الردود والنقود شرح مختصر ابن الحاجب

البابرتي

المجلد الأول

الردود والنقود شرح مختصر ابن الحاجب لمحمد بن محمود بن أحمد البابرتى الحنفي المتوفي سنة 786 هـ دراسة وتحقيق ضيف الله بن صالح بن عون العمرى إشراف فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور / عمرو بن عبد العزيز محمد الجزء الأول مكتبة الرشد ناشرون

مقدمة الشارح للكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيقي الحمد لله الذى جعل المناسبة بين العالم ومعلوماته منجما للخطأ والصواب، فكان معيارا لمعرفة المرجوح من الراجح، وقوة الانتقال في

المناظرة معجمًا لمن يستحق أن يوجه نحوه الخطاب، فكان مسبارً لغور الإدراك الحاصل من القرائح. ونعت نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالنبوة المطلقة بشيرا ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاُ منيراً. فعرف باتباعه الصالح من الطالح. ونصر شريعته بأصحاب كان بعضهم لبعض ظهيراً، وبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، ونصر شريعته بأصحاب كان بعضهم لبعض ظهيراً، وبشرهم بأن لهم من الله فضلا كبيرا، فلا أحد منهم إلا وهو فاضل وناجح. صلوات الله وسلامه عليه وعليهم تسليماُ دائماً كثيراً يحزن به الخاسر، ويفرح به الرابح. أما بعد: فإن أقوى ماتمتد نحوه أعناق الأفاضل وترغب في تحصيله أفئدة ذوى التحصيل من الأواخر والأوائل "أصول الفقه" الباحث عن أصول الفقه التي هي في علم الشريعة أعظم

الدلائل. وأصحابنا ـ بحمد الله ـ السابقون منهم هم السابقون في حلبات تدوينه وتسطيره، واللاحقون منهم هم الحائزون لقصبات سبقة في تحريره وتقريره. وغيرهم إنما يتبع أثار أقدامهم، وجمع ما سقط من السنة أقلامهم. فجعلوا يشكرون إذا تجرعوا بجرعتهم، وطفقوا يسكرون أبصارهم، ولم ينشأوا إلا ببقعهم. تصوروا

اللجج مخاضاً، ولو علموا ماتوا مخاضا فهم في ذلك بادون أنقاضاً. وخالون عن آخرهم وفاضا. وما ذاك إلا لقصور المناسبة عن الجلائل، ووفور القناعة عن الأخبية بالجلائل.

هذا وإن منهم الإمام المحقق سيف الدين الآمدي صنف كتاب الإحكام, وجمع فيه اللطاف في العلل والأحكام، ولم يأل جهداً في التهذيب والإحكام إلى حيث يصل منهم الإفهام. ومنهم الإمام المختصر المدقق جمال الدين ابن الحاجب اختصر الإحكام اختصاراً كاد أن يخرجه عن الإفهام، فأغرب به بما أعجب ذوي الأوهام. ومنهم الفاضل الألمعي ناصر الدين البيضاوي صنف المنهاج وجعله

خلاف الشارحين في ضمير "ينحصر"

كسراج وهاج، وأجادوا فيما فعلوا، وأفادوا بما نقلوا، لكنهم أخذوا يرمون أصحابنا والمرمى حيث ذهبوا وعالوا، فما وجدوا من تأويلاتهم الصحيحة القريبة استبعدوها ولو وجدوها بعيدة لاستبطلوها، وتابعهم في ذلك شراحهم فامتلأت من مدام الملام أقداحهم. وها أنا قد كشفت عن ساعدي نقد "للمختصر" ينبه الفطن على ما غفلوا من ماجد الأصحاب، وتعسفوا فتركوا إلى القشر ما هو محض اللباب، فمن رزق الفطنة الوقادة عرفها ومن اتبع الفاعة والعادة (2/أ) فعن الحقائق صرفها. والله الحق حقيق بإلهام الصواب، يؤتى الحكمة من يشاء وهو الحكيم الوهاب. ص: "وينحصر". ش: "اختلف الشارحون في ضمير ينحصر فمنهم من أعاده إلى أصول الفقه، ومنهم من أعاده إلى المختصر.

فالأولون قالوا: وجه انحصار أصول الفقه فيها أن لكل علم مبادئ, ومسائل وموضوعاً. فالمبادئ: هي مبادئ أصول الفقه. والأدلة السمعية والاجتهاد والترجيح موضوعة؛ لأن الأصول يبحث فيها عن أحولها الموصلة إلى الاحكام، وكيفية استثمارها عنها على وجه كلى، ويعلم من ذلك أن مسائلة هي تلك الأحوال المبحوث عنها فيه. وهذا ليس بشيء، لأنه ليس فيه بيان حصره فيها، بل بيان أن المذكور في المختصر عائد إلى المبادئ والموضوع والمسائل, والمقصود بيان الحصر، ولأنه سيذكر أن "الحد" من

المبادئ، وهو ليس من أجزاء العلوم. وأجيب: بأنه جعله جزءاً بطريق التغليب، وهو استعمال خطابه في موضوع جدلي، وهو في قوة الخطأ عند المحصلين. والآخرون قالوا: المقصود الأولى من تأليف هذاالمختصر العمل بالأحكام ولا يمكن إلا بمعرفتها ولها طرق، وللطرق أمور تتعلق بها من جهة إفضائها إلى التمكن من العمل بها, فإذا لا يكون المذكور نفس المعرف أولا. والأول: الادلة السمعية. والثاني: إما أن تكون ما يتوقف عليه المعرف، أولا. والأول: الترجيح. والثاني: الاجتهاد؛ إذا ليس لغير الاجتهاد بعد الثلاثة تعلق بالتمكن من العمل أصلاً؛ لأن المكلف إذا بذل جهده بعد تحقق الثلاثة وعرفها، حصلت له معرفة الاحكام, وتمكن من العمل المقصود بالقصد الأولى. وهو فاسد أما أولاً: فلأن المقصود من تأليف المختصر ليس العمل بالأحكام، بل التمكن من معرفة كيفية الاستنباط على أن العمل بها لا يصلح أن يكون مقصوداً أولياً من المصنفات في الفقه؛ لأن المقصود الأولى معرفة الأحكام والتمكن من العمل بها إنما هو بعدها فضلاً أن يكون مقصوداً أصلياً من المصنفات في الاصول. وأما ثانياً: فلأن لمعرفة الأحكام طريقاً واحداً هي تعلم الفقه والطرق إنما هي

لمعرفة كيفية استنباطها، والأدلة السمعية قد لا تكون معرفة للعامل بها وأن كانت معرفة لمستنباطها، لكن الكلام في كونها معرفة للعامل. وأما ثالثاً: فلأن المعرف لا يتوقف له على حد أصول الفقه، والمصنف جعله من المبادئ. وأما رابعاً: فلأن المراد بالاجتهاد أن كان نفسه فليس من أجزاء المختصر أصلاً؛ لكونه أمراً قائماً بالمجتهد، وأن كان المراد معرفته فلا نسلم أنه ليس بعد الثلاثة لغير الاجتهاد (2/ب) تعلق بالتمكن من العمل لأن للفقه تعلقا بالتمكن من العمل وهو غير ذلك، على أنه ذكر في المختصر مسألة مكرراً وليس ذلك كله من المبادئ والأدلة والاجتهاد والترجيح وهي في المختصر مسألة مكرراً وليس ذلك كله من المبادئ والادلة والاجتهاد والترجيح وهي في المختصر، وقد ذكر الشارحون من هذا النمط كثيراً والذى نقلته أقوى ما ذكروه فلا حاجة إلى التطويل بذكرها، وسيأتي الكلام في المبادئ. وأما الأدلة السمعية فالظاهر أن المراد بها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وكون الإجماع والقياس دليلاً سمعياً غير واضح؛ لأنهما ليسا سمعيين، وإنما ثبتت حجتهما بالسمع، أي بمسموع آخر وإثباتهما به غيرهما لا محالة، والاعتذار بأن السمعية تسمية فيجوز وصفهما بها من حيث كونهما دليلين ثابت بالسمع كذلك؛ لعدم استقامته في الكتاب والسنة لأن وصفهما بها ليس من حيث أن كونهما دليلين ثابت بمسموع آخر لئلا

المباديء

يتسلسل بل من حيث أنهما مسموعان إلا لمن يجوز إدارة معنيين مختلفين من لفظ واحد بإطلاق واحد، وهو مرجوح على ما سيأتي والمراد بالاجتهاد والترجيح ههنا معرفتهما وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله. واعلم أن الحكم الثابت بالدليل المرجح إنما حصل باستفراغ الفقيه جهده في استنباطه فكان التراجيح اجتهاداً وذكر أحدهما تكراراً محضاً في موجز كاد تركيبه يلغز. ص- فالمبايء: حده إلى آخره. ش- المباديء عند الأصوليين هو: ما يبدأ به قبل الشروع في المسائل لتوقفها عليه، أو لتوقف تصور العلم أو غايته أو استمداده عليه. وهي بهذا المعنى بتمامها لا تكون من أجزاء العلم، ولهذا بطل رجوع ضمير ينحصر إلى أصول الفقه، كما تقدم. وإذا عرف هذا فمن حاول علماً وجب عليه أن يتصوره بحده والمراد به ما يجعل غير الحاصل التصورى من الأمور الحاصلة في الذهن حاصلاً سواء كان من الذاتيات. أو العرضيات. أو منهما؛ ليكون على بصيرة في طلبه وأن يعرف موضوعه وهو: ما يبحث في ذلك العلم عن أحواله اللاحقة به. ليتميز ذلك العلم عن غيره، وهو الأدلة المذكورة، والاجتهاد فيما نحن فيه.

حد أصول الفقه لقبا

وأن يعرف غايته؛ لئلا يكون سعيه عبثاً، وقد عبر عنها بالفائدة واستمداده، ليتمكن من البناء على المستمد منه إذا احتاج إليه. ص ـ أما حده لقيا. ش ـ أي حد أصول الفقه من جهة أنه علم يدل على المدح فأنه المراد باللقب, أما أنه علم فلأنه موضوع لنوع من العلم ولا يقبل الاشتراك. وأما أنه يدل على المدح، فلأنه يدل على أن مدلوله ما يبنى عليه (3/ أ) العلم الذى به سعادة الدنيا والاخرة، وهو منقول إلى العلم عن متعلقه لأن مفهومه الاضافي متعلق هذا العلم، وهو علم له، واعلم أن العملية تنافي التعريف، إذ لا يجوز أن يقال: زيد من حيث أنه علم لفلان معرف بكذا أو كذا، فأن التعريف للكليات، وأن كونه موضوعا لنوع من العلم ينافي العلمية؛ لأن النوع كلى والعلم لا يكون إلا للجزئيالحقيقي. ص- فالعلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية. إلى آخره.

ش- سيذكر المصنف أن أصح حدود العلم: صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض. وأضافة ههنا إلى متعلقه وهو القواعد بناء على أن تعرف نوع من العلم لا يمكن الا يذكر متعلقه. والقواعد هي: الأمور الكلية المنطبقة على الجزئيات ليتعرف أحكامها منها. قيل: احترز به عن الامور الجزئية، وعن بعض مسائل الأصول؛ لأنه وأن كان من أصول الفقه لكنه ليس نفسه، لأن بعض مسائل الأصول؛ لأنه وأن ٍكان من أصول الفقه لكنه ليس نفسه، لأن بعض الشيء غيره. وفيه نظر. وقوله: "يتوصل بها إلى استنباط الاحكام " احتراز عن العلم بالقواعد التي تسنبط بها سائر الحرف والعلوم، وفي ذكر التوصل إشارة إلى أنه علم إلى لا مقصود بذاته. وقوله: "الشرعية" احتراز عن العقليات. وقوله "الفرعية" يعني بها الفقهية, فقيل: أنه لبيان الواقع. وقيل: احتراز عن الأحتراز عن الاحكام الكلامية، فأنها شرعية أصلية. واعترض عليه: بأنه (من أنه علم) لايكون العلم بالقواعد المذكورة, بل هو اسم لذلك, والاعتذار بأن الاسم غير المسمى عند

الأشاعرة غير مجد؛ لأنه تسمية لا اسم. وبأن القواعد الموصوفة لو كانت معلومة للأصولي على وجه لا يحتمل النقيض لما وقع الخلاف فيها، لكنه واقع فأن ههنا أن العام الذى لم يخص لا يفيد القطع عند العامة، وخالفهم الحنفية وقالوا أنه قد يفيده. والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، وأمثلته

كثيرة. وبأن العلم بالقواعدعلم بأمور كلية ليست بذاتها موصلة إلى استنباط الاحكام الشرعية، بل بواسطة الجزئيات التي يتعلق بكل جزئي أوبعدة منها استنباطي حكم شرعي. فالجزئيات يتوصل بها بلا واسطة، والكليات يتوصل بها بواسطتها فترك الاقرب إلى الابعد وهو في قوة الخطأ عند ذوى التحصيل. وأن كان لابد من التعرض للقواعد كان الأسد أن يقول: فالعلم بالأمور التي يتوصل بها إلى آخره. وبأن القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الاحكام لا تعلم الا في اصول الفقه، اذ في غيره من العلوم لم يذكر أصلاً أن الخاص حكمه كذا، والمشترك حكمه كذا، والمجمل كذا

والمتشابه حكمه كذا، وكذا الدلائل السمعية تفيد القطع أو لا تفيده، والقياس كذا وحكمه كذا، لا أخالك تنكره. فيكون العلم (3/ب) بها موقوفاً على العلم بأصول الفقه، فالتعريف به دون هذا. وقد أعترض عليه الشارحون بغير ما ذكر، وكثر الكلام في ذلك فمنها ما قيل: أن هذا التعريف غير مطرد لصدقه على علم الخلاف. ومنها: أنه اعتبر فيالحد الإضافة، الإضافة عارضة فالتعريف بها لا يكون حداً. ومنها: أن القواعد تناولت خبر الواحد, والقياس وهما ظنيان فليسا من أصول الفقه لأن أصول الفقه علم بالقواعد. وأجيب عن الأول: بأن قواعد الخلاف لحفظ الاحكام المستنبطة لا لاستنباطها. وعن الثاني: بأن المراد بالحد هو الجامع المانع وهو أعم من أن يكون

حده مضاقا

بالذاتيات أو بغيرها وقد تقدم. وعن الثالث: بأن القواعد لم تتناول خبر الواحد والقياس لذاتهما، بل من حيث أفادتهما الظن فهما من حيث كذلك معلومان والظن فيما أفاداه. ص- وأما حده مضافاً: فالأصول الأدلة، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. ش- أي حد أصول الفقه من حيث أنه مضاف لا من حيث أنه لقب, ولما فرغ من تعريفه لقباً بين تعريفه مضافاً، وتعريفه كذلك لا يكون إلا بمعرفة المضاف والمضاف إليه فقال: "الأصول الادلة". والأصول جمع أصل، وهو: ما يحتاج إليه الشيء. وقيل: ما يبنى عليه الشيء. والأدلة السمعية المعهودة أصول بالمعنيين جميعا؛ لأنها تحتاج إليها الفروع

ويبنى عليها. وقال الفقه: "العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال ". وقد تقدم حد العلم، وأن نوعاًمن العلوم لا يعرف إلا بذكر متعلقة، ومتعلق علم الفقه الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. وما قيل في بيان متعلق مطلق العلم: أنه الذوات. أن كان مقتضيا لنسبة مفيدة، أو الصفات، أن كان مقتضيا لنسبة مفيدة، أو الصفات، أن لم يكن ضعيف؛ لأن المراد بالصفة أن كان ما يتناول الكم والكيف والوضع والمتاوالأينوالإضافة والملك والفعل

والانفعال، فالأفعال والصفات والأحكام داخلة فيه، وأن أراد بعض ذلك فالقسمة ليست بحاصرة، بل متعلق مطلق العلم هو المقولات العشر. والأحكام جمع حكم، وهو: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير. وأما "جمع" إشارة إلى أقسامه وهي: الوجوب والندب، والحرمة، والكراهة, والإباحة على ما سيأتي. والجهة الموجبة لنسبتها إلى الشرع كون تعلقها أو كون العلم بتعلقاتها مستفادا منه. والجهة الموجبة لنسبتها إلى الفرع كون أدلتها التفصيلية متفرع عن الأدلة الأصولية أو كونها متعلقة بالعمل الذى هو فرع العلم والأدلة التفصيلية هي الأمارات وإذا عرف هذا. فقوله: "العلم" كالجنس، وقوله: "بالأحكام" يخرج غيرها من المتعلقات كالذوات والصفات والأفعال. وقوله: الشرعية " يخرج العقلية. وقوله: "الفرعية" يخرج الأصولية (4/أ) وقوله: "عن أدلتها التفصيلية" يخرج

علم الله - تعالى- ورسوله, وعلمنا بوجوب الصلاة والزكاة، والحج, لأن علم الله ورسوله ليس عن الأدلة، وعلمنا بها ضروري غير محتاج إلى الدليل. وقوله "بالاستدلال" يخرج اعتقاد المستفتي. وليس المراد بعلمها تصورها، لأنه من مبادىْ أصول الفقه، ولا التصديق بثبوتها في أنفسها لأنه من مسائل الكلام، بل المراد به التصديق بكونها متعلقة بالأفعال. كقولنا: شرب النبيذ حرام، وأمثال ذلك والمراد بالتصديق: القدر المشترك بين الظن والتقليد واليقين، وهو الاعتقاد الراجح لا اليقين خاصة، لأنه لو كان كذلك لم يتناول العلم اعتقاد المستفتي فلم يحتج إلى قيد يخرجه وكان قيد الاستلال ضائعا. (ولو رود) الشبهة المشهورة وهي: أن الفقه من باب الظنون لأنه مستفاد من الأدلة الظنة، والمستفاد من الظن ظني فكيف يكون علمًا؟.

وأجيب عن الأول: بأن المستفتي فبل الفتوى ليس بمعتقد، وبعده اعتقاده مستند إلى علم المجتهد، وهو أن كان قطعيا فاعتقاده كذلك، وأن كان ظنيا لم يكن العلم متناولا لعلم المجتهد فتخصيص الكلام باعتقاد المستفتي غير موجه. وعن الثاني: بأنا لا نسلم الفقه من باب الظنون؛ لأن المراد بالعلم بالأحكام العلم بوجوب العمل بها، وهو ثابت بدليل قطعي لحصوله للمجتهد من مقدمتين قطعيتين، إحداهما: أن هذا الحكم مظنون، وهي ضرورية. والثانية: أن كل مظنون يجب العمل به بالإجماع. ويلزم من ذلك هذا الحكم يجب العمل به قطعا، إلا أن الظن وقع في طريقه، لأنه وقع محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى، ولا يلزم من كون المحمول ظنيا كون القضية ظنية.

وضعف الأول: بأن اعتقاد المستفتي وعلم المجتهد إذا كانا متساويين كان إبطال أحدهما إبطالا للآخر فيكون الكلام متوجها نظرا إلى المقصود. والثاني، بوجوه أقواها ما قيل: لا نسلم أن الإجماع يفيد القطع؛ لأنه مبنى على الأدلة الظنية، سلمنا أن أدلته قطعية، لكنه يفيد القطع إذا بلغنا بالتوتر، وهو ممنوع، هذا أقوى ما ذكروه في هذا الموضوع وأوضحه وهو كما ترى يفيد أن المراد بالعلم التصديق بالمعنى الأعم. وأقول: المراد " بالعلم" ههنا هو التصور، و "بالأحكام" أقسام خطاب الله الخمسة، وقوله: "الشرعية" أي المنسوبة إلى الشرع بمعنى الشارع. وقوله: "الفرعية" أي المتعلقة بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير، و "الادلة التفصيلية" هي الامارات؛ أي الأسباب كحدوث العالم لوجوب الإيمان وأوقات الصلاة لوجوبها فيها، وتحريم إخراجها عنها، وكراهتها عند تأخيرها إلى الوقت المكروه، وشهر رمضان لوجوب (4/ب) الصوم فيه وتحريم تأخيره عنه، ويوم العيد لكراهته فيه، ويومعرفه وعاشوراء لانتدابه فيه وملك النصاب لوجوب الزكاة، والبيت للحجيج، والنكاح لحل وطاء الزوج وحرمة نكاح غيره،

والتوقان لوجوبه، واعتدال الحال لإباحته، وخوف الجور لكراهته والطلاق لحرمة وطاء من كان جائزا له، وحالة الحيض لكراهته، والعتاق لخروج الملك وجوبه وحرمة استخدامه بغير رضاه، والبيع لوجوب

خروج المبيع عن ملك البائع ووجوب الثمن على المشترى، والاجارة لإباحة الانتفاع للمستأجر بعد ما لم يكن وحرمته على الاجر بعد حله، وتعاطى المحظورات لما رتب عليها من عقوبة أو دية أو كفارة، أو غير ذلك، ما يطول شرحه من الامور التي تفيد أحد الأقسام الخمسة. وقوله: "بالاستدلال"؛ أي الحاصلة بالاستدلال من الأدلة السمعية على ذلك الامارات، ويكون المعنى: الفقه تصور خطاب الله - تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخبير عن الأسباب الحاصلة بالاستدلال عليها من الادلة السمعية، وهو من هذه الحيثية مبادئ أصول الفقه، على ما سيجاء. ولا يرد الفقه من باب الظنون لأنه مستفاد من الادلة الظنية؛ لأنه إذا كان تصورا لا يستدل عليه بظني ولا بغيره. واعلم أن قوله: "وأما حده مضافاً" ليس بمستقيم لا لفظا ولا معنى. أما لفظا: فلأن ضمير "حده" لأصول الفقه، فيكون تقديره: وأما حد أصول الفقه من حيث أنه مضاف إلى شيء، وأصول الفقه ليس بمضاف إلى شيء، وأن جعلت "مضافا" مصدرا بمعنى الإضافة كان المعنى: أصول الفقه من حيث إضافة إلى شيء، أو من حيث إضافة شيء إليه، وكلاهما ليس بمراد ولا صحيحا، وأن جعلت تقديره: "حد أصول الفقه"، أي هذا اللفظ المركب من حيث إضافة بعض أجزائه إلى بعض لا يصح.

قوله: "فالأصول: الأدلة" لأن الأدلة ليست حده من حيث أن بعض أجزائه مضاف إلى بعض آخر، بل من حيث أن المتكلم أراد من هذا اللفظ مدلول هذا الآخر، فليس إلا تعريفاً لفظياً كتعريف الغضنفر بالأسد. وأما معنى: فلأن حد أصول الفقه من حيث أنه مضاف على وجه كان ليس ما يحتاج إلى ذكره في هذا المختصر. ص- وأورد: أن كان المراد البعض لم يطرد؛ لدخول المقلد. وأن كان الجميع لم ينعكس، لثبوت "لا أدرى". ش- يعني أورد على حد الفقه بفقد أحد أمرين لا بد من وجودهما في كل حد أغنى الاطراد والانعكاس، فأن الحد يجب أن يكون مساويا للمحدود؛ لأن الأخص أخفي، والأعم لا دلالة (له) على الأخص أصلا. فحينئذ يجب تحقق (5/أ) المحدود عند تحقق الحد، وهو الاطراد، وانتفاؤه عند انتفائه، وهو الانعكاس. فالألف واللام في قوله: "بالأحكام"، إما أن يراد بهما جميع الأحكام أو بعضها فإن أريد الثاني لم يطرد؛ إذ المقلد عالم بالبعض، فيصدق عليه حد الفقه فيكون علمه

فقهًا، لكنه ليس كذلك، لأنه لا يسمي فقيها. وأن أريد الأول، لم ينعكس؛ لأنه الأئمة المجتهدين فقهاء لا محالة، ولم يعلموا جميع الفقه، فأن مالكا ـ رحمه الله ـ سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها: لا أدرى، ولم يخالف أحد في كونه فقيها إمام دار الهجرة. ص- وأجيب: بالبعض، ويطرد؛ لأن المراد بالأدلة: الأمارات. وبالجميع: وينعكس؛ لأن المراد تهيؤه للعلم بالجميع. ش- أجيب عن هذا الإيراد على كل واحد من الشقين فقيل المراد: البعض والمقلد ليس بداخل؛ لأن المراد البعض الحاصل من الأدلة التفصيلية بالاستدلال وما

للمقلد ليس كذلك، وإلا لم يكن مقلدا. وعبارة المصنف قاصرة عن البيان على هذا الوجه، وتقدير كلامه: بأن المراد بالأدلة الأمارات، وعلم المقلد ليس بالأمارات، ليس بكاف؛ لأنه يفيد أن المراد بالأدلة ليس علم المقلد، وليس بمراد، بل المراد: أن المراد بالأحكام ماكان حاصلا بالإمارات، وفقه المقلد ليس كذلك. والتكلف الزائد في تصحيحه يفضى إلى كونه من الألغاز، هذاعلى الشق الأول. وعلى الثاني: فيقال: المراد "بالأحكام جميعها"، التهيؤ للعلم بجميعها، والتهيؤ له كذلك لا ينافيه لا أدرى، لجواز أن يقول ذلك عند تعارض الأدلة، قبل التمكن من الاجتهاد مع وجود التهيؤ وهو: الاستعداد القريب إلى الفعل عند حصول الطرق. وفي كلامه نظر من أوجه: الأول: أن "الأحكام" جمع معرف باللام وهو يفيد العموم، فالتخصيص بالبعض تخصيص بلا مخصص، واستعمال مجاز مجمل في التعريف. الثاني: أن خروج المقلد قد علم من قوله: "عن أدلنها التفصيلية" أو من قوله: بالاستدلال فالإيراد به غير متوجه. الثالث: أن ذكر العلم وإرادة التهيؤ له غير جائز؛ لأنه على التفسير المذكور ليس بمستلزم له؛ لأن حصول العلم بعد تمهيد الطرق عادى عند أهل السنة فقد يتخلف ولا لازم له؛ لجواز أن يكون ضروريا يحصل بدونه فلا يجوز إرادته منه لا

فائدته

مجازًا ولا كناية. الرابع: أن إطلاق العلم على الفقه حينئذ إنما يكون باعتبار ما يؤل إليه فلا يكون علما: حقيقة. الخامس: أنه يلزم أن يكون الفقه هو التهيؤ، وهو ليس بعلم ولا صادق عليه. السادس: أن المراد بالجميع، جميع ما يكون حكما شرعيا إلى قيام الساعة أو ما يكون حكما شرعيا مدة حياته، فأن كان الأول: لا يمكن التهيؤ لذلك لأحد، وأن كان الثاني لزم أن يكون (5/ب) المراد به البعض؛ لأنه بعض الاحكام الشرعية، فما فرضناه جميعا لم يكن جميعا، هذا خلف باطل، والحق أن يقال: الفقه وهو تصور خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. مفهوم الكل والجزء منه في إطلاق الاسم والرسم سواء كالقرآن. ص- وأما فائدته: فالعلم بأحكام الله.

