكون في أمته إلى يوم القيامة وعاه من وعاه ونسيه من نسيه» رواه الإِمام أحمد والطبراني قال الهيثمي ورجال أحمد رجال الصحيح غير عمر بن إبراهيم بن محمد وقد وثقه ابن حبان, وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس الصلاة جامعة قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم» فناداه رجل نعجب منهم يا رسول الله قال «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإِن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم بشيء» رواه الإِمام أحمد قال ابن كثير وإسناده حسن ولم يخرجوه. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على كلام ابن خلدون لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا من بدء الخلق إلى قيام الساعة إلا ذكره لأمته, فأي حاجة بهم مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال أهل الكتاب والاستفادة منهم. وقد جاء في القرآن العظيم من الأخبار عن بدء الخلق وعن أسباب الكون وأسرار الوجود وعن الماضين من الأنبياء وأممهم وعن زوال الدنيا وفنائها وما يكون بعد قيام الساعة وعن مآل الخلق يوم القيامة ما فيه غنية عما سواه من الكتب, وفيه أبلغ رد على كلام ابن خلدون. وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإِنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل وإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال» رواه ابن جرير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما «كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا, ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم» رواه البخاري. المأخذ الثالث ذكره عبد الله بن سلام رضي الله عنه مع كعب الأحبار

طعن المؤلف تبعا لأبي رية في عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه والرد عليهما

ووهب بن منبه وتقديمهما عليه في الذكر مع أنه صحابي جليل قد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة, وأما كعب ووهب فهما من التابعين فنبغي تقديم عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليهما في الذكر من أجل الصحبة والفضيلة. وأيضا فإن عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان مقلا جداً من النقل عن كتب أهل الكتاب فلا ينبغي ذكره مع المكثرين من النقل عنهم. الوجه الثالث أن أبا رية زاد في كلام ابن خلدون جملة ليست فيه وهي قوله «أو مما كانوا يفترون» وقد نقلها المؤلف من كتاب أبي رية وهي كذب مفترى على ابن خلدون كما يعلم ذلك من كلامه الذي تقدم ذكره في الوجه الأول وهو منقول بالنص من مقدمة ابن خلدون. ومن العجب أن المؤلف قد أكثر الكلام في ذم الدس والوضع والوضاعين وها هو ذا يدس الكذب في كلام ابن خلدون تقليداً لأبي رية. وهذا من أقبح التناقض, ولا شك أن ذمه للوضع والدس يعود عليه وعلى إمامه أبي رية لأنهما قد استباحا الوضع والدس في كلام ابن خلدون وفي غيره مما تقدم ذكره في عدة مواضع. الوجه الرابع أن المؤلف رمى عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار ووهب بن منبه بالافتراء وبث الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ المؤلف ذلك من كتاب أبي رية وهو من البهتان الذي قال الله تعالى فيه (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من ذكر امرءا بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه» رواه الطبراني قال المنذري وإسناده جيد وفي رواية له «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال» رواه أبو داود والطبراني والحاكم وصححه, وزاد الطبراني «وليس بخارج».

ذكر الأحاديث في الشهادة لعبد الله بن سلام بالجنة وفيها وصية معاذ بالتماس العلم عنده مع ثلاثة من الصحابة

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق» رواه الإِمام أحمد. الوجه الخامس أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة كما في الصحيحين ومسند الإِمام أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام. وروى الإِمام أحمد أيضا وأبو يعلى والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة فأكل منها ففضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجيء رجل من هذا الفج من أهل الجنة يأكل هذه الفضلة» قال سعد وكنت تركت أخي عميراً يتوضأ قال فقلت هو عمير قال فجاء عبد الله بن سلام فأكلها, قال الحاكم صحيح الإِسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإِمام أحمد أيضا والترمذي والحاكم في مستدركه عن يزيد بن عميرة قال لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له يا أبا عبد الرحمن أوصنا قال أجلسوني فقال إن العلم والإِيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما يقول ذلك ثلاث مرات والتمسوا العلم عند أربعة رهط عند عويمر أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهوديا فأسلم فإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنه عاشر عشرة في الجنة» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب قال وفي الباب عن سعد رضي الله عنه, وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه, وزاد الحاكم في رواية له قال يزيد فقلت وعند عمر بن الخطاب فقال لا تسأله عن شيء فإِنه عنك مشغول. وفي الصحيحين ومسند الإِمام أحمد عن قيس بن عباد عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه رأى رؤيا فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له «أنت على الإِسلام حتى تموت» وفي رواية لمسلم «يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى». وفي المسند وصحيح مسلم عن خرشة بن الحر عن عبد الله بن سلام رضي الله

الكلام في كعب الأحبار وبيان أنه من أوعية العلم

عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قص عليه رؤياه «وأما العروة فهي عروة الإِسلام ولن تزال متمسكا بها حتى تموت». وفي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة أعظم تزكية له, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «أنت على الإِسلام حتى تموت» وقوله في الرواية الأخرى «يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى» ففي ذلك أعظم تزكية له. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على زنادقة العصريين الذين يبهتون عبد الله بن سلام رضي الله عنه ويزعمون أنه كان من الذين يبثون الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي ويفترون على النبي صلى الله عليه وسلم (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب أصحابه, رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وورد أيضا التشديد في اتخاذه غرضا والإخبار بأن من أحبهم فإِنما أحبهم بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن أبغضهم فإِنما أبغضهم ببغضه ومن آذاهم فقد آذاه ومن آذاه فقد آذى الله. وورد أيضا اللعن والوعيد الشديد لمن سبهم, وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في الفصل الحادي عشر في أول الكتاب فلتراجع. (¬1) وأما كعب الأحبار فقد ذكره البخاري في التأريخ الكبير والصغير ولم يذكر فيه جرحا وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يذكر فيه حرجا وقال روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروى عنه ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب سمعت أبي يقول ذلك انتهى. وقد ترجم له الذهبي في تذكرة الحفاظ فقال هو كعب بن ماتع الحميري من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر رضي الله عنه وقدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا وله شيء في صحيح البخاري وغيره انتهى. ¬

(¬1) ص: 29 - 30.

ذكر الاتفاق على توثيق كعب وكثرة علمه وثناء بعض الصحابة عليه

وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» كعب بن مانع بالتاء المثناة فوق هو كعب الأحبار التابعي المشهور أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وقيل في خلافة عمر رضي الله عنه وصحب عمر رضي الله عنه وأكثر الرواية عنه, وروى أيضا عن صهيب رضي الله عنه, روى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو هريرة وخلائق من التابعين منهم ابن المسيب وكان يسكن حمص, ذكره أبو الدرداء رضي الله عنه فقال إن عنده علماً كثيراً, واتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه, توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة ثنتين وثلاثين ودفن بحمص متوجها إلى الغزو ويقال له كعب الأحبار وكعب الحبر بكسر الحاء وفتحها لكثرة علمه, ومناقبه وأحواله وحكمه كثيرة مشهورة انتهى. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وقال قال ابن سعد ذكر أبو الدرداء كعبا فقال إن عند ابن الحميري لعلما كثيرا, وقال معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير قال قال معاوية رضي الله عنه ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا فيه لمفرطين, وقال ابن الزبير ما كان في سلطاني شيء إلا قد حدثني به ولقد حدثني أنه يظهر على البيت قوم أخرجه الفاكهي انتهى. وعن ابن سيرين قال قال ابن الزبير رضي الله عنهما ما شيء كان يحدثناه كعب إلا قد أتى على ما قال إلا قوله أن فتى ثقيف يقتلني وهذا رأسه بين يدي - يعني المختار بن أبي عبيد - قال ابن سيرين ولا يشعر أن أبا محمد قد خبئ له - يعني الحجاج - رواه عبد الرزاق في مصنفه وإسناده صحيح على شرط الشيخين, ورواه الطبراني قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح, وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف حدثني البريد الذي أتى ابن الزبير برأس المختار فلما رآه قال ابن الزبير ما حدثني كعب بحديث إلا وجدت مصداقه إلا أنه حدثني أن رجلا من ثقيف سيقتلني, قال الأعمش وما يدري أن أبا محمد خذله الله خبئ له. وقال الحافظ ابن حجر في الإِصابة أخرج ابن عساكر من مسند محمد بن هارون الروياني من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود أن رأس الجالوت قال لهم إن كل ما تذكرون عن كعب بما يكون إنه إن كان قال لكم إنه مكتوب في التوراة فقد

معنى قول معاوية في كعب «إن كنا لنبلو عليه الكذب»

كذبكم إنما التوراة ككتابكم إلا أن كتابكم جامع (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض) وفي التوراة يسبح لله الطير والشجر وكذا وكذا وإنما الذي يحدث به كعب عما يكون من كتب أنبياء بني إسرائيل وأصحابهم كما تحدثون أنتم عن نبيكم وعن أصحابه. وقد روى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية رضي الله عنه يحدث رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. قلت ليس المراد بالكذب ههنا الافتراء وإنما المراد به الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم «كذب أبو السنابل» أي أخطأ حين قال لسبيعة الأسلمية إنك لست بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر وكانت قد وضعت بعد وفاة زوجها بأيام فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها قد خرجت من العدة بوضع الحمل وأمرها بالتزويج إن بدا لها. وقال ابن حبان في كتاب «الثقات» أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به ولم يرد أنه كان كذاباً, وقال ابن الجوزي المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذباً لا أنه يتعمد الكذب وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار. انتهى من فتح الباري. وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإِيمان, وفي حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه «إذا أدى العبد حق الله وحق مواليه كان له أجران» قال فحدثت به كعباً فقال كعب ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد انتهى. وقد ذكر الحافظ كعباً في تقريب التهذيب وقال ثقة من الثانية, وقد تقدم قول النووي أنهم اتفقوا على توثيقه, وقد روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عن جرادات قتلها وهو محرم فقال عمر رضي الله عنه لكعب تعال حتى نحكم, وذكر تمام الحديث, وقد قال الله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) فلولا أن كعباً عدل عند عمر رضي الله عنه لما أمره أن يحكم معه في جزاء الصيد, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث

كلام العلماء في وهب بن منبه وذكر الاتفاق على توثيقه

ابن عمر رضي الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, قال وفي الباب عن الفضل بن عباس وأبي ذر وأبي هريرة. قلت وفيه أيضا عن عمر وبلال ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة رضي الله عنهم, وهذا كاف في تعديل كعب ورد ما يبهته به المبطلون من العصريين الذين لا يبالون بأكل لحوم الأبرياء والوقوع في أعراضهم. ومن أعظم البهتان قول أبي رية في هامش صفحة 147 من الطبعة الثالثة لكتابه أنه أثبت في مقال له أن الصهيوني الأول هو كعب الأحبار. والجواب أن يقال لو كان أبو رية يخاف الله ويعلم يقيناً أنه موقوف بين يديه يوم القيامة ومسؤل عن أقواله وأعماله وأن الله سيأخذ حق المظلوم من الظالم لما أقدم على هذا البهتان العظيم, وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الوعيد الشديد على بهت المسلم وتكفيره عند ذكر قول أبي رية إن ابن جريح كان من النصارى. وأما وهب بن منبه فقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من الأئمة, وهذا كاف في تعديله ورد ما يبهته به جهلة العصريين, وقد ذكره البخاري الكبير والصغير ولم يذكر فيه جرحاً, وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً وقال سئل أبو زرعة عن وهب بن منبه فقال يماني ثقة, وذكره الذهبي في الميزان وقال كان ثقة صادقاً قال العجلي ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء. وقال مثنى بن الصباح لبث وهب عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءاً, وقال في تذكرة الحفاظ ما ملخصه, وهب بن منبه الحافظ أبو عبد الله الصنعاني عالم أهل اليمن روى عن أبي هريرة يسيراً وعن عبد الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم. وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير فإِنه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ, وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام وكان ثقة واسع العلم, وذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وذكر قول العجلي أنه تابعي ثقة وقال أبو زرعة والنسائي ثقة وذكره ابن حبان في الثقات, وقال في «تقريب التهذيب» ثقة من الثالثة, وذكره الخزرجي في الخلاصة وقال وثقة النسائي, وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» هو تابعي جليل من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية سمع جابر بن عبد الله وابن عباس وابن عمرو بن

العاص وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة وأنسا والنعمان بن بشير, روى عنه عمرو بن دينار وعوف الأعرابي والمغيرة بن حكيم وآخرون واتفقوا على توثيقه انتهى. وفيما ذكرته من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سلام رضي الله عنه وشهادته له بالجنة وما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أمر كعباً أن يحكم معه في جزاء الصيد وما ذكره النووي من الاتفاق على توثيق كعب ووهب بن منبه أبلغ رد على من بهتهم ورماهم ببث الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي. ولا شك أن المؤلف وأبا رية وأشباههما من العصريين المتنطعين أولى بالأوصاف الذميمة من عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه لأن العصريين قد جدوا واجتهدوا في رد بعض الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها بأنواع الأباطيل والترهات ولما لم يجدوا مستنداً صحيحا يعتمدون عليه في رد بعض الأحاديث الصحيحة لجئوا إلى الطعن في الثقات الأبرياء ورموهم بالافتراء وبث الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي, ولو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعلمون يقيناً أنهم موقوفون بين يدي الله تعالى وأن الله تعالى سيقضي بينهم وبين الأبرياء الذين قد استحلوا أعراضهم ورموهم بما ليس فيهم وأنه تبارك وتعالى سيأخذ للمظلومين حقوقهم من الظالمين لما أقدموا على ما أقدموا عليه من الإفك والبهتان واستحلال أعراض الثقات الأبرياء. وأما قوله ويدعون أخرى أنها مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من مفترياتهم. فجوابه أن يقال أما عبد الله بن سلام رضي الله عنه فهو صحابي جليل وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث, قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثاً اتفقا على حديث وانفرد البخاري بآخر, وكذا قال الخزرجي في الخلاصة. وإذا علم هذا فما رواه البخاري ومسلم من أحاديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه فهو ثابت ولا يرد ذلك إلا مكابر معاند, وكذلك ما رواه غيرهما بالأسانيد الصحيحة إلى عبد الله بن سلام رضي الله عنه فهو ثابت ولا يرد ذلك إلا مكابر معاند. ومن أقبح المكابرة والإِثم والبهتان قول المؤلف تبعاً لأبي رية أن ما جاء عن عبد الله بن سلام من الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنه

تهجم المؤلف على الصحابة والرد عليه

سمعها منه فهي من مفترياته. والجواب عن هذا التهور والوقاحة والفرية أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم). وأما كعب الأحبار ووهب بن منبه فليسا من الصحابة وإنما هما من التابعين ومن زعم أنهما ادعيا أنهما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم فقد افترى عليهما, وإنما سمعا من بعض الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا علم هذا فما روياه عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك بالأسانيد الصحيحة إليهما فلا شك في صحته وثبوته ولا يرد ذلك إلا مكابر معاند, وكذلك ما رواه وهب عن ثقات التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت أيضا, وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن أولئك الأحبار يبثون في الدين الإِسلامي أكاذيب وترهات ويدعون أنها مما سمعوه من النبي صلى الله علي وسلم وهي في الحقيقة من مفترياتهم. فجوابه أن يقال هذا من هوس المؤلف وأبي رية وقد قال الله تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). وأما قوله وأين للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتابهم, ومن ناحية أخرى كانوا أقل منهم دهاءا وأضعف مكراً, وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال من أقبح الجراءة والوقاحة والتهور تهجم المؤلف تبعاً لأبي رية على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورميهم بالغباوة والتغفيل بحيث تروج عندهم الأكاذيب وبحيث يتلقون كل ما يلقى إليهم ولا يميزون بين الصدق والكذب, وهذا صريح في التنقص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والغض منهم ولا يصدر ذلك إلا من منافق يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتاظ منهم وقد قال الله تعالى (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره

الرد على بهت المؤلف وأبي رية لعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه والمستشرقين

فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار). قال البغوي في تفسير هذه الآية قال مالك بن أنس من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن كثير في تفسيره, ومن هذه الآية انتزع الإِمام مالك في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم, قال لأنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء على ذلك, والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كثيرة ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم انتهى. الوجه الثاني أن يقال إن الأولى بالغباوة التغفيل وغير ذلك من صفات النقص من أصغى إلى زخارف شياطين الإنس ورضي بها واعتمد عليها وأعرض لأجلها عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم, ومن هؤلاء الأغبياء المغفلين أبو رية والمؤلف وأشباههما من جهلة العصريين الذين يعتمدون على ترهات جولدزيهر اليهودي وإخوانه من المستشرقين الذين قد شرقوا بالإِسلام وأهله وملئوا كتبهم من الطعن في الإِسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ويعتمدون أيضا على نهيق الروافض ونباحهم في ثلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم بكل ما يرون أنه يشينهم. الوجه الثالث أن يقال إن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار ووهب بن منبه لم يكونوا من ذوي المكر وافتراء الكذب, وفيما ذكرته من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سلام وشهادته له بالجنة وما ذكره النووي من الاتفاق على توثيق كعب ووهب بن منبه أبلغ رد على بهت المؤلف وأبي رية لهؤلاء الثلاثة ووصفهم بما ليس فيهم. الوجه الرابع أن يقال إن الله تعالى قد أخبر في كتابه أن أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم وغيروا فيها فقال تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) وقال تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه) وقال تعالى (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم

ذكر ما كان عليه الصحابة من النباهة والرد على من قال فيهم بخلاف الصواب

من بعد مواضعه) وقال تعالى (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وقال تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) وفي هذه الآيات أبلغ تحذير من الاغترار باليهود. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون». وقد كان الصحابة على غاية من النباهة والحذر مما حذرهم الله ورسوله منه من كيد اليهود وتحريفهم, فمن ظن أن سوق الأكاذيب قد راجت بين الصحابة وأنهم يتلقون ما يلقيه أهل المكر والدهاء بغير نقد أو تمحيص وأنهم يعتبرون ذلك صحيحاً فقد ظن بالصحابة ظن السوء ولا يصدر ذلك إلا من منافق قد امتلأ قلبه غيظاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الوجه الخامس نذكر فيه نموذجاً من نباهة الصحابة وردهم على من قال بخلاف الصواب. فمن ذلك ما رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتيت الطور فوجدت ثم كعبا فمكثت أنا وهو يوماً أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثني عن التوراة فقلت له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة ما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا ابن آدم وفيه ساعة لا يصادفها مؤمن وهو في الصلاة يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه» فقال كعب ذلك يوم في كل سنة فقلت بل هي في كل جمعة فقرأ كعب التوراة ثم قال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في كل جمعة فخرجت فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال من أين جئت قلت من الطور قال لو لقيتك من قبل أن تأتيه لم تأته قلت له ولم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس» فلقيت عبد الله بن سلام فقلت لو رأيتني خرجت إلى الطور فلقيت كعباً أنا وهو يوماً أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثني عن التوراة فقلت له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير

يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة ما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا ابن آدم وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن وهو في الصلاة يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» قال كعب ذلك يوم في كل سنة فقال عبد الله بن سلام كذب كعب قلت ثم قرأ كعب فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في كل جمعة فقال عبد الله صدق كعب إني لأعلم تلك الساعة فقلت يا أخي حدثني بها قال هي آخر ساعة من يوم الجمعة قبل أن تغيب الشمس فقلت أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يصادفها مؤمن وهو في الصلاة» وليست تلك الساعة صلاة قال أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من صلى وجلس ينتظر الصلاة لم يزل في صلاته حتى تأتيه الصلاة التي تلاقيها» قلت بلى قال فهو كذلك, هذا لفظ النسائي ورواية الترمذي مختصرة وقال هذا حديث صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها ما رواه ابن جرير بإِسناد صحيح عن أبي وائل قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال من أين جئت قال من الشام قال من لقيت قال لقيت كعباً قال ما حدثك قال حدثني أن السموات تدور على منكب ملك قال أفصدقته أو كذبته قال ما صدقته ولا كذبته قال لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها كذب كعب إن الله تعالى يقول (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا, ولئن زالتا إن أمسكها من أحد من بعده). ومنها ما رواه ابن أبي خيثمة عن قتادة قال بلغ حذيفة رضي الله عنه أن كعباً يقول إن السماء تدور على قطب كالرحى فقال كذب كعب إن الله يقول (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) قال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. ومنها ما ذكره الزمخشري في الكشاف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل مقبل من الشام من لقيت به, قال كعباً قال وما سمعته يقول قال سمعته يقول إن السموات تدور على منكب ملك قال كذب كعب أما ترك يهوديته بعد ثم قرأ هذه الآية, قال الحافظ ابن حجر في كتابه «الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف» لم أجده وروى الطبري من رواية أبي وائل قال جاء رجل إلى عبد الله بن

رد الطعن في عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج

مسعود رضي الله عنه فقال من أين جئت قال من الشام فذكره مثله إلا أنه لم يقل ما ترك يهوديته انتهى. قلت يحتمل أن الزمخشري أورد الأثر من حفظه فأبدل ابن مسعود بابن عباس والله أعلم. ومنها ما رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله عنهما إن نوفا البكالي يزعم أن صاحب بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر فقال كذب عدو الله سمعت أبي بن كعب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا أعلم قال فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه» الحديث وقد تقدم قول معاوية وذكر كعب الأحبار فقال «إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب». وتقدم أن المراد بالكذب ههنا الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وليس المراد به افتراء الكذب, وكذلك قول عبد الله بن سلام وعبد الله بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم كذب كعب وقول ابن عباس رضي الله عنهما كذب نوف المراد به الخطأ في النقل والله أعلم. وتقدم أيضا قول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في النهي عن سؤال أهل الكتاب. وفيما ذكرته في هذا الوجه عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كفاية في الرد على المؤلف وأبي رية فيما تهجما به على الصحابة حيث زعما أنهم ليس عندهم فطنة لتمييز الصدق من الكذب من أقوال الناقلين عن أهل الكتاب وان سوق الأكاذيب قد راجت بينهم وأنهم يتلقون كل ما يلقيه الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية عن أحمد أمين أنه قال اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام واتصل التابعون بابن جريج وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإِنجيل وشروحها وحواشيها فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات القرآن فكانت منبعاً من منابع التضخم.

فجوابه من وجوه أحدها أن يقال من الخطأ تقديمه وهب بن منبه وكعب الأحبار على عبد الله بن سلام رضي الله عنه لأن عبد الله بن سلام رضي الله عنه صحابي جليل, وأما كعب ووهب فهما من التابعين فينبغي تقديم عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليهما لما له من الصحبة والفضيلة. الوجه الثاني أن يقال إن عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان قليل الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قليل النقل من كتب أهل الكتاب فلا ينبغي ذكره مع المكثرين من النقل عنهم. وما ثبت عنه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من النقل عن كتب أهل الكتاب فهو مصدق في روايته ونقله. ولا يسيء الظن بعبد الله بن سلام رضي الله عنه إلا جاهل أو مكابر معاند. وقد تقدم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال عند موته التمسوا العلم عند أربعة وذكر منهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ وعده مع الأكابر منهم, وفي هذا رد لما بهته به المؤلف وأبو رية وأشباههما من حثالة العصريين الذين يجعلونه من الذين يبثون الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) وقاتل الله الذين يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتاظون منهم ويرمونهم بالعظائم التي ليست فيهم. الوجه الثالث أن يقال ظاهر قول أحمد أمين اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه أنهم اتصلوا به وأخذوا عنه وهذا غلط فاحش وجهل فاضح فإِنه لم يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه سمع من وهب بن منبه أو حكى عنه وإنما يعرف ذلك عن بعض صغار التابعين وقد اتصل وهب ببعض الصحابة وروى عنهم. الوجه الرابع أن يقال ظاهر قول أحمد أمين واتصل التابعون بابن جريح أنهم اتصلوا به وأخذوا عنه وهذا غلط فاحش لأن ابن جريج كان من صغار التابعين فلا يعقل أن يتصل به كبار التابعين ويأخذوا عنه, وإنما روى عنه أتباع التابعين كما هو مذكور في بعض كتب الجرح والتعديل وروى عنه من صغار التابعين يحيى بن سعيد الأنصاري وحده وهو من شيوخه. الوجه الخامس أن يقال إن ابن جريج لم يكن من الذين ينقلون من كتب أهل الكتاب فذكره مع الناقلين عنهم غلط وخطأ.

تحامل أبي رية على ابن جريج والرد عليه وذكر كلام العلماء في ابن جريج

وقد تحامل أبو رية على ابن جريج تحاملاً قبيحاً في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض حينما ذكره في صفحة 189 من الطبعة الثالثة فقال ما نصه. وكان البخاري لا يوثقه وهو على حق في ذلك. ثم ذكر قول الذهبي في تذكرة الحفاظ أنه من أصل رومي قال أبو رية فهو نصراني الأصل قال ويقول عنه بعض العلماء أنه كان يضع الحديث. وقال أبو رية أيضا في هامش صفحة 242 من الطبعة الثالثة ما نصه «ابن جريج كان من النصارى» كذا قال الأهوج المبرسم أبو رية في عالم من أكبر علماء السلف. وهكذا جازف هذه المجازفة ولم يبال بما يترتب على ذلك من الوعيد الشديد كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. فأما قوله وكان البخاري لا يوثقه. فجوابه أن يقال هذا كذب على البخاري فقد ذكره البخاري في تاريخه الكبير والصغير ولم يذكر - فيه جرحاً. وذكر فيهما عن يحيى أنه قال لم يكن أحد أثبت في نافع من ابن جريج, زاد في الكبير وكان من أحسن الناس صلاة. وروى ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل عن علي بن المديني قال سمعت يحيى بن سعيد يقول لم يكن أحد أثبت في نافع من ابن جريح فيما كتب وهو أثبت من مالك في نافع, وقال مرة لم يكن ابن جريج بدون مالك في نافع, وروى أيضاً عن الإِمام أحمد أنه قال ابن جريج أثبت الناس في عطاء, وعن أحمد أيضا أنه قال ابن جريج ثبت صحيح الحديث لم يحدث بشيء إلا أتقنه, وروى أيضاً عن عثمان بن سعيد قال قلت ليحيى بن معين ابن جريج أحب اليك أو عبد الملك بن أبي سليمان فقال كلاهما ثقتان, وروى أيضاً عن أبي زرعة أنه سئل عن ابن جريج فقال بخ من الأئمة. وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» قال عطاء بن أبي رباح سيد أهل الحجاز ابن جريج, وقال عبد الرزاق كنت إذا رأيت ابن جريج يصلي علمت أنه يخشى الله عز وجل, قال النووي وأقوال أهل العلم من السلف والخلف في الثناء عليه وذكر مناقبه أكثر من أن تحصى انتهى. وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ ابن جريج الإِمام الحافظ فقيه الحرم أبو الوليد ويقال أبو خالد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي الأموي مولاهم المكي الفقيه صاحب التصانيف أحد الأعلام قال أحمد بن حنبل كان من أوعية العلم وقال

عبد الرزاق ما رأيت أحداً أحسن صلاة من ابن جريج كنت إذا رأيته علمت أنه يخشى الله, ثم قال الذهبي كان ابن جريج ثبتاً لكنه يدلس وقال يحيى القطان لم يكن ابن جريج عندي بدون مالك في نافع, قال أبو عاصم كان ابن جريج من العباد كان يصوم الدهر إلا ثلاثة أيام من الشهر انتهى باختصار. وذكر الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» عن علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال ابن جريج أثبت في نافع من مالك, وذكر أيضاً عن أحمد أنه قال ابن جريج أثبت الناس في عطاء, وذكر أيضاً عن الميموني قال سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - غير مرة يقول كان ابن جريج من أوعية العلم, وذكر أيضاً عن الأثرم عن أحمد أنه قال إذا قال ابن جريج قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به, وقال ابن أبي مريم عن ابن معين ثقة في كل ما روي عنه من الكتاب, وقال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث, وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من فقهاء أهل الحجاز وقرائهم ومتقنيهم وكان يدلس, وقال الذهلي ابن جريج إذا قال حدثني وسمعت فهو محتج بحديثه داخل في الطبقة الأولى من أصحاب الزهري, وسئل عنه أبو زرعة فقال بخ من الأئمة وقال ابن خراش كان صدوقاً وقال العجلي مكي ثقة انتهى باختصار. وقال الحافظ أيضاً في «تقريب التهذيب» وذكر ابن جريج فقال ثقة فقيه فاضل وكان يدلس ويرسل. وقال الخزرجي في الخلاصة ابن جريج الفقيه أحد الأعلام قال أحمد إذا قال أخبرنا وسمعت حسبك به, وقال ابن معين ثقة إذا روى من الكتاب انتهى. وفيما ذكرته عن علماء الجرح والتعديل أبلغ رد على ترهات أبي رية ومجازفاته وأما قوله فهو نصراني الأصل. فجوابه أن يقال لا يضر ابن جريج أن يكون في أجداده نصارى كما لا يضر الصحابة أن يكون في آبائهم وأجدادهم مشركون وكما لا يضر بعض التابعين ومن بعدهم من العلماء أن يكون في أجدادهم مجوس ومشركون, بل إن أفضل الخلق وسيد بني آدم كان أبواه وأجداده مشركين ولم يضره ذلك شيئاً, قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهديتم) وقال تعالى (كل امرئ بما كسب رهين) وقال تعالى (كل نفس بما كسب رهينة).

التشديد في بهت المؤمن وذكر الأحاديث في ذلك

وأما قوله ويقول عنه بعض العلماء أنه كان يضع الحديث فجوابه أن يقال إن كان أبو رية أراد بالعلماء أئمة الجرح والتعديل فهذا كذب عليهم, وإن كان أراد بعض المنتسبين إلى العلم من العصريين فهذا لا يستبعد منهم ولكن لا عبرة بهم لأنهم في الغالب يخبطون خبط عشواء ولا يبالون برمي الرجل بما ليس فيه, والأحرى أن هذه الكلمة من كيس أبي رية ومجازفاته في بهت الأبرياء. وأما قوله إن ابن جريج كان من النصارى. فجوابه أن يقال هذا من البهتان العظيم وقد ورد الوعيد الشديد على بهت المؤمن وتكفيره قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً). وروى الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق». وروى أبو داود والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال» زاد الطبراني «وليس بخارج». وروى الطبراني أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من ذكر امرءاً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه» قال المنذري إسناده جيد, وفي رواية للطبراني «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال». وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فان كان كما قال وإلا رجعت عليه». وفي الصحيحين أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» حار أي رجع.

