الرد الجميل على المشككين في الإسلام من القرآن والتوراة والإنجيل والعلم

عبد المجيد حامد صبح

ـ[الرد الجميل على المشككين في الإسلام]ـ من القرآن والتوراة والإنجيل والعلم المؤلف: عبد المجيد حامد صبح الناشر: دار المنارة للنشر والتوزيع والترجمة، المنصورة - مصر الطبعة: الثانية، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

قصة هذا الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) من سورة سبأ 46 - 49) . (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) . قال الجاحظ: وأدنى منازل الإظهار إظهار الحجة على من ضارّه وخالف عليه (من رسائل الجاحظ) . قلت: وهذه دعوة قرآنية للتخلص من الهوى وسائر المؤثرات الصارفات عن الإخلاص في طلب الحق، ولتحرير العقل في طلبه، ولتحرير الإرادة؛ لتمضي في السبيل القويمة. وهذا وعد موعود بإظهار الإسلام، وهو الحق، وقد صدق الوعد، وسطر على صفحات التاريخ، وبرز في وقائع الدهر شاهد صدق، وآيةً ناطقة، لا تدع شبهة زيغ، لمن أخلص قلبَه لطلب الحق والحقيقة. * * * قصة هذا الكتاب 1 - لهذا الكتاب قصة، وللقصة جاذبيتها نحو موضوعها، وكلما كانت القصة من حقائق الواقع كانت أقوى جاذبية لشدة صلتها بواقع الإنسان. فإذا كان واقع القصة مما يتصل بإيمان الإنسان، وآحاد معتقده بلغت من الجاذبية مبلغها الذي لا مزيد عليه.

وكذلك كانت قصة هذا الكتاب في زيارتي لأمريكا منذ 21 ديسمبر سنة 1997، بدعوة من مجلس إدارة مسجد أبي بكر الصديق، في بروكلين من مدينة نيويورك- قَدّم إليَّ الأخ الصديق القديم (حامد نبوي) صورة من أسئلة تحدى بها مرسلوها المسلمين. وكاتبو هذه الأسئلة، المتحدون بها، جماعة من البشرين في كندا، يرسلونها في تحدِّ سافر، ويطلبون الردّ عليها، طلب تحدّ وتعجيز، يظنون أنه لا جواب عنها، وأنه لا ردّ ييطل زيفها! وأنه لا معقب عليها. وما مثلهم - لو كانوا يعلمون - إلا كمثل من يضرب رأسه في فولاذ يحسب أنه قادر على أن يكسِّره. كناطح صخرة يوما، ليوهنها. . . فلم يَضرها وأوهى قرنه الوعِل!! 2 - ويؤيد هذا التحدي قوة عاملان: أن مرسلي هذه الأسئلة قد بنوها على بعض العلم ببعض مسائل الإسلام، وبعض العلم مضلّة، والعلم إذا خالطه الهوى كان أضرّ من الجهل. وأن بعض من يقعدون بمرصد لهذه الأباطيل من مهاجري المسلمين، ليسوا من أهل العلم، وإنما هم ممن صنعت منه الغربة، والحاجة عالما من غير علم، وأبا حنيفة من غير فقه، والبلادُ إذا اكفهرت، وصوّح نبتها رُعِي الهشيم!! ومن وجوه عجز هؤلاء أنهم، وهم يعيشون وسْط هؤلاء المشبهين، يجهلون واقعهم، كما يجهلون عقائدهم! كما أن من وجوه عجزهم أنهم يحسبون، بزعمهم، أن كل مخالف في الدين عدوّ، يقاطع، بل ويجب حربه وقتاله، ويستحل ماله. . . ويقدمون - بهذا الفهم - صورة كريهة للإسلام، وعلاقته غير الإنسانية.

ومن هذه الوجوه تلك الحال لنساء هؤلاء، أدعياء العلم بالإسلام، والحال التي يطلبونها من المرأة الغربية التي تأتيهم لتعرف الإسلام حال متى علم بها الإسلام بكى مما أصابه من بعض أبنائه، عن حسن نيّة، ولكن بنقص علم، وتقصير في التحصيل، واتهام للعارفين عن يقين، الذين حصّلوا علوم الإسلام على يدي شيوخه، الذين كانوا أعلام دهرهم، وغرة زمانهم. وليست هذه الوجوه من النظر العقلي المجرد، وإنما هي من مفردات الواقع، الذي لمسه كل مخالط معايش. وبهذه الوجوه تأتي ردود هؤلاء ضعيفة، أو متهافتة، تغري أصحاب الهوى بمزيد من التهجم، بل تجعلهم يحسبون أنهم على شيء، وما هم على شيء، ولكن أغراهم ضعف المجيبين! وقد تقدم إليَّ الأخ الكريم (حامد نبوي) - لحسن ظنه لي - أن أكتب الردّ على تلك المفتريات، إظهارا للحق، ودَزءا عن الإسلام وحماية لحماه وحقيقته. وإني لأرجو أن أكون عند حسن الظن، فأكون أهلا لهذه المهمة الجليلة، فالإسلام وحقائقه أثقل من أن يستقل بها ضعيف مثلي، يدرك من قلة علمه ما لا يدرك الآخرون، ويعرف من اتساع الإسلام، وعمق مسائله ما يجعله يوقن أنه دون حسن الظن، وموضع الجواب، ومذراة هجوم وطعن. ولكن إذا وجب الجهاد بالقلم والكلمة، وأصبح القول فرض عين، وواجب عقيدة، ولازم إيمان، والله - تَعَالَى - هو ذو الجلال والإكرام، وهو مصدر الفضل، ومانح النصر لمن خلصت نيته، وحسن قصده، وبذل جهده، والحق أبلج، والباطل لجلج، فحسبي أن آخذ الطريق إلى الحق والصواب، ثم يتكفل اللَّه بالهداية وعلى اللَّه قصد السبيل وعليه الهدى. والإسلام - دي ذاته - نور لا يغشاه ظلام، وحق مبين، لا يأتيه باطل. ولكنّ البصائر قد يغشاها الرَّين، والأبصار قد يتغشاها غشاوات، فلا ترى النور وهو

ناصع، وتعمى عن الشمس، وهي رائعة في شباب النهار. 5 - ومهما قال الأعشى عن الصبح إنه ليل، فلن يعمى العالمون عن ضيائه، ومهما تحوّل أهل الهوى إلى كنّاسين يثيرون الأرض رَغاما، فإنهم لن يعفّروا صفحة السماء، ولسوف يظل الإسلام، ونبي الإسلام أطهر من الربابة في سمائه، ومهما شبّه المشتبهون، وضلل المضللون، فلسوف يظل من ذوي النصفة، ومن أولي الألباب من يعرف الحق ويؤمن به، ومن يحترم نفسه، ويُجلّها عن بطر الحق، وغمط الفضل، وتقبيح الجميل، ولسوف يظل الماء العذب الفرات على صفته، وإن وصفه المريض مر الفم بأنه مُر غير سائغ. ولسوف يظل الحق حقا، وإن جحده المبطلون (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) . 6 - تلك قصة هذا الكتاب، التي دعت إلى تسطيره، ونشره، وهي تنبيه إلى المسلمين عامة، والمقيمين منهم بين أمثال هؤلاء المبلسين، وليعرفوا كيف يفهمونهم، وكيف يتعاملون معهم. وهي تحذير لهؤلاء الذين يوقظون الفتن، وهم يدّعون السلام، ويدْعون إلى الإخاء العالمي بألسنتهم، وتأبى قلوبهم. وإعلان لأمثالهم بأن الإرادة الإسلامية ما زالت ناهضة ناشطة، تدفع عن نفسها جهل الجاهلين، وغرور الغافلين، والضالين عن سواء السبيل. وبعد، فإنها تبصرة لكل راغب بنفسه عن كل دنية، متأب بكرامته عن سهوات الانحطاط!! هذا، وسوف أجعل هذا البيان أقسامًا رئيسة: الأول: عرض أسئلة المبشرين في ترجمتها العربية، كما وصلتني، مع بعض تقويم للغة

الترجمة. وكنت أودّ أن أثبتها بلغتها الإنجليزية زيادة في التوثيق ووفاءً للمنهج العلمي. الثاني: بيان موقف القرآن من الجدال، وبيان منهجه، وثمرته، وآدابه، وبيان أن هؤلاء المبشرين لم يلتزموا المنهج الصحيح في الجدال وأنهم مقلدون في تهجمهم على الإسلام. الثالث: لبيان أنه كان عند هؤلاء المشبهين في دينهم، وكتابهم ما هو أولى بالبحث عن حقائقه وأباطيله، وأنهم لو فعلوا لاستحوا من قولهم عنه ما قالوا عن الإسلام. الرابع: الإجابات المفصلة عن هذه الأباطيل، وفيها يتجلى الحق، وبها ينتهي الكتاب إلى مراشد للهدى، ومعالم اليقين، لمن شاء أن يستقيم. عبد المجيد حامد صبح نيويورك - يناير 1998 م

القسم الأول الأسئلة مجموعة

القسم الأول الأسئلة مجموعة

وإليكم الأسئلة مجموعة: 1 - لماذا يقتل المرتد عن الإسلام، مع أن القرآن يقول: (لَآ إِكرَاهَ فِى الدينِ) ويقول: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) . فلماذا هذا التناقض بين النص والتطبيق؟! وهل يعقل أن إنسانا يفرض عليه أن لا يغير رأيه؟ وعلماء المسلمين أنفسهم يغيّرون رأيهم في مسائل كثيرة، حتى رسولكم غير رأيه في مسائل عدة، مثل زيارة القبور للنساء، وزواج المتعة. حتى القرآن نفسه عندما نسأل بعض علماء المسلمين يقولون: هذه الآية نسخت، أي انتهى حكمها (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فكيف يطلبون من إنسان عدم تغيير رأيه؟ أين حرية الرأي؟ أين حرية الأديان؟ * * * 2 - لماذا حرم على غير المسلم دخول مكة والمدينة، وفي المقابل، المسلم حرّ الحركة سواء في أوربا أو أمريكا، أو أي مكان فيه كثرة مسيحية. فأين العدل والمساواة؟ أليس هذا ينم علي أنكم لستم متسامحين؟ أو أنه ليس عندكم ثقة في دينكم؟ ولماذا لم تسمحوا بالحركات التبشيرية في داخل مكة والمدينة هل تخافون أن يترك المسلمون دينهم، ويدخلوا المسيحية؟ أين الثقة في دينكم؟ * * *

3 - لماذا العقاب في الإسلام غير منطقي؟ العقاب في القرآن لا يتناسب مع الجريمة؟ القرآن، وأقوال رسولكم يناقض بعضها بعضا: تقولون: إن إلهكم رحمن رحيم. ورسولكم يقول: إن الله أرحم من الأم على ولدها. فهل يعقل أن الأم تخلد ولدها في النار، مهما كان ذنبه؟ فكيف تريدون من إنسان أن يؤمن بإله يخلد عبيده في النار؟ وأي جريمة يستحق فاعلها الحلود في النار؟ أين الرحمة؟ وأين العدل؟ * * * 4 - لو كان الإسلام دينا حقا - كما تزعمون لما تخلف أهله. فكيف يكون دينا صحيحًا وأتباعه: المسلمون، من أسوأ الناس، وأحطهم سلوكا وأخلاقا ومظهرا. وبلادهم في منتهى التأخر والفوضى والظلم والهمجية والقذارة! ا * * * 5 - كيف حدث هذا في السعودية؟ عندما قتل مسلم غير مسلم، لم يقتل المسلم، وعندما سألنا: لماذا؟ كانت الإجابة: أن رسولكم أمر بهذا. فهل هذا عدل؟ كيف تلومون اليهود على قولهم: إنهم شعب اللَّه المختار، وفي نفس الوقت، نبيكم وأتباعه يدّعون الامتياز على غيرهم أليس هذا تناقضا ونفاقا؟ * * *

6 - قرآنكم عندما قرأناه وجدنا فيه متناقضات كثيرة، ولم نجد فيه وحدة الموضوع، نجده يقفز من موضوع إلى آخر، ونجد فيه تكرارا كثيرا جدا. وتقولون إنه معجزة، فكيف هذا؟ * * * 7 - القرآن غير مستقر في وصف أهل الكتاب: ففي آية (آل عمران: 110) سماهم، أو بعضهم: مؤمنين. وفي آية (آل عمران: 85) (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) وفي الوقت نفسه آية سورة البقرة 62 لم يشترط الإسلام! وعلماؤكم متناقضون في الجواب: نسأل إماما: هل أهل الكتاب كفار؟ منهم من يقول: نعم، ومنهم من يقول: لا. وآخر يقول: الذين سيدخلون الجنة هم المسلمون فقط!! والقرآن نفسه فيه تناقض في وصف أهل الكتاب: كما في آيات: سورة البقرة: 62، والمائدة: 17، 72، 73، والبقرة: 105 وكذلك الآيات: في المائدة: 78، 57، والبقرة: 83، 101 وكذلك آل عمران 98، 101، 106، وسورة البينة: 6. * * * 8 - الإسلام حط من شأن المرأة في قضايا كثيرة: فهي تعامل كشيء مملول منه، وأنها مواطن من الدرجة الثانية. والدلائل كثيرة، منها: * قول نبيكم: الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة. * يرث الرجل ضعف المرأة. * شهادة الرجل بشهادة امرأتين.

* الحجاب، وقيود كثيرة من زوجها، وليس على الرجل قيود، والرجل يذهب إلى الشاطئ، ويلبس المايوه، وامرأته عنده خادمة، تلبس الحجاب في الحر الشديد، وتنتظر (السيد) حتى يخرج من البحر. وقد شاهدنا ذلك على شواطئ كندا. أقوال كثيرة من نبيكم تهين المرأة. منها: لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. وقوله: من الفأل الحسن: المركب الحسن والمرأة الصالحة والدار الفسيحة! أين الأحاديث التي تدين، وتهين الرجل؟ فهل هذا دين عدل ومنطق؟ الرجل يتزوج من أربع، والمرأة غير مسموح لها! الرجل المسلم يتزوج غير المسلمة، ولا يسمح للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم؟ إذا نشزت المرأة تضرب، وإذا نشز الرجل لا يضرب!! * * * 9 - قرآنكم يحض على الزنا، حتى النبي لوط، في قول القرآن عن لوط: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) . * * * 10 - إلهكم - بحسب القرآن - هو الذي يهدي ويضل. فكيف يعاقب الإنسان بخلوده في النار؟ * * *

11 - ما هو جواب الإسلام عن هذا السؤال: لماذا خلقنا؟ تقولون: لنعبد اللَّه! وهل يحتاج اللَّه لعبادتنا؟ لماذا نخلق، ونعاني، ثم نموت. ثم نخلد في النار؟ هل هذا عدل؟ فكرة تناسخ الأرواح تجيب عن هذه الأسئلة إجابات منطقية، وفيها رحمة، وتتلاءم ورحمة الرب، الذي لا يشتهي الانتقام!. * * * 12 - لو أن الإسلام الدين الحق لما رأينا علماءه ضعفاء عاجزين منافقين؟ * * * 13 - نحن في عصر التقدم والعلم، والحسابات الدقيقة، والصعود إلى القمر. وأنتم تدعون أن الإسلام دين حضارة وعلم وتقدم. والمسملون إلى اليوم لا يزالون محْتلفين في بداية الشهور العربية، وخاصة شهر رمضان! فكيف يكون الإسلام دين تقدم؟ * * *

القسم الثانى موقف القرآن من جدال المخالفين

القسم الثانى موقف القرآن من جدال المخالفين 1 - القرآن يقرر الجدال، كأحد سبل الوصول إلى الحق ويضع آدابه، ومنهجه ويبين ثمرته. 2 - بيان أن أصحاب هذه الشبهات على غير منهج. 3 - بيان كيف نتصرف مع الخارج عن أدب الجدال ومنهجه. 4 - هؤلاء في طعنهم في الإسلام تابعون مقلدون. 5 - ولكن هناك منصفون، احترموا أنفسهم، وآثروا الحق. 6 - بيان أن مقصد هؤلاء ليس البحث عن الحق والحقيقة، بل مجرد الطعن. والتشكيك، والسير على طريق التبشير المسيحي، الذي غرق فيه مبشرو أوربا منذ نشطت الحركة الاستعمارية الغربية، وبثت سموم الاستعمار الفكري، لمساندة الاستعمار العسكري. 7 - قبل أن تطعنوا فيما عندنا نبئونا بما عندكم.

الإسلام يقر الجدال ويضع له آدابا ومبادئ

الإسلام يقر الجدال ويضع له آدابا ومبادئ حسن أن يتلاقى ذوو الفكر والرأي، ومن مأثور أدب اللغة العربية قولهم: مذاكرة الرجال تلقيح للألباب، ولا شك أن احتكاك الفكر بالفكر يولد الحقيقة، كما يولد الشرر احتكاكُ الحجر بالحجر. وأحسن التقاء لذوي الفكر التقاء ذوي الفكر من ذوى الأديان، فعنده تجتمع الحسنيان، وتلتقي الفضيلتان، وتتقارب القوتان. قوة العقل، وقوة الدين، أو الفطرتان: فطرة التفكر، وفطرة التدين. وفي تعاونها سلامة الدنيا، وسعادة الإنسان. وتلك غاية، كثر ضلال (العقل) عن سبيلها، عندما نبذ - باسم التقدم - الدين والتدين!! حسن، إذاً أن نلتقي لنتعارف، وليعرف كل منا ما عند الآخر، ولنتعاون على البر والتقوى، كما أرشد إليه القرآن الكريم، وعلى الحق والخير، كما هو رسالة الإسلام، في زمن تعاون كثير من أهله على الإثم والعدوان وعلى ظلم الإنسان، وهضم حقوقه، وبَعُد فيه البشر، من أصحاب القوة، شوطا بعيدا عن هدى السماء، فضاعت في حُمَّى الأهواء فكرة الإنسانية الجامعة، التي هي أحد مقاصد الإسلام. حسن أن نلتقي في ساحة الفكر، وإن تناءت الأجسام، وحسن أن نلتقي على هذا السمو، وليس لقاء الطعن في دين، والإصغار لأهل هذا الدين!! نحن لا نعلم كتابا سماويا شرع جدال المخالف في الدين، ووضع الجدال منهجا يقوم على أرفع القيم، وأنبل المقاصد كما فعل القرآن الكريم، الذي رفع مجال الجدال إلى مستوى الملأ الأعلى إذ يختصمون! فالقرآن، في مواضع متعددة، يحكى سؤال الملائكة اللَّه - تَعَالَى - عن الحكمة من خلق هذا النوع: الإنسان، واختصاصه بالخلافة في الأرض، على ما في طبيعته من الإفساد في الأرض، وما فيها من سفك الدماء. وكانت الملائكة - فيما يرون

أنفسهم - أحق وأجدر بهذا الاختصاص. (الآيات 30 - 33) من سورة البقرة) . 3 - والعجب من القرآن في تقرير مبدأ الجدال حين يقرر جدال الإنسان عن نفسه، مع اللَّه سبحانه، يوم القيامة!! يقول اللَّه (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) . ويقول: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) . 4 - ولا يمنع القرآن الحوار في موضوع (الإيمان والدين) بل يؤسس جواز هذا الحوار، على لسان أبي الأنبياء: إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وإذا كنا جميعا - أصحاب الديانات السماوية - ننتمي إلى أبينا إبراهيم، عليه السلام، فإننا بالحوار البناء، والجدال بالحسنى، واحترام كل منا لأخيه - نجدد منهجه في الحوار الديني، حول أم حقائق الدين، والدعوة إلى الحق، وإرشاد الناس إلى اللَّه. فإبراهيم عليه السلام كما أخبر القرآن الكريم هو مؤسس الحوار الفكري حول أسس الإيمان، ومرجع الاعتقاد، ذكر القرآن عنه ذلك في أربعة مواضع، وموضع خامس. في سورة الأنعام 75/ - 83. وهو حوار بلغ من حسنه أنه يبدو وكأنه حديث مع النفس، بعيدا عن طرف آخر. إنه لم يتوجه إلى مخالفيه مباشرة ليقول لهم حقيقة الإيمان وأساس الاعتقاد. وإنما سلك إلى ذلك سبيل المناجاة الذاتية، التي تتمثل في حديث الإنسان مع نفسه وهو يتلمس الطريق في حيرة البحث، وتردد الشك واليقين. فإذا كان من قومه من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الشمس فقد أخذ إبراهيم يعرض هذه العقائد على نفسه واحدة واحدة. وعندما يتبين له أنها يعتريها التغيّر، والانتقال من حال إلى حال، وما كان كذلك بطل أن يكون إلها معبودا. يعرض كل ذلك وكأنه مجرد نظرات وتأملات تلوح له وهو في عالم تفكره الذاتي، ويمضي في مراحل هذا التأمل الشخصي، إلى أن يصل إلى الحقيقة الكلية، التي تظهر على أنها قضية من قضايا البداهة التي لا تحتاج إلى دليل، وإنما حسبها أن يشار إليها، ويستلفت النظر إليها! تأمل ذلك في قول القرآن

الكريم: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) . وفي سورة مريم 41 - 48 تقرأ حوار إبراهيم مع أبيه. وفي سورة الأنبياء 51 - 73 تقرأ حواره مع السلطة والقوة التنفيذية. وفي سورة الصافات 83 - 98، حواره الكاشف عن غفلتهم، إذ يعبدون ما ينحتون. وهناك حوار خامس له أهميته الخاصة؛ لأنه مع رأس السلطة وهو ملك البلاد، تقرأه في سورة البقرة: 258. ومن هذا العرض الموجز يتبين أن ذكر القرآن حوار إبراهيم لم يكن تكرارا لموضوع واحد، في مواضع متعددة، كما ظن المعترضون، في شبهاتهم، فهو مرة مع نفسه، ومرة مع أبيه، وهو صانع أصنامهم، ورأس من رءوس قومه الكافرين، ومرة مع السلطة القضائية والتنفيذية، يقيم عليها الحجة العقلية الكاشفة، حتى إنهم ليعترفون ببطلان ما يعبدون، ثم نكسوا على رءوسهم خضوعا للتقليد الأعمى. ومرة يبين أن

إبراهيم على ملة الدين الحق الذي جاء به رسول اللَّه نوح، ويبين لقومه وأبيه بالدليل العملي الواقعي بطلان ما يعبدون، وكاشفا عن غفلتهم إذ يعبدون ما ينحتون، وليس هناك غفلة في الاعتقاد أشد من أن يصنع الإنسان شيئا بيديه، ثم يسميه إلها يعبده. نجد أن هذه الحوارات في مواضعها المتعددة تمثل - إذا جمعت - حوارا واحدًا متكامل الأجزاء، يذكر القرآن منها، في كل موضع، ما يناسب سياق الموضع، وليس ذاك تكرارًا للفكرة الواحدة؛ إذ ليس في القرآن تكرارٌ أصلا، كما أن ليس فيه ما يسمى في علم النحو العربي، بعطف التفسير، فمن ظن في القرآن تكرارًا يعيبه به فإنما أتى هو من قبل سوء فهمه للقرآن. ثم يأبى له سوء فهمه إلا أن يكشف عن عورته لمن يتهمهم. هذا وسوف يأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الإجابة عن شبهتهم السادسة. 5 - وإذا كان القرآن الكريم قد ذكر نماذج متعددات للحوار منسوبا إلى أطرافه، فإنه يذكر نموذجًا آخر غير منسوب إلى أطرافه بأعلامها المشخصة، إنما يذكر الحوار نفسه فقط، مما يوحى بأن المهم إنما هو: تقرير المبدأ، في ذاته، بصرف النظر عن أشخاصه، وذلك كما في سورة الكهف: 32 - 42: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) .

6 - وعلى منهج شيخ الأنبياء. إبراهيم سار نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فحاجّ المشركين فيما يعبدون، كما جاء في سورة الأعراف 191 - 195: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) . وحاجهم في القرآن، كما في سورة الطور: 30 - 36: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) . وحاجهم في النبوة، كما في سورة يونس: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

وحاج المشركين في موضوع كوني، يتعلق بأسلافكم وتاريخكم، أيها المشبهون. وذلك في نصر اللَّه للروم أهل الكتاب على أعدائهم من الفرس، وذلك ما سجله القرآن في الآيات الأولى من سورة الروم: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) . وكذلك حاج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أهل الكتاب من اليهود والنصارى: حاجّ اليهود في أسباب التحريم في شريعتهم لبيان أنه كان عقابا لهم، كما في سورة آل عمران: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) . وحاج النصارى في طبيعة المسيح وحقيقة قصته، كما في سورة آل عمران: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)

وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) . ومن عجائب هذا الحوار، وأخلاقه الإسلامية: قصة نصارى نحران، من أهل اليمن، الذين قدموا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأنزلهم في مسجده، وسلموا عليه فردّ - عليهم السلام، ولما حانت صلاتهم قاموا ليصلّوا، في مسجده، فهمّ الناس بمنعهم، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: دعوهم!! ثم إنهم ناظروه، وقالوا له: أتريد أن نعبدك، أوَ ذلك تريد يا محمد؟ قال لهم: معاذ اللَّه أن أعبد غير اللَّه، أوآمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ربي، ولا أمرني. وفي ذلك نزلت الآية 79 من سورة آل عمران: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) . دعاهم إلى إلهية اللَّه وحده فما آمنوا. دعاهم إلى المباهلة فرفضوا. دعاهم إلى كلمة سواء: ألا يعبدون إلا اللَّه فأبوا. . وما أصابهم، لرفضهم. وإصرارهم على دينهم، أذى بالفعل أو بالقول، ولا أكرهوا على ما رفضوا، وترك ما هم عليه. بل عادوا إلى - بلادهم ومعهم (أمان) وعهد من الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ألا يؤذوا في دينهم، ولا في كنائسهم. .. وبهذا التوجيه القرآني، وتطيقاته تقرر في الإسلام مبدأ الحوار مع المخالف في الرأي والفكرة، والمخالف في الدين ودوّنت هذه المحاورات، وصارت جزءا من تاريخ المسلمين، يصورّ وجها من وجوه حضارة الإسلام، تجده في كتب الأدب العرب،

وفي كتب العقائد، وفي كتب الفلسفة الإسلامية. وعلى ضوئه ألف المسلمون كتبا صارت علما مستقلا، عُرف في تاريخ الفكر الإسلامي باسم: "أدب البحث والمناظرة" يدرسه طلاب العلم في الأزهر، فيما يدرسون من علوم الإسلام. لقد بلغ من استقرار منهج الحوار في نفوس المسلمين أن علماءهَم تناظروا في أحكام الفروع. ونقل عن الشيخ ابن قدامة، صاحب (المغني) أنه أقام مدة يقيم حلقة يوم الجمعة، بجامع دمشق يناظر فيها، وأنه كان لا يناظر خصمه إلا وهو يبتسم، حتى قال بعضهم عنه: هذا الشيخ يقتل بتبسّمه خصمه!! وقد دعا عبد اللَّه بن عباس، الصحابي الجليل، والملقبُ بحبر الأمة - إلى المباهلة، في مسألة فرعية من مسائل الفقه. ودعا الإمام الأوزاعي، فقيه الشام، الإمام سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين عند الإحرام للصلاة، وعند الركوع، والاعتدال منه. . . وهي مسألة من (هيآت) الصلاة، التي لا تبطل بتركها الصلاة، ولا تبلغ مبلغ سننها. والمباهلة هي. أن يجتمع المتناظران، بعد ظهور الحجة، وعدم خضوع الطرف الآخر لها، ثم يجتهد الفريقان في دعاء الله، أن يهلك الكاذب منهما، والذي لا يخضع للحق بعد ما تبين. وأصل المباهلة في القرآن الكريم، عندما عرض حقيقة المسيح، ثم طلب من الرسول، عليه السلام أن يباهل من حاجه في حقيقته بعدما بينها اللَّه في القرآن حق البيان. نبئونا بعلم، هل تجدون مثل هذا المنهج الحواري في غير القرآن؟ وهل تجدون تطيقه عند غير المسلمين؟ إنه معلم من معالم الحضارة الإسلامية، التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وأنقذتهم من التعصب البغيض إلى الانحياز للحق، الذي بلغ من سموه عند المسلمين الثقة بأن اللٌه يرعاه، وينصر أهله، ويهلك الراغب عنه، المكابر فيه!!

7 - قواعد الحوار عندما ندرس المحاورات التي سجلها القرآن العظيم نجده قد أرسى جملة قواعد للحوار. وللقرآن عناية خاصة بإرساء قواعد السلوك الإنساني، في الفكر. والمعاملات، والأخلاق، لتعالج على هديها الجزئيات الحادثة، في بعدها المكاني والزماني. ومن القواعد التي أسسها في موضوع الحوار هذه المبادئ: 1 - رفض أن يكون التقليد أساس الحوار. والتقليد: اتباع على غير دليل. ومن الطرائف في هذه المسألة ما ذكره الإمام الماوردي، في كتابه: أدب الدنيا والدين: أنه كان يناظر آخر في مسألة علمية، وذكر لها أدلتها الكاشفة، فما كان من ذاك الآخر إلا أن أنكر هذه الحجج، وقال: إنها باطلة، فلما سأله عن سبب بطلانها، فما كان منه إلا أن قال: لأن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره شيخي فهو باطل!! فالتفت الإمام الماوردي إلى من على جواره وقال: أفحمنى بجهله!! هذا هو التقليد الذي حذر منه القرآن العظيم. أليس القرآن كتاب حضارة، كما هو كتاب دين؟!! لقد أكد القرآن على رفض التقليد، والتحذير منه، وبيان أنه مناقض للعقل وللعلم. اقرأ في بيان مناقضته للعقل الآيتين 170 - 171 من سورة البقرة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) . وفي بيان مناقضة التقليد للعلم الآية 104 من سورة المائدة. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) . 2 - ومن تلك القواعد رفض القرآن في أن يكون مقصد المحاور الغلبة ولو كانت

بالباطل، أو بقصد إبطال الحق، تقرأ ذلك في سورة الأنفال: 8، وفي سورة الكهف 56، وفي سورة غافر 5. 3 - ومنها: التجرد من كل اعتقاد سابق، وتخليص الفكر؛ لطلب الحقيقة. نقرأ ذلك في سورة سبأ 43 - 49. وهذه القواعد الثلاث أشبه بعملية تنظيف فكري ومنهجي من طريق الحوار؛ ليسلم الطريق من الشوائب المعوّقة، ثم تأتي القواعد الذاتية في الحوار. 4 - اعتبار (الحق) أمرا (محتملا) وجوده لدى أحد الطرفين. بمعنى أن يدخل كل فريق حَلْبة الحوار ولديه (افتراض) أن ما عنده يحتمل الخطأ، وأن ما عند محاوره يحتمل الصواب. قرر ذلك القرآن في الآية 24 من سورة سبأ. 5 - ويترتب على هذه القاعدة قاعدة مهمة، هي عدم اعتبار (الشك) عيبا، بل اعتباره خطوة مهمة في طريق التمحيص العلمي، حتى يكون موضع اعتبار لدى القرآن العظيم، فيخاطب اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) . إن (الشك) نوع من التفكير، وهو لذلك مقبول، مقرر في القرآن الذي يحض على: التفكير والتعقل؛ لذلك لا عجب أن يعتبره بعض علماء أصول الدين، في الإسلام - أول الواجبات على المكلّف؛ ليخطو منه خطوات فكرية نحو (اليقين) الذي يُبنى عليه (الإيمان) في الإسلام. وليس هذا الشك شكا منهجيا، للبحث العلمي فقط، مع احتفاظ صاحبه بعقيدته السابقة، على نحو ما كان (ديكارت: 1596 - 1650) في بحوثه الفلسفية والعلمية، مع احتفاظه التام بعقيدته الكاثوليكية. إنما (الشك) في منهج البحث الإسلامي، والذي هو أول واجب على المكلف - هذا الشك شك حقيقي، يبتدئ منه الإنسان، لينطلق منه باحثا عن الحق المجرد، متجردا من كل اعتقاد سابق، وإيمان موروث!!

وقد حفظ تاريخ الفكر الإسلامي، قديما وحديثا وقائع عملية لهذا الشك الحقيقي، الذي يتوقف فيه الإنسان عن قبول الحكم أو رفضه، في قضية ما، حتى وإن كانت من قضايا الإيمان، أو هي قضية الإيمان نفسه حفظ ذاك التاريخ حالة الشك التي عاش فيها. . . الإمام الغزالي؛ بحثا عن طريق الحق بعد أن شك في جميع طرقه المعروفة والموروثة، فلسفية وعقلية ودينية، وبعد أن ألف في كل هذه الطرق تأليف العالم المتخصص، والإمام المحقق، ثم لن قصور كل هذه الطرق، وهو على بصيرة بها. ثم سجل حالة شكه، وطريق الخروج منها في كتابه اللطف: (المنقذ من الضلال) وهو أروع ما كتب الغزالي، على كثرة ما كتب؛ إذ بلغت كتبه المطبوعة، والمخطوطة أربعة وخمسين كتابا، منها موسوعته المشهورة: إحياء علوم الدين. والمفقود من كتبه مائة وأربعة وسبعون. وضع الإمام الغزالي كتابه: "المنقذ من الضلال " بعد عزلة دامت عشر سنوات، عانى فيها آلاما نفسيه، وقلقا نبيلاً، للبحث عن (الطريق) شاهد الغزالي اختلاف المذاهب، وتباين الملل، فولّد ذلك في نفسه ضرورة الفحص عن عقائد الفرق. وكان أول الشك عنده انحلال التقليد؛ لأنه لم يجد فيه علما يقينيا، ولا واسطة لتمييز الحق من الباطل. وحقيقة العلم عنده هي التي ينكشف فيها المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنها إمكان الغلط والوَهم. يقول الدكتوران جميل صليبا وكامل عياد، في تقديمهما لكتاب (المنقذ من الضلال) : وكل من قرأ تأملات (ديكارت) ورسالته في الأصول أدرك أهمية معيار الغزالي للعلم، واشتراطه في اليقين، ووضوح الأفكار، وانكشافها للعقل انكشافا بدهيا". هذا ما سجله التاريخ قديما، وأما في الحديث فقد عاش الفيلسوف والكاتب الجزائري (مالك بن نبي) في هذه المحنة النفسية، التي تريد ممن ابتلي بها أن يصل إلى اليقين بنفسه من غير تقليد، حتى وصل إليها. وعبر عن المحنة والخروج منها، بعيدا عن (الإيمان الموروث) المأخوذ بالتقليد، في كتابه: (الظاهرة القرآنية) . وهي المحنة التي عاش فيها جيل من المسلمين في القرن العشرين، وعاش فيها

الكاتب الكبير، والعالم القدير الشيخ محمود محمد شاكر وسجل ذلك في تقديمه لكتاب مالك بن نبي. هذا (الشك) واتخاذ خطوة إيجايية تفكيرية، والذي يقف بصاحبه موقف الحياد من قضايا البحث - هذا الشك سجله فيلسوف المسلمين الكبير ابن سينا في خاتمة كتابه: (الإشارات) إذ يقول: "نصيحة: إياك أن يكون تكيسك وتبرؤك عن العامة، هو أن تنبري منكرًا لكل شيء، فذلك طيش وعجز. وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن لك بعدُ جليتُه، دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينته. بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك، ما لم تبرهن استحالته لك. فالصواب لك أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنها قائم البرهان. . . ". والإسلام - بمنهج البحث، البادئ من الشك الحقيقي يقرر: احترام الإنسان، ويقرر حرية إرادته، كما يقرر قدرة الإنسان على الوصول بنفسه، وجهده العلمي والفكري، على الوصول إلى الحقيقة، وذلك على عكس مذهب (الشكاك) الذين يرون عجز وسائل الإنسان. من الحس أو العقل، عن الوصول إلى حقيقة أي شيء. بناء على هذا المنهج الإسلامي، والملزم للإنسان أن يبحث بنفسه عن الحق وطريقه - لا يخشى المسلمون ما يذيعه المبشرون، لأنهم - على فرض نجاحهم - يضعون المسلم على درج الصعود من الشك إلى اليقين، الذي حضَّه الإسلام عليه. وفي ختام قواعد منهج الحوار الإسلامي أكتفي بقاعدتين: - أولاهما: تقرير أنه: لا دعوى بدون برهان، حتى ولو كانت في أصل الإيمان، وهو الإيمان بالله، وفيها يقول الله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وفي سورة النمل (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) . * * *

7 - ثانيهما: هي روح الحوار، في جميع مراحله هي:

مع رجاء لفت النظر إلى أن معنى (البرهان) في منهج الاستدلال الإسلامي، معنى فوق معنى (الدليل) ، إذ البرهان هو الحجة القاطعة في موضوعها، والتي لا تقبل النقض، كما لا تقبل أدنى درجة من (الاحتمال) أو الشك. 7 - ثانيهما: هي روح الحوار، في جميع مراحله هي: ضرورة العلم بموضوع الحوار، وأنه من المرفوض (عقلا) في منهج الإسلام - حوار من لا يعلم موضوع حواره. قرر الإسلام ذلك في آيات سورة آل عمران: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) . تلك سبع قواعد إسلامية في أدب البحث والمناظرة، هي من معالم الحضارة الفكرية الإسلامية. وهي تكشف عن سبق المسلمين إلى هذا المنهج، وأن غيرهم إنما كان تابعا لهم. لو وجد منصفين!! 8 - من آداب الحوار: مع هذه القواعد التي أرساها الإسلام في الحوار - هناك آداب لا بد أن يتحلى بها المتناظرون، في قيامهم وممارستهم عملية الحوار، وهي آداب تضمن - إذا روعيت سير مراحل الحوار في طريق مستقيم، لا تدخل فيها عوامل خارجة عن موضوعه، آداب تخلصه من: التعصب للذات، أو للمذهب على حساب الحق، من هذه الآداب: 1 - أن يكون الحوار حول الفكرة لا المفكر، وفي موضوع الدعوى، وليس الداعي، وأن نتبرأ من الخطأ، ولا نتبرّأ من المخطئ. ورسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - هو أول من أرسى هذا الأدب عندما أخطأ خالد بن الوليد في بعض تصرفاته الحربية، فرفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يديه، وقال اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد". تبرأ مما فعل، ولم يتبرأ منه.

2 - وأن يكون أسلوب الحوار ساميا إلى أعلى درجات الحسن والأدب. يقول اللَّه، في آية جامعة لمنهج الدعوة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) . وهي آية فذة في موضوعها، تستطع أن تجد فيها الركائز الرئيسة لأدب الدعوة. والمراد بالحكمة - بصرف النظر عن مدلولاتها اللغوية، وما تصدق عليه - التعبير عن طبيعة أسلوب الدعوة، وضرورة اتصافه بالحكمة وسلوكه طريقها، فهي إرشاد إلى طريقة الدعوة العملية في هداية الناس وإرشادهم، وفي ذلك بيان أن إلقاء الحق المجرد، من غير مراعاة الحال والظروف والواقع غير كافٍ الهداية والإرشاد. وإني أذكر قوما مخلصين في دعوتهم، ولكنهم غلاظ، يلقون الحق مجردا من هذه المراعاة، يحسبون غلطهم قوة في الإيمان - لهؤلاء أذكر هذه القصة، وبطلها هو موقظ الشرق من غفونه وغفلته: جمال الدين الأفغاني، حين رحل إلى الهند داعيا إلى الإسلام، فنزل أرض بعض السلاطين، قد حماها للصيد، فما كان من السلطان إلا أن أمر باعتقاله ومن معه، ثم استحضرهم بعدُ، وأخذ يؤنبهم على جراءتهم على اقتحام أرضه. فاعتذر له الأفغاني بأنهم غرباء. ومن حواره عرف السلطان أنهم إيرانيون فما كان منه إلا أن قال: إيرانيون كلاب!! فكيف تصرف فيلسوف الشرق والإسلام؟ لعل هؤلاء المتحمسين الغلاظ يظون أنه أغلظ الردّ، ويحسب ذلك إيمانا واستشهادا، أما جمال الدين فقد قال: صدقت أيها الملك. لولا ما منَّ اللَّه به علينا من دين لكنا اليوم أحط من الكلاب!! وقضى الملك أياما يتفكر في تلك الكلمة: لولا ما منَّ اللَّه به علينا من دين لكنا اليوم أحط من الكلاب " أي دين هذا؟ فاستدعى جمال الدين، وسأله عن ذلك الدين. وانتهى التعريف، الذي قام على أسلوب الحكمة، التي راعت مقام الملك - انتهى بإسلام الملك وإسلام مملكته! أما الموعظة الحسنة، فإنها ذلك الكلام الرقيق المهذب، الذي يمس شغاف القلوب، ويؤلفها، ولا ينفرها، والذي يخاطب بحسنه فطرة الإيمان في كل إنسان، والذي يدخل القلوب برفق، ويمس المشاعر في محبة، وحرص على الخير للمدعوّ.

9 - فلسفة الحوار الإسلامي:

وأما الجدال بالتي هي أحسن: فإنه، وإن كان في هذه الآية عاما، فقد جعله اللَّه خاصة في جدال أهل الكتاب، فقال: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) . وذلك اعتداد، من القرآن، بما عندهم من كتاب منزّل، يعترف القرآن بصحة أصله ولا يبطل هذا الأصل ولا ينكره، مما قد يدفع أهله إلى الانفعال، الدافع إلى تجاوز آداب الحوار. وهنا يلزم القرآن المسلم بما هو (أحسن) ولا يكتفي (بالحسن) الذي اكتفى به في الموعظة. 3 - وإذا كانت المعارك الفكرية، عادة، تنتهي يالمتحاورين، إلى عداء، أو قطيعة، فإن القرآن يقرر أنه يجب أن تنتهي إلى المسألة التي لا خصومة فيها، ولكلٍّ ما يعتقد. تقرر ذلك آية سورة الشورى: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) . * * * 9 - فلسفة الحوار الإسلامي: والفلسفة التي يقوم عليها إقرار الحوار في الإسلام، وتردّ إليها آدابه ومبادئه، وتشكل هذه الآداب والمبادئ، وتنطلق منها هذه المبادئ والآداب، في ضوء رؤية كلية، هي، بالنسبة للحوار ومبادئه وآدابه، بمثابة الجذع للفروع. وهذا هو معنى الفلسفة، في تصورها العام: البحث عن الكليات، والعلة الجامعة لشتات الجزئيات - هذه الفلسفة هي: وحدة الحق، وأنه لا يتعدد، وأن الحق الواحد لا يقابله إلا الباطل. كما يقابل الخطأ الصوابُ، والضلال الهدى. وذلك في أصول الديانة، وقواعد الإيمان. يقول اللَّه - تَعَالَى في سورة يونس: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) . وبناء على هذا الأساس الفلسفي تقرر في الإسلام، أنه يجب على الإنسان أن يبحث بنفسه عن (الحق) . يستعين على بحثه ذاك: بالعلم، وبالعقل، وبسؤال

انتبهوا من فضلكم

المصادر، وحوار أهله. ولا يغني عنه، في بحثه: الجهل، أو التقليد، أو الغفلة، أو الظن، أوالشك، أو التخيّل، أو الأماني. فتلك كلها مناهج، في الاعتقاد، رفضها القرآن. فإن أدرك الباحثُ، في بحثه، اليقينَ، فهو المهتدي، وإلا فهو معذور. * * * انتبهوا من فضلكم إنني أقرر أمرا مهما، قرره بعض علماء الإسلام: ذاك أن الباحث عن الحق في الأديان، وعن الحقيقة، في الكون، إذا مات قبل أن يهتدي إلى ما يريد فإنه عند اللَّه معذور، بمعنى أنه لا يحاسبه على عدم إسلامه، وأنه، بذلك العذر، لا يعذبه عذاب الكافرين!!. نقل الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) عن الجاحظ: أن من نظر من اليهود والنصارى، والدهرية، فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر، من حيث لم يعرف وجوب النظر، فهو أيضا معذور، وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط. والإمام الغزالي نفسه يقول في رسالته (فيصل التفرقة) ما خلاصته: إن رحمة اللَّه تشمل كثيرا من الأم السالفة، وإن كثيرا من نصارى الروم والترك في هذا الزمان (زمان الإمام الغزالي) تشملهم الرحمة، وهم الذين لم تبلغهم الدعوة، أو بلغتهم على حال لا تشجع على النظر فيها والبحث عن حقيقتها! قلت: والذين يدرسون واقع كثير من أهل الغرب اليوم يجدون صدق ما قال الغزالي عن أهل زمانه، فمنهم من لا يعرف عن الإسلام شيئا، ومنهم من لا يعرفه إلا أنه دين سبب التأخر لأهله، وأنه مجرد تحريف للكِاثوليكية!! وفي شروح (العقيدة النسفية: قال العنبري والجاحظ: قالا: دوام العذاب إنما هو في حق الكافر المعاند والمقصِّر، وأما المبالغ في الاجتهاد إذا لم يهتد للإسلام، ولم تلح له دلائل الحق فمعذور. وفي كتاب الغزالي: (الإملاء على إشكالات - الإحياء) ما خلاصته: قوم لم يعرفوا

10 - ثمرة هذا المنهج:

التوحيد، فلما أمروا به نطقوا الشهادتين ظاهرا، وهم على الجهل بما يعتقدون فيها، فمات أحدهم من حينه من قبل أن يأتي منه استفهام، أو تصوّر يمكن أن يكون له معه معتقد، هذا يرجى ألّا تضيق عنه سعة رحمة اللَّه. والحكم عليه بالنار، والخلود فيها مع الكفار تحكمٌ على غيب اللَّه سبحانه. وقد نقل أستاذنا المرحوم (حمودة غرابة) في رسالته: ابن سينا بين الدين والفلسفة عن فيصل التفرقة للإمام الغزالي قوله: من يطلب الحق، ويجتهد في سبيل الوصول إليه، ثم مات من غير أن يصل فهو أدنى إلى أن يكون معذورا" ص 214. وفي جـ 1/ 60 من الإحكام لابن حزم يقول: إن اللَّه - تَعَالَى - لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور، وكذلك النهي، فصح أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة، وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه". وفي (بدائع الفوائد) لابن القيم: 4 / 168: والأحكام تثبت في حق العبد ببلوغه وبلوغها إليه ". * * * 10 - ثمرة هذا المنهج: لا شك أن منهجا يتعلق أحد طرفيه بمخالف في الرأي أو الاعتقاد، ولا شيء ألصق بالنص، وأمكن في القلب - من الاعتقاد الديني - يقوم على هذه المبادئ المكينة في العدل وقيم الأخلاق، إن منهجا كهذا لا بد أن تكون له ثمار طيبة على الحق، ثم على الفريقين المتناظرين ومن تلك الثمار. - السمو الأخلاقي، والارتفاع بمناهج البحث عن التهاتر. - والسمو العلمي، إذ يكون العلم منطلق المتحاورين، وليس الهوى، والنظر إلى الذات، والتعصب لها. - إقرار حرية الرأي، وحرية الاعتقاد، والاعتراف بالتفاوت العقلي، وإقرار مبدأ: أن الناس مختلفون، وأنهم سوف يظلون كذلك.

11 - السؤال الآن:

- ثم اعتبار هذا الاختلاف سنة دائمة من سنن اللَّه في الخلق والناس، وأن الراغب في محو الاختلاف إنما هو خارج عن سنة اللَّه الماضية. * * * 11 - السؤال الآن: هل أنتم - الذين أرسلتم هذه الطعون والشبهات - هل التزمتم بهذا المنهج الإسلامي، وكنتم طالبي حق، باحثين عن حقيقة؟ هل عرضتم شبهاتكم عرض المحايد، الذي تجرد من هواه؟ هل افترضتم - مجرد فرض - أنكم قد تكونون على غير هدى وصواب؟ ثم - من قبل كل هذا - هل نظرتم إلى ما أنتم عليه من دين واعتقاد نظرة ناقد، كما نظرتم إلى الإسلام وكتابه ونبيه تلك النظرة الطاعنة الهادمة؟ أم أنتم ممن قال اللَّهُ فيهم: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) وعلى هذا لا عائدة من جدالكم ومحاورتكم والردّ على ما أثرتم، لأنكم تضلون عن علم، وتشبّهون عن هوى. - لقد علمنا القرآن كيف نتصرف مع من يكون كذلك في قوله - تَعَالَى -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) . وهي معلم آخر من معالم حضارة الإسلام الفكرية، والخلقية. ولو أخذنا بهذا المعلم الحضاري، لأعرضنا عنكم؛ لروح التحدّي، وقصد الطعن والإصغار، والسخرية في أسئلتكم، وروح الباحث عن المساوي. وتلك روح لا يهتدي صاحبها إلى حق أو صواب، ولا يأنس بحق، وإنما عقله وإدراكه على حسب هواه، وعلى مقدار هواه!! ولكننا نفترض غير ما توحيه أسئلتكم، نفترض غير الواقع، ونحمل أنفسنا على حسن الظن، عسى أن يكون منكم ذو بصر وبصيرة، تزول عنه الغشاوة، وعن قلبه الغمة. ثم إبراءً لذمتنا أمام اللَّه، ومعذرة إليه، ولعل منكم من يتقي اللَّه في الحق والإسلام، ثم لإبلاغ الحق والهدى (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) و (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) .

12 - عتاب موجه:

12 - عتاب موجِّه: الآن وصل بنا اللقاء إلى مسألة ذات بال: تلك أن بواعث أقوالكم ليست طلب الحق، والبحث عن سبيله، وإنما بواعثها - بحسب خبرتي - إلى ثلاث: أ - رواسب الاستشراق الاستعماري، الذي صدر عن تعصب. ب - المعلومات المزيفة عن الإسلام، التي تتضمنها المناهج الدراسية في بلاد الغرب. والتي من ثمار الكتابة التبشيرية. جـ - ثم يأتي العامل الثالث، الذي يحكم على الإسلام من (واقع) المسلمين، ويصدر فيه (الحكم الكلي) عن واقع (جزئي) ، والذي لا يفرق يين الدين والتدين، ولا بين وحي السماء، وسلوك أهل الأرض. ولا يخفى على كل ذي لب منصف الخطأ المنطقي في هذا الحكم، لما يدخل على المحكوم عليه، من عناصر، وحيثيات في الحكم، خارجة عن حقيقة المحكوم عليه، ليست من ماهيته وذاته! ولو اتخذنا ذلك منهاجا للحكم لظلمنا الأديان كلها. وتاريخ أوربا حافل بالحروب، والظلم، ورفض العلم. . . باسم المسيحية، بَلْه الحروب الصليبية، وما خطر ببالنا - نحن المسلمين، أن نصف المسيحية بالعنف أو الإرهاب!! * * *

لا جديد تحت الشمس

لا جديد تحت الشمس 1 - هذه الروح العدوانية، التي تبدّت في أسألتكم ليست جديدة على الإسلام والمسلمين، وما أنتم إلا تبع لأسلاف لكم، من غير جنسكم، أو من بني جنسكم، من المستشرقين، والمبشرين، والمستعمرين، الذين مهد لهم الاستشراق، أو دعم استعمارهم وقد أدركوا، في المسلمين، ثلاثة أمور: - قوة العقيدة في قلوب المسلمين، واستمساكهم بها. - وضعفهم الاجتماعي والسياسي مع قوة وحدتهم الدينية. - وفرة ما يملكون في بلادهم من الموارد الاقتصادية. فخططوا، في القضاء على مقوماتهم هذه الثلاثة: - إضعاف الإسلام نفسه، فضلا عن صلته بالمسلمين. - التحكم في مقدرات المسلمين الاقتصادية. - تفتيت وحدة المسلمين، واصطناع حدود بين بلادهم، وغرس فكرة القومية، ثم الوطنية، لدعم هذا التفتيت، واتخاذ الكشوف الأثرية وسيلة علمية لدعم كل ذلك! 2 - ومن المفارقات المزرية أن الغرب، مع هذا التخطط، قد تأثر حضاريا بالتقائه مع الشرق الإسلامي في الحروب الصليبية: تأثر بالإسلام، وما فيه من عقيدة التوحيد، وبشرية الرسول، تأثر (مارتن لوثر) ، وكذلك (كالفن) ، فيما قاما به من حركة الإصلاح الديني. ظهر ذلك في البروتستانتية عقيدة التثليث وعصمة البابا، واعتباره السلطة الوحيدة في تحديد رأي المسيحية، التي لا يجوز التعقيب عليها. وغير ذلك من العقائد والرسوم التي تعتبرها الكنيسة الرومانية: (الكاثوليكية) جزءا من الإيمان المسيحي.