استمداده

ش- قال الشارحون: فائدة أصول الفقه معرفة أحكام الله - تعالى- التي فائدته: معرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها، لا معرفة الأحكام. ص- وأما استمداده فمن الكلام، والعربية، والأحكام. ش- هذا هو القسم الثالث من المباداء، ويظهر منه أمرأن: بيان أنه من أي علم يستمد، وبيان بعض ما يستمد منه، كذا في بعض الشروح، وفيه نظر؛ لأن كلمة "من" للابتداء لا للتبعيض. ص- أما الكلام فلتوقف الأدلة الكلية على معرفة الباري، وصدق المبلغ، وهو يتوقف على دلالة المعجزة. ش- قيل: الأدلة الكلية التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس من حيث هي أدلة تتوقف على معرفة البارئ، وصدق المبلغ وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وصدقه يتوقف على دلالة المعجزة على صدقه، وكل ذلك من الكلام، وفيه

بحث من وجهين: أحدهما: أن أصول الفقه لمعرفة كيفية استنباط الأحكام، والمتصدي لذلك هم المجتهدون من المسلمين، وهم يحتاجون إلى إثبات كون ذلك دليلا. والثاني: أن صدق المبلغ كاف أن احتيج إلى إثبات ذلك، فأن أثبت البلغ صدقه في كونه مرسلا بالمعجزة وجب تسليم ما يبلغه سواء كان حجته كتاب أو غيره، ومن هذه الحيثية لا يحتاج إلى معرفة المرسل سوى أنه مرسل، ويعلم ذلك بمعرفة صدق المبلغ، نعم يحتاج إلى معرفة الباري ووجوده وصفاته القديمة من حيث الإيمان به لا من حيث حجية الأدلة. ص- وأما العربية، فلأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية. ش- الأحكام الشرعية مأخوذة من الكتاب والسنة وهما عربيان فلا بد من معرفة الجهات التي تستفاد منها كيفية دلالة الألفاظ العربية على مدلولاتها كالعموم والخصوص، والاشتراك والترادف، والحقيقة والمجاز، وغير ذلك

وفيه بحث وهو: أن العربية نسبة فإن كان الموصوف بها اللغة فلا دلالة لها على الحقيقة والمجاز وغير ذلك مما ذكرنا، لأنها ليست وظيفة لغوية، وأن كان غيرها فلا نسلم توقف دلالتها عليه؛ فأن التصريف والنحو والمعاني والبيان وغيرها علوم حادثة، والاجتهاد في الاستنباط كان موجودا قبلها، لا يقال: أصول الفقه علم حادث، فحادثة (6/أ) عربية يستمد له منها؛ لأنا نقول: اصول الفقه لم توضع الا لمعرفة كيفية الاستنباط، وإذا يستمد له منها؛ لأنا نقول: أصول الفقه لم توضع إلا لمعرفة كيفية الاستنباط، وإذا كان ذلك موقوفا على أوضاع حادثة لم يكن السلف عارفين بكيفية الاستنباط فكان خوضهم فيه خوضا (فيما) لا يعلمون من أمر الشريعة، ونعوذ بالله من ذلك الاعتقاد.

ص- وأما الأحكام فالمراد تصورها ليمكن إثباتها وونفيها، وإلا جاء الدور. ش- استمداد الأصول من الأحكام إنما هو من حيث تصورها؛ لأن الغرض من الأصول معرفة كيفية استنباط الأحكام من الأدلة، وذلك موقوف على تصور الاحكام لا محالة، كذا في بعض الشروح، وليس فيه تعرض لشرح قول المصنف "ليمكن"إثباتها ونفيها". وقيل: معناه، الأحكام إما محمولات المسائل كقولنا: مقتضى الأمر الوجوب والنهي للتحريم، أو متعلقاتها كقولنا: العام إذا خصص يكون حجة في الباقي أو لا يكون حجة في الباقي، فلا بد من تصورها ليمكن أثباتها أو نفيها. قوله: "وإلا جاء الدور"؛ أي أن لم يكن المراد بها تصورها جاء الدور وذلك لأن المراد لم يكن التصور كان المراد بها التصديق؛ لأنه قسيمه ولا وسط بينهما، ولو كان المراد بها التصديق، فإما أن يكون التصديق من حيث هي متعلقة بأفعال المكلفين على سبيل التفصيل، أو التصديق من حيث أنها محمولات مسائل الأصول أو متعلقاتها، ولا سبيل إلى شيء منها للزوم الدور فأن كان التصديق بها من حيث الأول من مسائل الفقه، وهو يتوقف على الأصول منه، لزم الدور، وكذا من حيث الثاني فأن المسائل تتوقف على المباداء فلو استمد الأصول منه لتوقف على

الدليل

نفسه وهو محال، والمصنف أطلق الدور على الثاني بطريق المشاكله، أو بالنظر إلى أن محظور الدور وهو توقف الشيء على نفسه موجود، هذا أقوى ما ذكروه, وفيه نظر؛ لأن الأقسام غير حاصرة، لوجود قسم آخر وهو التصديق بوجود الأحكام من حيث هو، وهو من مسائل الكلام، فيكون من المباداء. ويمكن أن يجاب عنه، بأن وجود الأحكام من حيث هو، أن كان في الذهن فهو تصورها، وأن كان في الخارج فلا يمكن إلا متعلقا بأفعال المكلفين، وقد تقدم أنه لا يجوز الاستمداد به أنفا، ورد: بأنه لا يدفع كون قسمته غير حاصرة فأن قيل: ظهر من هذا أن الأحكام من حيث تصورها من المباداء، وقد تقدم أنها من حيث كذلك هو الفقه، فيكون الفقه من مبادئ الأصول، لكن الفقه يتوقف على الأصول فجاء الدور. فالجواب: أن الفقه هو الأحكام من حيث تصورها، ومن هذه الحيثية ليس بموقوف على الأصول بل من حيث استنباطها من الأدلة، ومن هذه الحيثية ليست بمباد فلا دور. ص- الدليل لغة: المرشد، والمرشد: الناصب، والذاكر وما به الإرشاد. ش- عرف الدليل تعريفا لفظيا لبيان (6/ب) مفهومه اللغوي بما هو أخفي، لاحتياجه إلى تعريف بلفظ آخر، وهو: الناصب والذاكر، أي الناصب للعلامة والذاكر، أي الناصب للعلامة والذاكر لها، وما به الإرشاد أي العلامة التي نصبت للتعريف. وقوله: "وما به الإرشاد" يجوز أن يكون معطوفا على المرشد، وأن يكون

معطوفًا على الذاكر، لأن المرشد كما يطلق على الناصب لعلامة يطلق على العلامة المنصوبة؛ إذ الفعل قدينسب إلى الآلة. قيل: قوله: "الدليل لغة المرشد" إلى قوله: "مبادئ اللغة" من المباداء الكلامية، وإنما لما ذكر أن استمداده من الكلام والعربيةوالأحكام، اراد أن يبين ما يستمد منه على الترتيب فبدأ بالكلام ورد: بأن بحث الدليل، والقواعد المنطقية غير مخصوص بالكلام؛ ونسبته إلى الكلام، كنسبته إلى الأصول؛ لأن المنطق آلة لجميع العلوم الكسبية. والأولى أن يقال: لما ذكر الدليل في حدى الأصول والفقه، ولم يسبق شيء يعرف منه الدليل، أراد أن يشير إلى معناه. وقيل: قوله "لغة" يشير إلى بيان أنه من المباداء اللغوية، وليس كذلك لأنه لم يتعرض لذلك بعد، وإنما يتعرض له بعد حين بقول مبادئ اللغة.

وفي الجملة أن كان بيان الدليل ما لا بد منه فهو من حيث اللغة، وأما على الوجه الذى ذكره من حيث الاصطلاح، والأشكال المنطقية التي هي قواعد أهل الضلال، فليس بجائز، فلا أقل أن لا يكون محتاجا إليه، فأنا نعلم بيقين أن النص الخاص يتناول المخصوص، والإجماع على شيء لم يتصد له أهل الهدى. ص- وفي الاصلاح، ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. وقيل: إلى العلم به، وهو يخرج الأمارة. وقيل: قولان فصاعدا يكون عنه قول آخر. وقيل: يستلزم لنفسه، فتخرج الأمارة. ش- ذكر للدليل بحسب الاصطلاح أربع تعريفات، بحسب مطالب الفقهاء والمتكلمين، فأن من طل الفريقين متقدمين ومتأخرين، والمتقدمون من كل منهما لم يخلطوا اصطلاحهم باصطلاح المنطقيتين، والمتأخرون منهم خلطوه به، ومطالب الفقهاء ليس بمشروط فيها العلم فلم يشترط في تعريفهم للدليل الإفضاء إلى العلم. والتعريف الأول: للفقهاء المتقدمين، والثاني: للمتكلمين المتقدين، والثالث: للفقهاء المتأخرين، والرابع: للمتكلمين المتأخرين. فقوله: "بصحيح النظر فيه" يخرج المقدمات الكاذبة، التي يمكن أن يتوصل بالنظر الفاسد فيها إلى مطلوب خبري، ضرورة امتناع التوصل بصحيح النظر فيها إلى

مطلوب خبري؛ لأن النظر (7/ أ) إنما يكون صحيحا إذا كانت مادته صادقة، وإنما قيد بالإمكان لئلا يخرج عنه المقدمات الصادقة التي يمكن أن يتوصل بالنظر الصحيح والفاسد فيها إلى مطلوب خبري وفي إمكان التوصل بالنظر الفاسد فيها إلى مطلوب خبري، لا ينافي إمكان بصحيح النظر فيها إلى مطلوب خبري. وقوله "إلى مطلوب خبري" يريد التصديقي لئلا يخرج عنه المطلوب الطلبي فأن المطالب الشرعية فيها المطالب الطلبية، يخرج ما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب تصوري، أي الأقوال الشارحة. ودخل في هذا التعريف الأمارة؛ لأن المطلوب الخبري أعلم من أن يكون علمياً أو ظنيا. قوله: "وقيل" إشارة إلى التعريف الثاني، وتقديره الدليل: ما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالمطلوب الخبري، فتخرج الأمارة؛ لأنه يتوصل بها إلى الظن، والدليل بهذا المعنى أخص منه مطلقا بالمعنى الأول. وقوله: "وقيل: قولان "إشارة إلى التعريف الثالث، وأراد بقوله "قولان" قضيتين، و (بقوله: فصاعدا) ليتناول: القياس البسيط

والمركب. وقوله: "يكون عنه" يريد أعلم من أن يكون لازما أو غيره، ليتناول الأمارة وخرج عنه قضيتان لم يحصل منهما شيء آخر. وقوله: "قول آخر" أي يكون مغايرا لكل واحدة من القضيتين، ليخرج عنه مجموع آية قضيتين اتفقتا؛ فأنه يستلزم أحدهما، وهذا التعريف للفقهاء المتأخرين. وقوله: "وقيل: يستلزم" إشارة إلى التعريف الرابع، وهو لمتأخري المتكلمين، وتقديره: الدليل قولان فصاعدا يستلزم لنفسه قولا آخر أعم من أن يكون الاستلزام بينا أو غيره، فيتناول الأشكال الأربعة، والقياس الاستثنائي ويخرج عنه بقوله "لنفسه" قياس المساوة، كقولنا (أ) مساو لـ (ب)، و (ب) مساو لـ (ج)، فأنه يلزمه (أ) مساو لـ (ج)، ولكن لا لنفسه، بل بواسطة مقدمة أجنبية غير لازمة لإحدامقدمتي القياس، وهو قولنا: كل ما هو مساو لـ (ب) مساو لـ (ج). وكذا خرج عنه القول المؤلف من قولين المستلزم لقول آخر بواسطة عكس نقيض إحدى مقدمتيه، كقولنا: جزء الجوهر يوجب ارتفاعه ارتفاع الجوهر، وما

ليس بجوهر لايوجب ارتفاعه ارتفاع الجوهر. فأنه يستلزم قولنا: جزء الجوهر جوهر، ولكن لا لنفسه، بل بواسطة عكس نقيضه المقدمة الثانية، وهو قولنا: وما يوجب ارتفاعه ارتفاع الجوهر فهو جوهر. وكذا خرج عنه: الأمارة؛ فأنها لا يستلزم لنفسها قولا آخر؛ إذ ليس بين الأمارة وما تفيده ربط عقلي يقتضى لزوم القول الآخر عنها. واعترض على التعريفين الآخرين: بأنهما لا يصدقان على ما رتبه المستدل في نفسه من المقدمات لتحصيل مطلوبة، وإخراجه عنه باطل؛ إذ هو الذى شده إلى مطلوبه. وأجيب: بأن المراد بالقول أعم من أن يكون عقليا، أو لفظيا، وضعف: بأن القول العقلي غير معقول (7/ب) وبأن الجمع بين المعنيين من لفظ واحد ليس بمتفق عليه. ص- ولا بد من مستلزمات للمطلوب حاصل للمحكوم عليه. فمن ثم وجيب المقدمتان. ش- أراد أن يبين أن الدليل لابد أن يكون مركبا من مقدمتين؛ لأن المطلوب الخبري إذا كان مجهولا لا بد أن يكون في الدليل أمر يوجب العلم أو الظن به، وإلا كان أجنبيا لا يفيد العلم أو الظن به، وذلك الأمر يسمي وسطا، وهو معنى

النظر

قوله: "ولا بد من مستلزم للمطلوب". وقوله: "حاصل للمحكوم عليه" صفة لمستلزمات، يعني لا بد أن يكون الوسط حاصلا للمحكوم عليه فتحصل الصغرى، والمحكوم به حاصلا له أو مسلوبا عنه لتحصل الكبرى، وكلامه ناقص؛ لأنه ذكرى الصغرى ولم يذكر الكبرى فقال: "فمن ثم وجبت المقدمتان" على أن هذا مخصوص بالشكل الأول. فأن اعتذر بأن مراده بيانه فقط؛ لأنه باقي الأشكال موقوف عليه. لم يندفع الأول دون الثاني مع كونه إيجازا مخلا؛ لأن العلم بكون الأشكال الباقية موقوفة عليهلا يحصل بهذا المقدار أيضا. ص- والنظر: الفكر الذى يطلب به علم أو ظن. ش- لما ذكر في تعريف الدليل النظر اراد أن يعرفه فقال: "النظر الفكر الذى يطلب به علم أو ظن" قال بعض الشارحون: صرح الإمام بأن الفكر هو انتقال النفس في المعانيانتقالا بالقصد، وذلك قد يكون لطلب علم أو ظن علم أو ظن فيسمى نظرًا،

وقد لا يكون كذلك كأكثر حديث النفس فلا يسمي نظرا وهذا كما ترى يدل على أن الفكر على نوعين فكان جزءا أعم في هذا التعريف ميزة بقوله: "الذى يطلب به علم أو ظن". واعترض بوجهين، أحدهما: أنهم قالوا: إنما ذكر النظر ههنا، لكونه مأخوذا في تعريف الدليل، فكان عريفه زيادة بيان للدليل، وعلى النظر ههنا، لكونه مأخوذا في تعريف الدليل، فكان تعريفه زيادة بيان للدليل، وعلى هذا كان يلزمه أن يعرف مطلق الفكر، لأنه أخذه في تعريف النظر، فأن الفكر إذا كان معناه خفيا كان النظر كذلك فذكره لا يفيد في معنى الدليل توضيحا. والثاني: سيأتي بيانه. وقال المحققون: الفكر قد يطلق على حركة النفس في المعقولات مبتدئة من المطلوب مستعرضة للمعاني الحاضرة عندها طالبة مبادئه المؤدية إليه إلى أن يجدها ويرتبها فيرجع منها إلى المطلوب ولابد للنفس عنده هذه الحركة من ملاحظة المعاني التي ترتبها لتحصيل المطلوب فهذه الحركة تسمى فكرا، والملاحظة تسمى نظرا ولتلازمهما يطلق اسم احدهما على الآخر، والفكر بهذا المعنى هو الذى تترتب عليه العلوم الكسبية واذا كانا متلازمين لا يكون الفكر أعم من النظر مطلقا حتى يقع عليه العلوم الكسبية وإذا كانا متلازمين لا يكون الفكر أعم من النظر مطلقا حتى يقع الجزء الأعم في تعريفه، وعن هذا هرب الآمدي (8/أ) وقال: الفكر هو معرف النظر. وقوله: "الذى يطلب به علم أو ظن" صادق عليهما، ولا شيء منهما

بفكر، فظهر من هذا أن كلامه ليس بمستقيم معنى، وكذا لفظا؛ لأن المسندين معرفة وليس بينهما ضمير الفصل.

حد العلم

حد العلم ص- والعلم قيل: لايحد. فقال الإمام: لعسره. ش- لما كان العلم مذكورا في تعريف أصول الفقه، أراد أن يبنيه ولما كان في بيانه بالحد خلاف ذكره. فمنهم من ذهب إلى أنه يحد وآخرون إلى خلافه، واختلفوا فقال إمام الحرمين؛ لا يحد لعسره، وقال الغزالي: إنه

يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس الذاتي، فأن أكثر المدركات الحسية مثل الروائح والطعوم مما يعسر حده لصعوبة الاطلاع على ذاتياتها المشتركة، والمختصة، وإذا كان حال المدركات كذلك، فما قولك في الادراكات، ولكن يمكننا أن نشرح معناه بتقسيم ومثال. هذا كلامه، وهو يدل على أنه أراد بتحديده التحديد بالحد الحقيقي، لا تعريفه مطلقا، فسقط ما قيل عليه: أن المثال والتقسيم أن افادا التمييزصلحا للتعريف الرسمي، وإلا لم يصلحا للتعريف. وكذا قيل: تحديده عسر؛ لأنه فيه إضافة اشتبهت أنها من عوارضه أو من الذاتيات. لأن هذا الاشتباه أن منع لا يمنع إلا من التحديد بالحد الحقيقي لا مطلقا بل بالنسبة إلى من اشتبهت عليه. ص- وقيل: لأنه ضروري من وجهين، أحدهما: أن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فلو علم العلم بغيره كان دور، وأجيب: بأن توقف تصور غير العلم على

حصول العلم بغيره، لا على تصوره، فلا دور. ش- قال الإمام فخر الدين الرازي: لا يمكن تحديده لكونه ضروريا (من وجهين: أحدهما: أنه لو لم يكن ضروريا لامتنع تصوره، والثاني ظاهر الفساد فالمقدم مثله. وبيان الملازمة: أنه لو لم يكن ضروريا) لكان كسبيا؛ إذ لا واسطة بينهما وحينئذ لا يعلم إلا بغيره، لا متناع كون الشيء معرفا لنفسه، وغير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فيتوقف معرفة العلم على غيره ومعرفة غيره عليه فيلزم الدور، فيلزم امتناع تصوره. قال المصنف: "وأجيب بأن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره، لا على تصوره، فلا دور".

وقيل في تقريره: توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره لا على تصور العلم بغيره، وحصول نفس العلم لا يتوقف على العلم بغيره، بل تصور العلم يتوقف على العلم بغيره، فلا دور. وأقول: ليس دليل الإمام، ولا الجواب عنه صحيحاً؛ أما الدليل فعدم صحته من وجهين: أحدهما: أن الثاني ليس بفاسد؛ لأن العلم إذا كان متصوراً لا يخلو إما أن يكون نكته حقيقية، أو بوجه ما، والثاني: ليس ما نحن فيه، والأول عين النزاع. والثاني: أن قوله: "غير العلم لا يعلم إلا بالعلم" مغالطة، ويتبين ذلك بمثال: الإنسان غير العلم لا محالة، ويعرف بقولنا: حيوان ناطق، وليس بشيء منهما علما، ولا صادقا عليه. لا يقال: ليس مراد الإمام من قوله: "لا يعلم" لا يعرف؛ لأنا نقول حينئذ (8 / ب) النزاع؛ إذا الكلام في تحديد العلم. وأما الجواب "فعدم صحته من جهة اللفظ والمعنى"، أما الأولى: فلأن ما ذكره المصنف الغاز وتعمية، فأن المقصود بيان اختلاف جهة التوقف لدفع الدور، وذلك يحتاج إلى ذكر الجهتين، ولم يذكر إلا جهة واحدة حيث قال: "توقف تصور غير

العلم على حصول العلم بغيره، لا على تصوره" يريد بذلك أن غير العلم إذا علم بالعلم كان تصوره موقوفا على حصول العلم بغير العلم لاعلى تصور العلم، وذلك ليس بكاف حتى يقول: "والعلم إذا عرف بغيره كان تصوره موقوفا على تصور ذلك الغير لا حصوله ليعلم أن الموقوف عليه في إحدى الجهتين هو الحصول، وهوليس بالموقوف، بل غيره وهو التصور فيندفع الدور". وأما الثانية: فلأن تصور غير العلم، هو حصول العلم بالغير، فيتوقف تصوره على حصوله توقف الشيء على نفسه وهو باطل، لا يقال تصور غير العلم أخص من حصوله توقف الشيء على نفسه وهو باطل، لا يقال تصور غير العلم أخص من حصول العلم بغيره، لأن العلم ينقسم إلى التصور والتصديق، ولا امتناع في توقف الخاص على العام؛ لأنا نقول: غير العلم أخص من حصول العلم لا من حصول العلم بالغير، لأن حصول العلم بالغير فيما نحن فيه لا يكون إلا تصورا، لأن الكلام في التحديد. ص- الثاني أن كل أحد يعلم وجوده ضرورة. وأجيب بأنه لا يلزم من حصول أمر تصوره أو تقدم تصوره. ش- الوجه الثاني من الدليل على ضرورة العلم، أن كل أحد يعلم وجوده ضرورة، وهو علم خاص. وإذا كان العلم الخاص ضروريا، فالعلم المطلق أولى أن يكون ضروريا. والجواب: أن الضروري حصوله ولا نزاع في ذلك، وإنما هو في تصوره. وقوله: "أو تقدم تصوره" اختلف الشارحون في توجيهه: فقيل: ذكره لدفع أن يتوهم أن حصوله أن لم يستلزم تصوره حدا جاز أن يستلزم تقدم تصوره شرطاً.