تهجم المؤلف وأبي رية على عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه والرد عليهما

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما». وفي صحيح ابن حبان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أكفر رجل رجلاً إلا باء أحدهما بها إن كان كافراً وإلا كفر بتكفيره». وفي الصحيحين وغيرهما عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله». فصل وقال المؤلف في صفحة (52) و (53) ما ملخصه من هم كعب ومنبه وعبد الله بن سلام, لهؤلاء الثلاثة ولحوادثهم باب خاص في صفحة 147 - 149 - 50 إلى 157 في كتاب أضواء على السنة المحمدية للأستاذ محمود أبو رية بين فيه نقلاً عن المراجع والأسانيد التاريخية الصحيحة ما لهولاء الثلاثة من مكر وخداع ودس في الحديث, ومن تلك البيانات المبينة بكتاب أضواء على السنة يتضح أنهم كانوا مصدراً لأحاديث كثيرة. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال قد ت قدم الكلام في تزكية عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار ووهب بن منبه والرد على من بهتهم وافترى عليهم فليراجع ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل, وقد سمى المؤلف وهب بن منبه في هذا الفصل باسم أبيه وهذا من تحريفه وتخبيطه. الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف وأبا رية أولى وأحق بوصف المكر والخداع والدس في الحديث لأنهما قد جدا واجتهدا في رد الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها ومعارضتها بالشبه والأباطيل, ومن نظر في كتابيهما علم أنهما من ألد الأعداء للسنة وأهلها. وقد تحامل أبو رية على كعب الأحبار تحاملاً قبيحاً فزعم في عدة مواضع أنه يهودي, وزعم في مواضع أخر أنه كاهن, وقال أيضاً في وهب بن منبه أنه كاهن, وطغت عليه الوقاحة فتجرأ على لعن كعب في صفحة (155) وقد قال الله تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

ذكر ما يكون في العراق من الفتن

وقد ورد التشديد في تكفير المسلم وذكره بما ليس فيه. وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل, وفي الصحيحين وغيرهما عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لعن المؤمن كقتله». فصل وقال المؤلف في صفحة (53) ما نصه من مكر كعب الأحبار وكيده للإِسلام, في موطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب لما أراد الخروج إلى العراق قال له كعب الأحبار لا تخرج يا أمير المؤمنين فإِن بها تسعة أعشار السحر فسقة الجن وبها الداء العضال. والجواب أن يقال ليس في تحذير كعب الأحبار لعمر رضي الله عنه عن الخروج إلى العراق شيء من المكر للإِسلام كما زعم ذلك المؤلف تبعا لإِمامه في الضلال أبي رية, وإنما ذلك من النصيحة الواجبة للمسلم على المسلم. وقد ظهر مصداق قول كعب بما ظهر في العراق من الفتن والبدع والأهواء المضلة, وقد كان قتل عثمان رضي الله عنه على أيدي أهل العراق ومن مالألهم من أهل مصر, وبقتله انفتح باب الفتن إلى يوم القيامة, وكان في العراق أيضاً وقعة الجمل ووقعه صفين وهما من أعظم الفتن, وكان مقتل الحسين بن علي الله عنهما وأصحابه في العراق وكانت فيه فتنة المختار وفتنة الحجاج وغير ذلك من الفتن العظيمة. وكانت فتنة بني العباس ودعاتهم في العراق وخراسان, وكذلك فتن البدع والأهواء فكلها ظهرت أو ما ظهرت بأرض العراق كفتنة الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية ثم انتشرت بعد ذلك في جميع الأقطار. وآخر ذلك فتنة المسيح الدجال وهي أعظم فتنة تكون على وجه الأرض, وقد جاء في بعض الأحاديث أنه يخرج من العراق, وحيث كانت العراق بهذه الصفة فالتحذير من الخروج إليها من أعظم النصيحة. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد قول كعب الأحبار كما في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «رأس الكفر نحو المشرق». وروى الإِمام أحمد والبخاري ومسلم أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه

سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول «ألا إن الفتنة ههنا ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية لأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده يؤم العراق «ها إن الفتنة ههنا هاإن إن الفتنة ههنا ها إن الفتنة ههنا - ثلاث مرات - من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية لأحمد ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» يعني المشرق. وروى البخاري عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال «من ههنا جاءت الفتن نحو المشرق». وروى الإِمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا» مرتين فقال رجل وفي مشرقنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هنالك يطلع قرن الشيطان ولها تسعة أعشار الشر» ورواه الطبراني في الأوسط وقال فيه «إن من هنالك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أشعار الكفر وبه الداء العضال». وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اللهم بارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في مدنا وصاعنا اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا» فقال رجل والعراق يا رسول الله قال «من ثم يطلع قرن الشيطان وتهيج الفتن» قال الهيثمي رجاله ثقات. وروى الطبراني أيضاً في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال «اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وبارك لنا في شامنا ويمننا» فقال رجل من القوم يا نبي الله وعراقنا فقال «إن بها قرن الشيطان وتهيج الفتن وإن الجفاء بالمشرق» قال المنذري والهيثمي رواته ثقات. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على مجازفة المؤلف وأبي رية في بهتهما لكعب الأحبار. فصل وقال المؤلف في صفحة (53) ما نصه أمثلة من روايات كعب المدسوسة

رد الأثر الذي فيه أن في كل أرض نبيا كنبينا وآدم كآدم الخ

ثم ذكر في هذه الصفحة وأربع صفحات بعدها روايات عن كعب الأحبار مما قيل أنه رواه من كتب أهل الكتاب وليس لها أسانيد صحيحة عن كعب فلا تصح نسبتها إليه لأنه يحتمل أن يكون بعض الكذابين وضعها ونسبها إلى كعب. وعلى تقدير صحة نسبتها أو نسبة بعضها إليه فهي مما ترخص كعب في نقله من كتب أهل الكتاب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإِن كان حقاً لم تكذبوهم وإن كان باطلاً لم تصدقوهم». فصل وقال المؤلف في صفحة (54) و (55) روى البيهقي في الأسماء والصفات بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال قوله (الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى, ولم يذكر لموسى مثيلا قال البيهقي في الشعب هو شاذ بالمرة قال السيوطي هذا من البيهقي في غاية الحسن فإِنه لا يلزم من صحة الإِسناد صحة المتن لاحتمال صحة الإِسناد مع أن في المتن شذوذاً أو علة تمنع صحته, ولابن كثير تحقيق في هذا الحديث يقول فيه أنه محمول إن صح سنده عن ابن عباس على أنه أخذه من الإِسرائيليات. والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد أجاب عنه العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال, أما هذا فليس سنده بصحيح لأنه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس, وشريك يخطى كثيراً ويدلس, وعطاء ابن السائب اختلط قبل موته بمدة وسماع شريك منه بعد الاختلاط, لكن أخرج البيهقي عقب هذا بسند آخر من طريق آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله عز وجل (خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) قال في كل أرض

زعم المؤلف وأبي رية أن أبا هريرة وابن عباس كانا من تلاميذ كعب الأحبار والرد عليهما

نحو إبراهيم, ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً, وأخرجه ابن جرير عن عمرو بن علي عن غندر عن شعبة فذكره بنحوه وزاد ونحو ما على الأرض من الخلق, وعلى هذا فالمعنى والله أعلم أن في كل أرض خلقاً كنحو بني آدم وفيهم من يعرف الله تعالى بالنظر في الآية المذكورة. وسياقها وقوله تعالى (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) وقوله (وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون) وغيرها, على أن بعضهم قد فسر ما جاء في الرواية الأخرى التي قدمت أنها لا تصح, ففي روح المعاني لا مانع عقلاً ولا شرعاً من صحته, والمراد أن في كل أرض خلقاً يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى أدم عليه السلام وفيهم أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم فينا, أما ما في البداية محمول إن صح نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنهما عن الإِسرائيليات فغير مرضي, فابن عباس كما مر ويأتي كان ينهى عن سؤال أهل الكتاب فإِن كان مع ذلك قد يسمع من بعض من أسلم منهم أو يسأله فإِنما ذلك شأن العالم يسمع ما ليس بحجة لعله يجد فيه ما ينبه ويلفت نظره إلى حجة انتهى. فصل وقال المؤلف في صفحة (55) ما نصه: كعب أسلم في خلافة عمر ومع ذلك فإِن أبا هريرة وابن عباس يسألانه عن الحديث ويرويان عنه. في تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعباً عن سدرة المنتهى فقال إنها على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق وليس لأحد وراءها علم ولذلك سميت سدرة المنتهى لانتهاء العلم بها, هذا ما قاله كعب لتلميذه الثاني, وأما ما قاله لتلميذه الأول أبو هريرة عن سدرة المنتهى ففي حديث له أن الشجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من عسل وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها والورقة منها تغطي الأمة كلها (ص 162 من أضواء). والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية, والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال من الظلم والزور قول المؤلف تبعاً لأبي رية أنا أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما كانا من تلاميذ كعب الأحبار ومن الظلم والزور أيضاً

قول المؤلف تبعاً لأبي أن أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما كانا يسألان كعبا عن الحديث ويرويان عنه. الوجه الثاني أن يقال إن أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما لم يتعلما من كعب شيئاً مما يتعلق بأمور الدين وإنما سمعا منه أشياء تحتمل الصدق فحكياها عنه أو سألاه سؤال خبير ناقد لينظرا ما يقول, وقد رد عليه أبو هريرة رضي الله عنه لما أخطأ في ساعة الإِجابة يوم الجمعة حتى رجع كعب إلى الصواب, ورد عليه ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره الزمخشري في الكشاف لما قال أن السموات تدور على منكب ملك, ورد عليه ابن مسعود وحذيفة في ذلك أيضاً, وقد تقدم ذكر ذلك قبل هذا الفصل بأربعة فصول فليراجع (¬1). وإذا علم هذا فنقول إن كعب الأحبار لا يبلغ في العلم إلى موضع الكعب من أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما فضلاً عن أن يكونا من تلاميذه. الوجه الثالث أن يقال إن كلام المؤلف تبعاً لأبي رية ظاهر في التنقص لأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما والسخرية منهما حيث زعم أبو رية والمؤلف أنهما من تلاميذ كعب الأحبار, ولا شك أن هذا فيض مما في قلوبهما من الغيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد قال الله تعالى في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليغيظ بهم الكفار) فمن كان في قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. الوجه الرابع أن يقال إذا أطلق الحديث فالمراد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولم أر من طريق صحيح ولا ضعيف أنا أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما سألا كعباً عن شيء من الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا رويا عنه شيئاً من ذلك وإنما حكيا عنه بعض الشيء مما نقله من كتب أهل الكتاب, ومن ادعى أنهما سألاه عن شيء من الحديث المرفوع أو رويا عنه شيئا من ذلك فعليه إثبات ذلك بالإِسناد الصحيح ولن يجد إلى ذلك سبيلاً. الوجه الخامس أن يقال إن الله تعالى قد أغنى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بالرواية عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وسؤاله عما أشكل عليهم وبرواية بعضهم ¬

(¬1) ص: 221 - 222.

كلام العلماء في أبي جعفر الرازي والربيع بن أنس

عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضاً عن الحديث وما أشكل عليهم فليس بهم حاجة إلى الرواية عن كعب الأحبار ولا عن غيره من التابعين وليس بهم حاجة إلى سؤالهم عن الحديث. الوجه السادس أن يقال ما جاء أن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعب الأحبار عن سدرة المنتهى فهو أثر غير ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن ابن جرير الطبري رواه من طريق الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال «سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً وأنا حاضر» كذا جاء في هذه الرواية. والأعمش مشهور بالتدليس وهلال بن يساف لم يدرك كعب الأحبار. وأما ما رواه ابن جرير من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره قال «لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة» الحديث. فالكلام عليه من وجوه أحدها أنه لم يثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه لأن أبا جعفر الرازي شك فيه هل هو عن أبي هريرة رضي الله عنه أو عن غيره. الوجه الثاني لو فرضنا أنا أبا جعفر الرازي قال عن أبي هريرة وحده ولم يشك فيه فهو مردود بالكلام في إسناده لأن أبا جعفر الرازي والربيع بن أنس قد تكلم فيهما بعض أهل العلم. فأما أبو جعفر فقال أحمد في رواية ابنه عبد الله ليس بقوي في الحديث وكذا قال النسائي والعجلي, وقال ابن معين يكتب حديثه ولكنه يخطئ, وقال عمرو بن علي فيه ضعف وهو من أهل الصدق سيء الحفظ, وقال أبو زرعة شيخ يهم كثيراً, وقال الساجي صدوق ليس بمتقن, وقال ابن خراش صدوق سيء الحفظ, وقال ابن حبان كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات, وأما الربيع فقال ابن معين كان يتشيع فيفرط, وذكره ابن حبان في الثقات وقال الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً. الوجه الثالث أن يقال لو ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه فهو موقوف عليه وليس في الرواية ما يدل على أنه رواه عن كعب الأحبار, وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن ذلك مما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار فلا شك أنه من اتباع الظن والتحامل على أبي هريرة رضي الله عنه وقد قال النبي صلى

كذب المؤلف تبعا لأبي رية على الصحابة والرد عليهما

الله عليه وسلم «إياكم والظن فإِن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الوجه الرابع أن المؤلف وأبا رية حرفا في آخر الحديث حيث قالا «تغطي الأمة كلها» والذي في تفسير ابن جرير «تغطي المائة كلها». فصل وقال المؤلف في صفحة (55) و (56) ما نصه شهادة الصحابة على كعب بالكذب في الحديث وأخصهم عمر وعلي, وقد نهى عمر كعباً عن الحديث وتوعده بالنفي إلى بلاده وقال له لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة. وكان علي يقول إنه لكذاب (ص 106 جـ 8 من البداية والنهاية) وروى البخاري عن الزهدي أن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش وذكر كعباً فقال إنه من أصدق هؤلاء المحدثين من أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك نبلو عليه الكذب, وعن حذيفة وابن عباس. وأخرج ابن خيثمة بسند حسن عن قتادة قال بلغ حذيفة أن كعباً يقول إن السماء تدور على قطب كالرحى فقال كذب كعب إن الله يقول (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) ص 323 جـ1 من الإصابة لابن حجر, وقال ابن عباس لرجل مقبل من الشام من لقيت قال لقيت كعباً قال وما سمعته يقول قال سمعته يقول إن السموات تدور على منكب ملك فقال كذب كعب, أما ترك يهوديته بعد ثم قرأ (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) ص 139 من كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني, ,وفي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي توقفهم فيما رواه كعب الأحبار عن الرسول - ص - لأنه أسلم على يد الفاروق وكان يضربه بالدرة ويقول له دعنا من يهوديتك (ص 35 جـ 1 مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي). والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وغير فيه بعض التغيير, والكلام عليه من وجهين أحدهما أن يقال ظاهر كلام المؤلف أن الصحابة كلهم شهدوا على كعب بالكذب في الحديث, وهذا كذب وافتراء من المؤلف تبع فيه أبا رية, ولم أر بإِسناد صحيح ولا ضعيف أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم كذب كعباً فيما يرويه من الأحاديث المرفوعة أو الموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم, وإنما كان بعضهم يشك في بعض ما ينقله من كتب أهل الكتاب لأنها تحتمل الصدق

الجواب عما روي عن عمر أنه توعد أبا هريرة وكعبا بالنفي إلى بلادهما إن لم يتركا الحديث

والكذب, وقد ثبت عن معاوية رضي الله عنه أنه ذكر كعب الأحبار فقال إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب, رواه البخاري وثبت عن ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما أنهما كذبا كعباً في قوله إن السموات تدور على منكب ملك, وثبت عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كذب كعباً حين قال إن ساعة الإِجابة في يوم الجمعة يوم في كل سنة ثم صدقه لما رجع إلى الصواب وقال إنها في كل جمعة, فهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم في حق كعب الأحبار. وقد تقدم أن المراد بالكذب ههنا الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وليس المراد به افتراء الكذب. والخطأ في النقل يحتمل أن يكون من كعب ويحتمل أن يكون من الكتب التي ينقل منها. الوجه الثاني أن يقال لم يثبت عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كذبا كعب الأحبار, وما ذكره المؤلف عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما أخص من كذب كعبا فهو من كيسه وافترائه على عمر وعلي رضي الله عنهما. وقد تقدم ما رواه مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه أمر كعبا أن يحكم معه في جزاء الصيد, ولو كان كذاباً لما رضي عمر رضي الله عنه بحكمه في جزاء الصيد الذي لا يحكم فيه إلا العدول المرضيون. وأما قوله وقد نهى عمر كعباً عن الحديث وتوعده بالنفي إلى بلاده وقال له لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة, وكان علي يقول إنه لكذاب (ص 106 جـ 8 من البداية والنهاية). فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال قد ذكر ابن كثير هذا الأثر في البداية والنهاية ولفظه. قال أبو زرعة الدمشقي حدثني محمد بن زرعة الرعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله عن السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي هريرة لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس وقال لكعب الأحبار لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة, قال أبو زرعة وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحواً منه ولم يسنده انتهى, وقد أسقط أبو رية قوله «عن الأول» ليوهم من لا بصيرة لهم أن عمر رضي الله عنه نهى كعباً عن الحديث نهياً مطلقا يشمل الحديث عن الأول ويشمل الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه

وسلم والأحاديث الموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم, وهذا من عدم الأمانة في النقل. وقد تابع المؤلف أبا رية على خيانته لغباوته وكثافة جهله. الوجه الثاني أن يقال قد تكلم العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في سند هذا الخبر وقال إنه غير صحيح, قال ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة والمجهول لا تقوم به حجة, وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله بالتصغير ابن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أسمع من السائب أم لا, وفي البداية عقبه قال أبو زرعة وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحواً منه لم يسنده, قال المعلمي وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب. هذا ومخرج الخبر شامي, ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير منهم ابن عمر وغيره, هذا باطل قطعاً وأبو هريرة كان مهاجراً من بلاد دوس والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها فكيف يهدد عمر مهاجراً أن يرده إلى بلده التي هاجر منها, وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري ص 92 - 93 وبطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم انتهى. وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له في الرد على من تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه وهو في المجلد الرابع من مجموع الفتاوى ص 532 - 539 وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستدعي الحديث من أبي هريرة ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا توعده على ذلك, ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية حتى لا يجترئ الناس فيزاد في الحديث, ولهذا طلب من أبي موسى الأشعري من يوافقه على حديث الاستئذان مع أن أبا موسى من أكابر الصحابة وثقاتهم باتفاق الأئمة انتهى. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وكان علي يقول إنه لكذاب فجوابه أن يقال لم يذكر أبو رية من روى ذلك عن علي رضي الله عنه ولا الكتاب الذي وجد ذلك فيه والظاهر أن ذلك من أكاذيب أبي رية ووضعه, وقد نقل المؤلف ذلك من كتاب

أبي رية وزاد الطين بلة فزعم أنه في كتاب «البداية والنهاية» وهذا من الكذب الذي لا يخفى على من راجع «البداية والنهاية». وأما قوله وروى البخاري عن الزهدي إلى آخره. فجوابه أن يقال كذا قال المؤلف «الزهدي» وصوابه «الزهري» وقد تقدم أن المراد بالكذب في قول معاوية وحذيفة رضي الله عنهما الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وليس المراد به افتراء الكذب. وأما قوله وأخرج ابن خيثمة. فجوابه أن يقال الصواب ابن أبي خيثمة. وأما ما نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما وزعم تبعاً لأبي رية أنه في كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني. فجوابه أن يقال هذا خطأ وغباوة من أبي رية ومقلده فإِن ابن حجر لم يذكر هذا الأثر وإنما ذكره الزمخشري في الكشاف غير معزو إلى شيء من كتب الحديث, وقال ابن حجر في «الكافي الشاف, في تخريج أحاديث الكشاف» لم أجده وروى الطبراني من رواية أبي وائل قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال من أين جئت قال من الشام فذكره مثله إلا أنه لم يقل ما ترك يهوديته انتهى. قلت يحتمل أن الزمخشري أورد الأثر من حفظه فأبدل ابن مسعود ابن عباس والله اعلم. وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية من مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي فقد أجاب عنه العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال لم يسند السبط هذه الحكاية وهو معروف بالمجازفة انتهى. فصل وقال المؤلف في صفحة (56) ما نصه: إسرائيليات كعب الأحبار. ثم ذكر في هذه الصفحة وأثناء صفحة (57) روايات عن كعب الأحبار وليس لها أسانيد صحيحة عن كعب فلا تصح نسبتها إليه لأنه يحتمل أن يكون بعض الكذابين وضعها ونسبها إلى كعب.

الرد على زعم المؤلف أن الحديث في تفضيل الشام من دسائس اليهود

فصل وقال المؤلف في صفحة (57) ما نصه: في الصحيحين أن اليد اليهودية دست الحديث في تفضيل الشام, جاء في الصحيحين «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» روى البخاري «هم بالشام» في رواية أبي أمامة الباهلي أنهم سألوا النبي عنهم قال «هم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس» وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبي - ص - قال «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» قال أحمد وغيره هم أهل الشام. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال أما حديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» الحديث فهو حديث صحيح رواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والبرقاني في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من دس اليهود كما زعم ذلك المؤلف تبعاً لأبي رية, وقد روى الإِمام أحمد أيضاً والبخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, وروى الإِمام أحمد والبخاري ومسلم أيضاً عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضاً, وروى الإِمام أحمد ومسلم أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك, وروى الإِمام أحمد أيضاً والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال الترمذي حسن صحيح, وروى أبو داود الطيالسي والطبراني والحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو وصححه الحاكم والذهبي. وروى الإِمام أحمد وابن ماجه والبزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الإِمام أحمد أيضاً وأبو داود والحاكم في مستدركه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وصححه الحاكم والذهبي وقالا على شرط مسلم, وروى الإِمام أحمد أيضاً ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, وروى عبد الله بن الإِمام أحمد والطبراني بإِسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, وروى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

فهذه أحاديث متواترة في الإِخبار عن الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة, وقد ذكرتها بألفاظها في كتابي «إتحاف الجماعة, بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» فتراجع هناك في «باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة». وإذا علم هذا فمن المجازفة والعداء للأحاديث الصحيحة زعم المؤلف تبعاً لأبي رية أن اليد اليهودية دست حديث ثوبان رضي الله عنه في الصحيحين, وهذه دعوى كاذبة خاطئة ولا يقولها إلا زنديق محاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني أن يقال قد جاء في فضل الشام آيات وأحاديث كثيرة ذكرت بعضها في الرد على المؤلف حينما ذكر في صفحة (44) و (45) بعض الأحاديث التي جاءت في فضل الشام وزعم أنها قيلت إرضاء لبني أمية فلتراجع هناك (¬1). وأما ما زاده الإِمام أحمد والبخاري بعد روايتهما لحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن عمير بن هانئ أنه قال قال مالك بن يخامر قال معاذ وهم بالشام فقال معاوية هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام, ونحوه ما رواه عبد الله بن الإِمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله وأين هم قال «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» ففيهما إشارة إلى محل الطائفة المنصورة في آخر الزمان عند خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. ويدل على ذلك ما جاء في حديث أبي أمامة الطويل في ذكر خروج الدجال, ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وفيه فقالت أم شريك بنت أبي العكر يا رسول الله فأين العرب يومئذ قال «هم قليل وجلهم ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم» رواه ابن ماجه وغيره. ويدل على ذلك أيضاً حديث عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال «يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه وصححه هو والذهبي. ¬

(¬1) ص: 201 - 203.

ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ صححه الحاكم والذهبي, قال المنذري في تهذيب السنن قال يحيى بن معين وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم فقال يحيى ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق» انتهى. ففي هذه الأحاديث دليل على أن الطائفة المنصورة تكون في الشام في آخر الزمان عند وقوع الملاحم بين المسلمين والروم ولا يزالون هناك ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله تعالى وهم بالشام. والمراد بأمر الله إرسال الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة كما جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة» فلتراجع هناك, وليس شيء من ذلك من دس اليهود كما زعم ذلك من لا عقل له ولا دين. وأما قوله وفي مسلم عن أبي هريرة إلى آخره. فجوابه أن يقال هذا من أغلاط أبي رية وأكاذيبه على أبي هريرة رضي الله عنه وقد تبع المؤلف أبا رية على غلطه وكذبه لغباوته وكثافة جهله, وهذا الحديث قد رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وأما قوله قال أحمد وغيره هم أهل الشام. فجوابه أن يقال هذا من كذب أبي رية على الإِمام أحمد رحمه الله تعالى وقد تبع المؤلف أبا رية على كذبه لعدم بصيرته. وقول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى في الطائفة المنصورة مشهور وقد ذكره النووي وغيره من أكابر العلماء ورواه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» فقال سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن عبد الحميد الآدمي بمكة يقول سمعت موسى بن هارون يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول وسئل عن معنى هذا الحديث - يعني قوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة» - فقال إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم, قال

الرد على حديث وضعه أبو رية وتبعه المؤلف عليه والرد أيضا على زعمهما أن ابن عمر كان تلميذا لكعب الأحبار

الحاكم فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخدلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث انتهى. قال القاضي عياض إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث, وعن علي بن المديني أنه قال إنهم العرب واستدل بحديث «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» قال والمراد بالغرب الدلو الكبيرة لأن العرب أصحابها لا يستقي بها أحد غيرهم, ذكره يعقوب بن شيبة ونقله عنه صاحب المشارق وغيره ويؤيده عدة أحاديث ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة» فلتراجع هناك في «باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة». فصل وقال المؤلف في صفحة (57) ما نصه وفي صفحة 69 جـ3 من فتح الباري عن نافع عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال تخرج نار تحشر الناس فإِذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام (ولك أن تتصور أيها العاقل كيف يكون ابن عمر تلميذاً لكعب فيروي عنه). والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال هذا من أوابد أبي رية ذكره في صفحة (171) من الطبعة الثالثة لكتابه الخبيث, وذكر في الهامش أنه في صفحة 69 جـ 13 من فتح الباري وقد نقله المؤلف من كتاب أبي رية معتمداً عليه لغباوته وكثافة جهله, وقد راجعت فتح الباري فلم أجد فيه حديثاً بهذا اللفظ عن كعب الأحبار فضلاً عن أن يكون رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما, ولا شك أن أبا رية هو الذي وضع هذا الأثر بهذا اللفظ ونسبه إلى كعب الأحبار وزعم أن ابن عمر رضي الله عنهما رواه عنه وأن نافعاً رواه عن ابن عمر وهذا من الإِفك والبهتان. الوجه الثاني أن يقال قد كان المؤلف وأبو رية ينكران وضع الأحاديث أشد الإِنكار ولكنهما قد نقضا ذلك بالفعل فأبو رية يضع الحديث على قدر رغبته وما يمليه عليه شيطانه وهواه, والمؤلف يتابعه متابعة الأعمى لقائده نعوذ بالله من عمى القلوب وانتكاسها والله المسئول أن يعافينا وإخواننا المسلمين مما ابتلاهما به من عداوة السنة وأهلها وبهت الأبرياء ومتابعة الهوى. الوجه الثالث أن يقال قد ذكر الحافظ ابن حجر حديث ابن عمر رضي الله

وقيعة المؤلف وأبي رية في أبي هريرة والرد عليهما

عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال في صفحة 378 ج 11 طبع المطبعة السلفية ما نصه, وفي حديث ابن عمر عند أحمد وأبي يعلى مرفوعاً «تخرج نار قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس» الحديث وفيه قالوا فما تأمرنا قال «عليكم بالشام» وفي لفظ آخر «ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس إلى المحشر» هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وليس فيه ذكر لكعب الأحبار ولا لنافع, وهذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد في مسنده بأسانيد صحيحة من حديث سالم بن عبد الله بن عمر قال حدثني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حضرموت تحشر الناس» قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال «عليكم بالشام» وفي رواية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تخرج نار من حضرموت أو بحضرموت» الحديث وقد رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, قال وفي الباب عن حذيفة بن أسيد وأنس وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم. وأما قوله ولك أن تتصور أيها العاقل كيف يكون ابن عمر تلميذاً لكعب فيروى عنه. فجوابه أن يقال بل ينبغي للعاقل أن يتصور جراءة أبي رية على الوضع على ابن عمر رضي الله عنهما وعلى كعب الأحبار وعلى نافع. وأن يتصور أيضاً جراءته على الافتراء على ابن عمر رضي الله عنهما حيث زعم أنه كان تلميذاً لكعب الأحبار, وأن يتصور غباوة المؤلف وكثافة جهله حيث كان يتابع أبا رية على ترهاته ويعتمد على بهتانه ومفترياته ولا يبالي بما يترتب على ذلك من الوعيد الشديد على بهت الأبرياء والوقوع في أعراضهم. فصل وقال المؤلف في صفحة (58) ما نصه أبو هريرة ورأي علماء الحديث فيه ممثلاً في مدرسة المنار, قال الأستاذ الفقيه المحدث رشيد رضا لو طالت حياة عمر حتى مات أبو هريرة ما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة, وقال عن أحاديثه المشكلة (لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل

من أصول الدين) ص 851 جـ 10 المنار, ص 140 جـ 19 المنار. وسوف يزداد الأمر عجباً وعجباً إذا عرفنا أن أبا هريرة لم يعاصر النبي - ص - إلا عاما وتسعة أشهر. وقد قال أبو محمد ابن حزم إن مسند تقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374 روى البخاري منها 446 وقال أبو هريرة عن نفسه في البخاري ما من أصحاب النبي - ص - أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب, ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه 700 حديثا روى البخاري منها سبعة ومسلم 20, والحقيقة التاريخية تقول أن ابن عمرو هو أحد الرواة عن كعب الأحبار وكان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب كان يرويها للناس فتجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين. وكان يقال له لا تحدثنا عن الزاملتين. وقال فيها الخطيب البغدادي ومغيرة (ما يسرني أنها لي بفلسين. ووضح ذلك في صفحة 93 تأويل مختلف الحديث, وقال ابن حجر في الفتح ثبت أن أبا هريرة لم يكن يكتب ص 677 جـ 2 فتح الباري وكذلك لم يحفظ القرآن. والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال إن شرار العصريين قد جعلوا أبا هريرة رضي الله عنه غرضاً لسهامهم الخبيثة فأكثروا الوقيعة فيه والتنقص له ورموه ظلماً وزوراً بكل ما يرون أنه يشينه ويقدح فيه, وقد تولى كبر ذلك أبو رية ونشره في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض, ونقل أقوال الشانئين لأبي هريرة رضي الله عنه من الروافض ومشايخ أبي رية وغيرهم من متشدقة العصريين, وسيقف أبو هريرة رضي الله عنه والشانئون له بين يدي حكم عدل لا يظلم مثال ذرة فيأخذ للمظلوم حقه من الظالم, ولو كان أبو رية وأشباهه من أعداء السنة وأعداء أهلها يؤمنون بوقوع القصاص يوم القيامة لما تجرءوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقصوهم واستحلوا أعراضهم بغير حق. وقد ورد النهي الأكيد عن سب الصحابة وإيذائهم, وورد أيضا الوعيد الشديد على ذلك, وقد ذكرت ذلك في الفصل الحادي عشر في أول هذا الكتاب فليراجع هناك (¬1). ¬

(¬1) ص: 29 - 30.