ثم أثر هذه القضايا، ولا سيما إهدار عصمة البابا في توجيه الإنسان الغربي نحو الاستقلال الفكري، واسترداد قيمته في الوجود، ووضع معايير جديدة للعلم، وللحياة الإنسانية، ولقيم المجتمع. * * * 3 - وكان حقا لحى الخق المنصف، والعقل الحر، أن يعرف الفضل لأهله، ولكن الذي كان غير ذلك من نكران الفضل، بل وبذل الجهد في إصغاره، وتشويه صورته عند الغربيين، وعند المسلمين. . ولم يتورع بعضكم، في سبيل هذا التنفير من الإسلام. عن الزعم بأن محمدا، نبي الإسلام، لما مات أكلت جثته الكلاب!!! ولما احتل الإنجليز مصر، رفعوا شعار: لو كنتم مثلنا لعملتم عملنا. وفي سبيل تنفيذ خطط الاستعمار، وإضعاف الإسلام في نفوس المسلمين، فتحوا بنوك الربا، وحانات الخمر، والجهر بالعهر، ومواخير الفسق، وانحلال الأخلاق، وسائر الأعمال والأفكار التي تضعف توجيه الإسلام في حياة المسلمين. * * * 4 - ومن قبلهم قال لوثر: البابا والإسلام هما أعداء المسيح. ومن بعده قال (تيتمان) الفيلسوف الألماني المتوفى 1819 م، في كتابه (مختصر في تاريخ الفلسفة) : العرب شعب كان صابئا، ثم استمد دينه من محمد، المتوفى سنة 632، وهو دين شهواني، وعقلّي معا، ومن آثارخلفائه وتفاسيرهم لما يزعمونه وحيا أوحاه اللَّه إلى هذا النبي. . . " ويقول: هناك عدة عقبات عاقت تقدم المسلمين في الفلسفة، منها: كتابهم المقدّس الذي يعوق النظر العقلي الحر "ودينهم الذى يتطلب إيمانا أعمى. . . " ويقول (فيكتور كوزان) الفيلسوف الفرنسي المتوعى سنة 1847 م: المسيحية هي آخر ما ظهر على الأرض من الأديان، وهي أكملها. . . أخرجت المسيحية الحرية الحديثة، والحكومات النيابية. . . ماذا أنتج الدين البرهمي، والدين الإسلامي، وسائر

الأديان، التي لا تزال قائمة على ظهر الأرض؟ أما التعصب الجنسي للجنس الآري ضد الساميين عامة، فقد ألبسه لباسا علميا (إرنست رينان) الفيلسوف الفرنسي المتوفى سنة 1892 وشاركه في هذا التعصب المستشرق الألماني (كرستيان لاسِّن) المتوفى 1876 م. 5 - ولم يكن هذا التهجم الظلوم مقصورا على رجال الفكر (الفلسفة) بل كان هناك فريق آخر، نسج على منوال أولئك المفكرين المعاندين للإسلام، وهم المستشرقون اللاهوتيون، الذين تمثل كتاباتهم صليبية فكرية من هؤلاء القس (لا ماس) . ولا ننسى في هذه المسألة كتابات (القديس توما الإنجويني 1225م - 127م) الفيلسوف واللاهوتي الإيطالي، ومن أشهر وأهم ممثلي الفكر الكاثوليكي، ومن أهم مؤلفاته: (الخلاصة ضد الأم) وهو دفاع عن العقيدة المسيحية استنادا إلى العهد القديم، ضد اليهود، وإلى العقل السليم ضد المسلمين) (هكذا) . أما (دانتي) فإنه هو الآخر يمثل صورة الإسلام في - الوعي الأوربي، في القرون الوسطى، إذ جعل (في جحيمه) محمدا - صلى الله عليه وسلم - وابن عمه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، في موضع مثيري الشغب والصدامات والانشقاقات الدينية والسياسية. الذين يزرعون الفتن فيحصدون الأوزار. ولم يشفع (للحقيقة) عند (دانتي) أنه استفاد هذه الكوميديا التي خلدت ذكره من الإسلام وآدابه، والتصويرات الإسلامية للآخرة، كما اعترف بذلك (أسين بلاثيوس) دي يناير 1919 في بحثه الاستهلالي بمناسبة تعيينه عضوا في الأكاديمية الملكية الأسبانية. وكان على قاعدة سالفيه وخالفيه، في موقفهم من الإسلام، هذه القاعدة هي: الاستفادة من الإسلام، ومهاجمته في الوقت نفسه. * * *

وفي وصف المسلمين يقول هنري جيسب الأمريكي: المسلمون لا يفهمون الأديان، ولا يقدرونها قدرها. . . إنهم لصوص، وقتلة، ومتأخرون، وإن التبشير سيعمل على تمدينهم ". تأملوا: المسلمون لصوص وقتلة ومتأخرون. والقائمة تطول، ذكر كثيرا منها أستاذنا أ. د. محمد البهي في كتابه: (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) . كما ذكر منها الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق في محاضراته عن الفلسفة الإسلامية، التي ألقاها في جامعة القاهرة! * * * 6 - وعلى بعد ما يين هؤلاء المستشرقين والمبشرين في الزمان والمكان، فهناك قاسم مشترك بينهم، وبواعث جامعة، ومقاصد يستهدفونها، وذلك منذ قرونهم الوسطى إلى ضحى القرن العشرين، منها: * التعلم من الإسلام، مع العمل على هدمه! * وفي سبيل هذا الهدف لا مانع من الكذب على الإسلام وكتابه، ونبيه. * فمحمد بدعة مسيحية، وهو وسيط للشيطان، ومن طبيعة الشيطان نفسه. * وكتاب الإسلام اخترعه الشيطان لهدم المسيحية. * وزعم أن الكلاب أكلت جثته بعد موته. * وأن محمدا كان (كاردينالا) للكنيسة الرومانية، فشل في الجلوس على كرسي البابوية، وفي سبيل الانتقام أسس ديانة جديدة. ومن تلك الخرافات خرافة الحمامة، وخلاصتها: أن محمدا درّب حمامة لتنقر حبوب القمح من أذنه؛ ليقنع العرب أن هذه الحمامة هي رسول الروح القدس.

7 - ماذا كان مصير هذه الفرى؟

وهيَ خرافة مشوبة بما يعتقدونه من أن روح القدس في إنجيل لوقا - الإصحاح الثالث: 22، نزل على يسوع بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلا: أنت ابني الحبيب ". - وإذا كان محمد بدعة مسيحية، ارتد عن المسيحية، فلا عجب أن يكون في خرافة (دانتي) في الدرك الأسفل من الجحيم، وأن يكون (ابن رشد) و (ابن سينا) في درجة أعلى من محمد!! - ومن هذه البواعث والمنطلقات: اعتبار تفوق الجنس الآري (الأوربي) بميزة الدم والجنس - على الجنس الشرقي. - واعتبار هذه الفوارق موانع مطلقة لإمكان التقاء الغرب والشرق، وإمكان الحوار بين المسيحية والإسلام. - ونشر ادعاء أن القرآن من صنع محمد، وأنه عقبة في سبيل تقدم المسلمين، لأنه يمنع التفكير، ويفرض عقيدة الجبر. - والتخويف من الإسلام باعتباره ديناً: يحرم العقل، ويدعو إلى العنف، وأن مقصده الأصلي هو. هدم المسيحية. - لذلك كان واجب الساسة والمفكرين الغربيين العمل على ردّ المسلمين (الكفار) إلى المسيحية. وتجلّى ذلك - على الأخص - في كتابات (بطرس المبجل) والتي قدّم لها (لوثر) . * * * 7 - ماذا كان مصير هذه الفرى؟ إن سُنة اللَّه ماضية على سننها لإبطال الباطل، وإن علا، وإظهار الحق وإن طال عليه ليل الباطل. لذلك نشأ من الأوربيين أنفسهم، من احترم نفسه، واستيقظ ضميره. وآثر الحق على الباطل، والإنصاف على الجور، والصدق على الكذب.

وتلاشى القول بأن الإسلام وكتابه كانا، بطيعتهما - سجنا لحرية العقل، وعقبة في سبيل نهوض الفلسفة. من هؤلاء المنصفين الأستاذ (بيكافيه) في كتابه: (تخطيط لتاريخ عام مقارن لفلسفة القرون الوسطى) المطوع 955 1م. ومن هؤلاء المنصفين: الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبن) الذي أنصف تاريخ الإسلام والعرب، وله عبارة مشهورة يقول فيها: لم يعرف التاريخ فاتحا أعدل من العرب. أما (سارتون) حجة العلوم الطبيعية، ومؤرخها الفرنسي المعروف، والذي أنصف تاريخ العرب، واعترف بفضلهم على الغرب فكان، بذلك، أحد المنصفين في القرن العشرين، وهو - كما يقول د. توفيق الطويل: سيد مؤرخي العلم، وكان سنة 956 1 م يسفه الرأي الذي يجعل أي نوع من العلم من ابتكار الغربيين، أو أي جنس بعينه. وإذا كان مؤرخو العلم، من الغربيين، يجعلون العلوم الطبيعية والرياضية اختراعا يونانيا لم يسهم فيه أحد قبلهم، فإن (جورج سارتون) يقول في تفنيد هذا الرأي: إن من الضلال أن يقال: إن إقليدس هو أبو علم الهندسة، أو إن أبقراط هو أبو علم الطب. . . " ويقول سارتون: إن ما حققه العرب، في عصر الإسلام الذهبي. في المجال العلمي يكاد يتجاوز حد التصديق. وفي ظل هذا الإنصاف الذي وضحت معالمه في القرن العشرين، وأيدته هيئة اليونسكو بجهودها ومؤتمراتها، يقول أ. د. الطويل: اختتم البروفسور (كويلر يونج) رئيس قسم اللغات الشرقية وآدابها، بجامعة برنستون بالولايات المتحدة - اختتم بحثا له عن أثر الثقافة الإسلامية في الغرب المسيحي، بتذكير مسيحي أوربا المعاصرة بالدَّين الثقافي العظيم الذي يدينون به للإسلام، وبحثه بعنوان:. . .

وذلك في ندوة عالمية، عن الثقافة الإسلامية، عقدت في (برنستون) و (واشنطن) عام 1953م. أيها المثيرون سموم الشبهات، أما جاءكم نبأ هذه البحوث المنصفة، والتي علت بأصحابها عن السير في ركاب التقليد المسفِّ، الذي درج عليه المبشرون والمستشرقون منذ القرون الوسطى. ثم نبئوني بعلم إن كنتم صادقين: أما جاءكم نبأ ما كتبه (ول ديورانت) المؤرخ الغربي الكبير، في موسوعته (قصة الحضارة) ، والذي اعترف له النقاد بأنه كتب موسوعته: بموضوعية، ومنهج علمي سليم، ومع الالتؤام الأخلاقي وكان من إنصافه اللافت للنظر: نقطة بدء التاريخ، إذ بدأ كتابته من آسيا، مخالفا عادة الغربيين الذين كانوا يظنون أن تاريخ الإنسان بدأ من اليونان والرومان. وعلى عكس ذلك، يقرر (ول) أن لحم الإنسان في (أيرلندا) كان يباع على أنه ألذ أنواع الطعام، وأن ذلك دام في (الدنمارك) على أنه من لوازم العيش دام ذلك إلى القرن الحادي عشر. وأما في الجزر البريطانية فقد كان اللحم البشري يباع في دكاكين القصابين، كما يباع لحم الحيوان اليوم. ويقول (ول) في موسوعته، دي المجلد الثالث عشر ما نصه: لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم كله في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة، وكان الفن والثقافة في بلاد الإسلام أعم وأوسع انتشارا بين الناس مما كانا في البلاد المسيحية في العصور الوسطى، فقد كان الملوك أنفسهم خطاطين، وتجارًا، وكانوا كالأطباء، وكان في مقدورهم أن يكونوا فلاسفة. ثم يقول: كان المسلمون رجالا أكمل من المسيحيين، فقد كانوا أحفظ منهم للعهد، وأكثر منهم

رحمة بالمغلوبين، وقلما ارتكبو، في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام 1099) قلت: دخل الصليبيون القدس في تمام الساعة الثالثة من بعد ظهر الجمعة الموافق 5 اتموز 099 1م. وما كادوا يدخلونها حتى حكموا على كل مسلم بقي فيها بالموت، وشرعوا من فورهم في تنفيذ الحكم، فقتلوا سبعين ألفا، بل يؤكد بعض الباحثين أن القتلى كانوا تسعين ألفا. ولم يختلف اثنان من المؤرخين من الفرنجة أو غيرهم على الفظائع التي ارتكبها الصليبيون، تلك الفظائع التي يندي لها جبين الدهر، والتي تناقض تعاليم السيد المسيح الذي زعموا أنهم إنما جاءوا من أجل نصرته!!. يقول (ول) : لقد ظل القانون المسيحي يستخدم طريقة التحكيم الإلهي. . في الوقت الذي كانت الشريعة الإسلامية تضع طائفة من المبادئ القانونية الراقية ينفذها قضاة مستنيرون، واحتفظ الدين الإسلامي - وهو أقل غموضا في عقائده من الدين المسيحي - بشعائره، أبسط، وأنقى، وأقل اعتمادا على المظاهر المسرحية من الدين المسيحي. .. لقد تلقت أوربا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير. والأسلحة، وشارات الدروع ونقوشها، والدوافع الفنية، والتحف، والمصنوعات، والسلع التجارية، وكثيرا من الصناعات، والتشريعات، والأساليب البحرية، وكثيرا ما أخذت عن المسلمين أسماء هذه كلها. وقد انتقل شعر شعراء الفروسية الغزليين وموسيقاهم، من بلاد الأندلس إلى (برو فانس في فرنسا) ومن صقلية المسلمة إلى إيطاليا. ولعل الأوصاف العربية للرحلات إلى الجنة والجحيم كان لها نصيب في المسلاة الإلهية: لدانتي. . . ولا تزال المصطلحات العلمية العريية تملأ اللغات الأوربية، ونذكر منها على سبيل المثال:. . . للجبر، و. . . للصفر. .. قال (ول ديورانت) : وسنشرح فيما بعد بالتفصيل السبل التي جاء منها هذا التأثير الإسلامي إلى بلاد الغرب، غير أننا نقول هناك (المجلد 13 / 385) بإيجاز إنه جاء

عن طريق: التجارة، والحروب الصليبية، وعن آلاف الكتب التي ترجمت من اللغة العربية إلى اللاتينية، وعن الزيارات التي قام بها العلماء أمثال جربرت وميخائيل اسكت وأدلارد من أهل (باث) إلى الأندلس الإسلامية، ومن الشباب المسيحيين الذين أرسلهم آباؤهم الأسبان إلى بلاط الأمراء المسلمين ليتربوا فيها. .. ومن الاتصال الدائم بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الشام ومصر وصقلية، وأسبانيا، وكان كل تقدم للمسيحيين في أسبانيا تتبعه موجة من آداب المسلمين، وعلومهم، وفلسفتهم، وفنونهم، تنقل إلى البلاد المسيحية، وحسبنا أن نذكر - على سبيل المثال - أن استيلاء المسيحيين على طليطلة عام 1085 قد زاد معلومات المسيحيين الفلكية، وأبقى على الاعتقاد بكرية الأرض ثم قال (ول) : لكن نار الحقد لم تطفئ لظاها هذه الاستدانة العلمية. . . ". 8 - وفي بحث علمي مقارن، يذكر (حسين رؤف) الإنجليزي أسباب إسلامه، مبينا أن دوافع هذا التحول الخطر، عادة، ترجع إلى دوافع: عاطفية أو فلسفية، أو اجتماعية، وأن فطرته دفعته إلى البحث عن دين يروي غلته فلسفيا واجتماعيا، فلم يجد - بعد دراسة جادة لكل الأديان الظاهرة - سوى الإسلام، ولم يحجبه عن ذلك مولده من أبوين أحدهما يهودي، والآخر كاثوليكي. وكان من دراسته "دراسة الحضارة الإسلامية في الجامعة، بانجلترا، وأدركتُ لأول مرة أنها - وبكل تأكيد - هي التي أخرجت أوربا من العصور المظلمة. واستقرأتُ التاريخ رأيت أن كثيرا من أعظم الإمبراطوريات كانت إسلامية، وأن كثيرا من العلوم الحديثة يعود الفضل فيها إلى الإسلام، فلما جاءني الناس ليقولوا لي: إني باعتناقي للإسلام سلكتُ طريق التخلف، تبسمتُ؛ لجهلهم، وخلطهم بين المقدمات والنتائج، فهل يجوز للعالم أن يحكم على الإسلام بمقتضى ما أصابه من انحلال لظروف خارجة عنه؟ ". 9 - هذه شهادات مختصين غير مسلمين للإسلام، وحضارته، وآثاره، وآثارها في

الغرب، وكيف كانت السبب المباشر لإخراجه وأهله من ظلمات عصورهم الوسطى. وبقيت شهادة مهمة عن الآثار السلبية لعدم دخول المسلمين بأنفسهم كقوة مسيطرة في أوربا الغربية، وذلك إثر هزيمتهم أمام (شارل مارتل) في وقعة: بلاط الشهداء، والتي يسميها مؤرخو الغرب: معركة بواتيه، وهي مدينة بفرنسا. وكان ذلك في أواخر شعبان سنة 114 هـ = 12 أو 13 من أكتوبر 732 م. وبهزيمة المسلمين في هذه المعركة تأخر نور حضارة الإسلام عن الانتشار في أوربا الغربية، واعتبر بعض المؤرخين الغربيين، حتى من فرنسا نفسها، هزيمة المسلمين هذه نكبة على الغرب، أصابت أوربا كلها، وحرمتها من الحضارة والمدنية. ومن هؤلاء (جوستاف لوبون) إذ يقول، في كتابه: (حضارة العرب) : لو أن العرب استولوا على فرنسا لصارت باريس مثل قرطبة في أسبانيا مركزا للحضارة، والعلم، حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ، بل ويقرض الشعر أحيانا في الوقت الذي كان فيه ملوك أوربا لا يعرفون كتابة أسمائهم، وييصمون بأختامهم، ومثل ذلك قال الفيلسوف الإيطالي (يوحى) و (هونكا) الألمانية! لم يكتف (غوستاف) بذلك، بل عاب على (رينان) تحامله الأثيم على الإسلام والمسلمين. ثم إنه غير خاف على دارس تاريخ رجالات التاريخ ما كتبه (كاربل) المؤرخ الإنجليزي عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، في كتابه (الأبطال) إذ جعل محمدا نموذج البطولة النبوية، وبذلك سجل (كاربل) في سجل المنصفين. - وأخيرًا، وليس آخرًا، أو ما علمتم ما كتبه جاركم الأمريكي: (مايكل هارت) العالم الفلكي، بهيئة الفضاء الأمريكي في كتابه: (المائة: تقويم لأعظم الناس أثرا في التاريخ) وكان من أسس اختياره أن يكون الشخص ذا أثر عالمي، لا إقليمي، ذا أثر عميق، في أمته، وفي تاريخ الإنسانية، وأن يكون أثره في العالم، وحكمه للعقول قائما على المنطق والصدق، لا على استعباد العقول بالقوة المادية والعنف.

يقول (مايكل هارت) : لقد اخترت محمدًا في أول هذه القائمة: ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار. . ولكن محمدا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي.. هذا الامتزاج بين الدين والدنيا هو الذي جعلني أؤمن بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو أعظم الشخصيات أثرًا في تاريخ الإنسانية كلها. وربما بدا غريبا حقًا أن يكون الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - في رأس هذه القائمة، برغم أن عدد المسيحين ضعف عدد المسلمين، وربما بدا غريبا أن يكون الرسول محمد هو رقم واحد في هذه القائمة، بينما عيسى عليه السلام هو رقم ثلاثة، وموسى عليه السلام الرقم السادس عشر. ولكن لذلك أسباب من بينها أن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - قد كان دوره أخطر وأعظم في نشر الإسلام، ودعمه، وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى عليه السلام في الديانة المسيحية وبرغم أن عيسى عليه السلام هو المسئول عن مبادئ الأخلاق في المسيحية، غير أن القديس بولس هو الذي أرسى أصول الشريعة المسيحية، وهو أيضا المسئول عن كتابة الكثير مما جاء في كتب العهد الجديد. أما الرسول محمد فهو المسئول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام، وأصول الشريعة، والسلوك الاجتماعي والأخلاقي، وأصول المعاملات بين الناس في حياتهم الدينية والدنيوية، كما أن القرآن الكريم قد نزل عليه وحده. وفي القرآن وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وآخرتهم. لقد استطاع محمد، لأول مرة في التاريخ أن يوحد بدو الجزيرة العربية، وأن يملأهم بالإيمان بالإله الواحد؛ لذلك استطاعت جيوشهم أن تقيم أعظم إمبراطورية أقيمت في التاريخ حتى اليوم، ومن المستحيل أن يقال ذلك عن هؤلاء البدو، وعن العرب عامة، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعرف العالم كله رجلا بهذه العظمة قبله، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته، وهدايته، وإيمان الجميع به ".

11 - وفي كل ما تقدم عبرة لأولي الألباب:

11 - وفي كل ما تقدم عبرة لأولي الألباب: هذه نقول عن المنكرين، وكيف باء كيدهم، وافتراؤهم، وكِذَّابهم، بالفشل، وكلام المنصفين الذين احترموا أنفسهم باحترام الحق، فشهدوا للإسلام بفضله على العالمين. ومن هذا وذاك يتضح جليا أن كل ما أثاره مبشرو كندا ليس بالجديد، وأن كل ما زعموا من شبهات قد ردّ عليه كتاب غير مسلمين، بل هم من دينكم، ومن جنسكم، ولو كنتم تطلبون الحق لكفاكم ما كتبوا، ولم ترتدوا، وتُنكسوا على رءوسكم، فتعيدوا شبهات من شبهوا بعدما ظهر زيفها، وخزى منها المنصفون منكم، ولكنّ الهوى غلاّب، ولكل داء دواء إلا الحقد، والجهل، وكراهة الحق. .. فإنها أعيت من يداويها!! لقد فاء الكثيرون إلى رشدهم، بعد طول عداء، وعناء. في عام 1953 أعلن بابا الفاتيكان: أن الإسلام أكبر خطر على حركة التبشير المسيحية في أفريقيا وآسيا. ثم اعترف (المجمع المسكوني) الثاني سنة 1962 بالإسلام دينا عالميا، ومدّ للإسلام يد السلم، وطلب الصفح عن ماضي العداء والحروب. 1 - وفي مدينة (فلورنسا) الإيطالية، حضرت مؤتمر لقاء الأديان، في 22 - 25 من أكتوبر سنة 995 1م. وكان الهدف العام للمؤتمر هو: السلام العام، والسلام مع الإسلام على التخصيص. وفي المؤتمر وزعت (رسالة السلام) ، وكان البند الأول منها اعتذارا عن أخطاء الماضي؛ إذ جاء نصه: نحن - المواطنين المعاصرين - لسنا مسئولين عن الأخطاء المرتكبة عبر التاريخ، وذلك، وبكل بساطة، لأننا لم نكن موجودين عندئذ. وبندها الثاني هذا نصه: لماذا إذاً، علينا أن نضمر الاستياء، أحدنا للآخر، فنحن لسنا مسئولين عما جرى في الماضي.

13 - هذا هو اتجاه المؤسسات الرسمية، والاجتماعية، وهو يتفق، في ظاهره، مع موقف المنصفين من المستشرقين، فأين نضع شبهاتكم، وطعونكم من هذه الدعوة العالمية

وبندها الرابع جملته الأولى هكذا: لا نستطع إعادة التاريخ. . وآخرها: إن ذلك لا يعني على الإطلاق أن الأخطاء التي ارتكبها أسلافنا لم تكن أخطاء في حقيقة الأمر، فنحن ندينها، ونرفضها، وعلينا ألا نكررها. وفي بندها الثامن تقول: إن الممثلين الحاليين عن المؤسسات التي عاشت على مرور الزمن ليسوا مسئولين عما حدث في الماضي. . . ولكن على الرغم من ذلك على هؤلاء المسئولين، كلما سنحت الفرصة، أن يتأسفوا بشكل علني على المظالم والأخطاء التي سببتها هذه المؤسسات في الماضي. وكذلك، أيضا، يجب عليهم أن يعوضوا رسميا عن الأضرار المسببة في الماضي. وهكذا تمضي الرسالة حتى بندها العاشر. وقد قدِّمت إليَّ، في إحدى ليالي المؤتمر هذه الرسالة لأجيب عن بنودها. وقد فعلت، معلقا، وكاشفا عما وراء سطورها، شارحا رسالة الإسلام العالمية، وكيف تتحقق، لافتا نظرهم إلى الفرق بين (الكلمة) و (الواقع) وبين الأماني والسلوك، موضحا أن أكثر المظالم الواقعة على المسلمين اليوم إنما هي من صنع دعاة السلام بالكلام، - فإن كانوا صادقين في دعوتهم فعليهم أن يبدأوا، أولا، برفع هذا الظلم، وأن تقوم بين هؤلاء الدعاة وبين المسلمين علاقات متكافئة. فإذا فعلوا ذلك أمكن للمسلمين أن يأخذوا بمبدأ الإسلام: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) هذا إلى آخر ما اقترحته مما يقيم البراهين على صدق دعوتهم إلى السلام، موضحا لهم المبادئ السامية التي أرساها الإسلام، وهي أقصى ما تصبو إليه الإنسانية؛ لتحقيق السلام العالمي. * * * 13 - هذا هو اتجاه المؤسسات الرسمية، والاجتماعية، وهو يتفق، في ظاهره، مع موقف المنصفين من المستشرقين، فأين نضع شبهاتكم، وطعونكم من هذه الدعوة العالمية للتقرب من الإسلام، وما سمي عالميا بحوار الحضارات؟

مقاصد هذه الأسئلة

أليس ما أرسلتم به إلى مساجد أمريكا نكسة أخلاقية، وردة حضارية؟!! أما نحن فإنا نربأ بأنفسنا عن وهدة هذه النكسة، وهذه الردّة، ونقصر قولنا معكم على كشف زيفكم وبهتانكم!! * * * مقاصد هذه الأسئلة 1 - في أثناء كلامي السابق وصفت مرسلي هذه الأسئلة بأنهم قوم خصمون، لا يسألون للعلم، وإنما للتشكيك، والطعن، وبأنهم يشككون، مبشرون مُلبِّسون. .. فمقصدهم بعيد عن كل غرض معرفيّ أو علمي، وإنما هو زرع للشقاق، وقتل للوفاق، وتمزيق للوحدة الإنسانية، ونقض للمبدأ الإسلامي في معاملة المخالفين: دعوهم وما يدينون به، ونقض لمظلة الإخاء الإنساني التي نشرها الإسلام على بني الإنسان. فقصدهم العام الكلي إنما هو: تشكيك المسلم في دينه، بمنهج القارئ للإسلام، الآخذ من بعض حقائقه، بالنظرة الجزئية، ماء يساعده - بزعمه - على زرع الشك، وبث الفتنة بالأسلوب الاستشراقي. والفرق بين الاستشراق والتبشير هو أن الاستشراق يصوغ طعونه وافتراءاته في صورة (البحث) ، ثم ادعاؤه أن بحثه قائم على أساس (الطابع العلمي) ، بينما التبشير بقي، في دعوته، في حدود مظاهر (العقلية العامة) . * * * - فزعمكم أن القرآن متناقض. - وأنه يدعو إلى الفسق. - وأن تشريعه ظالم. - وزعمكم أن محمدا يستحيل أن يكون نبيا.

إلى آخر ما قدتم، ول سأتناوله بالردّ والتفنيد، ما هو إلا بعض ما قاله أسلاف لكم ظالمون إبان حركة الاستشرق في منتصف القرن التاسع عشر، والتي كان هدفها الكلي - تمكينا للاستعمار - إنكار المقومات التاريخية، والثقافية، والروحية في ماضي أمة الإسلام، والاستخفاف بها. .. كل ذلك في صورة البحث، على أساس أسلوب الجدل في الكتابة، أو الإلقاء عن طريق المحاضرة، أو الإذاعة. لقد كان ذلك، من الاستشرق والتبشير، دعامة للاستعمار، فكلاهما دعوة إلى توهين القيم الإسلامية، والغض من اللغة العربية، وتقطع أواصر الصلاة بين الشعوب العربية، وكذا الشعوب الإسلامية، والتنديد والانتقاص من حال الشعوب الإسلامية الحاضرة، والازدراء بها. فهناك دعوتهم إلى أن القرآن: - كتاب مسيحي يهودي، أخذه محمد من الكتاب المقدس! - وأن الإسلام دين مادي، لا روحية فيه. - وأنه دين يدعو إلى العدوان، ويحرض أتباعه على العنف. - وأنه يدعو إلى الحيوانية والملذات. ومن دعوتهم: أن الفلسفة العربية إنما هي فكر يوناني إغريقي كتب بحروف عربية. وأن اللغة العربية الفصحى لم تعد صالحة اليوم، وعلى أهلها أن يستخدم كل إقليم لهجته المحلية، والعامية، وعلى الجميع استعمال الحروف اللاتينية، بدلا من العربية!! وكان من دعوتهم، لتمزيق الوحدة: - إحياء الفرعونية في مصر، والآشورية في العراق، والبربرية في شمال أفريقيا، والفينيقية في سواحل فلسطين ولبنان.

وكان من هذه الدعوة: - ازدراء حال المسلمين الحاضرة. وادعاء أن السبب في تأخرهم إنما هو الإسلام نفسه. .. هل ترونكم أتيتم بجديد؟ إن ما أتيتم به إنما هو: ترديد مملول لحقد قرون الاستعمار! وما هو إلا انتكاسة فكرية، وخلقية، ونسج على منوال الظلم، والأمل الذي أثبت الزمن خسرانه. وانقضاء زمانه!! * * *

القسم الثالث بعض ما عندكم بيان بعض ما في الأناجيل من تناقضات

القسم الثالث بعض ما عندكم بيان بعض ما في الأناجيل من تناقضات

بعض ما عندكم

بعض ما عندكم تقولون: الآب إله - الابن إله - الروح القدس إله - إله واحد (كما هو في عدة مواضع من الأناجيل) وكما جاء في رسالة (التعليم المسيحي - كتاب الفصل الثالث، ط الفرير بالإسكندرية سنة 1935 م: تثليث أقانيمه يعني أنه يوجد في اللَّه ثلاثة أقانيم متساوية، ومتميزة، وكل أقنوم من الثالوث الأقدس هو إله، وهذه الثلاثة الأقانيم ليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد فقط. .. وابن اللَّه إذا صار إنسانا لم يعدل عن أن يكون إلهاً. . . فهو (يسوع المسيح) هو إله حق، وأيضا إنسان حق) . قال دكتور (بويست) في تاريخ الكتاب المقدس ما نصه: "طبيعة اللَّه عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: اللَّه الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن المفدى، وإلى الروح القدس التطهير. غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. . . وتطلق نعوت: القدير على كل أقنوم من هذه الأقانيم الثلاثة على حدة" ا. هـ. بحروفه (نقلا عن تفسير المنار جـ 6 / 308. - فيا عجبا!! كيف صارت الذوات الثلاث، والأشخاص المتميزة ذاتا واحدة؟! وكيف يتفق هذا وما أجاب به المسيح الفريسيين، عن سؤال أحدهم عن الوصية الأولى والثانية - فأجابه بأن يحب الربّ إلهه، وأن يحب قريبه كنفسه (متى 22 / 34 - 40) ، ومرقس 2 / 28 - 34، ومثله في (يو 3 / 16) : لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد؛ لكيلا يهلك كل من يؤمن به؛ لأنه لم يرسل اللَّه ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم ". وقد حاول شراح الأناجيل أن يجيبوا عن هذا الإشكال، ويرفعوا هذا التناقض، بأن ضربوا لهذه (الثلاثية) مثلا بالماء والبخار والثلج - هذا الجهل حل ساذج، لا ينطلي إلا

على العوام، الذين يتقبلون (عقائدهم) بالتقليد، وإلغاء العقل والعلم، إذ الماء هو الماء، ذات واحدة، اعترتها (أحوال) : ماء سُخن فتبخر، وماء برد فتجمد، ولو زدنا الحال الأولى لاستحال كل ما معنا من ماء إلى بخار، فهل يستحيل (الآب) كله بحيث لا يكون له وجود أصلا، ويستحيل كله إلى (ابن) . وقل مثل ذلك في حال الثلج، أين هذا من ذات+ ذات+ ذات= واحدا، وكان للذات الثانية خصائصها التي لا تناسب الألوهية من الطعام والشراب، وما يترتب عليهما من إخراج الفضلات، ومن قبول الأذى: كالضرب، والشتم. . ثم الموت. وكل ذلك مما يستحيل على اللَّه!!. كذلك حاول بعض شراحهم تمثيل ذلك بالشمس ونورها، وحرارتها؛ لأنه يلزم اعتبار جرمها، وسمكها، وقطرها، ودرجة حرارتها، وألوان الطيف من شعاعها.. وكل ذلك ليس تعدد ذوات. والخطيئة في ذلك ضرب المثل للذات الإلهية ببعض خلقه، فهو تمثيل لما لا نعلم بما نعلم. وذلك ما نهى القرآن عنه في مثل قوله: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) . ثم في هذه الأمثال خلط بين الذوات والأحوال يقول الأمريكي: (كران) عقيدة التثليث لا تجد نسقا رياضيا يقبل القول بأن الثلاثة ثلاثة، وفي الوقت نفسه الثلاثة واحد. ص: 184 من الترجمة. 2 - وهذه أخرى: كيف يكون (ابنه الوحيد) ، كما جاء في رسالة التعليم المسيحي: رب واحد، يسوع المسيح، ابن اللَّه الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، إله من إله. . مساو للآب في الجوهر" وفي (يوحنا: 3 / 16) : لأنه هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد) . فكيف يكون ابنه الوحيد مع قول سفر التثنية 1/14: إن اللَّه خاطب اليهود بقوله: أنتم أولاد الرب إلهكم!!

وجاء في سفر التكوين: أن الملائكة أبناء الله، وأن أبناء اللَّه رأوا بنات الناس حسنات فاتخذوا منهن زوجات " (6 تكوين) . 3 - يقول الكاثوليك: المسيح إله مع اللَّه. وهذا يتفق والقول بذوات متعددة. ويقول الأرثوذكس: المسيح هو اللَّه نفسه. فكيف كان الله) صفات البشر ممن خلق؟! * * * 4 - في محاضرة مشتركة بيني وبين قس إيطالي: (لو تشوكونيو) ، في جامعة الطب في مدينة: برشا الإيطالية بتاريخ يوم الخميس 13 / 3 / 1997، اختار المسئولون - موضوعها: (الإله في الإسلام والمسيحية) . في هذه المحاضرة ذكرتُ ما قرره عالم النفس الأمريكي، الإنجليزي الأصل: (هنري لتك) بعد دراسات دينية، واسعة وعميقة - من أن: العرض التاريخي لتطور الكتاب المقدس، كشف له عن الطريقة التي اكتمل بها ذاك الكتاب، وكيف أن رجال الدين قد أخذوا يعبثون بالكتاب المقدس؛ لذلك كانت محتويات (العهد الجديد) على ثلاثة أقسام: ما هو مقطوع بصدقه، وما هو مشكوك فيه، وما هو مزيف على مر الأيام ". وفي هذه المحاضرة سألت القس أن يفهمني، لأنني لا أفهم، كيف يكون الإله يأكل ويشرب، ثم يكون - بعد عملية التمثيل الغذائي - مضطرا إلى قذف فضلاته! فما كان من جُلّ الحاضرين وأكثرهم على دين القس إلا أن ضحكوا بصوت عالٍ. وفي كتاب (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة) ينقل مؤلفه: (أندريه كرْسون) عن (سبينوزا) أن نصوص (العهد القديم) لم تصمد عند دراستها على النمط الذي تدرس به النصوص التاريخية. وأنه لا شيء أدخل في الباطل من اعتقاد أن كل ما يحويه الكتاب المقدس منزه عن الخطأ، فلا التوراة المعزوة إلى موسى، ولا السفر المعزو إلى يوشع، ولا سفر القضاة، ولا سفر - روت، ولا صمويل، ولا سفر الملوك - كتب بأيدي المؤلفين الذين نسبت إليهم، ولا في التاريخ الذي تعينه النقول الدينية

لهذه الكتب. إن سفر التوراة) كان، حسبما ورد فيه هو نفسه، مسطراً بيد موسى، ولكن بينما يتكلم عنه سفر التثنية بضمير المتكلم فإن سائر الأسفار تتكلم عنه بضمير الغائب، وفي هذا تباين ظاهر. وأيضا، ترى سفر التثنية يحوي قصة موسى ورثائه، وهذا التأكيد الموحى لم يأت نبي بمثله من بعده، وفوق ذلك نرى التوراة قد عينت أماكن بأسماء لم توضع لها إلا بعد أزمان متطاولة. وإن القصص لتمتد في هذا السفر، بدون انقطاع، حتى إلى ما بعد وفاة من ادّعى أنه مخرجه. . . " انتهى كلام سبينوزا) . - وقال الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (القرآن والتوراة والإنجيل والعلم) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) يقول: "إن معالجة الكتب المقدسة من خلال علم الدراسات النقدية للنصوص شيء قريب العهد في بلادنا. لقد ظل الناس يقبلون العهد القديم والجديد على ما هما عليه طيلة قرون عديدة. .. وكان مجرد التعبير عن أي روح نقدية إزاء الكتاب المقدس خطيئة لا تغتفر. . . وبعد أن أصبح نقد النصو علما كان له الفضل في أن جعلنا نكتشف مشكلات مطروحة وخطرة.. في ظل تلك الظروف فإن المتناقضات، والأمور البعيدة عن التصديق تظل باقية بلا حل في نظر كل من يريد أن يحتفظ بسلامة مقدرته على التفكير وحسه الموضوعي، وإننا لنأسف حقا لذلك الموقف الذي يهدف إلى تبرير الاحتفاظ في نصوص التوراة والإنجيل ببعض المقاطع الباطلة، خلافا لكل منطق يقول موريمس بوكاي: إن الكنيسة قد حسمت بين الأناجيل المتعددة، وأعلنت رسميَا أربعة منها فقط، برغم التناقضات العديدة فيما بين هذه الأناجيل في كثير من النقاط. يقول: قد اكتشفت آثار لأعمال بشرية يمكن وضع تاريخها فيما قبل الألف العاشرة من التاريخ المسيحي، دون أن يكون هناك أي مكان للشك. وعليه فإننا

7 - وخلاصة مما تقدم، أننا ندرك جملة حقائق بدهية، لا شك فيها، منها:

لا نستطيع - علميا - قبول صحة نص سفر التكوين الذي يعطي أنسابا، وتواريخ تحديد أصل الإنسان (خلق آدم) بحوالي 37 قرنا قبل المسيح. يقول: وبفضل الدراسات الواعية للنص العربي استطعْتُ أن أحقق قائمة أدركتُ - بعد الانتهاء منها - أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث. * * * 7 - وخلاصة مما تقدم، أننا ندرك جملة حقائق بدهية، لا شك فيها، منها: - توجد في كتابكم المقدس أشياء تناقض بدهيات العقول. - وتوجد، في وصفه لله - صفات تناقض طبيعة الألوهية -. - وتوجد فقرات ينقض بعضها بعضا. - (الإله) كما يتحدث عنه، لا يمكن الإيمان به دينا ولا عقلا، إذ يجعل الإله إنسانا، والإنسان إلها. - المحققون، من بني دينكم، جزموا - على الأقل - بعدم صحة مواضع من كتابكم المقدس. - وأثبتوا عدم ثبوت بعض نصوصه على منهج الدراسات النقدية للنصوص التاريخية. - كما أثبتوا عدم صحة بعضها بناء على الحقائق العلمية المقطوع بثبوتها ونهائيتها. هذا، مع سلامة القرآن من كل ذلك!! * * * 8 - ولعل خير ما نختم به هذه المسألة: صحة الكتاب المقدس، أن نقتطف من نصوصه ما يهدم مسألة (بنوة المسيح لله) من غير تزيدّ مني، فأقول: ليس في أي أنجيل أن عيسى إله، أو أنه الإله، كما أنه ليس في أي إنجيل أن عيسى

مسألة صلب المسيح:

ابن اللَّه بالطبيعة، بل الذي فيها هو أنه ابنه بمعنى أنه من المؤمنين به، كما تقدم من عبارة سفر التثنية 14/ 1، على لسان اللَّه - يخاطب اليهود: أنتم أولاد الرب إلهكم. وقال يوحنا 1 / 12 - 13، في تفسير أولاد اللَّه: وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد اللَّه، أي المؤمنين باسمه الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيمة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من اللَّه ". * * * مسألة صلب المسيح: 1 - من الثابت المؤكد من وقائع التاريخ أن اليهود رفضوا الاعتراف بالمسيح عليه السلام وأنهم كادوا له، ورموه وأمه الطاهرة بالعظائم، وأن كيدهم له عند الملك الروماني قد انتهى إلى صلبه (هذه بزعمهم) . ولولا أن النصارى جعلوا مسألة صلب المسيح أساس اعتقادهم، وأصل دينهم - ما كان يهتم كتاب اللَّه: القرآن، بإثباتها أو نفيها. فسواء صح ثبوتها أو نفيها، فإنها لا تزيد التاريخ معرفة بأخلاق اليهود، فإنهم فعلوا أشد من ذلك: قتلوا زكريا ويحيى.. وهم كانوا - يريدون قتل المسيح؛ لما دعا إليه من الإصلاح الذي يزجرهم عن تقاليدهم المادية. فلا صحة مسألة الصلب تفيدنا عبرة بحال اليهود لم تكن معروفة، ولا عدم صحتها ينقص من معرفتنا بأخلاقهم. 2 - ودعاة النصارى يجعلون قاعدة دعوتهم، وأساسها: عقيدة صلب المسيح، فداءً عن البشر. فهذه العقيدة، عندهم، أصل الدين وأساسُه، وعقيدة التثليث تليها. * * * 3 - تقرير عقيدة الصلب: في ندوة عن (الإله في المسيحية) مضت إشارة إليها - سمعت الراهب الكاثوليكي يقرر عقيدة الصلب بأن آدم عليه السلام لما عصى اللَّه - تَعَالَى -، بالأكل من

الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين مستحقين للعقاب في الآخرة!! ثم إن جميع ذرية آدم ولدوا خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب بذنوبهم، كما أنهم مستحقون للعقاب بذنب أبيهم، الذي هو الأصل لذنوبهم، فتقرر عقابهم بأصلين - على قولهم: ذنب أبيهم الأول، الذي به ولدوا مذنبين، ثم ولادتهم مذنبين، قبل أن يقوموا بعمل شيء بحكم ذلك الأصل!! 4 - وبعصيان آدم طرأ على اللَّه مشكل (تعالى اللَّه) ، من جهة اتصافه بصفتي الرحمة والعدل: إن عاقب آدم، إعمالا لصفة العدل، ناقض صفة الرحمة! وإن لم يعاقبه إعمالا لصفة الرحمة ناقض صفة العدل. ثم بدا لله (تعالى الله) بعد آلاف السنين حل هذا المشكل، وهو: تناقض صفتي رحمته وعدله، في مسألة عصيان آدم فإن الحل - بعد تفكره آلاف السنين - أن يحلّ اللَّه في رحم امرأة، يكون ابنا لها من حيث هو إنسان ولد منها، ويكون هو ربها وإلهها من حيث هو الله!! ثم هو يعيش بين الناس يأكل كما يأكلون، ويضرب مما يضربون ويتألم كما يتألمون، ثم يقتل أفظع قتلة: قتلة: الصلب، ويلعن، ويضرب على رأسه بالشوك. .. كل ذلك فداء للبشر، وخلاصهم من خطاياهم (كما قال يوحنا في رسالته الأولى، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم) . ويترتب على هذا الاعتقاد: 1 - الاعتقاد بأن اللَّه ناقص العلم، وأنه لم يكن يعلم ما يكون بعدُ!! 2 - والقول بهذه العقيدة يستلزم بجواز البداء على اللَّه، والبداء: أن يبدو لله ما لم يكن يعلم، ثم يتخذ لهذا الذي بدا حكمًا لم يكن قدره من قبل.

3 - ولا يمكن أن يؤمن بهذه العقيدة إلا من يأخذ (الدين على أنه مناقض للعقل) وأن الدين لا يكون دينا إلا بهذه المناقضة! 4 - كما لا يؤمن بها إلا من يرى أن (الربّ) تجري عليه الأحوال البشرية، كأن ينام (متى ص 8) أو يجربه الشيطان (متى ص 4) أو أن يحزن على بعض ما فعل، ويندم عليه، ويأسف قلبه (كما في سفر التكوين) . ومثل أن يقع في (تناقض) يفكر في حله آلاف السنين، ثم ينتهي إلى حل لا يقبله عقل، ويناقض ما لله من جلال وإجلال، حتى إنه يحل في رحم امرأة، ثم يجرى عليه أسوأ ما يجري على بشر!! 5 - ثم إذا كان اللَّه فعل ذلك فداء للبشر، وخلاص العالم - فلا داعي للإيمان بهذه العقيدة؛ لأن الدعوى في هذا الاعتقاد أنه فعل ذلك تفدية وتخليصا للبشر أجمعين ولكل خطاياهم، فليكن عدم الإيمان بهذه العقيدة من خطاياهم التي تغفر، والتي هي مما ترتب على خلقهم. 6 - وإذا قيل: إن غير المؤمن بها لا ينجو، اقتضى ذلك أن (الله) - بعد تفكير طويل، فعل شيئا، لغاية مقصودة، ثم لم تحقق غايته ومقصوده، وتلك منقصة أخرى في حق الألوهية!! 7 - وعندما نحقق مدلول (الإيمان) بأنه التصديق العقلي الجازم بالشيء والعقل لا يقبل هذه العقيدة - بناء على هذا التحقيق أمكن أن يقال: إن أحدا من النصارى لم يؤمن بهذه العقيدة عن تصديق، وإنما أخذوا بها عن تقليد واتباع لا إيمان فيه! فإذا ثبت أن هناك من لم يؤمن بها، فماذا سيفعل بهم اللَّه؛ إذ لم يعذبهم عملا بصفة الرحمة، فقد ترك مقتضى صفة العدل، لان عذبهم عملا بصفة العدل، فقد ترك مقتضى صفة الرحمة وآل الأمر إلى (المشكل) الذي حاول التخلص منه، وفكر فيه آلاف السنين!! 8 - والقول بقبوله الصلب واللعن والضرب، وهو لم يذنب قط - هذا القول مناف للعدل والرحمة معا.

11 - تناقض في روايات الصلب:

9 - ثم لماذا كل هذه المأساة؟ ألم يكن اللَّه قادرًا على العفو عن آدم بدونها؟. قال الأستاذ (نظمي لوقا) المسيحي القبطي، في كتابه: (محمد: الرسالة والرسول) : إن القرآن الكريم حسم مسألة خطيئة آدم بقوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) . * * * 10 - إن تداعي المعاني لا يترك صاحبه، في هذا المقام، دون أن يستدعى له طريق نجاة الإنسان في الإسلام وأنه: الإيمان والعمل الصالح، وأن نجاته مرهونة بهما مهما كان نسبه وحسبه، وأنه بدونهما - لا نجاة له، وإن بكى له أهل الأرض، واستشفع بلسان أهل السماء، وتوسل بجاه جميع الصالحين، وحسبكم في هذه قول نبي الإسلام: محمد - صلى الله عليه وسلم - لأقرب الناس إليه: "يا فاطمةُ بنت محمد، اعملي، فإني لا أغني عنك من اللَّه شيئا، يا عباس، عم محمد - صلى الله عليه وسلم -، يا صفية عمة محمد - صلى الله عليه وسلم - اعملوا فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا، لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتونني بأنسابكم، من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ". ويخلص القرآن الكريم لهذه المسألة سورة من أجمع سوره لمعانيه ومقاصده، هي سورة العصر: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) . فهل في أديان الناس، ونظمهم، وفلسفاتهم ما يرفع قدر الإنسان فوق ما رفع الإسلام؟ * * * 11 - تناقض في روايات الصلب: 1 - في تقرير عقيدة الصلب أن اللَّه بذل ابنه الذي هو نفسه، فداء للبشر وتوفيقا بين صفتي رحمته وعدله. وهذا يستلزم رضاه عن تعذيبه، ولعنه، وصلبه، ولكنا نجد إنجيل متى: 26 / 37 يذكر أخذه ومعه بطرس، وابنا زبدي، وأنه ابتدأ بحزن،

ويكتئب، 38 - 39 - 42. ومثله في لوقا 22 - 43 - 45. وأنه ما زال يستصرخ اللَّه أن يصرف عنه هذه الكأس. فكيف ساغ له أن يطلب أن يصرف عنه ما دبره، وفكر فيه آلاف السنين، ورضيه لنفسه، ورآه جامعا بين الرحمة والعدل. 2 - وإذا كانت الأقانيم (1) الثلاثة ذوات متساوية، كما تدعون، وقد صلب واحد منها، أفلا يجوز ذلك على الأقنوم الأول: (الله) عملا بالقاعدة العقلية: ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر؟ فإن قلتم: يجوز على الأقنوم الثاني، ما لا يجوز على الأول - بطل قولكم إنه مساو للأول، كما بطل قولكم إن الابن هو الله!! 3 - في إنجيل متى ص 26 أنه قال مخاطبا الحواريين: إن واحدا منكم يسلمني، فحزنوا جدا، وابتدأ كل واحد منهم يقول: هل أنا هو يا رب؟ فأجاب وقال: الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني، فأجاب يهوذا مسلمه وقال: هل أنا هو يا سيد؟ قال له: أنت قلت لا. ولكن في يوحنا: ص 13: قال: إن واحدا منكم سيسلمني، فكان التلاميذ ينظر بعضهم إلى بعض متحيرين، فأشار بطرس إلى تلميذ كان يسوع يحبه، أن يسأله من عسى أن يكون الذي قال عنه، أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطه، فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سِمعان الإسخريوطي. فالذي في متى أن الذي يسلمه هو الذي يغمس يده معه في الصحفة. والذي في يوحنا أن المسيح هو الذي يغمس اللقمة ويعطيه إياها!! 4 - وفي متى ص: 26 أن يهوذا جعل لليهود علامة هي: أن يقبّل يسوع، فيأخذوه.