وقيل: هو جواب عما يقال حصول العلم يستلزم تقدم تصوره؛ لأنه من الكيفيات النفسانية الحاصلة باختيار صاحبها فيكون حصول العلم مسبوقا بالاختيار المسبوق بالقصد المسبوق بتصور المقصود فيكون حصول العلم مسبوقا بتصوره فيلزم من حصول العلم تقدم تصوره. وتقرير الجواب: أنه لا يلزم من حصول العلم تقدم تصوره. قوله: "لأن حصوله مسبوق باختيار صاحبه" قلنا: ممنوع، بل حصوله بفضل الله فلم يكن مسبوقا بفضل صاحبه، فلم يلزم تقدم تصوره على حصوله. وأقول: يجوز أن يكون "أو" بمعنى "بل" وإنما ذكره؛ لأن اللازم من الدليل تقدم تصور العلم المطلق فأنه استدل بالخاص على المطلق والمطلق مقدم لا محالة (9/أ) فاستدرك كلامه بإبطال ما لزم من الدليل. ثم أقول: كل من الدليل والجواب فاسد، أما الدليل، فلأنه يقال: الضرورة المذكورة فيه إما أن تتعلق بالحصول أو بالتصور، فأن كان الأول فليس بمتصل بمحل النزاع، وأن كان الثاني فهو ممنوع بل هو مصادرة. وأما الجواب: فلأن قوله لا يلزم من حصول أمر تصوره، إنما يتم إذا ثبت أن الضرورة للحصول لا لتصور العلم، وليس بثابت على أنه مشتمل على مستدرك وهو قوله: "أو تقدم تصوره" على بيان الشارحين، وأما على بياننا فهو قوله: " لا يلزم

من حصوله أمر تصوره"؛ لأن اللازم من الدليل تقدم التصور ودافعه قوله "أو تقدم تصوره". ص- ثم نقول: لو كان ضروريا لكان بسيطا؛ إذ هو معناه، ويلزم أن يكون كل معنى علما. ش- لما فرغ من إبطال الدليلين شرع في الاستدلال على امتناع كونه ضروريا فقال: لو كان العلم ضروريا لكان بسيطا، واللازم باطل فالملزوم مثله وبين الملازمة له إذ هو معناه؛ أي البسيط معنى الضروري أو بالعكس لأن الضروري ما لا يتوقف تصوره على تصور غيره، فيكون بسيطا. وبين بطلأن اللازم بقوله: "ويلزم أن يكون كل معنى علما". وتقريره: وليس ببسيط وإلا لكان كل معنى علما واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملازمة فلأن العلم يصدق عليه المعنى فلو لم يكن كل معنى علما كان المعنى أعم من العلم. فيلزم تركب العلم من المعنى المشترك والمختص وقد فرض كونه بسيطا هذا خلف، وفيه بحث من وجهين: الأول: أن تفسير الضروري بالبسيط تفسير بالتشهي. فسره بما يشتهي ليورد عليه ما يشتهي، فإن تفسير الضروري عندالجمهور هو: مالا يتوقف حصوله على طلب وفكر، والضروري بهذا المعنى يجوز أن يكون مركبا لجواز أن تكون أجزاؤه ضرورية فلا يحتاج إلى طلب وفكر وأن كان تصوره موقوفا على تصور أجزاءه الذى هو غيره. والثاني: أنه على تقدير أن يكون العلم أخص من المعنى لا يلزم تركبه لجواز

أن يكون المعنى عرضا عاما للعلم. ص- وأصح الحدود: صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض. فيدخل إدراك الحواس كالأشعري، وإلا زيد في الامور المعنوية. ش- الذين يجوزون تحديد العلم ذكروا له حدودا يطول ذكرها وقال المصنف: " أصلح الحدود، صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض" بوجه. وقالوا: الصفة ما تقوم بغيره، فيتناول العلم وغيره. وقوله: "توجب تمييزا" يعني لمن قامت به. يخرج الصفات النفسانية التي لا توجب له ذلك كالحياة وما هو مشروط بها". وقوله: "لا يحتمل النقيض بوجه" يخرج الظن والاعتقاد والوهم فأنها وأن كانت توجب له تمييزا لكنه يحتمل النقيض إما في الذهن أو في الخارج. قوله: "فيدخل إدراك الحواس كالأشعري" يعني أن اقتصر على هذا (9/ب) المقدار المذكور في التعريف يدخل إدراك النفس المحسوسات بواسطة الحواس الظاهرة والباطنة في حد العلم كما هو مذهب أبى الحسن الأشعري: إن الإدراكات

نوع من العلم، وإلا زيد في الامور المعنوية، وهو المعنى بقول صاحب الإحكام "بين المعاني الكلية"، أي وأن لم يقتصر ويراد أن لا يدخل الادراكات في حد العلم زيد قوله: " في الأمور المعنوية"؛ فأن الإدراكات إنما تميز بين المحسوسات الجزئية. هذا ما ذكروا، وفيه نظر: أما (الأول) فلأن هذا الحد إما للعلم بالمعنى الأعم المنقسم إلى التصور والتصديق فأن كان الأول فقيد "لايحتمل النقيض" غير صحيح؛ لأن الظنون والاعتقادات علم بهذا المعنى وهما يحتملأن النقيض والتصورات الساذجة، وهو حصول صورة الشيء من غير اعتبار كونه مطابقا أو غير مطابق. علم بهذا المعنى ولم يعتبر فيه عدم احتمال النقيض. فأن قيل: قوله: "لايحتمل النقيض" أعم من أن لا يكون له نقيض فلا يحتمله لعدمه، وأن يكون له نقيض ولا يحتمله. قلنا: حينئذ يلزم أن تكون البهائم كلها عالمية؛ فأن فيها صفة توجب لها تمييزا بين النار والماء مثلا، تهربن منها، وتنكثبن عليه عند العطش، ولا يحتمل

النقيض؛ لأن ذلك تصور لا نقيض له. وأن كان الثاني، فلا نسلم اندراج إدراك الحواس تحت الحد. وأما ثانيا: فلأن الكلام في جواز تحديد مطلق العلم، ومطلق العلم لا يحصل به للنفس المتصفة به التمييز بين حقائق المعاني الكلية، بل التمييز إنما يحصل بعلوم خاصة، وما حكى عن أبى الحسن الأشعري أن العلم الواحد يجوز أن يتعلق بمعلومات كثيرة غير مرضي؛ إذ كان العلم تابعا للمعلوم. وأما ثالثا: فلأن الضمير في قوله: "لا يحتمل" أن كان راجعا إلى "تمييزا" فليس بصحيح؛ لأن نقيض التمييز بين الحقائق الكلية، وسلب التمييز بين الحقائق غير ممكن، وأن كان غير راجح إليه فليس في الكلام ما يصلح أن يكون مرجعا. وأما رابعا: فلأن هذا الحد لا يدخل في علم الله - تعالى -؛ لأن صفاته - تعالى ليست عين ذاته ولا غيرها، فلا يمكن أن توجب تمييزا لمن اتصف بها. أما بالنظر إلى أنها ليست غيرها فلئلا يكون فاعلا وقائلا. وأما بالنظر إلى أنها ليست عينها فلئلا يلزم تأثرها عما ليس ذاته. وأما بالنظر إلى الجهتين جميعا فلتضاعف المحدود. وأما خامسا: فلأنه ليس له في القول الشارح ذكر أصلا. ص- واعترض بالعلوم العادية فأنها تستلزم جواز النقيض عقلاً.

وأجيب بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر استحال أن يكون حينئذ ذهبا ضرورة, وهو المراد، ومعنى التجويز العقلي أنه لو قدر لم يلزم منه (10/ا) محال لنفسه، لأنه محتمل. ش- اعترض على هذا الحد بعدم انعكاسه؛ لخروج العلوم العادية منه وبيانه: أن العلم لابد وأن يكون لموجب حس أو عقل أو برهان أوعادة والعادي لم يدخل فيه، لأنه يحتمل النقيض عقلا، فأن الجبل إذا علم بالعادة كونه حجرا، يجوز العقل وقوع نقيضه بأن لا يكون حجرا بل ينقلب ذهبا؛ إذ هو ممكن في نفسه، والممكن يجوز أن يقع بقدرة الفاعل المختار فيخرج عن الحد. وأجاب المصنف: بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر استحال أن يكون حينئذ ذهبا ضرورة، وهو المراد، يعني أن المراد بقولنا: "لا يحتمل النقيض بوجه" أن العلم إذا تعلق بالجبل حال كونه جبلا وإلا يلزم اجتماع النقيضين، وهذا المعنى غير التجويز العقلي هو أنه لو قدر مقدر نقيض متعلق العلم لم يلزم من تقديره ذلك محال لنفسه، لأنه ممكن لذاته لا أنه عبارة عن الاحتمال، وهذا كما ترى يصرح بأن التجويز العقلي هو الإمكان الذاتي. وعدم الاحتمال هو الامتناع لغيره، والممكن لذاته يجوز أن يكون ممتنعا بالغير عادة كان أو غيرها فلا يحتمل الوقوع لا في الخارج ولا عند الحاكم بتقديره في نفسه

الذكر الحكمي

ولا بتشكيك مشكك. هذا ما ذكره المحققون، وفيه نظر، لأن تعلق العلم بكونه حجرا ينافي أن لا يكون حجرا في حال المشاهدة حجرا لئلا يلزم اجتماع النقيض، فكان احتمال النقيض حينئذ مستحيلا لذاته لا ممكنا لذاته ومستحيلا بالغير. ص- واعلم أن ما عنه الذكر الحكمي إما أن يحتمل متعلقة النقيض بوجه. أولا. والثاني: العلم. والأول: إما أن يحتمل النقيض وهو راجح، أولا. والراجح: الظن، والمرجوح: الوهم. والمساوي: الشك. ش- لا بد ههنا من بيان ثلاثة أمور اختلف عبارات الشارحين فيها الذكر الحكمي، وما عنه الذكر الحكمي، ومتعلقة. والذى ظهر لي منها أن الذكر الحكمي: وهو القضية ملفوظة كانت أو مخيلة؛ لأنه يدل على كلام منسوب إلى الحكم وهو القضية. وما عنه الذكر الحكمي، أي الذى يعبر عنه الذكر الحكمي هو التصديق؛ لأنه دال عليه، والتصديق علم فلا بد له من متعلق وهو المعلوم وهي النسبة، يعني إيقاعها أو انتزاعها، وإذا عرف هذا، نقول: "ماعنه الذكر الحكمي" إما أن يحتمل متعلقة النقيض بوجه من الوجوه، أي في الخارج أو عند الذاكر بتقديره في نفسه، أولاً.

والثاني: الاعتقاد فأن طابق الواقع فهو صحيح وإلا ففاسد. والأول وهو: أن يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره فإما أن يكون احتمال المتعلق راجحا عند الذاكر على احتمال النقيض وهو الظن، أو لا، وحينئذ إما أن يكون مرجوحا أو لا، والأول الوهم (1./ب) والثاني الشك وإنما لم يجعل الحكم مورد القسمة لئلا يلزم خروج الوهم والشك عنه عند من يمنع مقارنتهما للحكم. واعترض على المصنف في تقسيم الاعتقاد، قوله: "فأن طابق فصحيح" بأنه ليس بصحيح من وجهين: أحدهما: أنه يناقض احتمال النقيض على التفسير المار للاحتمال. والثاني: أنه يناقض احتمال النقيض فأن المطابق للواقع لا يحتمل النقيض ولا في نفس الامر ولا بتقدير الذاكر في نفسه فكيف يكون غير طابق". وأجيب: بأن قوله: "فأن طابق" (لا يقتضى) إلا عدم احتمال النقيض في نفس الأمر وعند الذاكر بتقديره في نفسه، فحينئذ لا يكون مناقضا لاحتمال النقيض لجواز أن يحتمله بالتشكيك. ص- وقد علم بذلك حدودها. ش- أي علم بالتقسيم حد كل واحد من الأمور الخمسة، وذلك لأن المقسم لابد وأن يوجد في كل قسم منها، وهو ما به الاشتراك، ولا يتميز بعض من بعض إلا بما يحصه فوجد الجامع والمانع، وليس المعنى بالحد إلا ذلك. بناء على ما تقدم فيقال:

العلم: ما عنه ذكر حكمي لا يحتمل (متعلقة) النقيض بوجه من الوجوه المذكورة. والاعتقاد: ما عنه ذكر حكمي يحتمل متعلقة النقيض بتشكيك مشكل فقط. والظن: ماعنه ذكر حكمي يحتمل متعلقة النقيض عند الذاكر بتقديره مع كونه راجحا. وفي الوهم يقال: مع كونه مرجوحا. وفي الشك مع تساوي طرفيه.

تقسيم العلم

تقسيم العلم ص- والعلم ضربان: علم بمفرده، ويسمي: تصورا ومعرفة، وعلم بنسبة، ويسمي: تصديقا وعلما. ش- أراد أن العلم ينقسم إلى تصور وتصديق، كما قال المنطقيون. فالأول: كعلمنا بالإنسان والكاتب، والنسبة من حيث الحصول في العقل. والثاني: كعلمنا بإيقاع النسبة ونزعها في قوله: الإنسان كاتب. أو ليس بكاتب. وبعض العلماء يسمي الأول: معرفة، والثاني: علما، بالاشتراك اللفظي أو الغلبة، وكان هذا المسمى نظرا إلى ما عليه النحويون من استعمال

المعرفة في المتعدي إلى واحد، واستعمال العلم في المتعدي إلى المفعولين لوجود النسبة حينئذ. واعترض على المصنف: بأن العلم من مقولة أن ينفعل، والحكم إلى الايقاع أو الانتزاع من ... مقولة أن يفعل فكيف يحص تقسيمه إلى التصديق الذى هو الفعل وإلى التصور الذى هو الانفعال. واجيب: بأنا لا نسلم أن العلم انفعال فأنه قد يكون فعليا كما إذا تصورنا في أنفسنا شيئا ثم ظهرناه في الخارج. ورد: بأن العلم قد يكون انفعاليا كما إذا جردنا من الشخصيات حقيقة كلية فذلك في جانب السائل كاف. بل الجواب أن يقال: العلم ينقسم إلى تصور ساذج، وإلى تصور مع التصديق، ويكون العلم منقسما إلى نوعين من التصور لا إلى تصور وتصديق، لكن يسمي أحدهما تصورا، والآخر تصديقا، ولعل قول المصنف: "علم بمفرده" أي تصور ساذج ليس معه شيء آخر. "وعلم بنسبة"، أي تصور ملصق بنسبة هي التصديق إشارة إلى ذلك. واعلم أن (11/أ) تعريف العلم بما تقدم من قوله: "صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض" ينافي انقسامه إلى التصور والتصديق؛ لأن قوله: "لا يحتمل النقيض" سلب، وتصوره مسبوق بتصور الايجاب، والتصور لا نقيض له لينفي احتماله. لا يقال: "لا يحتمل النقيض" أعم من أن لا يكون له نقيض فلا يحتمل النقيض، ومن أن يكون له نقيض لكن لا يحتمله؛ لأنا نقول: يستلزم أن تكون البهائم عالمة كما

تقدم. ص- وكلاهما ضروري ومطلوب، فالتصور الضروري: ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه؛ لانتقاء التركيب في متعلقة؛ كالوجود والشيء، والمطلوب بخلافه، أي تطلب مفرداته بالحد، والتصديق الضروري: ما لا يتقدمه تصديق يتوقف عليه والمطلوب بخلافه، أي يطلب بالدليل. ش- أي كل واحد من التصور والتصديق ينقسم إلى ضروري ومطلوب، أي مكتسب، والتصور الضروري: هو ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه وهو يتناول قسمين: مالا يتقدمه تصور لكنه لا يتوقف عليه. والمطلوب بخلاف الضروري، وهو ما يتقدمه تصور يتوقف عليه. وفسره بقوله: "أي تطلب مفرداته بالحد" يعني مفردات التصور فأنه لما كان مركبا على زعمه وقد أريد تصوره بالحد لابد أن تطلب أجزاؤه أولا ليحد المركب بها. ومثل للضروري بالوجود، والشيء، ولم يمثل للمطلوب لظهوره بكثرته. وقوله: "لانتفاء التركيب في متعلقة" تعليل لعدم توقف التصور على تصور يتقدمه؛ لأن متعلقة إذا كان بسيطا لم يتوقف تصوره على تصور متقدم وعلى هذا يلزم

أن يكون كل مركب مطلوبا وهو خلاف ما عليه الجمهور. ويلزم أن يكون تصور البسائط موقوفا على تصور متقدم عليه، وليس بلازم لجواز أن يكون تصور البسيط موقوفا على تصور لازم خارج عن حقيقته. واعلم أنه عرف الضروري بتعريف واستدل على ذلك بقوله: "لانتقاء التركيب" وهو فاسد. وعرف التصديق الضروري بما لا يتقدمه تصديق يتوقف عليه. والمطلوب بخلافه، أي يطلب بالدليل. يريد هو ما يتقدمه تصديق يتوقف عليه. فحينئذ يطلب ذلك التصديق بالدليل؛ لأن الموصل إلى التصديق المجهول هو الدليل. مثال الضروري: النفي والاثبات لا يجتمعان، ومثال المطلوب: العالم حادث. والتعريف المذكور للتصديق الضروري موافق لما ذهب إليه الجمهور فجاز وأن يكون طرفاه كسبيين، وأن ما لا يتقدمه ولكن لا يتوقف عليه، وأن كان تصور طرفيه أو أحدهما كسبيا جاز أن يكون ضروريا. ص- وأورد على التصور: أن كان حاصلا فلا طلب، وإلا فلا شعور به فلا طلب. وأجيب: بأنه يشعر بها وبغيرها والمطلوب تخصيص بعضها بالتعيين، وأورد ذلك على التصديق. وأجيب بأنه (11/ب) تتصور النسبة بنفي أو إثبات. ثم يطلب تعيين أحدهما. ولا يلزم من تصور النسبة حصولها، وإلا لزم النقيضان.

ش- اعترض على التصور الكسبي، بأنه لا يجوز أن يحصل شيء بالكسب لأنه إما أن يكون حاصلا أو لا، فأن كان حاصلا امتنع تحصيل الحاصل، وأن لم يكن حاصلا امتنع تحصيل، وأن لم يكن حاصلا امتنع توجه الطلب نحوه؛ لأن النفس لا تتوجه إلى ما ليس بمشعور به. وأجيب: بأنه يشعر بها وبغيرها، وحاصله أن المراد بتحصيل التصور كسبا تعيين بعض ما كان مشعورا به عن غيره، ولهذا لابد من ذكر أمر عام وأمر مخصص، وهو معنى قول من قال: طلب حصول التصور في الذهن عبارة عن تفصيل مجمل أو تفصيل مفصل بالنسبة، فأن الإنسان إنما يصح منه الطلب اذا أدرك بالإجمال لشيء، ما أو بالتفصيل بالنسبة إلى شيء ما، كإنسان وفرس فطلب الأول تفصيل مجمل، والثاني تفصيل مفصل. قوله: "وأورد ذلك" أي الاعتراض على التصديق، وتقريره كما في التصور. والجواب بالإجمال والتفصيل، يعني بتصور النسبة الحكمية من غير تعيين السلب والإيجاب، ثم يطلب تعيين أحدهما. وتقريره: أنا نختار أن لا يكون التصديق حاصلا ولا يمتنع طلبه. قوله: "لأنه لا يكون مشعورا به" قلنا: ممنوع؛ لجواز أن تكون النسبة الإيجابية والسلبية متصورة ولا تكون حاصلة، فمن حيث التصور يتوجه الذهن نحوه، ثم يطلب تعيين أحدهما. قوله: "ولا يلزم" جواب عما يقال النسبة الايجابية والسلبية اذا كانت متصورة كانت حاصلة فيمتنع طلب حصولها. وتقريره: لا يلزم من تصور الحكم الإيجابي والسلبي حصوله، وإلا لزم اجتماع

النقيضين عند تعقل السلب؛ لأنه لا يكون إلا بعد تعقل الإيجاب وإضافة السلب إليه؛ إذ السلب المطلق لا تمييز له. وفيه النظر؛ لأن قوله: "لا يلزم من تصور الحكم حصوله" ممنوع. قوله: "وإلا لزم الاجتماع النقيضين". قلنا: ممنوع. بل اجتماع صورتهما؛ ويجوز اجتماعهما في العقل؛ فأنه يحكم بالتناقض بينهما، فلا (بد) من تصوره، وتصوره منهما يتوقف على تصورهما لا محالة، وتصورهما، هو حصول صورتهما فيه، كما عرف في موضعه.

معرفة الحد وتقسيمه

معرفة الحد وتقسيمه ص- ومادة المركب: مفرداته. وصورته: هيئته الخاصة. والحد حقيقي ورسمي ولفظي. فالحقيقي: ما أنبأ عن ذاتياته الكلية المركبة. والرسمي: ما أنبأ عن الشيء بلازم له، مثل الخمر، مائع يقذف بالزبد. واللفظي: ما أنبأ بلفظ أظهر مرادف، مثل العقار: الخمر. وشرط الجميع: الاطراد والانعكاس، أي إذا وجد وجد، وإذا انتفى انتفى. ش- لما أخذ المفردات في تعريف المطلوب، تدرج إلى بيان أن الحد لابد له من مادة وصورة وفيه إشارة إلى أن التعريف بالمفرد لا يجوز، بل لابد من أجزاء، وهي مادته وصورته؛ لأن جزء المركب (12/أ) إما أن يكون المركب معه بالقوة وهي المادة، أو بالفعل وهو الصورة. والمركب مع مفرداته بالقوة، ومع الهيئة الخاصة بالفعل، فقال: "ومادة

المركب مفرداته، وصورته: الهيئة الخاصة "ثم بين أن أقسام الحد ثلاثة: حقيقي ورسمي ولفظي. والمراد بالحد هو: المعرف ليصح مقسما، وذكر في وجه الحصر أن التعريف: إما أن يكون بحسب اللفظ أو بحسب المعنى، والأول هو: اللفظي، والثاني: إما أن يكون بالذاتيات أو لا، والأول: الحد الحقيقي. والثاني: الرسمي، وتدخل فيه الحدود الناقصة، وهو اصطلاح غير بعيد؛ لأنها لم تفد كنه الحقيقة، فكانت في معنى الرسم في إفادة التمييز. قوله: "فالحقيقي ما أنبأ" أي الحد الحقيقي معرف دل على جميع الذاتيات الكلية المجتمعة، فقوله: "ما نبأ" كالجنس، وقوله: "عن ذاتياته" لإحراج التعريف بالعرضيات وببعض الذاتيات. وقوله: "الكلية" لإحراج المشخصات، فأنها ذاتية الشخص من حيث هو شخص ولا يحد بها؛ لأن الحد للكليات وقوله: "المركبة" لإحراج الذاتيات التي لم يعتبر تركيبها على وجه تحصل بها صورة وجدانية مطابقة للمحدود، فأنها لا تسمى حدا حقيقيا وقوله: "والرسمي ما أنبأ عن الشيء أي الحد الرسمي معرف أنبأ عن الشىْ بلازم له، أي مختص فإن اللام للاختصاص،

واحترز به عن العرضي المفارق، كالضاحك بالفعل للإنسان، فأنه لا يفيد التعريف. واعترض: بأن العناية بجعل اللازم بمعنى المختص بدلالة اللام غير مفيدة؛ لأنه مثل بالعرضي المفارق، وهو القذف بالزبد. ورد: بأن النظر في المثال ليس دأب المحققين. وقوله: "واللفظي ما أنبأ" أي الحد اللفظي معرف أنبأ عن الشيء بلفظ أظهر مرادف، فقوله: "بلفظ" أخرج الحد الحقيقي والرسمي، وبقوله "مرادف" أخرج الأظهر المباين، كذا قيل، وفيه نظر، والأولى أن لا يكون قيدا مستقلا. واعترض: بأن الخمر ما أنبأ عن العقار بلفظ أظهر مرادف بل أنبأ عنه بنفسه. وأجيب: بالعناية بأن المحدود بالحد اللفظي معنى العقار من حيث هو موضوع له العقار. ٍ والحد معنى الخمر من حيث هو موضوع له الخمر، ولا شك أن معنى الخمر من حيث هو موضوع له الخمر أنبأ عن معنى العقار من حيث هو موضوع له العقار بلفظ الخمر وهو أظهر مرادف له. وهي كما ترى ذات تحمل في القول الشارح على أنها لا تدفع كونه تعريفا بمفرد وهو ليس بجائز. فإن قيل: بل يدفعه بالتقدير المذكور أن الحد معنى المر من حيث هو موضوع

شرط الحدود الثلاثة

له الخمر وهو مركب. قلنا: لا نسلم أن مثل هذا التركيب فيما نحن فيه، ولئن سلمنا زاد تمحل على تمحل. فإن قيل: التركيب شرط الحقيقي والرسمي. قلنا: على تقدير التسليم كان عناية أخرى. والأظهر أن التعريف لا (12/ب) بتصور، بل لابد فيهمن تصورين وإلا لما أندفع الاعتراض الوارد على التصور المكتسب على ما مر فتأمل. قوله: "وشرط الجميع" أي الأقسام الثلاثة المذكورة الاطراد على معنى كلما وجد الحد المحدود، والانعكاس على معنى كلما أنتقى الحد أنتقى المحدود. يعني أن الحد يجب أن يكون مساويا للمحدود؛ لأن المباين والأعم لا دلالة لهما على الحدود، والأخص أخفي، لكونه أقل وجودا وغولط بأن اللفظي لا يكون إلا بالأظهر وهو كالأعم؛ إذ هو ليس بمساو لفرضه أظهر، ولا أخص لكونه أكثر وجودا بالنسبة إلى عالمي الوضع فكان أعم، وبأن المساواة قد تفسده، لتعريف الحركة بعدم السكون. ودفعها: بأن النسب الأربع إنما تعتبر في الكليات والحدود لها، وغير

الذاتي

المساواة غير مفيدة في الحدود كما مر. والتعريف اللفظي ليس إلا من حيث الدلالة على أن موضوع هذا اللفظ هو موضوع هذا اللفظ الآخر ولو لم يكن الثاني أظهر لما أفاد شيئا، والمساوة إنما كانت في المعرفة. والجهالة لعدم الفائدة إذ ذاك. وأما من حيث النسبة فلا بد منها كما مر. ص- والذاتي مالا يتصور فهم الذات قبل فهمه، كاللونية للسواد والجسمية للإنسان. ومن ثم لم يكن لشيء حدان ذاتيان، وقد يعرف بأنه غير معلل، وبالترتيب العقلي. ش- ولما ذكر الذاتي في تعرف الحد الحقيقي أشار إلى معناه، والمعنى أن الذاتي: ما يمتنع فهم الذات قبله، كالجسمية للإنسان في الجوهر واللونية للواد في العرض، ويدخل تحت هذا التفسير نفس الماهية وأجزاؤها، لا متناع فهم الذات قبل فهمهما. وقيل: أنه غير مانع ضرورة صدقة على اللازم البين للجنس.

ورد: بأن اللازم البين للجنس لا يلزم أن يكون فهمه قبل فهم النوع، ولامعه وتقدم فهم الجنس على فهم النوع لايقتضى تقد فهم لازمة القريب عليه. قوله: "ومن ثم لم يكن لشيء واحد حدان ذاتيان" أي من أجل أن لأن الذاتي هو: ما لا يتصور فهم الذات، وفهم الذات لا يتصور إلا بعد فهم جميع ذاتياته فالحد الذاتي ما يشتمل على جميع الذاتيات وهو لا يتعدد. قوله: "وقد يعترف" أي يعرف الذاتي بما لا يعلل بعلة، يعني أن الذات لا تحتاج في اتصافها بالذاتي إلى علة مغايرة لعلة الذات، فإن السواد لون لذاته لا لشيء آخر جعله لونا. وقد يعرف الذاتي - أيضا - بالترتيب العقلي. قيل معناه أنه يتقدم على الذات في الوجودين، أعني: الخارجي والذهني. وكذا في العدمين، أي متى وجد الذات بأحد الوجودين يحكم بأن الذاتي عدم قبلها. لكن التقدم في جانب الوجود بالنسبة إلى جميع الأجزاء؛ لأن الكل إنما يوجد جميع الأجزاء واما في جانب العدم فبالنسبة إلى جزء واحد، لأن الكل ينتقى بانتفاع جزء واحد (13/أ).