تعجيل العقوبة لبعض المستهزئين بأبي هريرة والطاعنين فيه ذكر محمد رشيد رضا

وقد عجلت العقوبة في الدنيا لبعض المستهزئين بأبي هريرة رضي الله عنه والطاغين فيه (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في سننه «باب عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره» أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني ابن عجلان عن العجلان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بينما رجل يتبختر في بردين خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» فقال له فتى قد سماه وهو في حلة يا أبا هريرة أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خسف به ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر منها فقال أبو هريرة رضي الله عنه «للمنخرين وللفم» (إنا كفيناك المستهزئين). وذكر أبو سعد السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني عن الشيخ الفقيه أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب الطبري قال كنا جلوساً بالجامع ببغداد فجاء خراساني سألنا عن المصراة فأجبنا فيها واحتججنا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه فطعن في أبي هريرة فوقعت حية من السقف وجاءت حتى دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك الأعجمي فضربته فقتلته, ذكر هذه الحكاية شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له في الرد على من تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا الجواب في المجلد الرابع من مجموع الفتاوى صفحة 532 - 539 فليراجع فإنه مهم جداً, وليراجع المجلد كله ففيه الرد على من يسب الصحابة وأهل الحديث ويتنقصهم. وقد تصدى غير واحد من المعاصرين للدفاع عن أبي هريرة رضي الله عنه والرد على الطاعنين فيه بالإِفك والبهتان. فجزاهم الله عن دفاعهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الجزاء وشكر سعيهم. الوجه الثاني أن يقال من المجازفة وصف المؤلف وأبي رية لرشيد رضا بالفقيه المحدث, ومن نظر في كتب رشيد رضا وكان ذا بصيرة علم يقينا أنه لا يستحق أن يوصف بهذين الوصفين وإنما يستحق أن يوصف بأنه فيلسوف متضلع من الثقافة الغربية وأنه ممن يحاول التوفيق بين العلوم الشرعية وبين الثقافة الغربية على طريقة شيخه محمد عبده. الوجه الثالث أن يقال قد يغتر بعض الناس بكلام المؤلف وأبي رية فيتوهم

جواب المعلمي عن كلام رشيد رضا في أبي هريرة

أن علماء الحديث قد تكلموا في أبي هريرة رضي الله عنه, وإنما أراد المؤلف وأبو رية بعض العصريين مثل صاحب المنار وأشباهه من ذوي الجراءة على رد بعض الأحاديث الصحيحة إذا كانت مخالفة لآرائهم أو آراء من يعظمونهم من مشايخهم وغير مشايخهم, وهؤلاء ليسوا من علماء الحديث فلا يعتمد على أقوالهم في الجرح والتعديل ولا يلتفت إلى كلامهم في أبي هريرة وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة. ولا في كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من ثقات التابعين. وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية عن رشيد رضا أنه قال لو طالت حياة عمر حتى مات أبو هريرة ما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة. فجوابه أن يقال قد أجاب عن ذلك العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال «وما يدريك لعل عمر لو طال عمره حتى استحر الموت بحملة العلم من الصحابة لأمر أبا هريرة وغيره بالإِكثار وحث عليه, وحفظ الله تبارك وتعالى لشريعته وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر في حياة عمر وبعد موت عمر». وقال المعلمي أيضاً «وبعد فإِن الإِسلام لم يمت بموت عمر, وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإِكثار مع ثناء جماعة منهم عليه وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه يدل على بطلان المحكي عن عمر من منعه بل لو ثبت المنع ثبوتا لا مدفع له لدل إجماعهم على أن المنع كان على وجه مخصوص أو لسبب عارض أو استحساناً محضاً لا يستند إلى حجة ملزمة, وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أولى بالحق من رأي عمر» انتهى. وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أذن لأبي هريرة رضي الله عنه في التحديث, قال ابن كثير في «البداية والنهاية» قال مسدد حدثنا خالد الطحان حدثني يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بلغ عمر رضي الله عنه حديثي فأرسل إلي فقال كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان قال قلت نعم وقد علمت لم تسألني عن ذلك قال ولم سألتك قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» قال أما إذا فاذهب فحدث

جامعات الإفرنج

وقد تقدم قريبا (¬1) قول شيخ الإِسلام أبي العباس ابن تيمية أن عمر رضي الله عنه كان يستدعي الحديث من أبي هريرة رضي الله عنه ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا توعده على ذلك انتهى. وإن من نعم الله تعالى على هذه الأمة إطالة عمر أبي هريرة رضي الله عنه حتى بلغ ما حفظه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذلك إطالة أعمار غيره من الصحابة الذين حفظوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغوها إلى الأمة فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه. ومن ضاق ذرعا بشيء من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما رواه أبو هريرة أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم فلا وسع الله عليه. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية, وقال عن أحاديثه المشكلة لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين. فجوابه أن يقال ليس في أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابتة عنه مشكل لا فيما يتعلق بأصول الدين ولا فيما يتعلق بفروعه, وإنما يستشكلها من قل نصيبه من العلم النافع والدين ولاسيما تلاميذ الإِفرنج والمتخرجون من جامعاتهم ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من ذوي الجهل المركب, فكثير من هذا الضرب يستشكلون أحاديث الصفات والقضاء والقدر والوعيد ويسلكون في تأويلها مسلك الجهمية والمعتزلة, وكذلك أحاديث أشراط الساعة مثل خروج المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأحاديث المعجزات وخوارق العادات وغير ذلك من الأحاديث التي يستشكلها بعض العصريين لأنها لا تتفق مع أفكارهم وأفكار من يعظمونهم من المستشرقين وأتباع المستشرقين. وأما قوله وسوف يزداد الأمر عجباً وعجباً إذا عرفنا أن أبا هريرة لم يعاصر النبي - ص - إلا عاماً وتسعة أشهر. فجوابه أن يقال بل الذين يزداد به الأمر عجباً وعجباً هو شدة غباوة المؤلف ¬

(¬1) ص: 248.

شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بالحرص على الحديث والعلم

بحيث كان يتابع أبا رية على تخبيطه وجهله ويعتمد على أوهامه وتخرصاته, ومن ذلك زعمه أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا عاما وتسعة أشهر, وهذا خطأ واضح وجهل فاضح لأن أبا هريرة رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فتح خيبر وكان ذلك في أول سنة سبع من الهجرة. وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحها» الحديث, فعلى هذا يكون أبا هريرة رضي الله عنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنين وزيادة أيام, وروى ابن سعد في الطبقات عن حميد بن عبد الرحمن قال صحب أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين, وروى ابن سعد أيضاً عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ما كنت في سنوات قط أعقل مني ولا أحب إلي أن أعي ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مني فيهن». والجمع بين هذه الرواية والرواية قبلها أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر الزمن الذي كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو ثلاث سنين وأسقط السنة التي غاب فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين. وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية عن ابن حزم أنه قال إن مسند تقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374 روى البخاري منها 446. فجوابه أن يقال أما قوله «تقي بن مخلد» فصوابه «بقي بن مخلد» بالباء الموحدة لا بالتاء المثناة, وقد وقع هذا التصحيف من المؤلف لا من أبي رية. وأما العدد الذي ذكره ابن حزم فلا يستكثر مثله من أبي هريرة رضي الله عنه لأنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين وكان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخدمه ويدور معه حيث دار, وكان حريصاً على أخذ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرص على الحديث والعلم كما في صحيح البخاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة

رؤيا للإمام أحمد في أن كل ما روى أبو هريرة حق

فقال «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث». وروى الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن معاوية بن معتب الهذلي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا رد إليك ربك في الشفاعة فقال «والذي نفس محمد بيده لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي لما رأيت من حرصك على العلم» الحديث. قال الحاكم صحيح الإِسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال الهيثمي في إسناد أحمد رجاله رجال الصحيح غير معاوية بن معتب وهو ثقة. وروى الحاكم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبو هريرة وعاء العلم». وقد روى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة عن أبي جعفر محمد بن منصور العابد المعروف بالطوسي قال سمعت أحمد بن حنبل يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله كل ما روى عنك أبو هريرة حق قال نعم؟ وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه مشهوراً بالحفظ حتى قال الشافعي رحمه الله تعالى أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره, رواه البيهقي وغيره, وذكره النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» وابن كثير في «البداية والنهاية». وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أبو هريرة حافظ الأمة على الإِطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه انتهى من المجلد الرابع من الفتاوى صفحة 94. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «مفتاح دار السعادة» هو حافظ الأمة على الإِطلاق وكل ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحيح انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الإِصابة أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثاً. وقال البخاري روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم وكان أحفظ من روى الحديث في عصره, قال وكيع حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال كان أبو هريرة أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه البغوي من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش بلفظ ما كان أفضلهم ولكنه كان أحفظ, وأخرج ابن أبي

قول البخاري أنه روى عن أبي هريرة أكثر من ثمانمائة رجل من صاحب وتابع

خيثمة من طريق سعيد ابن أبي الحسن قال لم يكن أحد من الصحابة أكثر حديثا من أبي هريرة وقال الحاكم أبو أحمد كان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألزمهم له على شبع بطنه فكانت يده مع يده يدور معه حيث دار إلى أن مات ولذلك كثر حديثه, وقال أبو نعيم كان أحفظ الصحابة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بأن يحببه إلى المؤمنين انتهى ملخصا. وذكر أبو الحسن ابن الأثير في كتابه «أسد الغابة, في معرفة الصحابة» عن البخاري أنه قال روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أكثر من ثمانمائة رجل من صاحب وتابع, فمن الصحابة ابن عباس وابن عمر وجابر وأنس وواثلة بن الأسقع انتهى. وروى الحاكم في مستدركه عن محمد بن عمرو بن حزم أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكره بعضهم ويعرفه البعض حتى فعل ذلك مراراً فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب أسلم أبو هريرة عام خيبر وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم راضياً بشبع بطنه فكانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيث دار وكان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار لاشتغال المهاجرين بالتجارة والأنصار بحوائطهم وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حريص على العلم والحديث انتهى. وفي قوله إن أبا هريرة رضي الله عنه شهد خيبر نظر والصحيح أنه لم يشهدها لما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحها» فعلى هذا لا يعد أبو هريرة رضي الله عنه فيمن شهد خيبر. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم انتهى. وقال أيضاً في أول «البداية والنهاية» لما ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في احتجاج آدم وموسى من كذب بهذا الحديث فمعاند لأنه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه وناهيك به عدالة وحفظاً وإتقاناً انتهى.

ذكر سبب حفظ أبي هريرة رضي الله عنه

ولحفظ أبي هريرة رضي الله عنه سبب خصه به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وجامع الترمذي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه قال «ابسط رداءك» فبسطته قال فغرف بيده ثم قال «ضمه» فضممته فما نسيت شيئاً بعده, هذا لفظ البخاري وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه عن أبي هريرة, وفي جامع الترمذي أيضاً عن أبي الربيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبسطت ثوبي عنده ثم أخذه فجمعه على قلبي فما نسيت بعده حديثاً, قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى النسائي في العلم من كتاب السنن أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت فسأله فقال له زيد عليك بأبي هريرة فإِني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا فقال «عودوا للذي كنتم فيه» قال زيد فدعوت أنا وصاحبي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا ودعا أبو هريرة فقال إني أسألك ما سأل صاحباي وأسألك علماً لا ينسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آمين» فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله علماً لا ينسى فقال «سبقكما بها الغلام الدوسي» قال الحافظ ابن حجر في الإِصابة سنده جيد. وفي صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال وما سيقع التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه وردوا ما أخبر به من الحق كما قال لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني, انتهى. وقد شهد غير واحد من أكابر الصحابة رضي الله عنهم لأبي هريرة رضي الله عنه بالحفظ وأنكر بعضهم وبعض التابعين إكثاره من الحديث فرد عليهم أبو هريرة رضي الله عنه فسكتوا ولم يعارضوه, وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأبي هريرة يا أبا هريرة أنت كنت

ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه, قال الترمذي هذا حديث حسن. وقد رواه الإِمام أحمد وفيه قصة ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإِن شهد دفنها فله قيراطان, القيراط أعظم من أحد» فقال له ابن عمر رضي الله عنهما أبا هر انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها يا أم المؤمنين أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإِن شهد دفنها فله قيراطان» فقالت اللهم نعم فقال أبو هريرة رضي الله عنه إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق بالأسواق إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها وأكلة يطعمنيها فقال له ابن عمر أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه, وقد رواه مسلم في صحيحه مختصراً, ورواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية الإِمام أحمد وقال صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه, وقال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» والإِصابة قال ابن عمر «أبو هريرة خير مني وأعلم» زاد في الإِصابة «بما يحدث». ومنها ما رواه ابن سعد في الطبقات قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني عبد الله بن نافع عن أبيه قال كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه ويقول كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين. ومنها ما رواه الترمذي والحاكم واللفظ له عن مالك بن أبي عامر قال كنت عند طلحة بن عبيد الله فدخل عليه رجل فقال يا أبا محمد والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنه يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يعني أبا هريرة فقال طلحة والله ما نشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم إنا كنا قوماً أغنياء لنا بيوت وأهلون كنا نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع وكان أبو هريرة مسكينا لا مال له ولا أهل ولا ولد إنما كانت يده مع يد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيثما

دار ولا أشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع ولم يتهمه أحد منا أنه تقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل, قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي على شرط مسلم. ومنها ما رواه ابن أبي خثيمة من طريق محمد بن إسحاق عن عمر أو عثمان بن عروة عن أبيه قال قال لي أبي الزبير ادنني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإِنه كان يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأدنيته منه فجعل أبو هريرة يحدث وجعل الزبير يقول صدق كذب صدق كذب قال قلت يا أبت ما قولك صدق كذب قال يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه. ومنها ما رواه الطبراني والحاكم عن أبي الشعثاء سليم بن الأسود قال قدمت المدينة فوجدت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة فقلت تحدث عن أبي هريرة وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي رواية الحاكم وأنت صاحب منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع وإني إن أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمعه منه, قال الهيثمي رواه الطبراني من طريقين في إحداهما سعيد بن سيفان الجحدري وثقه غير واحد وفيه ضعف وبقية رجالها ثقات. ومنها ما رواه عبد الله بن الإِمام أحمد في زوائد المسند عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن أبا هريرة رضي الله عنه كان جريئاً على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنه غيره, قال الهيثمي رجاله ثقات وثقهم ابن حبان. قلت وقد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ولفظهما قال كان أبو هريرة جريئاً على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أشياء لا نسأله عنها. ومنها ما رواه مسدد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سمع أبا هريرة رضي الله عنه يتكلم قال إنا نعرف ما يقول ولكنا نجبن ويجترئ, ذكره الحافظ ابن حجر في الإِصابة. ومنها ما رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه» فقال له مروان بن الحكم أما يجزي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه قال لا, قال فبلغ ذلك ابن عمر فقال أكثر أبو هريرة على نفسه قال فقيل لا بن عمر هل تنكر شيئاً مما يقول قال لا ولكنه اجترأ وجبنا قال فبلغ ذلك أبا هريرة فقال ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا. ومنها ما رواه الحاكم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر رضي الله عنهما أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجيء به ولكنه اجترأ وجبنا. قال ابن الأثير الاجتراء الإِقدام على الشيء من غير خوف ولا فزع, والجبن خلافه انتهى. ومنها ما رواه ابن سعد عن الوليد بن رباح أن مروان قال يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قدمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير فقال أبو هريرة رضي الله عنه نعم قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات وأقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأنا والله يومئذ مقل وأصلي معه وأحج وأغزو معه فكنت والله أعلم الناس بحديثه قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فلا والله ما يخفى علي كل حديث كان بالمدينة وكل من أحب الله ورسوله وكل من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة, وذكر تمام الخبر. ومنها رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات - إلى قوله - الرحيم) إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون, هذا لفظ البخاري في كتاب العلم, وقد رواه في

كتاب المزارعة, وفي كتاب الاعتصام بأطول من هذا, ولفظه في كتاب المزارعة قال يقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث والله الموعد ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه وإن أخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم وكنت امرءاً مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأحضر حين يغيبون وأعي حين ينسون وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً «لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعها إلى صدره فينسى من مقالتي شيئاً أبداً» فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ثم جمعتها إلى صدري فو الذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئاً أبداً (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات - إلى قوله - الرحيم) , ورواه في كتاب البيوع من حديث سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بنحوه. قال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وهو من علامات النبوة فإِن أبا هريرة كان أحفظ من كل من يروي الحديث في عصره ولم يأت عن أحد من الصحابة كلهم ما جاء عنه, وقال في «الإِصابة» والحديث المذكور من علامات النبوة فإِن أبا هريرة كان أحفظ الناس للأحاديث النبوية في عصره انتهى. ومنها ما رواه مسلم عن أبي رزين قال خرج إلينا أبو هريرة رضي الله عنه فضرب بيده على جبهته فقال ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا وأضل الحديث. ومنها ما رواه البخاري عن سعيد المقبري قال قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول الناس أكثر أبو هريرة فلقيت رجلاً فقلت بما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في العتمة فقال لا أدري فقلت لم تشهدها قال بلى قلت لكن أنا أدري قرأ سورة كذا وكذا. ومنها ما رواه الحاكم في مستدركه عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنا دعت أبا هريرة رضي الله عنه فقالت له يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم هل سمعت إلا ما سمعنا وهل رأيت إلا ما رأينا قال يا أماه إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ما ذكره الحاكم في المستدرك من فضائل أبي هريرة وما ذكره عن ابن خزيمة في ذلك ورد ابن خزيمة على الذين يتكلمون في أبي هريرة وهو حسن جدا فليراجع

وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء, قال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه, وقد رواه أبو القاسم البغوي ولفظه أن عائشة رضي الله عنها قالت لأبي هريرة رضي الله عنه أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة قال إنه والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي قالت لعله. ومنها ما رواه أبو يعلي عن أبي رافع أن رجلاً من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها فقال يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً قال والله إنكم لتؤذوننا ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ما حدثتكم بشيء, سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول «إن رجلاً ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» فو الله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك شك أبو يعلى. وقال الحاكم في المستدرك قد تحريت الابتداء من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه لحفظه لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وشهادة الصحابة والتابعين له بذلك فإِن كل من طلب حفظ الحديث من أول الإِسلام وإلى عصرنا هذا فإِنهم من أتباعه وشيعته إن هو أولهم وأحقهم باسم الحفظ, وقد أخبرني عبد الله بن محمد بن زياد العدل قال سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق الإِمام يقول وذكر أبا هريرة قال كان من أكثر أصحابه عنه رواية فيما انتشر من روايته ورواية غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخارج صحاح, وقال أبو بكر وقد روى عنه أبو أيوب الأنصاري مع جلالة قدره ونزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده, ثم ذكر رواية أبي الشعثاء أن أبا أيوب رضي الله عنه كان يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه, وقد تقدم ذكرها قريباً, ثم قال الحاكم قال الإِمام أبو بكر فمن حرص أبي هريرة على العلم روايته عمن كان أقل رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم منه حرصاً على العلم فقد روى عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ثم ساق بإِسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يشهرن أحدكم على أخيه السيف لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من حفر النار» قال أبو هريرة رضي الله عنه سمعته من سهل بن سعد الساعدي سمعه من رسول الله صلى الله عليه

ذكر من روى من الصحابة عن أبي هريرة وهم كثيرون

وسلم, قال أبو بكر فحرصه على العلم يبعثه على سماع خبر لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم منه, وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار, إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرويها خلاف مذهبهم الذي هو كفر فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه تمويها على الرعاء والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة, وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف مذهبهم الذي هو ضلال لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة, أو قدري اعتزل الإِسلام وأهله وكفر أهل الإِسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها إذا نظر إلى إخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر ولم يجد حجة تؤيد صحة مقالته التي هي كفر وشرك كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها, أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان تكلم في أبي هريرة ودفع أخباره التي تخالف مذهبه ويحتج بأخباره على مخالفيه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه, وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها. قال الحاكم رحمه الله وأنا ذاكر بمشيئة الله عز وجل في هذا رواية أكابر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عن أبي هريرة, فقد روى عنه زيد بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وعائشة والمسور بن محزمة وعقبه بن الحارث وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك والسائب بن يزيد وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو أمامة بن سهل وأبو الطفيل وأبو نضرة الغفاري وأبو رهم الغفاري وشداد بن الهاد وأبو حدرد عبد الله بن حدرد الأسلمي وأبو رزين العقيلي وواثلة بن الأسقع وقبيصة بن ذؤيب وعمرو بن الحمق والحجاج الأسلمي وعبد الله بن عكيم والأغر الجهني والشريد بن سويد رضي الله عنهم أجمعين فقد بلغ عدد من روى عن أبي هريرة من الصحابة ثمانية وعشرين رجلاً فأما التابعون فليس فيهم أجل ولا أشهر وأشرف وأعلم من أصحاب أبي هريرة, وذكرهم في هذا الموضع يطول لكثرتهم, والله

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأمه

يعصمنا من مخالفة رسول رب العالمين والصحابة المنتخبين وأئمة الدين من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في أمر الحافظ علينا شرائع الدين أبي هريرة رضي الله عنه انتهى كلام الحاكم رحمه الله تعالى. وفيما نقله عن الإِمام أبي بكر ابن خزيمة رحمه الله تعالى أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وأشباههما من سخفاء العصريين الذين ينتقصون أبا هريرة رضي الله عنه ويرمونه ظلماً وعدواناً بكل ما يرون أنه يشينه ويقدح فيه, وهذا دليل على قلة الإِيمان فيهم أو عدمه لما رواه الإِمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أدع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم حبب عبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهما المؤمنين» فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. قلت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب بلا شك, وعلى هذا فلا يبغض أبا هريرة رضي الله عنه أحد في قلبه إيمان, ولا يتنقصه ويرميه بالإِفك والبهتان أحد في قلبه إيمان. وقد نقل القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة عن أبي محمد البربهاري أنه قال في «شرح كتاب السنة» إذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة وأسيداً فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله, قال ومن تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم وقد آذاه في قبره, وذكر عن سفيان بن عيينة أنه قال من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وقال أبو هريرة عن نفسه في البخاري ما من أصحاب النبي - ص - أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب, ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه 700 حديثا روى البخاري منها سبعة ومسلم 20. فجوابه أن يقال ما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه عن عبد الله بن عمرو رضي الله نهما أنه كان أكثر حديثاً منه فقد قال ذلك والله أعلم بحسب ما ظهر له من فعل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حيث كان يكتب ما يسمعه من النبي صلى الله

ذكر المثل للمؤلف وأبي رية في نيلهما من أبي هريرة رضي الله عنه

عليه وسلم وكان أبو هريرة لا يكتب, ولكن الواقع المطابق للحقيقة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان أكثر الصحابة حديثاً بدون استثناء, ويحتمل أن يكون عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حديث كثير جداً ولكنه لم ينتشر كما انتشر الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» وإنما قلّت الرواية عنه مع كثرة ما حمل لأنه سكن مصر وكان الواردون إليها قليلا بخلاف أبي هريرة فإِنه استوطن المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة انتهى. وقد حاول المؤلف وأبو رية النيل من أبي هريرة رضي الله عنه والطعن فيه بكثرة ما روى من الحديث فكانا كمن ينطح الجبل العظيم ويظن أنه يضره وإنما يضر نفسه ولا يضر الجبل شيئاً. وما مثل المؤلف وأبي رية وكلامهما في أبي هريرة رضي الله عنه إلا كما قال الشاعر: وما ضر نور الشمس أن كان ناظراً ... إليه عيون لم تزل دهرها عميا وكما قال الأعشى: كناطح صخرة يوماً ليوهيها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وكما قال الحسين بن حميد: يا ناطح الجبل العالي ليكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل وبعد فإِن أبا هريرة رضي الله عنه حافظ الأمة على الإِطلاق وهو البار الصادق فيما روى وإن رغم أنف أبي رية وأنف المؤلف وأنوف أعداء السنة من الرافضة وأتباعهم من العصريين. وأما قوله روى البخاري منها سبعة ومسلم 20. فجوابه أن يقال هذا خطأ مردود فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» والخزرجي في «الخلاصة» أن البخاري ومسلماً اتفقا على سبعة عشر من أحاديث عبد الله بن عمرو وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين, فعلى هذا يكون البخاري قد أخرج لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما خمسة وعشرين حديثاً وأخرج له مسلم سبعة وثلاثين حديثاً. وأما قوله والحقيقة التاريخية تقول إن ابن عمرو هو أحد الرواة عن كعب الأحبار.

الرد على زعمهما أن كثيرا من أئمة التابعين تجنبوا الأخذ عن عبد الله بن عمرو

فجوابه أن يقال هذا من كيس أبي رية وتخرصاته, وقد تبعه المؤلف على ذلك وزاد الطين بلة فزعم أن هذه الكذبة التي كذبها أبو رية حقيقة تاريخية, وهذه ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما موجودة في كتب التاريخ وأسماء الرجال وليس في شيء منها أنه روى عن كعب الأحبار, فأين الحقيقة التي زعمها المؤلف. وأما قوله وكان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب كان يرويها للناس فتجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين. فجوابه أن يقال إن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لم يكن يروي للناس من الزاملتين إلا الشيء القليل مما له تصديق في القرآن أو في السنة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال حسن صحيح, ورواه الإِمام أحمد وأبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, ورواه الإِمام أحمد أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وروى أبو يعلى والبزار نحوه من حديث جابر رضي الله عنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن بني إسرائيل رواه الإِمام أحمد وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, ورواه الإِمام أحمد أيضاً والبزار والطبراني من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وإسناد أحمد حسن وإسناد الطبراني صحيح. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من أنكر على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في روايته من الزاملتين لأن عبد الله رضي الله عنه قد أخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وتأسى به في فعله. وأما قوله فتجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين. فجوابه أن يقال هذا القول من المجازفات التي ليس لها مستند صحيح, والواقع يرد هذه المجازفة فقد روى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أكثر من أربعين, منهم ستة من الصحابة رضي الله عنهم منهم أنس بن مالك وأبو أمامة بن سهل بن حنيف ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وقال في «الإِصابة» قال أبو نعيم حدث عنه من الصحابة ابن عمر وأبو أمامة والمسور والسائب

ذكر صحيفة عبد الله بن عمرو التي كان يسميها الصادقة والرد على من تكلم فيها

بن يزيد وأبو الطفيل وعدد كثير من التابعين, ثم ذكر الحافظ منهم أربعة عشر وذكر في «تهذيب التهذيب» منهم ستة وثلاثين ثم قال وغيرهم, وفي الذين رووا عنه كثير من كبار التابعين وأئمتهم, وفيما ذكره الحافظ ابن حجر أبلغ رد على مجازفة أبي رية وعلى المؤلف حيث كان يتلقى ترهات أبي رية بالقبول ويشاركه في مجازفاته. وأما قوله وكان يقال له لا تحدثنا عن الزاملتين وقال فيها الخطيب البغدادي ومغيرة ما يسرني أنها لي بفلسين ووضوح ذلك في ص 93 تأويل مختلف الحديث. فجوابه أن يقال هذا مما نقله المؤلف من هامش كتاب أبي رية وقد أساء التصرف في النقل وحرف كلام أبي رية فنقل ما قيل في الصحيفة الصادقة إلى الزاملتين وهذا من جهله وتخبيطه, وهذا نص كلام أبي رية «وكان يقال له لا تحدثنا عن الزاملتين, أما صحيفته التي كان يسميه الصادقة ويحرص عليها فهي أدعية وصلوات كما قال الخطيب البغدادي وقال فيها مغيرة ما تسرني أنها لي بفلسين ص 93 تأويل مختلف الحديث». وأقول أما صحيفة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما التي كان يسميها الصادقة فقد ذكرها ابن سعد وابن عبد البر وأبو الحسن ابن الأثير, فأما ابن سعد فقال في «الطبقات» أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة ما سمعته منه قال فأذن لي فكتبته فكان عبد الله يسمي صحيفته تلك الصادقة رجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين. وقال ابن سعد أيضاً أخبرنا معن بن عيسى قال حدثنا إسحاق بن يحيى عن مجاهد قال رأيت عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما صحيفة فسألته عنها فقال هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد. إسحاق بن يحيى ضعيف جداً ولكن رواية صفوان بن سليم تؤيد روايته وتشهد لها بالصحة. وأما ابن عبد البر فروى في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال «ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان الصادقة والوهط فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,

الرد على زعم المؤلف وأبي رية أن أبا هريرة لم يحفظ القرآن

وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها». وأما أبو الحسن ابن الأثير فقال في كتابه «أسد الغابة, في معرفة الصحابة ما نصه قال مجاهد أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة تحت مفرشه فمنعني قلت ما كنت تمنعني شيئاً قال هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد, إذا سلمت لي هذه وكتاب الله والوهط فلا أبالي علام كانت عليه الدنيا, قال ابن الأثير والوهط أرض كان يزرعها. وأما قول أبي رية إن الصحيفة الصادقة أدعية وصلوات فهو مردود بقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن فيها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبينه أحد, وكذلك ما ذكره ابن قتيبة عن مغيرة أنه قال ما يسرني أنها ليس بفلسين هو مردود بقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, وما أبشع هذا القول من مغيرة إن كان ثابتا عنه وكذلك إيراد ابن قتيبة له في كتابه «تأويل مختلف الحديث» مستبشع أيضاً لما في ذلك من رد الأحاديث التي سمعها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من النبي صلى الله عليه وسلم والاستخفاف بشأنها, ولعل مغيرة وابن قتيبة لم يثبت عندهما قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن الصحيفة الصادقة فيها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وكتبه بإِذنه أو أنهما ظنا أن الصحيفة هي مما أصابه يوم اليرموك من كتب أهل الكتاب فلهذا قال مغيرة ما قال ونقله عنه ابن قتيبة وأقره. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن أبا هريرة رضي الله عنه لم يحفظ القرآن. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال لم يسند أبو رية هذا القول إلى مصدر موثوق به, والأحرى أن ذلك من كيسه, وما يدريه قاتله الله أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يحفظ القرآن (أعنده علم الغيب فهو يرى) , وقد ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن ابن جريح عمن حدثه قال قال أبو هريرة رضي الله عنه إن أجزئ الليل ثلاثة أجزاء فجزءاً لقراءة القرآن وجزءاً أنام فيه وجزءاً أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا يدل على أنه كان حافظا للقرآن. الوجه الثاني أن يقال قد ذكر ابن سعد في الطبقات من جمع القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر منهم أبا هريرة, وفي هذا أبلغ رد على المؤلف وأبي رية.