_ (1) الأقنوم: كلمة سريانية بمعنى: شخص، أو كائن مستقل بذاته.

ولكن في يوحنا ص: 18: أن يهوذا أخذ الجند، فجاء فخرج لهم يسوع، فأخذوه، لما سألهم: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري. فالذي في متى أن الجند عرفوه بتقبيل يهوذا، والذي في يوحنا أن يسوع هو الذي عرفهم بنفسه. 5 - وفي لوقا ص: 23 أن الذي حُمِّل الصليب فلاح قيرواني. بينما في يوحنا ص: 19 أن يسوع هو الذي خرج وحمل الصليب. فأية الروايتين هي الصدق؟ 5 - ويفهم من حكاية الأناجيل الثلاثة الأول أن يسوع كان على الصليب حوالي الساعة السادسة، بينما يفهم من يوحنا أنه، في هذا الوقت كان من حضرة ييلاطس. 6 - كتب متى ومرقس أن اللصين اللذين صلبا معه كانا يعيرانه (مرقس ص: 15) بينما كتب لوقا أن أحدهما عيره، والآخر زجر ذلك الأول الذي عيّر المسيح، وقال له: أولا أنت تخاف اللَّه. 7 - يُعلم من قراءة إنجيل متى: أن مريم المجدلية، ومريم الأخرى لما وصلتا إلى القبر نزل ملاك الرب، ودحرج الحجر عن القبر، وجلس عليه وقال: لا تخافا واذهبا سريعا. بينما يعلم من مرقس أنهما وسالومة لما وصلن إلى القبر رأين أن الحجر مدحرج، فدخلن فرأين شابا جالسا عن اليمين. بينما نعلم من لوقا: أنهن لما وصلن وجدن الحجر مدحرجا فلما دخلن ولم يجدن جسد المسيح، فصرن محتارات، فإذا رجلان واقفان بثياب براقة". فمرة ترى مريم ورفيقتها الملك يدحرج الحجر، ثم يأمرهما بالذهاب ومرة نقرأ أن النسوة ثلاثة، وأنهن رأين شابا جالسا فى القبر ثم أخرى أنهن لم يجدن في القبر شيئا!!

8 - ومن متى نعلم أن الملك لا أخبر المرأتين أنه قد قام من الأموات، ورجعتا لقيهما المسيح في الطريق، وقال لهما: اذهبا وقولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل، وهناك يرونني. بينما يُعلم من لوقا أن النسوة لما سمعن من الرجلين رجعن وأخبرن الأحد عشر فلم يصدقوهن. بينما كتب يوحنا أن يسوع لقي مريم عند القبر!! فانظروا، في هذه الجزئية فقط، على أهميتها، ومكانتها من مسألة الصلب والقيامة، كيف تناقضت فيها الأناجيل!! 9 - في رواية متى: "ذهب واحد من الاثنى عشر، يدعى يهوذا، إلى رؤساء الكهنة، وقال: ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم؟ فجعلوا له ثلاثين من الفضة. بينما مرقس لم يذكر الثلاثين من الفضة، ولم يقل: "ماذا تريدون أن تعطوني " ومتى زاد عليه: "فرح الرؤساء". وذكر متى، وحده، أن يهوذا ردّ الثلاثين الفضة إلى الكهنة، وأنهم اشتروا بها مقبرة للغرباء. بينما ذكر سفر أعمال الرسل أن يهوذا اشترى بها حقلا، وأنه سقط على الأرض وانسكبت أحشاؤه!! 10 - قال متى: إن ذلك المضل قال وهو حي: إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فأمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث: لئلا يأتي تلاميذه ليلا ويسرقوه. وهو يريد أن يقول: كما لبث يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال - سيلبث يسوع في القبر نفس المدة (متى 12 / 40) . وحسب رواية يوحنا 20 / 1 - 3) لم يلبث نفس المدة، فقد صلب - بزعمه - عصر

الجمعة، وقيل فجر الأحد، والظلام باق لم يجدوه في قبره، يقول يوحنا: وفي أول الأسبوع (يوم الأحد) جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكرًا والظلام باق، فنظرت إلى الحجر مرفوعا عن القبر، فركضت، وجاءت إلى سمعان بطرس. . . ". فهل من عشية يوم الجمعة إلى قبل فجر الأحد ثلاثة أيام بثلاث ليال؟ مسألة حسابية يسيرة! لكن لا عجب في قبولها ممن يقبل أن الثلاثة ثلاثة وهي في الوقت نفسه واحد، مما لا يقره نسق رياضي صحيح (كما قال: B. C) ثم لا عجب في قبولها ممن يقول. أنا مؤمن؛ لأن ذلك لا يتفق مع العقل (على حد تعبير سان أوغسطين، أحد أئمة المسيحيين، وصاحب كتاب. (الاعترافات) وصاحب كتاب. (مدينة اللَّه) وهو تحليل ديني للمجتمع، والتاريخ، والثالوث، والذي كان من بين نصوصه المحببة ذلك النص الذي يقول: لا سبيل إلى الفهم بغير إيمان (أشعيا ص: 7، 9 رقم 20) . * * *

11 - مسألة نسب المسيح:

11 - مسألة نسب المسيح: عند مقابلة نسب المسيح في (متى) بما في (لوقا) نحد اختلافات منها: 1 - يعلم من (متى) أن يوسف خطيب مريم ابن يعقوب. ويعلم من (لوقا) أنه ابن هالي. 2 - يعلم من (متى) أن المسيح من أولاد سليمان بن داود ولكن من (لوقا) أنه من أولاد (ناثان) بن داود. 3 - يعلم من (متى) أن جميع آباء المسيح من داود إلى جلاء (بابل) سلاطين مشهورون، ولكن يعلم من (لوقا) أنهم ليسوا سلاطين، غير ذاود وناثان. 4 - يعلم من (متى) أن من داود إلى المسيح ستة وعشرين جيلا، بينما يعلم من (لوقا) أنهم واحد وأربعون جيلا. 5 - عند مقابلة الباب الثاني من إنجيل (متى) بالباب الثاني من إنجيل (لوقا) نجد اختلافا كبيرًا، نكتفي منه بهذين. الأول: يعلم من متى أن أبوي المسيح، بعد ولادته - كانا يقيمان في (بيت لحم) .. ثم ذهبا به إلى مصر، إلى أن مات (هيرودوت) فرجعا بعد موته، وأقاما في (الناصرة) . بينما يعلم من (لوقا) أن أبوي المسيح، بعد مدة النفاس، ذهبا به إلى (أورشليم) ، ثم بعد تقديم الذبيحة، ذهبا إلى (الناصرة) فلا سبيل - على كلام (لوقا) إلى ذهاب أبويه إلى مصر، لأنه صريح في أن يوسف لم يسافر قط من أرض اليهود، لا إلى مصر، ولا غيرها. الثاني: يعلم من (متى) أن أهل (أورشليم) و (هيرودوت) ما كانوا عالمين بولادة المسيح قبل إخبار المجوس، وأنهم كانوا معاندين له. بينما يعلم من (لوقا) أن أبوي المسيح لما ذهبا إلى (أورشليم) ، بعد مدة النفاس، لتقديم الذبيحة لقيهم (سمعان)

12 - مشابه لافتة تدعو إلى العجب.

الرجل الصالح، وكان قد أوحي إليه أنه لن يموت حتى يرى المسيح، وأنه - لما لقيه - أخذه (المسيح) على ذراعيه في الهيكل.، وكذلك (حنة) النبية. فلو كان (هيرودوت) وأهل أورشليم معاندين للمسيح لما أخبرهم به سمعان في الهيكل، الذي كان مجمع الناس، ولما أخبرت (حنّة) النبية بهذا الخبر في أورشليم، التي كانت دار سلطنة هيرودوت. * * * 12 - مشابه لافتة تدعو إلى العجب. الذين درسوا الديانات الشرقية القديمة يجدون مشابه بين ديانتين مشهورتين هما: البرهمية والبوذية وبين المسيحية (بعد المسيح) فإذا كان معلوما أن هاتين الديانتين أسبق من المسيحية، فلينظر امرؤ وما يتدين به وأكتفى، من هذه المشابه بالقليل، مقابلا عبارات كل دين منها بعبارات المسيحية، ومن أراد المزيد فليرجع - إن شاء - إلى كتاب (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) . أقوال الهنود في كرشنة: 1 - كرشنة ابن اللَّه. 2 - كرشنة هو المخلص. 3 - مجَّد الملائكة (ديفاكي) والدة كرشنة ابن الّله 4 - عرف الناس ولادة كرشنة من نجمه الذي ظهر في السماء عرفت البقرة أن كرشنة إله وسجدت له 5 - وسمع نبي الهنود (نارده) بمولد الطفل الإلهي كرشنة فذهب وزاره. * * * أقوال النصارى في يسوع: 1 - المسيح ابن اللَّه. 2 - يسوع المسيح هو المخلص. 3 - دخل الملاك على مريم العذراء والدة يسوع وقال لها سلام لك أيها المنعم عليها. 4 - لما ولد يسوع ظهر نجمه في المشرق وعرف الرعاة يسوع وسجدوا له 5 - ولما ولد يسوع أتى المجوس من المشرق.. قائلين: أين هو المولود ملك اليهود

أقوال الهنود في كرشنة: 6 - لما ولد كرشنة كان (ناندا) خطيب أمه (ديفاكي) - غائبا، كي يدفع ما عليه من الخراج. 7 - وسمع (ناندا) خطب أمه (ديفاكي) والدة كرشنه نداء من السماء بقوله له: قم وخذ الصبي وأمه فاهرب بها إلى (كاكول) 8 - وسمع حاكم البلاد بولادة كرشنة وطلب قتل الولد. 9 - كانت ولادة القديس (راما) قبل ظهور كرشنة. .. 10 - في أحد الأيام لسعت حية بعض أصحاب كرشنة فماتوا فنظر إليه بعين ألوهية فقاموا سريعا. 11 - وأدل الآيات والعجائب التي عملها كرشنة شفاء الأبرص. 12 - كرشنة صلب ومات على الصليب. 13 - لما مات كرشنة حدثت مصائب. 14 - وثقب جنب كرشنة بحربة. 15 - ومات كرشنة ثم قام من بين الأموات. 16 - وصعد كرشنة بجسده إلى السماء وسوف يأتي وهو يدين الأموات في اليوم الآخرة * * * أقوال النصارى في يسوع: 6 - لما ولد يسوع كان خطيب أمه غائبا عن البيت وأتى كي يدفع ما عليه من الخراج. 7 - وأنذر يوسف النجار خطيب مريم والدة يسوع بحلم كي يأخذ الصبي وأمه ويفر بهما إلى مصر. 8 - وسمع حاكم البلاد بولادة يسوع وطلب قتله. 9 - كانت ولادة يوحنا قبل ولادة يسوع. 10 - بينما كان يسوع يلعب لسعت الحية أحد الصبيان، فلمس يسوع ذاك الصبي فعاد إلى حال صحته. 11 - وأدل الآيات والعجائب التى عملها يسوع شفاء الأبرص. 12 - يسوع صلب ومات على الصليب. 13 - لما مات يسوع حدثت مصائب. 14 - وثقب جنب يسوع بحربة. ومات يسوع ثم قام من بين الأموات. 15 - وصعد يسوع إلى السماء، ولسوف يأتي وسوف يدين الأموات يوم القيامة.

وأكتفى بنموذج قليل من مشابهة البوذية. أقوال الهنود في بوذا 1 - ابن الله 2 - دل على ولادة بوذا نجم ظهر.. 3 - لما ولد بوذا فرحت جنود السماء، ورتلت الملائكة. . قائلة، ولد اليوم بوذا كي يعطي الناس المسرات، ويرسل النور.. 4 - ولم يمض يوم على ولادته حتى حيَّاه الناس، ودعوه إلها. 5 - وأهدوا بوذا وهو طفل هدايا من مجوهرات وغيرها من الأشياء الثمينة. 6 - لما كان بوذا طفلا قال لأمه: إنه أعظم الناس. 7 - لما قصد بوذا إلى التعبد ظهر له الشيطان كي يجربه. 8 - قال بوذا إنه لم يأت لينقض الناموس * * * أقوال النصارى في المسيح 1 - المسيح ابن اللَّه 2 - دل على ولادة يسوع نجم ظهر في المشرق 3 - لما ولد يسوع فرحت الملائكة ورتلوا الأناشيد، قائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة. 4 - ولم يمض يوم على ولادته حتى دعوه إله الآلهة. 5 - وأهدوا يسوع وهو طفل هدايا من ذهب وطيب ومر 6 - لما كان يسوع طفلا قال لأمه: أنا ابن الله 7 - لما شرع يسوع في التبشير ظهر له الشيطان كي يجربه. 8 - قال يسوع: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (1) * * *

_ (1) راجع في ذلك: مجلدات (قصة الحضارة) لـ "ويل ديوارانت "، وأيضا الفلسفة الشرقية لأستاذنا د. محمد غلاب وأيضا مقارنات الديانات القديمة للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.

أما بعد: فما كان أغنانا عن هذا كله، ومن قواعد فقهنا الإسلامي، وآداب ديننا الحنيف، ومن علاقاته الإنسانية، ما حكاه الإمام علي، عليه السلام: أمرنا أن نتركهم وما يدينون به. أقول: ما كان أغنانا عن كل هذا، لو أنكم أخذتم بهذه القاعدة الإسلامية الجليلة، وكنا نحن وأنتم في الإنسانية سواء، وكففتم ألسنتكم عن غيركم، وشغلتم أنفسكم بما كشفنا لكم عما هو في دينكم، وعندنا غيره الكثير، وسوف يأتي بعضه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، ولكن من الناس من يرى القذاة في أعين الناس، ولا يرى الخشبة في عين نفسه (على حد قول الإنجيل) . أما وقد أبيتم فقد أتينا على بعض ما عندكم، فهيا إلى ما زعمتم مما شبّهتم به وزوَّرتم. * * *

القسم الرابع أسئلتهم وبيان الحق فيها ويشمل الرد على هذه الأسئلة (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) .

الإسلام حق بين بذاته

الإسلام حق بيِّنٌ بذاته والبين بذاته لا يقام عليه دليل، وإنما يشار إليه، وبلفت النظر إليه. إنك لا تقيم دليلا على ضوء الشمس في شباب النهار، والشمس ساطعة لها أنوار. وما عليك إلا أن تقول للأعشي: انظر، هذه هي الشمس، فإن لم تستطع، فهذا ضياؤها، وهذا ضحاها، وهذا تجلّيها في سمائها. فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم، فاضرب الذكر عنه صفحا، أن كان من المسرفين، فمثله لن يخضع للحق بعدما يتبين، ولو تنزلت عليه الملائكة، وكلمه الموتى، وحشر عليه كل شيء قبلا. ومثله، ومثل حاله لن يضر الحقَّ! أرأيت لو قذف غلام البحر بحجر، هل يعكره؟ (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) . (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) . * * *

السؤال الأول: لماذا يقتل المرتد عن الإسلام؟

السؤال الأول: لماذا يقتل المرتد عن الإسلام؟ مع أن القرآن يقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ويقول: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) . فلماذا هذا التناقض بين النص والتطبيق؟! وهل يعقل أن إنسانا يفرض عليه أن لا يغير رأيه؟ وعلماء المسلمين أنفسهم يغيّرون رأيهم في مسائل كثيرة، حتى رسولكم غير رأيه في مسائل عدة، مثل زيارة القبور للنساء، وزواج المتعة. حتى القرآن نفسه عندما نسأل بعض علماء المسلمين يقولون: هذه الآية نسخت، أي انتهى حكمها (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فكيف يطلبون من إنسان عدم تغيير رأيه؟ أين حرية الرأي؟ أين حرية الأديان؟ * * * الجواب 1 - نحن في موقفنا من تلبيسات هؤلاء الطاعنين في الإسلام، وكتابه، ونبيه، ننطلق من منطلق علمي متجرد؛ لأننا نعلم أن الإسلام، وكتابه، وما جاء به نبيه قد أسس كل ذلك على منهج علمي رصين، لا يخشى تلبيس المشبهين، ولا تزعزع أسسه رياح المضلين. وعلى هذا المنطلق أريد - قبل الجواب عن حدّ الردة، أن أبين، ما تلزم مصاحبته، واستحضاره دائما، عندما تعرض شبهة على الشريعة الإسلامية. وذلك: - طبيعة العقوبة في ذاتها. - وأبين طبيعة العقوبة في الإسلام.

- ثم أبين الطبيعة القانونية لكل من اليهودية والمسيحية والإسلامية. ثم علينا أن نصطحب هذا البيان في كثير من هذه الشبهات المشككة، كما وجب اصطحابها عند كل شبهة على أحكام الشريعة الإسلامية. * * * طبيعة العقوبة في ذاتها: 1 - من المتفق عليه، في عصرنا، بين علماء النفس، ورجال القانون أن الجريمة: - فساد في نفس المجرم. - وأن فساد الجريمة وفساد نفس المجرم لا يقفان عند حد الجارم، بل يتعدى الفساد إلى غيره من الأفراد، وإلى المجتمع، وأن أول من يؤثر فيه هذا الفساد أهله وأسرته، وأقرب المحيطين به، والمخالطين له. - ومن المتفق عليه أن العقوبة إصلاح للجارم، ووقاية للمجتمع من فساده، وزجر لغيره، من ذوي النفوس الضعيفة، عن الاقتداء به. - ومن المتفق عليه كذلك أن ترك المجرم يستمتع بجرمه، إنما هو إقرار له على جريمته، وإغراء لغيره بسلوك مسلكه! - كما أن من المتفق عليه أن مصلحة الفرد، غير مقدمة على مصلحة المجتمع بل تقدم مصلحة المجتمع وإن تعارضت ومصلحته، وحريته، ذلك لأن مصلحة المجتمع مصلحة كلية عامة، تعود على مجموع الأفراد، بمن فيهم ذاك الفرد نفسه، بينما مصلحة الفرد نفسه جزئية تخصه، وضررها يعود على المجموع بمن فيهم ذاك الفرد. هذا كله عندما تتعارض المصلحتان. - بل إنه من المتفق عليه أنه إذا تعارضت حياة الفرد وحياة الجماعة أهدرت حياة الفرد، اعتباراً لحياة الجماعة. وما إقرار الناس على مدى تاريخ البشر لمن يبذل روحه دفاعا عن جماعته، وأمته -

إلا اعتراف صريح صحيح بهذا المبدأ. - وكذلك إقرار الفرد، والجماعة لبذل النفس والنفيس في سبيل (المبدأ) . ولعل هذه التضحية في مقدمة الأسباب التي تحمي حياة الجماعة، وتحفظ عليها بقاءها، وتأخذ بيدها إلى التقدم والترقي، وأنه بدون هذا البذل، تبيد الجماعة كأن لم تغن بالأمس. 2 - فإن شككتم في ذلك، فاقرءوا ما في سفر التثنية ص: 17 من قوله. "إذا وُجد في وسطك رجل، أو امرأة، يفعل شرا، ويعبد آلهة أخرى.. قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل، فأخرج ذلك الرجل، أو تلك المرأة وارجمه بالحجارة حتى يموت. . فتزج الشر من وسطك ". وفي الإصحاح نفسه: "والرجل الذي يعمل بطغيان، فلا يسمع للكاهن، أو للقاضي يقتل ذلك الرجل، فتنزع الشر من إسرائيل". هذا كتابكم ينطق عليكم بالحق: الرجل الذي يخرج عن دين إسرائيل، والرجل الذي يعمل بطغيان، فلا يسمع للكاهن، ولا للقاضي يقتل، فينزع الشر من جماعتكم. فماذا تنقمون من الإسلام؟!! لقد كان لهم - كما سبق مني القول - شغل بما في كتابهم، لو كانوا منصفين. لِمَ لَمْ يسألوا أنفسهم - أمام كتابهم - أين حرية الرأي؟ إن من يوجد هذا التشريع في كتابه، ويؤمن به كنصٍّ مقدس، ينبغي له أن يكف عن البحث عن عيب لا وجود له في شرع الإسلام. وفي سفر التثنية ص 22/22) "وإذا وجد رجل مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان. فتنزع الشر من إسرائيل". وفي سفر اللاويين ص: 20: "كل إنسان أعطى من زرعه لِموُلَكَ فإنه يقتل، يرجمه

العقوبات في الإسلام:

شعب الأرض بالحجارة. . كل إنسان سب أباه أو أمه فإنه يقتل. .. وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها بالنار يحرقونه وإياهما لكي لا يكون رذيلة بينكم. وإذا جعل رجل مضجعه مع بهيمة فإنه يقتل والبهيمة تميتونها. وإذا اقتربت امرأة إلى بهيمة لنزائها تُميتُ المرأة والبهيمة. .. وإذا كان في رجل أو امرأة جانٌ أو تابعه فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه " وإن صح أن بالإنسان جنا فما ذنبه حتى يرجم إلى الموت؟ ألا إن في هذه الأمثلة ما يكفي لإسكات المغرضين، لو كانوا منصفين، لكنهم يتناسون ما عندهم، ويحسبون المسلمين يجهلون ما عندهم، فيتغاضون عن عيوبهم، ويعيبون ما لا عيب فيه!! * * * العقوبات في الإسلام: 1 - إذا تبين لنا - على ما سبق - طبيعة العقوبة في ذاتها، وتأكدت هذه الطبيعة بما عوضتُ من بعض نصوص شريعة التوراة التي بأيديهم، وما فيها من إصر - أقول: إذا تبين هذا وذاك فلم تكن هناك حاجة، ولا حجة لمن يختص الإسلام بالنقد في شريعة الحدود؛ لأنه لم يفرض على جريمة من الجرائم عقابا أقسى مما فرضته الأديان الكتابية قبله، بل ومما فرضته الشرائع الوضعية. 2 - وههنا أمور يجب التنبيه عليها: أولها: أن الحدود في الإسلام لم تشرع لإيجاد مجتمع صالح، إنما للحفاظ على مجتمع بلغ صلاحه حدّ (المثالية) . وإننا لنعلم - في عصرنا مجتمعات جعلت شريعة الجرائم، وعلى قائمته، عقوبة الإعدام، أكبر وسائلها لتحقيق الأمل في إيجاد مجتمع تخيله حلمهم، وصفحات التاريخ ملأى بما فعلت الثورة الفرنسية، وبما فعلت الثورة الشيوعية، وما فعل، في

مصر، محمد علي في مذبحة القلعة. ثانيها: أن الروح العام في التشريع الإسلامي، في إثبات جرائم الحدود - هي روح التسامح، لا روح المتعطش إلى الدماء، على نحو ما علمنا من بعض التشريعات الكتابية السابقة، وما كان من الحركات الاجتماعية التاريخية. ومن ثم كان من قواعد الإسلام: درء الحدود بالشبهات، وقبول التوبة عنها، وتفسير الشبهة لمصلحة المتهم، وأن إطلاق المذنب خير من إدانة البريء بينما كانت قاعدة الكنيسة في مواجهة حركات الإصلاح والبدأ الذي اعتنقته محاكم التفتيش كان يقول: لأن يدان مائة بري زورًا وبهتانا ويعانون العذاب ألوانًا خيرُ من أن يهرب من العقاب مذنب واحد. ثالثها: من منافذ الخطأ فى فهم النظام الاجتماعي الإسلامي اتخاذ بعض المصطلحات الحديثة معيارًا لهذا النظام، مع تجاهل اضطراب هذه المصطلحات، وعدم الاتفاق على تحديد مدلول المصطلح، واختلاف هذا المدلول من زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة. وذلك كمصطلح: الحرية. فلسنا نعلم أمة ولا جماعة أطلقت هذا المصطلح من كل قيد، فما من أمة أو جماعة إلا قيدته بقيد أو أكثر بحسب ما ترى فلسفة نظامها الاجتماعي. فلا ضير على الإسلام - بمقياس العصر - إن هو قيد مصطلح الحرية بما يتفق ونظمه الاجتماعية، وأنه لم يكن بدعا في ذلك، سواء قيس بما قبله، أم بما بعده، أم بها جميعا. رابعها: أن أساس التحريم، في المعاملات في الإسلام، إنما هو حصول: الضرر، أو الغبن، أو حطة في العقل والأخلاق، فكل ما كان فيه: ظلم، أو إكراه، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو بغير حق فهو حرام. وأن أساس التجريم في العقوبات، هو ما يعود بالإفساد على العقل، أو القلب، أو العِرض، أو المال، أو على النفس. خامسًا: ولعل أهم منافذ الخطأ، هو الخطأ في مفهوم الإسلام نفسه.

3 - فالذين فهموا (الدين) على أنه علاقة فردية خاصة بضمير المتدين نفسه، وأنه علاقة خاصة بين الفرد وإلهه - الذين يفهمون (الدين) على هذا النحو يتعجبون، بل ينكرون على الإسلام أن يكون - مع الاعتقاد والإيمان - شريعة تنظم الحياة، وعلى هؤلاء أن يفهموا الإسلام على جهته الخاصة. وأنه: دين ودولة. وعقيدة وشريعة. وسياسة ونظام. وآداب ومعاملات. وعلاقات بالضمير، والناس، والكون والحياة. وأنه دنيا ودين. ومادة وروح. وحياة حاضرة وحياة مستقبلة آتية لا ريب فيها. وإذا لم يفهم الإسلام على حقيقته وقع في الخطأ، وتكون الشبهة على الإسلام من قبل المخطئ في فهم الإسلام، لا من قبل الإسلام نفسه، فيعيب والعيب فيه، وينتقص والنقص منه. ومن المهم مراعاة ما تقدم التنبيه عليه أولا من أن الحدود في الإسلام، على عمومها، إنما جاءت لحفظ مجتمع فاضل، لا لإيجاد مجتمع فاضل، فإذا أجرم مجرم في هذا المجتمع فإن جنايته قد اكتسبت وجوفا أخرى فوق طبيعة الجرم في نفسه. فلا يحصر الفاضل إلى مجرد الجريمة بل ينظر إليها مضافا إليها آثارها في هذا المجتمع الفاضل الذي بلغ في فضيلته حد المثالية التي تمثلها الفلاسفة في سمو آمالهم المثالية النظرية، وعجزوا عن إيجاده في واقع الحياة، فجاء الإسلام فجعل الحلم حقيقة، وفلسفات النظر، حقائق الواقع.

الطبيعة القانونية لليهودية والمسيحية:

5 - أما غير المجتمع الفاضل الذي ينظر إلى رذائل الأفراد على أنها من الأمور العادية، ومن المسائل المألوفة، ومن الوقائع الشائعة - هذا المجتمع لا يحس بجريمة المجرم! فما هي إلا ذرّة من طين الرذائل في بحور من رجس ونجس (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) . 6 - وجرائم: القتل، والزنا، والسكر، والردة - ليست هذه الجرائم من الجرائم الفردية التي يترك أمرها لآحاد الناس، ولا هي من مسائل الحرية الشخصية التي تمنح صاحبها الحق في ارتكابها، كما أنها ليست مسألة (فرد) يفعل ما يحلو له، بينه وبين نفسه. إنما هي مسألة (المجتمع) كله في كيانه، وفي أخلاقه، وفي أسباب الأمن والطمأنينة فيه. وإن الذين يرونها من (مسائل حرية الفرد) إنما ينبعثون من طبيعة المجتمعات المنحلة التي ساد فيها الفساد، وصار الإثم الفردي فيها حقا، ولا ترى القيم الأخلاقية ذات شأن، ولا تقيم لها وزنا. وننتهي من ذلك إلى نتيجتين يقل فيهما الخلاف: أولاهما: أن قواعد العقوبات، في الإسلام، قامت على قوانين البشر منذ آلاف السنين، بمعنى أن البشرية أقرت أصولها ومبادئها، فنكرانها على الإسلام نكران لتاريخها كله، الذي اتفق عليه البشر. فلينظر الناكر إلى منزلته من هذا التاريخ كله! ثانيتهما: أن قواعد العقوبات الحديث! لا تصلح للمجتمعات منذ ألف سنة، بينما القواعد القرآنية قد صلحت للتطبيق قبل ألف سنة، وتزيد، وما زالت صالحة لزماننا، ولزمان الناس في كل حين! * * * الطبيعة القانونية لليهودية والمسيحية: 1 - الذين يخصون الشريعة الإسلامية، في مجملها أو في بعض تفاصيلها، بالنقد، إنما

يغالطون أنفسهم، ويغالطون المسلمين، كما يغالطون كل دارس مستقل، باحث عن حقائق الأشياء، طلعة إلى مواقع المعرفة حيثما كانت. ذلك أن الشريعة المنسوبة إلى موسى، عليه السلام، والتي يقدس مصدرها كل من يؤمن (بالكتاب المقدس) - هذه الشريعة تتناول من أمور المعيشة ما هو اليوم، من شئون الأطباءه وتناولت من تشريع الثواب والعقاب أحكاما لا يقرها اليوم أحد من المؤمنين بها. من ذلك أن الكاهن كان يتولى تمحيص أعراض العلل والأدواء، وعزل المصابين بها، وإعلان نجاستهم. في سفر اللاويين ص الثاني عشر: إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام. . . ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يوما في دم تطهيرهاه. . وإن ولدت أنثى تكون نجسة أسبوعين، ثم تقيم ستة وستين يوما في دم تطهيرها. وفي الإصحاح الثالث عشر: إذا كان إنسان في جلد جسده ناتئ أو قوباء، أو لمعة تصير في جلد جسده ضربة برص، يؤتى به إلى الكاهن. . فمتى رآه الكاهن يحكم بنجاسته. وفي سفر الخروج ص الحادي والعشرون. إذ بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر، فمن عند مذبحي تأخذه للموت. ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا. .. ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا. .. وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه. وفي الإصحاح الثاني والعشرين إذا سرق إنسان تورا أو شاة فذبحه أوباعه يعوض عن الثور بخمسة ثيران، وعن الشاة بأربعة من الغنم. وفيه: من ذبح لآلهة غير الرب وحده يُهلك. والذي يرجع إلى أسفار التوراة يجد فيها من تفاصيل الأحكام ما يشمل الأمور اليومية العادية، التي يقوم بها الإنسان على سنن العادة والعرف، مما لا يحتاج إلى

تشريع، كأن يتولى الكاهن تزكية الطعام المباح، ويستولي على نصيب المعبد منه. كما يرجع إلى الكاهن في التمييز بين الأطعمة المطهرة والنجسة من لحوم الحيوان. كما تبين شريعة التوراة ملابس الهيكل، وأنواع الأنسجة التي تخاط منها ثياب الكهان والخدم. فأنى لمن يؤمن بهذا التشريع أن ينكر على الإسلام تشريعه في عظائم الجرائم، أو في صغائرها!! 2 - الشريعة المنسوبة إلى موسى وحدها هي التي شرعت نظاما للحكم. أما (المسيحية) فلم تعرض للحكم والتشريع، على جهة القصد والبناء، لأنها قامت في بلاد تدين (بالحكم السياسي) للرومان (والحكم الديني) لهيكل إسرائيل! وموسى عليه السلام، تلقى الشريعة مكتوبة على لوحين من حجر، والعهد القديم الآن مكتوب في مئات الصفحات: فالأسفار الخمسة التي تسمى التوراة: التكوين، والخروج، واللاويين - الأخبار والعدد، والتثنية - هذه فقط صفحاتها (في نسختي) ست وعشرون وثلثمائة صفحة، ومجموعها مع سائر الأسفار الأخرى (في نسختي) ثمان وخمسون وثلثمائة وألف صفحة!! فمن أين، يا ترى، جاءت هذه الزيادة؟ وكيف اعتبرت وحيا مقدسا؟ وكيف قيل عن خمستها الأوائل (على الأقل) إنها توراة موسى، الموحاة إليه، والتي تناولها مكتوبة؟!! 3 - وماذا كان موقف عيسى المسيح من شريعة موسى؟ 1 - أما أنا فلست أدري أقرَّها، أم نقضها؟ وأما أنتم، أيضا، فلا تدرون!! بل إنجيلكم نفسه لا يدري!!!

ففي إنجيل متى: 5 / 17: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس، أو الأنبياء. وفي إنجيل يوحنا ص: 1 / 35 قوله: لا يمكن أن ينقض المكتوب. وتقدم نقلنا عن (اللاويين) 21 إذا تدنست ابنة كاهن بالزنى فقد دنست أباها، بالنار تحرق ". وفي اللاويين 20. أن الرجل إذا اتخذ امرأة وأمها يحرق معهما. وفي سفر التثنية 22/22: إذا زنت امرأة ذات زوج، يقتلان. 2 - فما موقف المسيح؟ كان يلزم - بحسب أنه لا ينقض حرفا من الناموس - أن يقيم حد الزنا على المرأة التي قدمت إليه، وشهد عليها الشهود لا أن يقول لها - كما في يوحنا 8 / 2 - 11. أن الكتبة والفريسيين قالوا له: يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت؟ .. قال لهم: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا. .. قال للمرأة: يا امرأة، ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئ أيضا. أوليس هذا نقضا للناموس؟ فهل عندكم من جواب؟ وفي (أعمال الرسل 15) : أن بطرس وبرنابا بحسب ما رأى الرسل والمشايخ، مع كل الكنيسة اكتفوا من (الناموس) بأحكام أربعة، هي بحسب تعبير أعمال الرسل: - أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام. - وعن الزنا. - والمحنوق. - والدم (الفقرة 25) .

وفي الفقرة 26: لأنه قد رأى الروج القدس، ونحن، ألا نضع عنكم ثقلا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والخنوق، والزنا، التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعمّا تفعلون، وكونوا معافين". ثم نحن وأنتم - إن كنتم تقرءون - نجد في رسائل بولس (الأولى إلى أهل كورنثوس) ص 7/17: غير أنه كما قسم اللَّه لكل واحد، كما دعا الرب كل واحد ليسلك، وهكذا أنا آمر في جميع الكنائس. دُعي أحد وهو مجنون فلا يصر أغلف. دعي أحد في الغرلة فلا يُختن، ليس الختان شيئا، وليست الغرلة شيئا، بل حفظ وصايا اللَّه. وفي رسالته لأهل رومية ص 3: إذاً ما هو فضل اليهودي أو ما هو نفع الختان؟ ومعلوم ما في (يشوع) ص 5، من أمر الرب يشوع أن يصنع سكاكين من صوّان ويختن بني إسرائيل، وأنه صنع ذلك وختنهم. 3 - بل أكثر من ذلك، أننا وأنتم - إن كنتم تقرءون - نجد في رسائل بولس الوصية بإلغاء ناموس موسى، وأنه أوصى بأن الإيمان بدون عمل يؤدي إلى الجنة، كما في رسالته إلى أهل رومية ص 3: "وأما الآن فقد ظهر بر اللَّه بدون الناموس.. بر اللَّه بالإيمان بيسوع المسيح. . متبررين مجانا بنعمة الفداء، الذي يسوع المسيح، الذي قدّمه اللَّه كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة. . . ". وفي رسالة بولس إلى أهل كولوس، ص 2: "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدا لنا، وقد رفعه من الوسط مسمّرا إياه بالصليب. . فلا يحكم عليكم أحد في أكل ولا شرب، أو من جهة عبد أو هلال أو سبت. . إذا كنتم قدمتم مع المسيح، فلماذا كأنكم عائشون في العالم تفرض عليكم فرائض: لا تمسّ - لا تذق - لا تجس.

هذه بعض تناقضات الأناجيل في مسألة: موقف المسيح من شريعة موسى، وهذه أمثلة، مجرد أمثلة، لنقضها، مع تأكيد الأناجيل على أنه لا ينقض حرفا منها! ومن فوق المسيحية المحدثة فرقة (الأنتينومية) = نقض القانون. مذهب فريق مسيحي، يؤمن أصحابه بأن تعاليم المسيح نسخت القانون التوراتي، وأن الإنسان أسمى من القوانين الأخلاقية فلسنا ندري أجاء المسيح لتثبيت الناموس، أم جاء لنقضه؟ وهل جاء (الرسل) من بعد، على حد قول الأناجيل لتمحو ما لم يمح المسيح من الناموس، ولا ييقوا منه سوى تلك الأربعة: الأصنام والدم والمخنوق والزنا. إن الإبقاء على هذه الأربعة ليس بشيء إذا ما قيس بما اشتملت عليه شريعة موسى من تفصيلات سبقت الإشارة إليها. وبهذا المحو يبقى الإنسان، ويبقى المجتمع بلا قانون. وبهذا المحو ننتهي إلى (دين مثالي مجرد) ، مجرد عن مخالطة واقع الحياة. ومثل هذا الدين لا يصلح قانونا، وهو في حالته تلك كالمثل العليا التي يحسن تسطيرها عقل الفلاسفة، وخيال الأدباء، مكانه الذهن، أو الوجدان، ولا صلة له بحياة الناس. ومن البدهيات أن سلامة الدولة، واستقرارها، وأمن المجتمع، وكرامة الإنسان - كل ذلك لا يتحقق إلا بقانون يضبط حركة الناس، ويحقق: المصلحة والفضيلة، وهما القوتان المحركتان لنشاط الإنسان. إن القانون، من حيث هو قانون، لا تتحقق ماهيته إلا إذا زاوج بين المصلحة والفضيلة. وبدون هذه الاثنينية لا تجد قانونا. وإن النظر الدقيق لشريعة الإسلام، بل قل: النظرة العجلى، تبين حرصها على المصلحة والفضيلة معا. إن (القانون) موضوعي. مغموس في السياسة والمجتمع، وهو - مع هذه الموضوعية

7 - فكرة الخلود.

ينطوي على معايير أخلاقية ليست في أصولها من هذا العالم المادي المحسوس!! يقول منتسكيو الأديب والقانوني الفرنسي في كتابه: (في السياسة) ناقدا الوسائل السياسية لبعض الحكام - يقول: إن الساسة يجنون ثمارا لا تقدر إذا قرنوا السياسة بالأخلاق، بدل أن يقرنوها بالغش والخداع والدسائس، كما يقرر منتسكيو أن معظم المصائب السياسية تأتي من عدم فهم طبائع الناس وعاداتهم ". وقد اطلع (منتسكيو) على مؤلفات الفرنسي (جان بودان) السياسية والتي تحدث فيها عن التزاوج دين السياسة والأخلاق. فماذا عن اليهودية والمسيحية؟ 6 - على ضوء ما عرفنا من (طبيعة القانون) هل يمكن للتوراة أن تكون قانونا؟ لننظر. * * * 7 - فكرة الخلود. الخلود الأبدي، عند الله، فكرة غير مقبولة عند اليهود، وهي عندهم أيضا، غير مفهومة. (الصدوقيون) منهم قديما، كانوا - يرفضون فكرة الخلود. وفكرة العدالة تحقق عندهم في هذه الدنيا. وهؤلاء كانوا يعتبرون قلب الاستقراطية الكهنوتية، قبل المسيح بقرنين، وكانوا متمسكين بحرفية التوراة. وفي القرون الوسطى كان (موسى بن ميمون) ، وهو أكبر فلاسفة اليهود - كان يعتبر فكرة الخلود فكرة غير ذات موضوع، وبين ذلك فى كتابه: (مرشد الحيران) . وفي العصر الحديث كان (سبينوزا) ، فيلسوف اليهود، يصرح بأن العهد القديم لا يذكر شيئا عن الخلود.

10 - الإله

أما (رينان) الفرنسي فإنه يقول: إن اليهود لم يستطيعوا أن يتقبلوا فكرة الخلود؟ لأنها لا تنسجم وفكرتهم عن (العالم) الذي يرونه ماديا فقط. - (والإله) عند اليهود: جسم. جسد ماديّ حسي ففي التوراة، المقروءة لنا: أنه نزل يتمشّى، فلقيه إسرائيل، فتصارعا، وقال له: دعنى وأنا أباركك وشعبك. فعرف يعقوب (إسرائيل) أنه الإله!! - (وفكرتهم عن المسيح) المخلص، والذي سيقيم مملكة الرب - فكرتهم عن ذلك أنها إنما تتحقق هنا، على الأرض، وليس في السماء كما يؤمن المسيحيون. كان هذا الفكر الماديّ أساسا يفسر حركة النشاط اليهودي على مر تاريخهم. ولم تكن لهم ثقافات تتجه نحو الروح وفضائل الأخلاق. وبهذا يتبين أن القانون اليهودي لا يصلح أن يكون قانونا بشريا عاما؛ لخلوه من الجانب الروحي والأخلاقي. هذا فضلا عما تقدم من نقض الإنجيل، وبولس لشريعة التوراة!! هذا، مع حرص اليهودية على نقاء الدم، فحرمت على اليهودي أن يلتصق بأجنبي (رسل 10) . فماذا عن المسيحية؟ * * * 10 - الإله إذا كان (يهوا) هو الإله عند اليهود، وهو إله (العدالة) ، وهو منقذ العالم الماديّ المحسوس - فإن (الإله) في المسيحية هو إله (المحبة) ، وليس إله العدالة، وأن هذا العالم المادي المحسوس لا سبيل إلى إصلاحه وتحقيق العدالة فيه! من هنا لاحظتْ السلطات الكنسية وجود اختلافات جوهرية يين روح العهد القديم، وروح العهد الجديد، حيث يذهب إنجيل مرقص إلى أن المسيح ألغى قانون موسى.

إن المسيح الذي جاء للمحبة، إنما جاء لفضيلة سماوية، لا تنتمي إلى هذا العالم الماديّ، الذي حصر اليهود (الوجود) فيه. أ - ما موقف المسيحية من العدالة القضائية؟ ما موقف المسيحية باعتبارها دينا مجردا، من العدالة القانونية؟ إنجيل متى: 5 - 6 / 31 يجيبنا: "إذا زلت عينك اليمنى فاقتلعها" "إذا زلت يدك اليمنى فاقطعها". فهل يمكن لهذه المثالية أن تصير قانونا؟ أ - وماذا عن فكرة القضاء، والعدالة الاجتماعية؟ إنجيل لوقا يجيبنا في 12 - 13 - 15: سأل رجل المسيح: يا معلم، قل لأخي يشركني في الميراث. قال المسيح: أيها الرجل، من جعلني قاضيا؟! أو مقسما بينكم؟! 1 - ما موقف المسيحية من مسألة الصلة بين الرجل والمرأة في: (5 / 28) من إنجيل (متى) ؟ الجواب: "من نظر إلى امرأة بشهوة فكأنه قد زنا بقلبه ". وابتدعت المسيحية الرهبنة واعتبرتها حقيقة التدين المسيحي. والكنيسة - في سبيل تحقيق الرهبنة - لم تحرم الإخصاء، إلا في أواخر القرن التاسع عشر. والكنيسة اعتبرت عقد الزواج عقد مقدسا. وهذا هو الزواج المقدس الكاثوليكي. وهو، بهذا الاعتبار، لا يمكن نقضه وإنهاؤه بأي حال. (والعزوبة) هي الطريق الأمثل والصحيح. أما الزواج فمجرد تسوية للمشكل، وحل وسط. (ر. ص 7 من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس) .

14 - المسيحية والدولة:

وبسبب موقف الكنيسة من (عقد الزواج) وقفت بعض البلاد الأوربية موقفا ناقضًا، حيث اعتبرت (عقد الزواج) (عقدا مدنيا) كسائر العقود التي يباشرها الناس في حياتهم اليومية، ليس له قداسة دينية تضفي عليه صفة التأبيد. وذلك كما هو في (السويد) . وهذا اقتراب فطري من نظام الإسلام الاجتماعي. والمرأة التي تطلق لا تتزوج. يقول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ص 7: وأما المتزوجون فأوصيهم، لا أنا، بل الرب، ألا تفارق المرأة ربها، وإن فارقته فلتلبث غير متزوجة، أو لتصالح رجلها. ولا يترك الرجل امرأته " (ر. متى ص: 5 / 31 (. وفرضت الكنيسة على المطلقة أن تظل أيمّا خمس سنوات. ثم لما كثرت الآثام، والضجر من ذلك، والشكوى منه، خفضت الكنيسة الكاثوليكية خمس السنوات إلى ثلاث!! وقد شاهدتُ اللواتي طلقن، وتعذّبن بهذا الحرمان، يهرعون إلى الإسلام، راغبات في التمتع بسماحة شريعته، وجانبها (الواقعي) في رعاية الغريزة الفطرية في المرأة والرجل على السواء، ولم يقل: من يتزوج مطلقة فإنه يزني (متى ص: 5 / 31) . ليت الذين زعموا، في أسئلتهم هذه، أن القرآن يدعو إلى الفحشاء - ليت هؤلاء يعقلون ما يقولون، أو يتدبرون ماعندهم. 14 - المسيحية والدولة: إذا كان الزواج، والورق، من المسائل والأحوال الشخصية، فهناك ما هو أعم وأهم، ذاك هو موقفها من الدولة والسلطة. ومن نوافل القول أن الدولة وسلطها من ضرورات قيام المجتمع والأمة، وسلامتها، وأمنها، واستقرارها. المسيحية - كدين مجرد - منطقية مع نفسها، حين لم يكن لها نظام للدولة، وبيان للصلة بينها وبين أمتها، وحين وقفت موقف الطاعة المطلقة، أو موقف (السلب) من الدولة!

15 - ما موقف المسيحية من العقل والحكمة؟

عرض عليه اليهود، ليحرجوه، دينارا وقالوا: لمن نعطي الجزية؟ فنظر إلى الدينار وقال: لمن هذه الصورة؟ قالوا: لقيصر. قال: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. وفي ص 13 من رسالة بولس إلى أهل رومية: لتخضع كل نفس للسلاطين، لأنه ليس سلطان إلّا من اللَّه، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب اللَّه. .. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضا؛ إذ هم خدام الله، فأعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية، والجباية لمن له الجباية. . . ". وباسم هذه النصوص، وتحت سلطانها ساندت الكنيسة كل حكم ظالم، وكل طاغية، حتى عاشت أوربا قرونا طوالا في ظلام الظلم والقهر الديني والسياسي، تنفس شعوبها حرَّ الظلم مرطّبا بتخدير الدِّين!! * * * 15 - ما موقف المسيحية من العقل والحكمة؟ (العقل) خاصة الإنسان، ميزه به اللَّه خالقه. وبه دبّر الإنسان حياته، واستكشف آيات الكون، وساد به الكون، وما زال. والحجر عليه حكم على الإنسان بالإعدام، وهبوطه به عن درجته إلى دركة العجماوات، وحرمان له من الانتفاع مما هيأ الله له في الأرض والبحر والسماء. والحجر عليه تمهيد - باسم الدين - لرفض الدين والتدين، ودفع للإنسان إلى رذيلة - الكفر والإلحاد، على نحو ما أصيبت به أوربا في عصورها المظلمة، بينما كان العالم الإسلامي - في ظل الإسلام، وتقديره للعقل والحكمة - يعيش في ظلال الحضارة سابغة، جنى الغرب من جناها، ساعده على الخروج من محنته التاريخية! في رسالة بولس إلى أهل كولوسي ص 2: انظروا ألا يكون أحد يسبيكم بالفلسفة وبغرور باطل حسب تقليد الناس حعسب أركان العالم وليس حسب المسيح ". وكان مثل هذا النص ضروريا لتقبل المسيحية في أصول عقائدها التي تناقض العقل،

16 - موقف المسيحية من السعي للمعاش؟

على نحو ما بينا آنفا، وسنبينه لاحقا، حتى شاع فيها أن الدين، في حقيقته ما هو إلا مناقض للعقل، وأن محض الإيمان إنما هو التسليم للدين وإن ناقض العقل. وعلى هذا الأساس (غير المعقول) كان موقف الكنيسة من العلم المادي، الكاشف عن قوانين الكون. ذاك الموقف الرافض بل المكفر، مما أدى بكثير من علماء الكون إلى الإعدام حرقا بالنار، على حين كان العلماء، في دولة الإسلام موضع التجلّة والإكرام، حتى وإن كانوا غير مسلمين، وكان العلماء من كل ملة في مجلس الخلفاء والسلاطين قعوذا تكريما وتجلّة، والوزراء والكبراء فى هذا المجلس من قيام!! وبينما يقول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس ص 1: "لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء، وأرفض فهم الفُهماء.. اليهود يسألون آية، واليونان يطلبون حكمة، ولكنا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا لليهود عثرة، ولليونان جهالة". بينما هو سيبيد حكمة الحكماء، ويرفض فهم الفهماء، يمتدح القرآن (الحكمة) ويجعلها منَّةً من منن الله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) . يقول (تشالز وطس) في كتابه: (أضرار تعليم التوراة والإنجيل) جاء في التوراة: الحكمة هي الأصل فخذوها". ثم جاء فيها: "بالحكمة الكثيرة كرب عظيم، ومن يكثر الحكمة يكثر حزنه". ثم ورد فيها: "حكمة العالم جهل ". وبعد، تسألوننا: وهل يُعقل، وهل يعقل؟ أما كان الأجدر بكم أن تعودوا إِلى ما قرره كتابكم من الوعد (الإلهي) بتدمير عقل العاقل وحكمة الحكيم، والاكتفاء (بالإيمان بالمسيح المصلوب) ؟!! اذكروا مثلنا العرفي: رمتني بدائها وانسلّت!! * * * 16 - موقف المسيحية من السعي للمعاش؟ سعي الإنسان لكسب رزقه أمر غريزي، بل هو غريزة كل الكائنات الحية، دون

استثناء، حتى إن من النبات ما تتجه جذوره نحو المكان الذي به الماء، ولو تغير مكان الماء أخذت الجذور في تغيير اتجاهها نحو مكانه الجديد. هذه حقيقة طبعية ثابتة في كل الكائنات الحية، لا تحتاج إلى بيان، ولا إلى تعليل، لأن ما جاء على أصله لا يسأل عن علته. وكل تشريع، أو موعظة تناقض الفطرة والغريزة، إنما تكون إصرا، وتكليفا بغير المستطاع، على أنه يكون نقضا للحياة ذاتها. وإذا كانت (القوانين) - كما يعرفها (مونتسكيو) : عبارة عن علاقات ضرورية مشتقة من طبائع الأشياء - إذا كانت كذلك فمن المستحيل أن يتخذ قانونا ما يخالف طبائع الأشياء. فما موقف المسيحية من (طبيعة السعىِ للرزق) ؟ يجيبنا إنجيل متى: 6 / 28) يقول المسيح: لم أنت قلق على ثيابك؟ انظر إلى الزنبق في الحقل كيف ينمو، إنه لا يكدح، ولا يغزل، " لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وما تشربون ". وفي لوقا 3/ 10: وسأله الجموع: ماذا نفعل؟ فأجاب وقال لهم: من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل كذلك. وفي متى: 6 / 24) : "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. . لا تقدرون أن تخدموا اللَّه والمال. وفي كتابه (النبي) الذي كتبه بالإنجليزية في نيويورك جبران خليل جبران يقول: قد طالما أخبرتم أن العمل لعنة، والشغل نكبة ومصيبة" ثم يُقفّى عليه بما ينقضه. فهل يمكن لهذه المثالية أن تكون قانونا؟ * * *

17- وماذا عن صلة الرحم؟

17- وماذا عن صلة الرحم؟ وما أدراك ما صلة الرحم، إنها نداء الفطرة، وفريضة الخلق السوي، وصوت الوعظة الحسنة، وهمسة الضمير السليم، فما موقف المسيحية منها؟ يقول متى: 12 / 42 - 49) "وفيما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك واقفين خارجا طالبين أن يكلموك. فأجاب. من هي أمي ومن هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أنتم أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماء هو أخي وأختي وأمي ". ومن أجل هذا النص ينسب إلى المسيح رفضه صلة الرحم!! فهل يمكن لهذا أن يُشرّع قانونا؟ * * * 18 - المسيحية والكنيسة: كان من وصايا بعض الرهبان بناء الكنائس خارج المدن على قمم تلال الجبال. ونحن إلى اليوم، نرى كثيرا من الكنائس على هذا الاعتزال، وقد رأيت بنفسي كثيرا منها على هذه العزلة، ولما سألت. كيف يعيش أهلوها؟ قالوا: يتكفل بهم أهل القرى القريبة. وبناء الكنائس يطابق هذه الروح: روح الاعتزال، والصمت، والإشارة إلى السماء، حيث يشير تصميمها المعماري إلى الارتفاع، إشارة إلى عالم آخر، ليس هو هذا الذي نعيش فيه. ولما خالطوا المسلمين، في الحروب الصليبية، ورأوا مآذن المساجد - وهي ليست إلا فنا معماريا - وافقت هواهم، فصنعوا أبراج الكنائس. والمسيح لم يوص بهذه الكنائس، ولم يكن المسيح المحور الذي تدور عليه الكنائس؟

لأن بطرس القديس هو رأس الكنيسة في مهدها. له كنيسة باسمه بنيت سنة 326 ارتفاع قبتها 138 م. وعرضها 42 م. ونظام الكنيسة، أيضا، كبنائها، شيء لا صلة له بالمسيح، من حيث هو: فكرة، وتنظيم، وكوادر إدارية، ولاهوتا. وفي القرن الرابع اتخذت الطقوس الدينية أسلوب البهرجة، واستعيرت لها بعض الطقوس الوثنية الرومانية. وفي هذا القرن الرابع ظهر تقديس مريم، حتى كان من طوائف المسيحية من اعتبرها إلها وهم فرقة (البربرانية) . وفي القرن الخامس أنشئ نظام (الإكليروس) وظهر لقب مطران. هذا التعقيد الإداري والوظيفي الذي عزفت عنه الكنائس التي عرفت بالكنائس المصلحة، وهو (مصطح) يشمل، إجمالا، جميع الكنائس البروتستانية، التي نشأت من حركة الإصلاح الديني، بيدَ أن استعماله، من الناحية التاريخية، يقتصر، عادة على الكنائس المصلحة، وهي الكنائس البروتستانية التي يرتكز أصلها الكنسي على عقائد كلفن، وذلك للتمييز بينها وبين الكنائس اللوثرية والإنجيلية. وتتبع الكنائس المصلحة، عادة، النظام المشيخي، فهي تنزع إلى شكل بسيط من العبادة، وتعزف على الطقوس المنمقة. وهؤلاء يطلق عليهم المشيخيون. (. . .) وهم شيعة بروتستانية قديمة. يرى أصحابها أن تكون سلطة الكنيسة بيد الشيوخ من رعيتها دينيين أم علمانيين، وأنهم جميعا سواء لا يفضل أحدهم سواه. ومن ثم يرفضون المراتب الهرمية للكنيسة الأسقفية، ويقولون: إن هذا هو المنقول عن الرسل. وفي سنة 325، في اجتماع نيقية، اتفق على اتخاذ الصليب رمزا للمسيحية، وأدخل نظام العماد، والقرابين المقدسة، وكان الأساقفة هم الذين يقررون العقائد والتعاليم، بهذا كله تم إنشاء الكنيسة.