تمام الماهية

تمام الماهية ص- وتمام الماهية: هو المقول في جواب ما هو، وجزؤها المشترك: الجنس والمميز: الفصل. والمجموع منهما: النوع. ش- الماهية هي ما يجاب به عن السؤال بما هو. وهو عبارة عن حقيقة الشيء، وكل شيء له حقيقة مغايرة لجميع ما عداها، لازما كان أو مفارقا وذلك كالحيوان الناطق المقول في جواب ما هو، عند السؤال عن الإنسان. وتمام جزئها المشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات، كالحيوان هو الجنس، وتمام الجزء المميز كالناطق هو الفصل. وليس في كلامه هذا ما يدل على حصر أجزاء الماهية في الجنس والفصل فيوهم جواز أن تركيب ما هيه من أمرين متساويين، أو أمور متساوية لا يكون شيء منها جنسا ولا فصلا؛ ضرورة عدم كونه تمام الجزء المميز.

ولكن البرهان قائم على أن ذلك لا يجوز على ماعرف في موضوعه، فيكون الذاتي منحصرا على ما ذكر بالتفسير المار له، ووجه ذلك: أن الذاتي إما أن يكون تمام ماهية الشيء أو داخل فيها، والأول: هو الماهية المقولة في جواب ماهو. والثاني: إما أن يكون تمام الذاتي المشترك بين الماهية وغيرها أو لا. والأول: هو الجنس. والأول: هو الفصل. سواء اختص بها أو لم يختص. أما إذا اختص فظاهر. وأما اذا لم يختص بها فلأنه حينئذ لا يكون جزءا لجميع الماهيات، وإلا لانتفي البسائط فيكون جزءا لبعضها دون بعض فيميزها عما لا يكون جزءا له فيكون فصلا. والمركب من الجنس والفصل هو النوع. قيل: أي النوع المطلق ليتناول الإضافي والحقيقي، فإن الحقيقي قد يكون مركبا منهما وإن كان غير لازم. وقيل: بل المراد النوع الإضافي؛ لأنه لا يكون إلا مركبا منهما بخلاف الحقيقي ومطلق النوع لا يتناولهما؛ لأن إطلاق عليهما إنما هو بالاشتراك اللفظي لا المعنوي، حتى يقال للقدر المشترك بينهما النوع المطلق.

الجنس والنوع

وفيه نظر: فإنه يجوز أن يكون مشتركا بينهما لفظا، ويكونان مرادين لأن إرادة المعنيين من اللفظ المشترك جائزة عند الأشاعرة ومن تابعهم. والحق هو الثاني، لأن الحقيقي المركب منهما إضافي، وغير المركب لم يدخل تحت قوله: "والمركب" فالسعي في تناوله باطل. وقيل: في كلام المصنف تسامح؛ لأنه ذكر لفظ "تمام" فيما لا ينبغي وترك فيما ينبغي فإنه لو قال: الماهية هو المقول في جواب ما هو كان كلاما تاما. وأما قوله: "وجزؤهما المشترك" فلا بد فيه من تقدير لفظ "تمام" لئلا يرد عليه فصل الجنس, كالحساس بالنسبة إلى الإنسان فإنه جزء مشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات, وليس بجنس فلا بد من تقدير ذلك, ليكون المعنى وتمام جزءها المشترك الجنس فيدفع البعض, لأن فصل الجنس وأن كان جزءا مشتركا لكنه ليس تمام الجزء المشترك بل بعضه فلا يكون جنسا. ص-والجنس: ما اشتمل على مختلف بالحقيقة. وكل من المختلف: النوع. ويطلق النوع على ذي آحاد متفقة الحقيقة. فالجنس) (4) الوسط نوع بالأول لا الثاني, والبسائط بالعكس. ش-لما ذكر الجنس والنوع أراد أن يعرفهما فعرف (13/ب) الجنس بقوله: "ما اشتمل على مختلف بالحقيقة" وقال: "وكل من المختلف النوع" واللام في المختلف للعهد, والمعهود قوله: "مختلف بالحقيقة" وكلامه ضعيف لفظاً ومعنى,

أما لفظاً فلأنه ترك في الرسمين جميعا في جواب ما هو, وأدخل اللام في قوله: "النوع" وهو مستدرك؛ لأنه أن أراد الجنس فليس بصحيح, وأن أراد العهد فلا معهود, وكفي أن يقل وكل من المختلف نوع. وأما معنى فلأنه يقتضي أن يكون كل مركب مشتمل على أجزاء مختلفة الحقائق كالمعاجين وغيرها جنسا , وكل جزء يكون نوعا , وهو باطل قطعا. وصحح شيخي العلامة - رحمه الله- بعنايات, ولكن ليس الموقع كالصحيح فمن عناياته أن قال: قوله: "ما اشتمل" أي مقول في جواب ماهو, اشتمل على مختلف بالحقيقة. فبقوله: في جواب ما هو, خرج الفصل والخاصة والعرض العام؛ لأن شيئا منها غير مقول في جواب ما هو, وبقوله: "على مختلف بالحقيقة" خرج النوع لأنه مقول في جواب ما هو مشتمل على مختلف بالعدد لا بالحقيقة, وكل من المختلف الذي يقال عليه وعلى الجنس في جواب ما هو النوع, أي الإضافي, وخرج الفصل والخاصة والعرض العام؛ لأن الجنس لا يقال على شئ منها في جواب ما هو. ثم قال شيخي - رحمه الله- إلا أنه يشكل بالصنف والشخص؛ فإن الجنس مقول في جواب ما هو على أصناف الأنواع وأشخاصها.

العرضي

وأجاب: بأنه أراد بالحقيقة في قوله: "مختلف بالحقيقة" الماهية من حيث هي من غير اعتبار العوارض اللاحقة بها المصنفة أو المشخصة. قال المصنف: "ويطلق النوع على ذي أحاد متفقة الحقيقة" يعني النوع الحقيقي، وهو مقول في جواب ما هو ذو أحاد متفقة الحقيقة. فيقوله: "في جواب ما هو" خرج الفصل والخاصة والعرض العام. وبقوله: "متفقة الحقيقة" خرج الجنس، والفرق بينهما أن الجنس الوسط كالجسم النامي نوع بالمعنى الأول؛ لأن جنس يقال عليه وعلى غيره في جواب ما هو، ولا يكون نوعا بالمعنى الثاني لأنه مقول في جواب ما هو على مختلفين بالحقيقة، وهي الأنواع المندرجة تحته. والبسائط؛ أي الماهيات التي لا جزء لها، كالوحدة والنقطة، بالعكس، أي تكون نوعا بالمعنى الثاني، لكونها مقولة في جواب ما هو، على المتفقة الحقيقة التي هي أفرادها. ولا تكون نوعا بالمعنى الأول؛ لعدم أندراجها تحت جنس. وإلا لم يكن بسائط. ص- والعرضي بخلافه. وهو لازم وعارض. فاللازم: مالا يتصور مفارقته. وهو لازم للماهية بعد فهمها، كالفردية للثلاثة والزوجية للأربعة. ولازم في الوجود خاصة، كالحدوث للجسم والظل له. والعارض بخلافه وقد لا يزول، كسواد الغراب والزنجي. وقد يزول، كصفرة الذهب. ش- لما فرغ (14/أ) من الذاتي بين العرضي وهو: ما يمكن فهم الذات قبل

فهمه وهو ينقسم إلى لازم وعارض؛ لأنه أن لم يمكن مفارقته فهو لازم، وأن أمكن فهو عارض. واللازم قسمان: لازم للماهية بعد فهمها، أي يلزم فهمه بعد فهم الماهية من حيث هي كالفردية للثلاثة والزوجية للأربعة، فإن فهم الفردية والزوجية يلزم بعد فهم ماهية الثلاثة والأربعة. وقوله: "بعد فهمها" يخرج به ما هو لازم الماهية في الوجود، فإنه لا يلزم فهمه بعد فهمها. ولازم في الوجود، يعني ما يلزم الماهية في الوجود، ولا يلزم فهمه بعد فهمه. وكالظل فإنه لازم لماهية الجسم في الوجود، لا في الفهم ومثل بمثالين إشارة إلى أنه يجوز أن يكون لازما باعتبار شرط كالأول. وأن يكون لازما باعتباره كالثاني، فأن الظل لازم لماهية الجسم في الوجود بشرط أن يكون كثيفا مقابلا للمضيء وأن لم يعتبر ذلك كان عرضيا مفارقا، وجاز أن يكون العرضي لازما باعتبار ومفارقا بدونه، والعارض ما يمكن مفارقته عن الشيء وأن لم يفارقه دائما؛ لأن دوام الثبوت لا ينافي إمكان السلب. والعرضي المفارق (قد لا) يزول عرض بعد وجود المعروض كسواد الغراب أو مع وجوده كسواد الزنجي، وقد يزول كصفرة الذهب.

صورة الحد

صورة الحد ص- وصورة الحد: الجنس الأقرب ثم الفصل. ش- يريد الحد الحقيقي وأن لم يكن ملتزما في هذا الفن كما أشير إليه من قبل ولما علم أن لكل مركب مادة وصورة، أشار إلى أجزاء الحد الذى هو مركب، ولما كان الصورة مستلزمة للمادة من غير عكس ذكر الصورة، وجعل اللام في قوله: "وصورة الحد" للعهد، والمعهود الحد الحقيقي، وهو ملبس؛ لأن المتقدم أقسام الحد كلها فلم يتعين الحقيقي إلا بالعناية وهو مخل بمعنى العهد والمعنى صورة الحد الحقيقي الجنس الأقرب إلى وضعه ثم الفصل؛ لأنه لو يوضع كذلك لم يحصل للحد صورة وجدانية مطابقة للحدود. ص- وخلل ذلك: نقص، وخلل المادة: خطأ ونقص. فالخطأ: كجعل الموجود والواحد جنسا. وكجعل العرضي الخاص بنوع فصلا فلا ينعكس، وترك بعض الفصول فلا يطرد. وكتعريفه بنفسه، مثل: الحركة. عرض نقله، والإنسان حيوان بشر. وكجعل النوع والجزء جنسا. مثل: الشر: ظلم الناس، والعشرة خمسة وخمسة.

ش- أي الخلل الواقع في صورة الحد بأن يوضع الفصل أولا، نقص لما ذكرنا، وليس بخطأ؛ لأنه يفيد تمييز المحدود عن غيره تمييزا ذاتيا وهو المقصود. وأما الخلل الواقع في مادته فخطأ ونقص فأن كان من كان من جهة المعنى فهو الأول، وأن كان من جهة اللفظ فهو الثاني، والأول على أنواع منها: أن يجعل العرض (14/ب) العام جنسا فيقال: الإنسان موجود ناطق، أو واحد. ومنها: أن يجعل العرض الخاص فصلا، فيقال: الإنسان هو الحيوان الكاتب فلا ينعكس الحد حينئذ؛ لوجود المحدود بدونه. ومنها: أن يترك بعض الفصول، فيقال في حد الإنسان: حيوان ناطق، ويترك قوله: كاتب، عند من يرى اشتراك الناطق بين الإنسان والملائكة فلا يطرد لوجود الحد حينئذ بدون المحدود في الملائكة. ومنها: تعريف الشيء بنفسه، مثل الحركة: عرض نقله، والإنسان: حيوان بشر فإن تعريف الإنسان مشتمل على البشر، وتعريف الحركة مشتمل على النقلة، وهما نفس الإنسان والحركة. ومثل بمثالين للجوهر والعرض.

اختصاص الحد الرسمي يختص باللازم المختص الظاهر

ومنها: أخذ نوع الشيء أو جزئه الغير المحمول مكان جنسه كقولهم: الشر ظلم الناس، إذ الظلم نوع من الشر أخذ مكان الجنس. وقولهم: العشرة خمسة وخمسة، فإن الخمسة غير محمولة على العشرة وقد أخذت مكانه, فكان أخذ غير الجنس مكان الجنس وهو خطأ واعلم أن هذه الأقسام المذكورة ليست منحصرة في الحد الحقيقي على الوجه الذى اعتبر المصنف الحد الرسمي؛ فإنه اعتبره على وجه يتناول الحدود الناقصة فيشتمل على الجنس والفصل، فيمكن وقوع الخطأ المذكور في الحد الرسمي. ص- ويختص الرسمي باللازم الظاهر، لا يخفي مثله, ولا بخفي، ولا بما تتوقف عقليته عليه. مثل: الزوج: عدد يزيد على الفرد بواحد. وبالعكس فإنهما متساويان ومثل: النار: جسم كالنفس، فإن النفس أخفى. ومثل: الشمس: كوكب نهاري، فإن النهار يتوقف على الشمس. والنقص، كاستعمال الألفاظ الغريبة، والمشتركة، والمجازية. ش- الحد الرسمي يختص باللازم المختص الظاهر. لابد من هذه الأمور الثلاثة والمصنف أخل بذكر واحد، أما اللزوم؛ فلأنه لو لم يكن لازما لجاز صدق المحدود بدونه، فيلزم عدم الانعكاس. وأما الاختصاص؛ فلأنه لو لم يكن مختصا لجاز صدقه بدون المحدود، فيلزم عدم الاطراد. وأما الظهور؛ فلأنه لو لم يكن ظاهرا لم يفد؛ لأن المساوي في الظهور والخفاء عند العقل لا يصلح للتعريف، لاستلزامه التحكم، والأخفى أشد امتناعا، لترجيح المرجوح، وما يتوقف تعقله على تعقل المحدود كذلك؛ لامتناع توقف الشيء على ما يتوقف عليه. مثلا ما يساويه في الظهور والخفاء قولنا: الزوج عدد يزيد على الفرد بواحد.

لا يحصل الحد بالبرهان

أخذ [الفرد] في تعريف (الزوج)، وهما متساويان في الظهور والخفاء وبالعكس، أي يقال: الفرد عدد يزيد على الزوج بواحد. ومثال الأخفى: النار جسم كالنفس، والنفس أخفى عند العقل. ومثال ما يتوقف عقليته عليه: الشمس كوكب نهاري؛ فإن تعقل النهار موقوف على تعقل الشمس، فإنه عبارة عن وقت ظهور الشمس فوق دائرة الأفق. وكل من هذه الثلاثة أردا مما قبله، فلهذا (15/أ) أخره عنه وهي مختصة بالرسمي؛ إذ لا مدخل للخفاء والتوقف في الذاتي. وأما النقص وهو: الخلل في المادة من جهة اللفظ كما تقدم فهو بأمور -أيضا - منها: استعمال ألفاظ غريبة بالنسبة إلى السامع كتعريف الخلق بالديدن. ومنها: استعمال ألفاظ مشتركة، نحو: الشمس عين. ومنها: استعمال ألفاظ مجازية، نحو: الطواف صلاة. وإنما أخر النقص لم يذكر عقيب الخطأ؛ لتعلقه بالحقيقي والرسمي. ص- ولا يحصل الحد ببرهان؛ لأنه وسط يستلزم حكما على المحكوم عليه.

فلو قدر في الحد لكان مستلزما "عين المحكوم عليه؛ ولأن الدليل يستلزم تعقل ما يستدل عليه. فلو دل عليه لزوم الدور. فإن قيل: فمثله في التصديق. قلنا: دليل التصديق على حصول ثبوت النسبة أو نفيها لا على تعقلها. ومن ثم لم يمنع الحد، ولكن يعارض ويبطل "بخلله". أما إذا قيل: الإنسان حيوان ناطق. وقصد مدلوله لغة أو شرعا، فدليله النقل بخلاف تعريف الماهية. ش- أي لا يمكن إقامة للبرهان على ثبوت الحد للمحدود لوجهين: أحدهما: أنه وسط يستلزم حكما على المحكوم عليه، أي حكما يفضي إلى الحكم بالمحكوم به على المحكوم عليه، كما إذا قلنا الخمر حرام؛ لأنها تؤثر الخلل في العقل وكل ما يؤثر الخلل في العقل فهو حرام. فقولنا: لأنه يستلزم الحكم بأنها تؤثر الخلل في العقل، وذلك يفضى الحكم بالمحكوم به في نفس القضية المذكورة أولا، وهو الحرمة على المحكوم عليه وهو الخمر، وهذه فائدة (تستلزم) حكما. ويجوز أن يكون معناه؛ لأنه وسط يستلزم حكما، المحكوم به على.

المحكوم عليه، وهو في النتيجة. وعلى كل من التقديرين معنى البرهان: أن يستلزم الشيء حكما على المحكوم عليه، فلو قدر في الحد كان مستلزما عين المحكوم عليه لا حكما عليه وهو خلف وبيان الملازمة يقتضى التنبيه على أمر هو أن المطلوب إما تصور أو تصديق، والأول طريقه هو هو، والثاني: ثبوته له وتوسيط ثبوته له بين هو هو يستلزم ثبوت هو لهو وذلك يستدعى المغايرة التي تنافي هو هو. والثاني: أن الدليل يستلزم عليه، والمستدل عليه هو الحكم بثبوت الحد للمحدود فيكون الدليل موقوفا على تعقل المحدود والحد، والحكم بثبوت أحدهما لآخر فلو دل على ثبوت الحد للمحدود لكان ثبوت الحد للمحدود موقوفا على الدليل، وتعقل الحدود موقوف على ثبوت الحد للمحدود ضرورة استفادة تعقل المحدود من ثبوت الحد له، فيكون تعقل المحدود موقوفا على الدليل عليه، والدليل عليه موقوف على تعقله فيلزم الدور، وعلى هذا الوجه نقض إجمالي ذكره المصنف بقوله: الدليل في التصديق موقوف على تعقل التصديق أن صح قولكم الدليل يستلزم تعقل ما يستدل عليه، وحينئذ لو كان التصديق ثابتا بالدليل لزم الدور. وأجاب بقوله: "دليل التصديق على حصول ثبوت النسبة أو نفيها لا على تعقلها". وتقريره: الدليل يذكر في التصديقات (15/ب) إنما هو على إيقاع الحكم الإيجابي وانتزاعه لا على الدليل على ثبوت النسبة أو نفيها موقوف على تعقلها لا على ثبوتها فلا يلزم الدور. ولقائل أن يقول: الدليل يستلزم تعقل ما يستدل عليه مطلقا أو إذا لم يكن في

التصور، أي فأن كان الأول فممنوع لم لا يجوز أن الدليل في التصورات يفيد تعقل المحدود من حيث هو كذلك من غير سبق تعقله كدلالة اللفظ على المعنى. وإن كان الثاني: فهو مسلم ولا يفيد المطلوب. هذا وأن سلوك طريق هو هوهوهو فلا تعدل عنه. ولما فرغ من بيان بطلان اكتساب الحد بالبرهان، فرع عليه عدم جواز المنع فيه؛ لأن المنع يشعر بطلب الدليل. عليه ممتنع، وقال: "ولكن يعارض ويبطل بخلله"، والمعارضة هي: المقابلة على سبيل الممانعة، وذلك إنما يتحقق في الحد بإيراد حد آخر راجح عليه بوجه من الوجوه، أو مساو له. ولقائل أن يقول: كلامه إما فاسد أو متسامح فيه؛ لأنه أن أراد بقوله: " ومن ثم لم يمنع الحد" الحد الحقيقي فهو فاسد؛ لأن الحد الحقيقي لا يتعدد كما مر، وأن أراد غيره ففيه تسامح، لأنه نفي المنع عن الحد وذكر المعارضة التي فيها ممانعة. وأما إبطاله بإثبات خلله، فإما بعدم اطراده أو انعكاسه أو غيرهما من الشرائط المعتبرة في الحد، فبإثباته يبطل الحد. قوله: "وأما إذا قيل: الإنسان حيوان ناطق "الظاهر أنه معطوف على قوله: "ولا يحصل الحد ببرهان "يعني إذا قصد بذكر الحد تعريف الماهية لا يحصل بالدليل، وأما إذا قصد به أنه مدلوله لغة أو شرعا، فلا يمتنع إثباته بالدليل؛ لأنه الذي يَحُد

القضية

حينئذ يدعي بأن مدلول لفظ الإنسان الحيوان الناطق شرعا أو لغة، ويمكن إثبات أن أهل اللغة أو الشرع أرادوا بهذا المعنى، بالنقل عنهم. أما تعريف الماهية فلا؛ لأن معناه أن ماهية الإنسان متصورة بهما ولا يمكن الدليل عليه لما ذكرناه. ص- ويسمى كل تصديق: قضية، وتسمى في البرهان: مقدمات. والمحكوم عليه فيها إما جزئي معين أو لا. ٍ والثاني: إما مبين جزئيته أو كليته أو لا. صارت أربعة: شخصية، وجزئية محصورة، وكلية، ومهملة. كل منها موجبة وسالبة. والمتحقق في المهملة الجزئية فأهملت. ش- هذا معطوف على قوله: "ويسمى تصديقا" أي العلم بالنسبة يسمى تصديقا، والتصديق يسمى قضية، الواقعة في الحجة تسمى مقدمات؛ فأن المقدمة قضية جعلت جزء قياس، وهي تنقسم إلى شخصية، وكلية محصورتين ومهملة فتلك أربع، وكل منها موجبة وسالبة فهي ثمان قضايا وبيانه: أن الجزء الأول (16/أ) أي المحكوم عليه في القضية الحملية، إما أن يكون مشخصاً أو

كلياً، والأولى تسمى: شخصية كقولنا: زيد قائم، وهذه الصلاة صحيحة. والثانية: إما أن يكون الحكم فيها على ما صدق عليه من الأفراد، أو على نفس الكلي. والأول: إما أن يبين فيها أن الحكم فيها على كل الأفراد أو بعضها أو لم يبين. فإن بين أنه على بعضها بسورها: وهو اللفظ الدال على كمية أفراد المحكوم عليه، "كبعض" و "واحد"، وليس بعض، وبعض ليس، وليس كل، للسالبة كقولنا: ليس بعض الوضوء عبادة، تسمى: جزئية محصورة سالبة. وإن تبين أنه على كلها بسورها كانت القضية كلية موجبة أن كان سورها كل، كقولنا: كل صلاة عبادة، وسالبة إن كان لا شيء ولا واحد وكل ليس، كقولنا: لا شيء من الخمر بحلال. وإن لم يبين أن الحكم فيها على الأفراد أو بعضها تسمى: مهملة، كقولنا: العلم كسبي والثاني: أعنى ما يكون الحكم فيها على نفس مفهوم الكلي أن لم يقيد بالعموم

تسمى: طبيعية، كقولنا: الرجل خير من المرأة، وأن قيد به، كقولنا: الإنسان نوع، فإن النوع إنما يصدق على الإنسان بقيد العموم، تسمى: عامة. قال شيخي العلامة شمس الدين الأصبهاني - سقى الله ثراه، وجعل الجنة مثواه-: "القضية التي يكون الحكم فيها على الطبيعة بعد العموم يجوز أن تسمى: شخصية، لأن المفهوم المقيد بقيد العموم لا يقبل وقوع الشركة فيه، فيكون نفس تصوره مانعا من وقوع الشركة فيه, فيكون شخصا، وتكون القضية شخصية، وهو حق على رأي من شرط الاستغراق في العموم، وإنما لم يعرض المصنف لذكر الطبيعة والعامة لكونهما غير مقيدين، ولهذا لم يتعرض لهما في أحكام القضايا من العكوس والتناقض وغيرهما". قوله: "والمتحقق في المهملة الجزئية" يعني أنه يلزم من صدق المهملة الجزئية وبالعكس، فإنه مهما صدق الحكم (على ما صدق) عليه الإنسان من الأفراد، يصدق على بعض أفراده، لأن ما صدق عليه الإنسان من الأفراد إما كلها أو بعضها، وعلى التقديرين فالحكم على البعض صادق فيلزم صدق الجزئية. ومهما صدق الحكم على بعض الإنسان صدق على ما صدق عليه الإنسان من الأفراد، فيلزم صدق المهملة فيكون ذكر الجائية مغنيا في أحكام القضايا عن ذكر المهملة، فلذلك أهملت في أحكام القضايا. وقد يقع في نسخ المختصر "صارت أربعة" بالتاء وهو خطأ؛ لأن المعدود القضايا.