كان أبو هريرة من أئمة القراءات

الوجه الثالث أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه كان من أئمة القراءات وهو من شيوخ الأعرج وأبي جعفر القارئ وهما من شيوخ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أحد الأئمة السبعة في القراءات وهو الذي قام بالقراءة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم, ذكر ذلك أبو بكر بن مجاهد في كتاب «السبعة في القراءات» قال وكان عبد الرحمن - يعني ابن هرمز الأعرج - قد قرأ على أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما, حدثني أحمد بن محمد بن صدقة قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسحاق المدني بقورس قال حدثنا عبيد بن ميمون التبان قال قال لي هارون بن المسيب قراءة من تقرأ قال قلت له قراءة نافع بن أبي نعيم قال فعلى من قرأ نافع قال قلت أخبرنا نافع أنه قرأ على الأعرج وأن الأعرج قال قرأت على أبي هريرة رضي الله عنه وقال أبو هريرة قرأت على أبي بن كعب وقال أبي عرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وقال «أمرني جبريل أن أعرض عليك القرآن» ثم روى ابن مجاهد بإِسناده إلى عاصم بن بهدلة قال قلت للطفيل بن أبي بن كعب إلى أي معنى ذهب أبوك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقرأ عليك القرآن» فقال ليقرأ علي فأخذو ألفاظه, وقال محمد بن إسحاق الصنعاني عن أبي عبيد قال معنى هذا الحديث أن يتعلم أبي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم قراءة أبي رضي الله عنه. ثم قال ابن مجاهد وكان أبو جعفر - يعني يزيد بن القعقاع مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي - لا يتقدمه أحد في عصره أخذ القراءة عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وعن مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي, ثم ساق ابن مجاهد بإِسناده إلى سليمان بن مسلم بن جماز الزهري قال سمعت ابا جعفر يحكي لنا قراءة أبي هريرة رضي الله عنه في (إذا الشمس كورت). وفيما ذكره ابن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أبلغ رد على المؤلف وأبي رية لأن أبا هريرة لم يكن ليقرئ القرآن إلا وهو حافظ له. ومما ذكرته في أول هذا الفصل وآخره يتضح أنه قد اجتمع في أبي هريرة رضي الله عنه ثلاث خصال حميدة لا ينالها إلا القليل من الناس, أحدها أنه كان من حفاظ القرآن, الثانية أنه كان من أئمة القراءات, الثالثة أنه كان أحفظ من روى الحديث في عصره, وخصلة رابعة أيضاً لم يتقدم ذكرها وهو أنه كان من أئمة

تهجم المؤلف وأبي رية على أبي هريرة والرد عليهما

الفتوى من الصحابة رضي الله عنهم, قال ابن سعد في الطبقات أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن زياد بن ميناء قال كان ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع وأبو واقد الليثي وعبد الله بن بحينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتون بالمدينة ويحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا, والذين صارت إليهم الفتوى منهم ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم انتهى. فليتأمل الشانئون لأبي هريرة رضي الله عنه ما ذكرنا من مناقبه الجليلة وليتقوا الله إن كانوا مسلمين, وليحذروا من العقوبات العاجلة أو الآجلة على بهتهم للصحابة ووقوعهم في أعراضهم, فما العقوبة من الظالمين ببعيد. فصل وقال المؤلف في صفحة (59) وصفحة (60) رأي الصحابة ورجال التخريج في أبي هريرة وكلامه مع عائشة بغير وقار لائق, روى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعد قال اتقوا الله وتحفظوا من الحديث لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله - ص - ويحدث عن كعب الأحبار ثم يقوم فاسمع بعض من كانوا معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب وحديث كعب عن رسول الله، وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله وما قاله رسول الله عن كعب فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث. وقال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول أبو هريرة كان يدلس أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز بين هذا من هذا, ذكره ابن عساكر, وكأن شعبة يشير إلى حديث «من أصبح جنباً فلا صيام له» فإِنه لما حوقق عليه قال أخبرني مخبر ولم أسمعه من رسول الله (ص 109 جـ 8 البداية والنهاية لابن كثير, وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث وكان أبو هريرة يقول قال رسول الله - ص - كذا وإنما سمعه من الثقة فحكاه (ص 50 تأويل مختلف الحديث) , وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 48 إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عن رسول الله ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه الأولون وأنكروا عليه وقالوا كيف سمعت هذا وحدك ومن سمعه معك

وكانت عائشة أشدهم إنكاراً عليه لتطاول الأيام به, وممن اتهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي وغيرهم - كما قال الكاتب الإِسلامي الكبير مصطفى صادق الرافعي إنه أول راوية اتهم في الإِسلام (ص 278 تاريخ آداب العرب) للأديب الرافعي, ولما قالت عائشة إنك لتحدث حديثاً ما سمعته من النبي - ص - أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها كما رواه ابن سعد والنجار وابن كثير وغيرهم شغلك عنه - ص - المرآة والمكحلة, وفي رواية ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عنه ثم عاد بعد ذلك واعترف بأنها أعلم منه في حديث «من أصبح جنباً لا صيام له» عندما واجهته بأن النبي - ص - كان يصبح جنبا وهو صائم فتراجع وقال إنه سمعه من الفضل وكان الفضل بن عباس قد مات, وقصة ذلك في صفحة 28 من تأويل مختلف الحديث, ولما روى حديث «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإِناء فإِن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به وقالت كيف نصنع بالمهراس, والمهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤنه ماءاً ويتطهرون منه ولما سمع الزبير بن العوام أحاديثه قال صدق كذب (109 جـ البداية والنهاية) وأنكر عليه ابن مسعود قوله من غسل ميتاً ومن حمله فليتوضأ وقال فيه قولا شديداً ثم قال يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم (ص 25 جـ2 جامع بيان العلمي). والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وغير فيه بعض الكلمات. فمن ذلك قوله «بسر بن سعد» وصوابه «بسر بن سعيد» ومنها قوله «بعض من كانوا» وصوابه «بعض من كان» ومنها قوله «ولا يميز بين هذا من هذا» وصوابه «ولا يميز هذا من هذا» ومنها قوله «قال أخبرني مخبر» وصوابه «قال أخبرنيه مخبر» ومن ذلك قوله «وإنما سمعه من الثقة فحكاه» وصوابه «وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه» ومنها قوله «من جلة أصحابه الأولون» وصوابه «من جلة أصحابه والسابقين الأولين» ومن ذلك قوله «لتطاول الأيام به» وصوابه «لتطاول الأيام بها وبه» ومن ذلك قوله «والنجار» وصوابه «والبخاري» ومن ذلك قوله «جامع بيان العلمي» وصوابه «جامع بيان العلم». والكلام على ما في أول هذا الفصل من وجهين أحدهما أن يقال لم يثبت عن

ذب شيخ الإسلام ابن تيمية عن أبي هريرة

أحد الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من أئمة الجرح والتعديل أنه تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه بما يقدح فيه. وقد ذكرت قريبا ثناء بعض الأكابر من الصحابة عليه وشهادتهم بحفظه وكذلك ثناء كثير من أكابر العلماء عليه وشهادتهم بحفظه, وقول شيخ الإِسلام أبي العباس ابن تيمية وابن القيم أنه حافظ الأمة على الإِطلاق, وقول الشافعي وغيره أنه أحفظ من روى الحديث في دهره وأنه أحفظ الصحابة فليراجع ذلك (¬1). وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له إن الصحابة كلهم كانوا يأخذون بحديث أبي هريرة كعمر وابن عمر وابن عباس وعائشة, ومن تأمل كتب الحديث عرف ذلك, قال ولم يطعن أحد من الصحابة في شيء رواه أبو هريرة بحيث قال إنه أخطأ في هذا الحديث لا عمر ولا غيره, بل كان لأبي هريرة مجلس إلى حجرة عائشة فيحدث ويقول يا صاحبة الحجرة هل تنكرين مما أقول شيئاً فلما قضت عائشة صلاتها لم تنكر مما رواه لكن قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم ولكن كان يحدث حديثا لو عده العاد لحفظه, فأنكرت صفة الأداء لا ما أداه, وكذلك ابن عمر قيل له هل تنكر مما يحدث أبو هريرة شيئاً فقال لا ولكن اجترأ وجبنا فقال أبو هريرة ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا, وكانوا يستعظمون كثرة روايته حتى يقول بعضهم أكثر أبو هريرة حتى قال أبو هريرة الناس يقولون أكثر أبو هريرة والله الموعد - ثم ذكر الحديث وقد تقدم ذكره (¬2) - قال وكان عمر بن الخطاب يستدعي الحديث من أبي هريرة ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا توعده على ذلك ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية حتى لا يجترئ الناس فيزاد في الحديث انتهى من الجزء الرابع من مجموع الفتاوى صفحة 535 - 536. الوجه الثاني أن أقول قد ذكرت في أثناء الفصل الذي قبل هذا الفصل ما ذكره الحاكم في المستدرك عن الإِمام محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال إنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار وهم إما معطل جهمي وإما خارجي أو قدري أو جاهل مقلد بلا حجة ولا برهان, وذكرت أيضاً ¬

(¬1) ص: 260 - 265. (¬2) ص: 265 - 266.

ما ذكره الحاكم من رواية أكابر الصحابة رضي الله عنهم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأنه قد بلغ عدد من روى عنه من الصحابة ثمانية وعشرين رجلاً, وذكرت قبل ذلك قول البخاري أنه روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم فليراجع (¬1) ما تقدم ذكره ففيه أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وغيرهما من المتنطعين الذين يتكلمون في أبي هريرة رضي الله عنه ويتنقصونه ويطعنون في روايته. وأما قول بسر بن سعيد الذي رواه مسلم فإِنما رواه في كتاب التمييز وكان ينبغي لمن أورده أن ينبه على ذلك لئلا يتوهم أحد أنه في الصحيح, وإذا كان بعض المغفلين الذين ليسوا من أهل الحفظ والإِتقان والعناية بالعلم يحضرون مجلس أبي هريرة رضي الله عنه فيقع منهم الغلط فيما سمعوه ولا يميزون بين ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وما رواه عن غير النبي صلى الله عليه وسلم فأي ذنب لأبي هريرة رضي الله عنه في هذا حتى يجعل المؤلف وأبو رية ذلك من معائبه وإنما الذنب لغيره وقد قال الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى). وأما قوله وقال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول أبو هريرة كان يدلس أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز بين هذا وهذا, ذكره ابن عساكر. فجوابه أن يقال يبعد كل البعد أن يقول شعبة هذا القول الباطل في أبي هريرة رضي الله عنه, ولا يبعد أن يكون ذلك من أكاذيب أعداء السنة الذين يختلقون المعائب لأبي هريرة رضي الله عنه ثم ينسبونها إلى بعض أكابر العلماء. وقد قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» هي حكاية شاذة لا أدري كيف سندها إلى يزيد ويقع في ظني إن كان السند صحيحاً أنه وقع فيه تحريف فقد يكون الأصل «أبو حرة» فتحرفت على بعضهم فقرأها «أبو هريرة» وأبو حرة معروف بالتدليس كما تراه في طبقات المدلسين لابن حجر ص 17 وقوله «أي يروي ...» أراه من قول ابن عساكر بناه على قصة بسر السابقة, فقوله لا يميز هذا من هذا» يعني لا يفصل بين قوله قال النبي صلى الله عليه وسلم ...» وقوله زعم كعب .......» مثلاً بفصل طويل حتى يؤمن أو يقل الالتباس على ضعفاء الضبط, وتسمية هذا تدليساً غريب فلذلك قال ابن كثير وحكاه ¬

(¬1) ص: 260 - 261 و 268.

الصحابة كلهم عدول بالاتفاق

أبو رية «وكأن شعبة يشير بهذا إلى حديث «من أصبح جنباً فلا صيام له» فإِنه لما حوقق عليه قال أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول يعني أنه قال أولاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ...» مع أنه إنما سمعه من بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا هو إرسال الصحابي الذي تقدم أنه ليس بتدليس ولكنه على صورته والله أعلم انتهى كلام المعلمي رحمه الله. وأما قوله وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث وكان أبو هريرة يقول قال رسول الله - ص - كذا وإنما سمعه من الثقة فحكاه. فجوابه أن يقال في تتمة كلام ابن قتيبة ما يرد على المؤلف وأبي رية وهو قوله, وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب بحمد الله ولا على قائله - إن لم يفهمه السامع جناح إن شاء الله انتهى. ولما كان مراد المؤلف وأبي رية ابتغاء العيوب لأبي هريرة رضي الله عنه نقلا بعض كلام ابن قتيبة وتركا بعضه لأنهما لو ساقاه بتمامه لما حصل مقصودهما الخبيث من الطعن في أبي هريرة وفي أحاديثه, وقد قال عبد الرحمن بن مهدي أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل البدعة يكتبون ما لهم ولا يكتبون ما عليهم. ولا خلاف أن الصحابة كلهم عدول قال النووي في خطبة شرح مسلم كلهم مقطوع بعدالتهم عند من يعتد به من علماء المسلمين انتهى. فإِذا روى بعض الصحابة عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرسل صحابي وهو مقبول بالاتفاق. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الباب الرابع من كتاب العلم وقرر صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة رضي الله عنهم, وفي هذا رد على من طعن على أحد من الصحابة بالإِرسال كما فعل المؤلف وأبو رية في طعنهما على أبي هريرة رضي الله عنه بالإرسال. وأما قوله وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث أنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عن رسول الله ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه الأولون وأنكروا عليه وقالوا كيف سمعت هذا وحدك ومن سمعه معك وكانت عائشة أشدهم إنكاراً عليه لتطاول الأيام بها وبه.

إنكار عائشة على أبي هريرة كثرة الرواية وجواب أبي هريرة لها وكلام المعلمي في ذلك

فجوابه أن يقال هكذا قال المؤلف «الأولون» وصوابه «الأولين» وقد تقدم التنبيه على ذلك في أول الفصل, وقد اقتصر المؤلف تبعاً لأبي رية على هذه القطعة من كلام ابن قتيبة لأن غاية قصدهما سب أبي هريرة رضي الله عنه وإلصاق العيوب به. وقد أجاب ابن قتيبة عن ذلك بقوله فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمته وشبع بطنه وكان فقيراً معدماً وأنه لم يكن ليشغله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا الصفق بالأسواق, يعرض أنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا - أمسكوا عنه انتهى. ولم يثبت عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه أنكر على أبي هريرة رضي الله عنه كثرة الرواية إلا ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما. وقد تقدم ذكر ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل وفيه أن ابن عمر رضي الله عنهما قال أكثر أبو هريرة على نفسه فقيل له هل تنكر شيئاً مما يقول قال لا, وتقدم أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه اعترف لأبي هريرة رضي الله عنه بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بحديثه, وتقدم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأبي هريرة رضي الله عنه أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي قالت لعله. وفي رواية أن أبا هريرة رضي الله عنه لما قال لعائشة رضي الله عنها يا أماه إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء. فسكتت. وهذا يدل على إقرارها لأبي هريرة رضي الله عنه بالحفظ. قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» إن أبا هريرة كان شديد التواضع, وعائشة معروفة بالصرامة وقوة العارضة فجوابه يدل على قوة إدلاله بصدقه ووثوقه بحفظه, ولو كان عنده أدنى تردد في صدقه وحفظه لاجتهد في الملاطفة فإِن المريب جبان, وسكوت عائشة بل قولها «لعله» أي لعل الأمر كما ذكرت يا أبا هريرة يدل دلالة واضحة أنه لم يكن عندها ما يقتضي اتهام أبي هريرة, هذا وحجة أبي هريرة واضحة فإِن عائشة لم تكن ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم بل انفردت عن الرجال بصحبته صلى الله عليه وسلم في الخلوة, وقد انفردت

استعمال عمر لأبي هريرة على البحرين

بأحاديث كثيرة تتعلق بالخلوة وغيرها فلم ينكرها عليها أحد ولم يقل أحد - ولا ينبغي أن يقول - إن سائر أمهات المؤمنين قد كان لهن من الخلوة بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل ما لها فما بال الرواية عنهن قليلة جداً بالنسبة إلى رواية عائشة انتهى. وأما قوله وممن اتهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي وغيرهم. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال هذا من أكاذيب النظام ذكر ذلك ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث» وقد نقل ذلك أبو رية في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض ورد عليه العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال هذا أخذه من كتاب ابن قتيبة وإنما حكاه ابن قتيبة عن النظام بعد أن قال ابن قتيبة «وجدنا النظام شاطراً من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات, ثم ذكر أشياء من آراء النظام المخالفة للعقل وللإجماع وطعنه على أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة, فمن كان بهذه المثابة كيف يقبل نقله بلا سند, ومن الممتنع أن يكون وقع من عمر وعثمان وعلي وعائشة أو واحد منهم رمي لأبي هريرة بتعمد الكذب أو اتهام به ثم لا يشتهر ذلك ولا ينقل إلا بدعاوي من ليس بثقة ممن يعادي السنة والصحابة كالنظام وبعض الرافضة, وقد تقدم ثناء بعض الصحابة على أبي هريرة وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه, وأطبق أئمة التابعين من أبناء أولئك الأربعة وأقاربهم وتلاميذهم على تعظيم أبي هريرة والرواية عنه والاحتجاج بأخباره, وعند أهل البدع من المعتزلة والجهمية والرافضة والناصبة حكايات معضلة مثل هذه الحكاية تتضمن الطعن القبيح في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وغيرهم وفي كثير منها ما هو طعن في النبي صلى الله عليه وسلم, والحكم في ذلك واحد وهو تكذيب تلك الحكايات البتة انتهى. الوجه الثاني أن يقال إن عمر رضي الله عنه قد استعمل أبا هريرة على البحرين ثم عزله ثم أراده على العمل فأبى قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر استأثرت بهذه الأموال أي عدو الله وعدو كتابه فقال أبو هريرة لست بعدو الله ولا عدو كتابه ولكن عدو من عاداهما فقال فمن أين هي لك قال خيل نتجت وغلة رقيق لي وأعطية تتابعت علي فنظروا فوجدوه كما قال فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله

زعم المؤلف وأبي رية تقليدا للنظام أن عمر وعثمان وعليا اتهموا أبا هريرة، والرد عليهما

فأبى أن يعمل له فقال له تكره العمل وقد طلبه من كان خيراً منك طلبه يوسف عليه السلام فقال إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة ابن أميمة وأخشى ثلاثاً واثنتين قال عمر فهلا قلت خمساً قال أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم أو يضرب ظهري وينزع مالي ويشتم عرضي. وفي استعمال عمر رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنه أبلغ رد على من زعم أن عمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم اتهموا أبا هريرة رضي الله عنه بالكذب لأنه لو كان متهماً عند عمر رضي الله عنه لما استعمله فإِنه لم يكن متساهلاً في أمر الولاة بل كان بغاية الحزم والتدقيق عليهم ولم يكن يولي أحداً من المتهمين بالكذب ولو كان أبو هريرة رضي الله عنه متهماً بالكذب عند عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم لكانوا ينكرون توليته ويتكلمون فيه عند عمر رضي الله عنه, ولما لم يوجد منهم إنكار لتوليته دل ذلك على أنه لم يكن متهماً عندهم. وأما قول مصطفى الرافعي في أبي هريرة رضي الله عنه أنه أول راوية اتهم في الإِسلام. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال هذه كلمة بشعة جداً وهي تنم عما في قلب قائلها من الغيظ على أبي هريرة رضي الله عنه والبغض له, وقد تقدم في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأبي هريرة وأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب بلا شك, ويستفاد من هذا الحديث أنه لا يبغض أبا هريرة رضي الله عنه أحد في قلبه إيمان. الوجه الثاني أن يقال إنما يتهم أبا هريرة رضي الله عنه من أعمى الله قلوبهم من الخوارج والروافض والقدرية والمعتزلة والجهمية ومن يقلدهم ويأخذ بأقوالهم من المتقدمين والمتأخرين. ومنهم مصطفى الرافعي وأبو رية والمؤلف وكثيرون سواهم من شرار العصريين الذين قد جعلوا أبا هريرة رضي الله عنه غرضاً للطعن والتنقص, وقد تقدم قريباً كلام ابن خزيمة في ذم المتكلمين في أبي هريرة رضي الله عنه وأنه لم يتكلم فيه إلا أهل البدع وأتباعهم فليراجع (¬1). فأما أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة العلم والهدى فلم ¬

(¬1) ص: 268.

الرد على زعم المؤلف وأبي رية أن جواب أبي هريرة لعائشة مخل بالأدب والوقار

يثبت عن أحد منهم أنه اتهم أبا هريرة رضي الله عنه. وقد تقدمت الآثار عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في الثناء على أبي هريرة رضي الله عنه ووصفه بالحفظ وفيها أبلغ رد على من زعم أنه أول راوية اتهم في الإِسلام (¬1). وأما قوله ولما قالت عائشة إنك لتحدث حديثاً ما سمعته من النبي - ص - أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها كما رواه ابن سعد والنجار «صوابه البخاري» وابن كثير وغيرهم شغلك عنه - ص - المرآة والمكحلة, وفي رواية ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عنه. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال ليس في جواب أبي هريرة رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها ما يخل بالأدب والوقار إذ ليس فيه بذاء ولا فحش وليس في ذكر اشتغال المرأة بالمرآة والمكحلة والخضاب ما تستحي منه المرأة وتخجل من ذكره حتى يقول المبطلون إن ذكر أبي هريرة رضي الله عنه لذلك لا أدب فيه ولا وقار. وقد تقدم في أثناء الفصل الذي قبل هذا الفصل أن أبا هريرة رضي الله عنه لما قال لعائشة رضي الله عنها إنه والله ما كانت تشغلني عن النبي صلى الله عليه وسلم المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي قالت لعله - أي لعل الأمر كما ذكرت يا أبا هريرة - وفي رواية أنها سكتت, وهذا يدل على أنها لم تر فيما قاله أبو هريرة رضي الله عنه بأسا. ولو كان في كلامه ما يخل بالأدب والوقار لأنكرت ذلك عائشة فإِنها كانت معروفة بالصرامة وقوة العارضة. الوجه الثاني أن يقال إن سوء الأدب وعدم الوقار في الحقيقة هما في مكابرة المؤلف وأبي رية في رد الحديث الصحيح الدال على تفضيل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام, وقد زعما أن هذا الحديث موضوع مع أنه ثابت في الصحيحين من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه, ومروي أيضاً في غير الصحيحين عن أنس بن مالك وأبي موسى وعائشة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وقرة بن إياس المزني رضي الله عنهم, وأسانيد هذه الأحاديث ما بين صحيح وحسن, وقد تقدم إبرادها في أثناء الكتاب فلتراجع (¬2) ففيها أبلغ رد على المؤلف وأبي رية. ¬

(¬1) ص: 260 - 265. (¬2) ص: 197 - 198.

طعن النظام في أكابر الصحابة ورد ابن قتيبة عليه

وقد جمع المؤلف وأبو رية بين سوء الأدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء الأدب على عائشة رضي الله عنها, فأما سوء أدبهما على النبي صلى الله عليه وسلم فيتجلى ذلك في رد الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم وقلة المبالاة به, وأما سوء أدبهما على عائشة رضي الله عنها فيتجلى ذلك في إنكار ما خصها الله به من التفضيل على النساء. وأما قوله ثم عاد بعد ذلك واعترف بأنها أعلم منه في حديث «من أصبح جنبا لا صيام له» عندما واجهته بأن النبي - ص - كان يصبح جنبا وهو صائم فتراجع وقال إنه سمعه من الفضل وكان الفضل بن عباس قد مات, وقصة ذلك في صفحة 28 من تأويل الحديث. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال هذا من أقوال النظام التي طعن بها على أبي هريرة رضي الله عنه ذكر ذلك ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث» وقد نقل أبو رية كلام النظام من كتاب ابن قتيبة ولم يذكر أنه من كلام النظام فأوهم من لا علم لهم أنه من كلام ابن قتيبة وقد نقله المؤلف من كتاب أبي رية واختصره وغير فيه بعض الكلمات ولم يذكر أنه من أقوال النظام. وفي هذا أوضح دليل على أنه لا أمانة لأبي رية ولا للمؤلف, وقد ذكر ابن قتيبة قبل هذا الكلام أقوالاً للنظام يطعن بها على أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهم, وقد رد عليه ابن قتيبة فقال, هذا قوله في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كأنه لم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم (محمد رسول الله والذين معه) إلى آخر السورة. قلت وفي آخر الآية وهو قوله تعالى (ليغيظ بهم الكفار) أوضح دليل على كفر من يغتاظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد تقدم عن الإِمام مالك أنه قال من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية, ومن تأمل أقوال النظام في الطعن على أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهم لم يشك أنها فيض مما في قلبه من الغيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله يجازيه على ذلك بعدله. ثم قال ابن قتيبة ولم يسمع بقوله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) ولو كان ما ذكرهم به

الجواب عن حديث «من أصبح جنبا فلا يصم»

حقا لا مخرج منه ولا عذر فيه ولا تأويل له إلا ما ذهب إليه لكان حقيقا بترك ذكره والإِعراض عنه إذ كان قليلا يسيراً مغمورا في جنب محاسنهم وكثير مناقبهم وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلهم مهجهم وأموالهم في ذات الله تعالى. ثم رد ابن قتيبة على أقوال النظام رداً مفصلا فليراجع ذلك في أول كتابه «تأويل مختلف الحديث». الوجه الثاني أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه كان يفتي بما رواه عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ» رواه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح على شرط الشيخين. ولما أخبره عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم» قال أبو هريرة رضي الله عنه هما أعلم ورجع عن قوله. وقوله هما أعلم أي بهذه القضية لأنهما أخبرتاه عن النبي صلى الله عليه وسلم بشيء لا يطلع عليه إلا نساؤه وهو أنه كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم. قال النووي في شرح مسلم لعل سبب رجوعه أنه تعارض عنده الحديثان فجمع بينهما وتأول أحدهما وهو قوله من أدركه الفجر جنباً فلا يصم وفي رواية مالك أفطر فتأوله على ما سنذكره من الأوجه في تأويله إن شاء الله تعالى. فلما ثبت عنده أن حديث عائشة وأم سلمة على ظاهره وهذا متأول رجع عنه وكان حديث عائشة وأم سلمة أولى بالاعتماد لأنهما أعلم بمثل هذا من غيرهما ولأنه موافق للقرآن فإِن الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر قال الله تعالى (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) والمراد بالمباشرة الجماع ولهذا قال الله تعالى (وابتغوا ما كتب الله لكم) ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جنباً ويصح صومه لقوله (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وإذا دل القرآن وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جواز الصوم لمن أصبح جنباً وجب الجواب عن حديث أبي هريرة عن الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجوابه من ثلاثة أوجه أحدها أنه إرشاد إلى الأفضل فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز وهذا مذهب أصحابنا وجوابهم عن الحديث, والجواب الثاني لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعاً فاستدام بعد طلوع

الفجر عالما فإِنه يفطر ولا صوم له, والثالث جواب ابن المنذر فيما رواه عنه البيهقي أن حديث أبي هريرة منسوخ وأنه كان في أول الأمر حين كان الجماع محرماً في الليل بعد النوم كما كان الطعام والشراب محرماً ثم نسخ ذلك ولم يعلمه أبو هريرة فكان يفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه, قال ابن المنذر هذا أحسن ما سمعت فيه والله أعلم انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنباً ولا يفسد صومه فإِن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء, قال ابن حجر وهذا أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين, ثم ذكر الحافظ ابن حجر ما في حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما من الفوائد ومنها ترجيح مروي النساء فيما لهن عليه الإِطلاع دون الرجال على مروي الرجال لعكسه. وأن المباشر للأمر أعلم به من المخبر عنه, وفيه فضيلة لأبي هريرة لاعترافه بالحق ورجوعه إليه, فيه استعمال السلف من الصحابة والتابعين الإرسال عن العدول من غير نكير بينهم لأن أبا هريرة اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يمكنه أن يرويه عنه بلا واسطة وإنما بينها لما وقع من الاختلاف انتهى. الوجه الثالث أن يقال وأي بأس في تحديث أبي هريرة رضي الله عنه بما رواه عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان تحديثه بذلك بعد موت الفضل, فأبو هريرة رضي الله عنه مأمون في روايته عن الفضل والفضل رضي الله عنه مأمون في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يروون ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ويروون ما سمعه بعضهم من بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول بالاتفاق وأهل صدق وأمانة في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية بعضهم عن بعض, وقد قرر الحافظ ابن حجر في فتح الباري صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة رضي الله عنهم, قال لأن الواسطة بين الصحابي وبين النبي صلى الله عليه وسلم

كذب المؤلف وأبي رية على عائشة فيما يتعلق بحديث «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء» الخ والرد عليهما

مقبول اتفاقا وهو صحابي آخر, ذكر ذلك في الباب الرابع من كتاب العلم, وقرر في أول كتاب بدء الوحي أن مرسل الصحابة محكوم بوصله عند الجمهور. الوجه الرابع أن يقال يظهر من كلام المؤلف أنه أراد الطعن في رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما من أجل أن الفضل كان ميتا حين حدث أبو هريرة بالحديث عنه, وقد نقل المؤلف هذا الطعن من كتاب أبي رية ونقله أبو رية من كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة, وهو من أقوال النظام التي طعن بها على أبي هريرة رضي الله عنه ورد عليه ابن قتيبة بما تقدم ذكره قريبا. وقال ابن قتيبة أيضاً وكان - يعني أبا هريرة رضي الله عنه - يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه. وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب بحمد الله ولا على قائله - إن لم يفهمه السامع - جناح إن شاء الله انتهى كلام ابن قتيبة. وأما قوله ولما روى حديث «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإِناء فإِن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به وقالت كيف نصنع بالمهراس, والمهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤنه ماءاً ويتطهرون منه. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن ذكر عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث خطأ من أبي رية وقد تبعه المؤلف على خطئه فصار مثله مع أبي رية كمثل أعمى يقوده أعمى فترديا جميعا في هوة الهلاك, وسيأتي أن الذي عارض الحديث برأيه هو قيس الأشجعي, فأما عائشة رضي الله عنها فلم يرو عنها أنها عارضت هذا الحديث أو تكلمت فيه بشيء. الوجه الثاني أن يقال إن عائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى, وفي هذا أبلغ رد على المؤلف وأبي رية حيث زعما أن عائشة رضي الله عنها عارضت حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الوجه الثالث أن يقال إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديث صحيح لا يتطرق إليه الطعن بوجه من الوجوه, وقد رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد

والبخاري ومسلم وأهل السنن الأربعة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإِناء حتى يغسلها ثلاثا فإِنه لا يدري أين باتت يده» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, قال وفي الباب عن ابن عمر وجابر وعائشة, وفي بعض الروايات لأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات فإِنه لا يدري أين باتت يده» ورواه مسلم بنحوه, ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بنحو ذلك إلا أنهم قالوا «حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا» وزاد أحمد في روايته الأخيرة فقال قيس الأشجعي يا أبا هريرة فكيف إذا جاء مهراسكم قال أعوذ بالله من شرك يا قيس, وقد رواه البيهقي في سننه وقال فقال له قيس الأشجعي فإِذا جئنا مهراسكم هذا فكيف نصنع به فقال أبو هريرة رضي الله عنه أعوذ بالله من شرك. قلت وإنما تعوذ أبو هريرة رضي الله عنه من شره لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وتعوذ بالله من شره. وقد قال النووي في شرح مسلم قال أصحابنا وإذا كان الماء في إناء كبير أو صخرة بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به فطريقه أن يأخذ الماء بفمه ثم يغسل به كفيه أو يأخذ بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره انتهى. الوجه الرابع أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية هذا الحديث بل قد رواه ابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم وقد ذكر ذلك الترمذي تعليقا كما تقدم ذكره. فأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه ابن ماجه في سننه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإِناء حتى يغسلها» إسناده صحيح على شرط مسلم, وقد رواه الدارقطني في سننه بإِسناد صحيح على شرط مسلم ولفظه «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإِناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإِنه لا يدري أين باتت يده منه أو أين طافت يده» فقال له رجل أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أرأيت إن كان حوضاً, قال الدارقطني إسناده حسن, وقد رواه البيهقي في سننه من طريق الدارقطني فذكره بمثله.

الجواب عن قول الزبير لأبي هريرة صدق كذب

قلت وإنما حصبه ابن عمر رضي الله عنهما لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وحصبه. وأما حديث جابر رضي الله عنه فرواه ابن ماجه والدارقطني في سننيهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قام أحدكم من النوم فأراد أن يتوضأ فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها فإِنه لا يدري أين باتت يده ولا على ما وضعها» قال الدارقطني إسناده حسن. وأما حديث عائشة فرواه أبو داود الطيالسي في مسنده قال حدثنا ابن أبي ذئب حدثني من سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استيقظ من منامه فلا يغمس يده في طهوره حتى يفرغ على يده ثلاث غرفات ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حتى يفرغ على يده ثلاثاً». الوجه الثالث أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفرغ على يديه فيغسلهما ثلاث قبل الوضوء, رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. ورواه الإِمام أحمد أيضا وأهل السنن من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه, وقد قال الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) ومن لم يتأس بالرسول صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن, ومن عارض الأحاديث الصحيحة برأيه أو رأي غيره فهو على شفا هلكة. وأما قوله ولما سمع الزبير بن العوام أحاديثه قال صدق كذب (109 جـ البداية والنهاية). فجوابه أن يقال قد تقدم الحديث بذلك قريباً (¬1) وفيه أن عروة قال لأبيه يا أبت ما قولك صدق كذب قال يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه. ¬

(¬1) ص: 264.