إن الذي جاء به المسيح هو: الإيمان الشخصي من القلب. أما علم اللاهوت، وكل هذه التعقيدات الإدارية والوظيفية، وكل هذه الظاهر في هيكل الكنائس، وزي القساوسة. . . كل ذلك من ابتداع الكنيسة. لقد حُوِّلت تعاليم المسيح من الجوهر الأخلاقي إلى تعقيدات الإدارة والوظيفة، وإلى الجدل الفلسفي، الذي عرف عندهم، في القرون الوسطى: (بالجدل الأسكولائي) . وهو اسم يطلق على الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى. وعني أصحابه بالفكر اللاهوتي والفلسفي المعتمد على سلطة الآباء اللاتينيين وأرسطو والشارحين لفلسفته. وعكف هؤلاء (الاسكولائيون - المدرسيون) على تقديم البراهين النظرية لإثبات العقيدة الدينية، ونظرة الدين إلى العالم. إن أبا المسيحية هو المسيح. أما أبو الكنيسة فهو (بولس) واسمه الأصلي: شاءول. روماني الجنسية، نشأ نشأة يهودية، متحمسا لدينه ووطنه، وكان يضطهد المسيحيين الأول، وكلف من قبل رئيس الكنيس اليهودي بالذهاب إلى دمشق لمقاومة المسيحية سنة 35، ثم تحول فجأة إلى المسيحية، وصار من أنشط دعاتها، واعظا ومؤسسا للكنائس. ثم آل أمره إلى القبض عليه في روما والحكم عليه بالإعدام صلبا، وقطع رأسه بالسيف!! إلي هذا يرجع إنشاء الكنائس، أو إلى (أوغسطين) (354 - 430) أسقف مدينة هيبون، في شمال أفريقيا، من أشهر آباء الكنيسة اللاتينية، فيلسوف آراؤه قريبة جدا من الأفلاطونية الجديدة، وهو يعتبر مؤسس حياة النسك والرهبنة في أوربا. أقول: وكلاهما: بولس وأوغسطين لم يقف بالمسيحية عند الحد الذي جاء به المسيح: جاء المسيح بالأخلاق المسيحية، أما هذان فقد أسسا اللاهوت، والطقوس. المسيحية كدين أخلاقي جاء بها المسيح، أما المسيحية كأسرار، فقد جاءت بها (الرسائل) . لقد انتهى تاريخ المسيح بظهور بولس الروماني اليهودي الأصل.

وعلى خلاف الإنجيل اعترف بولس بالملكية، والعمل، والاقتصاد، والألقاب، والرتب، والزواج، واللامساواة، بل اعترف بالرق والعبودية. وأصبح المسيح والإنجيل في ناحية والكنيسة واللاهوت في ناحية أخرى، وبذلك تم الانفصال بين الفكرة والواقع. بعد هذا التطواف يأتي - باختصار - هذا السؤال: هل الفكرة المثالية المجردة تصلح قانونا؟ هل الواقع المعقد المركب، المجرد عن روح الأخلاق يصلح أن يكون قانونا؟ رجال القانون يعرفونه بأنه مجموعة القواعد التي تنظم الروابط الاجتماعية، والتي يجبر الأفراد على احترامها بواسطة السلطة العامة". فإذا كنا، في المسيحية واليهودية بين نزعة روحية صرفة، ونزعة مادية صرفة، فمدلول: الروابط الاجتماعية ليس ذا موضوع ثم نخلص إلى حقيقة علمية خلاصتها: أن الإسلام وحده هو الدين الصالح لأن يكون قانونا. "** 19 - ومن هذا العرض، أيضا ندرك سر عداء الغرب المسيحي (للسامية) اليهودية؟ ذلك لاختلاف النزعتين: المادية والروحية. ومنه أيضا، ننتهي إلى حقيقة أخرى، خلاصتها: عدم قدرة المسيحي الخالص على فهم الإسلام، كدين ذي وحدة ثنائية، تجعل من متقابلات الحياة نظافا تتكامل فيه هذه المتقابلات، وتتحول إلى سلوك عملي، يحكمه قانون، هو شريعة الإسلام، ثم تتسمع قواعد تشْريعه، وعقوباته فيما يسمى (عقوبة التعزيع - تتسمع إلى النموّ التشريعي الذي يستوعب كل ما يستجد من قضايا ومن مخالفات. وهذا ما لا نظير له في اليهودية أو النصرانية. المسيحية لا تستطيع أن تتصور (بشرًا) كاملا، ويظل، في كماله، على بشريته. والإسلام يقرر بشرية محمد، وأنه مع ذلك هو المثل الإنساني الكامل.

20 - هذا تحليل علمي تاريخي يبين تميز الإسلام، وصلاحيته لأن يكون نظام حياة

20 - هذا تحليل علمي تاريخي يبين تميزّ الإسلام، وصلاحيته لأن يكون نظام حياة، الذي يضبطه قانون، يصلح في: تجرده، وواقعيته، وأخلاقه، ورعايته للمصلحة الإنسانية في عمومها، وما عليه، بعدُ، أن يضع من القوانين ما يحفظ عليه هويته وخاصته ومجتمعه. ويكون المعترض على قانونه - كالمعترض على حدّ الردة - إنما يعترض من عدم الفهم لطبيعة الإسلام، ووحدته المزاوجة بين المتقابلات. لقد اتفق المحدثون من علماء القانون الحديث على وجود مشروعية عليا مستمدة من قيم الأمة ومبادئها. هذه المشروعية تعلو على نصوص الدساتير والقوانين، ولا تكون بحاجة إلى النص عليها في دستور، ولا قانون. هذه المشروعية سابقة على نشأة الدولة وقيامها. وهي ثابتة والدولة تدول ومن ثم كان مقام هذه الشروعية فوق مقام الدولة، ومن الفرض على الدولة احترام هذه المشروعية، وأن عليها، فيما تضع من دستور، وما تسنّ من قوانين أن تحمي هذه الشروعية، بل إن من غايات قيام الدولة حماية هذه المشروعية. من هذه المشروعية العليا أن الأمة الإسلامية أمة ذات رسالة، وأن رسالتها هي إبلاغ الإسلام، وأنها مكلفة بحفظه، كما أنها - ممثلة في دولة - مكلفة بسلامة بناء أمته، في بنائها الاعتقادي، وكيانها التشريعي، والسياسي. فإذا ما تعرّضت رسالتها، أو بناؤها أو كيانها الاجتماعي، لخطر يأتيها من داخلها أو خارجها - كان من حقها. بل من واجبها أن تتخذ من الوسائل، ومنها العقوبات، ما يحفظ عليها هويتّها ومقوّماتها. ولا يلومها على ذلك، إلا ظلوم أو جهول!! * * * 21 - وحد الردة من هذه السياسة المشروعة لحفظ هذا الكيان. والاعتراض عليه جهل بماهية الإسلام، من الذين لا يفهمون (الدين) إلا على أنه: مجرد مثالية أخلاقية، تعلو على الواقع، ولا ينبغي لها أن تنزل إلى طبائع الحياة، وأن تتدنس بطبائع الناس. وقد تبين لنا أن هذا (الدين المثالي) لا يصلح قانونا للناس لافتقاره إلى ركن:

23 - عم يرتد من يرتد عن الإسلام؟

(المصلحة) ، ولاستغراقه في (ركن المثالية الأخلاقية) . وقد تقدم لنا قول سفر التثنية: أن الرجل الذي يعمل بطغيان فلا يسمع للكاهن، أو القاضي يقتل! فهذا كتابكم ينطق عليكم، ويشرع قتل من لم يسمع للكاهن أو للقاضي. فما بال من يفسد في الأرض، ومن يعمل على هدم كيان أمة ودولتها بأكملها؟! 2 - الرجوع عن الإيمان إلى الكفر يشبه الآفة التي تصيب المخ والقلب فتودي بالحياة. فكذلك الذي يقع في ظلمات الكفر بعد أن هدى إلى نور الإيمان، تفسد روحه، ويسقم قلبه، فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة. فإذا كان مريض القلب والعقل يقضي عليه مرضه بالموت، فكذلك الارتداد عن الإسلام، فساد في العقل، وفساد فى الوجدان، وفساد في السلوك يستلزم بتر هذا العضو ليسلم سائر المجتمع. إن حطة الأفكار أشد خطرا على الأمة من فاتك المرض. إن سلامة الفكر، واستقامة القلب، هما الروح القوي الذي يحفظ على الأمة، أية أمة، كيانها وبقاءها. * * * 23 - عمّ يرتد من يرتد عن الإسلام؟ الإسلام دين إنساني عام في عقيدته وشريعته. الإسلام يتسع صدره لأهل الديانات الأخرى. الإسلام - مع تقريره الإخاء الإيماني بين المؤمنين به يقرر الإخاء الإنساني العام. الإسلام يقرر العدل، حتى مع الشنآن. الإسلام برٌّ عام للمسلم ولغيره.

25 - الإسلام دين وعلم:

الإسلام يكرّم الإنسان من حيث هو إنسان. الإسلام يحلّق بالإنسان إلى آفاق الكون دراسة واستكشافا. الإسلام يقرر أن الأرض مائدة لبني البشر جميعا. الإسلام يحلق بالإنسان إلى رحاب العالم الباقي، ويحضه على إعمار الأرض، والبر بالإنسان تمهيدًا لطريق ذاك العالم الآخر. الإسلام يرفع الإنسان عن عبادة مثله من بني البشر، أو عبادة الأشياء. .. الإسلام يطلب ممن يريد الدخول فيه أن يعقله. وأن يدخل فيه على بصيرة. .. فعمّ يرتد المرتد عنه؟ ما يرتد مرتد عن هذه الحقائق القيمة في نفسها، القائمة بذاتها إلا عن شبهة يزيلها طلب الحق، أو عن هوى لا ينفع معه حوار أو تعليم. فإذا كان الأول علاجه التعليم، فما للآخر إلا الدواء المرّ. * * * 24 - لكن لا غرو، من ألف تغيير حقائق دينه على نحو ما شرح لنا العرض التاريخي السالف - لا عجب من هذا أن يتعجب من كُره الإسلام لحال المرتد، وإخباره بإحباط عمله، وأن يشبه بحد الردة (على ما في هذا الحد من تفصيل يأتي بعدُ) . * * * 25 - الإسلام دين وعلم: أما الدين فهو - على صحة فهمه - ما أوحاه اللَّه، لا ما وسوس به الناس، من مخترعات عقولهم، ووساوس خواطرهم. فما العلم؟ إن (الإدراك الذهني) على درجات ست:

26 - ما الرأي؟

(العلم) وهو إدراك الشيء إدراكا مطابقا للواقع، مع إقامة الدليل عليه. فها هنا ثلاثة أمور: إدراك - مطابقة - دليل، فإن كان إدراك ومطابقة للواقع مع العجز عن الدليل فهذا هو التقليد. فإن كان الإدراك الذهني غير مطابق للواقع فهو: الجهل. ولا مجال هنا لذكر الدليل نفيا أو إثباتا، إذ الجهل لا دليل معه، ولا دليل له، وحسبك أنه: الجهل. فإن كان الإدراك الذهني متساوي الطرفين، نفيا وإثباتا، بين المطابقة وعدمها فهذا هو الشك. وإن كان إدراك أحد طرفي الإثبات أو النفي راجحا على الآخر فهذا هو: الظن. وإن كان نفي المطابقة أرجح، والنفي لا يطابق الواقع فهذا هو الوَهْم. والإسلام ينفي أن يكون الإيمان بعقائده: من قبيل: الجهل، أو التقليد أو الشك أو الوهم أو الظن. هذه خمسة مناهج في (الإيمان) يرفض الإسلام بناء الاعتقاد عليها، ولا يرتضي الإيمان به إلا على أساس: (العلم) والعلم وحده. فماذا تنقمون منا؟ وأي عذر للمرتد عنه؟ أيرتد عن (العلم) إلى الظن؟ بَلْه الجهل!! إذا كان (الإيمان بالإسلام) هذا أساسه، وبناؤه، فهل يتصور - عقلا - الرجوع عنه لأمر صحيح؟ وهل يصح أن يكون هذا الرجوع (رأيا) . * * * 26 - ما الرأي؟ مأخذ الرأي من الرؤية والوؤية نسبية ليست مطلقة وكذلك (الرأي) فإنه نسبي لا مطلق، فما تراه ليس بالضرورة يكون حقا مطابقا للحقيقة.

والإسلام (علم) مطلق، ليس نسبيا. فبأي مقياس يجعل النسبي كفوا للمطلق؟ إذا من المستحيل - علما وعقلا - أن تكون الردة عن الإسلام المؤسس على العلم، رأيا سليما، ولن تكون إلا هوى، أو عبثا. 27 - لكن من الحق أن تكون الردة عن (شبهة) لم يستطع صاحبها جلاءها، وهنا يأتي واصا الدولة المسلمة، لا إقامة الحد، بل جلاء الشبهة. وما دام المشتبه صادق النية، مخلصا للبحث، متطلعا لطلب الحق، فلا بد أن تزول الشبهة، فيرجع إلى الحق.. وقد سجل تاريخ المسلمين أمثلة لذلك، من ذلك: حوار المأمون مع نصراني أسلم ثم ارتد، فدار بينهما هذا الحوار: المأمون: لأن أستحييك (أبقى على حياتك) بحق أحب إليَّ من أن أقتلك بحق. ولأن أقبلك بالبراءة أحب إليَّ من أن أدفعك بالتهمة، فخبرنا عن الشيء الذي أوحشك من الإسلام، فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به، وإن أخطأك الشفاء كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، وتعلم أنك لم تقصر في اجتهاد، ولم تفرط في الحزم. الموتد: أوحشني كثرة ما رأيت من الاختلاف فيكم. المأمون: لنا اختلافان: أحدهما: كالاختلاف في الأذان، وتكبير الجنائز، واختلاف وجوه الفتيا، وما أشبه ذلك من فرعيات وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعة، وتخفيف. فمن أخذ بهذا أو ذاك لم يأثم، لا يتعايررن ولا يتعاييون. وأنت ترى ذلك عيانا، وتشهد عليه تبيانا. والاختلاف الآخر: كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، مع إجماعنا على أصل التنزيل. فإن كان الذي أوحشك هذا، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقا على تأويله، كما يكون متفقا على تنزيله، ولا يكون بين

جميع النصارى واليهود اختلاف في شيء من التأويلات. وينبغي عليك ألا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها. ولو شاء الله أن ينزل كتبه، ويجعل كلام أنبيائه، وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل. ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل. وليس على هذا بنى الله الدنيا. قال المرتد: أشهد ألا إله إلا الله، وأنه واحد لا ند له ولا ولد، وأن المسيح عبده، وأن محمدا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقا!! فأقبل المأمون على جلسائه. فقال: احفظوا عليه عرضه، ولا تبروه في يومه، كيلا يقول عدوه: إنه أسلم رغبة وطمعا، ولا تنسوا بعدُ نصيبكم من بره، وتأنيسه، ونصرته، والعائدة عليه. * * * 28 - ولو ذهبنا نحلل هذا الحوار لطال بنا الاستنباط، فيما يتعلق بآداب الإسلام، وشريعته، وطبيعة مجتمعه.. ولكن حسبنا من ذلك القليل من الكثير: تأمل قول الخليفة: أحب إليَّ أن أبقي حياتك. . لم يكن بالخلفاء رغبة في الدماء، بل كان حفظ الحياة بحق أحب إليهم من القتل بحق. إنهما حقان لكنهم تركوا حقا إلى حق هو أحق منه وأحب. وتأمل رغبة الخليفة في براءته عن الرغبة في اتهامه وتأمل سؤاله عن الشيء الذي أوحشه من الإسلام. إنه بذلك يفتح بابا من العلاج النفساني، حيث يفضي مريضه بما في خاصة نفسه، وهذا يضفي عليه نوعا من الأمان، يجعله صريحا في عرض شبهته، مما يأخذ بيده إلى الجواب الصحيح. وعلى ذلك يفضي المرتد بشبهته، ويأخذ الخليفة في بيان الحق، فيطمئن النافر، ويعود الشارد. ثم لا تغفل وصيته لخاصته برعايته، وبره بل ونصرته، مع التحذير من معايرته،

29 - هل الارتداد حرية رأي حقا؟

وتنفيره، بل العمل على تأنيسه، ودفع التهمة عنه! وهذه - بلغة عصركم - غاية الحرية، والديمقراطية، وهي - في الوقت نفسه - إقرار لحرية البحث، وجواز الشبهة، والرفق في علاجها. وذلك حسبكم، إن كنتم تريدون الحق مجردًا. إنها (الدولة) ذاتها، تقوم بهذه الرعاية، ولو شاءت لقتلت، ولكنها سنة الإسلام، في طريق السلام!! * * * 29 - هل الارتداد حرية رأي حقا؟ إذ تبين أن الإسلام علم، وأن العلم مطابقة للواقع، ومع هذه المطابقة لا بد من إقامة الدليل، التي بدونها لا يكون علما - إن كان ذلك فمن المحال أن يكون الخروج عن الإسلام (رأيا) ، وإنما يكون خروجا عن الدولة بكل نظامها الأساسي، من شخص لا يرى إلا أنه غير منسجم وهذا النظام، أو له عداء له، فهو يلتمس معابته، والطعن فيه. ومن الناس من يعيب الحَسَن بحُسْنه، وينقص الكامل بكماله، ويأخذ الفاضل بفضله. فكيف يعتذر من حسناته سيآته، ومحامده معايبه؟! وعندئذ لا يكون (خروجه) رأيا، بل يكون هدما للحق، ونقضا لدولته، وزعزعة لأمنها! فمن الملوم؟ الهادم الذي استدعى العقوبة لنفسه. أم (المحافظ) على كيان الأمة؟! * * * 3 - لو أن هذا (الخارجي) قصر خروجه على نيته، فلا حرج عليه، فالإسلام لا يحاسب الناس على نياتهم. ولو أنه قصر ضرره على نفسه لجاز للحاكم ألا يقيم عليه الحد؛ إذ الحد يقام لمصلحة الأمة، ومنع الضرر عنها، فما دام لا ضرر من المرتد على الأمة، جاز للحاكم إرجاؤه مع مداومة حواره واستتابته، لمصلحته هو.

وقال الإمام الشافعي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو أن قوما أظهروا برأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات، وأكفروهم - لم يحل بذلك قتالهم. بلغنا أن عليا كرم اللَّه وجهه سمع رجلا يقول: لا حكم إلا لله، في ناحية المسجد: فقال علي - رضي الله عنه -: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا فيها اسم اللَّه، ولا نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال. والإمام ابراهيم النخعي يرى عدم قتل المرتد، ويرى استتابته أبدا. وفي رواية عن عمر بن الخطاب أن المرتد يستتاب أبدا، ويودع السجن. قال أنس بن مالك: بعثني أبو موسى الأشعري بفتح تُسْتُر إلى عمر، فسألني عمر، وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين. فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال: فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم. فقال. ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل. فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلما أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، ما كنت صانعا بهم لو أخذتهم؟ قال: كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن!! ولعل هذا مستند إبراهيم النخعي، وكذلك روي عن سفيان التوري. هذا عمر بن الخطاب، وأولئك نفر من أئمة التابعين يرون عدم قتل المرتد، وهو ما يسقط تلبيسكم، ويأتي على بنيانكم من قواعده. ومن مجموع ما تقدم يظهر أن المسألة منوطة بمصلحة الجماعة، فما دام ارتداد فرد لا يضر بالأمة، فلا حرج من تركه، لذلك تقاتل الجماعة المرتدة، ذات الشوكة؛ لأن ضررها، لا محالة واقع بالدولة وبالأمة. * * * 31 - إن الثورة الفرنسية، وقد قامت على ثلاثة مبادئ: الإخاء والحرية والمساواة - قد أعدمت الكثيرين أثناء قيامها، بل بعد استقرارها، ومن قبل قيامها واستقرارها!

وكانت هذه الكلمات الثلاث: الحرية والإخاء والمساواة - محور الخلاف القديم بين الأنصار والخصوم. كانت (الحرية) غرضا مقصودًا، ومبدأ مختلفا عليه، إذ كان الملكيون يزعمون أن الملك يحكم بالحق الإلهي، فليس للرعية حرية مع راعيها - بينما يرى الثائرون أن مشيئة الشعب هي قوام الحكم. " هذا في عصر، زعمتم أنه عصر التنوير، فما بالكم نسيتم ذلك؟ أما مبدأ الإخاء فقد كان الاختلاف عليه مجزرة قضى فيها على أكثر من مائة ألف فرنسي قبل جيلين، وأوجبت هجرة الملايين إلى غير بلادهم قبل عصر الثورات بسنوات! فما بالكم نسيتم هذا، وتشبهون بقتل واحد مرتد لا، بل كانت العقيدة الغالبة: أن الخلاف بين المذهب الكاثوليكي، والمذهب البروتستاني خلاف بين الأبرار والأشرار، وأنه لا هوادة بين الفريقين، إلا كما تكون الهوادة بين حزب اللَّه وحزب الشيطان، وفي سبيل ذلك سالت الدماء بين الفريقين. وصدرت الأوامر الصريحة بنفي كل فرنسي يدين بنحلة غير النحلة التي ارتضاها ولاة الأمور. لماذا تناسيتم هذا؟ 32 - أم حسبتم أننا نجهل ما كان عندكم من مآسي تاريخكم. وكل هذا فيما سميتموه عصور التنوير، فما بال عصور الظلام؟! في عصور التنوير سجن (فليتر) ، زعيم الأدباء الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وقضى أيام سجنه في سجن (الباستيل) الشهير وكان سجنه بأمر رجال الدين ورأي الكنيسة. ولا خرج من السجن آلى على نفسه أن يجعل مواهبه وقفا على هدم تلك الأسوار، أسوار (الباستيل) التي تحصّن من ورائها رجال الكنيسة والملك. وأصبح (فلتير) في عصره يدعى: رسول التسامح والإصلاح. وكان هذا اللقب في نظر الكنيسة والملك يعني: الإلحاد والثورة. 3 - والثورة التي قامت للإخاء والحرية والمساواة، هذه الثورة كان من أعمالها ما

يجعل الولدان شيبا: تألفت محكمة ثورية لمحاكمة أعداء الثورة، وكانت أحكامها نهائية، وصدرت الأوامر بالقبض على كل من حامت حوله الشكوك. وفي سبتمبر 792 1م أرسل رجال الثورة عصابات مسلحة طافت بالسجون وأعدمت من فيها من الأشراف ورجال الدين، يقول المؤرخ الإنجليزي: (. . .) في كتابه: (تاريخ أوربا في العصر الحديث) : وبقي هؤلاء الجلادون يزاولون عملهم الفظيع، وكلما تعبوا قدمت إليهم المرطبات، حتى إذا استعادوا قوتهم عادوا إلى عملهم الذي كان يسميه الثوار: تحرر فرنسا. وكان نساء باريس الشريرات يشاهدن ذلك بالتهليل ويحملن الطعام إلى أولئك الجزارين. واستمرت تلك المجزرة الشنيعة أربعة أيام سرى أثناءها في غوغاء باريس روح سفك وظلمإٍ للدماء تقشعر منه الأبدان ". ولما أعدم الملك (لويس السادس عشر) كانت الملكة: (ماري انطونيت) ما تزال في السجن مع ولدها، فصدر قرار لجنة الأمن في يوليو سنة 1793 بأن يفصل عنها ولدها، فانتزع منها ولدها غصبا، وعهد به إلى رجل يدعى (سيمون) وصناعته إسكاف!! وبقي الصبي المسكين وحيدا في حجرة ستة شهور لم يخلع فيها قميصه. وكانت فاتحة أعمال لجنة الأمن العام هذه: وضع قانون المشبوهين الذي يقضي بسجن كل من يشتبه في أفكاره السياسية" وكان من نتائج ذلك اكتظاظ السجون بالمعتقلين، وللتخلص من هذه المشكلة شكلت (محكمة الثورة) التي كانت تستدعي المقبوض عليهم جماعات، وتحكم عليهم بالإعدام، بدون محاكمة، ثم يرسلون للإعدام في ميدان الثورة. * * * 34 - وهل أتاكم نبأ ما فعلت فرنسا بشعوب أفريقيا لتخرجهم من الإسلام، ولا سيما ما كان منها في الجزائر؛ وهل أتاكم ما فعلت في لبنان من إشعال حرب أهلية،

دامت أكثر من خمسة عشر عاما، تأييدا (للمارونيين) ضد المسلمين؟! أين كانت (الحرية) في هذا التاريخ المضرجة صفحاته بدم الأبرياء. حقا إن الهوى يعمي ويصمّ. ألا تسألون أنفسكم: أين كانت الحرية، التي تتباكون عليها يوم كان الغرب الأوربي يسوق ملايين الأحرار من الأفارقة سوق البهائم، يبيعهم للسخرة والمهانة؟!. لقد كان الإحصاء الرسمي لهؤلاء المخطوفين غصبا أنه خمسة عشر مليونا، وما كانت الإحصاءات الرسمية يوما بصادقة، تزور الواقع لمصلحة أهله. 35 - في القرن الثامن عشر، وهو من عصور التنور، بذلت الحكومة الروسية جهودا جدية لتنصير التتار الذين ارتدوا عن المسيحية إلى الإسلام، وبذلت كثيرا من ضروب التحويل لتعميدهم من جديد. ففي سنة 1778 أمرت الإمبراطورية (كاترين) الثانية بأن يوقع كل من هؤلاء الحديثي العهد بالمسيحية على إقرار كتالي يتعهدون فيه بترك خطاياهم الوثنية، وتجنب كل اتصال بالكفار المسلمين، والتمسك بالدين المسيحي وفي القرن التاسع عشر، وفي نصفه الأخير بذلت جهود أخرى لتنصير هذه القبائل الإسلامية. إن الاضطهاد الديني له صفحات سود في تاريخ الغرب، لا يصعب على طالبه الوصول إليه، سواء في بلاد الغرب أم فيما حط فيه الغربيون من بلاد. أين، ثم أين؟ ألستم أحق بقول القرآن الكريم: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) . في بلدنا يقولون: مات الذين يستحون بل من قول رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت ".

36 - أما بعد: فسوف أزيدكم عجبًا وإعجابا بفقه المسلمين: في بحوثهم في مسألة الردة سؤال: هل الردة مقصورة على خروج المسلم عن الإسلام؟ أم تتناول غير المسلم إذا ترك دينه إلى غيره من الأديان الأخرى؟ من وجوه ذلك الفقه: أنه إن انتقل إلى مثل دينه أو إلى أعلى منه أقر عليه، ولا يعد مرتدا. وإن انتقل إلى أنقص منه لم يُقر، ويعد مرتدا، فإذا انتقل اليهودي إلى النصرانية، فقد انتقل إلى مثل دينه الذي كان عليه، من حيث إنهما، في الأصل، دينان سماويان، وكذلك يقرّ المجوسي إذا انتقل إلى اليهودية أو النصرانية" لأنه انتقل إلى ما هو أعلى! وإذا انتقل اليهودي أو النصراني إلى المجوسية لم يُقر، ويعد مرتدا؛ لأنه انتقل إلى ما هو أدنى!! انظروا، إنه الفقه العادل القائم على الحق! انظروا إلى تقديس فقهاء المسلمين لأديان السماء. ثم انظروا إلى انسجام الأحكام والاجتهاد فيها عند فقهاء المسلمين! فهل من مدّكر؟ * * * 37 وأيم الحق ما كان بنا حاجة في الخوض في هذه الصحائف السود. لولا أن دفعنا إلى ذكرها الافتراء الجهول على الحق البين لكل ذي قلب سليم. إن حرّ هذا التاريخ ممتد إلى الحاضر، في أرجاء الأرض: ماذا كان موقف فرنسا من فوز الإسلاميين في انتخابات الجزائر؟ وماذا كان الموقف، وما زال، من مسلمي الفلبين؟ وماذا كان - وما زال موقف أمريكا من حقوق الفلسطنين؟ وماذا كان موقفها من الثورة الإيرانية؟ وماذا كان موقفها من الحكم الإسلامي في السودان؟ وهل نذكر دسائسها لإحداث فتنة طائفية في مصر؟

ماذا نذكر وماذا ندع؟ وهل (فكرة العولمة) إلا أسلوب جديد للهيمنة على العالم، ومحاولة إخضاعه للفكر الأمريكي وقيمه الاستهلاكية؟ رحم اللَّه امرأ شغله عيبه عن عيوب الناس "!! وإلى توابع سؤالكم 38 - في سبيل هدفهم في الطعن في الإسلام، والتشكيك في كتابه ونبيه، قالوا: إن القرآن يغيّر رأيه، فكلما سألنا عن آية قالوا: هذه منسوخة. يقولون: ونبيكم غيرّ رأيه، حين أباح زيارة القبور، بعدما منع النساء منها، وكما حرّم زواج المتعة بعد ما أباحه. يقولون: وعلماء المسلمين يغيّرون رأيهم. قلت: وهذا الاعتراض جهل بأمرين مهمين: جهل بأسلوب التربية الصحيح، وجهل بحكمة الإسلام في التشريع، وموافقة حكمته لأحد مناهج التربية. كان منهج القرآن في التشريع، على أساس المنهج التربوي، هو: التدرج في تغيير العادات، والتدرج في فرض العبادات، وهذه حقيقة يعلمها من علم مناهج التربية، ومن درس تاريخ التشريع. 39 - وعلى أساس هذا المنهج ترك القرآن أشياء كان عليها الجاهليون، تركها مدة، حتى تتمكن العقيدة في نفوسهم ثم أخذ يتدرج في التحريم، كما أخذ يتدرج في الفرائض، وذلك حرصا على تأليفهم، والرفق بهم في اقتلاعهم من عاداتهم. وتربيتهم على تحصيل الأفضل فالأفضل، وتقديم الفاضل على المفضول. وذلك كما قدم الإيمان بالله ومعرفته على ما سواه، لأنه الأصل، ولذلك تأخرت الواجبات عند ابتداء الإسلام، ترغيبا فيه، فإنها لو وجبت في الابتداء لنفروا من الإيمان، لثقل التكاليف. ولذلك أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء. وكذلك أخر الصيام والزكاة إلى ما بعد الهجرة، لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد

تنفيرا؛ لغلبة الضِّنة بالأموال. وكذلك لو وجب الجهاد في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين، وكثرة الكافرين؛ ولأنهم لو أذن لهم به لتصرفوا بحماس وشِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، كما جاء في الحديث، وبذلك تفتر هممهم، وتضَعف عزائمهم. وفي هذه التريية توجيه للمتحمسين من شباب اليوم، الذين يلوكون كلمة (الجهاد) وهم لا يفقهون فقهها، ولم يقرنوا هذا الفقه بالواقع، ومقايسة الواقع على قدراتهم وما يستطيعون! ومن فوائد هذا التدرج المربي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" فقد ذكر الترمذي أن الإمام الزهري سئل عن هذا الحديث، فإن ظاهره كفاية هذه الشهادة في دخول الجنة دون عمل، فقال الزهري، إنما كان هذا في أول الإسلام، قبل نزول الفرائض والأمر والنهي. ومن المعروف المشهور أن الإسلام سكت عن شربهم الخمر؛ لتمكنها من عاداتهم، ثم أخذ في تحريمها على التدرج. ومن ذلك نهيه عن زيارة القبور، وكانوا يعظمونها، فلما تمكنت العقيدة من قلوبهم أباحها. ومن ذلك نهيه عن قراءة كتب أهل الكتاب ثم إباحتها، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. وقد نُقل إلى عبد اللَّه بن عمرو حمل بعير من كتب أهل الكتاب فقرأه، وطالع كثيرا من الكتب القديمة، وكان يكتب بالسريانية وبالعربية. قلت: وفي هذا درس لمن يقولون: لا نقرأ غير الكتاب والسنة ولا نتعلم من اللغات غير العربية!! وعلى هذه السنة التربوية والتشريعية جرى شأن زواج المتعة.

40 - وهنا ملحظ مهم يتعلق بمسألة التدرج في الشريعة، ذلك أن (التدرج) صفة لازمة للشريعة لا تفارقها أبدا، وليس خاصا ولا مقصورا على عصر التنزيل وزمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذا التدرج الدائم يتفاوت بحسب حال المكلفين وظروفهم الخاصة، وأحوال بيئتهم، فالداخل في الإسلام حديثا، والناشئ في بلاد غير المسلمين، كالأوربيين والأمريكانيين، وكثير من هؤلاء لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ومنهم من لم يسمع حتى اسمه - هؤلاء يلقنون أصول الدين وأركان الإسلام، ثم يتدرج به إلى الشرائع، ولا يلقن منها إلا الأهم فالأهم، ولا سيما ما يتصل - بواقع بيئته، كحرمة الزنا والربا والخمر ولحم الخنزير. وكذلك السلم الذي لم يكن له حظ من الالتزام بشريعة الإسلام وآدابه. ولا يتوهمن أحد أن هذا المنهج التدرجي أنه إقرار لبعض المحرمات، وتفريط في بعض الواجبات، إنما هو التزام بصفة لازمة للشريعة. يقول الإمام ابن تيمية، في فتاويه (25 / 59 - 65) : "فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما. كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئا. ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأتِ الشريعة جملة، كما يقال. إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحصي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به. كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد لا يمكن، فى أول الأمر، أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع".

41 - قلت: ونحن مع شيخ الإسلام ابن تيمية في لزوم تدبر هذا الأصل، ووجوب التزامه في الدعوة في أيامنا هذه، فإن قوما ممن يتصدون للدعوة في هذه الأيام يرفضون هذا الأصل الملازم للشريعة والدعوة إليها، بحجة أن الدين قد كمل، وأنه من الواجب العمل به كله، غافلين، بل يجهلون طبائع النفس البشرية في نفورها من أصل التكليف، بله ثقله، فإذا جاءهم من يريد أن يسلم، أو من يريد أن يتعرف على الإسلام أكثروا عليه القول، حتى ينفر. ومنهم - بتجربتي - من يبدأ، مع الغربيين، بمسائل من الشكل والفرعيات. ومنهم من يبدأ في تعريفهم بالإسلام، من الحدود ومنهم من يبدأ بالتعريف بتحريم الخمر والخنزير. وقد قصدت قصدا إلى نقل عبارة الإمام ابن تيمية، لعلمي أنهم يقدسون قوله تقديسا، ولا يردون له قولا، فها أنا أذكر قوله الواعي الناضج في فهم الشريعة والدعوة إليها على مدى الدهر، وكرّ الغداة ومر العشي، وهأنا أحدد مكانه تحديدا من مجلدات فتاواه. والله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم. قال الإمام: ولا يعترض على هذا أن الدين قد كمل، والنعمة به قد تمت، وبكماله وتمام نعمته قد انتهى التدرج، لأن هذا الاعتراض يسلب الشريعة خاصتها التي بيّنت، ويكلف بما لا يطاق من العلم والعمل، وقاعدة التكليف في شريعة الإسلام هي: التكليف بما في الوسع، لا بما هو فوق الطاقة (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. . . . . . .) . 42 - هذا، وكاتبُ هذه السطور ينفي نفيا قاطعا أن يكون في القرآن الذي تركه لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتبه عنه كتاب الوحي، وعارضه معه جبريل عليه السلام، سنتين من آخر عمره، حتى إذا كانت الأخيرة عارضه معه مرتين، والمدون في المصحف بإجماع الصحابة، والذي حفظوه في الصدور قبل حفظه في السطور. أقول هذا

القرآن، الذي بين أيدينا، والمنقول إلينا بالتواتر، هذا القرآن ليس فيه منسوخ لا آية، ولا أكثر، هذا مع علم صاحب هذه السطور بأن مسألة النسخ من مسائل علوم القرآن، وموضوعات الفقه وأصوله، حتى إن منكر النسخ يتهم بالعظائم، فإذا كان من العلماء من يحدث هؤلاء المشبهين بأن هذه الآية أو غيرها منسوخة، فإنما يجيبون على قدر علمهم. ولا تثريب عليهم إلا تمحيص العلم، وعدم أخذه تقليدا. إنهم يقلدون ولا يملكون الدليل. فكل آية في المصحف محكمة. وقد وصف اللَّه القرآن وآياته بأنها محكمة: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) . كما أن اللَّه أمر بالرجوع إلى القرآن. ولو كان فيه منسوخ لاستثناه (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) . والرسول، في حجة الوداع (حجة الإسلام) في خطبته الجامعة، التي هي منهج الدستور العملي للأمة المسلمة، قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب اللَّه وسنتي" "كتاب اللَّه وعترتي" ولم يستثن. ولو كان فيما تركه من القرآن منسوخ لقال، مثلا: إلا ما كان منه منسوخا. ولو كان فيه المنسوخ، مع هذا التوجيه العام المطلق، لكان ذلك موقعا في الحيرة والتخبط، ولتنافي ذلك مع قول الرسول: تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. وما من آية، في القرآن يقال عنها منسوخة إلا ولها وجه من العمل، وحال من الأحوال تطبق فيها. أما الآية 106 من سورة البقرة، والتي يستشهد بها (المشككون) والقائلون بالنسخ عموما: (مَا نَنسَخ مِنءَايَةٍ. . .) فإن (الآية) فيها بمعنى آيات الأنبياء السابقين، وما نوّعها اللَّه، من نبي إلى نبي، حتى ختمها بآيته الفذة: القرآن الكريم. وإذا أولت على نسخ بعض آيات الشريعة فإنما هي إشارة إلى ما كان في عهده - صلى الله عليه وسلم -

والوحي يتنزل، مما يحتمل نقلهم من حال إلى حال. ويكون ذلك تمهيدا لإخبارهم عن تحويل قبلتهم من ييت المقدس إلى ييت اللَّه في مكة. وتأمّل قوله - تَعَالَى -، بعد قوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. . .) تأمل قوله بعدها: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ. . .) . فإن هذا الاستفهام الإنكاري (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا. . .) والذي يتوجه به القرآن إلى المسلمين فيه تحذير لهم من أن يكونوا مع نبيهم كما كان اليهود مع موسى كلما جاءهم بأمر لم يألفوه بالامتثال، بل قابلوه بالحذر والريب وبالأسئلة الكثيرة. وتحويل القبلة إذا كان أمرا وشيك الوقوع، فإذا وقع هذا التحويل نزعت بهم نوازع كثيرة تدعوهم إلى التساؤل: فيم كنا؟ ولم هذا؟ وهل سنحول عن القبلة الجديدة أم نبقى عليها؟ فكان هذا تحذها للمسلمين من أن يقعوا فيما وقع فيه اليهود. فكانت آية النسخ مقدمة للدفاع في قضية تحويل القبلة إلى المسجد الحرام، فكأنه يقول: إن اللَّه إذا نسخ آية: أو بدل حكما بحكم فإنما ذلك بمقتضى حكمته. وقد نسخ اللَّه كثيرا من الشرائع السابقة، فأين شريعة نوح، مثلا، لقد أنساها اللَّه، فلم يعد أحد يذكر منها شيئا. وأبقى ذكرها، تعليما، كما أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخه قبل وقوعه. وعلى هذا، فإن أقرب مفهوم إلى النسخ الذي أشارت إليه الآية (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. .) هو نسخ التوجه إلى بيت المقدس، إلى البيت الحرام. وكلا البيتين آية من آيات اللَّه، إذ قاما بأمره. ونخلص من هذا إلى أن آية النسخ ليست موجهة إلى نسخ آيات من القرآن الكريم أخرى، وإنما إلى نسخ قبلة وإحلال أخرى مكانها. كما أن قوله (أَوْ نُنْسِهَا) معناه تأخير الحكم الذي دعى به المسلمون إلى التحول إلى البيت الحرام مدة بلغت

43 - أما مسألة اختلاف علماء المسلمين:

نحو سبعة عشر شهرًا، كانوا يتوجهون خلالها نحو بيت المقدس. * * * 43 - أما مسألة اختلاف علماء المسلمين: اتخاذ هذه المسألة وسيلة للطعن من عجائب هؤلاء القوم! وهي من باب. العيب بالمحاسن، والتعيير بالفضائل، كما أنها من باب رؤية القشّة فىِ عين غيرك، وعدم رؤية الخشبة في عينك، على حلّه تعبير كتابكم (المقدس) . لقد قدمت لكم أمثلة، مجرد أمثلة لاختلافات كتابكم المقدس مما يستحيل معه أن يكون وحيا من الله. أما المسلمون فقد حمى اللَّه كتابهم من هذ الشين، وقد وعد اللَّه بذلك في قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . وصدَّق الزمان هذا الوعد، فلم يتغير في القرآن حرفٌ واحد. أما اختلاف علماء المسلمين فليس اختلافا في (العقائد) وأصول الإسلام، وإنما هو اختلاف في فروع الأحكام العملية وكان ذلك من سماحة الإسلام ويسره، ومن وجوه التخفيف على المسلمين. ولم يكن اختلاف علماء المسلمين اختلاف تناقض، على نحو ما هو عندكم في كتابكم، وإنما هو اختلاف تنوع، يعطي وجوها متعددة، وكيفيات متعددة لأداء العمل، مما ييسر على المسلم أداء عمله العبادي، والتعاملي. وكان لذلك أسباب علمية، قامت على منهج علمي. فمن العلماء من منهجه: ماذا قال؟ فهو يبحث عن منطوق النص الوارد عق الله وعن رسوله. ومن العلماء من منهجه: ماذا أراد؟ فهو يبحث عما وراء منطوق اللفظ. وهؤلاء وهؤلاء إنما كان همهم وكل قصدهم الوصول إلى الحق، والعلم المطابق لمراد اللَّه، ومراد رسوله ولذلك نقل عن الإمام الشافعي قوله: "إن صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط ".

ومع سلامة القصد، واختلاف المنهج لم يدّع واحد من العلماء أن (اجتهاده) هو الحق، ولما سئل الإمام أبو حنيفة: هل ما تقول هو الحق الذي لا مرية فيه؟ قال: والله ما أدري، لعله الباطل الذي لا مرية فيه! أما الشافعي فقد قال عن (اجتهاده) كلمة سرت في الفكر الإسلامي سريان الماء في العود، تلك قولته: "رأييى صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري (أي عنده) خطأ يحتمل الصواب" أما تلميذه، وخاتمة الأئمة المشهورين أحمد بن حنبل فقد قال: لقد بذلت المجهود من نفسي وإني لأرجو أن أخرج منه كفافًا لا عليَّ ولا لي ". كما أنه من المقرر، عند المسلمين، أن اجتهادات العلماء ليست دينا، ولا وحيا، فمخالفتها ليست مخالفة للإسلام، وهذا أعطى الحرية الفكرية للمسلم في اختياره ما يراه حقا مطابقا للإسلام، أو هو الأقرب إليه. كما أعطى أهل العلم، في كل عصر وزمان حرية الاجتهاد فيما اجتهد فيه السابقون، وفيما يستجد من مسائل اقتضاها تغير الأحوال وتقدم الزمان. وتلك من فضائل الإسلام، وصلاحيته فقها، وتشريعا لكل زمان ومكان. لم يكن السلمون، مع علمائهم، كغيرهم، الذين يعتبرون كلام (رجال دينهم) وحيا واجب الاتباع، ومن خرج عليه كان جزاؤه (الحرمان) . دُلّوني - إن استطعتم، ولن تستطيعوا - على دين ربَّى أمته على الحرية الفكرية إزاء أقوال علمائه كما قرر تاريخ المسلمين، وكما نص عليه كبار أئمتهم، حتى إنهم هم الذين يفتحون باب نقدهم على مصراعيه. إنكم تفاخرون بقول (فولتير) لمخالفه في الرأي: أنا أخالفك في الرأي، ولكني سأدافع عن حقك في إبداء الرأي إلى آخر قطرة من دمي وهذا حسن، ولكن متى وصلتم إلى هذا؟ وهل أقرته الكنيسة؟ إنه كان بعد عصور من كبت الرأي، واحتكار تفسير الكتاب المقدس، وقد سجن (فولتير) بأمر الكنيسة. ثم لم يكن ذلك إلا في منتصف القرن الثامن عشر، على حين كان المسلمون قد تمتعوا بهذه

فما شأن الأناجيل؟

الحرية الفكرية قرونا طوالا، كان من ثمارها هذه الثروة الفقهية الواسعة، التي بهرت علماء القانون من الغربيين، حتى قال عميد كلية الحقوق الألماني: إنه سوف يكون سعيدا إذا ما وصل القانون عندهم، بعد ألفي سنة، إلى ما وصل إليه الفقه الإسلامي!! أين هذه الشهادة، من عالم متخصص، من عيبكم مالا يعاب؟ الفرق بين القولين فرق ما بين حكم العالم، وتحريف الجاهل!! 44 - وبعد، فما لكم وهذا (الاجتهاد الفقهي) وآثاره الطبة في الفكر وفي العمل - واتخاذه عيبا يعيب به من لا يفقه. وأين من اختلافكم في طبيعة معبودكم، المسيح. هل هو ذو طبيعة واحدة إلهية، أم هو ذو طبيعتين إلهية وإنسانية، وأدى ذلك إلى مذهبين لا يلتقيان على ود، وكنيستين لا يجتمعان على عقيدة؟!! وأين هذا الاجتهاد الفقهي من اختلافكم على (كتابكم) ؟ فالعبرانيون ينكرون التوراة التي عند السامريين، والسامريون ينكرون التوراة التي عند العبرانيين، وهذه وتلك إنما كتب بعد السبي البابلي الذي كان سنة 586 أي بعد موت موسى بما يقارب ستة قرون!! أما كتب الأنبياء من بعد موسى، والملحقة الآن بالتوراة فإن السامريين يرفضونها كلها، ولم يقبلوا إلا ما نسب إلى موسى. والنصارى يقدّسون التوراة العبرانية وكذلك أسفار الأنبياء. فما شأن الأناجيل؟ وهل هو إنجيل واحد؟ لا، بل أناجيل عدة كتبها كاتبون! وأقدم نسخ الأناجيل مترجم عن نسخة لم تعرف، ومترجمها لم يعرف. وأول (فن) الترجمة: أن تعرف النسخة المترجمة، وأن يعرف المترجم، ومدى قدرته على اللغتين. . إلى آخر هذا. وكله غير معروف. وهذا كله حقائق تاريخيه، لا ينكرها منكم أحد. لقد حفظ تاريخ الكتاب المقدس أناجيل عدة، ولا سيما زمان اعتراف الرومان بالنصرانية

مذهبا رسميا للدولة. ولكن المجامع الكنسية اختارت هذه الأربعة اختيارا لم يقم على الأسس العلمية، بل كان عشوائيا بأسلوب القرعة!! وبناء على هذه القرعة غير العلمية اعتبروا باقي الأناجيل (أبو كريفا) وهي لفظة معناها: الكتب المزيفة. وتبلغ هذه الأناجيل المرفوضة خمسة وسبعين. منها إحدى عشرة رسالة تنسب إلى بطرس. فخبرونا عن الأسس العلمية في قبول ما قبل، ورفض ما رفض! فلسنا نعلم، ولا أحد يعلم أيها الصحيح وأيها الباطل، وأيها الناسخ وأيها المنسوخ. إن (قياس) الارتداد عن الإسلام على النسخ وعلى تنوع آراء العلماء قياس باطل لجملة هذه الفوارق التي ذكرتها، ولا يقيس، مع وجود الفارق، إلا من لا يعلمون وحسبكم مسألة الاختلاف في معبودكم وكتبكم ردًّا عليكم، وخلانا ذم!!