قطعية مقدمات البرهان

ص- ومقدمات البرهان قطعية لتنتج قطعيا؛ لأن لازم الحق حق وتنتهي إلى ضرورية، وإلا لزم التسلسل. وأما الإمارات فظنية أو اعتقادية، أن لم يمنع مانع؛ إذ ليس بين الظن والاعتقاد وبين أمر، ربط عقلي، لزوالهما مع قيام موجبهما. ش- البرهان: قياس يقيني، وذلك يقتضى أن تكون مقدماته قطعية لينتج نتيجة قطعية، وكل من (16/ب) المقدمات والنتيجة لازم للقياس، ولازم للقياس، ولازم الحق لا يكون إلا حقا. فقوله: " لأن لازم الحق حق" جعله بعض الشارحين علة لقوله: "لتنتج قطعيا" وآخرون لقوله: "ومقدمات البرهان قطعية" والأول أظهر لأن قوله: "لتنتج" علة لقوله: "ومقدمات البرهان قطعية" ووجه الثاني: الفرض، أن يقال: البرهان حق، أي ثابت جزما؛ لأنه المفروض، وذلك يستلزم أن تكون لوازمه كذلك، لئلا يحتمل الانتقاء، فإن احتمالها الانتقاء يستلزم احتمال الانتفاء ما فرضناه ثابتا جزما لم يكن كذلك هذا خلف. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن تكون المقدمات ظنية ويحصل بالهيئة الاجتماعية القطع كما هو في الخبر التواتر وقوى الحبل. ولا يلزم أن تكون مقدمات البرهان كلها ضرورية، أي بينة بنفسها؛ لجواز أن تكون كلها أو بعضها مكتسبة قطعية تنتج قطعيا، ولا بد أن تنتهي إلى الضرورية وإلا

الأمارات

لدار وتسلسل. ولما كان الدور تسلسلا في الأمور المتناهية استغنى بذكر التسلسل عن ذكره، وفيه نظر؛ لأن بطلان الدور ليس من جهة التسلسل حتى يكون مجرد ذكره مغنيا بل من جهة توقف معرفة الشيء على نفسه وتلك جهة أخرى لا يستغنى عن ذكرها. وأما الأمارات فهي مركبة من الظنيات الصرفة أو من الاعتقاديات الصرفة أو مختلطة منهما، أو من واحدة منهما ومن القطعيات. فهي ظنية لا محالة أو اعتقادية، وهما لا يفيدان إلا ظنية أو اعتقادية لا مطلقا بل بشرط أن لا يمنع مانع؛ إذ ليس بين الظن والاعتقاد اللذين هما نتيجتا الأمارات وبين "أمر"، أي من الأمارات ربط عقلي يستلزم استلزام الأمارات لنتائجها، إذ لو كان لما زال الظن والاعتقاد لقيام موجبهما، لكنهما يزولان تماما إذا شاهدنا مركوب القاضي وخدمه على باب دار حصل لنا الظن بحضور القاضي فيها، فإذا دخلتا الدار ولم يكن بها زال الظن المذكور مع قيام موجبه، وهذا مانع حسى. وقد يكون عقليا كالدليل الدال على أن بعض الموجودات ليس بمحسوس فإنه مانع للازم الأمارات الدالة على أن كل موجود محسوس وهي المشاهدة. ولقائل أن يقول: الأمارات تفيد الظن لا بقاءه وهي في ذلك لا تحتاج إلى ربط عقلي، بل يكفي كونها مخيلا، ولا مانع لها عن ذلك إذا وجدت الإخالة، وزواله

وجه الدلالة في المقدمتين

مع قيامها إنما هو في البقاء وليس لها دلالة على ذلك. وإنما الدال ابتداء وبقاء هو البرهان. ص- ووجه الدلالة في المقدمتين أن الصغرى خصوص والكبرى عموم، فيجب الاندراج فيلتقي موضوع الصغرى ومحمول الكبرى. وقد تحذف إحدى المقدمتين للعلم بها. ش- وجه الدلالة: هو الربط العقلي الذى نفاه في الظن وهو يلاقى موضوع الصغرى ومحمول (17/أ) الكبرى بالاندراج الحاصل من خصوص الصغرى وعموم الكبرى، وذلك لأن الحكم في الكبرى على جميع ما صدق عليه الأوسط فيتناول الأصغر وغيره والحكم في الصغرى مخصوص بالأصغر، وهو المراد بخصوص الصغرى وعموم الكبرى، فيكون الحكم في الكبرى على كل أفراد موضوعها وهو الأوسط ومن جملتها الأصغر، وهو موضوع الصغرى فيكون الحكم الثابت في الكبرى ثابتا على الأصغر بواسطة الأوسط وهو الاندراج الموجب للتلاقي إيجابا كما في، قولنا: الصلاة عبادة وكل عبادة تحتاج إلى النية، أو سلبا كقولنا: الخمر مسكر ولا شيء من المسكر بحلال، وإنما خص البيان بالشكل الأول لرجوع الباقية إليه، وقد تحذف الصغرى، كما في قولنا: الصوم يحتاج إلى النية؛ لأن كل عبادة تحتاج إليها؛ فإن قولنا: الصوم عبادة محذوف. أو الكبرى، كما إذا قلنا بدل "كل عبادة" "لأنه عبادة"، فإن قولنا: وكل عبادة محتاج إليها يكون محذوفاً حينئذ.

الضروريات

الضروريات ص- والضروريات منها: المشاهدات الباطنة، وهي مالا يفتقر إلى عقل، كالجوع والألم. ومنها: الأوليات، وهي ما يحصل بمجرد العقل، كعلمك وبوجودك، وأن النقيض يصدق أحدهما. ومنها: المحسوسات، وهي ما يحصل بالحس. ومنها: التجريبيات وهي ما يحص بالعادة كإسهال المسهل، والإسكار. ومنها: المتواترات، وهي ما يحصل بالأخبار تواترا، كبغداد ومكة. ش- لما ذكر أن مقدمات البرهان لا بد وأن تنتهي إلى الضروريات أراد أن ٍيشير إليها، وذكر الأشهر منها، لا الجميع؛ فإن الحدسيات والقضايا التي قياساتها معها منها، ولم يذكرهما. وقال: منها المشاهدات، وهي مالا تفتقر إلى عقل، أي لا يفتقر المشاهد في حصول طرفيها إلى عقل، كالجوع والألم، فإنه يحصل للمجانين والبهائم.

وأما الحكم فيها فيحتاج إلى العقل كليا كان أو جزئيا عند من يقول: الحاكم هو العقل مطلقا، لأن الحس لا حكم له ظاهرا كان أو باطنا. ومنها: الأوليات وهو ما يحصل بمجرد العقل لا يتوقف حكمه بها إلا على تصور طرفيها سواء كان تصور طرفيها جزئيا كعلمك، أي تصديقك بوجودك، أو كليا كتصديقك بأن النقيضين يصدق أحدهما لا يجتمعان ولا يرتفعان. ومنها: المحسوسات، وهي القضايا التي يستفيد الإنسان التصديق بها من الحواس الظاهرة، كقولنا: الشمس مضيئة، والنار حارة. ومنها: التجريبيات، وهي قضايا يحصل التصديق بها بالعادة، أي بتكرار المشاهدة على وجه يتأكد منها عقد قوى لا يشك فيه، وهي مع ذلك لا تخلو عن قياس خفي، وهو أن يعلم أن الوقوع المتكرر على نهج واحد لا يكون اتفاقيا، كحكمنا بإسهال المسهل، وإسكار المسكر. ومنها: المتواترات، وهي قضايا يحصل الحكم فيها بالأخبار تواترا كحكمنا بوجود مكة، وبغداد فإن الأخبار المتواترة بكثرة الشهادة تسكن النفس (17/ب) سكونا تاما يزول معه الشك بحيث يحيل التواطاء على الكذب.

صورة البرهان

صورة البرهان ص- وصورة البرهان افتراضي واستثنائي. فالاقتراني: مالا يذكر اللازم ولا نقيضه فيه بالفعل. والاستثنائي: نقيضه. ش- لما فرغ من بيان مادة البرهان شرع في بيان صورته، وهي القول المؤلف من قضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر. ٍ ويسميه المنطقيون قياسا. وقد دمر فائدة قيوده في بحث الدليل، خلا قوله: متى سلمت. قيل: وإنما قيد بذلك ليتناول القياس الذى تكون مقدماته صادقة وكاذبة، كما إذا قيل: كل إنسان حجر، وكل حجر حمار، فإن المقدمتين وأن لم تكونا مسلمتين في أنفسهما، لكن لو سلمنا لزم النتيجة وأرى أن تركه أولى؛ لأنه غير مفيد. وهو ينقسم إلى اقترانيواستثنائي؛ لأنه إما أن تكون النتيجة أو نقيضها مذكورا فيه بالفعل أولا، والثاني هو الاقتراني كالأمثلة المتقدمة، والأول هو

القياس الاقتراني

الاستثنائي، كقولنا: لو كان الوضوء عبادة لم يصح بدون، النية، لكنه عبادة فيلزم أن لا يصح بدونها، وهو مذكور فيه بالفعل، وكقولنا: لو كان الوضوء عبادة لوجب بالنذر، لكنه لا يجب به فلا يكون عبادة، ونقيضه مذكور بالفعل، وهذا لأن إنتاج الاستثنائي إما باستثناء عين المقدم، أو نقيض التالي، وفي الأول يكون اللازم مذكورا فيه بالفعل، وفي الثاني نقيضه. ص- فالأول بغير شرط، ولا تقسيم. ويسمي المبدأ فيه: موضوعا، والخبر محمولا، وهي الحدود فالوسط الحد المتكرر. وموضوعه الأصغر، ومحمولة الاكبر، وذات الأصغر، الصغرى وذات الأكبر الكبرى. ش- يريد بالأول القياس الاقتراني، ومعنى بغير شرط ولا تقسيم: أن لا يكون مشتملا على شرط، فيكون متصلة، ولا تقسيم فيكون منفصلة، أي القياس الاقتراني لا يكون فيه متصلة ولا منفصلة. واعترض عليه: بأنه يشكل بالقياسات الاقترانية الشرطية، وهي المركبة من الحملية والشرطية. وأجيب: بأنها لما كانت قليلة الاحتياج إليها لم يعتبرها المصنف.

النقيضان

ولقائل أن يقول: كلامه مشتمل على تكرار؛ لأنه لو قال: الاقترانيما ليس فيه شرط ولا تقسيم. والاستثنائي بخلافه، كان مغنيا عن قوله: "فالاقتراني ما لا يذكر اللازم إلى آخره قوله: "ويسمي المبتدأ" بيان لاصطلاح أهل المنطق في حدود القياس فإن كل قياس لابد له من قضيتين تشتمل كل منهما على محكوم عليه ومحكوم به، وهم. يسمون الأول: موضوعا والثاني: محمولا ويسمونها في المقدمتين حدودا، فالحد المتكرر هو الوسط، وموضوع النتيجة يسمي: الأصغر، ومحمولها يسمي: الاكبر، والتي فيها الأصغر تسمى الصغرى، والتي فيها الأكبر تسمى الكبرى. ص- ولما كان الدليل قد يقوم على إبطال النقيض، والمطلوب نقيضه، وقد يقوم على الشيء، والمطلوب عكسه، احتيج إلى تعريفهما. فالنقيضان: كل قضيتين إذا صدقت أحدهما كذبت الأخرى وبالعكس. ش- هذا بيان الاحتياج إلى تعريف النقيض والعكس، أي بيانهما. مثال الأول: قياس الخلف، فإن الدليل (18/أ) يقوم على إبطال نقيض النتيجة، والمطلوب هي.

ومثال الثاني: ما يقع في الاشكال المغايرة للشكل الأول، فإنها عند ردها إليه قد يقوم الدليل على إثبات شيء، والمطلوب عكسه، كما سيجاء مفصلا. فالنقيضان: كل قضيتين إذا صدقت احدهما كذبت الأخرى وبالعكس إذا كذبت أحدهما صدقت الأخرى. قيل: واحترز بالقيد الاخير عن سائر المتقابلين؛ فإنه صدق أحدهما كذب الآخر؛ لجواز أن يكون خلو المحل عنهما، وفيه نظر لأن من المتقابلين المتضايفين ولا يصح ثمة أن يقال: إذا كذب أحدهما صدق الآخر؛ لجواز خلو المحل عنهما فإخراجه غير جائز. واعتراض - أيضا- بأن على هذا التعريف يلزم أن تكون القضية مع لازم نقيضها المساوي متناقضين؛ فإنه إذا صدقت احدهما كذبت الأخرى وبالعكس، كقولنا: هذا إنسان، هذا ليس بناطق. والأولى أن يقال: النقيضان كل قضيتين يستلزم صدق إحداهما لذاته كذب الأخرى وبالعكس. فحينئذ تخرج القضية مع لازم نقيضها المساوي. ص- فإن كانت شخصية فشرطها ألا يكون بينهما اختلاف في المعنى إلا النفي والاثبات، فيتحد الجزءان بالذات والإضافة، والجزء والكل، والقوة والفعل، والزمان والمكان، في الكم؛ والقوة والفعل، والشرط. وإلا لزم اختلاف الموضوع في الكم؛ لأنه إن (اتحدا)

شرائط النقيصين

جاز أن يكذبا في الكلية، مثل: كل إنسان كاتب؛ لأن الحكم بعرضي خاص بنوع، ويصدقا في الجزئية؛ لأنه غير متعين، فنقيض الكلية المثبتة جزئية سالبة، ونقيض الجزئية المشتتة كلية سالبة. ش- قد عرفت أن القضية شخصية ومحصورة على ما اعتبره المصنف فإن كانت شخصية فشرط كونها نقيضا لشخصية أخرى عدم اختلاف في المعنى سوى النفي والإثبات، وإنما قيد عدم الاختلاف بقوله: "في المعنى "لئلا يرد الاختلاف اللفظي' نحو: هذا إنسان، هذا ليس بشر، فإنه معتبر فيتحد الجزءان بالذات، وبالإضافة والجزء، والكل، والقوة والفعل، والزمان، المكان. والمراد بالجزأين: الموضوع والمحمول، وبالذات، المعنى، كقول: زيد كاتب: زيد ليس بكاتب، زيد أب لعمرو، زيد ليس أب لعمرو، الزنجي أسود كله، الزنجي ليس بأسود كله، الزنجي أسود بعضه، الزنجي ليس بأسود بعضه، الخمر مسكرة بالقوة، الخمر ليست بمسكرة بالقوة. وكذا بالفعل: زيد قائم الآن، زيد ليس بقائم الآن، زيد جالس في الدار، زيد ليس بجالس في الدار، الجسم مفرق للبصر بشرط كونه أبيض، الجسم ليس بمفرق للبصر بشرط كونه أسود. وإنما اشترط في تناقض الشخصيتين اتحادهما في هذه الأمور؛ لأنه لو اختلفا في شيء منها لم يتحقق التناقض بينهما. وأما اشترط في تناقض الشخصيتين اتحادهما في هذه الأمور؛ لأنه لو اختلفا في شيء منها لم يحقق التناقض بينهما. وأما إذا لم تكن القضية شخصية بل تكون محصورة، فإنه يلزم مع الشرائط المذكورة في الشخصية، اختلاف الموضوع في القضيتين (18/ب) بالكم، أي بالكلية والجزئية.

العكس المستوي

لأنه إن اتحد الموضوع فيهما بالكم جاز أن يكذبا في الكلية مثل يقال: كل إنسان كاتب، لا شيء من الإنسان بكاتب وأن يصدقا في الجزئية، كقولنا: بعض الإنسان كاتب، بعض الإنسان ليس بكاتب. واستدل المصنف للأول بقوله: "لأن الحكم بعرضي خاص بنوع" ومعناه أن الحكم بالكاتب على الإنسان حكم بعرضي خاص غير شامل لجميع أفراده، وكل ما كان كذلك لا يصدق السلب على كل أفراده نظرا إلى اختصاصه به، ولا إثباته لكلها لعدم شموله لجميع الأفراد ومن هذا يعلم أن ترك قوله "غير شامل" مخل. واستدل للثاني بقوله: "لأنه غير متعين" أي الموضوع في الجزئية غير متعين، فيجوز صدقهما معا. وإذا تبين أن اختلاف الموضوع بالكم شرط في تناقض المحصورتين فنقيض الكلية الموجبة جزئية سالبة، كقولنا: كل إنسان حيوان يناقضه بعض الإنسان ليس بحيوان، ونقيض الجزئية الموجبة سالبة كلية، كقولنا: بعض الحيوان إنسان، نقيضه لا شيء من الحيوان بإنسان. وإذا كانت السالبة الجزئية نقيضا للموجبة الكلية والسالبة الكلية نقيضا للموجبة الجزئية، تكون الموجبة الكلية نقيضا للسالبة الجزئية، والموجبة الجزئية نقيضا للسالبة الكلية، لأن التناقض إنما يتحقق من الجانبين. ص- وعكس كل قضية. تحويل مفرديها على وجه يصدق. فعكس الكلية الموجبة جزئية موجبة، وعكس الكلية السالبة مثلها، وعكس الجزئية الموجبة مقلها، ولا عكس للجزئية السالبة. ش- لما فرغ من بيان التناقض، شرع في بيان العكس، وبدأ بالعكس المستوي، وعرفه بأن عكس كل قضية تحويل مفرديها على وجه يصدق. يريد نقل

كل من طرفي القضية إلى موضوع الآخر على وجه يصدق على تقدير الأصل، يعني لا في نفس الأمر؛ إذ قد يكذب هو وأصله، كما إذا قيل: كل إنسان فرس، عكسه بعض الفرس إنسان وهما كاذبان لو صدق الأصل صدق العكس. وفي كلامه نظر لفظا ومعنى، أما الأول: فلأن التحويل في المصدر حقيقة وفي القضية المحولة مجاز، فأن أراد أحدهما لم يتم؛ لأنه يطلق على الآخر - أيضا- وفيه إلباس- أيضا- وإرادة المجاز من غير قرينة في التعريف، وأن أرادهما فهو ملبس -أيضا- لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، ومن الناس من لا يجوزه، فلا يعلم أيها أراد. ٍ والدفع بأن مذهب غيره لا يلزمه غير صحيح؛ لأن مذهبه إذ ذاك لا ينفك عن إرادة المجاز من غير قرينة، وهو غير جائز عند أحد لا سيما في التعريفات. وأما الثاني: فلما قيل: أن كلامه يستلزم أن يكون قولنا: بعض الإنسان حيوان عكس (19/أ) لقولنا: بعض الحيوان ليس بإنسان؛ فإنه يصدق عليه تحويل مفرديها على وجه يصدق، وليس كذلك بالاتفاق؛ فإن يصدق عليه تحويل مفرديها على وجه يصدق، وليس كذلك بالاتفاق؛ فأن عكس السالبة لا يكون موجبة، ولا عكس الموجبة سالبة. والدفع: بحمل مراده من قوله: "على وجه يصدق" على وجه متى صدق الاصل العكس؛ لأن بقاء الصدق بهذا المعنى شرط في العكس؛ لأنه لازم للأصل، وصدق اللازم شرط في صدق الملزوم غير صحيح لأنه يكون قد أخر الأصل

والعكس في تعريف العكس، وهو باطل قطعا على أنه يجب أن يعتبر بقاء الكيف - أيضا-؛ لأن الجمهور اتفقوا على ذلك وليس في كلامه ما يدل عليه. وإذا عرف ما ذكر فعكس الموجبة الكلية جزئية موجبة بالخلف، فإنه إذا صدق كل ج ب وجب أن يصدق بعض ب ج، وإلا لصدق نقيضه وهو: لا شيء من ب ج فيجعل كبرى الاصل هكذا كل ب ج ولا شيء من ب ج ينتج لا شيء من ج ج. هذا خلف. وهي لا تنعكس لجواز أن يكون المحمول أعم من الموضوع فلا يصدق العكسي كليا، مثل: كل إنسان حيوان فإنه لا يصدق كل حيوان إنسان. وعكس الكلية السالبة مثلها بالخلف؛ فأنه إذا صدق لا شيء من ج ب وجب أن يصدق لا شيء من ب ج، ينتج: ليس ب ب، هذا خلف. وعكس الجزئية الموجبة مثلها بالبيان الذى ذكرنا في الموجبة الكلية ولا عكس للجزئية السالبة؛ لصدق قولنا: ليس بعض الحيوان إنسانا، ولا يصدق في عكسه ليس بعض الإنسان حيوانا. وفي كلامه نظر؛ لأن السالبة الجزئية إنما لم تنعكس إذا كانت غير الخاصيتين وأما الخاصيتان فإنهما تنعكسان عرفية خاصة على ما ذكروا في موضعه. وأما الشرطيات فالمنفصلة منها لا تنعكس؛ لأن مقدمها لا يتميز عن تاليها بالطبع،

عكس النقيض

وأما المتصلة فعكسها على قياس عكس الحمليات وبيانها كبيانها. ص- وإذا عكست الموجبة الكلية بنقيض مفرديها صدقت، ومن ثم انعكست السالبة سالبة جزئية. ش- لما ذكر العكس المستوى أشار إلى عكس النقيض، وهو جعل نقيض كل من طرفي القضية طرفا آخر مع بقاء الكيف والصدق كما إذا جعلت نقيض الموضوع محمولا، ونقيض المحمول ليس بإنسان؛ لأن محمول الأصل لازم لموضوعه، وانتقاء اللازم ملزوم لانتفاء الملزوم، وإنما قيد الموجبة الكلية؛ لأن الجزئية لا تنعكس بعكس النقيض، فإن قولنا: بعض الحيوان هو لا إنسان، لا ينعكس إلى قولنا: بعض الإنسان لا حيوان؛ لأن محمول الأصل ليس بلازم لموضوعه، فلا يلزم من انتقائه انتفاؤه، ومن ثم أي من أجل أن الموجبة الكلية تنعكس عكس النقيض إلى (19/ب) الموجبة الكلية انعكست السالبة كلية كانت أو جزئية، بعكس النقيض إلى السالبة الجزئية؛ لأن بيانها موقوف على ذلك، فإنا إذا قلنا: بعض ج ليس ب، وجب أن يصدق ليس بعض ما ليس ب ليس ج، وإلا لصدق نقيضه، وهو قولنا: كل ما ليس ب ليس ج، وهو ينعكس عكس النقيض إلى قولنا كل ج ب، وقد كان الأصل: بعض ج ليس ب. هذا خلف. وإذا انعكست السالبة الجزئية إلى السالبة الجزئية انعكست السالبة الكلية إليها؛ لأن السالبة الجزئية أعم من السالبة الكلية ولازم العام لازم للخاص.

ولا تنعكس السالبة الكلية؛ لأنه يصدق قولنا: لا شيء من الإنسان بلا حيوان، ولا يصدق في عكس نقيضه: لا شيء من الحيوان بلا إنسان؛ ضرورة صدق قولنا: بعض الحيوان لا إنسان. ******

تقسيم المقدمتين إلى أربعة أشكال

تقسيم المقدمتين إلى أربعة أشكال ص- وللمقدمتين باعتبار الوسط أربعة أشكال: فالأول: محمول لموضوع النتيجة، موضوع لمحمولها. والثاني: محمول لهما. والثالث: موضوع لهما. والرابع: عكس الأول. ش- أي لمقدمتي القياس باعتبار وضع الوسط أربعة أشكال والشكل هو الهيئة الحاصلة بسبب وضع الحد الأوسط عند الحدين، أعنى الأصغر والأكبر، وذلك لأن الحد الوسط إذا كان محمولا لموضوع النتيجة موضوعا لمحمولها يسمي الشكل الأول. وإذا كان الوسط محمولا لهما، أي لموضوع النتيجة ولمحمولها يسمي الشكل الثاني، وإذا كان وإذا كان الوسط موضوعا لهما؛ أي لموضوع النتيجة ولمحمولها يسمي الشكل الثالث، وإذا كان الوسط موضوعا لموضوعا لموضوع النتيجة محمولا لمحمولها يسمي الشكل الرابع. وهو معنى قوله: "والرابع عكس الأول"، وهي قسمة عقلية لا تزيد ولا

الشكل الأول

تنقص، فإن الوسط إما أن يكون موضوعا فيهما؛ أي في الصغرى والكبرى، أو محمولا فيهما، أو موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى، أو بالعكس ثم أن كل شكل منها له ضروب أشار إليها بقوله: "فإذا ركب كل شكل باعتبار الكلية والجزئية، والموجبة والسالبة كانت مقدراته ستة عشر ضربا". والضرب هو: اقتران الصغرى بالكبرى ويسمي قرينة -أيضا- ووجه الحصر فيما ذكر أن الصغرى يمكن أن تكون إحدى المحصورات الأربع المذكورة، والكبرى كذلك، وضرب الأربعة في مثلها يحصل به ستة عشر لا محالة. ص- الأول أبينها، ولذلك يتوقف غيره على رجوعه إليه وينتج المطالب الأربعة، وشرط إنتاجه إيجاب الصغرى أو في حكمه ليتوافق الوسط، وكلية الكبرى، ليندرج فينتج فتبقى أربعة: موجبة كلية أو جزئية، وكلية موجبة أو سالبة. الأول: كل وضوء عبادة وكل عبادة بنية. الثاني: كل وضوء وكل عبادة لا تصح بدون النية. الثالث: بعض الوضوء عبادة وكل (20/أ) عبادة بنية. الرابع: بعض الوضوء عبادة وكل عبادة لا تصح بدون النية. ش- أي الشكل الأول أبين الأشكال؛ لأنه بديهي الإنتاج بخلاف غيره، وكذلك يتوقف غيره، والاشكال على رجوعه إليه كما سيأتي، وهو أشرفها -أيضا- كذلك، و (لأنه) ينتج المطالب الأربعة؛ أي المحصورات وشرط في الانتاج

بحسب الكيف إيجاب الصغرى أو ما هو في حكمه ليتوافق الوسط مع الأصغر فيتعدى الحكم على الأوسط إلى الأصغر الذى يوافقه؛ فإن الصغرى إذا كانت سالبة لم يتوافق الأوسط مع الأصغر بل يباينه فلا يتعدى الحكم على الأوسط إلى الأصغر، لأن الحكم على الشيء لا يستدعى الحكم على مباينه. وبحسب الكم كلية الكبرى ليندرج تحته؛ فإنها لو كانت جزئية جاز أن يكون البعض المحكوم عليه في الكبرى غير المحكوم به في الصغرى، فلم يتعد الحكم من الأوسط إلى الأصغر، وعند اشتراط هذين الشرطين تسقط كل واحدة من السالبتين مع أربع، وكل واحدة من الموجبتين مع الجزئيتين، وهي اثنا عشر ضربا بقى الضروب المنتجة أربعة على ما ذكر، وقدم الموجبة على الكلية والجزئية لكونها في الصغرى التي شرطها الايجاب فكان تقديم الايجاب أهم. وقدم الكلية على الموجبة والسالبة لكونها في الكبرى التي شرطها الكلية. مثال الضرب الأول وهو: ما كان من موجبتين كليتين وينتج موجبة كلية، كل وضوء

الشكل الثاني

عبادة، وكل عبادة تصح بنية. والثاني: من كليتين والكبرى سالبة، كل وضوء عبادة، وكل عبادة لا تصح بدون النية. ينتج سالبة كلية، كل وضوء لا يصح بدون النية. الثالث: من موجبتين، والصغرى جزئية، بعض الوضوء عبادة، وكل عبادة تصح بنية ينتج بعض الضوء يصح بنية. الرابع: من صغرى موجبة جزئية، وكبرى كلية سالبة، ينتج سالبة جزئية، بعض الوضوء عبادة، وكل عبادة لا تصح بدون النية، ينتج بعض الوضوء لا يصح بدون النية. ص- الشكل الثاني، شرطه اختلاف مقدمتيه في السلب والايجاب وكلية كبراه تبقى أربعة ولا ينتج إلا سالبة. أما الأول، فلوجوب عكس إحداهما، وجعلها الكبرى فموجبتان باطل وسالبتان لا يتلاقيان. وأما كلية الكبرى؛ فلأنها إن كانت التي تنعكس فواضح؛ وأن انعكست الصغرى فلابد أن تكون سالبة لتتلاقيان. ويجب عكس النتيجة ولاتنعكس؛ لأنها تكون جزئية سالبة. ش- الشكل الثاني شرط إنتاجه كيفا اختلاف مقدميته بالسلب والايجاب، وسقط بهذا الشرط كل واحد من الكلية الموجبة الكبرى مع الموجبتين، والكلية السالبة الكبرى مع السالبتين.