فعلم من هذا أن الزبير رضي الله عنه قد صدق أبا هريرة رضي الله عنه فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما خطأه في وضعه لبعض الأحاديث على غير مواضعها أي حملها على غير محملها, والخطأ في تفسير بعض الأحاديث وبيان معانيها قد يقع من بعض كبار العلماء ولا إثم في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما, وإنما يكون الإِثم في افتراء الكذب لقول الله تعالى (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن افتراء الكذب فكلهم عدول بالاتفاق وأهل صدق وأمانة فرضي الله عنهم وأرضاهم, وأبعد الله من أبغضهم ومن تنقصهم ومن رماهم بما هم برءاء منه. وقد قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه, إنكم تقرؤن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه» فالوضع على غير الموضع ليس بتغيير اللفظ فإِن الناس لم يغيروا من لفظ الآية شيئاً, وإنما هو الحمل على المحمل الحقيقي «هكذا هو في الأنوار الكاشفة على المحمل الحقيقي» ولعله خطأ مطبعي والصواب «وإنما هو الحمل على غير المحمل الحقيقي» ومثال ذلك في الحديث أن يذكر أبو هريرة حديث النهي عن الادخار من لحوم الأضاحي فوق ثلاث, وحديث النهي عن الانتباذ في الدباء والنقير والمزفت, فيرى الزبير أن النهي عن الادخار إنما كان لأجل الدافة, وأن النهي عن الانتباذ في تلك الآنية إنما كان إذ كانوا حديثي عهد بشرب الخمر لأن النبيذ في تلك الآنية يسرع إليه التخمر فقد يتخمر فلا يصبر عنه حديث العهد بالشرب ونحو ذلك, وأن أبا هريرة إذا أخبر بذلك على إطلاقه يفهمه الناس على إطلاقه وذلك وضع له على غير موضعه ففي القصة شهادة الزبير لأبي هريرة بالصدق في النقل, فأما ما أخذه عليه فلا يضره فإِن في الأحاديث الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد وقد يعلم الصحابي هذا دون ذلك فعليه أن يبلغ ما سمعه, والعلماء بعد ذلك يجمعون الأحاديث والأدلة كلا منها بحسب ما يقتضيه مجموعها انتهى.

حديث «من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ»

وأما قوله وأنكر عليه ابن مسعود قوله عن غسل ميتا ومن حمله فليتوضأ وقال فيه قولا شديداً ثم قال يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال قد أسقط المؤلف تبعا لأبي رية قوله «فليغتسل» بعد قوله «من غسل ميتا» ولو كان عند المؤلف أدنى معرفة لتنبه لما أسقطه أبو رية من الحديث ولكنه أعمى البصيرة يسير خلف أعمى البصيرة ويقلده. الوجه الثاني أن يقال قد ذكر ابن عبد البر هذا الأثر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» بدون إسناد, وما ليس له إسناد صحيح فليس بمقبول, وقد روى البيهقي في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «إن كان صاحبكم نجسا فاغتسلوا وإن كان مؤمنا فلم نغتسل من المؤمن» قال البيهقي إسناده ليس بالقوي. هذا ما رأيته مروياً عن ابن مسعود رضي الله عنه وما رأيت غيره, وليس فيه ذكر لأبي هريرة رضي الله عنه فضلا عن الإِنكار والقول الشديد الذي زعمه المؤلف تقليداً لأبي رية. قوله نجسا أي كافراً لقول الله تعالى (إنما المشركون نجس). الوجه الثالث أن يقال إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قد رواه أبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من غسَّل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ» وقد روى الإِمام أحمد وابن ماجه منه قوله «من غسل ميتا فليغتسل» وإسناد كل منهما صحيح, ورواه الترمذي ولفظه «من غسله الغسل ومن حمله الوضوء» يعني الميت, قال الترمذي حديث حسن, وقد روي عن أبي هريرة موقوفا قال وفي الباب عن علي وعائشة. قلت أما حديث علي رضي الله عنه فرواه الشافعي وأحمد وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وأبو داود السجستاني والنسائي وعبد الله بن الإِمام أحمد في زوائد المسند وأبو يعلى والبزار والبيهقي قال لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ قد مات قال اذهب فواره ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني قال فواريته ثم أتيته قال اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني قال فاغتسلت ثم أتيته قال فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها, قال وكان علي إذا غسل الميت اغتسل, هذا لفظ أحمد في إحدى الروايتين ولفظ ابنه عبد الله

الاغتسال من أربع

قال الحافظ ابن حجر في التلخيص مدار كلام البيهقي على أنه ضعيف ولا يتبين وجه ضعفه وقد قال الرافعي إنه حديث ثابت مشهور انتهى. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه الإِمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني والحاكم في مستدركه والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يغتسل من أربع من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة وغسل الميت» هذا لفظ أبي داود, وعند ابن خزيمة والحاكم قال «يغتسل من أربع» وعند الدارقطني «الغسل من أربع» وذكرها, قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه, وفيما قالاه نظر لأن في إسناد الحديث مصعب بن شيبة الحجبي ولم يخرج له البخاري وإنما خرج له مسلم وحده فالحديث على شرط مسلم وليس على شرط البخاري. وفي الباب أيضاً عن أبي سعيد وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ذكره عنهما البيهقي في سننه, وفي الباب أيضا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه رواه الإِمام أحمد في مسنده. وقد قال الحافظ بن حجر في التلخيص في الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا فإِنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض وقد قال الذهبي في مختصر البيهقي طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ولم يعلوها بالوقف بل قدموا رواية الرفع انتهى. وقد مال الحافظ ابن حجر إلى أن الأمر فيه للندب, وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في «تهذيب السنن» لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أحد عشر طريقا. ثم قال وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ, قال وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب أحدها أن الغسل لا يجب على غاسل الميت وهذا قول الأكثرين الثاني أنه يجب وهذا اختيار الجوزجاني ويروى عن ابن المسيب وابن سيرين والزهري وهو قول أبي هريرة ويروى عن علي رضي الله عنه, الثالث وجوبه من غسل الميت الكافر دون المسلم وهو رواية عن الإِمام أحمد لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالغسل انتهى. قلت وأرجح الأقوال أن الأمر للندب والله أعلم.

طعن المؤلف وأبي رية في أبي هريرة وأنس بما هو مكذوب على أبي حنيفة وما هو معروف عن الروافض, والرد عليهما

فصل وقال المؤلف في صفحة (60) وصفحة (61) ما نصه: رأي أبو حنيفة وهو أقرب الأئمة من عصر الصحابة وفتواه في قضية الحديث وفي أبي هريرة, روى أبو يوسف قال قلت لأبي حنيفة الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا ما نصنع به فقال إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي فقلت ما تقول في رواية أبي بكر وعمر, قال ناهيك بهما فقلت وعلي وعثمان قال كذلك فلما رآني أعد الصحابة قال والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك. هذا هو رأي أبو حنيفة المولود سنة 80 هـ والمتوفى 150 هـ وهو أقرب الأئمة إلى زمن الصحابة ولجلال قدره سمي بالإِمام الأعظم, وعلته في أنس أنه اختلط في آخر عمره بفاعلية السن والله أعلم بنيته وقصده, والتحقيق المفصل في ص 205 من أضواء على السنة. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال هكذا قال المؤلف «رأي أبو حنيفة» في موضعين وصوابه «رأي أبي حنيفة» ولو أن المؤلف أقبل على تعلم النحو حتى يعرف الفرق بين المرفوع والمخفوض ويتجنب اللحن في كتاباته لكان خيراً له من الاشتغال بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم بأكاذيب الروافض وأشباه الروافض ممن ليس لهم دين يحجزهم عن البهتان وقول الزور. الوجه الثاني أن يقال لا خلاف بين أهل السنة والجماعة أن الصحابة كلهم عدول, قال النووي كلهم مقطوع بعدالتهم عند من يعتد بهم من علماء المسلمين انتهى, وقد ذكرت قريباً ما ذكره الحاكم في المستدرك عن الإِمام محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال إنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار وهم إما معطل جهمي وإما خارجي أو قدري أو جاهل مقلد بلا حجة ولا برهان. قلت وكذلك لا يتكلم في أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم إلا أناس قد أعمى الله قلوبهم من أهل الزيغ والضلال ومن يقلدهم من جهلة العصريين, وقد قال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وقال الأنصاري حدثنا ابن عون عن موسى بن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف بعث إلى أنس بن

مالك رضي الله عنه ليوجهه إلى البحرين على السعاية قال فدخل عليه عمر رضي الله عنه فقال إني أردت أن أبعث هذا إلى البحرين على السعاية وهو فتى شاب فقال ابعثه فإِنه لبيب كاتب قال فبعثه انتهى. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» وقد استعمله أبو بكر ثم عمر على عمالة البحرين وشكراه في ذلك انتهى. وفي هذا أبلغ رد على من طعن في عدالة أنس بن مالك رضي الله عنه لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بعثاه على السعاية وائتمناه عليها وشكراه في ذلك وكفى بذلك تعديلا له ورداً على من طعن في عدالته. الوجه الثالث قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في الرد على أبي رية فيما ذكره عن أبي يوسف أنه روى عن أبي حنيفة ما تقدم ذكره. «أقول لم يذكر مصدره وهذه عادته (الحميدة) في تدليس بلاياه». هكذا قال المعلمي «عادته الحميدة» وهذا من باب التهكم بأبي رية, والأولى أن يقال «عادته الخبيثة» لأن هذه الصفة مطابقة لأبي رية وعاداته غاية المطابقة, قال المعلمي «ثم وجدت مصدره وهو شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 360 عن أبي جعفر الإِسكافي, ولا ريب أن هذا لا يصح عن أبي يوسف ولا أبي حنيفة, ,المعروف عنهما وعن أصحابهما في كتب العقائد والأصول وغيرها ما عليه سائر أهل السنة أن الصحابة كلهم عدول, وإنما يقول بعضهم إن فيهم من ليس بفقيه أو مجتهد, قال ابن الهمام في التحرير «يقسم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة والعبادلة فيقدم على القياس مطلقا, وعدل ضابط كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدم, إلا إن خالف كل الأقيسة على قول عيسى والقاضي أبو زيد» ثم قال بعد ذلك «وأبو هريرة مجتهد» كما تقدم, وغير عيسى وأبي زيد ومن تبعه يرون تقديم الخبر مطلقا». وقال المعلمي أيضاً «وابن أبي الحديد من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإِسلام, وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة, والإِسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضاً في القرن الثالث, ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعلي وعائشة غيرهم وإنما يتشبث بها من لا يعقل, وقد ذكر ابن أبي الحديد 1/ 360 أشياء عن الإِسكافي من

الرد على زعم المؤلف وأبي رية أن أنسا اختلط في آخر عمره

الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة وذكر من ذلك شيئا من مزاح أبي هريرة فقال ابن أبي الحديد «قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة أبي هريرة وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه» وفي هذا إشارة إلى أن الإِسكافي متهم, ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإِسكافي باختلاق الكذب ولكن نتهمه بتلقف الأكاذيب من أفاكي أصحابه الرافضة والمعتزلة, وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة, فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإِسكافي عمن تقدمه بزمان» انتهى. وأما قوله وعلته أنه اختلط في آخر عمره بفاعلية السن فجوابه أن أقول إني لم أر أحداً ممن ترجم لأنس رضي الله عنه ذكر أنه اختلط في آخر عمره, فما زعمه المؤلف تبعاً لأبي رية لا شك أنه كذب مفترى إما من أبي رية وإما من بعض أهل الزيغ والضلال من الرافضة وأشباههم ممن ينقل عنهم أبو رية ويعتمد على أكاذيبهم وترهاتهم. وقد روى البخاري في التاريخ الكبير عن قتادة قال لما مات أنس بن مالك رضي الله عنه قال مورق ذهب اليوم نصف العلم, قيل كيف ذاك يا أبا المعتمر قال كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث قلنا تعال إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قلت وهذا يدل على أن أنساً رضي الله عنه لم يزل ممتعا بالعقل إلى أن مات. وأما قوله والتحقيق المفصل في ص 205 من أضواء على السنة. فجوابه أن يقال إن المؤلف قد أحال القراء على غير مليء. فليس في كتاب أبي رية شيء من التحقيق البتة وليس فيه شيء من الأضواء على السنة وإنما فيه المعارضة للسنة والاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ونبذها واطراحها فهو في الحقيقة جهالات وضلالات وظلمات بعضها فوق بعض, فلا يغتر به ويصغي إليه إلا من هو من أجهل خلق الله وأشدهم غباوة. فصل وقال المؤلف في صفحة (61) ما نصه دهاء كعب أوقع أبا هريرة, وإليك المثال. روى الذهبي في طبقات

التشديد في تكفير المسلم وذكر الأحاديث في ذلك

الحفاظ في ترجمة أبي هريرة أن كعباً قال فيه ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة, فكيف يعرفها ويعرف ما فيها وهي عبرية مع أنه كان لا يقرأ عبريا حتى ولا عربيا. ص 207 من أضواء على السنة. والجواب أن يقال إن كثيراً من شرار العصريين قد تحاملوا على كعب الأحبار تحاملا قبيحا حتى إن أبا رية قال فيه إنه أظهر الإِسلام خداعا وطوى قلبه على يهوديته, هكذا قال أبو رية في ظلماته, ولو كان عنده أدنى شيء من التقوى والورع لما رمى رجلا مسلماً باليهودية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» متفق عليه من حديث أبي ذر رضي الله عنه, وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, وفي صحيح البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو ذلك أيضاً, وفي صحيح ابن حبان عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا. قوله حار عليه أي رجع ذلك على القائل. وقد زعم أبو رية أن كعباً كان ذا مكر وخداع وأن أبا هريرة رضي الله عنه كان أكثر الصحابة انخداعاً به, وهذا من بهتان أبي رية وترهاته وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: إذا رزق الفتى وجها وقاحاً ... تقلب في الوجوه كما يشاء وهذا البيت مطابق لحال المؤلف وأبي رية غاية المطابقة وأما ما نقله المؤلف من كتاب أبي رية ونقله أبو رية من طبقات الحفاظ للذهبي ففي إسناده عمران القطان وقد ضعفه النسائي وأبو داود في رواية عنه وقال ابن معين ليس بشيء وقال الدارقطني كان كثير المخالفة والوهم. قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية, عمران القطان ضعيف ولا يتحقق سماعه من بكر - يعني ابن عبد الله المزني - وفي القرآن والسنة قصص كثيرة مذكورة في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب الآن فإِذا تتبعها أبو هريرة وصار يذكرها لكعب كان ذلك كافيا لأن يقول كعب تلك الكلمة. ففيم التهويل الفارغ انتهى.

الرد على زعم المؤلف أن أبا هريرة قد انخدع باليهود

وأما قوله فكيف يعرفها ويعرف ما فيها وهي عبرية مع أنه كان لا يقرأ عبريا حتى ولا عربيا. فجوابه أن يقال إنما كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدث كعباً بما جاء في القرآن وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ أهل عصره لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير يوافق ما جاء في التوراة, فماذا ينكر أعداء السنة على أبي هريرة إذا حديث كعبا بالأحاديث التي توافق ما جاء في التوراة وقال له كعب ما قال, وقد تقدم أن أبا هريرة رضي الله عنه لما حدث كعبا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة الإِجابة يوم الجمعة قال كعب هي في السنة مرة فرد عليه أبو هريرة رضي الله عنه وقال بل هي في كل جمعة فقرأ كعب التوراة ثم قال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في كل جمعة, رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه الترمذي والحاكم وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. فهذا نموذج من الأحاديث التي توافق ما جاء في التوراة وبه يرد على من يطعن على أبي هريرة رضي الله عنه. فصل وقال المؤلف في صفحة (61) ما نصه أبو هريرة يعترف بخديعة اليهود, روى البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإِسلام بالعربية, ومعروف أنه لو كان يعرف العبرانية لقال وكنت من الذين يفسرون التوراة. والجواب أن يقال لم يأت من طريق صحيح ولا ضعيف أن أبا هريرة رضي الله عنه انخدع بشيء من أكاذيب اليهود ولا أنه كان يعتمد على أخبارهم وإنما كان يعتمد على ما جاء في القرآن وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون واسطة أو بواسطة بعض الصحابة رضي الله عنهم, هذا هو المعروف عن أبي هريرة رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم. وليس في قوله كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام ما يدل على أن أبا هريرة رضي الله عنه انخدع باليهود كما قد

كلام المؤلف في حديث «أن الشمس والقمر ثوران في النار» وزعمه أنه خرافة والرد عليه

يوهمه ظاهر كلام المؤلف. وإنما الأمر في ذلك بالعكس وهو أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يرى التوقف في أخبار أهل الكتاب لأنها تحتمل الصدق والكذب ولهذا عقب ذلك بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم)». وأما قوله ومعروف أنه لو كان يعرف العبرانية لقال وكنت من الذين يفسرون التوراة. فجوابه أن يقال لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن التوراة وإنما كان يحدث بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء توافق ما في التوراة فإِذا حدث بها أبو هريرة رضي الله عنه أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن محدثا عن التوراة كما لا يخفى على عاقل. ولا يخفى أيضاً ما في كلام المؤلف من التجني على أبي هريرة رضي الله عنه وإلصاق العيوب به مع أنه كان بريئا منها فالله يجازيه على ذلك بعدله. فصل وقال المؤلف في صفحة (61) ما نصه اتفاق أبو هريرة وكعب في خرافة الشمس والقمر, روى البزار عن أبي هريرة أن النبي - ص - قال إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة فقال الحسن وما ذنبهما فقال أحدثك عن رسول الله وتقول ما ذنبهما, وهذا الكلام نفسه قاله كعب الأحبار بنصه فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب الأحبار يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم يراهما من عبدهما (ص 222 حياة الحيوان). والجواب أن يقال أما قوله «اتفاق أبو هريرة» فصوابه «اتفاق أبي هريرة» وأما قوله في خرافة الشمس والقمر. فجوابه أن يقال إن المخرف في الحقيقة من يرد الأحاديث الصحيحة بغير حجة قاطعة, ولا شك أن المؤلف وأبا رية أولى بوصف التخريف لما في كلامهما من الجراءة على نبذ الأحاديث الصحيحة واطراحها بأساليب من الهوس, فكلامهما في رد الأحاديث الصحيحة يشبه كلام المخرفين الذين يتكلمون من غير شعور.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه البزار عن إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن وما ذنبهما, فقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول وما ذنبهما إسناده صحيح على شرط مسلم, وقد أسقط أبو رية قوله «عقيران» وجعل المراجعة بين الحسن وأبي هريرة رضي الله عنه والذي في الحديث أنها بين الحسن وأبي سلمة بن عبد الرحمن, وقد تبع المؤلف أبا رية على خطئه. وقد أخرج الإِسماعيلي هذا الحديث بمثله وقال «في مسجد البصرة» ولم يقل خالد القسري, ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري, قال وأخرجه الخطابي من طريق يونس بهذا الإِسناد فقال في زمن خالد بن عبد الله - أي ابن أسيد بفتح الهمزة - وهو أصح فإِن خالداً هذا كان قد ولي البصرة لعبد الملك قبل الحجاج بخلاف خالد القسري انتهى. وقد رواه البخاري في صحيحه مختصرا فقال في «باب صفة الشمس والقمر» من «كتاب بدء الخلق» حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الشمس والقمر مكوران يوم القيامة». وهذا الحديث يجب الإِيمان به لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجب إمراره كما جاء, وهذا مقتضى جواب أبي سلمة للحسن, قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية, وقول الحسن لأبي سلمة «وما ذنبهما» يمثل حال أهل العراق في استعجال النظر فيما يشكل عليهم, وجواب أبي سلمة يمثل حال علماء الحجاز في التزام ما يقضي به كمال الإِيمان من المسارعة إلى القبول والتسليم ثم يكون النظر بعد, وجوابه وسكوت الحسن يبين مقدار كمال الوثوق من علماء التابعين بأبي هريرة وثقته وإتقانه وأن ما يحكى مما يخالف ذلك إنما هو من اختلاق أهل البدع, وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف من كبار أئمة التابعين بالمدينة مكثر الرواية عن الصحابة كأبي قتادة وأبي الدرداء وعائشة وأم سلمة وابن عمر وأبي هريرة, فهو

من أعلم الناس بحال أبي هريرة في نفسه وعند سائر الصحابة رضي الله عنهم انتهى. وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا درست عن يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم «أن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار». درست ويزيد الرقاشي ضعيفان وقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حيان - وهو ضعيف - عن درست بن زياد عن يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بمثله, قال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه ضعفاء قد وثقوا انتهى. قلت وحديث أبي هريرة رضي الله عنه يشهد له ويقويه وروى ابن أبي حاتم بإِسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث ريحا دبوراً فيضرمها ناراً» وكذا ذكر البغوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال ابن كثير وكذا قال عامر الشعبي. وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن الشعبي أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) وجهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكور فيه الشمس والقمر ثم يوقد فيكون هو جهنم». وأخرج ابن وهب في «كتاب الأهوال» عن عطاء بن يسار في قوله تعالى (وجمع الشمس والقمر) قال يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار. ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري, قال ولابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه موقوفا أيضاً. قال الخطابي ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كان باطلاً, وقيل إنهما خلقا من النار فأعيدا فيها, وقال الإِسماعيلي لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما فإِن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذاباً وآلة من آلات العذاب وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة, وقال أبو موسى المديني في «غريب الحديث» لما وصفا بأنهما يسبحان في قوله (كل في فلك يسبحون) وإن كل من عُبد من دون الله إلا من سبقت له الحسنى يكون في النار وكانا في النار يعذب بهما أهلهما بحيث لا يبرحان منها فصارا كأنهما ثوران عقيران انتهى.

كلامه في حديث الديك الذي تحت العرش وزعمه أنه خرافة والرد عليه

وأما قوله وهذا الكلام نفسه قاله كعب الأحبار بنصه فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب الأحبار يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم يراهما من عبدهما (ص 222 حياة الحيوان). فجوابه أن يقال إن الذي ذكر صاحب «حياة الحيوان» أنه رواه أبو يعلى الموصلي هو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وتقدم ذكره, ثم قال صاحب «حياة الحيوان» بعده وقال كعب الأحبار يجاء بالشمس والقمر إلى آخره, فذكره بدون إسناد ولم يذكر من خرجه. ومع هذا فقد ألحقه حاطب الليل أبو رية بحديث أنس رضي الله عنه وجعله مروياً بإِسناده, وهذا من قلة الأمانة أو عدمها, وقد تبعه المؤلف على إيهامه وتضليله. وهذا الأثر غير ثابت عن كعب الأحبار, ولو ثبت لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون أخذه عن أبي هريرة رضي الله عنه أو عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم, وإما أن يكون أخذه من كتب أهل الكتاب مما هو موافق لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا ضير على أبي هريرة رضي الله عنه ولا على غيره من الصحابة رضي الله عنهم إذا روى أحدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وروى كعب الأحبار ما يوافق ذلك من كتب أهل الكتاب. فصل وقال المؤلف في صفحة (61) وصفحة (62) ما نصه أبو هريرة وكعب الأحبار في خرافة الديك تحت العرش روى الحاكم في المستدرك والطبراني ورجاله رجال الصحاح عن أبي هريرة أن النبي - ص - قال إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظم شأنك قال فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً, وهذا الحديث من قول كعب, نصه إن لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض فإِذا صاح صاحت الديكة سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره (ص 220 جـ 10 نهاية الأدب النويري). والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد غير فيه بعض الكلمات, فمنها قوله «رجال الصحاح» وصوابه «رجال الصحيح» ومنها قوله

«وعنقه مثبتة تحت العرش» وكذلك هو في كتاب أبي رية» وصوابه «وعنقه مثنية تحت العرش» ومنها قوله «نهاية الأدب» بالدال وصوابه «نهاية الأرب» بالراء. وقد ذكرت قريبا أن الأولى بوصف التخريف من يرد الأحاديث الصحيحة بغير حجة قاطعة كالمؤلف وأبي رية وأشباههما من أعداء السنة. وأما قوله روى الحاكم في المستدرك والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة إلى آخره. فجوابه أن يقال حديث أبي هريرة رضي الله عنه ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» وقال رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا أن شيخ الطبراني محمد بن العباس بن الفضل بن سهيل الأعرج لم أعرفه انتهى. وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» كل أحاديث الديك كذب إلا حديثاً واحداً «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإِنها رأت ملكا». قلت وقد صح أيضا حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه في النهي عن سب الديك. وأما قوله وهذا الحديث من قول كعب إلى آخره. فجوابه أن يقال قد عزاه أبو رية إلى نهاية الأرب للنويري ولم يذكر له إسناداً ولا ذكر من خرجه, وما ليس له إسناد صحيح فلا يعتد به في شيء. وقد قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية, أقول عزا هذا إلى نهاية الأرب للنويري, والنويري أديب من أهل القرن السابع, ولا يدرى من أين أخذ هذا, أما عن أبي هريرة فهو من طريق إسرائيل عن معاوية بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة, ومعاوية لم يخرج له مسلم وأخرج له البخاري حديثاً واحداً متابعة وقد قال فيه أبو زرعة شيخ واه ووثقه بعضهم, والمقبري اختلط قبل موته بأربع سنين, ولفظ الخبر مع ذلك مخالف لما نسبه النويري إلى كعب انتهى باختصار.

كلامه تبعا لأبي رية في يأجوج ومأجوج والرد عليه

فصل وقال المؤلف في صفحة (62) ما نصه أبو هريرة وكعب في قصة يأجوج ومأجوج, ونصه كما رواه أحمد عن أبي هريرة إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذين عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون الخ وروى أحمد هذا الحديث عن كعب, قال ابن كثير لعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإِنه

كلامه في حديث أبي هريرة «إن الله خلق آدم على صورته» والرد عليه

كان كثيراً ما يجالسه ويحدثه, وقد بين ابن كثير في مواضع كثيرة من تفسيره ما أخذه أبو هريرة من كعب, وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة إن الله خلق آدم على صورته, وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة (العهد القديم) ونصه هناك وخلق الإنسان على صورته, على صورة الله, ولما ذكر كعب صفة النبي - ص - في التوراة قال أبو هريرة في صفته - ص -لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخايا في الأسواق, وهذا هو نص كلام كعب. والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية, فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر يأجوج ومأجوج وأنهم يحفرون السد كل يوم فقد رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مختصراً والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه, وقال ابن كثير في تفسيره إسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإِحكام بنائه وصلابته وشدته. قلت ما جاء في الحديث لا ينافي ظاهر الآية لأن يأجوج ومأجوج وإن كانوا يحفرون السد كل يوم فإِنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا من ارتقائه. قال ابن كثير ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غداً نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون كذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غداً نفتحه ويلهمون أن يقولون إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه, قال ابن كثير وهذا متجه, ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإِنه كان كثيراً ما يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه انتهى. وفي قوله ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب نظر من وجهين أحدهما أن سياق الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مغاير لسياق خبر كعب الثاني أنه قال في آخر الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه «والذي نفس محمد بيده» وهذا يدل على أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا من قول كعب والله أعلم. ولو قيل إن كعبا تلقاه من أبي هريرة أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم لكان أقرب إلى الصواب لأن خبر كعب قد احتوى على أشياء كثيرة قد جاء ذكرها في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم, وقد جاء بعض ذلك في غيره من الأحاديث المرفوعة, وقد ذكرتها في «إتحاف الجماعة» في ذكر يأجوج ومأجوج فلتراجع هناك, وقد يكون كعب أخذ ذلك من كتب أهل الكتاب مما هو موافق لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله وروى أحمد هذا الحديث عن كعب. فجوابه أن يقال هذا من أكاذيب أبي رية وقد تلقاه المؤلف عن أبي رية بالقبول, وقد ساق ابن كثير خبر كعب في تفسير سورة الأنبياء وقال رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد عن حميد بن هلال عن أبي الضيف قال قال كعب إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤسهم. إلى آخر الخبر, ومن أحب الوقوف عليه فليراجعه في تفسير سورة الأنبياء من تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير. وأما قوله وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة إن الله خلق آدم على صورته, وهذا الكلام قد جاء في الإِصحاح الأول من التوراة (العهد القديم) ونصه هناك وخلق الإِنسان على صورته, على صورة الله. فجوابه أن يقال أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه «إن الله خلق آدم على صورته» فهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما, ولا يطعن فيه أو يشك في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مكابر معاند.

ذكر الأحاديث التي فيها أن الله خلق آدم على صورة الرحمن» وأنه يجب الإيمان بها وإمرارها كما جاءت، وقد صححها أحمد وابن راهوية وغيرهما من الأئمة وقال أحمد من قال على صورة الرجل أو صورة آدم فهو جهمي

وأما قوله وهذا الكلام قد جاء في الإِصحاح الأول من التوراة ونصه وخلق الإِنسان على صورته. فجوابه أن يقال لا ضير أن يجيء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما جاء في التوراة فإِن الذي أنزل التوراة على موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي أنزل السنة على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى, علمه شديد القوى) وقال تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور). وأما قوله على صورة الله فجوابه أن يقال قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك قال عبد الله بن الإِمام أحمد في كتاب السنة حدثني أبو معمر حدثنا جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقبحوا الوجه فإِن الله خلق آدم على صورة الرحمن» إسناده صحيح على شرط الشيخين, وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة فقال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقبحوا الوجه فإِن ابن آدم خلق على صورة الرحمن عز وجل» إسناده صحيح أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري قال فيه أبو علي الحافظ ثقة مأمون وقال أبو بكر الإِسماعيلي ثقة ثبت وقال أبو الحسين بن المنادي هو أحد الثقات وأهل الصلاح والفهم لما يحدث به, وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال عبد الله بن الإِمام أحمد أيضاً حدثني أبو بكر الصاغاني حدثنا أبو الأسود - وهو النضر بن عبد الجبار - حدثنا ابن لهيعة عن أبي يونس - وهو سليم بن جبير السدوسي مولى أبي هريرة - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإِنما صورة الإِنسان على وجه الرحمن» ابن لهيعة ضعفه بعض الأئمة وحسن بعضهم حديثه, وقد روى له مسلم مقرونا بآخر وبقية رجاله ثقات, وحديث ابن عمر المذكور قبله يشهد له ويقويه, وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما جاء في حديث أبي هريرة «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» ثم قال أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة»

والطبراني من حديث ابن عمر بإِسناد رجاله ثقات, وأخرجه ابن أبي عاصم أيضاً من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ «من قاتل فليجتنب الوجه فإِن صورة وجه الإِنسان على صورة وجه الرحمن» فتعين إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السنة من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه, قال وقال حرب الكرماني في «كتاب السنة» سمعت إسحاق بن راهويه يقول صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن, قال إسحاق الكوسج سمعت أحمد يقول هو حديث صحيح, وقال الطبراني في «كتاب السنة» حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قال رجل لأبي إن رجلاً قال خلق الله آدم على صورته أي صورة الرجل فقال كذب هو قول الجهمية انتهى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله. وقال أبو جعفر محمد بن علي الجرجاني المعروف بحمدان سألت أبا ثور عن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم على صورته» فقال على صورة آدم, وكان هذا بعد ضرب احمد بن حنبل والمحنة فقلت لأبي طالب قل لأبي عبد الله فقال لي أبو طالب قال لي أبو عبد الله صح الأمر على أبي ثور, من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي, وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه. وقال زكريا بن الفرج سألت عبد الوهاب - يعني الوراق - غير مرة عن أبي ثورة فأخبرني أن أبا ثور جهمي وذلك أنه قطع بقول أبي يعقوب الشعراني حكى أنه سأل أبا ثور عن خلق آدم على صورته فقال إنما هو صورة آدم ليس هو على صورة الرحمن, قال زكريا فقلت بعد ذلك لعبد الوهاب ما تقول في أبي ثور قال ما أدين الله فيه إلا بقول أحمد بن حنبل يهجر أبو ثور ومن قال بقوله, قال زكريا وقلت لعبد الوهاب مرة أخرى وقد تكلم قوم في هذه المسألة خلق الله آدم على صورته فقال من لم يقل إن الله خلق آدم على صورة الرحمن فهو جهمي. وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإِيمان بها ولا يقال فيها كيف ولم, بل تستقبل بالتسليم والتصديق وترك النظر كما قال من تقدم من أئمة المسلمين, حدثنا أبو نصر محمد بن كردي قال حدثنا أبو بكر المرودي قال سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات والأسماء والرؤية وقصة العرش فصححها وقال تلقتها العلماء بالقبول تسلم الأخبار كما جاءت.