السؤال الثاني لماذا حرم على غير المسلم دخول مكة والمدينة.

السؤال الثاني لماذا حرم على غير المسلم دخول مكة والمدينة. وفي المقابل: المسلم حر الحركة سواء في أوربا وأمريكا، أو أي مكان فيه كرة مسيحية. فأين العدل والمساواة؟ أليس هذا ينم على أنكم لستم متسامحين؟ أو أنه ليس عندكم ثقة في دينكم. ولماذا لم تسمحوا بالحركات التبشيرية في داخل مكة والمدينة؟ هل تخافون أن يترك المسلمون دينكم ويدخلوا في المسيحية؟ أين الثقة في دينكم؟ * * * جواب السؤال الثاني 1 - ليتكم تستحضرون ما بت آنفا، وأوصيتكم بصحبته طوال البحث - من طبيعة العقوبة في ذاتها، وطبيعة العقوبة في الإسلام، والطبيعة القانونية لليهودية والمسيحية والإسلام. فإن صحبة هذا البحث معين للسائل المنصف على التعرف على الحق. ويغنيه عن كثير من الأسئلة، ثم ليتكم تذكرون خاصة الإسلام من أنه دين وسياسة وقانون. 2 - ماذا تنكرون من الإسلام؟ تحريم مكان على غير أهله؟ ألا تذكرون ما في سفر يشوع؟ هذا بعض ما في إصحاحه السادس: "وكانت أريحا مغلّقة مقفلة بسبب بني إسرائيل. . . اهتفوا، لأن الرب قد أعطاكم المدينة، فتكون المدينة وكل ما فيها مُحَرَّما للرب. . . وتجعلوا محلة إسرائيل محرَّمة، وتكدِّروها، وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسا للرب. .. وأخذوا المدينة وحزموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى

البقر والغنم والحمير بحد السيف. .. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. .. وحلف يشوع في ذلك الوقت قائلا: ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا. وفي ص 8: قال الرب ليشوع: قم اصعد إلى عاي. قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه، فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها. . . ويكون عند أخذكم المدينة أنكم تضرمون المدينة بالنار كقول الرب تفعلون. .. ودخلوا المدينة وأحرقوها بالنار. . . فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثنى عشر ألفا جميع أهل عاي. . . وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبديا حراما إلى هذا اليوم. .. وفي ص 9:. . وقالوا: أخبر عبيدك إخبارا بما أمر الرب إلهك موسى عبده أن يعطيكم كل الأرض ويبيد جميع سكان الأرض من أمامكم. وفي ص 12:. . . وهؤلاء هم ملوك الأرض الذين ضربهم يشوع وبنو إسرائيل في عبر الأردن. . وأعطاها يشوعُ لأسباط إسرائيل حسب فرقهم. وفي ص 13: وقد بقيت أرض كثيرة للامتلاك. . أنا أطردهم من أمام بني إسرائيل، إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل مُلكا. هذا بعض ما عندكم. تحريق وتحريم وطرد وقتل بالنار والسيف. فهل يليق منكم أن تسألوا الإسلام عن مساحة محدودة حرّم دخلوها على غير المسلمين، مجرد منع من الدخول، لا تحريق ولا قتلا بالسيف ولا حرقا بالنار حتى لما لا تكليف عليه من الحيوان! 2 - فماذا تنكرون؟ دخول مكة والمدينة؟

ما شأن مدينة الرسول ها هنا؟ إن إقحامها في السؤال جهل من السائل بشريعة الإسلام. فهذا التحريم خاص بمكة وحَرَمها. أما مدينة الرسول فلا يشملها هذا التحريم. ولا مسجد الرسول نفسه. وقد قال الإمام الشافعي: لا بأس أن يبيت المشرك في كل مسجد إلا المسجد الحرام. انتبهوا من فضلكم، لا بأس أن يبيت في كل مسجد. فغير المسلم لا يسمح له بدخول المدينة فقط، بل يسمح له بدخول مسجد الرسول، والمبيت فيه. خبرونا بربكم تسامح هذا أم تعصب؟ ومعروف أن بيوت زوجات الرسول ملاصقة لمسجده بالمدينة وكانت اليهود يزورون الرسول في منزله. وكانت اليهوديات يزرن زوجات الرسول. ودخل مرة أبو بكر على عائشة وعندها يهودية جاءت لترقي عائشة فقال لها أبو بكر: ارقيها بكتاب اللَّه. فها هنا أمران مهمان جدًا. - أولهما السماح لأهل الكتاب رجالا ونساء بدخول بيوت النبي عليه السلام. وثانيهما السماح لليهودية، لما اشتكت عائشة، أن ترقيها اليهودية ولم ينكر أبو بكر، بل قال لها: ارقيها بكتاب اللَّه. وسأل الربيع بن سليمان الشافعي (1) : أرقي أهل الكتاب المسلمين؟ فقال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب اللَّه أو ذكر اللَّه. إن الإسلام أباح هنا دخول أهل الكتاب معقل الإسلام ومنزل الوحي. بل اسمعوا: لما حضر نصارى نجران إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنزلهم مسجده، ولما حضرتهم صلاتهم، وهم بعض الصحابة بمنعهم، فمنع الرسول الصحابة، وأذن - صلى الله عليه وسلم - للنصارى بالصلاة في مسجده.

_ (1) موطأ مالك 2 رقم 934، المجموع 19: 71، 72.

في حوار ودّي بيني وبين راهب إيطالي، في جامعة الطب، في مدينة (برشا) الإيطالية، ذكرت له - قبل بدء الحوار، هذه الواقعة، فأخذه العجب، وقال لي في أي مسجد؟ فلما علم أنه مسجد الرسول، وفي حضوره ازداد عجبا وإعجابا. أهذا تسامح أم تعصب؟ ثم أين الخوف الذي تزعمون؟ إنه لم يسمح لهم بمجرد دخول المدينة، ولا بمجرد دخول مسجده في المدينة، وإنما بالصلاة فيه! فأين ما تزعمون من خوف على المسلم أن يتنصر؟ أم هذا من خيالات الافتراء، والاجتهاد في اختراع المعايب؟ ومع هذا التسامح تسامح مكمل، إذ لا حرج على المسلم أن يصلي في الكنيسة والكنيس. وقد صَلَّى أبو موسى الأشعري، أحد كبار الصحابة في الكنيسة، وكذا الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، المعدود خامس الخلفاء الراشدين! أو ترون هذا من التسامح، أم ترونه من التعصب المزعوم؟ ألا ترونه من الحرية الدينية، والاعتراف بالآخر، واحترام ما عليه من اعتقاد، وإن كان المسلم لا يقره، بل يراه كفرا! فما شأن مكة المكرمة؟ في ثدوة بيني وبين خمسة من رهبان إيطاليا في مدينة (أنكونا) ، قال لي أحدهم، على جهة التحدي: بنينا لكم مسجدا في روما فهل تبنون لنا كنيسة في مكة أو في المدينة؟ وهو يقصد بمسجد روما المركز الإسلامي الذي تم إنشاؤه في ضاحية روما، بعد مفاوضات طويلة، واختير له مكان منخفض وبعيد جدا عن مبنى الفاتيكان، وشرط ألا ترتفع مئذنته، لذلك تراها لا تتناسب هندسيا وضخامة المبنى، واتساع أرضه، ومرافقه (وطبعا كل هذه الشروط من التسامح المسيحي المزعوم) !

قلت لمحاوري: ها هنا ثلاثة أمور: 1 - الإسلام دين، ودولة، وسياسة. ودستوره القرآن فهل الإنجيل كذلك؟ أجابني فقال: لا. 2 - قلت: مكة حرم الإسلام، وهي والمدينة منزل الوحي، ومستقر نبيه، ومستودع تاريخه. فهل بنيتم مسجد روما في حرم الفاتيكان. أجاب: لا، قلت: إذًا قياس بناء مسجد روما على عدم بناء كنيسة في مكة قياس باطل. 3 - قلت: المسلمون يبنون المساجد بأمر القرآن، ورفعوها بأمر القرآن. ومسجد الرسول بالمدينة عين مكانه (ناقة مأمورة) عندما دخل الرسول المدينة، وأخذ أهلوها بزمام ناقته، كل يريد أن ينزل عنده، فقال لهم، خلو زمامها فإنها مأمورة. فبركت، ثم قامت، فسارت، ثم التفتت فعادت إلى مكانها، فنزل الرسول وقال: ها هنا المنزل إن شاء الله. واشترى المكان، وبنى فيه المسجد. فهل تجدون في الإنجيل أمرا ببناء الكنائس؟ أم صاحبها (شاءول) أو (أوغسطين) على ما بينا آنفا؟ قال: ما تقول حق. قلت: شكر الله لك إقرارك بالحق، ولكن - وقد علمت أنك تدرس دراسات عليا في التاريخ - عليك أن تحقق معلوماتك. قال: لك حق. ثم تصافحنا، وانصرف كل إلى شأنه. من أجل ذلك ييطل الاحتجاج ببناء مساجد في بلاد نصرانية، فتلك كنائسهم كثيرة في بلاد المسلمين. * * * 4 - وفي جميع أنحاء إيطاليا يثير الإيطاليون هذا الاعتراض الذي أثاره معي هذا

الراهب، مما جعلني - في تطوافي في مدن إيطاليا - أذكر هذا الحوار؟ لتكون إجاباته سندًا للمسلمين. وقد قوبلت منهم هذه الإجابات بالرضا والاستبشار وفي مدى علمي، انقطعت إثارة هذا الاعتراض. إذا منع الإسلام غير المسلم من حرم مكة، فأمر ليس بغريب. ففي سفر يشوع ص 6 أن يشوع أحرق أريحا، وحرمها عليهم، وقال: ملعون من يبني أريحا "وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحدّ السيف " وكذلك فعل بمدينة (عاي) . وفي ص 9: أن أهل جيعو لما علموا بما فعل في أريحا وعاي أتوا يشوع وخدعوه بأنهم من بلاد بعيدة جدًا، حتى صالحوه بعدما اعترفوا بإلهه واعترفوا أنهم عبيد له. ولما تآمر عليهم الملوك الخمسة من حول بلدهم صعد إليهم يشوع وحاربهم حماية لأهل جيعون الذين خدعوه؛ لأنهم اعترفوا بدينه. وعلى مر التاريخ عرف (المكان المقدس) التي كانت تؤدي مهمة الملجأ للأفراد الهاربين من العنف أو من عقوبة القانون: ففي اليونان القديمة كانت طرق الفرار من الأماكن الحرام تفرض عليها الحراسة. وفي روما كان العبيد يلجأون أحيانا إليها. ويخبرنا العهد القديم، الكتاب المقدس بنبأ مدن للالتجاء، كان يستطع القاتل أن يهرب إليها. .. وجعل قسطنطين الأول من الكنائس المسيحية أماكن للالتجاء. وفي إنجلترا في العصور القديمة كان يسمح للجاني الذي يعترف بجنايته وهو في حرم بالخروج إلى منفى دائم في بلد مسيحي أجنبي. .. ومن الامتيازات الدنيوية التي تضاهي امتياز الحرم تلك الحصانة التي يمكن أن

يكتسبها اللاجئ الذي يعبر حدود دولته، ما لم يكن بين الدولتين اتفاقية لتسليم المجرمين. فأي غرابة، إذن، في حرّم الإسلام؟ ومرحبا بمن يدخل في الإسلام، كما دخل أهل جيعون في دين يشوع فعاشوا في وسط إسرائيل وكان يشوع وجنده حماة لهم! 6 - تقولون: لماذا تمنعون دخول المسيحيين الحرم. هل تخافون أن يترك المسلمون دينهم بفعل التبشير بالمسيحية!! ولعمري إن هذا القول أشبه بالهزل منه بالجد!! فها هي المدينة المنورة أمامكم، وهي لكم مباحة. وها هي نصف مسجد نمرة، حيث يجتمع فيه الحجيج. وها هي (عرفات) حيث يكون فيها كل الحجيج. وها هي أرض المسلمين تشمل أقطار الأرض. فأين أثر تبشيركم فيها؟ ثم ما مساحة الحرم بالنسبة لأرض المسلمين؟ إنه بقعة يسيرة أقل من النقطة في صفحة مبسوطة وها هو الحرم أمامكم مصورًا: (. . .) من هذا الرسم التقريبي يتبين أن منطقة الحرم هي مكة وشريط ضيق حولها.

وتبعد هذه الحدود عن مكة من جهة المدينة ثلائة أميال، ومن جهة العراق سبعة أميال، ومن جهة الطائف عشرة أميال، ومن جهة جدة عشرة أميال، ومن جهة الجعرّانة تسعة أميال، ومن جهة اليمن سبعة أميال. فمن المسجد الحرام إلى عَلَمَي عرفات: 18333 مترا. فمن المسجد الحرام إلى عَلَمَي نخلة: 5 ’ 3353 امترا. فمن المسجد الحرام إلى عَلَمَي التنعيم: 6148 مترا. فمن المسجد الحرام إلى عَلَمَي أضاة: 75 ’ 12009. مترا. أهذا الجزء هو الذي نخاف منكم على أهله، دون أرض المسلمين على اتساعها شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا؟ ويزداد الأمر عجبا، والحرم ضيقا إذا أخذنا برأي الإمام الشافعي بأن المحرم على المشرك هو المسجد فقط مستدلا بظاهر الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) . إن تاريخنا يحفظ أن جبريل، عليه السلام هو الذي أرى إبراهيم مواضع نهايات الحرم من كل جهة على ما عليه هي اليوم، فنصب علاماته، وتوارثتها الأجيال، جيلا بعد جيل. إلى أن جددّ معالمها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فهو عمل من عمل أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، علّمه إياه جبريل، فهو وحي أوحى إلى شيخ الأنبياء، لذلك قال الرسول يوم عرفة: كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. أي أن موقفهم موقف إبراهيم ورثوه منه، ولم يخطئوا في الوقوف فيه عن سنة إبراهيم. إذًا الإسلام ورث هذا الحرم عن إبراهيم، أحيا به مشاعره، وأنتم تعترفون بإبراهيم، فهل تلومونه؟! والمسلم نفسه ليس له الحرية المطلقة في الحرم، بل يحرم عليه أشياء، تحل له خارج الحرم، فيحرم على المحرم وعلى الحلال وغير المحرم ": صيد الحرم وتنفيره، وقطع

9 - نخلص مما تقدم إلى جملة حقائق منها:

شجره، الذي لم يستنبته الآدميون. كما يحرم عليهما قطع الرطب من النبات، حتى الشوك (إلا نوع منه يسمى الإذخر والسنا. كما يحرم التقاط لقطه، إلا لمن يعرفها. بل الدولة نفسها مقيدة الحرية في الحرم، فلا يحل للحاكم أن يقيم القصاص (قتل القاتل) في الحرم، لأن الله - تَعَالَى - يقول: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) . كذلك تكره إقامة الحدود فيه. والصلاة فيه مضاعفة، فقد جاء في الحديث عن الرسول: "صلاة فى مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ". كذلك الذنب فيه يضاعف، بل إن مجرد الهم بالمعصية يحاسب عليه صاحبه. والأصل أن اللَّه تجاوز للأمة عما همت به ولم تفعله. * * * 9 - نخلص مما تقدم إلى جملة حقائق منها: أن البيت الحرام وحرمه قديم قدم الإنسان، بل أقدم منه، فقد حجه آدم. والبيت المحرم على سمت البيت المعمور، في السماء، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه، ثم ينزلون فيطوفون بالبيت الحرام. والإسلام ورث هذا البيت وحرمه، وكانت الجاهلية على تعطمه، وكان ذلك مما بقي فيهم من دين إبراهيم. وعرفت كسوة الكعبة من قبل الإسلام، وتذهب بعض المصادر التاريخيه إلى أن إسماعيل بن إبراهيم قد كسا الكعبة. وتوارث العرب كسوتها، وكانت أول امرأة كستها في الجاهلية هي (نبيلة بنت حباب) أم العباس بن عبد المطلب، كستها بالحرير والديباج. وجعل حرم للكعبة أمر لا عجب فيه، فقد عرف (الحرم) في تاريخ الدول

وقد سمى اللَّه الكعبة، البيت الحرام، ونسبها إلى نفسه، فقال: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) . وقال: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) . البيت بيت الله، والحمى حماه، فأي عجب أن يحمى منه من جعل الإله جسما يتمشى ويتنزه ويصارعه إسرائيل، أو جعله إنسانا يأكل ويشرب. ثم يقضي حاجة الطعام والشراب. ثم يضرب ويبصق في وجهه. . . ألا فليؤمن المعترض بالله على وجه الإيمان الصحيح ومرحبا به في بيت اللَّه وحرمه! لقد رأيت بعيني حرس الفاتيكان يمنعون المتبرجات المبالغات في التبرج. من دخوله، ورأيت الجنود، عند بابه الرئيسي يمنعون امرأة ورفيقها، كانت عارية الذراعين، ولم تشفع لها مسيحيتها، ولا محاورة رفيقها، والجندي الحارس يشير له إلى ذراعيها. وعندي أنه تصرف حسن، لما يجب من احترام (حرم الأديان) ، ومعتقداتها، هذا أدب إسلامي، إذ أمرنا أن نترك غيرنا وما يدينون به. وقد ذكر أبو الوليد الأزرقي في (أخبار مكة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح لما دخل الكعبة أمر بمحو كل الصور إلا ما تحت يده، فلما رفعها كان ما تحتها صورة عيسى ابن مريم وأمه!! فإذا منع الإسلام غير المسلم من حرم الإسلام، فما فعل بدعا، وما شرع منكرا. 10 - إن منع غير المسلم من حرم الإسلام ليس مجرد منع فرد أو أفراد، إنما هو منع لاختلاط منهجين مختلفين في نظرتهما للكون والحياة والإنسان. نظرة تبدأ من الاعتقاد إلى أيسر السلوك الإنساني، نظرة أيد الواقع التاريخي لمعركة الإسلام مع الشرك أنهما ضدان لا يجتمعان، ثم أيد هذا الواقع الوقائع التالية عندما ثبتت دعائم الإسلام وخافه جيرانه من النفوس والروم. وقائع تؤكد أن هذا التعارض ليس فلتة عارضة من فلتات الطبع، وإنما كان تعارضا حقيقيا اقتضته طبيعة اختلاف الرؤيتين. إنه واقع ينطق بحق الإسلام في محو الشرك من جزيرة العرب، واعتبارها كلها مركز أمة الإسلام، فلا عجب أن يطهرها من الشرك.

والدول الآن، جميعها تعترف بحق كل دولة أن تمنح الدخول في أراضيها كلها، أو أن تمنع، أو أن تقيّد، أو تطلق، بحسب رؤيتها الدولة المانحة أو المانعة. هذا مبدأ أقرته السياسة الدولية الحديثة، وليس من حق دولة أخرى الاعتراض أو التدخل في قرارها. وقد تستبيح الدولة الحديثة، لمجرد الخوف أو الاشتباه، أن تنفي الأجانب النازلين فيها، أو تحجر على حرياتهم وحركاتهم، وتخضعهم للرقابة والتفتيش والأجانب، على كل حال لهم معاملة خاصة دون أصحاب الحقوق الوطنية، فليس للأجانب نصيب منها. وحق الإقامة الدائمة مشروط في كل الدول بشروط، منها ما يقيد حرية الشخص في أخص خصائصه كحق الزواج. هذا بينما القاعدة العامة في معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية هي: لهم ما لنا وعليهم ما علينا!! وتلك غاية المراد من مراعاة حقوق الإنسان وواجباته. إن المسلم مأمور - بحكم إسلامه - أن يؤمن بجميع الأنبياء من قَبل محمد (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) . في خطاب عام لعمدة نيويورك قال ما معناه، يخاطب المسلمين: إنه من غير شك يحسب لكم جماعة المسلمين أن إسلام أحدكم لا يتم إلا بالإيمان بجميع الأنبياء. هذا وإنما اليهودي لا يؤمن بالمسيح ولا بمحمد وما زال اليهود ينتظرون المسيح الحق بزعمهم. والمسيحي لا يؤمن بمحمد فأي غرابة أن يمنع هذا وذاك من حرم الإسلام الديني، حتى يؤمنا بمحمد؟ فإن فعلا فمرحبا بهما في كل شبر من حرمه ومسجده. ولا منَّة، إذًا، بالسماح للمسلم في دخول الكنيسة، أو الكنيس؛ لأن المسلم مؤمن بموسى وعيسى، ولا يتم إسلامه إلا بالإيمان بهما، وبما أنزل عليهما من التوراة والإنجيل، وقد صلى أبو موسى الأشعري، وعمر بن عبد العزيز في الكنيسة.

11 - الحرية حق ووظيفة:

11 - الحرية حق ووظيفة: ما هذه الحرية التي كثيرا ما تعيرون المسلمين بها كأنها شيء من مبتكراتكم، وكأن الدنيا كلها محرومة منها، وأنتم، وأنتم فقط، الذين تستمتعون بها. الحرية حق قرره الإسلام إذ كانت شعوب العالم كلها ترزح تحت عبودية سياسية تدعمها السلطات الدينية. كما يدعمها الفكر الفلسفي منذ أرسطو. ثم فاء إلى هذا الحق شعوبُ الغرب. بعد أن سيّرها حكمها الديني الاستقراطي في نفق ممدود الظلام، بعد حروب غطت دماؤها أرض أوربا. فكانت (الحروب الدينية) سلسلة حروب أهلية في فرنسا 562 1 - 1598) ستا وثلاثين سنة، وكانت نضالا بين البروتستانت والكاثوليك، وتميزت هذه الحروب بارتكاب الفظائع من الجانبين. وانتهت الحروب الثلاثة الأول (561 1 - 63، 567 1 - 68، 68 - 70) في صالح البروتستانت. وبدأت مذبحة عبد سان بار ثلميو الحرب الرابعة (572 1 - 1577) وانتهت الحرب الخامسة (574 1 - 1576) بصدور مرسوم يوليو الذي منح حرية العبادة في فرنسا كلها ما عدا باريس. وكوّن الكاثوليك (1576) العصبة المقدسة وحملوا هنرى 2 على إلغاء مرسوم التسامح (1577) ونشبت حرب سادسة (1577) انتهت بتثبيت مرسوم يوليو ولكن هنري لم يعن بتنفيذه. وقامت الحرب السابعة 1585. وكانت حرب الفلاحين 524 1 - 26 والتي وقف ضدهم مارتن لوثر، وهي الحرب التي أطالت عمر رقيق الأرض حوالي ثلاثة قرون. وفي تاريخكمْ حرب السنين السبع (756 1 - 63) . وفي تاريخكم حرب السنين العشر (868 1 - 878 1) . وفي تاريخكم حرب الثلاثين عاما (618 1 - 48) وهي حرب أوربية عامة، كانت

ألمانيا مسرحها الرئيسي. وفي تاريخكم الحرب السبعينية وهي الحرب الفرنسية الألمانية والتي كان الشعب الفرنسي يهتف لها في الشوارع: إلى برلين لتحيى الحرية وحرب المائة عام التي كانت بين إنجلترا وفرنسا، وارجعوا إلى (مادة حرب وحروب) في الموسوعات تجدوا ما يسركم، ولولا خشية الكلال، أو الملال لذكرت من تاريخ الحرية المذبوحة عندكم ما يندى له الجبين، ولكن (الحر) تكفيه الإشارة. 12 - في هذا المعترك تخبط مفكرو الغرب وفلاسفته في تعريف الحرية. وتناقضت تعريفات (لوك) و (كانت) و (سبينوزا) و (رسع و (هيجل) وغيرهم. ونزعوا إلى تعريفات ميتافيزيقية لا علاقة لها بواقع الحياة. وقد أدى ذلك إلى إعادة بحث المشكلة في صورة أكثر واقعية، هي صورة الإنسان في المجتمع. فالإنسان ليس كائنا منعزلا حتى تتحقق حريته بتصرف إرادي من جانبه وحده، وإنما هو يعيش في مجتمع، ويخضع لدولة، ومن ثم لا محل للحديث عن حرية مجردة، باعتبارها أمرا يخص الفرد وحده. وهم - مع ذلك - لم يسلموا من التناقض، فمنهم من نظر إلى الحرية من زاوية الفرد. وتحييد سلطة الدولة. وآخرون إلى جانب المجتمع فجعلوا الفرد في خدمة المجتمع، ولو قضى ذلك على حريات الأشخاص. وبهذ التناقض اضطرب واقع الإنسان الغربي بين حرية مثالية مع الفقر والجوع، وبين (حرية العدالة والمجتمعما مع قهر الرغبات الفردية والغرائز الطبيعية!. إن (الحقوق) في الشريعة الإسلامية تعتبر (وظائف) يستخدمها الفرد) طوعا لخدمة (المجتمع) ، وليست هي مجرد (رخص) يمارسها أو لا يمارسها. فقد آثر الإسلام أن يقيم (المجتمع) على (مسئوليات) على أن يقيمه على (حقوق) . وفي (المسئولية) إذكاء لإيجابية الفرد، ويقظة ضميره، وبعث الحركة وئيدة نحو الصالح العام.

13 - هذه كلمة حول مفهوم (الحرية) تبين أن تمحُّك السائلين بالحرية للطعن في الإسلام، إنما هو مغالطات لفطة بعيدة عن الواقع، تتجاهل مآسي تاريخها، وتبحث عن معايب لغيرها، مع البعد في هذا وذاك عن المنهج العلمي والواقع التاريخي. 14 - فعندما تتخذ (دولة) ، والإسلام دولة، من القوانين ما يحمي حقيقتها. فذاك مبدأ مسلم اليوم في كل فكر، وكل سياسة. لكن اسمعوا: اسمعوا مبلغ الحرية في فقه إمام الفقهاء، أبي حنيفة، إذ يقول: يدخل المشرك المسجد الحرام لحاجة، أو لغير حاجة، وبصرف النظر عن عدم موافقة فقهاء المسلمين على رأيه، إنما أحببت أن أطلعكم على مدى حرية الرأي عند علماء المسلمين. قلت: ولعل الإمام أبا حنيفة يرى المنع فى قوله - تَعَالَى - (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) إنما هو منعهم من الحج؛ لأن الآية لما نزلت بعث الرسول عليا. وأمره أن ينادي في المشركين: ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ما قولكم الآن؟ إمام هو أحد الأئمة الأربعة يرى منع غير المسلم إنما هو من المسجد فقط. وهذا إمام، هو رأس الأئمة الأربعة، يرى أن المنع إنما هو من الحج، وما عداه فللمشرك أن يدخل المسجد لحاجة أو لغيرها! أترونه خفي عليه تبشيركم؟ 15- إن الحركات التبشيرية، منذ القرن التاسع عشر، في العالم، ولا سيما في أفريقيا، لم تستطع أن تخرج الوثنيين إلى المسيحية وكانت أعجز عن إخراج المسلم من دينه.

لقد كان المبشر يقضي عشرات السنين في تبشيره فما يظفر إلا بفرد واحد، أولا يظفر بأحد. ومن يستجيب له إنما يستجيب لما يقدم إليه من مال، وطعام وعلاج. وما هذه بدعوة إنما هي خطاب للبطن!! هذا هو واقع التبشير مع ما معه من أموال تمده، وجمعيات ترعاه، وحكومات تدعمه، وفي حالة نفسية سيطر فيها (الفوبيا) (1) على المبشرين. وفي مقابل هذا كان الإسلام، وهو لم يظفر بمبشرين على نحو ما تيسر للمسيحية، وما ظفر به لم يكن من ورائهم جماعات ولا جمعيات، ولا حكومات. ومع هذه الفوارق كان هناك التضييق الاستعماري على الإسلام، والطعن فيه على نحو لم يلتزم قواعد العلم والأخلاق، ثم كانت الثمرة زحف الإسلام مع فقده سلطانه السياسي والحربي، ذلك لأن الإسلام، بذاته، يخاطب العقل، ويمس الفطرة، فتجد فيه طلبتها، وجواب ندائها، وشوقها إلى مصدر الحياة، وحقيقة الكون والوجود، فتعلو به على مطالب الجسد والمال. ولو راجعتم تاريخ الاستشراق، وتاريخ التبشير، منذ تراجع العالم الإسلامي عن مكانه، ونشاط الحركات الاستعمارية والتبشيرية - لو راجعتم هذا التاريخ لسخرتم من أنفسكم، ولضحكتم في أكمامكم - على نحو ما يقول المثل الأمريكي، حين زعمتم خوف المسلمين من التبشير في مكة والمدينة. 16 - وأختم جواب سؤالكم هذا بهذه الواقعة التاريخية لمن يبحث عن الحق والحقائق: هذه الواقعة ذكرها (أليكي جورافسكي) في كتابه: (الإسلام والمسيحية) يقول ما خلاصته: كان الحديث عن الإسلام، والتبشير بالمسيحية يعتمد على تشويه الإسلام، ووصف نبيه بالنبي المزيف، وتشويه سيرته، وتلوينها بكثير من الحكايات الخرافية (كما قال

_ (1) الفوبيا: مصطح في علم النفس يعنى: الخوف المرضي، ولقد سيطرت هذه الحالة المرضية على فئات اجتماعية وغيرها من الأوربيين بالمعنى الحرفي للمصطلح.

غليوم الطرابلسي. ت بعد سنة 271 1م) - بعد هذا الموقف جاء الموقف المغاير الذي سلكه مؤسس رهبنة الفرنسيسكان (فرنسيس الأسيزي) ت سنة 1226 وهو الوقف السلمي. وقد قام فرنسيس برحلة تبشيرية إلى مصر في سنة 219 1م حيث وصل إلى دمياط في زمن الحملة الصليبية السادسة، بقيادة (جان دي بريين) في عهد الملك الكامل الأيوبي. وبعد حصار دمياط الذي لم ينجح، وفي الفترة التي عقدت فيها الهدنة، سار الأسيزي، مع زميل له يدعى (إلوميناتو) قاصدين معسكر المسلمين وطلبا مقابلة الملك الكامل، في تشرين الثاني سنة 1219، فقادهما الجند إليه. وأخذ فرنسيس يشرح معنى الثالوث، للملك، الذي أصغى إليه برحابة صدر. وقد قدر الملك الكامل هذين الراهبين المسالمين المتواضعين اللذين لا يحملان السلاح. وإذ شعر الأسيزي برحابة صدر الملك المسلم وتسامحه الكبير بادر من طرفه بدعوة الملك إلى اعتناق المسيحية. مع استعداده للبقاء إلى جانبه في يعلمه حقائقها. وقد سجل (دانتي) هذه الواقعة التاريخية في (الكوميديا الإلهية) الفردوس، الأنشودة الحادية عشرة، الأبيات من مائة - مائة وخمسة!! أقول: وقع هذا التسامح في الوقت الذي جاء فيه الصليبيون تحت شعار: تخليص القدس وموطن المسيح من الكفار المسلمين! فماذا ترون في هذه الواقعة التي يسجلها مؤرخ غير مسلم؟ وماذا ترون في هذا التاريخ؟ أترك الجواب لكم. بعد: فهذه مدارس الاستشراق والتبشير تملأ العالم الإسلامي منذ نشاط الاستعمار في القرن التاسع عشره فكم نصَّرتْ؟. أنا أعلم أن عند الجهات والمؤسسات الدينية المسيحية إحصاءات بذلك، ناطقة بالفشل، فارجعوا إليها، إن شئتم، لعلكم تستحون!!

السؤال الثالث: لماذا العقاب في الإسلام غير منطقي؟

السؤال الثالث: لماذا العقاب في الإسلام غير منطقي؟ العقاب في القرآن لا يتناسب مع الجريمة؟ القرآن، وأقوال رسولكم يناقض بعضها بعضا: تقولون: إن إلهكم رحمن رحيم. ورسولكم يقول: إن الله أرحم من الأم على ولدها. فهل يعقل أن الأم تخلد ولدها في النار، مهما كان ذنبه؟ فكيف تريدون من إنسان أن يؤمن بإله يخلد عبيده في النار؟ وأي جريمة يستحق فاعلها الحلود في النار؟ أين الرحمة؟ وأين العدل؟ * * * جواب السؤال الثالث: نرجو، قبل الجواب، أن ترجعوا إلى ما تقدم عن طبيعة العقوبة. 1 - تبدءون سؤالكم عن عدم تناسب العقوبة والذنب، بالسؤال عن عدم المنطقية. والمراد (بالمنطقية) : العقل، وسلامة منهج التفكير، وانتهاء المقدمات إلى نتائج تتناسب ومقدماتها. ونحن معكم في ضرورة هذه المنطقية، وضرورة وجودها فيما شرع الدين من أحكام. ونحن نعلم من ديننا الإسلام، أنه يقيم عقائده على بَدَهِياتِ العقل، وأوائل الحس. وما من دعوة، في الإسلام، إلى عقيدة من أصول الاعتقاد، في الإلهيات، والنبوات، واليوم الآخر - إلا أقام لها الدليل العقلي. والقرآن عُنيَ بالدعوة إلى التعقل، والتفكُّر، كما أن القرآن غني بالدعوة إلى العلم، ودراسة الكون، والتفكر في خلق السماوات والأرض، وآيات اللَّه فيها، فكان بهذه الدعوات كتاب دين، يقوم على العقل والعلم، العلم بمعناه التجريبي، الذي يقوم

على ملاحظة المحسوس، ومراقبة الظواهر الطبيعية، وافتراض الفروض، لتفسير حصولها، ثم استخلاص القانون المفسّر للظاهرة. ثم الرجوع بذلك كله إلى (علة الخلق الأولى) وبارئها الواحد الأحد! نعم ذاك (منطق) القرآن والإسلام! 2 - فماذا عن (المنطقية في كتابكم) ؟ - هل تجدون (منطقية) في جعل الذوات الثلاث ذاتا واحدة؟ - هل تجدون (منطقية) في جعل قولكم: مولود غير مخلوق. والعقل والعلم حاكمان بأن المولود لا بد أن يكون مخلوقا! - وهل وجدتم منطقية في أن (الإله) يأكل ويشرب، ثم يغوط وييول مضطرا إلى الذهاب إلى رست روم. - هل تجدون منطقية في اعتقادكم في إله يُضْرب على رأسه بالشوك، ويبصق على وجهه؟ فإن كان من فعل به ذلك هو الإله الحق فأي إله هذا؟ وإن كان إن كان إلها مع اللَّه، كما تقولون، فما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر، فيجوز - على زعمكم - أن إله الكون: اللَّه الخالق أن يضرب، ويبصق عليه، ويصلب، ويدفن. . - تَعَالَى - اللَّه عن ذلك علوا كبيرا! إن منكم من رفض ذلك وعلى سبيل المثال (أبيلارد) سنة 1142 الذي سخر من آلام المسيح والتثليت وكانت دعوته إفاقة أوروبا من قيود دينكم وطالب فيها بتحرير العقل من كل قيد. وكانت دعوته أول دعوة في سبيل النهضة. وكان أغسطين يقول أنا مؤمن لأن ما أومن به لا يتفق والعقل. وديكارت - مع مذهبه العقلي كان يجهر بأن عقيدتكم فوق العقل بمعنى تناقضها مع العقل. - بل حدثونا عن أي درجة من المنطقية في أنه "غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه" (رؤيا يوحنا ص: 1) . - بل نبئونا على أي درجة من المنطقية في قوله الإله. في رؤيا يوحنا (ص: 1) : كنتُ

ميتًا وهأنا حيٌّ!! - بل خَبرونا، وايم الحق، كيف تجلّى (الإله) خروفا كأنه مذبوح، ليوحنا في رؤياه؟ - وأي منطق في اعتقاد إله يندم على بعض ما فعله، ولا يستطع أن يكفر خطايا البشر إلا أن يظهر للوجود من خلال رحم امرأة، ثم يضرب.. أي إله هذا؟ - وهل من المنطق أن يجرّم ويرث إثما لم يفعله، إنسان يولد بعد آدم وهل يورث الإثم من فاعله إلى من لم يفعله؟ وأن تكفيره لا يتم إلا بالعماد. وعلى ذكر العماد، من الذي ابتدعه؟ هل قال به المسيح؟ منذ ما لا يزيد على مائة عام كان طفل أوربا، الذي مات قبل (عماده) يلقى في صناديق القمامة ثم هو - بزعمهم - يخلد في النار!! أي عقل، وأي منطق، بل أية رحمة يا من تسألون عن الرحمة. في ندوة لي في مدينة (برشا) بإيطاليا سمع ذلك مني بعض الإيطاليين فقالوا: وما زال إلى اليوم يعدّ منبوذا!! حدثونا - بربكم - ما جريمة هذا الطفل؟ وهل كانت عقوبته متكافئة مع ذنبه (يا من تسألون عن تكافؤ العقوبة مع الذنب في الإسلام) ألا ترون أن هؤلاء الأطفال عوقبوا بما لم يأثموه؟ هناك مجلد كبير باسم (معجم الكتاب المقدس) سلوه - إن كان ينطق - هل فيه لفظة واحدة عن مادة العقل، أو الفكر أو مشتقاتهما؟ ثم تأتوننا تسألون عن المنطق؟ 3 - وتسألون عن إلهنا الرحيم كيف يكون جبارًا، وكيف يخلِّد المذنب في النار؟ وما ذاك الذنب الذي يستوجب الخلود في النار؟ * * * اذكروا ما تقدم، من نصوص كتابكم المقدس عن عقوبات (إلهكم الرحيم) بقتل أهل القرى التي يحتلها يشوع، وكل ما فيها حتى الأنعام، ثم حرقها!! رحمة مثالية حتى بالبهائم!!

وحكم السارق الذي يحرق هو وبنوه وبناته الذين لم يشتركوا معه في ذنبه!! رحمة مثالية يحق لكم معها أن تسألوا عن رحمة إلهنا!! (يشوع ص 7) . يقول الفيلسوف اليهودي (سبينوزا) : وأية فكرة تأخذها من الأقاصيص التي تجدها في العهد القديم؟ أية فكرة نأخذ عن قصة شمشمون الذي - كان وحيدا وبدون جيش - يقتل ألوفا من الرجال. وعن قصة إليّا الذي رُفع إلى السماء على عربة من نار؟ وماذا عن يشوع الذي حبس الشمس نحو يوم كامل؟ وماذا عن الرب الإله الذي لا يعلم ولا يعرف بيوت الإسرائيليين حتى يجعلوا له عليها علامة من الدم، حتى لا يضربهم، وهو يضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم (خروج ص 12) (تثنية ص 28) : إن لم يسمع لصوت الرب فعليه جميع اللعنات حتى سلّته ومَعْجَنه، وثمرة بطنه وثمرة أرضه، ونتاج بقره وغنمه، ويبيدك من الأرض، ويضربك الرب بالسل والحمى والتَرَداء والالتهاب والجفاف. .. أقول: يا له من رب عدل رحيم: يلعن - بذنب العقلاء - حتى الجمادات! وحتى النسل الذي لم يكن مسته الحياة بعدُ، ثم الإصابة بالسل والحمى. .. ويا له من إله عليم. لا يعلم بيوت شعبه حتى يجعلوا له علامة حسية حتى لا تختلط عليه ببيوت المصريين الذين يضربهم وكل بكر من الناس والبهائم. نعم والبهائم، لأنه مقتضى العدل، ومقتضى الرحمة التي تسألون عنها. 4 - إن المسلمين - بفرض الإسلام عليهم - يقرءون في صلاتهم كل يوم سبع عشرة مرة، على الأقل، سورة الفاتحة، وكلها رجاء ووصف الله) بالرحمة في ذاته، والرحمة في أفعاله، وتخصيصه بالعبادة والاستعانة، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم. والصراط المستقيم لفظ جامع لكل خير، وهو الصراط الذي سلكه خيار العباد من النبيين والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين.

5 - هذه صلاة المسلمين، فما صلاتكم؟ هي كما في (متى ص 6) : "أبانا الذي في السماء، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئك كما في السماء وكذلك على الأرض. خبزَنا كفافنا أعطا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، ولكن نجنا من الشرير" وهناك زيادة في النسخة الأمريكية، هي: "لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد". - فمن الذي زادها؟ وهي تعترف له بالقوة، وكل ذلك من أجل خبز اليوم. - وكون مشيئة الله في الأرض كما هي في السماء لا يتوقف على طلب. أما طلب المغفرة كمغفرتهم، فيا عجبا، أين مغفرتهم على مدى تاريخهم. وهل ترتبط مغفرة الله بمغفرتهم؟ ألا يمكن أن تكون بالتوبة، ألا يمكن أن تكون بالعمل الصالح، ألا يمكن أن تكون من الله منَّة ورحمة؟ وأين ذلك من الوصف الذاتي والفعلي بالرحمة في سورة الفاتحة، فأيهما أمكن في وصف (الإله) بالرحمة؟ الموصوف بالرححهّ البالغة في ذاته (الرحمن) وفي كل أفعاله (الرحيم) . ثم لماذا تطلبون المغفرة؟ أليس (هو) - بزعمكم - قد نزل، ولقي ما لقي ليغفر خطايا البشر؟ فأين المنطق؟ أو ليس مجرد الإيمان (بالمسيح) يكفر الخطايا، كما تقولون؟ فأين المنطق؟ ثم كيف تطلبون منه المغفرة وأنتم لا ترون حصولها إلا (بالاعتراف للكاهن وهو الذي يغفر لكم) فأين المنطق؟ وأيهما أرحم بعباده، الذي يغفر بالتوب بدون وساطة، أم الذي يوسط؟ ومن يوسط؟ عبدا، إنسانا كالمذنب سواء بسواء. بل لعله أطهر منه؟!! 6 - وتسألون منكرين عن الجريمة التي يستحق جارمها الخلود في النار.

7 - وأقول: - هذا الوجود كله، أوله وآخره، ودنياه وأخراه، قائم على حقيقة واحدة، هي: الإيمان بالله الخالق، ووجوب الاستقامة على أمره. واليقين في لقائه. وجزائه للصالحين والطالحين. - وثبوت اليوم الآخر، والفرق بين جزاء الصالحين والمفسدين - ضرورة عقلية، أقرها العقل، وقررها القرآن. إننا نشاهد في الحياة الدنيا، وفي تاريخها: المستقيم والمعوج، والظالم والمظلوم، والمفسد والمصلح. . . إلى آخر هذه الأضداد، ثم نشاهد الظالم والمظلوم يطويهما الموت من غير نصفة ولا جزاء وقد استمتع الظالم بثمار ظلمه ومضى المظلوم بغصته وآلامه، وإضاعة إنسانيته وحقوقه.. فهل يعقل أن تنتهي حياتهما عند هذا الحد، وأمرهما كذلك؟ إن كان كذلك فما أسعد الطغاة والجبارين والظالمين والمفسدين، وما أشقى المستضعفين! لقد مضى الطغاة بطغيانهم وما استمتعوا به. بينما مضى المستضعفون بضعفهم وما شقوا به، مضى الجميع بلا جزاء، بل جنى الظالم ثمار ظلمه مستمتعا، ومضى المظلوم بغصته وآلامه، فما أشقى الحياة!! وما يستقيم هذا في منطق ولا عقل. فالحياة الأخرى ضرورة عقلية وخلقية من هذا الوجه. يقول اللَّه في القرآن: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) . (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) . إذا كان المؤمن المصلح خالدا في النعيم، فمن المنطق أن يكون الكافر المفسد في دارٍ مقابلة تقابل الجزاءين، فإذا كان الأول خالدًا في النعيم، فمن صحة المقابلة أن يكون الآخر مخلدا في الجحيم، هذا هو المنطق. إن المؤمن آمن بالله الأول والآخر،

الباقي أبدًا، فكوفئ - جزاء هذا الإيمان - بالخلود في رحمة من آمن به. وإن الكافر أنكر الخلود، ورأى الحياة مادة، فعوقب بما أنكر. يقول اللَّه: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) . أهذا، عندكم، غير منطقي؟ - لقد رأيت في متحف الفاتيكان، لوحات كثيرة تصور العصاة وهم في سواء الجحيم، وهن يصطرخون فيها، وتصور أبديتهم في هذا الجحيم. فمن أين هذا؟ عساكم تقولون: خيال فنان! وأقول؟ كلا!! إن ذاك الفنان اعتمد على كتابكم المقدس واعتمد على فكرة الأديان كلها: - فهناك بلايين الناس علّمتهم أديانهم أن في الحياة الآخرة مكانا للعذاب يسمى: الجحيم، أو الهاوية. - وجاء في دائرة المعارف البريطانية: أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تعلّم أن (الهاوية) ستدوم إلى الأبد، وآلامها لن تكون لها نهاية. تقول دائرة المعارف. وهذا التعليم الكاثوليكي لا تزال تتمسك به فرَق بروتستانية محافظة عديدة". - وكتابكم المقدس يتكلم عن نار جهنم وبحيرة النار، والترجمة البروتستانية العربية تتحدث عن (نار جهنم) وعن (الطرح في جهنم، في النار التي لا تطفأ) ر. متى ص 5) : إن كانت عينك اليمنى تُعْثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها. . . ولا يلقى جسدك كله في جهنم ". وفي مرقس 9 / 45) "وإن أعثرتك رجلك فاقطعها خير لك أن تدخل الحياة أعرج

من أن تكون لك رجلان وتطرح في جهنم في النار التي لا تطفأ، حيث ذواتهم لا تموت والنار لا تطفأ وإن أعثرتك عينك فاقلعها. . . وتطرح في جهنم في النار حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ. وفي رؤيا يوحنا ص: 1: ولى مفاتيح الهاوية والموت. - وهناك ما مجموعه اثنا عشر من الأسفار اليونانية المسيحية تستعمل الترجمة البروتستانية، وكذلك الكاثوليكية العريية، كلمة (جهنم) لتنقل الكلمة اليونانية (جهنا) مكانا للعذاب الناري. - وفي متى 23: قال يسوع للقادة الدينيين: أيها الحيات أولاد الأفاعي، كيف تهربون من دينونة جهنم. - ويقول سفر رؤيا يوحنا ص: 25: "وسلّم الموت والهاوية الأموات. . . ودينوا كل واحد بحسب عمله، وطرح الموت والهاوية في بحيرة النار - هذا هو الموت الثاني، وكل من لم يوجد مكتوبا في سفر الحية طرح بحيرة النار. وفي الرؤيا ص: 20) : (وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت، حيث الوحوش والنبي الكذاب وسيعذبون نهارا وليلا إلى أبد الآبدين". وفي رسالة يهوذا: "والملائكة الذين لم يحفظوا رسالتهم. . حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام، كما أن سدوم وعمورة. . مكابدة عقاب نار أبدية". حتى الملائكة الذين أذنبوا طرحم في جهنم (بطرس الثانية ص 2) ور. تكوين 6 ويهوذا 6 ورء الرؤيا ص: 12) . هذه نصوصكم في الجحيم، وخلوده الأبدي، يخلد فيها العصاة، حتى من الملائكة. فماذا تنكرون من القرآن؟ ولماذا لم تنكروه من كتابكم؟

10 - فقه الخلود في القرآن:

9 - لقد رأيت في نيويورك كتابا بعنوان (يمكنكم أن تحيوا إلى الأبد) مطبوع في نيويورك، وطبع بستين لغة، وطبع منه ثمانية عشر مليون نسخة. حاول هذا الكتاب تأويل نصوص الخلود الأبدي في النار، التي تقدمت بعض نصوصها، تأويلا يخرجها عن ظاهرها الواضح والقاطع في دلالته. فإن رفضتم تأويله، وتمسكتم بظاهر هذه النصوص المتعددة، في كتبكم المتعددة سقط اعتراضكم على القرآن، أو لزمكم الاعتراض، أيضا، على كتابكم، ويكون هذا انفلاتا من الأديان. وإن تمسكتم بتأويله لزمكم قبول تأويل بعض علمائنا بفناء النار، المؤسس على براهين علمية، ليس عندكم معشارها. وهنا أيضا، يسقط اعتراضكم، ففي الحالين كلتيهما اعتراضكم ساقط. * * * 10 - فقه الخلود في القرآن: يتم لهذه المسألة فقهها أن نتأمل آيات القرآن في العذاب والنعيم يقول اللَّه (11/ 105 - 108) : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) . فبين في أهل الجنة مشيئته بأن عطاءها غير ممنوع ولا مقطوع. أما مشيئته في أهل النار فلم يبينها؛ لذلك تأولها العلماء بنحو عشرين وجها، ذكرها ابن جرير في تفسيره. منها أنه شرط خلودهم بدوام السموات والأرض، وهما غير دائمتين بل يبدلهما اللَّه، كما قال في سورة إبراهيم: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) والشرط إذا عدم عدم المشروط، فيكون عذاب النار غير دائم، بل ينقطع؛ لذلك قال ابن عباس: بين لنا مشيئته في أهل الجنة، ولم يبين لنا مشيئته في أهل النار.