وشرطه كمًا كلية كبراه سقط بهذا [20/ب] كل واحدة من الجزئيتين كبرى مع الأربع فذلك اثنا عشر ضربا، بقى الضروب المنتجة أربعة: الكلية الموجبة مع السالبتين، والكلية السالبة مع الموجبتين أما اشتراط الشرط الأول؛ فلأن إنتاج هذا الشكل إنما يتبين بالرد إلى الشكل الأول: بعكس الكبرى عكس استقامة كما في الضرب الأول، أو عكس النقيض كما في الضرب الرابع، أو بعكس الصغرى وجعلها كبرى ثم عكس النتيجة كما في الضرب الثاني. فإن اتفقت المقدمتان إيجابا، وعكست الكبرى حتى ارتد إلى الشكل الأول، صارت الكبرى في الأول جزئية؛ لأن الموجبة لا تنعكس إلا جزئية، وأن عكست الصغرى وجعلتها كبرى لترتد إلى الأول فكذلك ويلزم بطلان القياس، وإليه أشار بقوله: "فموجبتان باطل" وأن اتفقتا سلبا وعكست الكبرى أو الصغرى، وجعلتها كبرى تصير الصغرى في الشكل الأول سالبة، فلا يتلاقى الأصغر والأكبر في النتيجة لا بالإيجاب ولا بالسلب، وإليه أشار بقوله: "والسالبتان لا يتلاقيا "وأما اشترط الشرط الثاني؛ فلأن الكبرى أن كانت هي التي تنعكس فواضح لأنها لو كانت جزئية لم يكن عكسها كليا فلا تصلح أن تكون كبرى في الأول وأن عكست الصغرى فلا بد وأن تكون سالبة كلية، لتنعكس سالبة كلية وتجعل الكبرى فيتلاقى الصغرى والكبرى في الأول؛ لأنها لو كانت موجبة لم تنعكس كليا ولو كانت سالبة جزئية لم تنعكس أصلا. وإذا كانت الصغرى سالبة فلا بد وأن تكون الكبرى موجبة كلية، وإلا لكانت النتيجة سالبة جزئية، ويجب عكس النتيجة عند عكس الصغرى. والسالبة الجزئية لا تنعكس. ص- الأول كليتان، سالبة. الغائب مجهول الصفة، وما يصح بيعه

الضروب المنتجة

ليس بمجهول الصفة ويتبين بعكس الكبرى. الثاني: كليتان والكبرى موجبة. الغائب ليس [بمعلوم] الصفة، وكل ما يصح بيعه معلوم الصفة، ولازمة كالأول. ويتبين بعكس الصغرى وجعلها كبرى وعكس النتيجة. الثالث: جزئية موجبة وكلية سالبة. بعض الغائب مجهول، وما يصح بيعه ليس بمجهول ولازمه بعض الغائب لا يصح بيعه، ويتبين بعكس الكبرى. الثاني: كليتان والكبرى موجبة. الغائب ليس [بمعلوم] الصفة، وكل ما يصح بيعه معلوم الصفة، ولازمه كالأول. ويتبين بعكس الصغرى وجعلها كبرى وعكس النتيجة. الثالث: جزئية موجبة وكلية سالبة. بعض الغائب مجهول، وما يصح بيعه ليس بمجهول ولازمة: جزئية سالبة وكلية موجبة بعض الغائب ليس بمعلوم، وما يصح بيعه معلوم، ويتبين بعكس الكبرى بنقيض مفرديها. ش- لما ذكر الشروط بين الضروب المنتجة. الضرب الأول: من كليتين، والكبرى سالبة تنتج سالبة كلية. مثاله: كل غائب مجهول الصفة، وكل ما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة. ينتج كل غائب لا يصح بيعه. بيانه: بعكس الكبرى ليرتد إلى الأول، ولا يمكن بيانه بعكس الصغرى وإلا لصار الكبرى جزئية والصغرى [21 /أ] سالبة في الأول. الضرب الثاني: من كليتين والكبرى موجبةـ أيضاـ سالبة كلية. مثاله: كل غائب ليس بمعلوم الصفة، وكل ما يصح بيعه فهو معلوم الصفة. ينتج: كل غائب لا يصح بيعه. بيانه بعكس الصغرى وجعلها الكبرى ثم عكس النتيجة، ولا يمكن بيانه بعكس الكبرى؛ لأن الكبرى موجبة، لا تنعكس إلا جزئية ولا تصلح كبرى في الأول.

الضرب الثالث: من موجبة جزئية صغرى، وكلية سالبة كبرى. ينتج: سالبة جزئية. مثاله: بعض الغائب مجهول الصفة، وكل ما يصح: بيعه ليس بمجهول الصفة فبعض الغائب لا يصح بيعه. بيانه: بعكس الكبرى لا بعكس الصغرى، وإلا لصار الكبرى جزئية، والصغرى سالبة في الأول. الضرب الرابع: من سالبة جزئية صغرى وكلية موجبة كبرى، ينتج سالبة جزئية. مثاله: بعض الغائب ليس بمعلوم الصفة، وكل ما يصح بيعه معلوم الصفة فبعض الغائب لا يصح بيعه، ولايمكن بيانه بعكس الكبرى، وإلا لصارت الكبرى جزئية في الأول. ولا بعكس الصغرى؛ لأن السالبة الجزئية لا تنعكس وعلى تقدير انعكاسه تصير البرى جزئية، وقد تبين المصنف بعكس نقيض الكبرى. ص- ويتبين -أيضا- فيه وفيه جميع ضروبه بالخلف، فيأخذ نقيض النتيجة، وهو: كل الغائب يصح بيعه، ويجعل الصغرى فينتج نقيض الصغرى الصادقة. ولا خلل إلا من نقيض المطلوب، فالمطلوب صدق. ش- ويتبين -أيضا- الإنتاج في هذا الضرب، وفي جميع ضروب الشكل الثاني بالخلف. وطريق الخلف في هذا الشكل هو: أن نجعل نقيض النتيجة لإيجابه صغرى وكبرى القياس -لكليتها- كبرى لينتج من الشكل الأول ما يناقض الصغرى. نقول في الضرب الأول مثلا: كل غائب مجهول الصفة، وما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة، ينتج: كل غائب لا يصح بيعه فنجعل نقيض النتيجة وهو: "بعض ما هو غائب يصح بيعه" صغرى، ونجعل كبرى القياس كبرى فنقول: بعض ماهو غائب

الشكل الثالث

يصح بيعه، وما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة فبعض ما هو غائب ليس بمجهول الصفة، وقد كانت الصغرى: كل غائب مجهول الصفة، هذا خلف، ولا بد في قياس الخلف المستلزم له من خلل، ولا خلل في صورته؛ لأنها على الشكل الأول الحق المبين. ولا خلل -أيضا- في كبرى القياس الصادقة. فيلزم الخلل من نقيض المطلوب، فيلزم صدق المطلوب. ص- الشكل الثالث: شرطه إيجاب الصغرى أو في حكمه، وكلية إحداهما، يبقى سته، ولا يتنج إلا جزئية. أما الأول؛ فلأنه لابد من عكس أحداهما وجعلها الصغرى، فإن قدرت الصغرى سالبة وعكستها لم يتلاقيا، وأن كان العكس في الكبرى، وهي سالبة [21/ب] لم يتلاقيا مطلقا وإن كانت موجبة فلا بد من عكس النتيجة ولا تنعكس. وأما كلية احدهما، فلتكون هي الكبرى آخرا بنفسها أو بعكسها وأما إنتاجه جزئية؛ فلأن الصغرى عكس موجبة ابدا أو في حكمها. الأول كلتاهما كلية موجبة. كل بر مقتات، وكل بر ربوي، فينتج: بعض المقتات ربوي، فينتج: بعض المقتات ربوي، ويتبين بعكس الصغرى. الثاني: جزئية, موجبة، وكلية موجبة. بعض البر مقتات، وكل بر ربوي، فينتج ويتبين كالأول. الثالث: كلية موجبة، جزئية, موجبة كل بر مقتات، وبعض البر ربوي، فينتج مثله، ويتبين بعكس الكبرى وجعلها الصغرى وعكس النتيجة. الرابع: كلية موجبة، وكلية سالبة. كل بر مقتات، وكل بر لا يباع بجنسه متفاضلا فينتج: بعص المتقتات لا يباع، ويتبين بعكس الصغرى. الخامس: جزئية موجبة، وكلية سالبة. بعض البر مقتات وكل بر لا يباع بجنسه

متفاضلاً، فينتج ويتبين مثله. السادس: كلية موجبة. وجزئية سالبة. كل بر مقتات، وبعض البر لا يباع [بجنسه] فينتج مثله، ويتبين بعكس الكبرى على حكم الموجبة وجعلها الصغرى، وعكس النتيجة. ويتبين مع جميعه بالخلف -أيضا- فتأخذ نقيض النتيجة كما تقدم إلا أنك تجعله الكبرى. ش- شرط إنتاج الشكل الثالث كما وكيفا أمرأن. كون الصغرى موجبة أو في حكمها ومع السالبة المركبة. وكلية إحدى المقدمتين. يبقى الضروب المنتجة بمقتضى الشرطين ستة. الصغرى الموجبة الكلية مع المحصورات الأربع. والموجبة الجزئية مع الكليتين، وهذا الشكل لا ينتج إلا جزئية. أما الشرط الأول؛ فلأن هذا الشكل إنما يتبين إنتاجه بالرد إلى الشكل الأول، أو بعكس الأول، إما بعكس الكبرى وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة، أو بعكس الصغرى وجعلها صغرى. فإن كان الثاني والصغرى سالبة لم يتلاقيا في الشكل الأول ضرورة امتناع سلب الصغرى فيه. وإن كان الأول والكبرى سالبة لم يتلاقيا مطلقا، أي لا في الشكل الأول ولا في الرابع بخلاف الأول، فإنه يمكن أن يتلاقيا في الشكل الرابع، ولهذا لم يقيد قوله:

"لم يتلاقيا" ثمة مطلقا وأن كانت الكبرى موجبة وهي لا تنعكس إلا جزئية، فإذا جعلتها صغرى والصغرى السالبة كبرى، ينتج سالبة جزئية، ويجب عكس النتيجة، والسلبة الجزئية لا تنعكس. وأما الشرط الثاني: فلتكون إحدى المقدمتين هي الكبرى أخرا، أي بعد الرد. وتلك المقدمة التي هي الكبرى بعد الرد، إما الكبرى بنفسها وذلك إذا عكست الصغرى، وأما الصغرى وذلك إذا عكست الكبرى وجعلته صغرى. وأما بيان أنه لا ينتج إلا جزئية؛ فلأن الصغرى في الأول عند الرد تكون عكس موجبة أبدا أو في حكمها؛ لأنك أن عكست [22/أ] الصغرى فهو ظاهر؛ لأن شرطها الايجاب وأن عكست الكبرى فلابد وأن تكون موجبة لتجعلها صغرى في الأول. وعكس الموجبة جزئية فالنتيجة لا تكون إلا جزئية. فالضرب الأول من موجبتين كليتين ينتج موجبة جزئية. كل بر مقتات وكل بر ربوي, ينتج: بعض المقتات ربوي. بعكس الصغرى ليرتد إلى الأول. الثاني: من موجبتين، والكبرى كلية ينتج - أيضا- موجبة جزئية بعض البر مقتات، وكل بر ربوي فبعض المقتات ربوي. بذلك البيان. الضرب الثالث: من موجبتين، والصغرى كلية ينتج مثله، كل بر مقتات وبعض البر ربوي، فبعض المقتات ربوي. بعكس الكبرى وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة. الضرب الرابع: من كليتين، والكبرى سالبة، ينتج: سالبة جزئية. كل بر مقتات وكل بر لا يباع بجنسه متفاضلا، ينتج: بعض المقتات لا يباع بجنسه متفاضلا، بعكس الصغرى. الخامس: من صغرى موجبة جزئية، وكبرى سالبة كلية، ينتج: سالبة بعض البر

مقتات، وكل بر لا يباع بجنسه متاضلا، فبعض المقتات لا يباع بجنسه متفاضلا، بعكس الصغرى. السادس: من موجبة كلية صغرى، وسالبة جزئية كبرى، ينتج: مثل ذلك كل بر مقتات، وبعض البر لا يباع بجنسه متفاضلا، فبعض البر لا يباع بجنسه متفاضلا، ولا يمكن بيانه بعكس الصغرى؛ لأن الأول لا يركب من جزئيتين ولا بعكس الكبرى؛ لأنها لا تنعكس، ولو قدر انعكاسها كان سلبا لا يصلح في الأول للصغرى، إلا أن تكون الكبرى السالبة في حكم الموجبة؛ أعنى أن تكون مستلزمة للموجبة السالبة المحمول، فإنه حينئذ يمكن بيانه بعكس الكبرى وجعلها صغرى، ثم عكس النتيجة وعلى هذا إذا جعلنا الكبرى وهو قولنا: بعض البر لا يباع بجنسه متفاضلا سالبة المحمول بعض البر هو لا يباع بجنسه متفاضلا ينعكس إلى قولنا: بعض ما هو يباع بجنسه متفاضلا برا فنجعله صغرى للكبرى: بعض ما هو لا يباع بجنسه متفاضلا، وكل بر مقتات، ينتج: بعض مالا يباع بجنسه مقتات، وينعكس إلى: بعض المقتات، لا يباع بجنسه متفاضلا. ويتبين هذا الضرب مع بقية الضروب بالخلف. وطريقة في هذا الشكل: أن يجعل نقيض النتيجة الكلية كبرى، وصغرى القياس لإيجابها صغرى، لينتج من الأول ما يناقض الكبرى. مثال في الضرب الخامس: وهو بعض البر مقتات، وكل بر لا يباع بجنسه متفاضلا، فبعض المقتات لا يباع. نقول: بعض البر مقتات، وكل مقتات يباع بجنسه متفاضلا، وقد كانت الكبرى: كل بر لا يباع بجنسه متفاضلا. هذا خلف. ولا الخلل في صورة القياس لكونه على الشكل الأول، ولا في صغراه الصادقة فكان الخلل من نقيض المطلوب ويلزم صدق المطلوب. ص- الشكل الرابع وليس تقديما تأخيرا [22/ب] لأول لأن هذا نتيجته عكسه.

الشكل الرابع

والجزئية السالبة ساقطة؛ لأنها لا تنعكس. وإن بقيتا وقلبتا، فإن كانت الصغرى موجبة كلية فالكبرى على الثلاث. وأن كانت سالبة [كلية] فالكبرى موجبة كلية؛ لأنها أن كانت جزئية وبقيت وجب جعلها الصغرى وعكس النتيجة. وإن عكست وبقيت لم تصلح للكبرى وإن كانت سالبة كلية لم تتلاقيا بوجه. فإن كانت موجبة جزئية فالكبرى سالبة كلية؛ لأنها أن كانت موجبة كلية، وفعلت الأول لم تصلح للكبرى، وأن فعلت الثاني صارت الكبرى جزئية. وأن كانت موجبة جزئية فأبعد. فينتج منه خمسة. ش- قد توهم بعض الناس أن الشكل الرابع هو الأول لا فرق بينهما سوى التقدم والتأخير، فأن ما قدم في الأول أخر في الرابع، وبالعكس وقد أزال المصنف هذا نتيجة عكسه، أي الشكل الرابع نتيجته عكس نتيجة الشكل الأول، وقال السالبة الجزئية ساقطة في هذا الشكل، لأن بيانه إما بعكس كل واحدة من المقدمتين ووضع العكس مقام الأصل ليرتد إلى الشكل الأول، أو بعكس الكبرى فقط ليرتد إلى الثالث. أو بعكس الصغرى ليرتد إلى الثاني، وإما بالقلب بأن تجعل الصغرى كبرى، والكبرى صغرى ليرتد إلى الأول، ثم تعكس النتيجة فلو كانت احدى المقدمتان بعده؛ ضرورة صيرورة الصغرى سالبة جزئية في الأول، وإن كانت صغرى قبله لم تصلح الكبرى بعده فيه بجزئيتها فسقط بمقتضى هذا الشرط سبعة أضرب. فإذا كانت الصغرى موجبة كلية ينتج مع الكبريات الثلاث.

وإن كانت سالبة كلية لا ينتج الا مع الكبرى الموجبة الكلية؛ لأن الكبرى إذا كانت جزئية وبقيت، أي لم تعكس، وجب جعلها صغرى، ثم عكس النتيجة والنتيجة سالبة جزئية؛ إذا كان القياس من موجبة جزئية. وسالبة كلية. والسالبة الجزئية لا تنعكس. وإن عكست الكبرى الجزئية وبعينه كبرى، فإن لم تنعكس الصغرى ارتد القياس للصغرى إلى الشكل الثالث فلم تصلح السالبة للصغرى. وإن عكست الصغرى -أيضا- ارتد إلى الأول، فلم يصلح عكس الصغرى للصغرى في الأول ولا الكبرى لأن تكون كبرى فيه؛ ضرورة صيرورة الصغرى سالبة، والكبرى جزئية في الأول. هذا على تقدير كون الصغرى سالبة كلية، والكبرى موجبة جزئية. وأما إذا كانت الكبرى سالبة كلية فلم تتلاق المقدمتان ولا عكسهما اصلا فسقطت الصغرى السالبة الكلية مع الكبريتات [23/أ] الثلاث الغير الموجبة الكلية. وإن كانت الصغرى موجبة جزئية، فلا تنتج إلا مع الكبرى السالبة الكلية لأن الكبرى السالبة الكلية لأن الكبرى أن كانت موجبة كلية، وفعلت الأول؛ أي القلب، بأن جعلت الكبرى صغرى، والصغرى كبرى، لم تصلح الجزئية للكبرى في الأول. وأن فعلت الثاني؛ أي العكس، صارت الكبرى جزئية في الأول، أن عكست المقدمتين؛ لأن الصغرى جزئية، والكبرى موجبة كلية؛ وهي لا تنعكس إلا جزئية. وأن عكست الكبرى فقط، صار القياس عن جزئيتين في الثالث؛ لأنه بعكس الكبرى وحدها يرتد إلى الثالث. وأن عكست الصغرى وحدها، فقد ارتد إلى الثاني، فيصير القياس عن موجبتين في الثاني. وكان المصنف لم يعتبر الرد إلى الثاني والثالث حيث اقتصر على قوله: "صارت الكبرى جزئية". هذا إذا كانت الكبرى موجبة كلية. فأما إذا كانت موجبة جزئية فأبعد منه؛ إذ لا قياس عن جزئيتين في الأشكال الثلاثة.

فالصغرى الموجبة الجزئية تسقط مع الكبريات الثلاث. فتبقى الضروب المنتجة خمسة: الصغرى الموجبة الكلية مع الكبريتات الثلاث الغير السالبة الجزئية والصغرى السالبة الكلية مع الكبرى الموجبة الكلية. والصغرى الموجبة الجزئية مع الكبرى السالبة الكلية. ص- الأول: كل عبادة مفتقرة إلى النية، وكل وضوء عبادة، فينتج: بعض المفتقر وضوء. فتبين بالقلب فيهما وعكس النتيجة. الثاني: مثله، والثانية جزئية. الثالث: كل عبادة لا تستغنى، وكل وضوء عبادة، فينتج: كل مستغن ليس بوضوء. ويتبين بالقلب وعكس النتيجة. الرابع: كل مباح مستغن، وكل وضوء ليس بمباح، فينتج: بعض المستغنى ليس بوضوء. ويتبين بعكسهما. الخامس: بعض المباح مستغن، وكل وضوء ليس بمباح، وهو مثله. ش- الضرب الأول من موجبتين كليتين ينتج موجبة جزئية. مثاله: كل عبادة مفتقرة إلى النية، وكل وضوء عبادة، ينتج: بعض المفتقرة إلى النية وضوء. تجعل الصغرى كبرى، والكبرى صغرى، ليرتد إلى الشكل الأول وينتج موجبة كلية، ثم تعكس النتيجة إلى الموجبة الجزئية التي هي المطلوب ولا يمكن بيانه بعكس [المطلوب] المقدمتين، لئلا يصير القياس في الشكل الأول عن جزئيتين، ولا بعكس الصغرى؛ لئلا يصير عن موجبتين في الثاني. ولكن يمكن بيانه بعكس الكبرى، ليرتد إلى الثالث، وينتج المطلوب. ولا ينتج هذا الضرب كلية؛ لأن بيانه

إما بالقلب، ليرتد إلى الأول ثم عكس النتيجة، والموجبة الكلية لا تنعكس كلية، أو بعكس الكبرى ليرتد إلى الثالث، وهو لا ينتج إلا جزئية، وهذا الضرب أخص الضروب المنتجة للموجبة فلا ينتج شيء منها كلية. الضرب الثاني: من موجبتين، والكبرى جزئية تنتج -أيضا- موجبة جزئية [23/ب] مثاله: كل عبادة مفتقرة إلى النية وبعض الوضوء عبادة، فبعض المفتقر إلى النية وضوء. وبيانه بالقلب كما في الأول، ولا يمكن بيانه بعكس المقدمتين لصيرورة الأول عن جزئيتين. ولا بعكس الصغرى، لصيرورة الثاني عن موجبتين جزئيتين. لكن يمكن بيانه بعكس الكبرى ليرتد إلى الثالث وينتج المطلوب. الضرب الثالث من كليتين والكبرى موجبة، ينتج سالبة كلية. مثاله: كل عبادة لا تستغنى عن النية، وكل وضوء عبادة، ينتج: كل مستغن عن النية ليس بوضوء، بيانه بالقلب وعكس النتيجة. وإنما كانت النتيجة كلية؛ لأن السالبة الكلية تنعكس كنفسها. ولا يمكن بيانه بعكس المقدمتين لصيرورة الأول عن سالبة وجزئية، ولا بعكس الكبرى؛ لأن شرط الثالث إيجاب الصغرى. ويمكن بيانه بعكس الصغرى ليرتد إلى الثاني. الضرب الرابع: من كليتيين والكبرى سالبة، ينتج سالبة جزئية. مثاله: كل مباح مستغن عن النية، وكل وضوء ليس بمباح، ينتج: بعض المستغنى ليس بوضوء، وبيانه بعكس المقدمتين ليرتد إلى الأول ولا يمكن بيانه بالقلب، والا لصار الصغرى في الأول سالبة، ويمكن باينه بعكس الصغرى ليرتد إلى الثاني، وبعكس الكبرى ليرتد إلى الثالث. ولا ينتج هذا الضرب كلية؛ لأن بيانه بالعكس، وعند العكس تصير إحدى المقدمتين جزئية، والقياس على هيئة الثالث وعلى التقديرين لا ينتج، وهو أخص من الخامس، فلا ينتج الخامس -أيضاً- إلا جزئية.