ذكر الأحاديث في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وما روي في ذلك عن بعض الصحابة, والرد على المؤلف فيما توهمه على أبي هريرة رضي الله عنه

وقال أبو بكر المروذي وأرسل أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة إلى أبي عبد الله يستأذنانه في أن يحدثا بهذه الأحاديث التي تردها الجهمية فقال أبو عبد الله حدثوا بها فقد تلقتها العلماء بالقبول, وقال أبو عبد الله تسلم الأخبار كما جاءت. قال محمد بن الحسين الآجري سمعت أبا عبد الله الزبيري وقد سئل عن معنى هذا الحديث فذكر مثل ما قيل فيه, ثم قال أبو عبد الله نؤمن بهذه الأخبار التي جاءت كما جاءت ونؤمن بها إيمانا ولا نقول كيف ولكن ننتهي في ذلك إلى حيث انتهى بنا فنقول في ذلك ما جاءت به الأخبار كما جاءت انتهى. وأما قوله ولما ذكر كعب صفة النبي - ص - في التوراة قال أبو هريرة في صفته لم يكن فاحشا - ص -ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق وهذا هو نص كلام كعب. فجوابه أن يقال أما كعب الأحبار فقد أخبر عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة, وأما أبو هريرة رضي الله عنه فقد أخبر عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاهده منه وليس نص الخبرين سواء, فأما خبر كعب فرواه ابن سعد في الطبقات والدارمي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال نجده محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره إلى طابه ويكون ملكه بالشام ليس بفحاش ولا بصخاب في الأسواق ولا يكافئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر. وروى ابن سعد والدارمي أيضاً عن أبي صالح قال قال كعب إن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة محمد عبدي المختار لافظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة ومهاجره بالمدينة وملكه بالشام. وروى ابن سعد أيضاً عن أبي عبد الله الجدلي عن كعب قال إنا نجد في التوراة محمد النبي المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة لكن يعفو ويغفر. وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه أخبر عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة ووافقه كعب الأحبار على ذلك, فروى الإِمام أحمد والبخاري من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه

وسلم في التوراة فقال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن. يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا, زاد أحد قال عطاء فلقيت كعبا فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا يقول بلغته أعينا عمومى وآذانا صمومى وقلوبا غلوفى. وقد رواه ابن سعد في الطبقات وابن جرير في تفسيره بنحو رواية أحمد وروى الدارمي من طريق سعيد بن أبي هلال عن هلال بن أسامة - وهو هلال بن علي بن أسامة - عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه نحو رواية البخاري وزاد قال عطاء بن يسار وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام, وقد ذكره البخاري في «باب كراهية السخب في الأسواق» من كتاب البيوع تعليقا فقال وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن ابن سلام, ورواه ابن سعد عن زيد بن أسلم قال بلغنا أن عبد الله بن سلام كان يقول إن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة, ثم ذكره بنحو ما تقدم في رواية البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ثم قال فبلغ ذلك كعبا فقال صدق عبد الله بن سلام إلا أنها بلسانهم أعينا عموميين وآذانا صموميين وقلوبا غلوفيين. وأما خبر أبي هريرة رضي الله عنه فقال الإِمام أحمد في مسنده حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا ابن أبي ذئب, وروح قال حدثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال سمعت أبا هريرة ينعت النبي صلى الله عليه وسلم فقال «كان شبح الذراعين أهدب أشفار العينين بعيد ما بين المنكبين يقبل إذا أقبل جميعا ويدبر إذا أدبر جميعا» قال روح في حديثه «بأبي وأمي لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا بالأسواق» ورواه يعقوب بن سفيان عن آدم وعاصم بن علي عن ابن أبي ذئب فذكره بنحوه, وهذا الحديث صحيح لأن صالحا مولى التوأمة قال فيه ابن معين ثقة حجة سمع منه ابن أبي ذئب قبل أن يخرف ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت, وقال بن عدي لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريح, وبقية رجالهما رجال الصحيح.

وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها نحو ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول سألت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقالت «لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح أو قالت يعفو ويغفر» شك أبو داود, ورواه الترمذي وقال حسن صحيح, ورواه ابن سعد في الطبقات وابن حبان في صحيحه كلهم من حديث أبي إسحاق عن أبي عبد الله الجدلي - واسمه عبد بن عبد وقيل عبد الرحمن بن عبد - وثقه ابن معين وقال ابن حجر في «تقريب التهذيب» ثقة من كبار الثالثة وبقية رجالهم رجال الصحيح. وقد جاء عن علي وعبد الله بن عمرو وأنس رضي الله عنهم بعض ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه, فأما حديث علي رضي الله عنه فرواه الترمذي في الشمائل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال قال الحسين بن علي رضي الله عنهما سألت أبي عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غيظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مشاح» الحديث. وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فرواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري ومسلم والترمذي وابن سعد عن مسروق عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم يك فاحشا ولا متفحشا» وكان يقول «من خياركم أحاسنكم أخلاقا» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وأما حديث أنس رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد والبخاري وابن سعد قال «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا لعانا ولا فاحشا». فهؤلاء سبعة من الصحابة كلهم أخبروا عما شاهدوه من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقلوا ذلك عن أهل الكتاب, فمن زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه أخذ ذلك عن كعب الأحبار فهو مفتر كذاب.

ذكر المؤلف أحاديث وزعم أنها إسرائيليات زيفت على أبي هريرة, والرد عليه

فصل وقال المؤلف في صفحة (62) وصفحة (63) ما نصه من عجائب روايات أبو هريرة وكلها إسرائيليات زيفت عليه. في تأريخ البصري عن أبي هريرة أن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه. ومن بعد حادثة موسى صار يأتي خفيا, وروى البخاري عنه (ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع (يعني في النار). وأخرج مسلم عنه مرفوعا وزاد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام, وهو صاحب حديث الذبابة. وروى الطبراني في الأوسط عنه عن النبي - ص - أتاني ملك برسالة من الله عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها, وروى الترمذي عنه قال قال رسول الله العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم. والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية, وقد وقع في عنوان المؤلف لحن وهو قوله «روايات أبو هريرة» وصوابه «روايات أبي هريرة» ووقع فيما نقله عن أبي رية تغيير في قوله «في تاريخ البصري» وصوابه «الطبري». فأما قوله وكلها إسرائيليات زيفت عليه فجوابه أن يقال ليس في شيء من الأحاديث المذكورة في هذا الفصل شيء من الإسرائيليات وليس فيها شيء مزيف, وما زعمه المؤلف فهو من مجازفاته ومكابراته وجهله بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تمييزه بينها وبين الإسرائيليات المزيفة. فالمؤلف المغرور يهرف بما لا يعرف ويتكلف ما لا علم له به, ولا يدري المسكين أن كلامه واستهتاره بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهجمه على الصحابة رضي الله عنهم وغير ذلك مما أودعه في كتابه الخبيث وغيره كل ذلك قد أحصي عليه وسيحاسب عليه يوم القيامة قال الله تعالى (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً). فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن موسى عليه الصلاة والسلام لطم عين ملك الموت ففقأها فرجع الملك إلى الله تعالى فرد الله إليه عينه. الحديث فهو حديث ثابت في الصحيحين وهو مما يؤمن به أهل السنة والجماعة, وقد أنكره بعض الملاحدة والمبتدعة قديماً وحديثا, وأجاب العلماء عن الاعتراضات عليه بأجوبة

وتوجيهات ذكرها النووي في شرح مسلم والحافظ ابن حجر في فتح الباري وغيرهما من العلماء فمن أحب الوقوف عليها فليراجعها فيما أشرت إليه. وقد قال ابن حبان في صحيحه «ذكر خبر شنع به على منتحلي سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم - من حرم التوفيق لإدراك معناه» ثم قال بعد إيراده لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في إرسال ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام «إن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار وأمره أن يقول له أجب ربك أمر اختبار وابتلاء لا أمراً يريد الله جل وعلا إمضاءه كما أمر خليله بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه فلما عزم على ذبح ابنه وتله للجبين فداه بالذبح العظيم, وقد بعث الله جل وعلا الملائكة إلى رسله في صور لا يعرفونها كدخول الملائكة على إبراهيم ولم يعرفهم حتى أوجس منهم خيفة, وكمجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله إياه عن الإِسلام والإِيمان فلم يعرفه المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى ولى فكان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها وكان موسى غيوراً فرأى في داره رجلاً لم يعرفه فشال يده فلطمه فأتت لطمته على فقئ عينه التي في الصورة التي يتصور بها لا الصورة التي خلقه الله عليها, ولما كان المصرح عن نبينا صلى الله عليه وسلم في خبر ابن عباس حيث قال «أمني جبريل عند البيت مرتين» فذكر الخبر وقال في آخره «هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك» كان في هذا الخبر البيان الواضع أن بعض شرائعنا قد يتفق مع بعض شرائع من قبلنا من الأمم, ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه أو الناظر في بيته بغير أمره من غير جناح على فاعله ولا حرج على مرتكبه للأخبار الجمة الواردة فيه. كان جائزاً اتفاق هذه الشريعة وشريعة موسى بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحا له ولا حرج عليه في فعله. فلما رجع ملك الموت إلى ربه وأخبره بما كان من موسى فيه أمره ثانيا بأمر آخر أمر اختبار وابتلاء إذ قال الله له قل له إن شئت فضع يدك على متن ثور فلك بكل غطت يدك بكل شعره سنة, فلما علم موسى كليم الله صلى الله على نبينا وعليه أنه ملك الموت وأنه جاءه بالرسالة من عند الله طابت نفسه بالموت ولم يستمهل وقال فالآن, فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به, ضد قول من زعم أن

حديث «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام» ثابت في الصحيحين وحديث «غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام» ثابت في صحيح مسلم وذلك مما يجب الإيمان به

أصحاب الحديث حمالة الحطب ورعاة الليل يجمعون ما لا ينتفعون به ويروون ما لا يؤجرون عليه ويقولون بما يبطله الإِسلام جهلا منه بمعاني الأخبار وترك التفقه في الآثار, معتمداً في ذلك على رأيه المنكوس وقياسه المعكوس انتهى كلام ابن حبان. وأما حديث «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» فهو ثابت في الصحيحين, وأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك وبكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, بخلاف الملاحدة وأهل البدع ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من ذوي الجهل المركب في زماننا وقبله بأزمان, فهؤلاء لا يؤمنون بكل ما يؤمن به أهل السنة والجماعة مما جاء في الأحاديث الصحيحة, وإنما يؤمنون بما وافق عقولهم وأفكارهم أو أفكار من يعظمونه من شيوخهم وغير شيوخهم الذين قد تخرج بعضهم من جامعات أوربا وتسمموا بعلوم أهلها وإلحادهم وأفكارهم الفاسدة ثم جاءوا ينشرون ذلك في بلاد المسلمين. وأما قوله في الكافر «وغلظ جلده مسيرة ثلاث» فهو ثابت في صحيح مسلم وهو مما يجب الإِيمان به. وأما قوله وهو صاحب حديث الذبابة. فجوابه أن يقال حديث الذباب ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينفرد به أبو هريرة رضي الله عنه, بل قد رواه أيضاً أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك رضي الله عنهما. فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه والبيهقي ولفظه عند البخاري في «كتاب بدء الخلق» إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإِن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء» ورواه أيضاً في «كتاب الطب» ولفظه «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإِن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء» ورواه ابن ماجه بنحوه, وزاد أحمد وأبو داود والبيهقي «وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء». وأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي ولفظه عند ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «في أحد جناحي الذباب سم وفي الآخر شفاء فإِذا وقع في الطعام

رد الخطابي على من تكلم في حديث الذباب

فامقلوه فإِنه يقدم السم ويؤخر الشفاء». وأما حديث أنس رضي الله عنه فرواه البزار ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإِن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط. قال الخطابي في الكلام على حديث أبي هررة رضي الله عنه وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له وقال كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أريها إلى ذلك, قال وهذا سؤال جاهل أو متجاهل وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت, ثم يرى أن الله سبحانه قد ألف بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها - لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزئين من حيوان واحد. وإن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً وتؤخر جناحاً لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان الذي هو مضمار التكليف وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذكر إلا أولو الألباب انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في «زاد المعاد» واعلم أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة والعارضة من لسعه وهي بمنزلة السلاح فإِذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء فيغمس كله في الماء والطعام فيقابل المادة السمية بالمادة النافعة فيزول ضررها, وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم بل هو خارج من مشكاة النبوة, ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإِطلاق وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية انتهى. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على الجزء الثاني عشر من مسند الإِمام أحمد صفحه 124 - 129, وهذا الحديث مما لعب به بعض معاصرينا ممن علم وأخطأ وممن علم وعمد إلى عداء السنة, وممن جهل وتجرأ, فمنهم

من حمل على أبي هريرة وطعن في رواياته وحفظه. بل منهم من جرؤ على الطعن في صدقه فيما يروي, حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة, إن لم يزعم أنها لا أصل لها بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين الذين أرادوا بنقدهم أن بعض أسانيدهما خارجة عن الدرجة العليا من الصحة التي التزمها الشيخان, لم يريدوا أنها أحاديث ضعيفة قط. ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه - حديث الذباب - لم يكن مما استدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري بل هو عندهم جميعا مما جاء على شرطه في أعلا درجات الصحة. ومن الغريب أيضا أن هؤلاء الذين حملوا على أبي هريرة على علم كثير منهم بالسنة وسعة اطلاعهم غفلوا أو تغافلوا عن أن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد بروايته بل رواه أبو سعيد الخدري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد في المسند والنسائي وابن ماجه والبيهقي بأسانيد صحاح, ورواه أنس بن مالك أيضاً كما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط, وذكره الحافظ في الفتح وقال أخرجه البزار ورجاله ثقات. فأبو هريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه انفرد بالحمل عليه منهم بما غفلوا أنه رواه اثنان غيره من الصحابة والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث لما وقر في نفوسهم من أنه ينافي المكتشفات الحديثة من المكروبات ونحوها, وعصمهم مقامهم عن أن يجرؤا على المقام الأسمى فاستضعفوا أبا هريرة. والحق أيضاً أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب ولكنهم لا يصرحون ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة أن يقدموها على كل شيء وأن يؤولوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي إذا ما خالف ما يسمونه «الحقائق العلمية» وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه, افتراء على الله وحبا في التجديد. بل إن منهم لمن يؤمنون ببعض خرافات الأوربيين وينكر حقائق الإِسلام أو يتأولها, فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح وينكر وجود الملائكة والجن

بالتأول العصري الحديث, ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى القديسين والقديسات, ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين يخرجونها عن معنى الإِعجاز كله, وهكذا وهكذا. وفي عصرنا هذا صديق لنا كاتب قدير أديب جيد الأداء واسع الاطلاع كنا نعجب بقلمه وعلمه واطلاعه, ثم بدت منه هنات وهنات على صفحات الجرائد والمجلات في الطعن على السنة والإِزراء برواتها من الصحابة فمن بعدهم يستمسك بكلمات للمتقدمين في أسانيد معينة يجعلها - كما يصنع المستشرقون - قواعد عامة يوسع من مداها ويخرج بها عن حدها الذي أراده قائلوها, وكانت بيننا في ذلك مساجلات شفوية ومكاتبات خاصة حرصا مني على دينه وعلى عقيدته, ثم كتب في إحدى المجلات - منذ أكثر من عامين - كلمة على طريقته التي ازداد فيها إمعانا وغلواً, فكتبت له كتابا طويلا في شهر جمادى الأول سنة 1370 كان مما قلت له فيه من غير أن أسميه هنا أو أسمي المجلة التي كتبت فيها, قلت له. «وقد قرأت لك منذ أسبوعين تقريبا كلمة في مجلة .... لم تدع فيها ما وقر في قلبك من الطعن في روايات الحديث الصحيحة, ولست أزعم أني أستطيع إقناعك أو أرضى إحراجك بالإِقلاع عما أنت فيه «وليتك يا أخي درست علوم الحديث وطرق روايته دراسة وافية غير متأثر بسخافات (فلان) وأمثاله ممن قلدهم وممن قلدوه, فأنت تبحث وتنقب على ضوء شيء استقر في قلبك من قبل, لا بحثا حراً خالياً عن الهوى «وثق أني لك ناصح مخلص أمين لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء فقد قرأت من مثل كلامك أضعاف ما قرأت ولكنك تضرب الكلام بعضه ببعض. «وثق يا أخي أن المستشرقين فعلوا مثل ذلك في السنة فقلت مثل قولهم وأعجبك رأيهم إذ صادق منك هوى ولكنك نسيت أنهم فعلوا مثل ذلك وأكثر منه في القرآن نفسه فما ضار القرآن ولا السنة شيء مما فعلوا. «وقبلهم قام المعتزلة وكثير من أهل الرأي والأهواء ففعلوا هذا أو كله فما زادت السنة إلا ثبوتا كثبوت الجبال, وأتعب هؤلاء رؤوسهم وحدها وأوهوها. «بل لم نر فيمن تقدمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين

أحاديث موضوعة فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذي يطويه كلامك فيوهم الأغرار أن أكثر ما في السنة موضوع, هذا كلام المستشرقين. «غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها لا بادعاء وضعها والعياذ بالله ولا بادعاء ضعفها, إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنها لا تبلغ في الصحة الذروة العلياء التي التزمها كل منهما». «وهذا مما أخطأ فيه كثير من الناس ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا على علمه بالسنة وفقهه, ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى, وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها, ولكنه كان متأثراً أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئاً, بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدما وأثبت رأيا لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه, والله يغفر لنا وله. «وما أفضت إليك في هذه إلا خشية عليك من حساب الله, أما الناس في هذا العصر فلا حساب لهم ولا يقدمون في ذلك ولا يؤخرون, فإِن التربية الإِفرنجية الملعونة جعلتهم لا يرضون القرآن إلا على مضض, فمنهم من يصرح, ومنهم من يتأول القرآن أو السنة ليرضي عقله الملتوي لا ليحفظهما من طعن الطاعنين, فهم على الحقيقة لا يؤمنون, ويخشون أن يصرحوا فيلتوون, وهكذا هم حتى يأتي الله بأمره فاحذر لنفسك من حساب الله يوم القيامة وقد نصحتك وما ألوت والحمد لله». وأما الجاهلون الأجرياء فإِنهم كثير في هذا العصر, ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم أن يكتب طبيب في إحدى المجلات الطبية فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه وأنه ينافي علمه وأنه رواه مؤلف اسمه «البخاري» فلا يجد مجالا إلا الطعن في هذا «البخاري» ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف عن «البخاري» هذا شيئاً بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه إلا أنه روى شيئاً يراه هو - بعلمه الواسع - غير صحيح فافترى عليه ما شاء مما سيحاسب عليه بين يدي الله حسابا عسيراً. ولم يكن هؤلاء المعترضون أول من تكلم في هذا, بل سبقهم من أمثالهم الأقدمون, ولكن أولئك كانوا أكثر أدبا من هؤلاء - ثم ذكر الشيخ كلام الخطابي وابن القيم وقد تقدم ذكر ذلك, إلى أن قال - وأقول في شأن الطب الحديث أن الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب

إنكار المؤلف لعظم خلق بعض الملائكة, والرد عليه

ولا يكادون يرضون قربانه, وفي هذا من الإِسراف - إذا غلا الناس فيه - شيء كثير, ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم وفي نومهم ويقظتهم وفي شأنهم كله, وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة وغلوا غلوا شديداً في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم لو أطاعوهم طاعة حرفية تامة, وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب وتشرب فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر, ومن كابر في هذا فإِنما يخدع الناس ويخدع نفسه, وإنا لنرى أيضا أن ضرر الذباب شديد حين يقع الوباء العام, لا يماري في ذلك أحد, فهناك إذاً حالان ظاهرتان بينهما فروق كبيرة, أما حال الوباء فمما لا شك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب - أشد التحرز. وأما إذا عدم الوباء وكانت الحياة تجري على سننها فلا معنى لهذا التحرز, والمشاهدة تنفي ما غلا فيه الغلاة من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب, ومن كابر في هذا فإِنما يجادل بالقول لا بالعمل, ويطيع داعي الترف والتأنق, وما أظنه يطبق ما يدعو إليه تطبيقا دقيقا, وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون انتهى كلامه رحمه الله تعالى ولقد أجاد فيه وأفاد سوى كلمة واحدة وهي قوله «وثق أني لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء» فهذه كلمة غير مرضية لأن الواجب عليه وعلى غيره من أهل العلم أن يهمهم القول في السنة بما لا يليق وأن يغضبوا أشد الغضب من الطعن في الأحاديث الصحيحة ومعارضتها بالآراء الفاسدة. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وروى الطبراني في الأوسط عنه عن النبي - ص - أتاني ملك برسالة من الله عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها. فجوابه أن يقال وما ينكر أعداء السنة من عظم خلق بعض الملائكة فقد روى البخاري عن زر قال حدثنا عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه «أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح». وروى الإِمام أحمد بإِسناد جيد عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق».

إنكاره لحديث «العجوة من الجنة» والرد عليه

وروى ابن جرير عن عبد الله رضي الله عنه قال «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» قال ابن كثير إسناده جيد قوي. وفي الصحيحين عن مسروق قال كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول (ولقد رآه بالأفق المبين) (ولقد رآه نزلة أخرى) فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال «إنما ذاك جبريل» لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين, رآه منهبطا من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» ورواه ابن أبي حاتم ولفظه «أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه وعنقه مخفق الطير سبعمائة عام» قال ابن كثير إسناده جيد رجاله كلهم ثقات. وأما الحديث الذي ذكره المؤلف تبعاً لأبي رية - وهو ما رواه الطبراني في الأوسط مرفوعاً ولفظه «أتاني ملك برسالة من الله عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها» فقد أجاب عنه العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية فقال تفرد بروايته صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف, والحديث معدود في منكراته فلم يثبت عن أبي هريرة انتهى. وأما قوله وروى الترمذي عنه قال قال رسول الله العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم. فجوابه أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية هذا الحديث فقد رواه الإِمام أحمد وابن ماجه بإِسناد حسن من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم» وقد أشار الترمذي إلى رواية جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما بعد إيراده لحديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد روى الترمذي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريقين قال في الأولى منهما هذا حديث حسن غريب وقال في الثانية هذا حديث حسن, ورواه الإِمام أحمد من

تخبيط للمؤلف وأبي رية في عدد روايات بعض الصحابة والرد عليهما

عدة طرق وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند ورواه أبو داود الطيالسي والدارمي وابن ماجه. وروى الإِمام أحمد أيضا بأسانيد صحيحة عن رافع بن عمرو المزني رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «العجوة والشجرة من الجنة» وفي رواية «العجوة والصخرة من الجنة» ورواه ابن ماجه بهذا اللفظ قال في الزوائد إسناده صحيح رجاله ثقات. ورواه الحاكم بلفظ «الشجرة والعجوة من الجنة» وقال صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي, وفي رواية قال «العجوة والصخرة والشجرة من الجنة» قال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإِمام أحمد أيضا من حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «واعلموا أن الكمأة دواء العين وأن العجوة من فاكهة الجنة». وفي الصحيحين ومسند الإِمام أحمد وسنن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر». وروى الإِمام أحمد بأسانيد صحيحة ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن في عجوة العالية شفاء أو أنها ترياق أول البكرة» هذا لفظ مسلم, وقد رواه الإِمام أحمد بهذا اللفظ في إحدى الروايات عنده, وفي الرواية الأخرى قال «في عجوة العالية شفاء أو ترياق أول البكرة على الريق» وقال في الرواية الثالثة «في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم». وهذه الأحاديث الصحيحة تؤيد ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم» وفيها أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وأمثالهما من جهلة العصريين الذين لا يبالون برد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والسخرية منها ومن رواتها من الصحابة فمن بعدهم. فصل وقال المؤلف في صفحة (63) ما نصه عدد الأحاديث المنسوبة لكل صحابي (تحقيق علمي ص 254 أضواء على

السنة) عرفنا أن أبا هريرة روى عن رسول الله 5374 حديثاً روى منها البخاري 446 على حين أنه لم يصاحب النبي - ص - إلا عاماً وتسعة أشهر, وبقي أن نعرف ما رواه الذين سبقوه بالإِيمان وكانوا أدنى منه إلى رسول الله وأعلم بالدين ولهم الخبرة العلمية بسنة النبي - ص - نتيجة ممارستهم لأعمال الجهاد التي لم يمارسها أبو هريرة, وفيما يلي أحاديثهم التي نسبت إليهم. ما رواه أبو بكر 142 حديثاً أورد السيوطي منها 104 وله في البخاري 22 حديثاً مع المقارنة بين 23 سنة قضاها مع النبي - ص - وبين حوالي سنتين فقط لأبي هريرة. ما روى عمر بن الخطاب 50 حديثا كما أثبت ابن حزم مع المقارنة بين 16 سنة قضاها مع النبي - ص - وسنتين لأبي هريرة. ما رواه عثمان 9 رواهم البخاري. ما رواه الزبير 9 رواه البخاري وحديث واحد في مسلم. ما رواه طلحة 4 رواها البخاري. عبد الرحمن بن عوف 9 رواها البخاري. أبي بن كعب 60 جاءت في الكتب الستة. زيد بن ثابت 8 رواها البخاري. سلمان الفارسي 4 رواها له البخاري وثلاثة في مسلم. وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة لم يرون شيئا عن النبي منهم سعيد بن زيد بن فضل بن عمارة أحد العشرة المبشرين بالجنة. والجواب أن يقال ليس في كلام أبي رية تحقيق علمي البتة وإنما فيه الجهل والضلال والطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها, والوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاسيما أبو هريرة رضي الله عنه فقد أكثر أبو رية الوقيعة فيه والتنقص له ورماه ظلما وزوراً بكل ما يرى أنه يشينه ويقدح فيه وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن أبا هريرة لم يصاحب النبي - ص - إلا عاما وتسعة أشهر.

فجوابه أن يقال هذا خطأ وجهل وقد تقدم التنبيه على ذلك في فصل قبل هذا الفصل بتسعة فصور وبينت هناك أن أبا هريرة رضي الله عنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين وزيادة أيام فليراجع ما ذكرته هناك (¬1). وأما قوله وبقي أن نعرف ما رواه الذين سبقوه بالإِيمان وكانوا أدنى منه إلى رسول الله وأعلم بالدين, إلى آخر كلامه. فجوابه أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه قد لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قدم عليه في أول سنة سبع من الهجرة, وكان يدور معه حيث دار وكان مع ذلك من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يحضره سائر المهاجرين والأنصار لاشتغال المهاجرين بالتجارة واشتغال الأنصار بحوائطهم, وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرص على العلم والحديث. وقد تقدم ما رواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أبو هريرة وعاء العلم». وتقدم أيضاً ما رواه النسائي بسند جيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن أبا هريرة رضي الله عنه سأل الله علما لا ينسى وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن على دعائه, والتأمين معناه الدعاء بالإِجابة, ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجاب بلا شك. وقد شهد غير واحد من أكابر الصحابة رضي الله عنهم لأبي هريرة رضي الله عنه بالحفظ, وقد تقدم ذكر ذلك قبل تسعة فصول فليراجع (¬2) , وتقدم أيضاً ما رواه ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع وأقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأصلي معه وأحج وأغزو معه فكنت والله أعلم الناس بحديثه قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فلا والله ما يخفى علي كل حديث كان بالمدينة, فليراجع هذا وغيره مما تقدم في الفصل الذي أشرت إليه آنفا (¬3) ففي ذلك أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وغيرهما من الشانئين لأبي هريرة رضي الله عنه. ¬

(¬1) ص: 259. (¬2) ص: 262. (¬3) ص: 265.

وأما ما ذكره المؤلف تبعاً لأبي رية من المقارنة بين ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما رواه بعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. فجوابه من وجوه أحدها في بيان أخطاء المؤلف وأبي رية في عدد الأحاديث التي رواها كل واحد من الصحابة الذين ذكروا في هذا الفصل. فمن ذلك قولهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه له في البخاري إثنان وعشرون حديثا, وهذا مخالف لما ذكره النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» وما ذكره الخزرجي في «الخلاصة» أن البخاري روى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه سبعة عشر حديثا اتفق هو ومسلم على ستة منها وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بحديث, قال النووي وسبب قلة رواياته مع تقدم صحبته وملازمته النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها وتحصيلها وحفظها انتهى. ومن ذلك قولهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى خمسين حديثا, وهذا خطأ وجهل, فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا, وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» , قال النووي اتفق البخاري ومسلم منها على ستة وعشرين حديثا وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بأحد وعشرين. ومن ذلك قولهما أن عثمان رضي الله عنه روى تسعة أحاديث رواهم البخاري, وهذا خطأ كبير فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي لعثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثة وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بخمسة, وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» فعلى هذا يكون البخاري روى لعثمان رضي الله عنه أحد عشر حديثا. وقول المؤلف «رواهم البخاري» صوابه «رواها البخاري». ومن ذلك قولهما أن الزبير روى تسعة أحاديث رواهم البخاري وحديث واحد في مسلم. وهذا خطأ كبير فقد ذكر الخزرجي في «الخلاصة» أنه روي للزبير

رضي الله عنه ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بسبعة, فعلى هذا يكون مسلم قد روى للزبير رضي الله عنه حديثين. وقول المؤلف «رواهم البخاري» صوابه «رواها البخاري». ومن ذلك قولهما أن طلحة روى أربعة أحاديث رواها البخاري, وهذا خطأ وجهل فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي لطلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة, وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» إلا أنه قال اتفقا على حديث, فعلى هذا يكون البخاري روى لطلحة ثلاثة أحاديث على قول الخزرجي وأربعة على قول النووي, ويكون مسلم قد روى له أربعة أحاديث على قول الخزرجي وخمسة على قول النووي. ومن ذلك قولهما أن عبد الرحمن بن عوف روى تسعة أحاديث رواها البخاري, وهذا خطأ وجهل فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بخمسة. وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» فعلى هذا يكون البخاري روى له سبعة أحاديث. ومن ذلك قولهما أن أبي بن كعب روى ستين حديثا في الكتب الستة, وهذا خطأ وجهل فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة وستون حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثة وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بسبعة, وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» إلا أنه قال انفرد البخاري بأربعة. ومن ذلك قولهما أن زيد بن ثابت روى ثمانية أحاديث رواها البخاري, وهذا جهل وتخبيط, فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا اتفقا منها على خمسة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بحديث, وكذا قال الخزرجي في الخلاصة, فعلى هذا يكون البخاري روى له تسعة أحاديث. ومن ذلك قولهما أن سلمان الفارسي روى أربعة أحاديث رواها البخاري وثلاثة في مسلم, وهذا خطأ وجهل قبيح فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستون حديثا اتفق البخاري

سبب قلة الرواية عن أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكثرتها عن الأحداث منهم

ومسلم على ثلاثة ولمسلم ثلاثة, وكذا قال الخزرجي في الخلاصة وزاد وانفرد البخاري بواحد, فعلى هذا يكون البخاري روى له ثلاثة أحاديث على قول النووي وأربعة على قول الخزرجي ويكون مسلم روى له ستة أحاديث. ومما ذكرته ههنا يعلم أن أبا رية بعيد من التحقيق العلمي غاية البعد وأن حاصل ما عنده التخبيط والتخليط, وذلك هو حاصل كتاب المؤلف أيضا. الوجه الثاني أن يقال قد نقل ابن سعد في الطبقات عن الواقدي أنه قال إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم, وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس, وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون, وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم, فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم, وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم. وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابني حارثة الأسلميين وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمانه فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم, ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.