وروى إمام أهل السنة، الإمام أحمد، عن عبد اللَّه بن عمر: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا" لذا روى عن عمر بن الخطاب قوله: لو لبث أهل النار في النار قدر رَمْل عالج (اسم مكان كثير الرمال) لكان لهم يوم يخرجون فيه. ونقل هذا عن ابن مسعود، وأبي هريرة. قال ابن تيمية: وهو قول عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة. وذهب إليه الحسن البصري، وحماد بن سلمة، وبه قال علي بن طلحة الوالبي، وجماعة من المفسرين ". وفي تفسير الرازي: قال قوم: إن عذاب الكفار منقطع وله نهاية. واستدلوا بآية سورة هود المتقدمة، وبقوله - تَعَالَى -: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) . قال الرازي: واستدلوا بأن معصية الظلم متناهية فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم، وهو - تَعَالَى - مبرأ من الظلم (1) . قلت: وأخذ بالقول بفناء النار الإمام ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح) قال: وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام (ابن تيمية) فيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين. ثم أخذ في إقامة الأدلة على فناء النار من خمسة وعشرين وجها. قلت: ونقلها عنه صاحب تفسير المنار عند تفسير قوله - تَعَالَى -: (خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) . قلت: من هذا يتبين أن القول بفناء النار قال به: طائفة من الصحابة، وطائفة من التابعين، وطائفة من علماء الحديث، وطائفة من المفسرين، وطائفة من المحققين، وكلهم له سنده من القرآن، والرواية. ولم ينفرد به ابن القيم، كما يزعم الجاهلون. أقول للسائلين: هل كان عندكم هذا العلم حين سألتم عن خلود النار؟ وهل كان عندكم علم بما في كتابكم مما نقلتُ لكم بعضه عن الهاوية حتى جعلتم من الملائكة زناة!! أما القرآن فيقول عنهم:

_ (1) لم يذكر المؤلف ردَّ الإمام الرازي على هذه الشبهة، ورأيه هذا لا نوافقه عليه، والذي عليه المحققون من العلماء أن الخلود في النار ليس للموحدين وإنما هو خاص بأهل الكفر ويكفي في ذلك قوله تعالى (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) .. وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) . وأما بخصوص الآيات في سورة هود فقد قال فيها الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: قال تعالى: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلا ما شاء رَبَّكَ} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية، واحتجوا بالقرآن والمعقول. أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض، ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة. الثاني: أن قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون: {لابثين فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ: 23] بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة. وأما العقل فوجهان: الأول: أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز. الثاني: أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره، لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم، فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز، وأما الجمهور الأعظم من الأمة، فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية. أما قوله: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} فذكروا عنه جوابين: الأول: قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها. قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات} [إبراهيم: 48] وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسموات. ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم، فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً مجهولاً للأكثر، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة، أقصى ما في الباب أن يقال: لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به، وحينئذ يحسن التشبيه، إلا أنا نقول: لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع، ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل، فكذا ههنا. والوجه الثاني: في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض، ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل، وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد، علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع. ولقائل أن يقول: هل تسلمون أن قول القائل: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات، أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى، فإن كان الأول، فالإشكال لازم، لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات، ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب، وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة، فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع. واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر، وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين، كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط: ألا ترى أنا نقول: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان. فإن قلنا: لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان، أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً، فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم، فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً، أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم. فإن قالوا: فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة؟ قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً، وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده، فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر، وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات. وأما الشبهة الثانية: وهي التمسك بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة. الوجه الأول: في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء. قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ألبتة، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه، فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب، وفي ضرب الأمثلة فيه، وحاصله ما ذكرناه. ولقائل أن يقول: هذا ضعيف لأنه إذا قال: لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب، وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك، فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام. الوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إن كلمة {إِلا} ههنا وردت بمعنى: سوى. والمعنى أنه تعالى لما قال: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا، ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} المعنى: إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها. الوجه الثالث: في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار، وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر، أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة، والمعنى: خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار. الوجه الرابع: في الجواب قالوا: الاستثناء يرجع إلى قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] وتقريره أن نقول: قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالدين فِيهَا} يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار. الوجه الخامس: في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار، بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء. الوجه السادس: في الجواب قال قوم: هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار، لأن قوله: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم، ثم قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع. ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء، ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال: الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة، وهذا كلام قوي في هذا الباب. فإن قيل: فهذا ال

(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) . 1 - أما بعد: فأقول للسائلين عن الرحمة، أين كانت الرحمة. - عندما تستخدم الكنيسة (الحرمان) لكل من خالف رأيها؟ وما سببه من تأخير نهضة الغرب قرونا. - وأين كانت الرحمة عندما حكم البابا على العالم الفلكي الإيطالي (برنو) بالقتل حرقا؛ لآرائه العلمية، وأحرق في ميدان الأزهار بروما. - وأين كانت الرحمة عندما حكم البابا (جريحوري السابع) بالحرمان على الإمبراطور هنري الرابع، فقام الإمبراطور برحلته المهينة، التي تركه فيها البابا ثلاث ليال فى قسوة البرد والمطر وهو يلبس ثيابا من الخيش، حتى عفا عنه!! - بل أين الرحمة، وحرية الرأي، عندما أحرق رئيس الأساقفة (كرانمار) ومات شهيدا لقضية أقل وضوحا مما تقتضي الشهادة وكان (كرانمار) الساعد الأيمن للملك هنري الثامن الذي انشق عن الكاثوليكية. ولما مات الملك أدوارد السادس، ابن هنري، وخلفته أخته الكبرى (ماري) التي شبت على المذهب الكاثوليكي. عادت الأمة الإنجليزية مرة أخرى إلى الكاثوليكية، فى ظل (ماري الدموية) كما لقبوها بعد، وأحرق الأسقف كرانمار (تشكيل العقل 103 - 104) . - وأين كان الحق والعدل والرحمة عندما كانت كنيسة روما تستولي على الأرض المحيطة بروما، والتي عرفت باسم ولايات الكنيسة. وذلك استنادا إلى وثيقة مزورة منسوبة إلى الإمبراطور قسطنطين والذي كشف تزويرها أحد المدرسين هو (لورتزو فالا) الذي توفي 1457 (تشكيل العقل الحديث ت كرين بريستون ص 42) . . . وأين؟ وأين؟ . عندي كثير ما كان أغناني عن

ذكره، أو التلميح به لولا ادعاؤكم على الإسلام والمسلمين ما هم منه براء!! هذه مثل، مجرد مثل لفقدان الرحمة والعدل والحق، سبقتها أمثلة عن قسوة إلهكم، وعدم تناسب العقوبة والذنب مع إحراق الأبرياء من الأطفال والنساء، ولعن الذرية قبل أن تولد، بل والثمار قبل أن تتفتح عنها أكمامها.. ثم تسألون: أين الرحمة عند إلهكم، فيالها من مفارقات عجيبة!! * * *

السؤال الرابع لو كان الإسلام دينا حقا - كما تزعمون - لما كان أتباعه من المسلمين أسوأ الناس، وأحطهم سلوكا وأخلاقا، ومظهرا، ولما كانت بلادهم في منتهى التأخر والفوضى والظلم، والهمجية، والقذارة.

السؤال الرابع لو كان الإسلام دينًا حقا - كما تزعمون - لما كان أتباعه من المسلمين أسوأ الناس، وأحطهم سلوكا وأخلاقا، ومظهرا، ولما كانت بلادهم في منتهى التأخر والفوضى والظلم، والهمجية، والقذارة. * * * مأثورات في إعلانه عن صدور كتابه: "الديوان الشرقي" قال أديب ألمانيا الأكبر جوته: إنه هو نفسه لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم ". وحينما بلغ جوته السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خضوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. "ما رأينا المستشرقين ولا أساتذتهم المبشرين وقفوا أمام نحلة من النحل، أو مذهب من المذاهب، أو دين من الأديان مثلما وقفوا أمام الإسلام.. لأن الإسلام لو كان ضعيفا لما حرّك لهذا الجيش العرمرم من المبشرين والمستشرقين والملحدين ساكنا، فالخصم الضعيف لا يسر صديقا، ولا يقلق عدوا". أ. د. عبد العظيم المطعني. في كتابه (افتراءات المستشرقين على الإسلام) . * * * "والأم الإسلامية أشد الأم تعرضا لعداوة الاستعمار الذى يعادي الإسلام بصفة خاصة؛ لأنه نظام اجتماعي، وآداب معيشة، وله مبادئ فكْرية تقوم عليها الآداب والعلاقات، كما تقوم عليها عقائد الدين ووجهات النظر إلى أصول الحياة". (عباس العقاد في: الإسلام والحضارة الإنسانية) * * * الجواب - إن الحكم على الإسلام من خلال سلوك بعض أبنائه تحيّز إلى غير الحق، وخضوع

للهوى الشخصي. ووجه التحيز في هذا الحكم أنه بحث عن المعايب، ونظرة جانبية في موضوع البحث، تركزّ على عنصر خارج عن حقيقة الإسلام المجردة. والحق أن الدراسة العلمية لا بد أن تتجرد للبحث عن حقائق الموضوع الذاتية، في تعمق، وفي شمول، مع ضرورة التمييز يين ما هو ذاتي وما هو خارجي، وبين ما هو من إيحاء الإسلام وبين ما هو من سلوك الناس وانحرافهم عنه. وبهذه الدراسة المتكاملة، والذاتية يسلم (منهج البحث) ، ويبرأ من عيب النظرة الجزئية، ثم الحكم الكلي. هل من الحق والمنهجية أن نحكم على مبادئ الثورة الفرنسية بما فعل القائمون بها، وبما فعل نابليون، وبما فعلت فرنسا في الشعوب التي استعمرتها، ومنها ذاك المثل الذي ذكره (ول ديورانت) في موسوعته (قصة الحضارة) عندما نزلت فرنسا في أمريكا، عقب اكتشافها، وأفلحت في استمالة بعض القبائل. وتأكد لفرنسا رغبة قبائل (البوتيغوارا) في أكل لحوم البشر، فقامت فرنسا بترتيب خدمة منتظمة بنقل زنوج من (غينيا) يقدمونهم لهذه القبائل لأكلهم!! وفي العصور التي سميت في تاريخ الغرب بالعصور التنويرية، وخطت بها خطوات فساحا نحو التقدم - كانت أوربا تقوم بعملين متزامنين: أحدهما داخلي، وآخر خارجي. أم الداخلي فكان استثمار جهود العاملين من النساء والأطفال والرجال الفقراء استثمارًا ليس فيه من (الإنسانية) شيء مع قلة الأجر إلى حد لا يقيم الأود، وتكديس الجميع في أماكن ضيقة أشاعت الفواحش والأمراض. أما الخارجي فكان الاندفاع إلى استعمار الشعوب، وابتزاز ثرواتها وفرض الفقر والجهل عليها، ومحاولات فتنتها عن دينها. فهل تسوغ لنا تلك المآثم غمط الخلق، وبطر الحق؟ - لقد عرض (مونتسكيو) مشاهد مما رآه في بلاد الغرب تنطق بمدى التأخر الحضاري، والانحطاط الأخلاقي، كان مما شاهد: في (فينا) - وكانت النمسا أول رحلاته: إن الغبار يسيطر على المدينة بسبب الطرق المتربة التي تحيط بها. ووجد أن

النساء اللواتي في سن الستين يجدن عشاقا. ويقول عن لندن: ليس ثمة شيء أقبح من شوارع لندن فهي جد قذرة. . . ولا بد للمرء أن يكتب وصيته قبل أن يركب عربات الانتقال في المدينة". أقول: وإنك واجد ما يصدق ذلك ويزيد عليه إلى درجة أن قارئه لا يكاد يصدقه - في رواية (. . .) ولا شك عندي أن من يقرؤها يستحي أن - يرمي غيره بالتأخر أو التخلف. يقول مونتسكيو: إن لندن مدينة قبيحة قد تجد فيها بعض الأشياء الجميلة. ويتحدث عما فيها من انتشار السرقة والرشوة. ثم يذكر عن إيطاليا أنها تتألف من مدن كل مدينة دولة، وكان بجمهورية البندقية (أي مدينة البندقية مما شاهده منتسكيو العاهرات الساقطات، وكان عددهن يقرب من العشرة آلاف!! وأن وجودهن كان السبب الرئيس في تنشيط التجارة والسياحة. وفي روسيا رأى أنه يحرم على الوالد أن يعلم ابنه. أما في دولة روما، فقد كان الحاكم هو البابا بنوا الثالث عشر وكان حاكما دكتاتوريا أصبح معه الدين في الدرجة الثانية. أما في فرنسا، موطن مونتسكيو، فقد ذكر من مناقص القضاء الفرنسي أن مناصب القضاء كانت تباع وتشترى، مما كان يؤدي إلى تولي القضاء أشخاص سيئو السمعة، ليس لهم أية دراية قانونية. وذكر مونتسكيو أنه هو نفسه اضطر إلى بيع منصبه القضائي! أما عن القوانين التي كان يحكم بها القضاة، فكانت خليطا من عادات الأقاليم وتقاليدها، والتي كانت تختلف من إقليم إلى آخر. وتعتمد على أصول متباينة منها قانون الكنيسة ومنها القوانين التي كانت تسود المجتمعات البربرية، كالغالة، سكان فرنسا الأصليين!! هل ينبغي أن نتخذ هذا الهبوط السياسي، والأخلاقي، والقانوني، والقضائي -

وسيلة للحكم على (مبادئ النور) ؟! * * * 3 - فإن كان ولابد من اتخاذ واقع المسلمين دليلا على دينهم فلماذا لا تتخذون واقعهم الحضاري الذي هرعت إلى بلاطه، وبلاده، وفود ملوك الغرب ووفود علمائه وطلابه؟ فقد كان عبد الرحمن الناصر تمد أمم النصرانية له يد الإذعان، وأوفدوا عليه رسلهم، وهداياهم من رومة والقسططنية في سبيل المهادنة والسلم والعمل فيما يمكن لمرضاته، وجاءته وفود علية الملوك المتاخمين لبلاد المسلمين يقبلون يده ويلتمسون رضاه، حتى إن صاحب (نفح الطب) يقول: ولم تبق أمة سمعت به من ملوك الروم والفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة، وانصرفت عنه راضية. كما يقرر (ول ديورانت) أن منافذ حضارة المسلمين إلى أوربا، والتي أخرجتها من ظلمات العصور الوسطى، كانت ستة منافذ: عن طريق التجارة، والحروب الصليبية، وعن آلاف الكتب التي ترجمت من اللغة العريية إلى اللاتينية، وعن الزيارات التي قام بها العلماء أمثال (جربرت) وغيره إلى الأندلس الإسلامية، ومن الشباب المسيحيين الذين أرسلهم آباؤهم الأسبان إلى بلاط الأمراء المسلمين ليتربوا فيها، ومن الاتصال الدائم بين المسيحين والمسلمين في بلاد الشام ومصر وصقلية وأسبانيا يقول (ول ديورانت) : لقد كان للعالم الإسلامي أثر بالغ مختلف الأنواع، لقد تلقت أوربا من بلاد الإسلام الطعام والشراب، والعقاقير، والأسلحة، وشارات الدروع، والتحف والمصنوعات. . . والتشريعات. . . وأخذت عن المسلمين أسماء هذا كله، حتى الموسيقى والشعر والآداب. . ولا تزال المصطلحات العلمية العربية تملأ اللغات الأوربية. . وظل أطباء العرب يحملون لواء الطب في العالم خمسمائة عام كاملة. (قصة الحضارة مجلد 13) . * * *

لا بد من معيار:

وحسبك في بيان تقدم المسلمين، وتبعية الغرب لهم تلك الرسالة التي بعث بها جورج الثاني ملك إنجلترا وفرنسا والنرويج إلى الخليفة هشام الثالث (418 - 422) والتي يقول فيها: من جورج الثاني ملك إنجلترا وفرنسا والنرويج إلى الخليفة هشام الثالث. بعد التعظيم والتوقير سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم في بلادكم العامرة، فأردنا لبلادنا اقتباس هذه الفضائل لنشر العلم في بلادنا التي يحيطها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقتنا الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز. . من خادمكم المطيع جورج. إنها رسالة ناطقة بذاتها عن حال المسلمين، وحال أهل الغرب، وكافية بنفسها للرد على مزاعمكم. * * * لا بد من معيار: 4 - لا يستقيم سؤالكم عن تأخر المسلمين، ولا جوابه حتى نعرف (مقياس) التقدم والتأخر والمعيار الذي نرجع إليه لنعرف هل هذه الحال، أو هذا الواقع من التقدم أو من التأخر. وقد عرف الفكر البشري منذ القدم عدة مقاييس اختلفت باختلاف نزعات المفكرين واختلاف ثقافاتهم واختلاف بيئاتهم، واختلاف أحوال تلك البيئات والظروف السياسية والاجتماعية. فقد كان أفلاطون مثالي النزعة يرى (التقدم) في محاكاة الواقع (للمثل العليا) ورأى أن الواقع يجب أن يكون على مثالها! ، رأى لتحقيقها شيوع الأموال والنساء والأولاد وأنكر أن يكون الرقيق إنسانا، ورأى الرق أمرا طبيعيا. وكان تليمذه أرسطو يرى الفضيلة وسطا بين طرفين مذمومين. مع أن قانونه هذا لا يطرد، فالصدق، مثلا ليس له طرفان مذمومان فالإنسان إما صادق وإما كاذب.

وكان أرسطو يرى أن الكون يسير في التقدم نحو الإله بقانون (العشق الإلهي) فكان (الإله) عنده شيئا لا إرادة له ولا عمل. كما أنه فسر الرق تفسيرا يكاد يكون تقريظا له، حتى إنه قرر أن بعض الناس خلق بالطبع ليكون رقيقا. 6 - وكان (الأبيقوريون) يرون التقدم والسعادة في فعل الإنسان كل ما يشتهي ويحقق له اللذة الحسية، والمنفعة المادية. 7 - وكان (الرواقيون) يرون المقياس هو: القيام بالواجب. وأهملوا ما في الإنسان من قوى غير قوة الفكر. 8 - ثم جاء (السوفسطائيون) فأنكروا وجود (حقائق للأشياء) وزعموا أنه لا حقيقة لشيء وأن ما يسمى حقائق إنما هي أمور نسبية، ما أراه حقا فهو حق، وإن رأيته أنت باطلا فهو باطل. 9 - وجاء العصر الحديث. جاء العصر الحديث فشهد طوائف من المفكرين اختلفت نزعاتهم، ولكنهم اتفقوا جميعا على إبعاد الدين، وردّ ما أبعد من سلطان العقل. واختلف البناء الأخلاقي عند هؤلاء المفكرين على أربعة اتجاهات: فمنهم من بنى منهجه الأخلاقي على دعائم مما بعد الطبيعة، ومنهم من أقامه على دعائم من علم النفس، ومنهم من حاول أن يجعل من علم الحياة أساسا له، ثم كان منهم من أقام منهجه على أساس من علم الاجتماع. (فنيتشه) هاجم الأخلاق المسيحية، ودعا إلى أخلاق الإنسان الأعلى. ورفض أخلاق السوقة، ودعا إلى أخلاق السادة، أخلاق القوة. أما (ديكارت) المعروف بمذهب الشك فقد استبعد الشك عن الأخلاق والدين، ونزع في الأخلاق منزع المذهب الرواقي، إلّا أنه رأي استبدال مبدأ: ((اتبع العقل الحق بمبدأ الرواقيين: اتبع الطبيعة" ويتحقق مبدؤه باستقلال النفس واستعلائها على الشهوات.

أما سارتر فقد نزع إلى الأبيقورية. أما (مالبرانش) وهو أحد تلاميذ ديكارت فقد بنى الأخلاق على معرفة الخير الأعلى، الذي تتوقف معرفته على العقل والتفكير، والذي وضع الكائنات في نظام كامل، ورتبها ترتيبا تصاعديا. فالفضيلة الوحيدة، هى حب الله مصدر هذا النظام، وهي مبدأ كل واجب. أما (سبينوزا) الفليسوف اليهودي، الذي حكم عليه آباء الكنيسة اليهودية بالكفر والحرمان - فإنه يرى توجيه العلوم كلها نحو غاية واحدة هي: الوصول للكمال الأقصى، فكل مالا يدنينا من العلوم من هذه الغاية يعتبره غير مفيد، ويجب إلقاؤه جانبا. ويجدر بنا ألا ننسى من فلسفة هذا الفيلسوف أنه ينكر أمرين: أحدهما: الحرية الأخلاقية. والآخر إنكار أن هناك أعمالاً هي في نفسها خير أو شر، بل الخير والشر - في رأيه - نسبيان، والفضيلة في رأيه: ملكة التصرف وفق هداية العقل، وكلما كان الشخص خاضعا للشهوات والآهواء لا يكون فاضلا. ولعلنا لا نخطئ إذا رأينا في هذا نزعة رواقية واضحة. أما (بنثام) فإنه فيلسوف المنفعة، إذ كان يرى أن حب المنفعة، الذي أساسه الأثرة، من الأمور الفطرية،، ومن الخير أن يكون دعامة الأخلاق، ولذا كانت اللذات كلها حسنة، وأن مهمة علم الأخلاق إنما هي. الموازنة بين هذه اللذات. هذا، وقد نقد (سبنسر) هذا المذهب نقدا شديدا وحقا، في محاورة أجراها بين أخلاقي وبين بنتامي. أما (منتسكيو) وهو أشهر كتاب الفكر السياسي في القرن الثامن عشر، هذا العملاق يقرر: جواز استرقاق الشعوب، وأقر الاسترقاق السياسي للشعوب كما أقر الاسترقاق المدني في المنزل بين أفراد الأسرة الواحدة، كما رأى جواز الحرب والإغارة على الآخرين لمجرد أنهم آخرون.

10 - هذا عرض موجز للجهد الفكري الإنساني للتعرف على المقياس الذي نحتكم إليه في التقدم والتأخر، أو الخير والشر، ومنه نتبين ما يأتي:

10 - هذا عرض موجز للجهد الفكري الإنساني للتعرف على المقياس الذي نحتكم إليه في التقدم والتأخر، أو الخير والشر، ومنه نتبين ما يأتي: أنه مع هذه الحيرة هناك قدر جامع وقاسم مشترك يكاد يشملها كلها ألا وهو: قصد الخير للإنسان من حيث هو إنسان. - وأن القليل من هذه المذاهب ينزع إلى إطلاق شهوات الإنسان. - وأن القليل منها من اعتبر (المنفعة) هي مقياس الخلق. * * * 11 - والعارف بتاريخ النهضة الأوربية يعلم أنها قامت على مفاهيم عصر التنوير، يعبر عنها خمس كلمات: الفرد - العقل - الطبيعة - التقدم - السعادة. ومن ثم نرى أن القيم الأخلاقية التي هي فطرة في الإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانا - نراها قد استبعدت من برامج هذه النهضة. وكان من نتائج ذلك تلك الآثام التي ارتكبها الغرب الناهض في حق الإنسانية، إذْ كانت هذه المآسي تحقق له: اللذة، والمنفعة. وهما معيار التقدم والرقي، وليذهب الآخرون إلى الفناء، اللذة والمنفعة من غير تقيد بقيم الأخلاق، فما الأخلاق، عندهم، إلا حيلة لتقييد حق الإنسان في اللذة والمنفعة، فكل ما يحقق هذين فهو أخلاقي وحسن. * * * 12 - فماذا عن الإسلام؟ جاء الإسلام ليصحح (الرؤية) رؤية الإنسان لنفسه ورؤيته للحياة، ورؤيته للكون كله؛ لينتهي الإنسان بكل رؤياته إلى الحقيقة الكبرى: إلى اللَّه فكل ما لا ينتهي بالإنسان إلى هذه الحقيقة، التي هي أحق الحق، فإنه بالإنسان خُسْر، وضياع. بهذا المنهج الإسلامي يصير الإنسان إنسانا عالميا، وأمته كذلك، وأيضا أمة الخير والحق، والجمال، وقد وصفها القرآن بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وبذلك كان مقياس التقدم: إنسانيا عاما، لا ذاتيا، ولا قوميا. وبهذا المقياس نشرت أمة الإسلام في ربوع

أخلاق المسلمين

الأرض، وفي ظلال الإسلام، الخير والعدل والإحسان، وتكونت (أمة عالمية) كانت حلم المفكرين من عهد (سولون) ، وحاول صياغتها أفلاطون في جمهوريته فلم تتجاوز الفكر والخيال، حتى جاء الإسلام فجعل الخيال واقعا، والحلم الفلسفي حقيقة سياسية اجتماعية قائمة في حياة البشر، وتكونت أمة عالمية، وصار الناس جماعة إنسانية على تعدد عقائدهم وعاداتهم وأزيائهم. . . وتلك معجزة انفرد بها الإسلام. فلم يكن تاريخ الإسلام تاريخ معجزات صنعها الإله بمعزل عن البشر، إنما كان معجزة تاريخ صنعها المسلمون بإيمانهم بالله. * * * خلاصة المقياس الإسلامي: أن الإنسان (مسئول) عن صلاحه في نفسه، وإصلاحه لغيره حتى يشمل الإنسانية في جملتها في نشر الحق والعدل والخير والجمال. * * * أخلاق المسلمين 13- نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " فهذه غايتنا، والله - تَعَالَى - يقول، في أجمع آية لمقاصد القرآن (16/ 90) : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . ثلاثة أوامر، وثلاثة نواهٍ، توازن فيها الأمر والنهي. والله يقول الوصايا العشر في سورة الأنعام (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) . (الأنعام: 153، 151) . عشر وصايا تتعادل فيها الأوامر والنواهي خمس وخمس: النواهي لا تشركوا لا تقتلوا أولادكم لا تقربوا الفواحش لا تقتلوا النفس لا تقربوا مال اليتيم * * * الأوامر 1 - بالوالدين إحسانا 2 - أوفوا الكيل والميزان 3 - إذا قلتم فاعدلوا 4 - بعهد الله أوفوا 5 - هذا صراطي مستقيما فاتبعوه وتلاحظ أنها بأوامرها ونواهيها خاطبت قوى الإنسان: الفكرية والوجدانية والفطرية؛ لذلك كانت فواصل آياتها: تعقلون (للفكر) تذكرون (للفطرة) تتقون (للوجدان) وتجدون تفصيل هذه الأخلاق في مواضع من القرآن الكريم منها: آيات الحكمة من سورة الإسراء 23 - 39 وآيات وصايا لقمان من سورة لقمان 12 - 19. وسورة النور كلها، وسورة الحجرات كلها، وكلها تتوازن فيها الأوامر والنواهي، وترعى المصلحة والفضيلة، كما ترعى الحق والعدل في علاقاتها مع الإنسانية جميعها. هذا، بينما نجد الوصايا العشر في التوراة، وموعظة الجبل في الإنجيل كلها سلبية: لا تقتل، لا. . . لا. . ولم تشتمل إلا على أمرين: امتثال أحدهما (بالنهي) لنقرأها في سفر الخروج ص 20) .

النواهي: 1 - لا يكن لك آلهة أخرى 2 - لا تصنع لك تمثالا 3 - لا تنطق باسم الرب باطلا 4 - لا تقتل 5 - لا تزن 6 - لا تسرق 7 - لا تشهد على قريبك شهادة زور. 8 - لا تشْتَه، بنت قريبك لا تشْتَه امراة قريبك ولا عبده. . ولا شيئا مما لقريبك * * * الأوامره 1 - اذكر يوم السبت. . . لا تصنع عملا ما.. 2 - أكرم أباك وأمك. لقد كان تحصيل السعادة في أديان ما قبل الإسلام عن طريق الترك مما يؤدي إلى تجاوز القوى الإيجابية في الإنسان، فجاء الإسلام وجعل تحصيلها عن طريق الترك والفعل معا وبذلك توازنت قوى الإنسان. هذا، وإذا كانت أخلاق القرآن تربي الإنسان السلم، ليكون سلما مع كل البشر يعاملهم بأخلاق القرآن لا يفرق بينهم بالدين أو الجنس - إذا كان ذلك فإننا نلحظ (القومية والعصبية والخصوصية) في أخلاق التوراة: (لا تشهد على قريبك) (لا تشْتَه بنت قريبك. .) وفي المعاملات المالية يقول سفر التثنية ص 23: لا تقرض أخاك بريا. . . للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بريا. فأخلاق الإسلام أخلاق إنسانية عامة، وهذا ما تعامل به المسلمون يوم كان لهم السلطان على أهل الأرض أجمعين، وهذا فارق مهم في خصوصية الأديان، وعالمية الإسلام! هذا، وقد سبق، في مبحث طبيعة القانون، أن أحكام التوراة ترعى المصلحة، وتغفل جانب الفضيلة. من هذه الأخلاق الإسلامية في نهيها وأمرها، تكون المجتمع الإسلامي، فما مقاصد

هذه الأخلاق وما بواعثها؟ 14 - أما المقاصد فإنها: تحقيق الجمال في النفس والفكر والجسم، وفي ماديات الوجود. ولكل شواهده من القرآن والسنة، ففي النفس يقول اللَّه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) . أما في الفكر فهو كثير في القرآن منه (2 / 170) ومنه آيات التدبر والتفكر والتعقل. وفي الجسم يقول اللَّه (7، 20 - 26) . يخاطب بني آدم، ليس المسلمين فقط: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) . وفيها (31 - 32) : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. . .) وفي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه جميل يحب الجمال ". وهذا حديث جامع رواه الترمذي: "إن اللَّه طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود ". وكما أن الجمال من مقاصدها كذلك كان الكمال، وإشباع شوق الإنسان إلى الكمال والسمو، وحب الاستطلاع، يقول اللَّه (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ. . .) (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) . ْهذه مقاصد الأخلاق الإسلامية: الجمال والكمال. 15 - فما بواعثها؟ أكبر الذنوب في الإسلام: الشرك بالله، والقول عليه بغير علم وكبائر الذنوب - بعد

17 - ما مقياس الأخلاق؟

الذنب الأكبر - ما كان أشد قربا منه، فالقتل، والزنا أكبر الذنوب بعد الشرك لاقترابهما منه: فقتل النفس هدم لبناء اللَّه. والزنا بناء لما هدم اللَّه. كذلك فضائل الأخلاق، تتفاضل بحسب قربها من اللَّه، فالمسلم قدوته الأخلاقية هي صفات اللَّه، ما عدا ما كان من خصائص الألوهية. فالمثل الأعلى للمسلم في تخلقه إنما هو اللَّه. وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الإنساني الذي تمثلت فيه الأخلاق الإلهية، فكان جامعة وأمة لكل حظوظ الإنسان من صفات اللَّه - عز وجل - وجاء في حديثه عليه السلام: "إن لله مائة وسبعة عشر خلقا، من جاءه بواحد منها دخل الجنة" وجاء عنه عليه السلام: "كل خلق اللَّه حسن ". * * * 16 - ومواقع أخلاق المسلم: هو الإنسان من حشا هو إنسان، مسلما كان أم غير مسلم، لأنه يؤدي خلقه لله، فالله باعثه، والله مقصده. تأملوا هذه الآية من سورة الإنسان، وانتبهوا - من فضلكم إلى اسم السورة: الإنسان: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) . * * * 17 - ما مقياس الأخلاق؟ قيل في مقياسها، كما تقدم: السعادة. ولكن قد يسعد الحقير في جهالته، ويشقى العظيم في عقله وعلمه. وقيل في مقياسها. الغني، ولكن قد يغنى الجاهل، ويفتقر العالم، وكم قد رأينا من ذوي الغنى من يضيقون بالحياة فينتحرون. خلاصة هذه المقاييس وغيرها: اللذة والمنفعة. أما خلاصة المقياس الإسلامي فهو: تحقيق الجمال والكمال والسعي بها - في شوق - إلى اللَّه.

18 - فماذا عن مجتمعاتكم ومجتمع المسلمين؟ أما عندكم، فقد تحول الإنسان إلى بهيمة سبُعيَّة، فكلما اشتهى حقق منطلقا من غير ضابط. وضابط الأخلاق هو الذي يجعل الإنسان إنسانا. وكل ضابط معناه: القدرة على الامتناع ورد النفس عن بعض ما تريد، وعدم المضي معها في كل ما تشتهي. فهل تجدون هذا الضابط في سلوكياتكم؟ عندكم ضابط واحد هو: المنع مما يعود على المجموع بالضرر. وهو ضابط يطلق للنفس كل ما تشتهي في حدود هذا المنع. وكذلك تحول الإنسان الغربي غير المسلم إلى سبع ضار، يستخدم كل قوته لنفع نفسه وتحقيق ما يريد وكسب كل ما قدرت عليه قدرته ولو على حساب الحق والعدل، فالعدل عندكم هو ما تحققه القوة، والحق عندكم هو ما تستطعون أخذه، فقوتكم (المادية) جعلت كل باطل ينفعكم حقا، وكل حق لغيركم باطلا، فمقياس أخلاقكم: القوة التي تحقق المنفعة. 19 - وثمرة كل ذلك في مجتمعكم: تحلل المجتمع وفقدان التراحم وتحلل الأسرة، والأطفال غير الشرعيين، وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن في (البيت الأييض) والأسود. ومعروفة هي قصص اغتصاب الآباء لبناتهم. وأعرف سيدة أمريكية بيضاء، آذاها ما فعل زوج أمها بأخواتها وبناته. وعرفت أخلاق الإسلام فأسلمت، وأخذت تنشئ ولدها (عمر) تنشئة إسلامية وقصة الصغيرة (ناتالي) البلجيكية مع أبيها معروفة لأمتها. وأما (الشذوذ) بين الكبراء والوزراء فأمر مشهور. وكذلك بين الجنود. ولا يعزب عن علمكم مسيرة الشواذ، التى رفعوا فيها شعار (. . .) : وهي عبارة يقول فقهاء لغتها إنها تجمع كل الفحش والفجور. أما الخمر والمخدرات والقتل للعدوان والسرقة فحدث ما شئت وأما ديمقراطية الخداع، وتضليل الناخبين، واتخاذ وسائل الإعلام لهذا التضليل. ثم يسمى ذلك: رأي الشعب. . .

وأما عن المرأة، وأنتم تزعمون أنها بلغت عندكم سقف التكريم، فكان من تكريمها عندكم امتهانها في الإعلانات، وعلى واجهات المحلات، والمرأة الغربية لا تعرف السعادة الأسرية، وتفقد السكن والمودة والرحمة التي تتمتع بها المسلمة في بيتها. يرى (مونتسكيو) أن مركز المرأة في مجتمعها هو مقياس الحضارة. وهو يقول في (الرسائل الفارسية) التي ألفها في نقد المجتمعات الغربية، تلك المجتمعات الماجنة، والانحلال الخلقي للنساء الأوربيات، وانتشار الفسق والفجور. .. 2 - فماذا عن مجتمع المسلمين؟ لا أتحدث عنه أيام مجده، وظله الممدود على أهل الأرض، فذلك يوم مشهود. لا أتحدث عن ذلك اليوم المشهود، الذي حقق فيه المسلمون، في واقع الحياة لكل الإنسانية مثل الحق، والخير والجمال، يوم كان واقعكم في ظلمات بعضها فوق بعض - إنما أتحدث عن واقع المسلمين اليوم، وهو ما أشرتم إليه، واتخذتموه سخريا. فإذا حكّمنا مقياس الإنسانية، ومقياس التبعة والمسئولية، رجح مجتمع المسلمين الحالي - على كل ما فيه - على كل مجتمع سواه، فهو مجتمع: يؤمن بالله الواحد، ولا يعبد المادة ولا الشهوات، ولا الأرقام ولا سيما رقمك البنكي. وهو مجتمع تقوم فيه الأسرة خلية متعاونة صالحة لحمتها السكن والمودة والرحمة، وترعى فيها الذرية، وتربى على قيم الفضائل. .. مجتمع يترابط فيه الأقارب بالمحبة والتواد، والتكافل المالي والاجتماعي والأدبي. مجتمع يفرض فيه على الغني أن يرعى الفقراء بنسبة (اثنين ونصف في المائة) من ماله، فريضة بلغ من منزلتها أن كانت أحد أركان الإسلام الخمسة. مجتمع يتآزر على نوازل الأحداث، فوق فريضة الزكاة. مجتمع يتآزر على إشاعة المعروف، ومنع المنكر، مجتمع تكرم فيه المرأة، لاتباع فيه أنوثتها باسم الحرية. مجتمع يفرض فيه على الأسرة والأقارب أن يقوموا على الشيوخ والمرضى. ولا يقذف بهم في دار المسنين. مجتمع يعيش في سكينة الإيمان، فلا يجزع لحادثة، ولا يذل لفقر. مجتمع تربطه رابطة الإيمان فيتكافل به المسلمون على تنائي الديار. فهذه أعطيات أثريائهم تجوب آفاق بلاد المسلمين، وهؤلاء طلاب العلم من كل

قطر يتلقون العلم في الأزهر، وقد أعدت لهم عمائر السكن بكل مرافقها. .. مجتمع يحس فيه كل فرد أنه صاحب رسالة تجاه غيره من بني الإنسان، فينشر الخير، ويقري الضيف ويكرم الغريب وينصر المظلوم ويعين الضعيف، ويكرم المرأة ويرحم الشيخ ويوقر الكبير، ويكفل اليتيم، ويفي بالوعد، ويبر الولدين، ألم يأتكم نبأ (موائد الرحمن) فيِ شهر رمضان، هل انتبهتم إلى التسمية إنها (موائد الرحمن) ينسبها باذلوها إلى اللَه. إلى صفة الرحمة والرحمانية، كما هو الأصل في خلق المسلم لقد طاف بهذه الموائد سائحون منكم، وطعموا منها، وهم غير مسلمين، وغير صائمين، إنه خلق المسلمين. * * * 21 - ومجتمع المسلمين اليوم. لا تنتشر فيه فواحش القتل، ولا السرقة، ولا الزنا، ولا الأولاد غير الشرعيين. تستطع المرأة، في هذا المجتمع، أن تسير ليلًا، وهي، بصفة عامة، آمنة على نفسها، حيث لا يمكن ذلك في أية ولاية في أمريكا، بل الرجل نفسه لا يأمن على نفسه، كيف وهو في متجره، مثلا، في وضح النهار غير آمن من عصابات السرقة بالإكراه، في مجتمع المسلمين يستطيع أي إنسان أن يذهب بمفتاحه إلى صانع المفاتيح ليصنع له مثله، والكل آمن. أما في أمريكا فلا يستطع من ضاع مفتاحه أن يصنع غيره حتى يقدم مستندات تثبت حق السكنى، وتحديد المسكن، وضمانات أن المفتاح المطلوب صنعه هو المطابق لما تثبت المستندات - كل ذلك لأن الأصل أن الكل لص أو قاتل. .. مجتمع المسلمين لا يعرف العنف الذي تعيشه مجتمعات أمريكاه وحوادث إطلاق النار، عشوائيا، على طالبات المدارس، وطلابها مشهورة. مجتمع المسلمين لا يعرف فواحش الشذوذ بين الرجال والنساء ولا تضيع فيه الأطفال في دور الحضانة حيث هناك أولاد بلا آباء، وفي دور المسنين آباء بلا أولاد. مجتمع لا توجد فيه صبيات المدارس حوامل من غير نكير!! مجتمع لا تبتذل فيه المرأة فيجعل جسدها سلعة معروضة لا ترد عين طامع ولا يد لامس بل تكون ديه المرأة جوهرة مصونة،

23 - وهذه خاتمة لكم

لا ينالها من يريدها إلا بحقها، تبني معه بيتا سعيدا تتمتع فيه بوحدة الحب، وسكينة الألفة، ولا تكلف فيه (العمل الخارجي) الذي يبتذلها ويضيع بيتها، مجتمع للعرض فيه صونه وحقه، ولا يناله أذى من قول أو فعل. مجتمع يصان فيه الدين ويصان فيه العقل فلا يباح ما يفسد من مسكرٍ أو مفتر، أو مضلل. مجتمع يصان فيه المال، فلا يؤخذ إلا بحقه، ومن حقه ألا يؤخذ بالباطل، ومن واجبه أن ينفق منه على المجتمع بفرض الشريعة. مجتمع يوفي بالعقود والعهود، لا يطفف فيه الكيل والميزان، ولا يخدع صاحبه بالإعلانات والدعايات مجتمع نظيف الفناء، نظيف النفس نظيف البدن، نظيف الأخلاق وكل هذه المحاسن قائمة - على تفاوت - في مجتمعات المسلمين اليوم. بالله عليكم، أتجدونها في مجتمعاتكم؟ * * * 22 - أمر واحد تخلف فيه المسلمون، وتقدمتم. هو (العلم الطبيعي) وتطبيقه. وتخلص المسلمين في هذا لم يكن بأمر دينهم، وإنما كان مخالفة لدينهم. وكتابهم مملوء بالحض على استكشاف آيات اللَّه في الأنفس والآفاق. والمسلمون - معكم - في قيمة هذا العلم، وضرورته، ولكنهم يخالفونكم في الفلسفة التي يقوم عليها هذا العلم، كما يخالفونكم في الغاية من هذا العلم. ففلسفتكم في هذا العلم قامت على أنه بديل عن الإيمان بالله، واعتبار هذا العلم كافيا في تفسير الكون. أما المسلمون فإنهم يتخذون من هذا العلم وسيلة إلى اللَّه، الذي هو التفسير الوحيد للكون وغايتكم من هذا العلم: الاستمتاع وقهر الغير، بينما غايته عند المسلمين. نفع الإنسانية كلها، والاستدلال به على الصانع الخالق: (الله) . فكان (التقدم) عندكم تقدما في المزيد من كشوف المادة للأثرة بالفوائد وقهر الآخرين، وإنما التقدم عند المسلمين هو تقدم الخُلق، وتوفيق العقل إلى حقيقة الكون، ونفع الإنسانية كلها، ونشر الخير، والإخاء الإنساني. (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أترك الجواب لكل منصف. 23 - وهذه خاتمة لكم لقد عشتم قرونا في ظلال دينكم، منذ زوال تقدم الحضارة الرومانية إلى مطلع

24 - وهذه خاتمة للمسلمين لكم فيها عبرة:

العصر الحديث - فيما سميتموه أنتم بعصور الظلام فهل كانت المسيحية هي السبب، عندما قال (برونو) بدوران الأرض أحرقتموه، وعندما قال (جاليليو) بأن الأرض ليست مركز الكون قتلتموه وعندما قال (كوبر نيكوس) بأن الأرض متحركة رفض ذلك مارتن لوثر وكلفن بأدلة من الكتاب المقدس (يشوع ص: 10) (والمزمور 93) . فهل كان الفكر الديني المصادم للعلم والذي نقضه العلم يقينا؟ أكان هذا تقدمكم بدينكم؟ هذه حقائق دينكم ودنياكم نعيدها عليكم وهذه حقائق الإسلام، وواقع المسلمين (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) . من أجل هذا كتب كتابكم أن حضارة الغرب في طريقها إلى الزوال، وأن المسلمين فى طريقهم إلى استرجاع مكانتهم. ومن أجل هذا أنتم تجهدون أنفسكم بالطعن والتشكيك وتلمس العيب للبريء، وهذه علامة أخرى من (تقدمكم) . * * * 24 - وهذه خاتمة للمسلمين لكم فيها عبرة: أيها المسلمون، لا تكونوا حجة على دينكم، لقد سدتم، وفقتم عندما تمسكتم بدينكم، وقد بِدْتُم وتأخرتم عندما تركتم هدي دينكم. أيها المسلمون، ليس بقراءة ألفاظ القرآن والسنة يتقدم المسلمون (1) . وليس برفض علوم العصر نعلو على أعداء الإسلام. إن القرآن أول كتاب ديني يحض على اكتشاف آيات اللَّه في الكون. وإن سلفنا وضعوا أسس هذا الكشف، وبادر إليها الغرب، وتركناها فتقدم وتأخرنا. وهنا يستبين طريق النجاء. ويأيها الشائنون ظلما، إن ما كان نافعا بالذات لا يترك لعلة بالعرض. هل عقلتم ما أقول؛ إذا غص بالماء شاربه فهل يذم الماء ويترك كذلك الإسلام، إنه نور، وإنه روح لكل إنسان، أيترلة لتقصير أهله؟ * * * 25 - سؤال خاتم: أيكون الإسلام حَكَما على المسلمين، أم يكون المسلمون حكما على الإسلام؟ الجواب عند العقلاء المنصفين.

_ (1) الأولى أن تكون العبارة هكذا: ليس بقراءة ألفاظ القرآن والسنة (فقط) يتقدم المسلمون. والله أعلم.

وبعد، ما سر الغلط في سؤالكم؟ السر هو: أنكم جعلتم ما هو موضوع التفكير مصدرًا للتفكير. أفهمتم؟ جعلتم حال المسلمين مصدرا للحكم على الإسلام. والصواب أن يكون موضوع تفكير: لماذا تأخر المسلمون ودينهم سبب تقدمهم؟!! * * *

السؤال الخامس: كيف حدث هذا في السعودية؟

السؤال الخامس: كيف حدث هذا في السعودية؟ عندما قتل مسلم غير مسلم، لم يقتل المسلم، وعندما سألنا: لماذا؟ كانت الإجابة أن رسولكم أمر بهذا! فهل هذا عدل؟ كيف تلومون اليهود على قولهم: إنهم شعب اللَّه المختار، وفي نفس الوقت نبيكم وأتباعه يدعون الامتياز على غيركم. أليس هذا تناقضا ونفاقا؟! * * * الجواب قياس مع الفارق: قياسكم مسألة فرعية هي مسألة القصاص على قاعدة كلية هي: زعم اليهود أنهم شعب اللَّه المختار، على سائر الشعوب، وأن غيرهم من الأمم إنما خلقهم اللَّه ليكونوا لهم عبيدا فالمسألة الجزئية مسألة فقهية تحتمل وجوها من الاجتهاد، فهي من مسائل العلم الذي بذل فيه الفقيه جهده ليتعرف على حكم الشريعة. وليست من (أصول الاعتقاد) التي تفرق بين المسلم وغيره. أما مسألة (الشعب المختار) فإنها قضية (عرقية) تتصل بالدم والعرق، لا مجال فيها للعلم والاجتهاد، بل ولا لفضيلة مكتسبة وإنما هي تفضيل بالعرق والميلاد، فهي عندهم من مسائل الاعتقاد، والخبر المنصوص عليه بالنص القاطع الدلالة في رأيهم. وما شأنكم باليهود وعصبيتهم، أما كان في شأنكم ما يصرفكم عنهم، وأنتم ما ابتعدتم، لا في ماضيكم، ولا حاضركم عن هذه (العرقية) . إن علماءكم - منذ عصر النهضة - قد أعادوا النظر في تعريف الإنسان، فكان منهم، إذ لم يكن جيمعهم، من اعتبر الإنسان إنما هو ذلك الجنس الآرى، واقتنعوا باختلاف العناصر والسلاسل، فكان منهم من كاد يجعل السلالة الآوية نوعا

(سيكولوجيا) يضارع النوع (البيولوجي) في الاختلاف. ولم يتراجعوا عن هذا الجهل إلا بعد محنة الحرب العالمية الثانية؛ إذ تراجعوا سريعا عن هذا التصنيف للإنسان. هذا التصنيف الذي خيل لأصحابه قبل جيل واحد أنه حقيقة واقعة تستغني بالنظر عن البرهان. وما كانوا ليسرعوا في هذا التراجع لولا بلاء الإنسانية بعواقب ذلك التصنيف الوبيل؛ لأنه التصنيف الذي سوغ لعنصر من العناصر أن يستبيح السيادة على الأم عنوة، وأن يستكثر حق الآدمية على تلك الأم التي لم يدخلها معه في قرابة الإنسان للإنسان!! وهذا الإعلان العالمي الصادر سنة 1949 م بعد تلك المآسي التي أهلكت الحرث والنسل، ظل (نظريا) إلى حد كبير، وما زالت وقائع (التطهير العرقي) وصمة عار تشهد على فاعليها بالخزي والعار. وما زالت شهاداتها ناطقة في البوسنة والهرسك وفي كوسوفا. فهل نسيتم هذا وتذكرون حكما اجتهاديا يقبل النقض والاختلاف، ويتعلق، عندما يطبق، بفرد لا بأمم وشعوب، فأي الناس أولى بصفة (الشعوبية) ؟. 3 - ما هي الرؤية العلمية، في فقه الإسلام، لهذه المسألة؟ منذ القرن الثاني الهجري، بل من قبله وإمام أئمة الفقه، أبو حنيفة يقول بقتل المسلم بالكافر الذمي أو المعاهد. ومنذ عهد الرشيد، وقاضي بغداد أبو يوسف، حكم بقتل المسلم بالكافر. والقاضي حسين بن أحمد الزوزني، وقد سئل في المسجد الأقصى 487 هـ، 1093م، عن قتل المسلم بالكافر، فقال: يقتل به قصاصا، وأدلة هذا الفقه: عموم قوله - تَعالَى -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) وعموم قوله - تَعَالَى - (. . النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) . ومن الحديث ما رواه البيهقي من قول الرسول وفعله. من أنه قتل مسلما بمعاهد، وقال: أنا أكرم من وفى بذمته " ومن الفقه: أن المسلم تقطع يده بسرقة مال الكافر غير المحارب، وحرمة الدم أولى بالرعاية.

ولهذا الفقه، يقتل الرجل بالمرأة، ويقتل الرجل بالطفل ويقتل الحر بالعبد. والقول بعدم قتل المسلم بالكافر ليس كل فقه المسلمين. وعند الموازنة، أو الاعتراض، لا يؤخذ علم دون علم، ولا فقه دون فقه. هذا هو المنهج العلمي السليم لمن يبتغي الحق ويتجرد لطلبه. .. * * *

السؤال السادس: قرآنكم عندما قرأناه وجدنا فيه متناقفات كثيرة، ولم نجد ديه وحدة الموضوع، نجده يقفز من موضوع إلى آخر، وفيه تكرار كثير جدا. وتقولون إنه معجزة. فكيف هذا؟

السؤال السادس: قرآنكم عندما قرأناه وجدنا فيه متناقفات كثيرة، ولم نجد ديه وحدة الموضوع، نجده يقفز من موضوع إلى آخر، وفيه تكرار كثير جدا. وتقولون إنه معجزة. فكيف هذا؟ * * * جواب السؤال السادس قلت قبل الإجابة المباشرة: 1 - لهذا السؤال (خلفية) هي ما زعمه المستشرقون، قبلكم من بشرية القرآن، والزعم بأنه من صنع محمد، ومن تعلمه من غيره. وهي فرية قديمة، منذ نزول الوحي بالقرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - وسجلها القرآن نفسه، في مواضع منها في سورة النحل في الآيات (101، 105) وفي سورة الفرقان في الآيات 4 - 6) . فالذين يقولون ببشرية القرآن يتبعون سلفا لهم خاسرين. وهؤلاء المحدثون يزعمون أن القرآن (انطباع) في نفس محمد نشأ عن تأثره ببيئته التي عاش فيها. ومنهم من يقول: إن القرآن (تعبير) عن الحياة التي عاشها محمد. والمستشرق الإنجليزي (جب) أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد بأمريكا ممن يقول بفكرة (الانطاع) في كتابه المذهب المحمدي. فأنتم في هذه الشبهة أتباع مقلدون، وببغاوات حاكية. وقد تحدى القرآن العالمين، وما زال تحديه قائما، وما زالت وجوه إعجازه تلفت نظر الدارسين، وما زالت الكشوف العلمية تزيد اليقين به، وأنه وحي يوحى. وهذا هو الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) قد درس الكتب الثلاثة دراسة علمية، خرج منها بكتابه: (القرآن والتوراة والإنجيل والعلم - دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) وكان من ثمرات دراسته الحرة أن أسلم عن يقين بإلهية القرآن الكريم. فهل تقرءون؟!!. ولا أريد هنا أن أنقل لكم بعض ما انتهى إليه من تناقض كتابكم المقدس وحقائق العلم.