القياس الاستثنائي ضربان: متصل ومنفصل

الضرب الخامس: من موجبة جزئية صغرى، وسالبة كلية كبرى. مثاله: بعض المباح مستغنى عن النية، وكل وضوء ليس بمباح، ينتج: بعض المستغنى عن النية ليس بوضوء، وبيانه بعكس المقدمتين أو بعكس إحداهما، ولا يمكن بيانه بالقلب، لئلا تصير الصغرى في الأول سالبة، والكبرى جزئية. ص- والاستثنائي ضربان ضرب بالشرط ويسمي: المتصل. والشرط: مقدما. والجزاء: تاليا. والمقدمة الثانية: استثنائية. وشرط إنتاجه أن يكون الاستثناء بعين المقدم فلازمه عين التالي، أو بنقيض التالي، فلازمه نقيض المقدم. وهذا حكم كل لازم مع ملزومه، وإلا لم يكن لازما. مثل: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان. وأكثر الأول ب "إن" والثاني بـ"لو" ويسمى بـ"لو": قياس الخلف، وهو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه. ش- لما فرغ من بيان القياس الاقتراني، شرع في بيان الاستثنائي وقد تقدم تعريفه، وهو قسمان: متصل ومنفصل؛ لأن إحدى مقدمتيه شرطية. فإن كانت فيها حرف الشرط والجزاء فهو متصل، وإن كان فيها حرف الانفصال يسمى: منفصلا، وسيجاء. ويسمى الجزء الأول من الأول مقدما، والجزء الثاني المقترن به حرف الجزاء يسمى تاليا؛ لأنه يتلوه [24/أ] والمقدمة الثانية منه تسمى استثنائية؛ لاشتمالها على حرف الاستثناء. وشرط إنتاجه استثناء عين المقدم أو نقيض التالي؛ لأن استثناء نقيض المقدم،

قياس الخلف

وعين التالي [لا ينتج؛ لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من تحققه تحقق المقدم، ولا انتفائه، ولا من انتفاء المقدم تحقق التالي [أو انتفاؤه لجواز صدق العام دون الخاص وأما إذا استثنى عين المقدم، ينتج عين التالي؛ لأن تحقق الملزوم ملزوم تحقق اللازم. وإذا استثنى نقيض التالي، ينتج نقيض المقدم؛ لأن انتفاء اللازم ملزوم انتفاء الملزوم، وهذا حكم كل لازم مع ملزومه؛ لأنه يلزم من عين الملزوم عين اللازم، ومن نقيض اللازم نقيض الملزوم. ولا يلزم من تحقق اللازم تحقق الملزوم ولا عدمه، ولا من انتفاء الملزوم تحقق اللازم ولا عدمه. مثاله: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان. يلزم من تحقق الإنسان تحقق الحيوان، ومن انتفاء الحيوان انتفاء الإنسان، ولا يلزم من انتفاء الحيوان انتقاء الإنسان، ولا يلزم من انتقاء الإنسان انتقاء الحيوان ولا تحققه، ولا من تحقق الحيوان تحقق الانسان ولا انتقاؤه. وأكثر الأول بـ"إن" أي القياس المتصل الذى يستثنى فيه عين المقدم أكثر استعماله بـ"إن"؛ لأنها وضعت لتعليق الوجود بالوجود. ى القياس المتصل الذى يستثنى فيه عين المقدم أكثر استعماله ب "إن"؛ لأنهاوضعت لتعليق الوجود بالوجود. والذى يستثنى فيه نقيض التالي بـ"لو"؛لأنه لامتناع الشيء لامتناع غيره وهذا الذي يستعمل بـ"لو" يسمى: قياس الخلف، وهو على مافسره المصنف قياس بسيط استثنائي مركب من متصلة مقدمها نقيض المطلوب، وتاليها أمر محال. ومن استثناء نقيض التالي، مثلا إذا كان المطلوب: الزكاة غير واجبة على المديون. نقول: لو كانت الزكاة واجبة على المديون لكانت واجبة على الفقير، لكنها ما وجبت على الفقير، ينتج: الزكاة غير واجبة على المديون فثبت المطلوب بإبطال نقيضه، وهو قولنا: الزكاة واجبة على المديون، وهذا الذي فسر به المصنف قياس

القياس الاستثنائي المنفصل

الخلف مخالف لجمهور المنطقيين، ولا نزاع في الاصطلاح. ص- وضرب بغير الشرط ويسمى: المنفصل. ويلزمه تعدد اللازم مع التنافي. فإن تنافيا إثباتا ونفيا لزم من إثبات كل نقيض الآخر، ومن نقيضه عينه، فينتج أربعة. مثاله: العدد إما زوج أو فرد، لكنه إلى آخرها وإن تنافيا إثباتا لا نفيا، لزم الأولان. مثاله: الجسم إما جماد أو حيوان، وإن تنافيا [نفيا] لا إثباتا لزم الآخران. مثاله: الخشي إما لا رجل، وإما لا امرأة. ويرد الاستثنائي إلى الافترانى بأن يجعل الملزوم وسطا. والافتراني إلى المنفصل بذكر منافيه معه. ش- هذا هو القسم الثاني من القياس الاستثنائي، وهو الذي تكون الشرطية فيه منفصلة. ولما لم يوجد فيه شرط قال: " وضرب بغير شرط ". ويسمى هذاالقسم: المنفصل. ويلزمه تعدد اللازم، أي النتيجة مع التنافي بينهما؛ لأن نتاجها لا يجتمع بعضها مع بعض؛ فإن الجزئيتين قد تتنافيان إثباتا ونفيا ويلزم هناك أربع نتائج، يلزم من كل جزء نقيض الآخر [24/ب]؛ لامتناع ثبوتهما. ومن نقيض كل جزء عين الأخر؛

لامتناع ارتفاعهما. مثال: العدد إما زوج أو فرد؛ فإنه يلزم من استثناء عين الزوج نقيض الفرد، ومن استثناء عين الفرد نقيض الزوج، ومن نقيض الزوج عين الفرد، ومن نقيض الفرد عين الزوج. وإن تنافيا إثباتا فقط، يلزم الأولان، يلزم من عين كل جزء نقيض الآخر لامتناع اجتماعهما، ولا يلزم من انتفاء أحدهما عين الآخر؛ لجواز انتفائهما إذ لا منافا (ة) بين الجزأين فيالنفي. مثاله: الجسم إما حيوان أو جماد فإنه يلزم من الحيوان نقيض الجماد، ومن الجماد نقيض الحيوان، ولا يلزم من نقيض أحدهما عين الآخر؛ لجواز انتفائهما. وإن تنافيا نفيا فقط، لزم الآخران، لزم من نقيض كل منهما عين الآخر لامتناع انتفائهما، ولا يلزم من عين أحدهما نقيض الآخر؛ لجواز ثبوتهما معا. مثاله: الخنثى إما لا رجل أو لا امرأة؛ فإنه يلزم من انتفاء لا رجل ثبوت لا امرأة، ومن انتفاء لا امرأة ثبوت لا رجل، ولا يلزم من تحقق أحدهما انتفاء الآخر؛ لجواز أن لا يكون رجلا ولا امرأة. ثم إن كل واحد من القياس الاستثنائي والاقتراني يرد إلى الآخر. يرد استثنائي إلى الاقتراني إذا كان المقدم والتالي في الشرطية المستعملة فيه متشاركين في الموضوع بجعل المقدمة الاستثنائية صغرى، والحملية اللازمة للشرطية. فيقال والمستثنى عين المقدم نحو: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان. لكنه إنسان فهو حيوان.

هذا إنسان، وكل إنسان حيوان؛ فهذا حيوان. ويقال في المستثنى فيه نقيض التالي، نحو: إن كان هذا فرسا فهو ليس بجماد، لكنه جماد فهو ليس بفرس، هذا جماد، وكل جماد ليس بفرس: فهذا ليس بفرس. هذا في المتصل. ويقال في المنفصل: في هذا العدد إما أن يكون زوجا أو فردا، لكنه زوج فهو ليس بفرد، وكل زوج ليس بفرد فهذا العدد ليس بفرد ولما كان الوسط في المثالين اللذين أوردهما المصنف ملزوما؛ أما في المتصل فلمحمول التالي، وأما في المنفصل فلنقيضه. قال: ويرد الاستثنائي إلى الاقتراني بأن يجعل الملزوم وسطا، أي في المثالين كذا أفاد شيخي العلامة -برد الله مضجعه-، وهو عناية منه حسنة، وكلام المصنف بدونهما غير واف، ملتبس. ويرد الاقتراني إلى الاستثنائي المنفصل بأن يذكر منافي الوسط معه فيقال: في مثل قولنا: الوضوء عبادة، وكل عبادة لا تصح بدون النية، الوضوء إما عبادة أو صحيح بدون النية، لكنه عبادة فلا يصح بدون النية. ص- والخطأ في البرهان لمادته وصورته. فالأول: يكون في اللفظ للاشتراك، أو في حرف العطف، مثل: الخمسة زوج وفرد. ونحوه حلو حامض، وعكسه طبيب ماهر (25/أ) ولاستعمال المتباينة كالمترادفة، كالسيف والصارم. ويكون في المعنى لالتباسها بالصادقة، كالحكم على الجنس بحكم النوع. وجميع ما ذكر في النقيضين. وكجعل غير القطعي كالقطعي، وكجعل العرضي كالذاتي، وكجعل النتيجة مقدمة بتغيير ما، ويسمى المصادرة. ومنه المتضايقة وكل قياس دوري.

والثاني: أن يخرج عن الأشكال. ش- لما فرغ عن بيان البرهان بأقسامه ذكر الخطأ الواقع فيه -صنيعه إذ أفرغ من بيان الحد بأقسامه- ليحترز عنه، والواقع منه في البرهان إما أن يكون لأجل مادته أو لأجل صورته. والأول قد يكون لفظيا وقد يكون معنويا، وسبب الأول، هو الاشتباه في الدلالة إما للاشتراك الجوهري في أحد الجزأين، مثل هذا عين، أي الباصرة وكل عين موزون. أو الصيغ نحو: هذا القول مختار، وكل مختار اسم فاعل. وإما حمل ما يحمل مجموعا منفردا، مثل: الخمسة زوج وفرد، فإن حمل المجموع صحيح، وحمل كل مفردا حطأ، ومنشؤه"واو" الجمع فإنه إذا قيل: زيد عالم وجواد، كما جاز مجموعا جاز مفردا، وقد يكون منشؤه غير ذلك، كما إذا قلنا للمر: أنه حلو حامض جاز مجموعا، والإفراد خطأ. وإما عكس ذلك، أي حمل ما يحمل مفردا مجموعا، كما إذا كان زيد ماهرا في الخياطة غير ماهر في الطب فإنه يجوز حمل كل منهما عليه مفردا زيد طبيب، زيد ماهر فيحمل عليه مجموعا وهو خطأ. وإما لاستعمال الألفاظ المتباينة استعمال المترادفة كالسيف والصارم فإن السيف اسم الذات قاطعا كان أو غيره، والصارم اسم له باعتبار القطع، فيتوهم أنهما مترادفان لإطلاقهما على شيء واحد فيستعمل أحدهما مكان الآخر فيقال لسيف معلق: هذا صارم، وكل صارم قاطع: وهو ليس بقاطع في ذلك الحال.

وسبب الثاني التباين المادة الكاذبة بالصادقة، كالحكم على الجنس بما حكم به على نوعه، كقولنا: الفرس حيوان، والحيوان ناطق، فإنه قد حكم على الحيوان الذي هو الجنس بالناطق الذى يحكم به على الإنسان الذي هو نوعه، وهذا يسمى في باب المغالطة بسوء اعتبار الحمل وهو أن يؤخذ مع الشيء ما ليس منه، أو ترك معه ما هو منه. ومن هذا النوع الغلط في جميع ما ذكر في شرائط التناقض من أخذ ما بالقوة مكان ما بالفعل، وأخذ المطلق مكان المقيد، وأخذ الكل مكان الجزء. قوله: "وكجعل" عطف على قوله: " كالحكم"، أي ومثل ذلك جعل غير القطعي- كالاعتقادات، والحدسيات والتجريبيات الناقصة، والظنيات والوهميات- كالقطعي. وكجعل العرضي كالذاتي، نحو: السقمونيا مبرد، وكل مبرد بارد فإن تبريده ليس بالذات بل بالعرض؛ لأنه يسهل الصفراء وانتقاصه عن البدن يوجب برده، وإنما البارد ما هو المبرد بالذات، وهذا غير الذاتي والعرضي بالمعنى المتقدم. وإما بالمعنى المتقدم كأخذ الماشي جنسا للإنسان مكان الحيوان وكجعل (25/ب) النتيجة مقدمة في القياس ويسمى: المصادرة على المطلوب.

نحو: كل حركة نقله، (وكل نقلة) في مكان، فكل حركة في مكان فإن الكبرى عين النتيجة، ومنه، أي من جعل النتيجة مقدمة المتضايقة. مثل: هذا ذو أب، وكل ذي أب ابن: فهذا ابن، فإن الصغرى عين النتيجة، وكذا كل قياس دوري، وهو ما يتوقف ثبوت إحدى مقدمتيه على ثبوت النتيجة بمرتبة أو بمراتب. قال شيخي العلامة -رحمه الله- هو أن تثبت إحدى مقدمتيه بقياس يتألف من نتيجة القياس الأول، وعكس المقدمة الأخرى. كما يقال: كل وضوء رفع الحدث، وكل ما هو رفع الحدث يصح بالنية، فكل وضوء يصح بالنية. ثم يستدل على قولنا: كل ما هو رفع الحدث يصح بالنية، بقولنا: كل ما هو رفع الحدث وضوء، وكل وضوء يصح بالنية، فكل ما هو رفع الحدث يصح بالنية. والثاني: وهو ما يكون الخطأ فيه بسبب الصورة، أن لا يكون على هيئة شكل من الأشكال، أو لا يكون على ضرب من الضروب المنتجة لا بالقوة ولا بالفعل واعلم أن جميع ما ذكره المصنف من القواعد المنطقية ليس من المباداء الكلامية؛ لأن المنطق ألة لجميع العلوم الكسبية، ونسبته إلى الكلام كنسبته إلى غيره. فذكره مناقض لما ذكر في أول الكتاب من قوله: " وينحصر في المباداء" إلى آخره سواء كان ضمير " ينحصر" راجعا إلى المختصر أو إلى الأصول.

مبادئ اللغة

ص- مبادئ اللغة. ومن لطف الله -تعالى- إحداث الموضوعات اللغوية. فلنتكلم على حدها، وأقسامها، وابتداء وضعها، وطريق معرفتها. ش- مبادئ اللغة إضافة الأعم إلى الأخص فيكون بمعنى "من" ابتدأ بمبادئاللغة بعد الفراغ من مبادئ الكلام، وقدم كلاما خطابيا سماه الشارحون مقدمة، وتقرير معناه على الوجه المشهور، الإنسان مدنى بالطبع لا يستقل بأمر بعض معايشه فضلا عن الجميع؛ لأنا لو فرضنا تحصيل أدنى ما يجب عليه تحصيله لم يقدر عليه إلا بإعانة غيره. وهي مسبوقة بالعلم بمقصودة ليتوجه المعين إلى الإعانة، والعلم به موقوف على الإعلام، والإعلام لا يكون إلا بشيء يكون ترجمة عما في ضميره كإشارة، أو مثال، أو ألفاظ لتعذر الاطلاع على الغيب غالبا دائميا وأكثريا ولألفاظ (أ) فيد لدلالته على الموجود والمعدوم والشاهد والغائب. والمعقول والمحسوس وأسهل تأتيا لأنها كيفيات تعرض للأصوات الحادثة من كيفية إخراج النفس الضروري الممتد من قبل الطبيعة دون تكلف متعب يفيد المقصود عند الحاجة ولا يوجد عند (عد) مها فأنعم الله -تعالى- عليه بها من فضله ورحمته ليتوصل بها في مقاصده إلى الاستعانة بالغير ليتأتى البقاء المقدر في عمله -تعالى وتقدس- وفي كلامه نظر من وجهين: أحدهما: أن الأصولي إنما يستمد من اللغة من حيث (26/أ) دلالة ألفاظ

حد اللغة

النصوص على مدلولاتها لغة ليستنبط منها الحكم الشرعي. وأما أن سبب وضع الألفاظ أي شيء كان فليس له إليه حاجة ليكون من المباداء ولا هو ما تتوقف عليه الألفاظ من دلالاتها على المعاني لغة ليكون مقدمة. والثاني: أنه جعل ذلك لفظا فيفضي إلى أن يكون اللطف واجبا؛ لأن البقاء المقدار لهذا النوع واجب شرعا وعقلا، ولا يمكن ذلك على ما قررنا آنفا، إلا بالإعانة المسبوقة بإحداث الموضوعات اللغوية التي هي الألفاظ المذكورة، وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، لكن اللطف ليس بواجب عند أهل السنة والجماعة. وقوله: "فلنتكلم على حدها" إن كان جواب شرط هو: إذا عرف أن من لطف الله إحداث الموضوعات اللغوية فليس بصحيح؛ لأن كونه كذلك لا يستلزم ترتيب الأمور المذكورة عليه، لعدم تعلقه بهذا العلم، وإن كان تقدير كلامه: هذه مبادئ اللغة فلنتكلم ففي ترتيب الفاء تحمل. ص- الأول: الحد: كل لفظ وضع لمعنى. ش- اللفظ ما يتلفظ به الإنسان أو في حكمه مهملا كان أو مستعملا. والوضع تخصيص شيء بشيء إذا أحس الأول فهم الثاني.

أقسامها: مفرد ومركب

فقوله: "لفظ" كالجنس، وقوله: "وضع لمعنى" لإخراج المهمل وضيع المصنف في هذا التعريف صنيعه في الكافية، "المرفوعات": هو ما اشتمل، فإنه جمع المعرف للدلالة على الأفراد وأفراد في الحد ليعلم أن الحد للموضوع اللغوي؛ لأن التعريف لا يكون للمفردات. وأقحم كلمة "كل" وإن لم تلق بالتعريف إشارة إلى أن المعرف حقيقة ذات أفراد، فإن المتكلم إذا أراد أن يشير إلى ذلك جاز له إدخال "كل" في تعريفه بخلاف ما إذا كان المراد بالتعريف بيان نفس الحقيقة، فإنه لا يجوز دخوله فيه كذا أفاد شيخي العلامة -رحمه الله-. ولقائل أن يقول: هذا التعريف ليس بصحيح؛ لأن قوله: "الموضوعات اللغوية" معناه: الألفاظ التي وضعت لمعنى وضعا لغويا، والمراد بالوضع في المعرف -أيضا- الوضع اللغوي، فيكون معناه: الألفاظ التي وضعت لمعنى وضعا لغويا هو كل لفظ وضع لمعنى وضعا لغويا، وهو تعريف الشيء بنفسه أو بما يساويه في المعرفة والجهالة. ص- الثاني: اقسامها: مفرد ومركب، المفرد: اللفظ بكلمة واحدة. وقيل: ما وضع لمعنى ولا جزء له يدل فيه. والمركب: بخلافه فيهما. فنحو بعلبك مركب على الأول لا الثاني ونحو يضرب بالعكس، ويلزمهم أن نحو ضارب وخرج مما لا ينحصر مركب. ش- تقديره المبحث الثاني في أقسامها، وهو مفرد ومركب، والحصر يعرف من تعريفهما، وعرف المفرد بقوله: "اللفظ بكلمة" وظاهره فاسد؛ لأن اللفظ إما أن

تعريف المركب

يكون بمعنى التلفظ، أي المصدر، أو بمعنى الملفوظ، فإن كان الأول فالحمل فاسد وإن [26/ب] كان الثاني فالحمل صحيح. وقوله: "بكلمة" لا معنى له، وهو تعريف بعض النحويين للمفرد بهذا الوجه المفرد هو: اللفظ الموضوع لمعنى بشرط أن يكون كلمة واحدة، والمعنى بالكلمة الواحدة ما لا يشتمل على لفظين موضوعين. والتعريف الثاني للمنطقتين هكذا المفرد: ما وضع لمعنى ولا جزء له يدل فيه، أي المفرد لفظ وضع لمعنى ولا جزء لذلك اللفظ يدل في المعنى الموضوع على شيء وهو يتناول مالا جزء له أصلا، مثل: زازا سميت به رجلا، وما له جزء، لكن لا دلا [لة] له أصلا كزيد، وماله جزء دال، لكن لا على جزء معناه كعبد الله علما. والمركب بخلاف المفرد في التعريفين، هو على الأول: ملفوظ موضوع لمعنى، وهو أكثر من كلمة. وعلى الثاني: لفظ موضوع لمعنى له جزء يدل في ذلك المعنى على شيء فنحو"بعلبك" مركب على الأول؛ لأنه كلمتان قبل التركيب، وهو المراد بالكلمة، وليس بمركب على الثاني؛ لأن جزأه لا يدل على شيء في معناه ونحو" يضرب" بالعكس، أي مركب بالتفسير الثاني؛ لأن جزأه وهو حرف المضارعة يدل في معناه على شيء، ولا يكون مركبا على التفسيرالأول؛ لأنه كلمة واحدة، ويلزمهم، أي يلزم القائلين بالتفسير. الثاني، أن يكون نحو"ضارب"

و [مخرج] يعني أسماء العاملين مركبا لتركبهم من المصدر مع صيغة خاصة يدل كل منهما على معنى. وأجيب: بأن لهم أن يدفعوا بأن المراد بالتركيب: ترتب أجزاء مسموع، إما ألفاظ أو حرف، والمصدر مع الصيغة ليس كذلك. وأقول: في توجيه السؤال والجواب نظر، لجواز أن يكون مراده من كونه مركبا تركبه من أجزاء مسموعة هي ألفاظ وهي: الألف في "ضارب" مع بقية الحروف، والميم فى "مخرج" وحينئذ صار الجواب عين السؤال، وحينئذ يكون الجواب بالمنع لا نسلم أن الألف فى "ضارب" ومثله يدل على شيء بل المجموع موضوع بإزاء معناه، وقوله: [مما لا ينحصر] مستدرك.

تقسيم المفرد إلى اسم وفعل وحرف

تقسيم المفرد إلى اسم وفعل وحرف ص- وينقسم المفرد إلى اسم وفعل وحرف، ودلالته اللفظية في كمال معناها، دلالة مطابقة، وفي جزئه: دلالة تضمن، وغير اللفظية التزام، وقيل: إذا كان ذهنيا. ش- أي ينقسم المفرد إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف؛ لأنه إما أن يدل على معنى في نفسه، أو لا، الثاني: الحرف. والأول: إما أن يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، الماضي والحال والمستقبل، أو لا، الثاني: الاسم. والأول: الفعل، وقد علم بذلك حد كل واحد منها. قوله: "ودلالته" تقسيم للدلالة وهي وضعية، وغيرها، وهو ما ليس للوضع فيها مدخل، ولا مدخل لها في العلوم، والوضعية لفظية وغيرها.

لأن المعنى المفهوم من اللفظ إما خارج عن مسماه، أولا. والأول: غير لفظية، ويسمى: دلالة الالتزام. والثاني: لفظية، فإن كانت على تمام المعنى تسمى: مطابقة. وإن كانت على جزئه تسمى تضمنا، ولم [27/أ] يشترط الأصوليون في دلالة الالتزام اللزوم الذهني بل يطلقون اللفظ على لازم المسمى سواء كان اللزوم ذهنيا أو خارجيا. وأما المنطقيون فيشترطون اللزوم الذهني، أي كون المعنى الخارجي بحالة يلزم يلزم من تصور المسمى تصوره، وإلا لم يحصل الفهم؛ لأنه إنما يحصل الفهم؛ لأنه إنما يحصل إذا كان اللفظ موضوعا لذلك المعنى، أو يلزم من تصور المسمى تصوره وهما منتفيان حينئذ، ولا يشترطون اللزوم الخارجي؛ لحصول الفهم دونه، كما في العدم والملكة مثل دلالة العمى على البصر.

المركب

المركب ص- والمركب جملة وغير جملة، فالجملة: ما وضع لإفادة نسبة، ولا يتأتى إلا في اسمين، أو في فعل واسم، ولا يرد "حيوان ناطق" و"كاتب" في "زيد كاتب"؛ لأنها لم توضع لإفادة نسبة، وغير الجملة بخلافه، ويسمى مفردا- أيضا. ش- قسم المركب إلى جملة وغيرها، فالجملة: ما وضع، أي لفظ وضع لإفادة نسبة، أي إسناد أحد الجزأين إلى الآخر بحيث يصح السكوت عليه، كزيد قائم فيخرج [عنه] المركب الإضافي نحو: غلام زيد، لانتفاء صحة السكوت عليه. والجملة لا تتأتى إلا من اسمين، أو فعل واسم؛ لأن الإسناد يقتضي مسندا ومسندا إليه، والفعل يقع مسندا لا مسندا إليه، والحرف بمعزل عنهما فلابد من الاسم تحقيقا للمسند إليه ثم إن كان معه فهو القسم الأول وإن كان معه فعل فهو القسم الثاني. قوله: " ولايرد" جواب عما يقال: حد الجملة غير مطرد لصدقة على الحيوان الناطق، وعلى"كاتب" في "زيد كاتب" وليس بجملة.

وتقريره: لا نسلم صدقة عليهما، فإن المراد بالنسبة الإسناد على الوجه الذي فسر به، وهما ليسا كذلك. ولقائل أن يقول: الإسناد نسبة خاصة فيكون ذكر العام وإرادة الخاص وذلك ليس بجائز، لعدم دلالة العام على الخاص لا سيما في التعريفات. قوله: "وغيرالجملة بخلافه"؛ أي لم يوضع لإفادة نسبة ويسمى مفردا وإنما قال: "أيضا"؛ لأن المفرد يطلق على مقابل الجملة، وعلى مقابل المجموع, والمثنى, وعلى مقابل المركب.