تخبيط المؤلف في نسب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه والرد عليه

الوجه الثالث أن يقال إن السبق إلى الإِيمان لا يستلزم كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم, فكم من سابق إلى الإِيمان وليس بمكثر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم, وكم من مكثر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممن تأخر إسلامه أو كان صغير السن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فليس المعول في كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم على كبر السن ولا على السبق إلى الإِيمان, وإنما المعول في ذلك على الحفظ والإِتقان وطول العمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد حصل لأبي هريرة رضي الله عنه حظ وافر من الحفظ والإِتقان وذلك ببركة لزومه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على أخذ العلم والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على دعائه لما سأل الله علماً لا ينسى. وقد تأخرت وفاته إلى سنة تسع وخمسين من الهجرة. وأما قوله وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة لم يرون شيئا عن النبي منهم سعيد بن زيد بن فضل بن عمارة أحد العشرة المبشرين بالجنة. فجوابه أن أقول لا أدري من أيهما أعجب, أمن تخبيط أبي رية في عدد الأحاديث التي رواها من تقدم ذكرهم من أكابر الصحابة رضي الله عنهم, أم من تخبيط المؤلف في نسب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه, وإنه ليصدق على المؤلف وأبي رية قول الشاعر: لقد كان في الإعراض ستر جهالة ... غدوت بها من أشهر الناس في البلد وقول الآخر: زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر فأما قول المؤلف «لم يرون شيئا» فصوابه «لم يرووا شيئا» وإذا كان المؤلف لا يعرف الفرق بين الرؤية والرواية مع أن ذلك لا يخفى على أصغر طلبة العلم فما باله يتطاول على الأحاديث الصحيحة ويقابلها بالرد والإِنكار, ويتطاول على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعن فيهم بالإِفك والبهتان. وقد روى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح والبخاري وأبو داود وابن ماجه عن أبي

حديث «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»

مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» ورواه أيضا الإِمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وإسناده صحيح. وهذا الحديث ينطبق على المؤلف وأبي رية لأن كلا منهما قد انتزع منه الحياء الذي يمنع الإنسان من مجاوزة الحد وإظهار الجهل وقلة المبالاة بالتخبيط والتخليط. وبعد فليس في نسب سعيد بن زيد أحد اسمه فضل ولا عمارة. وإنما هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي, وقد سبق أن سماه المؤلف سعيد بن الزبير وذلك عند قوله إن الصحابة كانوا يتركون التحديث عن رسول الله خوفا من الزيادة أو النقصان في كلامه (¬1) , وهذا نوع آخر من تخبيط المؤلف في نسب سعيد بن زيد رضي الله عنه. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن زيد بن عمرو بن نفيل لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فجوابه أن يقال قد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وأربعون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث, وقال الخزرجي في «الخلاصة» له ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بآخر. فصل وقال المؤلف في صفحة (64) ما نصه من غرائب الحديث بوجه عام (النبي يحدد أجل الساعة) , روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي - ص - قال متى تقوم الساعة قال فسكت رسول الله - ص - هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال إن عمّر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة, قال أنس ذاك الغلام من أترابي ¬

(¬1) ص: 110.

معنى قوله تعالى (أكاد أخفيها)

يومئذ (يعني من سني) , وقد مات أنس 93 على المشهور وهو ترب الغلام الذي قال فيه النبي - ص - إنه لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة, وبذلك يكون قيام الساعة قبل انقضاء القرن الأول الهجري كما نص الحديث. فما قول عباد الأسانيد. لعل بعضهم سينبري فيقول وما يدريك لعل هذا الغلام لم يدركه الهرم إلى الآن. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن قيام الساعة من مفاتيح الغيب الخمس التي استأثر الله بعلمها فلا يعلم قيامها أحد غيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما, قال الله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) وقال تعالى (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) وقال تعالى (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) وقال تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرسالها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) وقال تعالى (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) قال البغوي أكثر المفسرين قالوا معناه أكاد أخفيها من نفسي وكذلك هو في مصحف أبي بن كعب, وفي مصحف عبد الله بن مسعود أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق, وفي بعض القراءة فكيف أظهرها لكم, وذكر ذلك على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقولون كتمت سرك من نفسي أي أخفيته غاية الإِخفاء والله تعالى لا يخفى عليه شيء انتهى وقال ابن كثير قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها أكاد أخفيها من نفسي يقول لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أكاد أخفيها يقول لا أطلع عليها أحداً غيري, وقال السدي ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي, وقال قتادة أكاد أخفيها وهي في بعض القراءات أخفيها من نفسي ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين انتهى. وروى الإِمام أحمد والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله (إن الله عنده علم

الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). وروى الإِمام أحمد أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)». وروى الإِمام أحمد أيضا عن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه - أنه قال «أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» قال ابن كثير إسناده حسن وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. وروى الإِمام أحمد أيضاً عن بريدة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» قال ابن كثير صحيح الإِسناد ولم يخرجوه. وروى الإِمام أحمد أيضا بإِسناد صحيح عن رجل من بني عامر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم هل بقي من العلم شيء لا تعلمه قال «قد علمني الله عز وجل خيراً وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل الخمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) الآية». وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم «أخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل» رواه الإِمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله متى الساعة قال «ما المسؤل عنها بأعلم من السائل» الحديث وقال في آخره «في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلى صلى الله عليه وسلم (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه.

كلام العلماء على حديث الأعراب الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة, وذكر الأحاديث في ذلك

وعن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة فقال «ما المسؤل عنها بأعلم من السائل» الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس لا يعلمها إلا الله (إن الله عنده علم الساعة) إلى قوله (إن الله عليم خبير)» رواه النسائي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم حدثني متى الساعة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا هو (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» رواه الإِمام أحمد وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ثقة وفيه كلام وبقية رجاله ثقات. وعن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك رضي الله عنه نحوه رواه الإِمام أحمد وفي إسناده شهر بن حوشب وبقية رجاله ثقات. الوجه الثاني أن يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد قيام الساعة العظمى بوجه من الوجوه وإنما كان يجيب الأعراب إذا سألوه عن الساعة بما تنتهي به أعمارهم وتقوم عليهم ساعتهم وهي موتهم كما في الصحيحين عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول «إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم» قال هشام يعني موتهم هذا لفظ البخاري. وفي صحيح مسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة». وروى مسلم أيضاً عن معبد بن هلال العنزي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال متى تقوم الساعة قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال «إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» قال أنس ذاك الغلام من أترابي يومئذ. وروى مسلم أيضاً عن قتادة عن أنس قال مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من

ذكر الأحاديث التي فيها «لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم» وكلام العلماء في ذلك

أقراني فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن يؤخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة». قوله «حتى تقوم الساعة» أي ساعة الذين سألوه وهي موتهم كما هو مصرح به في حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم ذكره, قال القاضي عياض حديث عائشة رضي الله عنها يفسر حديث أنس رضي الله عنه وأن المراد ساعة المخاطبين ومعناه يموت ذلك القرن أو أولئك المخاطبون, وقال ابن كثير ليس المراد بذلك تحديد وقت الساعة العظمى إلى وقت هرم ذاك المشار إليه وإنما المراد ساعتهم وهو انقراض قرنهم وعصرهم قصاراه أن تتناهى مدة عمر ذلك الغلام, ويؤيد ذلك رواية عائشة رضي الله عنها «قامت عليكم ساعتكم» وذلك أنه من مات فقد دخل في حكم القيامة فعالم البرزخ قريب من عالم يوم القيامة انتهى. وقال الراغب الأصفهاني الساعة جزء من الزمان ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة الحساب, وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة, والوسطى وهي موت أهل القرن الواحد نحو ما روي أنه قال «إن يطل عمر هذا الغلام لم يمت حتى تقوم الساعة» , والصغرى موت الإِنسان فساعة كل إنسان موته انتهى باختصار. وقال الداوودي في جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب الذين سألوه متى تقوم الساعة, هذا الجواب من معاريض الكلام فإِنه لو قال لهم لا أدري ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء وقبل تمكن الإِيمان في قلوبهم لارتابوا فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذين ينقرضون هم فيه ولو كان تمكن الإِيمان في قلوبهم لأفصح لهم بالمراد, قال الحافظ ابن حجر وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى حدث بها خواص أصحابه تدل على أن بين يدي الساعة أموراً عظاما انتهى. وقد روى الإِمام أحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر «تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة» ورواه الترمذي مختصراً وقال هذا حديث حسن, وفي رواية لمسلم «ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ». وروى مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لما رجع النبي صلى الله

عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم». وروى الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال «أرأيتكم ليلتكم هذه فإِن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر رضي الله عنهما فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن, قال الترمذي هذا حديث صحيح. قال النووي في شرح مسلم هذه الأحاديث قد فسر بعضها بعضا وفيها علم من أعلام النبوة والمراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قل أمرها قبل ذلك أم لا وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة انتهى. وقال ابن الأثير في جامع الأصول المعنى في الحديث أن كل من هو موجود الآن يعني ذلك الوقت إلى انقضاء ذلك الأمد المعين يكونون قد ماتوا ولا بقي على الأرض منهم أحد لأن الغالب على أعمارهم لا يتجاوز ذلك الأمد الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم فتكون قيامة أهل ذلك العصر قد قامت انتهى. وقال ابن كثير قد فسر الصحابي المراد بما فهمه وهو أولى بالفهم من كل أحد من أنه يريد عليه الصلاة والسلام أنه ينخرم قرنه ذلك فلا يبقى ممن هو كائن على وجه الأرض من أهل ذلك الزمان أحد إلى مائة سنة, وقد اختلف العلماء هل ذلك خاص بذلك القرن أو عام في كل قرن لا يبقى أحد أكثر من مائة سنة على قولين والتخصيص بذلك القرن المعين الأول أولى فإِنه قد شوهد بعض الناس جاز مائة سنة وذلك في طائفة من المعمرين ولكنه قليل في الناس انتهى. وقوله فوهل الناس قال النووي بفتح الهاء أي غلطوا يقال وهل بفتح الهاء يهل بكسرها وهلا كضرب يضرب ضربا أي غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب انتهى.

ذكر حديث «خير القرون قرني» وما في معناه وحديث «إن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها» وحديث «لن تعجز هذه الأمة من نصف يوم»

وفيما ذكرته في هذا الوجه والوجه الأول أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد أجل الساعة العظمى. الوجه الثالث أن يقال من أقبح الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والجراءة عليه قول المؤلف إن النبي يحدد أجل الساعة, وإذا كان المؤلف لا يعرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم من جوابه للأعراب الذين سألوه عن الساعة فلا يحل له أن يتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصرف كلامه إلى غير مراده. الوجه الرابع أن يقال إن كلام المؤلف وأبي رية ينم على ما في قلوبهما من الزيغ لأنهما اقتصرا على إيراد الرواية المبهمة في قيام الساعة وهي رواية أنس رضي الله عنه وأعرضا عن الرواية التي تفسر الرواية المبهمة وتوضح مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي رواية عائشة رضي الله عنها ففيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعراب «إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم» يعني موتهم, وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضا, ولا يحل لأحد أن يعارض بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضرب بعضها ببعض كما فعل المؤلف وأبو رية. الوجه الخامس أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن عمر بن الخطاب وعمران بن حصين وأبي هريرة وبريدة والنعمان بن بشير وسعد بن تميم السكوني رضي الله عنهم وقد ذكرتها في «إتحاف الجماعة» في «باب الثناء على القرون المفضلة» فلتراجع هناك, وقد جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ورواية عن بريدة رضي الله عنه ذكر أربعة قرون, وفي رواية أخرى عن بريدة رضي الله عنه ذكر خمسة قرون رواه الإِمام أحمد وإسناده جيد. وروى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».

نوع من هوس المؤلف وأبي رية والرد عليهما

وروى الإِمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه موقوفا ورواه أبو داود والحاكم مرفوعا «لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم» قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإِمام أحد وأبو داود والحاكم أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد وكم نصف ذلك اليوم قال خمسمائة سنة, رجال أبي داود كلهم ثقات. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على المؤلف حيث زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد أجل الساعة العظمى, وفيها أيضا رد عليه وعلى أبي رية حيث زعما من باب التهكم والاستهزاء أن حديث أنس رضي الله عنه يدل على أن قيام الساعة يكون قبل انقضاء القرن الأول الهجري. وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية فما قول عباد الأسانيد, إلى آخر كلامه فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال ليس التصديق بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من عبادة الأسانيد كما قد زعم ذلك عباد الهوى وأعداء السنة, وإنما ذلك من تحقيق الشهادة بأن محمداً رسول الله. وقد تقدم في أول فصول الكتاب قول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى من رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة. وتقدم فيه أيضا أقوال لبعض العلماء في التشديد على الذين يردون الأحاديث الثابتة وأنه لا يردها إلا من هو متهم على الإِسلام, فليراجع جميع ما ذكرته في أول الكتاب فإِنه مهم جداً, (¬1) وليراجع أيضا الفصل الخامس (¬2) ففيه آثار كثيرة عن السلف في الإِنكار على الذين يتهاونون بالأحاديث الصحيحة ويعارضونها بالشبه والآراء وأنواع الحجج الشيطانية. الوجه الثاني أن يقال هذه الكلمة البشعة النابية من المؤلف وأبي رية وهي تسميتهما المؤمنين بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عباد الأسانيد تدل على ما في قلوبهما من الزيغ ومتابعة الهوى, وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير ¬

(¬1) ص: 3 - 5. (¬2) ص: 13 - 22.

تكذيب المؤلف وأبي رية لحديث المنام الذي فيه «رأيت ربي في أحسن صورة» والرد عليهما

هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). فصل وقال المؤلف في صفحة (64) ما نصه حديث فاق حدود الغرابة والعجب ويبلغ ذروة الكذب على الله ورسوله, روى أحمد في مسنده أن رسول الله - ص - خرج عليهم ذات غداة وهو طيب النفس مسفر الوجه فسئل عن السبب فقال وما يمنعني, أتاني ربي عز وجل في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك ربي وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري أي ربي قال فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردهما بين ثديي حتى تجلى لي ما في السموات وما في الأرض, وفي رواية الشهرستاني لقيني ربي فصافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله. والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن المؤلف قد نقل هذا الحديث من كتاب أبي رية وقد زاد أبو رية جملة في أوله وغير فيه في بعض الكلمات كما يعلم ذلك من لفظ الحديث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى, والحديث قد رواه الإِمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومن حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وهي رؤيا منام وليست رؤية عين, وقد توهم أبو رية أنها رؤية عين وتبعه المؤلف على ذلك وهو خطأ ظاهر. فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال الإِمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال نحري - فعلمت ما في السموات وما في الأرض» الحديث ورجاله رجال الصحيح, وقد رواه الترمذي بهذا الإِسناد, ورواه أيضاً من طريق قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره بنحوه وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد روى هذا

الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله وقال «إني نعست فاستثقلت نوما فرأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى, هذا كلام الترمذي ثم ساق حديث معاذ بن جبل من طريق عبد الرحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا «على مصافكم كما أنتم» ثم انفتل إلينا ثم قال «أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإِذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث حسن صحيح انتهى كلام الترمذي. وقد رواه الإِمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه فذكره بنحوه وإسناده صحيح, قال ابن كثير بعد إيراد هذا الحديث في تفسير سورة (ص) هو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط انتهى. وأما قوله في رواية الشهرستاني «فصافحني». فجوابه أن يقال إن هذه الكلمة لم ترد في الحديث الصحيح فلا يعتد بها. الوجه الثاني أن يقال ليس في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولا في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ما يستغرب ولا ما يدعو إلى العجب فضلا عن أن يفوق حدود الغرابة والعجب, وليس فيهما شيء من الكذب على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم فضلا عن أن يبلغ ذلك إلى ذروة الكذب كما زعم ذلك المؤلف الأحمق الجاهل, وما جاء في الحديث من الكلمات التي استغرب المؤلف الحديث من أجلها وتعجب منه فهي من الأشياء التي يجب الإِيمان بها وإمرارها كما جاءت.

استغراب المؤلف وأبي رية لحديث «ثور الجنة الذي ينحر لأهلها» والرد عليهما

فصل وقال المؤلف في صفحة (64) ما نصه من أحاديث العجب الغريب (ثور الجنة) في بدائع الفوائد لابن القيم ثبت عن النبي - ص - أن المؤمنين ينحر لهم يوم القيامة ثور في الجنة الذي كان يأكل منها فيكون نزلهم - قال ابن القيم فهذا حيوان كان يأكل في الجنة فينحر نزلا لأهلها (ص 177 جـ3). والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد فهو طرف من حديث رواه مسلم في كتاب الحيض من صحيحه في «باب صفة مني الرجل والمرأة» وهو من حديث أبي أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي» فقال اليهودي جئت أسألك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أينفعك شيء إن حدثتك» قال أسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال «سل» فقال اليهود أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هم في الظلمة دون الجسر» قال فمن أول الناس إجازة قال «فقراء المهاجرين» قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال «زيادة كبد النون» قال فما غذاؤهم على إثرها قال «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال فما شرابهم عليه قال «من عين فيها تسمى سلسبيلا» قال صدقت, قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال «ينفعك إن حدثتك» قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلى مني الرجل مني المرأة أذكرا بإِذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله» قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله به». وقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحو ما جاء في حديث ثوبان

إنكار المؤلف لأحاديث الإسراء والرد عليه

رضي الله عنه وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» قال فأتى رجل من اليهود فقال بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة قال «بلى» قال تكون الأرض خبزة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه, قال ألا أخبرك بإِدامهم قال «بلى» قال إدامهم بالام ونون قالوا وما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا. وروى الإِمام أحمد بأسانيد صحيحة والبخاري في عدة مواضع من صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أول طعام يأكله أهل الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت» الحديث. وهذه الأحاديث الثلاثة يصدق بعضها بعضا, ومن كذب بما جاء فيها وعارض ذلك برأيه وتفكيره فلا شك أنه مشاق للرسول صلى الله عليه وسلم ومتبع غير سبيل المؤمنين ومتعرض للوعيد الشديد على رد الحق وتكذيب الصدق. الوجه الثاني أن يقال يظهر من قول المؤلف «من أحاديث العجب الغريب ثور الجنة» أنه ينكر ذلك وقد استشكله قبله أبو رية في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض, وهذا يدل على قلة إيمان المؤلف وأبي رية بما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا). فصل وقال المؤلف في صفحة (64) وصفحة (65) ما نصه حديث مبالغ في تكذيب القرآن في رؤية العبد لربه, قال القاضي نص أحمد على أن الإِسراء كان يقظة وحكي له أن موسى بن عقبة أن أحاديث الإِسراء كانت مناما فقال هذا كلام الجهمية, وقال أبو بكر النجار رآه إحدى عشرة مرة تسع مرات ليلة المعراج حينما كان يتردد بين موسى وبين ربه عز وجل ومرتين بالكتاب (يعني اللتان في سورة النجم) (ص 39 جـ 4 بدائع الفوائد, وفي البخاري من حديث شريك أن الإِسراء كان مناما, ونقول للمؤمن العاقل تأمل منازعة هذا الحديث لقوله

حديث الإسراء متواتر وقد أجمع عليه المسلمون

تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وقوله (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) , وفرية التردد لتخفيف فريضة الصلاة وتحوير رؤية النبي لجبريل لتصبح رؤية الله سبحانه وتعالى (الواردة في سورة النجم). والجواب عن هذا من وجوه أحدها في بيان ما في كلام المؤلف من الأغلاط, فمن ذلك قوله (أن موسى بن عقبة أن أحاديث الإِسراء) وصوابه «أن موسى بن عقبة قال إن أحاديث الإِسراء» ومن ذلك قوله «أبو بكر النجار» وصوابه «أبو بكر النجاد» بالدال لا بالراء, واسمه أحمد بن سلمان - وقيل سليمان - بن الحسن بن إسرائيل بن يونس وهو من الطبقة الثانية من أصحاب الإِمام أحمد وكان عالما ناسكا وروعا, مات لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وعاش خمسا وتسعين سنة ويقال إن مولده في سنة ثلاث وخمسين ومائتين, ومن ذلك قوله «يعني اللتان» وصوابه «يعني اللتين» ومن ذلك قوله في الآية من سورة الشورى «ما كان لبشر» وصوابه «وما كان لبشر». الوجه الثاني أن يقال قد نقل الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الإِسراء عن أبي الخطاب ابن دحية أنه قال في كتابه «التنوير في مولد السراج المنير» قد تواترت الروايات في حديث الإِسراء - ثم ذكر خمسة وعشرين من الصحابة رضي الله عنهم رووا حديث الإِسراء ثم قال - فحديث الإِسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) انتهى. وقد أنكر المؤلف تردد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإِسراء بين ربه عز وجل وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب تخفيف فريضة الصلاة وزعم أن ذلك فرية. والجواب أن أقول (سبحانك هذا بهتان عظيم) (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا). ولا ينكر تردد النبي صلى الله عليه وسلم بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب تخفيف فريضة الصلاة إلا من ينكر حديث الإِسراء وذلك دليل على الزندقة والإِلحاد.

الإسراء كان يقظة وذكر كلام العلماء في ذلك

الوجه الثالث أن يقال الذي نص عليه الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أن الإِسراء كان يقظة هو القول الصحيح, قال النووي في شرح مسلم نقلا عن القاضي عياض أنه قال اختلف الناس في الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل إنما كان جميع ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم, والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل انتهى. وقال ابن كثير في تفسيره الأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناما ثم رآه بعده يقظة لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح, والدليل على هذا قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظما ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم, وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال (أسرى بعبده ليلاً) وقال تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم, رواه البخاري, وقال تعالى (ما زاغ البصر وما طغى) والبصر من آلات الذات لا الروح, وأيضا فإِنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان إنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم انتهى. وقال ابن كثير أيضاً في «البداية والنهاية» مذهب جمهور السلف والخلف أن الإِسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك انتهى. وأما قوله وفي البخاري من حديث شريك أن الإِسراء كان مناما فجوابه أن يقال قد تكلم العلماء في رواية شريك, قال النووي قد جاء في رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله فقدم وأخر وزاد ونقص, وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد

ذكر الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء

ذكر هذه الرواية, هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة, وقد روى حديث الإِسراء جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك, وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث, قال والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعول عليها, هذا كلام الحافظ عبد الحق انتهى كلام النووي. وقال ابن كثير في البداية والنهاية وقوله في حديث شريك عن أنس ثم استيقظت فإِذا أنا في الحجر - معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف فكذبوه قال فرجعت مهموما فلم أستفق إلا بقرن الثعالب, وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا رفع فسماه المنذر, وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم انتهى كلام ابن كثير. وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل ليلة الإِسراء فقد اختلف العلماء فيها فأثبتها بعضهم ونفاها آخرون, وقال بعضهم رآه بفؤاده لا بعيني رأسه. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» اختلفوا في الرؤية فقال بعضهم رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس وطائفة, وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد, وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما, وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين واختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين, وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه, وقالت طائفة لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم قلت يا رسول الله هل رأيت ربك فقال «نور أنى أراه» وفي رواية «رأيت نوراً» والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف انتهى. وأما قول المؤلف ونقول للمؤمن العاقل تأمل منازعة هذا الحديث لقوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وقوله (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب).

معنى قوله تعالى (لا تدركه الأبصار)

فجوابه أن يقال ليس بين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإِسراء على قول من أثبتها وبين الآيتين منازعة لأن الإِدراك المذكور في الآية من سورة الأنعام هو الإِحاطة, والله تبارك وتعالى لا يحاط به, وإذا ورد النص بنفي الإِدراك الذي هو الإِحاطة فلا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة, وهذه الشمس والقمر والنجوم كل بصير يراها ولا يحيط بها ولا يدرك حقيقتها وكنهها وماهيتها, والله تبارك وتعالى أعظم من أن يحاط به قال الله تعالى (ولا يحيطون به علماً). وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً كما يرون الشمس والقمر, يرونه في العرصات وفي روضات الجنات, وهذا مما يؤمن به أهل السنة والجماعة وينكره الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم من أهل البدع. وأما قوله (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب). فقد أجاب عنه النووي في شرح مسلم بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام. فصل وقال المؤلف في صفحة (65) ما نصه خرافة أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض, عن ابن عباس أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها من يشاء من خلقه, وفي رواية أخرى عنه أنه قال الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا الناس, قالوا إنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان ليشهد لمن استلمه بحق (ص 271 من كتاب تأويل مختلف الحديث) وهذا الحديث إسرائيلي متقول عن وهب بن منبه الذي قال فيه كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون, وقد استهزأ الجاحظ بهذا الحديث فقال كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا (ويبدو أن المخترعين لهذا الحديث قصدوا أن يقولوا أن الناس يقبلون يد الله ومثل ذلك يقبلون يد الشيوخ). والجواب أن يقال إن المؤلف نقل أكثر هذا الكلام من كتاب أبي رية وقد وقع فيه تغيير في كلمتين إحداهما قوله «حتى سودته خطايا الناس» وصوابه «حتى سودته خطايا أهل الشرك» والثانية قوله «متقول عن وهب» وصوابه «منقول عن وهب».

فأما الحديث الذي فيه أن الحجر الأسود يمين الله يصافح بها خلقه فهو مروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا, ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا, فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه عبد الرزاق في مصنفه عن إبراهيم بن يزيد أنه سمع محمد بن عباد يحدث أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول «الركن - يعني الحجر - يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه مصافحة الرجل أخاه يشهد لمن استلمه بالبر والوفاء» , إبراهيم بن يزيد هو الخوزي بضم المعجمة وبالزاي أبو إسماعيل المكي متروك الحديث, ثم قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن محمد بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه, وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين, ثم قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج وحدثت عن علي بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «الركن هو يمين الله يصافح بها عباده» إسناده ضعيف لجهالة الذي حدث به عن علي بن عبد الله, والرواية الصحيحة قبله تشهد له وتقويه. وقال الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول «إن هذا الركن يمين الله في الأرض يصافح بها عباده مصافحة الرجل أخاه» قال ابن حجر (لمحمد بن أبي عمر) قال الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على «المطالب العالية» «في المسندة هذا موقوف جيد, وقال البوصيري رواه ابن أبي عمر موقوفاً بإِسناد الصحيح» انتهى. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقد رواه ابن خزيمة في صحيحه والطبراني في الأوسط والحاكم في مستدركه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان يشهد لمن استلمه بالحق وهو يمين الله عز وجل يصافح بها خلقه» قال الهيثمي في الكلام على إسناد الطبراني, فيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان وقال يخطئ وفيه كلام وبقية رجاله رجال الصحيح انتهى. وقد صححه الحاكم وتعقبه الذهبي فقال عبد الله بن المؤمل واه قال بعض العلماء وهذا غلو من الذهبي, وقد روى الإِمام أحمد منه قوله «يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان» وفي إسناده عبد الله بن المؤمل ومع هذا فقد قال المنذري إسناده حسن. وإذا علم أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما صحيح الإِسناد وأن ابن

الحجر الأسود من الجنة

خزيمة والحاكم قد صححا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأن المنذري قد حسنه فمن أقبح المكابرة قول المؤلف أنه خرافة, وهذه الكلمة تدل على ما في قلب المؤلف من الزيغ وعداوة السنة, والمؤلف هو المخرف على الحقيقة لأنه يكابر في رد الأحاديث الصحيحة ويهرف بما لا يعرف. وأما الحديث الذي فيه إن الحجر الأسود من الجنة فقد رواه الإِمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك» هذا لفظ أحمد, ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن سودته خطايا بني آدم» قال الترمذي حديث حسن صحيح, قال وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة. وأما قوله قالوا إنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان ليشهد لمن استلمه بحق. فجوابه أن يقال هذا قطعة من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره. وقد رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليبعثن الله تبارك وتعالى الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق» قال البيهقي وقال بعضهم في الحديث «لمن استلمه بحق» قال الترمذي هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه. وأما قوله وهذا الحديث منقول عن وهب بن منبه الذي قال فيه كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون. فجوابه أن يقال هذا خطأ ظاهر وتخليط فإِن المنقول عن وهب غير الحديث المرفوع الذي تقدم ذكره, ويشهد للمنقول عن وهب بن منبه ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب» قال الترمذي هذا يروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا قوله. وفيه عن أنس أيضاً وهو حديث غريب.