مع براءة القرآن من ذلك، فما بنا حاجة. نحن المسلمين، إلى تشويه عقائد غيرنا، ولولا تهجمكم على ما لا تعرفون لما ذكرنا مثل هذا ولا أشرنا إلى ما سلف من تناقضه!! وما نذكر من ذلك إلّا على سبيل إقناعكم بأنه كان أولى بكم أن تستروا عوراتكم، قبل أن تتلمسوا العيب للبريء فنذكركم - فوق ما قدمنا - ببعض ما عندكم لعلكم تذكرون. يذكر سفر الأيام الثاني ص: 21، 22، أن (يهورام) نصبوه ملكا وكانت سنه اثنتين وثلاثين، وأنه ملك ثماني سنين، ثم مات. فتكون سنه عند موته أربعين. وأن ابنه (أخزيا) ملكوه بعد أبيه، وكانت سنه اثنين وأربعين سنة!! ومن مقابلة النصين يكون الابن أكبر من أبيه بسنتين، فيكون قد ولد قبل أبيه، وهذا عندكم كلام مقدس بري من التناقض.. لقد دام جدل بحثي عن حقيقة المسيح - دام في أوربا مائتي عام كاملة، حتى أنكره المنكرون على مدى مائتي عام، وفي سبيل عرض هذه الآراء يذكر (ول ديورانت) في موسوعته (قصة الحضارة) في المجلد الحادي عشر أن نابليون عندما التقى 1858 بالعالم الألماني (فيلاند) سأله: هل يؤمن بتاريخية المسيح؟ يقول (ول ديورانت) : ترجع أقدم النسخ التي لدينا من الأناجيل الأربعة إلى القرن الثالث. أما النسخ الأصلية فيبدو أنها كتبت بين عامي 60، 120 م ثم تعرضت بعد كتابتها مدى قرنين من الزمان لأخطاء النقل، ولعلها تعرضت أيضا لتحريف مقصود. .. يقول: وإنجيل مرقس يكرر المسألة الواحدة أحيانا في عدة صور.. وإنجيل متى يردد أقوال إنجيل مرقس ولوقا ينص في إنجيله أنه - رغب في تنسيق الروايات السابقة عن المسيح. . ويقتبس كثيرًا من كتابات مرقس، كما يقتبس منها متى. .. يقول (ول) : وملاك القول أن ثمة تناقضا كثيرا بين بعض الأناجيل والبعض الأخر، وأن فيها نقاطا تاريخية مشكوكا في صحتها، وكثيرا من القصص الباعثة على الريبة.

والشبيهة بما يروى عن آلهة الوثنيين. . . ". هذه شهادة مسيحي على أعلى مستوى من الثقافة، والحياد العلمي في موسوعته التاريخية، أما كان لكم شغل بما ذكر عن كتابكم من تناقض، وخيال، ووثنية!! كنت أود لأصحابنا ألا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون، من أسرار القرآن وأسرار بلاغة العربية وفقه لغتها، وذروتها هو القرآن. وكل ذلك ميادين فسيحة، جال في رُحبها فطاحل من علماء العربية الأجلاء والذين أفنوا أعمارهم في التعرف على الأسرار الدقيقة لبلاغة القرآن، وقد قضوا وما أفرغوا الدلاء. وما زال العلماء المعاصرون يغترفون، ويستكشفون، ومنهم من برز في بيان الوحدة الموضوعية في القرآن كله، وفي كل سورة من سوره، طالت أم قصرت. والوحدة الموضوعية في كل سور القرآن من موضوعاته الدقيقة، وقد تكلم فيها الشيخ رشيد رضا في تفسيره، ثم بلغ الذروة فيها المرحوم الشهيد سيد قطب في (ظلال القرآن) . لقده كان العرب المكذبون للرسول حراصا على اتهام القرآن بكل ما ينفي أنه وحي فهل سمعتم أنهم اتهموه بالتناقض، أو تفكك الموضوع، وهم أفصح فصحاء لغته؟ لقد كان العربي الأصيل يدرك بعض هذه الأسرار البلاغية في القرآن بفطرته، حتى الصبية منهم. حدث الأصمعي قال: مررت بصبية وهي تغنى منشدة: أستغفر اللَّه لذنبي كله. . . قبلت إنسانا بغير حِلِّه مثل الغزال ناعما في دَلّه. . . فانتصف الليل ولم أصلّه قال الأصمعي: فقلت لها. قاتلك اللَّه، ما أفصحك!! قالت: أتعد هذا فصاحة مع قول اللَّه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) . قال الأصمعي: قلت للصبية: وما فيها؟ قالت: آية واحدة جمع فيها بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين. هذا شأن صبية لم تدخل معهدا، ولم تنتسب إلى جامعة لكنها عربية.

6 - من خصائص أسلوب القرآن

الطبع والسليقة. فما للأعاجم وبلاغةَ القرآن وما للحدادين وصوغَ اللآلئ؟ كان العربي غير المسلم يسمع القرآن فيخر ساجدا، ويقول: إنما سجدت لبلاغته!! حدثني نصراني قبطي فقال: عندما أسمع القرآن الكريم يأخذ بمجامع قلبي؟ والعجب مما حدثتني به سيدة إيطالية لا تعرف كلمة واحدة من اللغة العربية. قالت: عندما أقرأ القرآن يأخذ بقلبي، عقب الحرب العالمية الثانية، وعودة الجنود البريطانيين سألت إحدى المجلات بعض الجنود عن أعجب ما شاهده في الشرق، وكان له أشد جاذبية؟ فجاء جوابه: صوت قارئ القرآن!! إن الذين لا يتذوقون فقه اللغة وسر العربية يعيبون القرآن بما هو من سر العربية. سأل سائل قليل الفقه في أسرار البلاغة، عالما بالعربية. قال: هل يقال: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) فأجابه: ويحك؟ هب أنك تتهم محمدًا في نبوته، فهل تتهمه بأنه لم يكن عربيا؟ !! * * * 6 - من خصائص أسلوب القرآن أ - أنه إذا ذكر الشيء قرنه بمقابله، وإذا ذكر حال الكافرين ذكر حال المؤمنين، وإذا ذكر جزاء المؤمنين ذكر جزاء الكافرين، وهكذا. وهي خاصة تتفق وحقيقة من حقائق علم النفس، إذ ينتقل الذهن من الشيء إلى ما يشبهه وإلى ما يقابله. وبهذا يتمكن القول ومعناه من النفس فضل تمكن. فإذا رأى هذه المقابلات من لا يفقه سر القرآن ولا سر النفس ظن هذا انتقالا إلى غير المناسب، وحَسِبه - مثلكم - قفزا من موضوع إلى موضوع، وأنه انتقال إلى غير معهود في كلام البشر. هذا، وقد عد شارح لامية العجم والعرب من وجوه البلاغة، التي لا يقدر عليها إلا الأفذاذ من البلغاء والشعراء براعة الانتقال من فكرة إلى أخرى. والذي ينتقد القرآن بعدم وحدة الموضوع نقده غريب، على مقياس أشد غرابة، كأنما القرآن الإلهي، ليكون مقبولا عند هؤلاء، لا بد أن يكون على نسق كلام البشر!! فاعجب لمن يطلب من الإلهي أن يكون بشريا!!

إن تناسب آيات القرآن في السورة الواحدة، وتناسب سوره، ورفع ما قد يتوهم من تعارض، والترجيح بين نصوصه - هذا كله من علوم الإسلام الخاصة، ومن معالمه العقلية التي رسمت فلسفته الخاصة قبل أن يعرف المسلمون فلسفات الأم الأخرى. ب - ومع عادة القرآن في ذكر المقابل يجد الفطن اللبيب، ومن رزق الذوق الفني في بلاغة لغته يجد لكل سورة من سوره. روحا واحدا تتميز به عن كل ما سواها من السور، تتعدد بعدد سوره. وهذه معجزة أخرى لا يوجد قريب منها في كلام البشر. ومع هذا الروح يجد صاحب هذا الذوق سلكا دقيقا بديعا من معانيه، يربط موضوعاته في السورة الواحدة. خذ مثلا من سورة المجادلة: 1 - افتتحت بموضوع المرأة التي ظاهر منها زوجها، وشكت إلى الرسول، وكانت شكواها نجوى بينها وبين الرسول، لم تسمعها عائشة وهي في حجرتها قريب منها، وسمعها اللَّه، وأنزل حكم الظهار. 2 - فناسب ذلك أن يذكر اللَّه المحادّين لله ورسوله، وما ينبئهم بما كانوا عليه في سرهم وعلانيتهم. 3 - وناسب أن يذكر حال الذين يتناجون وعلمه بنجواهم. 4 - وناسبه أن يذكر حال المنافقين الذين كانوا يتناجون بمعصية الرسول ويقولون في أنفسهم: (لولا يعذبنا اللَّه بما نقول) يحسبون أنه لا يعلم سرهم ونجواهم. 5 - وناسبه أن يذكر للمؤمنين أدب النجوى وأدب المجالس. 6 - وأن يذكر لهم أدب نجواهم مع الرسول. 7 - ثم ناسبه أن يذكر الذين يتولون الكافرين، خفية، من دون المؤمنين، وأنهم يحلفون لله، كذبا، يوم القيامة، كأنهم يحسبون أنه لا يعلم. إنها موضوعات يحسب عديم الذوق أنها متناثرة، ولكن عند التذوق نجدها مجموعة تحت فكرة النجوى، كما بحدها جميعها: تربية للنفوس ودخائلها، وبناء

أما ما زعمتم من وجود التكرار في القرآن

لهذه النفوس التي ستنهض ببناء المجتمع الإنساني كله؛ ولذلك نشهد في هذه السورة علاجا لبعض الأحداث والعادات، والنزوات، كما نشهد فيها تربية اللَّه لجماعة المسلمين، ويبنى في ضمائرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها في أخص حالاتها، وأخفى طواياها، كما يرلي أخلاقها على مما يليق بالجماعة الرائدة المعلمة، المخصوصة بعنوان (حزب اللَّه) . * * * أما ما زعمتم من وجود التكرار في القرآن أقول لعلكم انشغلتم بما ذكره صاحب قصة الحضارة من أن مرقس يكرر المسألة الواحدة في عدة صور، وأن متى يكرر أقوال مرقس، وأن لوقا يقتبس كثيرا من كتابات مرقس. لماذا لم تعيبوا هذا؟ وهذا - حقا - لا يعنينا، ولا يشغلنا، إن الذي يعنينا أن نوضح لكم سوء فهمكم للقرآن، وزعمكم التكرار فيه إنما منشؤه هو منشأ سابقه، من عدم فهم أسرار تراكيب القرآن. إن القرآن عندما يذكر قصة، كقصة موسى، وهي أكثر قصص القرآن ذكرا، لا يكررها، وإنما يذكر منها، في كل موطن جزءا منها يناسب سياق الموضوع الذي ذكر فيه، بحيث إنك لو جمعت هذه الأجزاء كوفت (وحدة موضوعية) متكاملة. وأمر آخر: هو أن القرآن كتاب هداية، قبل أي غرض آخر، وهو خطاب للبشرية كلها، يضع لها نظمها في الاعتقاد، والعبادد، والعلاقات الاجتماعية والمالية، والآداب التي تعلي الإنسان. وللوصول إلى هذه الأهداف لا بد أن يطرق الموضوع الواحد عدة مرات، مع اختلاف الأساليب وتنويعها، مرة بالشدة، وأخرى باللين، وتارة بالتصريح، وأخرى بالتلميح، ومرة بالبسط وأخرى بالإيجاز، ومرة بضرب الأمثال، وأخرى بتأييد المقال، وكان لا بد في علاجه لأمراض النفوس، وعاداتها المتمكنة، من أن يسلك طرقا متعددة، وأساليب متباينة تبعا لتباين النفوس البشرية التي يخاطبها ويعالجها، واختلاف استعداداتها، حتى يصل بها إلى ما يريد من

سلامتها وفلاحها. 9 - وهذه الميزة تسلمنا إلى خصيصة أخرى هي، أنه بهذا التنوع، في السورة الواحدة. يجعل كل سورة وحدة كافية بذاتها للهداية، كأنها بذاتها قرآن كامل، يكفي حافظها العمل بها، وهذا سر أنه تحداهم أن يأتوا بمثله، أو بسورة مثله ومن السور ما يكتب في سطر أو سطرين؛ لذلك قال الفاقهون للقرآن، كما قال الشافعي: لو لم ينزل على المسلمين إلا سورة العصر لكفتهم.. هل تكفيكم سورة العصر، أو سورة الزلزلة؟ * * *

السؤال السابع: القرآن غير مستقر في وصف أهل الكتاب:

السؤال السابع: القرآن غير مستقر في وصف أهل الكتاب: ففي آية (آل عمران: 110) سماهم، أو بعضهم: مؤمنين. وفي آية (آل عمران: 85) (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) وفي الوقت نفسه آية سورة البقرة 62 لم يشترط الإسلام! وعلماؤكم متناقضون في الجواب: نسأل إماما: هل أهل الكتاب كفار؟ منهم من يقول: نعم، ومنهم من يقول: لا. وآخر يقول: الذين سيدخلون الجنة هم المسلمون فقط إ! والقرآن نفسه فيه تناقض في وصف أهل الكتاب: كما في آيات: سورة البقرة: 62، والمائدة: 17، 72، 73، والبقرة: 105 وكذلك الآيات: في المائدة: 78، 57، والبقرة: 83، 101 وكذلك آل عمران 98، 101، 106، وسورة البينة: 6) . * * * 1 - مرجع الخطأ في هذا السؤال، وعدم فهم حكم القرآن على أهل الكتاب، هو أن السائل لم يفهم سر استعمال القرآن في حديثه عن أهل الكتاب، كما لم يفهم مدلول لفظ (إسلام) في الاستعمال القرآني. وثانية أنهم يأخذون من القرآن ما يوافق هواهم، ويتركون ما عداه! أما الثالثة فإنها آفة العلم، التي تفسد على صاحبها علمه وقصده. ولا حيلة لي ولا لأحد في علاج هذا الداء وهي عدم التجرد لطلب الحق. 2 - إن القرآن عندما يذكر عن بعض أهل الكتاب انحرافهم عما أنزل الله يذكرهم بعنوان (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) ثم يذكر بعض مثالبهم، وخروجهم

عن بعض ما أوحى اللَّه إليهم. وعندما يغريهم بالإيمان الكامل، ويدعوهم إلى الإيمان بما أنزل على محمد وهو مصدق لما أنزل عليهم - عند هذا يذكرهم بعنوان (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وعلى جهتي الذم أو المدح كان خطاب القرآن وحديثه عن أهل الكتاب على أربعة أقسام أن يقول: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وهذا لا يكون إلا في معرض المدح، ووصفهم بالإيمان. وإذا قال: (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) كان في موضع ذمهم والإخبار عنهم بالعناد وإيثار الضلالة ولا يكون هذا التعبير أبدا إلا في معرض ذمهم لعنادهم الحق وإيثارهم الضلال. وإذا قال (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (بالبناء للمفعول) كان أعم من الوجهين قد يتناولهما، ولكن لا ينفرد به الممدوحون قط. وإذا قال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) كان عاما للجنس كله يتناول الممدوح منه والمذموم. 3 - من هذا يتبين أن القرآن مع دقته في التعبير عن أهل الكتاب هو كذلك عدل، لا يغمط الصالحين منهم، ولا يجامل المعاندين، لذلك قال عنهم: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) . فأي اضطراب وتناقض في هذا؟ 4 - هؤلاء (الصالحون) الموصوفون بهذه الصفات هم (المسلمون) فإن (الإسلام) بحكم اشتقاقه اللغوي، واستعماله القرآني، هو الدين الحق الذي بعث اللَّه به كل الأنبياء. فالمسلم الحقيقي - في حكم القرآن - هو من كان خالصا من شوائب الشرك بالله، مخلصا في أعماله مع الإيمان، من أي ملة كان. وهذا هو المراد بقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) . ذلك لأن اللَّه شرع الدين لأمرين أصليين: تصفية الأرواح، وتخليص العقول. وثانيهما: إصلاح القلوب بحسن القصد في جميل الأعمال وإخلاص النية لله.

6 - تعالوا إلى كتابكم:

فكل من هذين الأمرين هما روح المراد من كلمة الإسلام. بهما جاء محمد عليه السلام، وبهما جاء كل النبيين. فإذا آمن أحد من أهل الكتاب بمحمد فإنه حقيق بوصف الإيمان والإسلام وكذلك من آمن بنبيه، في زمانه، على الوجه الصحيح فإنه حقيق بوصف الإيمان والإسلام، مستحق للجزاء الحسن، وهذا أمر بين غاية البيان في القرآن، وما يشبّه به إلا فاسد الذوق اللغوي، أو مكابر لا يؤمن بالحق وإن كان في وضوح النهاره لقد فهم صاحب قصة الحضارة هذا فقال: لقد عرّف محمد (الدين) تعريفًا لا يأبى اليهودي المخلص ولا المسيحي المخلص أن يقبله ويدخل فيه!! انظروا إلى قول المنصفين منكم. ما تقولون في اليهودي الذي آمن بموسى، وأدرك المسيح فكفر به، وكذبه وكاد له، وحاول تسليمه للسلطة السياسية لقتله، ورمى أمه العذراء بالعظائم والفواحش - ما تقولون في هذا؟ أيكون مؤمنًا مسلمًا لمجرد إيمانه بموسى؟ أيستوي هو ومن آمن بالمسيح كإيمانه بموسى؟ اللهم لا، فإذا حكم القرآن على أهل الكتاب بالإيمان فهو حكم على من آمن بنبيه ولم يدرك غيره، أو من آمن بنبيه وأدرك غيره فآمن به. ألا يستحق هذا وصف الإيمان. أما من آمن بنبيه وكفر بمن قبله أو بعده. أيكون مؤمنا؟ اللهم لا، فأي غرابة في هذا، أو أي تناقض؟ إن التناقض إنما هو في الفكر المعوج، والقلوب غير السليمة. * * * 6 - تعالوا إلى كتابكم: في الإصحاح 18 من سفر حزقيال، قال الرب: ما لكم تضربون هذا المثل: الآباء أكلوا الحِصْرِم وأسنان الأبناء ضرست. لا تضربوا هذا المثل. . النفس التي تخطئ هي تموت، والإنسان البار ولعل حقا وعدلا. . فهو بار، حياة يحيا. . فإن ولد ابنا سفاك دماء. . أفيحيا؟ لا يحيا". قلت: وهذا تفريق حق وعدل، وهو ما قرره القرآن بالنسبة لأهل الكتاب، ولكل إنسان. وقال يشوع للقادة الدينيين الأشرار: أيها الحيات أولاد الأفاعي، كيف

والخلاصة

تهربون من دينونة جهنم (متى 23 / 33) فها هو يحكم بهذا الحكم على (القادة الدينيين) الذين انحرفوا ورفضوا المسيح. وجاء في يهوذا (1/6) الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم.. كان جزاؤهم الهاوية. وكان الطوفان (ر. بطرس 2/ 4 وتكوين 6 / 4 - 5) . وتحدث (صموئيل) عن نبوته وقضائه الصالح، فلما كبر، أقام ابنه مقامه. أفسد وظلم وأخذ الرشوة (صموئيل الأول (2/ 18، 25 / 1) فهل يستوي هذا اليهودي المفسد وأبوه الصالح؟ هذا ما سجله القرآن في سورة الأعراف (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) . * * * والخلاصة أن عقيدة المسلم أن السابقين على الإسلام من أهل الأديان جميعا لهم أجرهم عند ربهم، كمن آمن بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما سجله القرآن في آية سورة البقرة (62) التي استشهدتم بها على غير بينة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) . وأن من آمن منهم بنبيه وبمحمد فله أجره مرتين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ. .) (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ. . .) يالعظمة العدالة في سمائها التي لم ينلها غير الإسلام. ماذا تبغون؟ هل فوق ذلك مرتقى؟ ألا إنه ليس أقدر من الإسلام على تقريب الشقة بين أهل الأديان!! * * *

السؤال الثامن: الإسلام حط من شأن المرأة في قضايا كثيرة: فهي تعامل كشيء مملول منه، وأنها مواطن من الدرجة الثانية.

السؤال الثامن: الإسلام حط من شأن المرأة في قضايا كثيرة: فهي تعامل كشيء مملول منه، وأنها مواطن من الدرجة الثانية. والدلائل كثيرة، منها: * قول نبيكم: الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة. * يرث الرجل ضعف المرأة. * شهادة الرجل بشهادة امرأتين.. * الحجاب، وقيود كثيرة من زوجها، وليس على الرجل قيود، والرجل يذهب إلى الشاطئ، ويلبس المايوه، وامرأته عنده خادمة، تلبس الحجاب في الحر الشديد، وتنتظر (السيد) حتى يخرج من البحر. وقد شاهدنا ذلك على شواطئ كندا. أقوال كثيرة من نبيكم تهين المرأة. منها: لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. وقوله: من الفأل الحسن: المركب الحسن والمرأة الصالحة والدار الفسيحة! أين الأحاديث التي تدين، وتهين الرجل؟ فهل هذا دين عدل ومنطق؟ الرجل يتزوج من أربع، والمرأة غير مسموح لها! الرجل المسلم يتزوج غير المسلمة، ولا يسمح للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم؟ إذا نشزت المرأة تضرب، وإذا نشز الرجل لا يضرب إ! * * * جواب السؤال الثامن 1 - أقول: (مسألة المرأة في الإسلام) من المسائل التي لغط بها كثيرون ممن يهاجمون الإسلام. ولصاحب هذه السطور كتاب في بيان وجه الحق في هذه المسألة بعوان: (المرأة في الإسلام، مكانها ومكانتها) في حوال مائة وخمسين صفحة يجيب فيها

على أساس الحقائق النظرية، والأمور الواقعية عن كل ما يثيره اللاغطون في موضوع المرأة. وعند الأخ حامد نبوي - في بروكلن - نسخة منه، وهو منكم قريب، لمن شاء أن يستبين. وكان حريا لي أن أحيلكم إلى هذا الكتاب، ثم نكف عن سؤالكم. ولكن ليتمكن المريد من الاطلاع على الحق والحقائق أوجز الجواب. وفي حديث نبينا: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. 2 - في إنجيل متى ص: 15) : وإذا امرأة كنعانية، صرخت إليه، ارحمني يا سيد، يا بن داود، ابنتي مجنونة، فلم يجبها بكلمة، وطلب إليه تلاميذه أن يصرفها، فأجاب: أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة أعني. فأجاب: ليس حسنا أن يؤخذ خبز النبيين ويطرح للكلاب. فقال: نعم يا سيد والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها. . . ". ها هنا امرأة تستغيثه فيأبى لأنها من غير جنسه. فتسجد له، فيجيبها: إنها من الكلاب، وما الكلاب إلا كل الشعوب غير الإسرائيلية. وهذا معنى تؤكده الأناجيل كلها. فهل هناك، إهانة (للإنسان) كله رجالًا ونساء أشد من ذلك. 3 - وفي سفر التكوين ص: 3 ما خلاصته أن الحية أغوت حواء، وأن حواء (المرأة) أغوت آدم، والنتيجة: لعن اللَّه الحية، وحكم بالتعب على المرأة، وباشتياقها إلى الرجل، وسيادة الرجل عليها. وكذلك حكم على الأرض باللعنة" هذه مكانة المرأة في كتابكم المقدس. وهذه الكائنات غير المكلفة تلعن بسببها، الحية والأرض. قايسوا هذه القصة بما في القرآن الكريم وقد ذكرت في ثلاثة مواضع في سورة البقرة والأعراف وطه وليس فيها أن حواء هي التي أغوت آدم، وبذلك برأ المرأة. وهذا المعنى تشير إليه الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس ص 11، وكذلك في تيموثاوس الأولى ص 2. فأين هذه المنزلة من منزلة المرأة في الإسلام. وفي هذه النصوص المقدسة عندكم دلالة على انقسام هذا النوع الإنساني إلى ذكر وأنثى إلى رجل وامرأة. وهو اعتراف (ديني) تؤيده حقائق الواقع، وبدهيات العلم. فكل دعوى

تزعم المساواة المطلقة وعدم الفوارق بينهما تكون من لغو الكلام الذي لا ثقل له في ميزان دين أو علم أو واقع؟ لقد ترجمت قصة الشجرة سر الجنس الكامن في طبائع الأحياء جميعها، بين الإرادة والإغواء، والمطاردة والانقياد ويؤكد (العلم) ذلك بما في الخلايا الجسدية التي يتركب منها كيان الذكر والأنثى عامة، والرجل والمرأة خاصة، آفة عصرنا أنه مولع بمخالفة القديم، كل القديم، على هدى وعلى غير هدى. 4 - يمتاز الرجل بالخصميتين، وتمتاز المرأة بالمبايض، ولكل من هذه الميزة وظيفة على جانب كبير من الأهمية. خصيتا الرجل تولد الخلايا الذكرية، ومبايض المرأة تولد الخلايا الأنثوية. وهذه وتلك تفرزان في دم الرجل والمرأة مواد معينة، تختلف في الرجل عنها في المرأة، مواد الرجل تطبع فيه خصائص ذكرية، مثل الجرأة والقوة.. بينما مبايض المرأة تفرز خصائص أنثوية. هذه المواد توجد الفوارق بين الرجل والمرأة، فوارق لا حيلة للرجل ولا للمرأة فيها، ولا للمجتمع، بل ولا للعلم فالعلم لا يوجد معدوما في الواقع أوفي العقل، وإنما يصف الواقع، أو يفسره. فكل دعوى تزعم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة إنها خيال يصوره الهوى، والبعد عن العلم. 5 - ومفارقة أخرى في المقياس، تلك هي جعل حال المرأة الغريبة هي مقياس التقدم مع مخالفتها للعلم، وللدين، حتى دينهم، وهي حلقة من حلقات تشويه الإسلام، بقصد حماية الاستعمار في البلاد الإسلامية. تلك الحملة الفكرية التي عمدت إلى تشويه كل قيم الإسلام فالزكاة ما هي إلا تطهير للمال النجس. والجهاد ما هو إلا اسم للعدوان، وعدم ولاية المسلم للكافر ما هي إلا رفض للتعاون الإنساني. وفكرة العودة إلى القرآن عند الاختلاف ما هي إلا ردّة إلى الجهالة والبدائية. وفكرة قوامة الرجل في بيته ما هي إلا فكرة التفوق الجنسي، واستبقاء لرذيلة الرق. حتى فكرة التوحيد هي عند (رينان) الفرنسي مهانة للإنسان بالاستعلاء الإلهي، الذي لم يتواضع فيه الإله وينزل للبشر ويتشبه بهم!! وهكذا يستطع صاحب الهوى بأن

يعيب الشمس بضيائها والقمر بنوره والماء الفرات بعذوبته. . .!! 6 - فالحقيقة أن كل خلية من خلايا جسم المرأة والرجل تحمل طابع كل منهما. إن الرغبة في المساواة المطلقة لا يمكن إحلالها محل الواقع. وواقع القانون الفسيولجي. وما يترتب عليه من الفوارق السيكولجية شواهد بالفوارق بين ذكورة الرجل وأنوثة المرأة. ومن اللجاجة الفارغة الزعم بأن الرجل والمرأة نوع واحد. كما آثرت (وثيقة المرأة) ، وطالبت بإلغاء كلمتي (. . .) التي تعنى الذكر والأنثى واستعمال كلمة (. . .) التي تعني النوعين معا. وزعمت تلك الوثيقة أن الفوارق وهمية! وهو زعم يكذبه العلم؛ لأن طبيعة الخلقة تأبى أن تنشئ جنسين مختلفين لتكون لها صفات الجنس الواحد، ولو كانت الصفات والخصائص واحدة لا نعدمت الاثنينية، ولكان الجنسان شيئا واحدا، ولما كان للفظ الرجل ولفظ المرأة معنى، وللزم أن نسميهما باسم واحد لا دلالة فيه على ذكورة ولا أنوثة، ولو استطعنا ذلك بالمكابرة في شأن الإنسان فما لنا من حيلة في شأن الكائنات الحية من النبات والحيوانات، وما شأن الإنسان في الذكورة والأنوثة إلَّا كشأن سائر الكائنات الحية! إن هذا الاختلاف الذي خلقه اللَّه لم يخلق ليلغيه الإنسان، أو ليكون في قدرته إلغاؤه. إنما خلق للاعتراف به، وتوجيه وجهته الملائمة. وفي ذلك صلاح الإنسان وصلاح الحياة. إن المرأة يزودها اللَّه بالعطف، والحنان، والرقة، والرفق بالطفولة، والصبر عليها، والقدرة على فهمها، والسهر على رعايتها في أطوارها الأولى، بل وباللذة في ألم الحمل والولادة، والرعاية. . إنها لم تزود بكل ذلك لتهجر البيت، وتزاحم الرجال في المصنع والسوق. .. إن الأمة لن تخسر شيئا إذا فقدت المرأة المهندسة أو المحامية ولكن الأمة سوف تخسر كل شيء إذا فقدت المرأة الأم،

7 - المنطلق الفلسفي للرؤية الإسلامية:

7 - المنطلق الفلسفي للرؤية الإسلامية: من عجائب التشريع الإسلامي، وعجائبه كثيرة، موافقته في مسألة المرأة لحقائق العلم، وفلسفته فيها، تلك الفلسفة التي يمكن التعبير عنها في كلمة واحدة هي: إنسان. تلك الكلمة التي رفعت هذا الخلوق عن كل ما سواه. هذه (الإنسانية) واحدة في الرجل والمرأة على سواء. ونتيجة هذه المساواة الطبيعية أن كل ما هو حق، أو واجب من جهة الإنسانية تستوي فيه المرأة والرجل، فتكاليف: العقيدة، والعمل والدعوة إليها، وفضائل الأخلاق، ونشرها في المجتمع ومطالب العقل والروح، في العبادة والعلم والفكر والذكر. ومطالب الجسد وحظوظه من المتعة والطعام والشراب والمأوى والكساء. والنظافة، والزينة. .. هذه كلها يتساوى فيها الجنسان. وعلى هذا جاءت آيات القرآن: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) . لكن المرأة، وإن كانت إنسانا فإنها (نوع) منه. إنها (نوع) من الإنسان منفرد بخصائصه، كان من الحق والعدل والمصلحة، ومطابقة العلم - ألا تحمل من خصائص (النوع) المقابل لها، ولا من وظائف خصائصه. وهذا ما فعله الإسلام، إذ ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الإنسانية، ولم يسو بينهما في الاختلاف النوعي، إذ ليس من العدل التسوية بين المختلفين خلقة وخصائص. فهذه التسوية هي الظلم بعينه. لقد وزَّع الإسلام التكاليف، والحقوق والواجبات بينهما على أساس من الاستعداد الطبيعي، والتكاليف الاجتماعية. وقامت معاملة المرأة على: - الأصل الجامع: (الإنسانية) - والنوع الفارق (الذكووة والأنوثة)

فما هو من حق الأصل الجامع، كحق الحرية المؤمنة المهذبة، وحق الرأي، وحق الكرامة الإنسانية، وحق الحياة، وحق الملكية، والتصرف فيها، وحق التفكير، وحق التعلم والتعليم، وحق التسامي والشوق إلى الكمال، وحق الجهاد، والمجاهدة في سبيل قيم الدين والأخلاق، وحق الدفاع عن نوعها، والمطالبة بحقوقها المشروعة. .. كل هذا للمرأة من حيث الأصل الجامع. أما ما هو من خصائص النوع الفارق فقد حط عنها الإسلام تكاليف المشقة، كمشقة السعي على المعاش، ومشاق الحروب، ودهاليز السياسة ومكرها، وأعباء السلطة. في سيكولوجية (الجنس) من مباحث علم النفس، والدراسة المقارنة يين الرجل والمرأة، تبينت جملة حقائق، منها: - في الخصائص الجسمية: هناك اختلافات أدق، من حيث الوظائف الفسيولوجية والتركيب الكيماوي للسوائل العضوية. وترجع هذه الاختلافات، في أصلها إلى التركيب الدقيق للخلايا لكل من الذكر والأنثى فمن المعلوم أن نواة الخلية تحتوي على عدد من العوامل الوراثية المختلفة التي تعين الخصائص الجسمية، ومنها الخصائص التي تميز بين الجنسين: فمتوسط وزن الجسم، عند الولادة أكبر عند الذكر منه عند الإناث بمقدار 5%، وتصل هذه الزيادة عند الشهر العشرين إلى 20%. . وفيما يختص بطول القامة فالنمو يسير وفقا لسير النمو في وزن الجسم. كذلك نجد الصبي يفوق البنت من حيث القوة العضلية، ويفوقها في القوة العضلية لقبضة اليد اليمنى بمقدار 10 % في سن السابعة ثم تسير الزيادة حتى سن العشرين حتى تصل إلى 55 - 60% في حين أن نمو القوة العضلية في البنت يميل إلى التوقف عند سن السادسة عشرة، كما أن استجابة الصبي العضلية أشد منها في البنت، فهو أميل إِلى الحركة وإلى النشاط العضلي الخارجي. وهناك فرق بين الجنسين في مقدار سعة الصدر، ومقدار التنفس (القوة الحيوية) . ومما هو جدير بالملاحظة أن النسبة بين القدرة الحيوية ووزن الجسم تكون دائما أكبر في الذكور وفي جميع الأعمار وإلى هذه القوة الحيوية يرجع تفسير ما يلاحظ على الرجل من نزوعه إلى العدوان،

9 - مسألة القوامة.

والسيطرة في العلاقات الاجتماعية. أما فيما يتعلق باكتمال النضج فالبنت تفوق الصبي ففي جميع الشعوب ودي جميع مناطق الأرض تصل البنت إلى البلوغ قبل الصبي. وكذلك تفوق البنت الصبي في سرعة نمو هيكلها العظمي وفي ظهور الأسنان وقدرتها على المشي وفي الخصائص الحسية والحركة. تبين أن المرأة تفوق الرجل في القدرة على تمييز طعم المالح والحلو والحامض. كما أن المرأة تفوق الرجل في القدرة على تمييز الألوان، وفي التمييز بين درجات الألوان. والرجل يفوق المرأة في القدرات الميكانيكية. ومن المسلم به تفوق المرأة على الرجل فى تصوراتها الذهنية البراقة ويتفوق البنون على البنات في القدرة الحسابية والرياضية. وفي الميول والاتجاهات: تبين أن البنات يملن إلى جمع الصور، وقطع الأقمشة، وإنما يميل البنون إلى جمع طوابع البريد وقطع الأحجار والصخور. وفي القراءة فالكتب التي تستهوي البنين هي كتب المغامرات العنيفة والرحلات والاستكشافات والأخبار العلمية، وتراجم الأبطال من الرجال. أما البنات فيملن إلى قراءة قصص الحب والمغامرات التي يكون أبطالها من الأطفال، وبصفة عامة: الكتب التي تصف ألوان النشاط النسائي.. (د. يوسف مراد: سيكولوجية الجنس) أرجو إعادة قراءة هذه الدراسة وتدبرها، ثم مراجعة النظرة الفلسفية لرؤية الإسلام إلى الأصل الجامع، والنوع الفارق لندرك المطابقة العجيبة، بين شريعة الإسلام وحقائق العلم والفلسفة. * * * 9 - مسألة القوامة. لست أدري كيف ساغ لمن في كتابه المقدس، كما تقدم عن سفر التكوين، من

قول الرب: إلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك - كيف ساغ لمن يؤمن بكتابه، وهذا إخباره المطلق بسيادة الرجل على المرأة أن ينكر على الإسلام قوامة الرجل على بيته فقط. فإن تحلل من دينه وكتابه فهل يمكنه التحلل من العلم، وهذه بعض نتائج بحوثه. فإن لم تكفه شهادة دينه، ولا حقائق العلم التطيقي أفلا تكفيه شهادة علم الاجتماع الذي يحتم، لسلامة الجماعة وجود أمير مطاع؟ إن قوامة الرجل على بيته، في درجة القيادة التي لا بد منها لكل جماعة. وهي قوامة استحقها بتفضيل الفطرة، ثم بما فرض الإسلام على الرجال من واجب الإنفاق على المرأة. يقول الأستاذ العقاد: وهو واجب مرجعه إلى واجب الأفضل لمن هو دونه فضلا، وليس مرجعه إلى مجرد إنفاق المال. فإن لم يكف هذا المعترض دين ولا علم، أفلا يكفيه شهادة التاريخ، تاريخ بني آدم منذ كانوا قبل نشوء الحضارات والشرائع، وبعد نشوئها. والإسلام في مسألة القوامة هذه منطقي مع نفسه، فالرسول يقول: "إذا كنتم ثلاثة فأمروا" هذا في السفر وهو حال عارضة، فما بالكم بالحال الدائمة، في الأسرة وتبعاتها نحو نفسها، وذريتها، ونحو مجتمعها وأمتها؟ أتترك بدون قيِّم. هذا فكركم ونظامكم الذي ترتب عليه كما قال فيلسوف فرنسا وعالمها الاجتماعي "جوستاف لوبون " في كتابه (سر تطور الأمم بالمساواة بين الرجل والمرأة) صار الرجل الأوربي من الرحّل لا بيت يأويه ولا أسرة يسكن إليها. هذه دعوتكم في مؤتمرات المرأة، وهذه حال البيت عندكم. تقيسون عليها مع كثرة الشكوى حتى من أهلها. ذلك البيت الذي أبيح فيه للمرأة أن تخالط المرأة، وللرجل كذلك. يقول الأستاذ العقاد، رحمه الله: إنه لمما يؤسف له من آفات العصر الحديث زيغ الفكر الاجتماعي في المسائل الإنسانية الجلية، كمسألة التفريق بين الجنسين في الكفاية وفي الوظيفة. أما حديث الرسول عن سجود المرأة لزوجها

فأنتم لم تنكروا سجود المرأة الكنعانية ليسوع بن داود لمجرد طلبها منه ذاك الطلب الإنساني لشفاء ابنتها أما درجة هذا الحديث فإنه لم ييلغ درجة الأحاديث الصحاح؛ لذلك لم يروه الشيخان، البخاري ومسلم، وبعض طرقه ضعيف. أما من حيث تركيبه اللغوي فإنه يدل على امتناع معناه حيث يقول: "لو كنت آمرا. . . لأمرت. . .". ومعناه: امتناع الأمر بسجودها لامتناع أمره بسجود أحد لأحد. ويظل معناه: التعبير عن عظم حق الزوج على امرأته، وهو أمر لا ينكره الطبع السوي. وأما من حيث واقعه، فلم يحفظ تاريخ المسلمين سجود امرأة لزوجها بل حفظ عنهن تمام كرامتهن، كما حفظ احتفاظها برأيها، وما لها وشخصيتها. إن عمر بن الخطاب لم يستطع أن يمنع امرأته عن الذهاب إلى المسجد حتى في ظلام الليل في العشاء والفجر. إن طبيعة الحب والوفاء ترفع بين المتحابين فواصل المكانة، وقد كان الحجاج على جبروته يقبل رِجْل امرأته. وأصل السجود في اللغة: التطامن والتذلل. ولا شك عندما تحب المرأة زوجها فسوف تكون كذلك عن رضا واختيار. وهو ما يرضي عاطفتها الأنثوية، فتسعد بهذا الإرضاء. ومن معاني - السجود في اللغة القيام بالرعاية والمصلحة، ولا شك أن المرأة في ييتها هي قيمته، وراعية زوجها وأولادها، ومدبرة شئون منزلها. وكم من بيوت خربت لسوء المرأة في القيام على هذه المصالح وكم من بيوت سعدت، وغنيت بحسن قوامة المرأة. هذه هي معاني السجود في الحديث، وهي معان لا يدركها إلا من ذاقها من رجل وامرأة. وبذلك ندرك أن المرأة الصالحة هي خير متاع الدنيا، إذا صلحت صلحت حال الرجل والأمة، وإذا فسدت فسدت حال الرجل، وضاع الأولاد، وكان شقاء الحياة. إنها معان من حقائق النفس الإنسانية يشهد بها العلم، وتقيم لها التجربة ألف

10 - أما مسألة شهادة المرأة:

شاهد وشاهد. * * * 10 - أما مسألة شهادة المرأة: الزعم بأن شهادة المرأة مطلقا على النصف من شهادة الرجل مطلقا إطلاق غير سديد، وغير مطابق للحق، وغير علمي. أما أنه غير سديد فإن من حالات القضاء ما تقدم فيه شهادة المرأة، وذلك في كل ما هو من شئون النساء. وأما أنه مطابق للحق فإن المرأة الواحدة إذا شهدت، وظهر الحق بشهادتها فلم يقل الإسلام بأن شهادتها تردّ، وقد فرَّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين زوجين لشهادة أمة سوداء أنها أرضعتهما. وقال أبو داود في سننه: باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به. وفي المقابل ترد شهادة الرجل إذا كان موضع ريبة، أو عدم ضبط، كما نهى الرسول عن قبول شهادة البدوي على أهل الأمصار. وأما أنه غير علمي فلأن جعل شهادة المرأة على النصف من الرجل فإنما هو في (التوثيق والتحمل) وليس في الأداء، التوثيق في مسائل المال والاقتصاد. وقد تقدم تحقيق علم النفس تفوق البنين على البنات في مسائل الحساب والرياضيات، وكذلك في القدرات الميكانيكية. ومع ذلك قال الإمام ابن تيمية: القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين في طرق حكم القاضي التي يحكم بها، وإنما ذكرها في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه وما تحفظ به الحقوق شيء، وما يحكم به الحاكم شيء، فإن طرق الحكم أوسع من الرجلين والمرأتين. فالمسائل المالية والاقتصادية ليست من طبيعة المرأة، فوعيها لها لا يكون كوعي الرجل. فالحكم منوط بطبيعة الشاهد؛ لذلك ردّ شهادة البدوي على الحضري. فلما كانت مسائل المال ليست من شأنها جعل توثيقها برجل وامرأتين. وهذا يتضمن نوعا من التكريم. لم يحظ به (الرجل البدوي) فإنه لم يرفض شهادة الواحدة، بل استوثق لها باستشهاد أخرى معها.. وذلك كما خفف عنها عبء القتال، ولكنه لم يمنعها من حضوره والمشاركة فيه، فإن حضرته كان جزاؤها كجزاء الرجل سواء بسواء.

11 - أما مسألة الميراث:

11 - أما مسألة الميراث: فمصيبة جهلكم فيها أشد، وأشد منه تعصبكم على الحق بنسيان ما عندكم. ويتضح هذا من المقابلة بين مركز المرأة في حقوقها الشرعية، كما نصت عليها كتب التوراة، ومركز المرأة في حقوقها الشرعية التي قررها الإسلام بأحكام القرآن. ففي (سفر العدد ص: 27) ما خلاصته أن حق الميراث تحرم منه البنات إذا كان للميت المورث ابن، فإن لم يكن له ابن ورثت البنت بشرط ألا تزوج في غير سبطها؛ لئلا يخرج المال عن سبطها وهل تعلمون أن المسيحية لا قانون فيها للميراث. والأقباط في مصر يتوارثون بقانون الميراث الإسلامي. وفي اليهودية أن الزوجية سبب للميراث بالنسبة للزوج دون الزوجة. وفيها أن الابن الأكبر له مثل حظ اثنين من إخوته الأصغر سنًا منه. أما الأم فإنها لا ترث من ابنها ولا من بنتها. لقد كان هذا كافيا لذي حياء عن زعمه ما زعم عن الإسلام وهنا سؤال مهم: هل المرأة، في الإسلام، على النصف من الرجل في كل مسائل الميراث؟ القول بهذا الإطلاق جهل بعلم الميراث: هناك مسائل كميرة ترث فيها المرأة مثل الرجل، ومسائل ترث فيها أكثر من الرجل، ومسائل ترث فيها المرأة وتحجب الرجل. ولو كان لكم طاقة بهذا العلم لضربت لكم الأمثال ولكن حسبكم ثلاث: مسألة يتساوى فيها الرجال والنساء: إذا مات وترك: إخوة وأخوات لأم فلهم ثلث التركة، حظ المرأة كحظ الرجل. وكذلك إذا مات وترك: بنتين وأخا، فلكل ثلث التركة. * * * مسألة ترث فيها المرأة أكثر من الرجل إذا مات وترك بنتين وزوجة وعما: الزوجة: 3 / 24 البنت: 8 / 24 البنت الأخرى: 8 / 24 العم: الباقي: 5 / 24

12 - فما بال مسألة الحجاب

مسألة تأخذ فيها المرأة وتحجب الرجل إذا مات وترك: بنتا وأختا وعمًا: البنت: 1 / 2 الأخت: 1 / 2 العم: لا شيء أما عندما تكون المرأة على النصف من الرجل، فانظروا هذه الحقائق: تكون المرأة مستقلة بحقها، ولها ذمتها المالية المستقلة، وغير ملزمة بالإنفاق على نفسها من مالها ولا على أولادها. والرجل (صاحب الضعف) يدفع لها من ماله مهرها. وهديتها، وينفق عليها وعلى أولادها منه. فأيها أوفر حظا؟ إن المرأة في بلاد الغرب، قد يتركها مورثها ويوصي بكل ماله لكلبه! وهي ليست لها استقلال بذمتها المالية عن زوجها، فأي المرأتين أوفر حظا، وأكرم على أهلها. إن الميراث، في الإسلام، يقوم على رعاية: الأعباء الملقاة على الوارث، وعلى درجة القربى. كما يقوم على الحق والعدل والمصلحة. وهو نظام لا ينفصل عن نظام الأسرة، والأسرة دعامة المجتمع، ولو عمل الناس، منذ القدم آحادا متفرقين، من غير أسرة. لما بلغت الإنسانية شأوها التي هىِ عليه اليوم، والأسرة هي منبت العواطف الإنسانية في المجتمع كله، ولولا تربية العواطف عند النشأة في الأسرة لما عرف المجتمع كله عواطف التراحم والتعاون والمودة، ولا معاني التكامل والرعاية. بذلك يكون انهيار الأسرة هو خطوة الهدم الأولى، والمعول الأول في نقض بنيان المجتمع كله. فرعاية الأسرة بما فيها مسألة الميراث، فريضة تشريعية، وهي كذلك فريضة طبيعية، تمليها الفطرة وتمليها الشريعة، وافقت فيها الشريعة الفطرة والطبيعة! * * * 12 - فما بال مسألة الحجاب: يا أهل الكتاب، الذين تعيبون المسلمين، باحتشام نسائهم ماذا يقول كتابكم عن نسائكم؟

- في سفر التكوين ص 24: حديثه عن (رفقه) ولبسها البرقع استتارا من إسحق. والبرقع، الذي يستر كل الوجه لم يذكر في القرآن. ومثل هذا في التكوين ص: 38) وفي أشعياء ص: 3) . وحكم المتبرجات من بنات صهيون في قوله: (يصلح السيد هامة بنات صهيون) (أشعياء ص: 3) . وفي رسالة (تيموشاوس) الأولى: ولكن لست آذن للمرأة أن تُعَلَّم ولا تسلط على الرجل، بل تكون في سكوت". ويقول: وكذك أن النساء يُزَيِّن ذاتهن بلباس الحشمة، مع ورع وتعقل. ". ويقول جبران خليل جبران في كتابه (النبي) : ولا يغرب عن أذهانكم أن الحشمة ترسٌ منيع متين للوقاية من عيون المدنسين " قال ذلك وهو يعيش في نيويورك حيث مدنيتكم التي بها تفاخرون!! ومن يقرأ تاريخ المرأة، في مثل موسوعة (قصة الحضارة) يعلم أنها كانت يين اثنتين كلتاهما النار: بين إمساكها ضَنًّا بها، أو تسريحها هوانا بها وكانت حال المدنية الغربية نكسة إلى الطرف المضاد. وما زالت الراهبات من الديانتين، إلى اليوم على هذا الأدب الذي أشار إليه الكتاب المقدس. هل رأيتم راهبة متبذلة؟ هل رأيتم راهبة خلعت عذارها ونزلت إلى شواطئ كندا أو غيرها؟ في زيارتي لثلاث مدارس في إيطاليا، في ضواحي ميلانو، تلبية لدعوة مدرستها، وجدتها محتشمة بالنسبة لما هم عليه، فسألتها: لماذا لا تتبرجين كبنات قومك؟ فكان جوابها عجبا، قالت: عندما تتبرج المرأة تكون خارجة عن طبيعتها. والغربية التي تسلم تتحجب باختيارها، وترى ذلك مغنما لكرامتها. واستنقاذها من حطة التقاليد الغربية. إن لم يكق الحجاب فريضة إسلامية يجب الاعتزاز بها، فلا أقل من أن يكون من التقاليد التي يلزم رعايتها. إن المرأة الهندية تطوف العالم بزيها القومي القريب من

الحجاب فما عابها أحد، فلماذا المسلمة وحدها؟ جاء الإسلام فأصلح من أمر الحجاب كما أصلح سائر التقاليد الباقية من غير معنى، وجعل الحجاب أدبا مرعيا من الرجال والنساء، فالمؤمنون والمؤمنات مكلفون بغض البصر وحفظ الفروج. والمؤمنون والمؤمنات مأمورون برعاية أدب الاستئذان عند دخول البيوت، الكل يرعى هذه الآداب كما يرعى غيرها من آداب الإسلام الاجتماعية. ومفهوم الحجاب، عند قدماء المفسرين، ومحدثيهم لا يشمل الوجه والكفين. وربما القدمين كذلك، وما قد يكون على الوجه والكفين من كحل وخاتم وخضاب. كما لا يعني الحجاب حبس المرأة في البيت، إذ لم يكن الحجاب، على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مانعا من خروج المرأة، ومشاركتها في القتال ومزاولة التجارة، بل ولا من القيام بوظيفة الحسبة. فلا حجاب إذا بمعنى الحبس والمهانة، ولا حجاب يعوق الحرية المهذبة والمصلحة المطلوبة. إنما الحجاب في الإسلام هو الحجاب المانع للغواية والحافظ للحرمات ما أضل من يشرع الفساد ثم يجعله قاعدة يحتكم إليها. 13 - رصدت جائزة في بعض بلاد أوربا (أمسك عن ذكر اسمها) لكل فتاة بلغت الثانية والعشرين وما زالت عذراء. فلم تنجح واحدة، فنزلوا بالسن سنة إثر سنة حتى وصلوا إلى الثامنة عشرة فكفوا حياء واكتفاء من الفضيحة بهذا القدر. في بيان أسباب إسلامها تذكر (ما فيزب) الإنجليزية أنها درست الإسلام دراسة واعية بعيدة عن العواطف، وكان من موضوعات دراستها مسألة تعدد الزوجات، التي كانت تظن أنها وجدت طلبتها فيها؛ لإثبات نقص الإسلام، وإذا بها تخرج منها بكمال الإسلام وإكرامه للمرأة. يقول د. نظمي لوقا، في كتاب (محمد الرسالة والرسول) : ونظرة إلى واقع الحياة البشرية تطلعنا على تعدد النساء في حياة الرجل الواحد جهرا أو سرا وسواء برخصة من القانون أو الدين أو حث القانون والعقيدة. وما من عاقل يفضل التعدد بغير رخصة على التعدد برخصة. .. فضلا عما في العلاقات المختلسة من إضرار بالمرأة وإفساد لحياتها لا حيلة فيه ".

شريعة الإسلام مبنية على طرفي الحد والفضل، الحد هو الذي يأثم المسلم بالخروج عنه وتجاوزه. والفضل هو الذي يعلو بالمسلم في المكانة والخلق. مما يزيد ثوابه ولا يأثم بالنزول عنه ومسألة الزواج من المسائل الجامعة للحد والفضل، فالفضل فيها الوقوف عند واحدة. هذا فضل لا يفرض بقوة القانون؛ إذ لا فضل في قانون يفرض الاكتفاء بواحدة على شرع يبيح التعدد. أما الحد فهو إباحة التعدد، وهو لم يفرضه، وإنما أباحه باعتباره حالة لا بد من اعتبارها عند مراعاة الواقع الاجتماعي. إنه من المعلوم أن عدد النساء في العالم أكثر من الرجال بنسبة 2% كما لوحظ أن نسبة الوفيات لدى الأطفال الذكور أكبر من نسبتها لدى الأطفال الإناث فإذا أضفت إلى هذه الحالة الثابتة حالا عارضة كالحروب وما تهلك من الشباب - رأيت أن فضل التعدد يرتفع إلى حد الواجب. فالإسلام لم يفرض، في الحال العادية، التعدد، ولم يمنع توحيد الزوجة. وكل الأديان الكتايية ذكرت التعدد، ولم تفرض الواحدة. والكنيسة والدولة معا كانتا تقران تعدد الزوجات إلى منتصف القرن 17. وكانت علة الاكتفاء بواحدة مهانة للمرأة، إذ علل: بالاكتفاء من الشر بأقل حد ممكن؛ لذلك كان الأفضل عندهم الترهب وعدم الزواج. فأين تكريم المرأة في هذا؟ 1 - أما عدم إباحة زواج المرأة أكثر من رجل، فإني أحسب هذه من مسائل الهزل والمزح التي لا تثار في مسائل النقد العلمي، فهل - عندكم في دينكم. أو حتى مدنيتكم زوجة لعدد من الرجال؟ إن المرأة وعاء، فهل يتسع إناء لضدين؟ لقد عرف زواج المرأة من عدة رجال في الشعوب البدائية وما زال يوجد هذا النوع في جنوب الهند، وعلى حدودها الشمالية والحكومات الهندية تحاول إخضاع هذه القبائل لقوانينها العامة التي لا تبيح مثل هذا الزواج. وهذا الزواج كذلك موجود في جنوب أمريكا، وأماكن أخرى تجمعها كلها البداوة وعدم التحضر. وقد كان هذا أحد أنواع الزواج التي أبطلها الإسلام في سبيل إصلاحاته وإخراجه البشر من

15 - أما عدم زواج المسلمة من غير المسلم.

ظلمات الجهل والجاهلية. 15 - أما عدم زواج المسلمة من غير المسلم. فأمره أهون مما عندكم، ففي التكوين قول وصية إبراهيم لعبده الذي خلّفه على ماله وولده إسحاق: لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم. ومن قوانين الأحوال الشخصية المسيحية أن اختلاف الدين مانع من الزواج، فلا يجوز زواج يهودي بمسيحية، ولا زواج مع اختلاف المذهب في الدين الواحد، كزواج أرثوذكسي من كاثوليكية. فإذا منع الإسلام زواج المسلمة من غير المسلم فأي غرابة في تشريعه؟ إن المسلمة مؤمنة بكل الأنبياء، أما غير المسلم فهو جاحد لغير واحد منهم فهو أقل دينا وإيمانا فما تستحق أن تكون له القوامة عليها. قال عمر بن الخطاب: يتزوج المسلم النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. ومما يبين وجه العدل والصواب في هذه المسألة: أن المسلم يحرم عليه زواج الوثنية؛ لأنها لا تعترف بأي دين سماوي. قال - تَعَالَى - (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) . فالمسألة ترجع إلى ما يعرف في فقه الزواج: بالكفاءة؛ لذلك اعتبر أن يكون الرجل مساويا للمرأة في العفة، والاستقامة، فإن كان فامنقا بالزنا فلا يعتبر كفئا للعفيفة، حتى وإن تاب وحسنت توبته. فإذا منع الإسلام زواج المسلمة من غير المسلم فإنه يسير على منطق سوي وعدل ومعقول. ثم إن الزوج غير المسلم، ولو كان كتابيا، لا يعترف بدين المسلمة، بل يكذب بكتابها، ويجحد رسالة نبيها، ولا يمكن لبيت أن يستقر وهذه حال (القيم) فيه. وعلى العكس من ذلك إذا تزوج المسلم بالكتابية، فإنه يعترف بدينها والإيمان بكتابها ونبيها جزء من إيمانه، وبذلك يتحقق السكن والرحمة، ولا يتأتى منه إجبارها على ترك دينها. . .

هذا، على أن للمسألة وجها آخر من الاجتهاد الفقهي، إذ من العلماء من منع زواج المسلم من الكتابية، كمنع زواج غير المسلم من المسلمة، وبذلك تتعادل المسألتان، ويسقط الاعتراض. وإن كنت لا أرى هذا الرأي؛ لأنه لا يتفق مع ما في الإسلام من حسن التعامل مع أهل الكتاب، وحل طعامهم ونسائهم على قمة حسن معاملتهم. * * *

السؤال التاسع 9 - قرآنكم يحض على الزنا، حتى النبي لوط، في قول القرآن عن لوط: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) .

السؤال التاسع 9 - قرآنكم يحض على الزنا، حتى النبي لوط، في قول القرآن عن لوط: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) . * * * 1 - ما رأيت هزلا أشبه بجد، ولا باطلا أشبه بحق من هذا السؤال، فالقرآن الذي سما بالخلق، ودعا إلى المثل العليا، والذي خُلُق المسلم فيه قبس من صفات الفه وخلقه، وتربى عليها رجال برزت مواهبهم بفضل هذا الخلق وهذه التربية، فأمكنهم أن يخطوّا، بفضلها على صحائف الكون بمشيئة الله القدير الحكيم، وأن يَمْهَدوا لحضارة جديدة تعم العالمين، والتي أدت إلى أن ينتقل العالم كله إلى عهد جديد. 2 - وإن رابكم هذا الحق فدونكم بعض ما قاله قائلون احترموا أنفسهم من بني دينكم: يقول (سير وليم ميود) : والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب، غير القرآن ظل اثنى عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفاته ودقته ". ويقول كاتب الإنجليز الكبير (برنارد شو) : لقد كَان دين محمد موضع تقديري السامي دائما؛ لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة: لأنه، على ما يلوح لي، هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، والذي يستطع لذلك أن يجذب إليه كل جيل من الناس. .. وقد تنبأتُ بأن دين محمد سيكون مقبولا لدى أوربا غدا، وهو قد بدأ يكون مقبولا لديها اليوم. لقد عمد رجال الأكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان، وذلك بسبب الجهل، أو التعصب الذميم. .. أما أنا فأرى واجبا أن يدعي محمد منقذ الإنسانية. وأعتقد أن رجلا مثله إذا ولى زعامة العالم الحديث نجح في حل مشكلاته وأحل في العالم السلام والسعادة. ولقد أدرك مفكرون منصفون في القرن 19 ما لدين محمد من قيمة ذاتية. من هؤلاء كارليل وجوته وجيبون بذلك حدث تحول صالح في موقف

أوربا من الإسلام. وقد تقدمت أوروبا في هذا القرن، فبدأت تحب عقيدة محمد. .. وقد دان كئير من قومي ومن أهل أوربا بدين محمد وهذا يجعلنا قادرين على أن نقول: إن تحول أوربا إلى الإسلام قد بدأ" أ. هـ. هذه شهادة من كباركم، حدثونا من أنتم، لنزن قيمة شهادتكم!! 3 - لكني ما رأيت مؤمنا بفحش أشد نكرا للفحش من حضراتكم، وما رأيت فاعلا للرذائل متباكيا عليها من سيادتكم!! أ - في ص 9 من سفر التكوين: أن نوحا عليه السلام شرب الخمر حتى سكر وتعرت عورته، وأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، فلما أفاق وعلم ما فعل أبو كنعان، فقال: ملعون كنعان (ص 27 عن إسحاق) . ب - وفي ص 19 من التكوين: أن ابنتي لوط سقتاه خمرا حتى سكر واضطجعت معه الكبرى ليلة، والصغرى في الليلة الثانية، وأنهما حملتا من أبيهما!! جـ - وفي كتاب صمويل الثاني ص: 11) . اغتصاب داود لزوجة أوريا ثم تم الأمر لإرساله إلى الجيش وتوصية القائد أن يضعه في مقدمته ليهلك. د - ومن أمثال هذه الروايات عن الأنبياء المذكورين في التوراة قصة (هوشع) الذي قيل في كتابه ص: 1) : أول ما كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنا وأولاد زنا. هـ - وفي ص: 3) من هوشع قال الرب لي: اذهب أحببت امرأةً حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبني إسرائيل. و لكن تعالوا: تقولون إن القرآن يدعو إلى الزنا لأن لوطا قال: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) . يا عجبا لفحشكم في القول، وجهلكم بكتابكم. يقول ص: 19) من سفر التكوين

عن قصة ذهاب الملكين إليه، وطلب الناس لهما يقول: فخرج إليهم لوط. . وقال: لا تفعلوا شرًا يا إخوتي، هو ذا لي ابنتان لم تعرفا رجلًا أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم ما تقولون الآن؟ 4 - واتهامكم للقرآن ينطوي على جهل بلغته إنه يقول: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فكيف يجتمع الطهر والفاحشة في فهم عاقل؟ وثانية: أن معنى (بناتي) بنات شعبه بالتزوج، والنبي لقومه بمنزلة الأب لأولاده وفي كتابكم الكثير من نسبه الناس إلى اللَّه بالبنوة. 5 - لعلكم استحييتم مما وضحت لكم من معاني القرآن، ولعلكم أسفتم لما ذكرت عن كتابكم المقدس، فإن لم يكن فإليكم هذه الخاتمة: في سفر القضاة الباب 16 قصة شمشون، وهو نبي بدليل الفقرة 5، 25 من الباب 13، والفقرة 19، 6 من الباب 14. وهذا النبي كما تقولون، ويقول كتابكم، زنا بؤانية من أهل غزة، ثم عشق امرأة يقال لها (دليلة) وهي التي كذب عليها، ثم كشف لها سره في أن قوته في شعره فنمت عليه لرؤساء أهل فلسطين. . . وإليكم هذه. في سفر الملوك الأول الباب (11) أن سليمان صار له (700) امرأة حرة. و (355) سرية، وأن نساءه أغوت قلبه إلى آلهة أخرى. .. صدقوني إذا قلت لكم: هل من علم وهل من حياء. 6 - إن الذين يقبلون هذه النبوات، ثم يكذبون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تقام عندهم حجة النبوة بقداسة السيرة ولا بعظمة الأثر، ولا بفضيلة الهداية. إن الذين يقبلون هذه الأقاصيص ثم يتهمون القرآن بما يتهمون قوم قد ألغوا عقولهم، واتبعوا أهواءهم، ومثل هؤلاء لا يرون للحق برهانا، ولا للشمس نورا وضياء ومثل هؤلاء لا حيلة لك في إقناعهم أو فتح عيونهم، وما لهم إلا أن تضرب عنهم الذكر صفحا.

السؤال العاشر: إلهكم - بحسب القرآن - هو الذي يهدي ويضل فكيف يعاقب الإنسان بخلوده في النار؟

السؤال العاشر: إلهكم - بحسب القرآن - هو الذي يهدي ويضل فكيف يعاقب الإنسان بخلوده في النار؟ * * * الإجابة لو أخذنا هذا السؤال مأخذ الجد للزم أن ننكر الجنة، كما يستهدف السؤال، في باطنه، استنكار النار، فإذا كان الضلال قدرا، والهدي قدرا فلا معنى للعقاب والثواب، وكان العقاب ظلما وكان الثواب إعطاء لغير مستحق، فاستنكار دار العقاب فقط نقص في التفكير، وخلل في المنطق. والإسلام جعل العقل حكما في كل شيء وجعله حكما في الدين وفي الإيمان نفسه. يقول اللَّه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) . فالآية تقرر أن عدم تعقل الإيمان شأن الكافرين، وأن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه فإيمان المسلم هو الإيمان المستنير وليس إيمان من يحكي كتابه خرافات، وسفاسف فيأخذها مأخذ الإيمان والتصديق: وكلما اتصل الإنسان بالكون، وفنى في لا نهاية المكان والزمان وامتثل الكائنات كلها في نفسه فرآها كلها تجري على سنن تمسكها ورآها كلها تسبح بحمد باريها - كلما كان ذلك أيقن بقدرة اللَّه، ونفاذ مشيئته في كل ذرات الوجود وهنا يدرك المستبصر عظمة الكون وعظمة المكوِّن، ويدرك قصور قدرته وعلمه، بجميع وسائله عن إدراك حقيقة هذا الوجود، فيحلق به إيمانه إلى ذلك الخالق المبدع يستعينه ويستهديه. ولست أدري أهذا السائل جاد أم هازل، وهل هو ينكر القدر، أم ينكر الإرادة، أم

5 - مسألة القدر والاختيار من أقدم مسائل الفكر، ومن أوغل مسائل الإيمان في كل الأديان.

ينكرهما معا؟ ثم هل هو ينكر الإرادة في المادة والكون، وها هو ذا العلم يقرها بعد عصر الجحود، أم هذا السائل ينكر الإرادة في الإنسان فقط؟ وهل هو ينكر على الإسلام فقط أم على كل الأديان؟ * * * 5 - مسألة القدر والاختيار من أقدم مسائل الفكر، ومن أوغل مسائل الإيمان في كل الأديان. وكانت من مسائل (العلم) الطبيعي تحت عنوان: (الحتمية في المادة) بمعنى أن أجرام الكون تسير بقوانين معلومة، يمكن من دراستها معرفة النتائج، وهذه النتائج (حتمية) لا يمكن تخلفها. ثم جاءت علوم الذرة فنقضت فكرة الحتمية أو على الأقل جزمت بأن (الحتمية) ليست التفسير الوحيد للكون. وليس معنى نتائج بحوث الذرة أن الكون يسير على غير نظام وإنما معنى هذه النتائج أن النظام لا يمنع الاختيار، ولا يغلق الباب على الإيمان. بل إن العلماء الماديين أخذوا من وجود النظام دليلا على وجود المنظم المختار، ومن المحال - كما قالوا: أن يكون ذلك النظام بمحض المصادفة. وصار (العلم) يدعو إلى الإيمان بعدما قضى دهرا يدعو إلى الإلحاد، وكتب (ا. كريس موريسون) كتابه: (العلم يدعو إلى الإيمان) وكتبت نخبة من العلماء الأمريكين كتابهم (الله يتجلى في عصر العلم) . وأشرف على تحريره (جون كلوفر مونسما) . 6 - وعلى هذه الحقائق العلمية ثبتت مسألة القدر والاختيار في ذاتها والقرآن جمع بين المعنيين الصحيحين في هذه المسألة فقال في سورة النحل (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) . أول الآية تلمح للقدر، وختامها يقرر مسئولية الإنسان، وأن مصيره مرتهن بعمله، فتطابق في القرآن القول بالقدر والمشيئة كما قررها العلم في الكون. ولهذا رفض القرآن احتجاج الإنسان المقصر في الإيمان والعمل بالقدر في أربعة مواضع منه: في سورة الأنعام / 248 - 150 وفي سورة النحل /35 وفي سورة يس /47. وفي سورة الزخرف / 20.

كتب (واشنجتون إيرفنح) أحد أعلام الكتاب الأمريكيين عن عقيدة الإسلام بأنها عقيدة جبرية. وهذا من التحامل الذي دفع إليه التعصب المسيحي، فما يقاس أي كتاب ديني بما في القرآن من حض على العمل والسعي في الأرض، وربط مصيره في الدنيا والآخرة بإيمانه وعمله. مع الإيمان في كل ذلك بمشيئة اللَّه. بالله عليكم أترون الإنسان عندما يطيع ويعصي قد أطاع أو عصى قهرًا عن اللَّه؟ الكون فيه النظام والإرادة. والإنسان الفرد جزء من الكون. وفيه شاهد على المسألة بجانبيها: جانب القدر وجانب الاختيار. فوجوده، والهيئة التي هو عليها، وأجهزة جسده، ثم الملابسات والأحوال التي تحيط به. . كل ذلك لا حيلة له فيه ولا اختيار. لكنه مع كل ذلك يدرك بالبداهة أن هناك دائرة هو مختار فيها. وفي حدودها يعمل ويخطط، ويمدح ويذم، ويعلم ويتعلم.. وكل ذلك إقرار منه بالمسئولية والاختيار. كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه، ولا معلم ورشده - كذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها بعقله، ويقدرها بإرادته، ثم يصدرها بقدرته، ويعد إنكار شيء من ذلك مساويا لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل. وكما يشهد ذلك في نفسه يشهده أيضا في بني نوعه كافة، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس. ومع ذلك فقد يريد كسب رزق فيفوته، وربما سعى إلى منجاة فسقط في مهلكة وربما هبت ريح فأغرقت بضاعته، أو نزلت صاعقة فأحرقت زرعه وماشيته. .. فيتجه من ذلك إلى أن في الكون قدرة أسمى من أن تحيط بها قدرته، وأن وراء تدبيره سلطانا لا تصل إليه سلطته.. على هذا قامت الشرائع، وبه استقامت التكاليف، ومن أنكر شيئا منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه وهو عقله الذي شرفه اللَّه بالخطاب في أوامره ونواهيه " (الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد) . هذا الإدراك الفطري في الإنسان مطابقة أخرى لما في القرآن الكريم: شواهد من

9 - شواهد من اليهودية

(العلم) ومن واقع الإنسان، ومن بداهة عقله تؤيد القرآن. * * * 9 - شواهد من اليهودية قصة التوراة - عن غضب اللَّه على آدم؛ لأكله من شجرة المعرفة، وخوف اللَّه منه أن يأكل من شجرة الخلود، وما ترتب على ذلك - كما جاء في سفر التكوين - من حتمية) اللعنة لآدم وحواء والحية والأرض. كل ذلك تقرير للقضاء وتأكيد للقدر والجبر. وهي - بعد - تقرير أن خطئة آدم (الإنسان) إنما هي طموحه للعلم وللخلود. وهذا مع مخالفته للإسلام تقرير لإرادة الإنسان واختياره. وفي اشعياء أن اللَّه جبل الإنسان، ونهاه عن مراجعته، فهل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟ وفي أشعياء ص: الأول: اسمعي أيتها السموات واسمعي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم: ربيَّتُ بنين ونشَّأتهم. أما هم فعصوا عليَّ. الثور يعرف قانيه، والحمارُ مَعْلَفَ صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم. ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الأثم، فشل فاعل الشر، أولاد مفسدين. . ". ففي هذه النصعوص تقرير للقدر، وتقرير - في الوقت نفسه - للعقاب على الذنب. * * * 10 - شواهد من المسيحية: في رسالة بولس إلى أهل رومية، يقرر أن أصل الشر في الإنسان هو عصيان آدم، وأن الإنسان يعمل الشر لوراثته خطيئة آدم، ولا كفارة له إلا موت الجسد ولكن الروح لا تموت فلا كفارة لها إلا الإيمان بالمسيح، وأن قضاء اللَّه وحده هو الذي يفصل بين الأخيار والأشرار. وفي ص: 1) من رسالته إلى رومية: إن غضب اللَّه معلن من السماء على جميع فجور

11 - والنتيجة:

الناس. . وذكر من آثامهم. . أن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور تاركين استعمال الإناث اشتغلوا بشهواتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور. وفي كتاب القديس أوغسطين قوله:. . . حتى عرفت أنني أريد وأنني عندما أقبل شيئًا أو أرفض فإنما أنا نفسي الذي أقبل أو أرفض ولا أحد سواي ". * * * 11 - والنتيجة: أن القرآن عندما يثبت مشيئة اللَّه، ويثبت معها اختيار الإنسان، فإنما طابق (العلم) وطابق حقيقة الإنسان، وليس في غيره من الأديان ما ينقض ذلك، بل في الأديان ما هو مثله. وأنه ليس في الإسلام ما في اليهودية من صورة الإله الذي ينافس البشر وينافسونه، ويقدر لهم حسابهم فيخطئ الحساب. وليس في الإسلام ما في المسيحية من وراثة البريء للخطيئة، ولا كفارة أحد عن أحد. * * * 12 - إن عقيدة المسلم في القدر، وإيمانه بالتكليف وأنه إنسان مسئول كانت من أسباب قيام المسلمين بواجبهم نحو الدعوة، ونحو الإنسانية فانساحوا في الأرض مجاهدين، يلاقون الموت غير هيابين، وأقبلوا على كل عمل صالح، ينشرون الخير والحق والعدل والفضيلة، إيمانا منهم بأنهم محاسبون على هذا الإيمان وهذا العمل. بهذا ساد المسلمون وأقاموا حضارة سجد الزمن على أعتابها أكثر من ألف عام!! * * *

السؤال الحادي عشر: ما هو جواب الإسلام عن هذا السؤال؟ لماذا خلقنا؟ تقولون: لنعبد الله. وهل يحتاج الله لعبادتنا؟

السؤال الحادي عشر: ما هو جواب الإسلام عن هذا السؤال؟ لماذا خلقنا؟ تقولون: لنعبد الله. وهل يحتاج الله لعبادتنا؟ لماذا نخلق ونعاني ثم نموت، ثم نخلد في النار؟ أهذا عدل؟ فكرة تناسخ الأرواح تجيب عن هذه الأسئلة إجابة منطقية، وفيها رحمة. وتتلاءم مع رحمة الله، الرب الذي لا يشتهي الانتقام!! * * * الجواب 1 - لقد حرت في عقيدة هؤلاء. هل هم من أهل الأديان السماوية؟ أم هم من أهل الأديان الأرضية التي وضعها بشر؟ فإن كانوا من أهل أديان السماء فما بال إيمانهم بفكرة التناسخ؟ وعقيدة الروح وعذابها أو نعيمها إحدى عقائد الأديان. عذابها في الجحيم، أو نعيمها في رضوان الله، وهي من العقائد الغيبية، والعقائد الغيبية أساس عميق من أسس الإيمان، غير أن فضيلة العقائد الإسلامية أنها عقائد لا تبطل عمل العقل، كما لا تبطل عمل التكليف. على أن العالم (بعقيدة التناسخ) حقًّا يعلم أنها لا تنفي عذاب الجحيم، وبهذه الحقيقة يسقط اعتراضهم من أساسه! 2 - والروح في القرآن بينت على ثلاثة أوجه تقف بالإنسان على أقصى قدرته في معرفتها: أنها من أمر اللَّه - وأنها من روح اللَّه - وأنه ليس في وسع البشر إدراك حقيقتها. فالروح من أمر اللَّه، وتوفيها بأمر اللَّه، بارة كانت أم فاجرة (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ. . . تَوَفتهُ رُسُلُنُا. . . ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ. . .)

5 - فكرة التناسخ

3 - وفي العهد القديم يصف أشعياء ص: 25 يوم الرضوان حيث يصف اتصال الأرواح بالله، وتجلى اللَّه لها. . . وفي هذا ردّ لفكرة التناسخ. 4 - وفي العهد الجديد، وفي رؤيا يوحنا ص: 4: يصف فيه - ما رأى في العالم العلوي لما صار (روحا) وصعدت إلى العرش. هذه هي حقائق الأديان الكتابية، فأين منها فكرة التناسخ؟ * * * 5 - فكرة التناسخ معنى التناسخ عند القائلين به: انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر، جسد إنسان أو جسد حيوان. وتعيين الجسد الذي تحل فيه ثانية رهن بسلوكها في حياتها الأولى. تاريخها: والتناسخ اعتقاد شاع في ثقافات كثيرة. وقد عرف قديما عند المصريين، ولكنه شاع، وترسخ، عند الطائفة (البراهمية) في الهند القديمة. دوافعها: تقوم فكرة التناسخ على اعتقاد فكرة شقاء الإنسان في حياته، أما في حياته الأولى فيكون فريسة لآلام متعددة، من المصائب والخاطر. .. فإذا ترك حياته الأولى، إلى حياته التالية كان أكثر تعاسة، إذ هو ينتقل في الأجسام المختلفة من وضع إلى وضع غير عارف بمصيره؛ لأن كل مرحلة من حياته المتعددة تقذف به إلى المرحلة التي تليها قذفا دون إرادته. وفوق هذا الشقاء، شقاء آخر هو أنه - برغم عدم إرادته هذه - مسئول عن عمله، في كل مرحلة ينتقل إليه "الجبر والجزاء"، وهي التي هرب منها السائلون إلى فكرة التناسخ. * * * فما المخلص من هذا الشقاء؟ يرى البراهمة أن المخلص من هذا الشقاء الأبدي هو: أن يعتزل الإنسان الحياة، ولا يقوم بأي عمل، وعليه أن يسلم نفسه إلى التأمل العميق الذي ينتهي به إلى الغيبوبة، ثم ينتهي به إلى الامتزاج في (براهمان) .

هل هذه العزلة والغيبوبة، وترك كل الأعمال هي ما تدعون إليه؟ قيمة عقيدة التناسخ عندهم: وتعتبر مسألة التناسخ هي المشكل الجوهري في بلاد الهند القديمة التي كانت عامة في تلك البلاد، وثابتة ثبوتا غير قابل للمناقشة وكانت الطابع الذي امتازت به الديانة البرهمية. قال البيروني في كتاب (ما للهند من مقولة. .) كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار المسلمين، والتثليث علامة النصرانية والإسبات علامة اليهودية - كذلك التناسخ عَلَم النحلة الهندية وقد نشأ عن فكرة التناسخ مشكلة اجتماعية هي. أن جميع الحيوانات أهل لحلول للروح ديها، فكل حيوان يحتمل أنه ظرف لنفس بشرية، وقد تكون هذه الأرواح لآبائهم، فكيف يسوغ ذبح الحيوان، أو قتله؟ إن ذلك يساوي قتل الإنسان. ومنذ ذلك الوقت أصبح أكل اللحوم محظورا. ومشكل آخر. ذاك أن تنقل الروح قد يكون تنقلا إلى أدنى، ولا تزال الروح تنتقل إلى أدنى، حتى تكون نهايتها إلى الجحيم. وهنا نرى أن فكرة التناسخ لا تحمي من فكرة أن النار مصير العصاة. عقيدة التناسخ ليست فكرا فلسفيا، ولا دينًا يوحى: بالرغم من أن (فيثاغورس) الفيلسوف الإغريقي، من قبل سقراط، قد أخذ بفكرة التناسخ إلا أنها لم تستند عنده إلى فكر فلسفي، لذلك رفضها فريق من تلاميذه الذين كانوا يمثلون الجانب الرياضي وإنما كانت تستند، عند (الفيثاغورسيين) إلى خرافة، وأسطورة معروفة باسم (الأورفية) نسبة إلى الشاعر الموسيقى (أورفيه) الذي تزعم الأسطورة أنه نزل حيا إلى مملكة الموتى. .! وبهذا، أيضا لم تكن عقيدة التناسخ فكرة كتاب سماوي. ثم هي لم تحقق - عند الإلمام بها - مخرجا يعترض به على الإسلام، بل على الأديان كلها! 6 - إن حقيقة الروح أعضل مسائل الفكر والعلم، وكان جواب القرآن عنها بأنها من

أما لماذا خلقنا الله؟

أمر اللَّه أصح جواب وأوفقه للإنسان. فإذا كانت الروح كذلك فهل من العقل أو العلم أن يحكم على (كيفية) مصيرها بغير بينة من السماء؟ وتؤخذ في مصيرها فكرة لا تستند إلى فكر ولا إلى دين وإنما تستند إلى خرافات وأساطير؟ أهذا منطقكم؟ 7 - وإذا كانت الروح هي العنصر السماوي الإلهي في الإنسان فهل من التكريم لهذا العنصر - هربا من القول بمصير الجحيم - أن يقال إنها تناسخها في كلب أو حمار؟ وهل حلولها في هذا يساعدها على التطهير؛ إذا كانت لم تتطهر وهي في الإنسان، أكرم مخلوقات اللَّه أفيمكنها أن تتطهر وهي في حيوان غير مكلف وغير مسئول؟ أهذا تطهر أم مزيد من الإسفاف؟ إن القول بالتناسخ قول افتراضي هروبا من أمر قطعي. إن القول بالجحيم أهون من القول بالتناسخ، ولا سيما مع ما قدمت من القول بعدم خلود النار أبدا، وإنما يأتي زمان تفنى فيه!! * * * أما لماذا خلقنا اللَّه؟ السؤال لماذا خُلقنا؟ سؤال فطري. والضلال عن جوابه شقاء للإنسان. وقد علمت - من حال كثير من أهل الغرب - شقاء حياتهم لغياب جواب هذا السؤال، ومنهم من دفعه هذا الجهل إلى الانتحار برغم ثراء حياته بالمادة، ومنهم من آمن بالإسلام لما عرف من هدايته في جواب هذا السؤال. والقرآن في مواضع متعددة - بين جوابه: ففي قصة خلق الإنسان بين للملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة. وبين صلاحه لهذه الخلافة معرفته بالأسماء كلها. ومعرفة الأسماء تقتضي معرفة المسميات. والتعميم، والكلية فيها تقتضي معرفة أسماء. كل شيء إلى يوم القيامة. فتلك عبادة. والله يقول: (. . . يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) . فعمارة الأرض من وظيفة الإنسان، وهي من عبادته لله.

وعمارتها لفظ جامع لكل ما يمكن أن يعمله الإنسان في الأرض. على ظهرها أو في بطها، في برها أو بحرها أو جوها. وهذه عبادة. فقوله - تَعَالَى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) . قول جامع مجمل فسره ما ذكرت. وهو مع ذلك يقرر حقيقة إيمانية اعتقادية هي ضرورة إيمان الإنسان أن كل ما في الوجود: عابد ومعبود وعلى هذه الحقيقة تستقيم حياة الإنسان ويصلح الكون، ويسعد الإنسان، وما شقيت الإنسانية إلا من نسيان هذه الحقيقة حتى عبد الإنسان نفسه أو عبد الطبيعة. وهذه العقيدة - بشقيها: عابد ومعبود هي مشكلة الإنسان الكبرى، ومشكلة حضاراته. فما نسى الإنسان اللَّه المجود الوحيد إلا شقي وأشقى. وما قامت حياته، وحركاته، ونهضاته على هذه الحقيقة إلا سعد وأسعد. 2 - فمن أجابكم بأن غاية الخلق هي عبادة اللَّه كان صحيح الجواب، ولكن لا يتم جوابه حتى يشرح هذه العبادة بمثل ما تقدم. ويخطئ من يفسر العبادة بالشعائر الدينية كالصلاة ونحوها. لذلك جاء في تفسيرها عن الأئمة بأنها: معرفة اللَّه: وهذه المعرفة لا تتم على وجهها بمجرد أداء هذه الشعائر، لكن يتم بتحقيق مدلول الخلافة ومعرفة أن الملائكة، وهم مفطورون على شعائر العبادات لم يكونوا صالحين للخلافة في الأرض. إن أول ما نزل من القرآن (اقْرَأ) والأمر بالقراءة مطلق لكل ما يقرأ. وثاني ما نزل (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) أقسم بما يكتب كل كاتب. فالقيام بهذا وذلك عبادة. 3 - إن آيات التشريع، بما فيها آيات الشعائر حوالي خمسمائة آية، بينما الآيات الكونية أكثر من خمسين وسبعمائة آية. فهل يترك هذا لذاك. وإن الوقت الذي تستغرقه الشعائر جزء يسير من يوم الإنسان فهل يكون فارغًا في أكثر وقته؟ فالله سبحانه فرض على الإنسان عبادتين: تلك الشعائر، وذاك التفكر

في الكون واستقراء آياته. وفرض عليه قراءتين: قراءة كتاب الوحي وقراءة كتاب الكون. وفرض عليه معرفتين: معرفة نفسه ومعرفة ربه. وأحياه حياتين: الحياة الدنيا وهذا منهجها، والحياة الأخرى؛ ليجازي على مدى صلته بهذا المنهج. 4 - هذا جواب الإسلام، فحدثونا - بربكم عن جواب كتابكم المقدس. الجواب فيما تقدم من بيان طبيعة القانون في اليهودية والمسيحية، وفي غيره من مواضع هذا الكتاب. * * *

السؤال الثاني عشر: لو كان الإسلام دين حق لما رأينا في علمائه: الضعف، والعجز، والنفاق.

السؤال الثاني عشر: لو كان الإسلام دين حق لما رأينا في علمائه: الضعف، والعجز. والنفاق. * * * الجواب 1 - يكفينا ما سبق في جواب السؤال الرابع من بطلان الاستشهاد بتأخر المسلمين إن صح - بطلان دينهم. ولكن أنبه هنا عل خطأين منهجيين في سؤالكم: الأول خطأ التعميم، فما من شك في أن إطلاق حكم كلى بناء على واقع جزئي خطأ في العلم والفكر وبناء عليه يكون الاستنتاج المبني عليه خطأ لقيامه على مقدماته فاسدة، ويكون كلاما فارغا من المعنى. وما من شك في وجود علماء معاصرين وسابقين كان لهم فضل الشجاعة في إعلان كلمة الحق. وأما من تشيرون إليهم فلم يكن العلماء هم الصغار أو الضعفاء أو المنافقين ولكن كانت الأحداث والطغيان، والاستبداد أكبر منهم. 2 - ولو أخذنا بمنطقكم لوجب أن تحكموا على المسيحيين بمثل ما حكمتم على الإسلام، بل أشد، لما كان من رجال دينها، وعلى كل مستوى، ولمئات السنين وكان من أقل فعلهم ممالأة الملوك واستنادهم بأنهم تولوا حكم الناس بأمر مباشر من اللَّه. وكان (فلمر) المنظر الإنجليزي يدعي هذا الأمر الإلهي، حتى ذهب إلى أن الخلق يخلقون عبيدا بالطبع لحكامهم!! يحدثنا (وليم جمس) الفيلسوف، وعالم النفس الأمريكي، في كتابه (إرادة الاعتقاد) فيقول: صدر أمر من البابا (إنوسنت) الثامن 1485 بقتل جماعة دينية تسمى (. . .) نسبة إلى مؤسسها (. . .) خرجت على تقاليد الكنيسة، وغفر الخطايا الكنسية لكل من يحمل السلاح ضدهم، وبرأهم من كل الآثام والذنوب، وأعفاه من كل يمين

وعهد، وأباح له تملك كل ما يجمع من مال، ولو عن طريق غير مشروع فلم تكن هناك مدينة لم يقتل فيها من هذه الجماعة أحد. فمنهم من أحرق حيا وكان منهم من هو في سن الثمانين. ومنهم من شنق، ومنهم من قطعت أحشاؤه، ومنهم من أخرجت أمعاؤه ووضع فيها قط، ومنهم من دفن حيا، ومنهم من غلت يداه إلى عنقه، وترك على الثلوج ليموت جوعا وبردا، ومنهم من طعن بالسيف، وملئت جروحه بالزئبق، ثم ترك ليموت من الألم، ومنهم من قطع لسانه؛ لأنه وجد يسبح بحمد اللَّه، ومنهم من أدخل الكبريت بالقوة في لحمه، وفي أنفه، وتحت أظافره، وغطى به سائر جسده ثم أشعلت فيه النار. ومنهم من ملي فمه بالبارود ثم أشعل فيه النار، وشق جسد امرأة من الرجلين إلى الصدر، ثم تركت على قارعة الطريق. ووضعت حربة في أسفل أخرى ثم حملت عليها. وفي سنة 1630 (عصر التنوير) نقص عدد هذه الجماعة مرارًا بسبب الاضطهاد المستمر ونزل من خمسة وعشرين ألفا إلى ما لا يزيد على أربعة آلاف وفي عام 1686 (عصر التنوير) خير دوق (سافيو) ثلاثة آلاف الباقية منهم يين ترك دينهم وبين الهجرة من البلاد. ولما رفضوا هذا وذاك كان عليهم أن يستعدوا لمهاجمة الجيوش الفرنسية. . . ولم يبق منهم إلا ثمانون رجلا ولما استسلموا أرسلوا جميعا إلى (سويسرا) .. هذا وقد تجاوزت - أدبا - عن الفساد الأخلاقي لرجال دينهم حتى أعلى مستوى: مكتفيا بهذا المثل. في إحدى كنائس (جريلي) بولاية (كولورادوا) . بعد أن انتهت الخدمة الدينية انتقل الجميع إلى ساحة الرقص اللاصقة لمكان الصلاة، وأخذ كل فتى بيد فتاة، وبدأ الرقص على نغمات (الجراموفون) وقام (الأب) باختيار أغنية مشجعة أمريكية مشهورة هي (. . .) وهي حوار يكرر فيها هذا المقطع بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما، وقد احتجزها الفتى في داره، وكلما أرادت الخروج ذكر لها هذا المقطع!! الآن ما تقولون؟ أيجوز - في المنطق - أن نحكم على دين المسيح بالبطلان لفساد أهله؟

أما نحن فنقول: لا. لقد جاء المسيح بالدين الخالص والخلق الكامل المثالي. فحجتكم على الإسلام بأهله أو أحد منهم حجة داحضة. 3 - وخطأ منهجي آخر، سبق أن ذكرته لكم في جواب سؤالكم الرابع ألا وهو: أنكم جعلتم ما هو موضوع للتفكير، جعلتموه مصدرا للتفكير، بمعنى أن ضعف المسلمين، أو ضعف علمائهم ليس مصدرا يستقي منه الأحكام، بل هو موضوع للتفكير، فيقال: لماذا ضعفوا؟ فإذا كان الإسلام يكره الضعف ويكره الرذائل فمن الحق أن نبحث عن العلة الصحيحة لوقوعهم فيما نهاهم عنه إسلامهم!!

السؤال الثالث عشر، والأخير: نحن في عصر التقدم والعلم والحسابات الدقيقة، والصعود إلى القمر، وتدعون أن الإسلام دين حضارة وعلم وتقدم. والمسلمون - حتى اليوم - لا يزالون مختلفين في بداية الشهور العربية (القمرية) وخاصة شهر رمضان.

السؤال الثالث عشر، والأخير: نحن في عصر التقدم والعلم والحسابات الدقيقة، والصعود إلى القمر، وتدّعون أن الإسلام دين حضارة وعلم وتقدم. والمسلمون - حتى اليوم - لا يزالون مختلفين في بداية الشهور العربية (القمرية) وخاصة شهر رمضان. فكيف يكون الإسلام دين تقدم؟ * * * الجواب أما أن الإسلام دين العلم والعقل، فقضية لا نزاع فيها، ولا ينازع فيها إلا مكابر يلج في العتو والنفور، وقد سبق ما ذكرت من الأدلة التاريخية على ذلك، وما أفادت أوربا من ذلك، مما كان سببا لإخراج أوربا من ظلمات الجهل والخرافات، كما سبق ما نقلت من بعض ما ذكره المؤرخون المنصفون من غير المسلمين. وإن إنكار ذلك لمحاولة نقص الإسلام محاولات ساذجة تنقص صاحبها ولا تضير الإسلام في شيء. والمنطق الذي تنطلق منه هذه المحاولة هو المنطلق الذي انطلقت منه كل محاولاتهم نقص الإسلام والمسلمين. ومصدر الخطأ هو المصدر نفسه وهو جعل موضوع التفكير مصدرًا للتفكير. لماذا لم تطبقوا منهجكم على الكنيسة الكاثوليكية، حين رفضت - باسم المسيحية - حقائق العلم وثوابته، وحرَّقت العلماء لقولهم بهذه الحقائق التي أصبحت اليوم من بدهيات العلم التي يتعلمها الصبيان في مراحل التعليم الأولى. لقد زرت ميدان الأزهار الذي أعدم فيه (برنو) لإعلانه أن الأرض ليست مركز الكون. في بحثه عن أسباب سقوط الحضارة الرومانية يذكر (ول وايريل ديورانت) في موسوعته التاريخية - عمن وصفه بأنه (عظيم المؤرخين) أن المسيحية كانت أهم

أما مسألة أوائل الشهور القمرية:

أسباب سقوط الدولة الرومانية لأن هذا الدين ناصب الثقافة القديمة العداء فحارب العلم، والفلسفة، والأدب، والفن. . .) (ج 11 من قصة الحضارة) هذا نص صريح في أثر اعتناق الدولة الرومانية، المسيحية وأنه كان أهم أسباب سقوطها. هل علمتم واحدا فقط من المؤرخين قال إن الإسلام هو الذي أخر العرب وقضى على حضارتهم؟ * * * أما مسألة أوائل الشهور القمرية: فهي مسألة فلكية، من حوادث الكون، ولا مدخل للناس فيها، بل هي من تقدير العزيز العليم، وليست من مسائل التقدم والتأخر. فهل في استطاعة أحدكم أن يوحد طلوع القمر على أهل الأرض أجمعين، أو أن يوحد شروق الشمس وغروبها عليهم؟! تلك مسألة فلكية ليس في استطاعة أحد تغييرها. وقد ربط الشرع الصلوات بالشمس فبينما قوم يصلون الفجر إذا بآخرين يصلون الظهر، أو المغرب أو يغطون في النوم. أترون في هذا تقدما أو تأخرا؟ ومن مسائل الفقه هذه المسألة: هل إذا ظهر الهلال في بلد وجب على أهل البلاد الأخرى الأخذ برؤيتهم، فيكون عند الجميع أول رمضان، أو أول شوال؟. اجتهاد فقهي، قواه، قديما ترامي أطراف أرض المسلمين، وعدم إمكان إبلاغ البلاد جميعها برؤية بلد منها. ويبقى هذا الحلاف الآن عدم وجود حاكم عام للمسلمين يكون حكمه بالرؤية، أو عدمها ملزمًا للعامة. ويوم يكون ذاك الحاكم لا تجدون خلافا بين المسلمين في تحديد أوائل شهور العبادات: رمضان، وشوال، وذي الحجة. فالظاهرة التي تعيبونها وتأخذونها دليلا على الإسلام، وهي، في الحق، دليل له فتقصير المسلمين في وحدتهم من أسباب تخلفهم. إذا كان للمسلمين حاكم واحد أو هيئة أمم إسلامية، فلا ضير على أحدهما أن يأخذ بالحساب الفلكي، ومصر، مقر الأزهر، تأخذ بالحساب الفلكي، ويتصل مفتيها بهيئة الأرصاد الجوية، قبل أن يصدر فتواه ببدء الشهر (1) .

_ (1) إنما يسألهم عن رؤيتهم للهلال لا عن الحسابات الفلكية، وإلا لأصدر فتواه قبل بدء الشهر الكريم بشهر أو أسبوع على الأقل.

ومن علماء المسلمين، قديما، من أفتى بوجوب اتباع الحساب الفلكي، وترك الرؤية إن خالفته، وذلك - في قولهم - لاعتماد الحساب على مقدمات يقينية محسوسة. فالاعتماد عليه مسألة شرعية، فعلم الفلك كان من علوم الأنبياء، كما أن القرآن منّ به وجعله من آيات اللَّه في الآفاق. لقد كانت لكم حجة لو قيل إن الإسلام يرفض العلم، وأنى لكم ذلك؟! 7 - ومنشأ الظاهرة التي ترونها، من اختلاف المسلمين في رؤية هلال رمضان وغيره، إنما يرجع إلى منهجين في فهم نصوص الشريعة، فقوم منهجهم الأخذ بظاهر النص، فهم يبحثون (عمّا قال) وآخرون منهجهم البحث (عما أراد) . فالأول يقفون عند حد الرؤية البصرية لقول الرسول: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا. يعني تسعا وعشرين، وثلاثين" وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ". . لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه. . ". أخبر عن العرب أنهم أمة أمية لأن غالبهم لم يكونوا يكتبون ولا يقرأون. وقيل لكل من لا يقرأ ولا يكتب أمي لأنه منسوب إلى أمة العرب وتلك كانت حالهم. وكذلك لم يكن للعرب مراصد، وكانت معرفتهم عن الفلك تعتمد كلها على الرؤية وملاحظة النجوم. والشرع لا يكلف بالمستحيل، ولا بما هو فوق الوسع. فلم يكن مناص من علامة يستطيعونها في حدود قدرتهم وتجاريبهم، للتعرف على وقت ما فرض عليه، فكان ربطه الصوم والفطر بالرؤية الحسية. وأصحاب منهج (ماذا قال) يرون أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه - في رأيهم - بالكلية بقوله: (نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب) وبعد أن حضرّ الإسلام العرب، وفتح آفاقهم العقلية على الكون، وتفتحوا على ما عند غيرهم من علوم، استوعبوا كل ذلك، ونبغوا فيه، وكانت لهم نهضتهم في العلوم الكونية. كنهضتهم في علومهم الإسلامية الصرف، وكان من علومهم التطيقية علم الفلك، فقد ازدهر عند علماء المسلمين علما تجريبيا حسيا رياضيا، يعتمد على الملاحظة الحسية،

وتصنطع له آلات رصد. وإذا كان علم الفلك قد اختلط بالتنجيم في أوربا إلى القرن التاسع عشر فإن الإسلام خلصه من هذه الشائبة. وقد كان (بطليموس) عالم الفلك القديم، غير منازع. وكانت له السيادة على التفكير الفلكي في أوربا حتى عصر (كوبرنيكوس) ، بطليموس رفض نظرية دوران الأرض، وكان ذلك من أسباب تأخر علم الفلك في أوربا لجمودهم عليه. ولكن هذه النهضة - عند المسلمين، والتي استمرت قرونا، وأسهمت في نهضة أوربا - أصابتها نكسة منذ منتصف القرن التاسع الهجري. وسبب هذا الهجر جهل بعض العلماء بعلم الفلك، ووسائله الحسية اليقينية، حتى اعتبره بعضهم بدعة مضادة للشرع، ومخالفة لنصه!! وهؤلاء (النصيون) لا يعيبون الإسلام ولا يعيبون المسلمين، ولا يعاب بهم علماء المسلمين فالميل إلى الاعتداد (بالنص) نزوع ديني عرف في كل أمة، وعلينا ألا نتوقع من البشر أن يكونوا جميعا على مذهب (ماذا أراد) ، فإن اعتبار الجانب (اللاعقلاني) أمر مشاهد عند بعض الناس، ولا سيما إذا مس ناحية من (الاعتقاد) ! وعندما تشتد هذه النزعة، نزعة اعتبار النص، تعتبر أن رفض منهج (ماذا أراد) هو من صحيح الإيمان. وقد ظهرت في الغرب جماعة الأصوليين، وكان من دعوتهم: الإيمان بالإنجيل جملة وتفصيلا، وقبول كل ما فيه، والإيمان به على ظاهره، حقيقة مؤكدة دون تأويل. هذه الجماعة من المسلمين لهم مبالغات في الاستمساك بالنصوص، تعطي، أحيانا، للإسلام صفات ليست منه، وتوقع في العنت أحيانا. هؤلاء اليوم هم العقبة في سبيل اعتبار الحساب الفلكي هو المعتبر. وحديثه - صلى الله عليه وسلم - في اعتبار الرؤية البصرية معلل بأنهم أمون. فإذا عدمت الأمية، وأصبح في المسلمين علماء فلك، وللدول مراصد. فمن الجمود والجحود، اليوم، رفض علم الفلك والاستفادة منه في توحيد صيام

المسلمين وفطرهم، والقضاء على هذه الظاهرة، التي نشارك القوم في إنكارها، ومخالفتها لدعوة التوحيد في القرآن. وليس فيه نص برفض الحساب، بل فيه اعتداد به. وليس فيه، ولا في السنة قبول شهادة شاهد أو شاهدين بالضرورة. وإنني - في هذه المناسبة - لشديد الرجاء لعلمائنا، أصحاب منهج النص أن يتدبروا هذه الحال، ومالها من أثر غير حميد، وإظهار المسلمين على غير حقيقة الإسلام. ولو علموا ما شاهدته بنفسي في بعض بلاد الغرب من سوء مظهر هذه الحال، حتى إن المسلمين في ذاك البلد، ذات سنة، عيدوا عيد الفطر في ثلاثة أيام! وليس عندي شك في أن مسلم، بله العلماء يأبون ذلك. * * *

خاتمة

خاتمة أما بعد: فما كان لي، ولا بغيري حاجة لكتابة ما كتبت، لولا ما أثاره هؤلاء، ووزعوه على مساجد نيويورك في صور تحد سافر وطعن غير حميد. وما كانت لي حاجة لذكر ما ذكرت من مقايسات بين الإسلام وغيره، وبين المسلمين وغيرهم؛ لأن الإسلام أمرنا أن نحترم الآخرين، وألا نطعن في عقائدهم، وعند الدعوة، أو الدراسة نتجرد للحق، ونتبرأ من الخطأ لا من المخطئ، وأن يكون الجدال بالتي هي أحسن، وفي سبيل تمحيص الحق وإخلاص الدين لله. ولعل حقائق هذا البحث، الذي اضطررتمونا إليه، وما كشف لكم عن أن ما طعنتم به الإسلام وأهله موجود عندكم على أشده، على نحو ما يين هذا الردّ - لعل ذلك يكون عبرة لكم وبصيرة ألا تعودوا لمثلها وأن تعلموا أن المسلمين على علم بنقائص ما عندكم. ومع ذلك لم يبدءوكم بسوء، ولا بطعن وهذا من خلق الإسلام. عسى أن يكون منكم ذو إنصاف يهدي إلى الرشد، ويبرأ من دنيّة التجريح الأثيم. وها هنا كلمة خاتمة للمسلمين، وهي أن قراءة هذا البحث توجد عندهم، أو ينبغي أن توجد، أمرًا مهما للغاية هو أن معرفتهم بما عند غيرهم، ضرورية لمزيد فهم الإسلام، واليقين بنعمة اللَّه به وأن الذين يجأرون - على غير خبرة بألا تقرأ إلا القرآن والسنة - إنما يمكنون أعداء الإسلام من تشكيك المسلمين في أعز ما عندهم، وإنه - كما قال (ديورانت) ليس شيء بعد الخبز، أعز من الإيمان. ولعل خير ما أتوج به الختام قول الله سبحانه، في علاقة المسلمين بغيرهم: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) . والله يهدي إلى سواء السبيل. عبد المجيد حامد صبح العالية من كلية أصول الدين، جامعة الأزهر. م. ماجستير من كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر. معهد الإعداء والتوجيه - جامعة الأزهر. دبلوم الدراسات الإسلامية - وزارة التعليم العالي بمصر.

§1/1