الجاحظ أحد المجان الضلال وذكر كلام العلماء فيه

وأما قوله وقد استهزأ الجاحظ بهذا الحديث فقال كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا. فجوابه أن يقال ليس بغريب من الجاحظ أن يستهزأ بالحديث لأنه كما قال ابن حزم في الملل والنحل كان أحد المجان الضلال غلب عليه الهزل, وقال الذهبي في الميزان كان من أئمة البدع ونقل عن ثعلب أنه قال ليس بثقة ولا مأمون, وذكر الحافظ ابن حجر في لسان الميزان شيئاً كثيراً من مساويه, وذكر عن ثعلب أنه قال كان كذاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس, وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث تجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث يريد بذلك استمالة الأحداث وشراب النبيذ ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوده المشركون وقال كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا, وهو مع هذا من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث وأنصرهم لباطل انتهى. وقد رد ابن قتيبة على الجاحظ وغيره من الملحدين الذين استهزءوا بما جاء في الحجر الأسود فقال وأما قولهم. إن كانت الخطايا سودته فيجب أن يبيض لما أسلم الناس, قال ابن قتيبة ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك, قال: وبعد فإِنهم أصحاب قياس وفلسفة فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ انتهى. وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن المحب الطبري أنه قال في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة فإِن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد, قال وروي عن ابن عباس إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة, فإِن ثبت فهذا هو الجواب, قال الحافظ أخرجه الحميدي في فضائل مكة بإِسناد ضعيف انتهى. وأما قوله ويبدو أن المخترعين لهذا الحديث قصدوا أن يقولوا أن الناس يقبلون يد الله ومثل ذلك يقبلون يد الشيوخ. فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ليس الحديث في فضل الحجر الأسود مخترعا كما قد زعم ذلك عدو السنة, وقد تقدم الكلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في فضل الحجر الأسود وبيان أنه صحيح الإِسناد, وتقدم أيضا الكلام في

معنى قوله «من قبل الحجر الأسود وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه»

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في فضل الحجر الأسود وبيان أن ابن خزيمة والحاكم صححاه وأن المنذري حسنه, وهذا يرد قول من زعم أنه حديث مخترع. الوجه الثاني أن يقال لم يقل أحد من علماء المسلمين أن من قبل الحجر الأسود فقد قبل يد الله التي هي صفة من صفاته ومن زعم أن ذلك من أقوال المسلمين فقد افترى عليهم. الوجه الثالث أن يقال معنى الحديث عند المسلمين أن من استلم الحجر الأسود وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه, قال ابن قتيبة هذا تمثيل وتشبيه, وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله «الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله ولا هو نفس يمينه لأنه قال «يمين الله في الأرض» وقال «فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه» ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به, ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله وأنه ليس هو نفس يمينه. وقال شيخ الإِسلام أيضاً في الكلام على قوله «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» هذا اللفظ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو من صفات الله إذ قال «هو يمين الله في الأرض» فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإِطلاق فلا يكون اليد الحقيقية, وقوله «فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحا لله ولا مقبل ليمينه لأن المشبه ليس هو المشبه به, وقد أتى بقوله «فكأنما» وهي صريحة في التشبيه, وإذا كان اللفظ صريحاً في أنه جعل بمنزلة اليمين لا أنه نفس اليمين كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين قائلا للكذب المبين انتهى. الوجه الرابع أن يقال قد زعم المؤلف أن تقبيل أيدي الشيوخ مثل تقبيل الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض, وهذا خطأ كبير فإِن تقبيل الحجر الأسود سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب فيها بقوله وفعله وقد قال الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) وقال تعالى (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون). وفي الصحيحين وغيرهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر الأسود وقال «إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله

الترغيب في مسح الحجر الأسود والركن اليماني

عليه وسلم يقبلك ما قبلتك». قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه انتهى. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا» رواه الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, ورواه أبو داود الطيالسي وابن خزيمة في صحيحه ولفظهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن مسحهما يحط الخطايا حطا» ورواه النسائي ولفظه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن مسحهما يحطان الخطيئة» ورواه الترمذي والحاكم ولفظهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن مسحهما كفارة للخطايا» قال الترمذي هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه. وأما تقبيل أيدي الشيوخ ففي جوازه خلاف بين العلماء, قال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلا ورخص فيه أكثر العلماء كأحمد وغيره, وقال سليمان بن حرب هي السجدة الصغرى. وأما ابتداء الإِنسان بمد يده للناس ليقبلوها وقصده لذلك فهذا منهي عنه بلا نزاع كائنا من كان بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدي بذلك انتهى. ونقله عنه ابن مفلح في «الآداب الشرعية» قال وقال ابن عبد البر كان يقال تقبيل اليد إحدى السجدتين, وتناول أبو عبيدة رضي الله عنه يد عمر رضي الله عنه ليقبلها فقبضها فتناول رجله فقال ما رضيت منك بتلك فكيف بهذه, وقبض هشام بن عبد الملك يده من رجل أراد أن يقبلها وقال مه فإِنه لم يفعل هذا من العرب إلا هلوع ومن العجم إلا خضوع انتهى. فصل وقال المؤلف في صفحة (65) و (66) ما نصه خرافة تحديد الخلفاء والأمراء عدداً ونسبا من قريش ونسبة ذلك إلى النبي زوراً, روى الشيخان واللفظ للبخاري عن جابر بن سمرة, يكون اثنا عشر أميراً

كلهم من قريش, ورواية مسلم, لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا كلهم من قريش, ووقع عند أبي داود بلفظ, لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة. وملاحظ أن أكثر أحاديث المهدي جاءت عن جابر بن سمرة. وعند أحمد لا يزال هذا الأمر صالحا. وواقع عند أبي داود أخرجه البزار من حديث ابن مسعود أنه سئل من يملك هذه الأمة من خليفة قال سألنا عنها رسول الله فقال اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل. وعن كعب الأحبار في كل وادٍ من ثعلبه يكون اثنا عشر مهديا ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال, وحتى نعلم أن هذه الأحاديث حبك للكلام وصناعة محددة لوضع الأمويين, فاسمع لهذا الحديث. أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود (وابن مسعود مظلوم ضروري) رفعة تدور رحى الإِسلام 35 سنة أو ست وثلاثون أو سبع وثلاثون فإِن هلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعون عاما, وزاد الطبراني والخطابي أن الدجال تلده أمه (بقوص) أرض مصر وبين مولده ومخرجه ثلاثون عاماً, وفي رواية لمسلم أنه يخرج من أصبهان, وفي حديث الجساسة عند مسلم أنه محبوس بدير أو قصر في جزيرة في الشام أو بحر اليمن, وروى الحاكم وأحمد أنه يخرج بين الشام والعراق. والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد وقع فيه تغيير وزيادة في بعض الكلمات, فمن ذلك قوله «وواقع عند أبي داود» وصوابه «ووقع عند أبي داود» ومنها قوله «رفعة» وصوابه «رفعه» ومنها قوله «أو ست وثلاثون أو سبع وثلاثون» وصوابه «أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين» ومنها قوله «سبعون عاما» وصوابه «سبعين عاما». فأما قوله خرافة تحديد الخلفاء والأمراء عدداً ونسباً من قريش ونسبة ذلك إلى النبي زوراً. فجوابه أن يقال إن المخرف والقائل بالزور في الحقيقة هو المؤلف الذي يهرف بما لا يعرف ويخبط خبط عشواء في معارضة الأحاديث الصحيحة وردها والاستهزاء بها ووصفها بالأوصاف السيئة. وأما حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما في ذكر الأمراء الاثني عشر من قريش فهو حديث متفق على صحته ولا يرده إلا مكابر معاند وقد اختلف العلماء في معناه وذكروا في ذلك وجوها أرجحها ما وافق رواية أبي داود ولفظه «لا يزال هذا

الرد على زعمه أن أكثر أحاديث المهدي جاءت عن جابر بن سمرة

الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة» فسمعت كلاما من النبي صلى الله عليه وسلم لم أفهمه فقلت لأبي ما يقول قال «كلهم من قريش» وزاد في رواية فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا ثم يكون ماذا قال «ثم يكون الهرج». وأما قوله وملاحظ أن أكثر أحاديث المهدي جاءت عن جابر بن سمرة. فجوابه أن يقال ليس في أحاديث المهدي شيء عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما, وما زعمه المؤلف ههنا فهو من تخرصاته وظنونه الكاذبة, والصحيح من أحاديث المهدي مروي عن علي وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأم سلمة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم, وقد ذكرتها في أول الجزء الثاني من «إتحاف الجماعة» فلتراجع هناك. وأما ما نقله عن كعب الأحبار أنه قال يكون اثنا عشر مهديا إلى آخره. فجوابه أن يقال هذا غير ثابت عن كعب قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه واه جداً. وأما قوله وعن كعب الأحبار في كل واد من ثعلبة. فجوابه أن يقال يظهر من إيراد المؤلف لقوله في كل واد من ثعلبة أنه كان يرى أن هذه الجملة من كلام كعب الأحبار, ولا يستبعد ذلك منه لشدة غباوته وجهله, وهذه الجملة قد أوردها أبو رية مثلا في معرض الرواية عن كعب الأحبار فقال وعن كعب الأحبار «ولا بد من كعب الأحبار وفي كل واد أثر من ثعلبة» يكون اثنا عشر مهديا ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال. ومراد أبي رية بقوله وفي كل واد أثر من ثعلبة أن كعب الأحبار هو المتهم بوضع ما نقل عنه في خروج المهديين الاثني عشر ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام بعد ذلك وقتله الدجال, ولا يخفى ما في كلام أبي رية من التحامل على كعب الأحبار ورميه بما هو بريء منه. وقد تقدم قول أبي الدرداء رضي الله عنه أن عند ابن الحميري لعلماً كثيراً, وقول معاوية رضي الله عنه ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار - وفي رواية كالبحار - وإن كنا فيه لمفرطين, وتقدم أيضاً قول النووي أنهم اتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه, وتقدم أيضاً قول الحافظ ابن حجر أنه ثقة, وفي هذا

تهجمه على الحديث الذي فيه «تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين» الخ والرد عليه

أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وغيرهما من دجاجلة العصريين الذين قد جعلوا كعب الأحبار ووهب بن منبه غرضاً لسهامهم الخبيثة وسلما لرد الأحاديث الصحيحة واطراحها. وأما قوله وحتى نعلم أن هذه الأحاديث حبك للكلام وصناعة محددة لوضع الأمويين. فجوابه أن يقال من أكبر الخطأ وأسفه السفه معارضة المؤلف للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وزعمه أنها من حبك الكلام والصناعة المحددة لوضع الأمويين, وهذا الكلام من المؤلف يدل على شدة عداوته للسنة وأهلها. وأما قوله أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود (وابن مسعود مظلوم ضروري) رفعه, تدور رحى الإِسلام 35 سنة أو ست وثلاثون أو سبع وثلاثون فإِن هلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعون عاما. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن حديث ابن مسعود رضي الله عنه صحيح رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تدور رحى الإِسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما» قال قلت أمما مضى أم مما بقي قال «مما بقي» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال الخطابي دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس, وقال ابن الأثير إن كان أراد سنة خمس وثلاثين من الهجرة ففيها خرج أهل مصر وحصروا عثمان رضي الله عنه وجرى فيها ما جرى وإن كانت ستا وثلاثين ففيها كانت وقعة الجمل وإن كانت سبعا وثلاثين ففيها كانت وقعة صفين انتهى. وقوله «وإن يقم لهم دينهم» قال الخطابي يريد بالدين ههنا الملك, قال ويشبه أن يكون أريد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم إلى بني العباس وكان ما بين أن استقر الأمر لبني أمية إلى أن ظهرت الدعوة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيهم نحواً من سبعين سنة انتهى.

تخبيطه في أحاديث الدجال والرد عليه

وذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن البيهقي أنه قال بلغني أن في هذا إشارة إلى الفتنة التي كان منها قتل عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين, ثم إلى الفتن التي كانت في أيام علي. وأراد بالسبعين ملك بني أمية فإِنه بقي بين ما استقر لهم الملك إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيه نحواً من سبعين سنة انتهى. الوجه الثاني أن يقال إن الظالم في الحقيقة هو المؤلف الذي قد تهجم على الأحاديث الصحيحة بجهله وقلة عقله فإِنه قد ظلم ابن مسعود رضي الله عنه بتكذيبه لحديثه الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم, وظلم جميع رواة الحديث والمخرجين له من الأئمة الذين تقدم ذكرهم حيث زعم أنهم قد ظلموا ابن مسعود رضي الله عنه وذلك كذب وافتراء عليهم. وأما قوله وزاد الطبراني والخطابي أن الدجال تلده امه (بقوص) أرض مصر وبين مولده ومخرجه ثلاثون عاما. فجوابه أن يقال هذا الكلام قد نقله المؤلف من كتاب أبي رية ولم يحسن النقل ولا الاختصار. وذلك أن أبا رية ذكر في صفحة 235 من الطبعة الثالثة لكتابه ما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا «تدور رحى الإِسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإِن هلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما» ثم قال أبو رية زاد الطبراني والخطابي فقالوا سوى ما مضى قال «نعم» , ثم ذكر أبو رية في صفحة 238 ما جاء في الدجال وقال فيه وأخرج نعيم بن حماد من طريق كعب «أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة» وقد جاء المؤلف المخرف فلفق بين حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره وبين ما رواه نعيم بن حماد في الدجال وجعلهما حديثا واحداً وفي هذا التلفيق أوضح دليل على غباوة المؤلف وكثافة جهله. وأما قوله وفي رواية لمسلم أنه يخرج من أصبهان. فجوابه أن يقال ليست هذه الرواية عند مسلم وإنما رواها الطبراني بإِسناد ضعيف من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها, ورواه الإِمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفي إسناده مقال, ورواه الإِمام أحمد أيضاً وابن حبان في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها

ورواه الطبراني أيضاً من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وإسناده ضعيف, ورواه الحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه وإسناده ضعيف. وأما قوله وفي حديث الجساسة عند مسلم أنه محبوس بدير أو قصر في جزيرة في الشام أو بحر اليمن. فجوابه أن يقال قد جاء في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مخبراً عن الدجال «ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن, لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو» وأومأ بيده إلى المشرق, وقد اختصر المؤلف ما جاء في هذه الرواية اختصاراً أخل بالرواية وذهب بالفائدة. وأما قوله وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم أنه يخرج بين الشام والعراق. فجوابه أن يقال ليس المراد بما جاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن أول خروج الدجال يكون فيما بين الشام والعراق وإنما المراد به تعيين الطريق التي يخرج منها الدجال إلى أرض العرب وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله «انه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا» وفي حديث جبير بن نفير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال «ألا وإني رأيته يخرج من خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا» ثلاثا رواه الطبراني والحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. ويظهر من إيراد المؤلف للروايات التي جاءت في الدجال أنه قد ظن بها التعارض في الموضع الذي يخرج منه الدجال, ولا تعارض بينها, فأما ما رواه نعيم بن حماد من طريق كعب أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر فهذا لا أصل له ولا تعارض به الأحاديث المرفوعة, وأما باقي الروايات فهي متفقة ففي حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها النص على أنه من قبل المشرق, وفي الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا «إن الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان» وفي الحديث الذي رواه الإِمام أحمد وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا «يخرج الدجال من

اعتماد المؤلف وأبي رية على طعن رشيد رضا في أحاديث أشراط الساعة والرد على الجميع

يهودية أصبهان» وأصبهان مدينة بالمشرق, وأما ما جاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه فالمراد بذلك تعيين طريق الدجال التي يخرج منها إلى أرض العرب والله أعلم. فصل وقال المؤلف في صفحة (66) ما نصه أحاديث أشراط الساعة وكلام الأستاذ رشيد رضا عنها, في صفحة 241, 242, 243 من كتاب أضواء على السنة المحمدية, وكلام من أهم ما يثبت براءة النبي من تلك الأحاديث. والجواب أن أقول هذا كلام المؤلف في هذا الموضع, وأما إمامه في الضلال وقائدة إلى مهاوي الهلاك وهو أبو رية فقد قال في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض ما ملخصه. «كلمة جامعة في أحاديث أشراط الساعة وأمثالها». انتهى رشيد رضا في تفسيره بعد أن طعن في أحاديث أشراط الساعة وأماراتها مثل الفتن والدجال والجساسة وظهور المهدي وغير ذلك إلى هذه النتائج - ثم ذكر من نتائجه أن النبي لم يكن يعلم الغيب وإنما أعلمه الله بعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه, ومنها أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى, ومنها أن زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع والعصبيات قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها وراج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى, ومنها أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم, وما كل مؤمن صادق وقد كان في عهد النبي منافقون. وأقول هذا حاصل النتائج من كلام رشيد رضا, ثم قال رشيد فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف سنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالاً فالأصل فيها الصدق, ومن ارتاب في شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالا في متونها فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإِسرائيليات أو خطأ الرواية بالمعنى وإذا لم يكن شيء منها ثابتاً بالتواتر القطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق

رد محمد عبد الرزاق حمزة على رشيد رضا وكلامه فيه وفي محمد عبده

الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم بالقطع ولا على غير ذلك من القطعيات. والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال من أكبر الخطأ طعن رشيد رضا في أحاديث أشراط الساعة وأماراتها وغير ذلك من الأحاديث التي طعن فيها بغير حجة وهذا مما نقمه أهل العلم على رشيد رضا, وقد رد عليه غير واحد من المعاصرين له, ومنهم تلميذه الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في ضمن رده على أبي رية فقد قال في صفحة 236 وصفحة 237 من كتابه المسمى «ظلمات أبي رية» ما نصه. «ونقل أبو رية (ص: 215) تحت عنوان (كلمة جامعة في أحاديث أشراط الساعة وأمثالها) كلمة في نحو صفحتين عن السيد رشيد رضا من تفسيره ص 504 - 507 ج 9 فيما جاء من الأحاديث في أشراط الساعة وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم وغيرها, شكك فيها بأن الرواة رووها بالمعنى - يعني ويجوز الخطأ عليهم فيما فهموه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وأن الصحابة كان فيهم منافقون وفي الرواة وضاعون تظاهروا بالصلاح فلم يعرف ما وضعوه إلا بعد توبة بعضهم وإقراره بما وضع - إلى آخر ما هو دفع في صدر الأحاديث الصحيحة وعجزها وإِضعاف الثقة بها والاحتجاج بما جاءت به. «ونقول كلمة موجزة في سبب هذا التشكيك من السيد رشيد. تخرج على أستاذه الإِمام الشيخ محمد عبده الذي تمهر في فلسفه القرن الثامن عشر والتاسع عشر ورضعا جميعا لبان فلسفة جوستاف لوبون وكانت ونتشه وسبنسر وغيرهم من أساطين الفلسفة المادية التي تقول بجبرية الأسباب والمسببات وأن العالم يسير بنواميس لا يمكن أن تختلف أو أن ينفك مسبب عن سببه عقلا, فلم تتسع الفلسفة المادية في تفكيرهما للإِيمان بالمعجزات والخوارق من انشقاق البحر لموسى والعصا له وآيات عيسى بن مريم ورفعه للسماء ونزوله وخروج الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وانشقاق القمر وغيرها من الآيات. «ولما لم تتسع فلسفتهما - فلسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر - لهذه الخوارق والآيات والمعجزات أخذا في تأويلها في القرآن والشك في أحاديثها. «ولو عاش الإِمامان الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا إلى منتصف القرن العشرين وعلما فلسفته التي نفت الجبرية وأنها ذهبت إلى غير رجعة وأن العالم مسير بحكمة فاعل مختار لا بجبرية حتمية كما أعلن ذلك مشرفة باشا في مقال له «تطور

رد الشيخ أحمد محمد شاكر على رشيد رضا

العلم» , والعالم الطبيعي الفلكي الإِنكليزي جنز في كتابه «الكون الخفي» أو المستور, ورئيس الأكاديمية الأمريكية في نيويورك صاحب كتاب «الإِنسان لا يقوم وحده» الذي يرد على هكسلي خليفة دراون في كتابه «الإِنسان يقوم وحده» وقد عرب كتاب «الإِنسان لا يقوم وحده» باسم «العلم يدعو إلى الإِيمان». «أقول لو عاش الإِمامان إلى هذا التجديد في الفلسفة الغربية لكان لهما رأي آخر في آيات الأنبياء وخوارقهم ومعجزاتهم, ولكان لهم إيمان وفرح بأحاديث أشراط الساعة والخوارق ولاستفادا منها علوما نفيسة من الوحي الإلهي. «ولو كان لأبي رية أن يعرف تطور العلم وانهدام مادية القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحلول فلسفة القرن العشرين محلها لكان يستحي من نفسه أن يقلد نظرية خاطئة محاها الزمان وطمسها ويرد بها صحيح الأحاديث ويشكك فيها. ثم قال محمد عبد الرزاق حمزة, أنا تلميذ السيد رشيد رضا واستفدت منه ما أشكر الله عليه وأشكر أستاذي على ذلك وأترحم عليه لأجله ولكن ذلك لا يمنعني أن أخالفه إلى ما يظهر لي من الحق كما قال أحد الحكماء عن شيخه أنه يحبه والحق أحب إليه من شيخه انتهى. وقال الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة أيضا في صفحة 271 ولقد ذكرنا فيما مضى أن الأستاذ الإِمام قد رضع فلسفة القرن التاسع عشر والثامن عشر التي كانت شائعة في أوربا في عصره, وكان أساطينها أمثال كانت وجوستاف لوبون وسبنسر وجوته وغيرهم فتعارضت عنده مع ما جاء على ألسنة الرسل من ذكر السحر والجن والشياطين وخوارق المعجزات فأراد أن يجمع بين تلك الفلسفة المادية التي تجعل الكون آلة تسيرها سنن لا تنخرم ولا تتخلف, وبين ما أثبتته الأديان من معجزات الأنبياء والرسل فذهب يؤولها حتى تنسجم مع ما رضع من فلسفة الماديين. وذكر الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة أيضاً في صفحة 274 أن السيد رشيد حاول تأويل بعض الأحاديث وهي ما كانت تشكل عليه في الجمع بينها وبين تفكيره العصري الذي أخذه عن شيخه الأستاذ الإِمام عن فلسفة القرن التاسع عشر وما قبله من الفلسفة المادية التي لا تجتمع مع ما جاءت به الديانات انتهى. وممن رد على رشيد رضا أيضاً تلميذه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الجزء

كلام الكافي التونسي في الذين تخرجوا على جمال الدين الأفغاني والذين تخرجوا عمن تخرج عنه

الثاني عشر من مسند الإِمام أحمد فقد رد في صفحة 124 إلى أثناء صفحة 129 من هذا الجزء على الذين لعبوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه» الحديث رواه الإِمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه والبيهقي, وقال في أثناء رده عليهم ما نصه. «لم نر فيمن تقدمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة, غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها لا بادعاء وضعها والعياذ بالله ولا بادعاء ضعفها, إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنها لا تبلغ في الصحة الذروة العليا التي التزمها كل منهما. وهذا مما أخطأ فيه كثير من الناس ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا على علمه بالسنة وفقهه, ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى, وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها, ولكنه كان متأثراً أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئاً, بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدما وأثبت رأياً لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه, والله يغفر لنا وله انتهى المقصود من كلامه. وقال الشيخ محمد يوسف الكافي التونسي في كتابه «المسائل الكافية, في بيان وجوب صدق خبر رب البرية» «المسألة التاسعة والثمانون» تقدم لنا أن الذين تخرجوا على الشيخ جمال الدين الأفغاني والذين تخرجوا عمن تخرج عنه يفسرون القرآن برأيهم وينكرون بعض ما ثبت في الشرع ويعتمدون على أقوال الكفار ويهجرون قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وقول الراسخين في العلم من المسلمين, وعندهم كلام الله تعالى ككلام البشر يتصرفون فيه بغير علم فيحق عليهم الوعيد انتهى المقصود من كلامه. ومما ذكرته عن هؤلاء العارفين حق المعرفة برشيد رضا يتبين لكل عاقل أنه لا ينبغي الاعتماد على كلامه ولا الالتفات إلى رأيه وتفكيره إذا كان مخالفا للأحاديث الثابتة. الوجه الثاني أن يقال إن أقوال رشيد رضا ليست ميزانا توزن به الأحاديث النبوية فيقبل منها ما وافق أقواله ويرد ما خالفها, وإنما الميزان الأسانيد فما صح منها فهو مقبول وما لم يصح منها فهو مردود, قال الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى إذا حديث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك

وجوب الإيمان بكل ما ثبت به النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم

لرسول صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه. وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جداً في الفتن والملاحم وخروج المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وظهور الدخان وطلوع الشمس من مغربها ووقوع الخسوف الثلاثة في المشرق والمغرب وجزيرة العرب وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم إلى غير ذلك من أشراط الساعة وأماراتها, وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور وغيرها فالإِيمان به واجب وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة, ولا يجوز الالتفات إلى مكابرات بعض العصريين في رد الأحاديث الثابتة وتشكيكهم فيما خالف تفكيراتهم الخاطئة وثقافتهم الغربية. قال الشيخ الموفق أبو محمد المقدسي في كتابه «لمعة الاعتقاد» ويجب الإِيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا نعلم أنه حق وصدق وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإِسراء والمعراج, ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل انتهى. الوجه الثالث أن يقال قد ثبت في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال «لقد خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله إن كنت لأرى الشيء قد نسيت فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه» هذا لفظ البخاري, ولفظ مسلم قال «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب

عنه ثم إذا رآه عرفه» وقد رواه الإِمام أحمد وأبو داود بنحو رواية مسلم. وروى الإِمام أحمد ومسلم أيضا عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال «أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة» وقد رواه أبو داود الطيالسي ولفظه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة». وروى الإِمام أحمد ومسلم أيضا عن أبي زيد - وهو عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه - قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا. وروى الإِمام أحمد أيضاً وأبو داود الطيالسي والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبر به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه, قال الترمذي هذا حديث حسن. قال وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وأبي زيد بن أخطب وحذيفة وأبي مريم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. وروى الإِمام أحمد والطبراني عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما أخبرنا بما يكون في أمته إلى يوم القيامة وعاه من وعاه ونسيه من نسيه, قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح غير عمر بن إبراهيم بن محمد وقد وثقه ابن حبان. وروى البخاري تعليقا مجزوما به ووصله الطبراني وأبو نعيم عن عمر رضي الله عنه قال قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه. وفي هذه الأحاديث دليل على أن الله تعالى قد أطلع نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على كثير من الغيوب الماضية والآتية مما كان فيما مضى وما سيكون فيما بعد إلى

قيام الساعة وإلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وما يكون بعد ذلك, وفيها أبلغ رد على قول رشيد رضا أن الله تعالى إنما أعلم نبيه ببعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه. يوضح ذلك الوجه الرابع وهو ما جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أوتيت مفاتيح كل شيء إلى الخمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)». وروى الإِمام أحمد أيضاً عن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه - أنه قال «أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» قال ابن كثير إسناده حسن وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. وفي هذين الحديثين دليل على أن الله تعالى قد أطلع نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على كثير من المغييات مما لم يذكر في القرآن, وفيهما أبلغ رد على قول رشيد رضا أن الله تعالى إنما أعلم نبيه ببعض الغيوب بما أزل عليه في كتابه. الوجه الخامس أن يقال إن الرواية بالمعنى جائزة روي ذلك عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد تقدم تقرير ذلك في الكلام على حديث الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فليراجع هناك (¬1). الوجه السادس أن أقول قد ذكرت فيما تقدم (¬2) أن الله تعالى أقام للسنة جهابذة نقاداً بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وبينوا أسماء الوضاعين وذكروا أحاديثهم الموضوعة ولم يتركوا شيئا من الأحاديث التي وضعتها الزنادقة وأرادوا بها الدس على ضعفاء البصيرة إلا وقد نبهوا عليها, وكذلك قد نبهوا على الأحاديث المنكرة والأحاديث الضعيفة, وبسبب هذه العناية جاءت الأحاديث الصحيحة خالصة صافية من الشوائب. ¬

(¬1) ص: 123 - 125. (¬2) ص: 147.

نباهة الصحابة وعنايتهم بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله

ومع هذا فقد أبى الجريئون من العصريين والمفتونون منهم بالتفكيرات الخاطئة والثقافة الغربية إلا أن يطعنوا فيما خالف تفكيرهم وثقافتهم المنحرفة من الأحاديث الصحيحة ويشككوا فيها ولاسيما ما جاء في آيات الأنبياء ومعجزاتهم وما أيدهم الله به من خوارق العادات, وكذلك ما جاء في أشراط الساعة وأماراتها ونحو ذلك مما لا تحتمله عقولهم الضعيفة وأفهامهم القاصرة, وليست جراءتهم على رد الأحاديث الصحيحة بالأمر الهين, وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الكتاب قول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة, وتقدم فيه أيضاً وفي الفصل الخامس أقوال كثيرة لبعض العلماء في التشديد على من يرد الأحاديث الصحيحة أو يعارضها برأيه أو رأي غيره فليراجع جميع ما تقدم فإِنه مهم جداً (¬1). الوجه السابع أن يقال إن الصحابة رضي الله نهم كانوا أنبه الأمة وأشدهم عناية بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله, وما كانوا يروون عن الكذابين ولا عن المتهمين بالنفاق, وإنما كانوا يروون عن إخوانهم الذين يثقون بهم وثوقهم بأنفسهم, ومن ظن أنهم كانوا يروون عن الكذابين أو عن المتهمين بالنفاق فقد ظن بهم ظن السوء. قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية, لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عرف أصحابه المنافقين يقينا أو ظنا أو تهمة, ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق, ومما يدل على ذلك وعلى قلتهم وذلتهم وانقماعهم ونفرة الناس عنهم أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حراك, ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن ذلك يعرضه لزيادة التهمة ويجر إليه ما يكره, وقد سمى أهل السير والتاريخ جماعة من المنافقين لا يعرف عن أحد منهم أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم, وجميع الذين حدثوا كانوا معروفين بين الصحابة بأنهم من خيارهم انتهى. وأما قوله وما كل مؤمن صادق. ¬

(¬1) ص: 3 - 5 وص: 13 - 22.

الصحابة كلهم عدول ولا يعرف عن أحد منهم أنه تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

فجوابه أن يقال أما الصحابة رضي الله عنهم فكلهم عدول باتفاق أهل العلم وكلهم معروفون بالصدق فيما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيما يرويه بعضهم عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غيره, ولا يعرف عن أحد منهم أنه تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في رده على الأخنائي لا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان فيهم من له ذنوب لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه انتهى. وأما التابعون ومن بعدهم فليسوا مثل الصحابة بل فيهم الثقات الأثبات وفيهم من ليس كذلك, وقد اعتنى علماء الجرح والتعديل ببيان أحوال الرواة والتمييز بين الثقات وغير الثقات, وقد تقدم إيضاح ذلك في الوجه السادس. وأما قوله فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا. فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالا فالأصل فيها الصدق, ومن ارتاب في شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المتشككين إشكالاً في متونها فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات أو خطأ الرواية بالمعنى, وإذا لم يكن شيء منها ثابتا بالتواتر القطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم بالقطع ولا على غير ذلك من القطعيات. فجوابه أن يقال إن كثيراً من المفتونين بالثقافة الغربية يستشكلون من الأحاديث الصحيحة ما لا يتفق مع عقولهم وثقافتهم, فيستشكلون أحاديث الصفات ويستشكلون ما جاء في القضاء والقدر ويستشكلون آيات الأنبياء ومعجزاتهم وما يجريه الله على أيديهم من خوارق العادات ويستشكلون أحاديث الفتن وأشراط الساعة, إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستشكلونها إذا كانت لا تتفق مع فلسفتهم وتفكيرهم وثقافتهم, ولهم طرق في الطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها, فتارة يزعمون أنها من الدسائس الإِسرائيلية أو من دسائس الفرس وأهل الابتداع والعصبيات, وتارة يزعمون أنها من خطأ الرواية بالمعنى, وتارة يزعمون أنها لم تثبت بالتواتر القطعي وتارة يزعمون أنها تخالف سنن الله في الخلق, وتارة برمي الصحابة بالتغفيل.

كلام حسن للمعلمي يرد به على رشيد رضا وأبي رية فيما يتعلق بالأحاديث وبالرواة

ولرشيد رضا وشيخه محمد عبده نصيب وافر من الطعن في الأحاديث الصحيحة التي تخالف تفكيرهما وثقافتهما وفلسفتهما, وأما المؤلف وإمامه أبو رية فقد ملأ كل منهما جعبته من سهام الطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها والطعن في بعض الصحابة وغيرهم من ثقات التابعين ومن بعدهم من أكابر العلماء ثم أفرغا ذلك في كتابيهما المشئومين عليهما وعلى من اغتر بكلامهما الباطل. وللمؤلف وأبي رية أشباه ونظراء كثيرون من المكابرين في رد الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها وذلك موجود في كتب كثيرة من كتب العصريين ومقالاتهم الخاطئة وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون). وقد قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على آخر الجملة التي ساقها أبو رية من كلام رشيد رضا. أما المضطرب فحكمه معروف عند أهل العلم, وأما المخالف لسنن الله فمن سنن الله أن يخرق العادة إذا اقتضت حكمته, والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة لا تحصى. وأما المخالف لأصول الدين فالمتثبتون إذا سمعوا خبراً تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه فإِن حفظوه لم يحدثوا به فإِن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته, قال الإِمام الشافعي في الرسالة ص 399 «وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه» وقال الخطيب في الكفاية في علم الرواية ص 429 «باب وجوب اطراح المنكر والمستحيل من الأحاديث» قال المعلمي وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث لكن الأئمة بالمرصاد للرواة, فلا تكاد تجد حديثا بين البطلان إلا وجدت في سنده واحداً أو اثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة, والأئمة كثيراً ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به فضلا عن خبرين أو أكثر, ويقولون للخبر الذي تمتنع صحته أو تبعد «منكر» أو «باطل» وتجد ذلك كثيراً في تراجم الضعفاء وكتب العلل والموضوعات, والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا حديثا, فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطا - إلى أن قال - وبالجملة لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخبر عن ربه وغيبه بباطل, فإِن روي عنه خبر تقوم الحجة على

بطلانه فالخلل من الرواية, لكن الشأن كل الشأن في الحكم بالبطلان فقد كثر اختلاف الآراء والأهواء والنظريات وكثر غلطها, ومن تدبرها وتدبر الرواية وأمعن فيها وهو ممن رزقه الله تعالى الإِخلاص للحق والتثبت علم أن احتمال خطأ الرواية التي يثبتها المحققون من أئمة الحديث أقل جداً من احتمال خطأ الرأي والنظر, فعلى المؤمن إذا أشكل عليه حديث قد صححه الأئمة ولم تطاوعه نفسه على حمل الخطأ على رأيه ونظره أن يعلم أنه إن لم يكن الخلل في رأيه ونظره وفهمه فهو في الرواية, وليفرغ إلى من يثق بدينه وعلمه وتقواه مع الابتهال إلى الله عز وجل فإِنه ولي التوفيق انتهى. وهذا آخر الجزء الأول من الرد على عدو السنة صالح أبي بكر المصري, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته. وقد كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في آخر شهر رمضان المبارك سنة 1401 هـ , على يد جامعها الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

§1/1