تقسيم آخر للمفرد

تقسيم آخر للمفرد ص- والمفرد باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما، أربعة أقسام: فالأول: إن اشترك في مفهومه كثيرون فهو: الكلي. فإن تفاوتت، كالوجود للخالق والمخلوق فمشكك وإلا فمتواطئ. وإن لم يشترك فجزئي. ويقال للنوع -أيضا- جزئي. والكلي ذاتي وعرضي، كما تقدم. والثاني من الأربعة: متقابلة متباينة. والثالث: إن كان حقيقة للمتعدد فمشترك وإلا فحقيقة ومجاز. (والرابع): مترادفة، وكلها مشتق وغير مشتق، صفة وغير صفة. ش- هذا تقسيم آخر للفظ المفرد باعتبار وحدته مدلوله وتعد (د) هما، وذلك أربعة على ما ذكره وهو واضح. فالأول: (27/ب) وهو أن يتحد اللفظ والمعنى إن اشترك في مفهومه كثيرون، أي يصدق مفهومه على الأفراد المتوهمة، كالإنسان فهو

الكلي، وهو ينقسم إلى مشكك ومتواطئ؛ لأن أفرادهما إما أن تكون متفاوتة بالأولوية وعدمها، أو الشدة والضعف، أو التقدم والتأخر كالوجود بالنسبة إلى الخالق والمخلوق فإنه يتفاوت فيهما بالاعتبارات، أو لا فالأول يسمي: مشككا؛ لأن الناظر في مفهومه يشك أنه من قبيل المتواطئ أو المشترك، لاستواء الأفراد في حصوله معناه لها. والثاني يسمى: متواطئا، لتوفقها فيه، مثل الإنسان بالنسبة إلى أفراده. وإن لم يشترك في مفهومه كثيرون فهو الجزئي، مثل: زيد وهذا الإنسان ويقال للنوع الإضافي، مثل الإنسان: جزئي، بناء على أن الجزئي يطلق على المندرج تحت الكلي ويسمى: جزئيا إضافيا، فالنوع الإضافي بهذا التفسير يكون جزئيا، وفى عبارته تهافت؛ لأن المراد بقوله: "فجزئي" الجزئيالحقيقي، والمراد بالنوع: النوع الإضافي. وبقوله: "جزئي" الجزئي الإضافي فكل ذلك قيود تركها إيجاز مخل. لا يقال: الظاهر أن يكون المشتغل في هذا الكتاب ممن لا يخفى عليه أمثاله، لأنا نقول: فلا يخفى -أيضا- هذا الاصطلاح الذي لا يحتاج إليه الأصولي أصلا على ما يطلعك عليه

الاستقراء في هذا الكتاب وغيره. ثم الكلي إما ذاتي إن لم يخرج عن حقيقة الشيء، مثل: الحيوان بالنسبة إلى الإنسان، وإما عرضي إن خرج، كالضاحك بالنسبة إليه. وقد تقدم في المنطق بحث الذاتي والعرضي فكان ذكرهما ههنا تكرارا صرفا في تصنيف يخل إيجازه. وقوله:"الثاني من الأربعة" أي القسم الثاني من الأقسام الأربعة هو أن يتعدد اللفظ والمعنى جميعا، وتسمى تلك ألفاظ متقابلة متباينة لكون كل واحد منها مباينا للأخر في معناه، كالإنسان، والفرس، والبقر. وقوله: "الثالث"، أي القسم الثالث من الأربعة وهو: أن يتحد اللفظ ويتعدد المعنى إن كان اللفظ حقيقة للمتعدد بأن يكون موضوعا لكل منها وضعا أولا فمشترك (مثل: العين) فإنهٍ موضوع للباصرة، وخيار الشيء والطليعة، وغير ذلك وضعا أولا. وإن لم يكن كذلك، بل يكون موضوعا لأحدهما ثم نقل إلى غيره لمناسبة فبالنسبة إلى الموضوع له حقيقة، وبالنسبة إلى المنقول إليه مجاز، كالأسد. وقوله: "الرابع" يعنى القسم الرابع منها، وهو أن يتعدد اللفظ ويتحد المعنى مترادفة. كالليث والأسد والغضنفر. ثم إن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة مشتق، إن دل على ذي صفة معينة، كضارب، وعالم, وغير مشتق إن لم (28/أ) يدل كالإنسان والعلم، وكل واحد منها إما صفة إن دل على معنى قائم (بالذات) كالضحك والكتابة والعلم، وإما غير صفة، كالجسم، والإنسان واليك طلب الأمثلة

للأقسام الأربعة. ولما فرغ عن ذكر الأقسام الأربعة للمفرد ذكر المسائل المتعلقة بها وهي ست عشرة اثنتان منا متعلقتان بالمشترك. إحداهما: في وقوعه وعدم وقوعه. والثانية: أنه هل يكون واقعا في القرآن على تقدير وقوعه في اللغة، أولا.

المشترك

المشترك ص- مسألة: المشترك واقع على الأصح. لنا: أن القرء للطهر والحيض معا على البدل من غير ترجيح. واستدل: لو لم يكن لخلت أكثر المسميات؛ لأنها غير متناهية. وأجيب: بمنع ذلك في المختلفة والمتضادة. ولا يفيد في غيرها. ولو سلم فالمتعقل متناه. وإن سلم فلا نسلم أن المركب من المتناهي، متناه. وأسند بأسماء العدد. وإن سلم منعت الثانية ويكون كأنواع الروائح. واستدل: لو لم يكن لكان الموجود في القديم والحادث متواطئا؛ لأنه حقيقة فيهما. وأما الثانية؛ فلأن الموجود إن كان الذات فلا اشتراك، وإن كان صفة فهي واجبة في القديم فلا اشتراك. وأجيب: بأن الوجوب والإمكان لا يمنع التواطؤ كالعالم والمتكلم. ش- أي هذه مسألة، وهي مفعلة من السؤال. وفي الاصطلاح: مطلوب يبرهن عليه في العلم إن كسبيا. ولم يذكر المصنف تعريفه اكتفاء بذكره في التقسيم بقوله: "إن كانت حقيقة للمتعدد فمشترك"؛ ولأنه يعرف من هذا الحكم المذكور ههنا على ما يوميء إليه،

وهو إما أن يكون واجب الوقوع أو ممتنعة أو ممكنة، والممكن إما واقع أو غير واقع فهذه أربع احتمالات. قال: لكل منها قائل، لكن لا فرق بين الواجب والممكن الواقع، ولا بين الممتنع والممكن الغير الواقع فلهذا لم يتعرض صاحب الإحكام إلا لهما، وتابعة المصنف -رحمهما (الله) وذكر دليل القائلين بالوقوع، وزيف دليل المخالف وقد علم بالاستقراء في هذا المختصر أنه يشير بلفظ: "لنا" إلى الدليل الصحيح على مطلوبه، وبلفظ:"استدل" -على بناء المفعول- إلى الدليل الفاسد على ذلك، وبلفظ: "قالوا" إلى دليل المذهب الباطل، وإن كان المذكور واحدا نظرا إليه وإلى أتباعه. هذا إذا كان مذهب المخالفة متعينا وإن لم يكن عبر عنه بذكر صاحب المذهب باسمه أو بالنسبة إلى المذهب، أو يذكر المذهب فيقول مثلاً: "القاضي"

"الإمام" أو "المبيح" أو" المحرم" أو "الإجابة" أو "التحريم". واختار مذهب القائلين بالوقوع، واستدل عليه بقوله: "إن القرء للطهر والحيض معا على البدل من غير ترجيح" واحترز بقوله: "معا" عن أن يكون لواحد فقط، وبقوله: "على البدل" عن التواطاء، وعن أن يكون موضوعا للجميع دفعة، وبقوله: "من غير ترجيح" عن الحقيقة (28/ب) والمجاز، وهو يرشد إلى أن المشترك: لفظ موضوع لأكثر من واحد يتناوله على سبيل البدل من غير ترجيح. ومعنى كلامه أن أهل اللغة اتفقوا على أن القرء للحيض والطهر معا على البدل من غير ترجيح فكان المشترك واقعا. ورد: بأنه لم ينقل عن أهل اللغة أنه مشترك، بل الموجود اتحاد الاسم وتعدد المسمى، وجاز أن يكون اطلاقه عليهما بمعنى واحد مشترك بينهما وبكونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر. وإن خفي علينا الحقيقة بل الحمل على أحد هذين أولى، دفعا للاشتراك اللفظي لكونه مخلا وللمجاز لكونه على خلاف الأصل، وتقريرا للقاعدة المستقرة: أن اللفظ الدائر بين اللفظي والحقيقة والمجاز يحمل على الحقيقة على ما سيأتي. وأجيب: بأن تردد الذهن بينهما من علامات الاشتراك على ذلك احتمال بعيد لم ينشأ عن دليل، واعتبار مثله يفضي إلى ارتفاع الاعتماد على دلالات الألفاظ، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى. واستدل: بأن المشترك لو لم يقع لخلت أكثر المسميات عن الألفاظ؛ لأن

المعاني غير متناهية؛ فإن من جملتها الأعداد والروائح، وهي غير متناهية، والألفاظ لكونها مركبة من الحروف المتناهية متناهية وتوزيع المتناهي على غير المتناهي لا يتصور فيلزم خلوه، لكن خلوه عنها محال، لكون الحاجة ماسة إلى التعبير عنها بالألفاظ فلا بد من الاشتراك. واجيب: تمنع الملازمة، وتقريره، لا نسلم صدق الملازمة. قوله: "لأن المعاني غير متناهية" قلنا: إن أردتم بالمعاني، المتضادة كالسواد والبياض والحمرة، والمختلفة، أي غير المتضادة، كالحركة والبياض، والعلم، والكتابة ونحوها فلا نسلم عدم تناهيها. وإن أردتم غير ذلك، أي المتماثلة كأفراد الأنواع في المقولات العشر فعدم تناهيها مسلم، ولكن لا يفيد في بيان الملازمة، إذ يكفي أن يوضع اللفظ بإزاء الحقيقة المشتركة بالتواطؤ، فلا يلزم خلوها عن الألفاظ. سلمنا أن المختلفة والمتضادة غير متناهية، وأن المتماثلة لا يكفي وضع اللفظ بإزاء الحقيقة المشتركة بينها، فلا نسلم أن ما يجب له اللفط غير متناه؛ لأن ما يجب أن يوضع له اللفظ لا بد وأن يكون متعقلا وهو منها متناه، لامتناع إحاطة الذهن بغير المتناهي ولئن سلمنا أن المتعقل غير متناه، لكن لا نسلم تناهي الألفاظ. فقوله: "لأنها مركبة من الحروف المتناهية". قلنا: لا نسلم أن المركب من المتناهي متناه. لم لا يجوز أن يكون كأسماء العدد فإنها متناهية، والمر كب منها غير متناه، سلمنا أن المركب من التناهي متناه

حتى يلزم صدق الملازمة، لكن نسلم انتفاء التالي [29/أ] فإن خلو أكثر المسميات عن الألفاظ جائز كأنواع الروائح. ولقائل أن يقول: قوله: "إن أردتم بالمعاني المتضادة" قسمة غير حاصرة لجواز أن يكون المراد المجموع الحاصل من ذلك كله. وقوله: "ولا يفيد في غيرها" فاسد؛ لأن الحاجة إلى معرفة الجزئيات المدركة لكل أحد إن لم تكن أمس من معرفة الكليات، فلا أقل من المساواة. وقوله: "والمعتقل منها متناه" لامتناع إحاطة الذهن بغير المتناهي، إنما يستقيم إذا كان الواضع غير الله، فإن المدرك حينئذ نفسه وهي حادثة لا يمكن الاحاطة بما لا يتناهى، أما إذا كان الواضع هو الله -تعالى- فهو محيط بجميع الأشياء أزلا وأبدا فيجوز أن يكون المستدل بهذا الدليل من كان ذلك مذهبه، وأما منع أن المركب من المتناهي متناه فغير موجه والمركب من أسماء الأعداد متناه، وعدم التناهي إن تحقق فهو في المعدود لا في العدد، فإن له أصولا معلومة وتكرارها باعتبار المعدود لا يسمى غير متناه. وأما جواز خلو أكثر المسميات عن الألفاظ فممنوع، والاستناد بأنواع الروائح فاسد؛ لأن غاية ما يقال فيها: أنه ما وصل إلينا عن العرب اسم كل رائحة من الروائح، فلم يعلم، وعدم العلم بالشيء لا يستلزم عدمه في نفسه، على أن الترادف واقع على الأصح كما سيأتي، وهو دليل ظاهر على أن الألفاظ أكثر من المسميات فمن أين يلزم الخلو؛ ولأن الثاني خلو أكثر المسميات، والروائح ليست كذلك. واستدل -أيضا- على وقوع المشترك بإطلاق "الموجود" على القديم والحادث وتقريره: الموجود مطلق على القديم والحادث بطريق الحقيقة، لانتفاء صحة

النفي، وذلك وقوع المشترك اللفظي، فإن إطلاقه عليهما لو لم يكن بالاشتراك اللفظي لكان "الموجود" فيهما متواطئا، أي مقولا بالاشتراك المعنوي، لأنه بطريق الحقيقة، وما كان كذلك لا ينفك عن أحهما، فإذا انتفى أحدهما تحقق الآخر لكن لا يجوز أن يكون متواطئا؛ لأن الموجود إما أن يكون عين ماهية القديم أو صفة زائدة فيه فإن كان الأول: لم يصح أن يكون مشتركا بينه وبين الحادث معنى لتخالفهما بالحقيقة قطعا، وإلا أمكن الواجب أو وجب الممكن. فتحقق الاشتراك اللفظي. وإن كان الثاني: فكذلك؛ لأن صفة القديم قديمة، وصفه الحادث حادثة فانتقى التواطؤ وتحقق المطلوب. وأجيب: بأنا لا نسلم انتقاء التالي؛ فإنا نختار أن يكون صفة زائدة، وكونها واجبا في القديم وممكنا في الحادث لا ينافي التواطاء؛ لأن الموجود إذا كان صفة لذات القديم والحادث كان معنى كونه واجبا أن ذات القديم من حيث هي تقتضى تلك الصفة، ومعنى كونه ممكنا أن ذات الممكن من حيث هي لا تقتضيها، ويجوز أن تكون صفة واحدة مشتركة بين ماهيتين مختلفتين بالحقيقة أحدهما تقتضيها لذاتها فتكون واجبة، والأخرى [29/ب] لا تقتضيها فتكون ممكنة فيها مع اشتراكها بينهما معنى، كالعالم والمتكلم؛ فإن كل واحد منهما مشترك بين القديم والحادث من حيث المعنى، والواجب يقتضى وجوبه، والممكن يقتضى إمكانه، وهذا الجواب فاسد؛ لأن إطلاق "الموجود" على القديم أولى وأقدم من إطلاقه على الحادث فيكون مشككا. وهو ممتنع. وكذا الكلام في العالم والمتكلم، واعلم أن في كلامه تسامحا؛ فإن كلامه في أقسام مباداء اللغة ومسائل تتعلق بها، وإثبات أن المشترك واقع أو ليس بواقع لا

يتعلق بمباديء اللغة فيكون من المسائل المتعلقة بها. والدلائل المذكورة في هذا الاستدلال والذي قبله نسبة أن يكون من الكلام، وكان خلط المباداء الكلامية باللغوية، وذلك خبط. ص- قالوا: لو وضعت لاختل المقصود من الوضع. قلنا: يعرف بالقرائن. وإن سلم فالتعريف الإجمالي مقصود كالأجناس. ش- مانعو وقوع المشترك قالوا: لو وضعت الأسماء المشتركة لاختل المقصود من الوضع؛ لأن المقصود منه الفهم التفصيلي حال الخطاب، والمخاطب قد لا يفهم المراد، لتردد ذهنه بين معانيه، لكن الاختلال في المقصود لا يصح لإفضائه إلى مفاسد لا تخفى. ... وأجاب المصنف: بمنع الملازمة. تقريره: لا نسلم أن اللفظ إذا كان مشتركا لا يفهم المخاطب المعنى المراد، لجواز أن يعرفه بالقرائن. وإن سلم أنه لا يفهم المراد، لكن لا نسلم أن المقصود من الوضع هو الفهم التفصيلي مطلقا، لجواز أن (يعرفه بالقرائن) يكون المراد الفهم الإجماليفي بعض الصور كما في أسماء الأجناس، فإنها تدل على ما وضعت له إجمالا لا تفصيلا. وههنا بحث وهو: أن المراد بقوله: "لاختل المقصود من الوضع" مطلقا أو من وضع المشترك. فإن كان الأول، فالملازمة ممنوعة وهو ظاهر، وإن كان الثاني، فهو موقوف على معرفة أن المقصود من وضع المشترك ما هو؟ ولا يتم إلا إذا كان المقصود منه التفاهم، وهو ممنوع. لم لا يجوز أن يكون المراد من وضع المشترك الإيهام بحكم يترتب على

ذلك وجوابه بمنع الملازمة -بقوله: لا نسلم أن اللفظ إذا كان مشتركا لم يفهم منه المخاطب المعنى المراد غير موجه؛ لأن تردد الذهن بين معنييه يمنع الفهم لا محالة. وقوله: لجواز أن يعرف مراد المتكلم بالقرائن كذلك، لعدم اتصاله بمحل البحث، فإن المنتفي هو انتفاء التفاهم الذي يحصل بالوضع، وذلك حاصل. وأما أن القرينة تدل أو لا تدل فليس بمناف لمراد المستدل. وأما قوله: "كالأجناس" فكذلك؛ لأن اسم الجنس ما وضع لشيء ولما أشبهه، كرجل وهو ذكر من بني آدم (جاوز) حد البلوغ، ودلالته على ما وضع له تفصيلية؛ فإن وضعه لذلك ليس بالنطر إلى ما تحته من الأفراد بل إلى نفس الحقيقة، ولا إجمال في (30/أ) دلالته عليها. ص- مسألة: ووقع في القرآن على الأصح، لقوله -تعالى-: (ثلاثة قروء)، و (عسعس) لأقبل وأدبر. قالوا: إن وقع مبينا طال بلا فائدة، وغير مبين غير مفيد. وأجيب: بأن فائدته مثلها في الأجناس. وفي الأحكام الاستعداد للامتثال إذا بين. ش- المسألة الثانية: المشترك على تقدير وقوعه في كلام العرب، واقع في القرآن -أيضا، لقوله -تعالى-: (ثلثه قروء)، وقد تقدم الكلام عليه. وقوله: (والليل إذا عسعس) أي أقبل وأدبر ذكره

الجوهري وغيره من أهل اللغة. وفيه النظر المتقدم إن كان على ذكر منك. والمناسب لتراكيبه و"في القرآن" عطفا على قوله: "المشترك واقع" فتأمل. وقال المانعون: لو وقع المشترك في القرآن، فإما أن يقع مبينا أو غيره. والأول، تطويل بلا فائدة؛ فإن قوله: ثلاثة أطهار، يغنى عن ثلاثة قروء هي الأطهار. والثاني، غير مفيد، لعدم الفهم التفصيلي وغير المفيد لا يقع به الخطاب وفيه نظر، فإنا لا نسلم أنه إذا وقع مبينا كان تطويلا بلا فائدة؛ لأن الفرض وقوعه في القرآن، ومقتضى الحال قد يكون الإطناب. فالقول بعدم الفائدة حينئذ نفي لإعجاز القرآن، وفي ذلك ما لا يخفى والمصنف أجاب على الشق الثاني كأنه قال: لا نسلم أنه إذا وقع غير مبين لم يكن مفيدا، بل يفيد فائدة أسماء الأجناس إن كان في غير الأحكام، ويفيد الاستعداد

الترادف

للامتثال عند البيان في الأحكام. وقد علمت انفا ما فيه. ص- الترادف واقع على الأصح، كأسد وسبع، وجلوس وقعود. قالوا: لو وقع لعري عن الفائدة. قلنا: فائدته، التوسعة، وتيسر النظم والنثر للروى أو الزنة وتيسير التجنيس والمطابقة. قالوا: تعريف للمعرف. قلنا: علامة ثانية. ش- الترادف تساوي لفظين في الدلالة على مدلول واحد بالوضع. وخرج بقوله: على مدلول واحد مثل: السيف، والصارم، فإن مدلول أحدهما ذات السيف، والآخر صفته. وبقوله: "بالوضع" ما كان بالعقل كدلالة المتلازمين، كالضاحك والكاتب على الإنسان. لا يقال: التعريف منقوض بالحقيقة والمجاز؛ لأن التساوي في الدلالة منتف ووقوع مثل: أسد وسبع للحيوان المفترس، والجلوس والقعود للهيئة المخصوصة دليل جوازه. ومنع وقوعه طائفة وقالوا: لو وقع لعري عن الفائدة، إذ الغرض من الوضع تحصيل فهم ما وضع له، وقد فهم ذلك من

غيره، ولا يجوز للحكيم فعل ما لافائدة فيه. وأجيبو بمنع الملازمة بناء على أن الفائدة غير منحصرة فيما ذكروا بل ثمة أمور أخر غير ذلك كالتوسعة وهي تكثير الطرق الموصلة للمتكلم إلى غرضه، فإن نسيان أحدهما عند التعبير عن مراده ممكن فيتوسع باستعمال الآخر. وكتيسير النظم؛ فإنه قد يمتنع وزن البيت أو قافيته مع البعض ويصح بغيره، وقد سبق في (30/ب) النثر أن لا يصح السجع ببعض الألفاظ فيستعمل غيره. وكذلك التجنيس. واعلم أن المصنف جعل المطابقة من فوائد الترادف، فإن أراد بها ما هو المصطلح منها بين علماء البيان، وهي: الجمع بين المتضادين، كقوله -تعالى-: (يحي ويميت)، (فليضحكوا قليلاوليبكوا كثيرا)، وقوله: (تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) فهي مما يتعلق بالمعنى، واللفظ لا مدخل له فيه. وإن أراد غير ذلك فهو غير معهود. وقالوا -ايضا-: لو وقع المترادف لزم تعريف المعرف؛ لأن التعريف يحصل باللفظ الواحد فكان اللفظ الآخر معرفا للمعرف فلا فائدة فيه.

ترادف الحد والمحدود

وأجيبوا: بأن اللفظ علامة للمعنى لا معرف له، ويجوز أن ينصب لشيء واحد علامات كثيرة. وفيه نظر؛ لأن العلم يحصل بأحدهما فالآخر يكون إعلاما للمعلوم ولا فائدة فيه، والحق أن هذا الدليل فاسد من وجهين: أحدهما: أنه راجع إلى أنه لا فائدة فيه، وهو عين الأول. والثاني: أنه إنما يتم أن لو كان الواضع واحدا، ووضع الثاني ذاكرا لوضع الأول أما لو تعدد الواضع، أو نسى الواحد فليس بتام وهو ظاهر. ص- مسألة: الحد والمحدود، ونحو عطشان نطشان غير مترادفين على الأصح؛ لأن الحد يدل على المفردات، ونطشان لا يفرد. ش- اختلف الناس في أن الحد والمحدود، كالحيوان الناطق والإنسان، والمتبوع والتابع، والتأكيد اللفظي، نحو زيد زيد، هل هي من المترادفات أو لا؟. فمنهم من ذهب إلى أنها منها بناء على اتحاد الدلالة على المطلوب، لكنه إنما يتم في المتبوع والتابع، كعطشان نطشان، وخراب يباب، إذا كان كل واحد من اللفظين موضوعا لذلك، كالأسد والسبع، وقد التزم هؤلاء ذلك. ومنهم من ذهب الى أنها ليست منها واختاره

المصنف -رحمه الله- وقال: لأن الحد يدل على الماهية فكان مدلول الحد غير مدلول المحدود، فلا يتحقق الترادف وقال: ونطشان لا يفرد، يعنى عن عطشان عند الاستعمال، وكل مترادف يفرد فنطشان غير مترادف، وفيه بحث من أوجه. الأول: أن قوله: الحد لا يدل على الماهية يريد به مع حده الصوري أو بمادته فقط، والأول فاسد؛ لأن الحد إنما هو لتعريف الماهية ولا يعرفها بغير دلالة عليها، والثاني صحيح، ولا يفيده، لجواز أن يكون مرادفا بصورته. الثاني: أن قوله: وكل مترادف يفرد دعوى، لا بد له من بيان لجواز أن الخصم لا يلتزم ذلك في الترادف، بل هو الظاهر. الثالث: أن "زيد زيد" أظهر ورودا، وليس في كلامه ما يدفعه. الرابع: أن إيراد هذا البحث بتصدير ذكر المسألة ليس من الحذق في معرفة الأصول؛ لأن المسألة على ما مر مطلوب يبرهن عليه في العلم إن كان كسبيا. والمستنبط (31/أ) للأحكام الشرعية ليس له احتياج إلى معرفة أن هذه الألفاظ من المترادفة أولا بالقصد الأولي. فكان الأحسن أن يذكر تعريف الترادف على وجه يخرج عنه جميع هؤلاء كما صنعنا فإنا عرفناه: بتساوي لفظين في الدلالة على مدلول واحد بالوضع فخرج الحد والمحدود لعدم تناوبهما في الدلالة، إذ المحدود يدل إجمالا والحد تفصيلا، والمتبوع والتابع؛ لأن المتبوع يدل منفردا وغير منفرد، والتابع ليس كذلك، والمؤكد يدل مع

إيضاح دون المؤكد. ص- مسألة: يقع كل من المترادفين مكان الآخر؛ لأنه بمعناه، ولا حجر في التركيب. قالوا: لوصح لصح "خذاى أكبر". وأجيب: بالتزامه، وبالفرق باختلاط اللغتين. ش- واختلفوا -أيضا- في أن أحد المترادفين يصح أن يقع مكان الآخر أولا. قال بعضهم: لا يقع، واختار المصنف وقوعه، لوجود المقتضى وانتفاء المانع. أما وجود المقتضى؛ فلأن المعنى واحد، وإذا كان المعنى واحدا حصل المقصود من استعمال أيهما كان. وأما انتفاء المانع؛ فلأنه لا حجر في التركيب بعد حصول المقصود من المعنى.

وقال المانعون: لو استعمال أحد المترادفين مكان الأخر لصح "خذاى أكبر" والملازمة ظاهرة. وبيان التالي اجتهادي يتم على قول من يقول: لا تنعقد به الصلاة. وأجيبوا: بمنع انتفاء التالي على مذهب أبي حنيفة ومن تابعه. وهذا الجواب يقتضي صدق عموم الدعوى، وهو وقوع أحدهما مقام الآخر سواء كان المترادفين من لغتين أو من لغة واحدة، وتمنع الملازمة بالفرق بين المترادفين من لغة، وبينهما من (لغتين)، لجواز الأول، لعدم المانع وعدم الثاني، لوجوده، وهو اختلاط مهمل بمستعمل نظرا إلى كل واحد من اللغتين،

واعلم أن ما ورد عليه من تصدير البحث بذكر المسألة فيما قبلها وارد عليه ههنا، وإن كان لابد من تصديره بفاصل كان الأنسب ذكر تنبيه؛ لأنه منذ كان قد علم جواز استعمال أحدهما مكان الآخر في فائدة وقوع المترادف.

الحقيقة

الحقيقة ص- الحقيقة: اللفظ المستعمل في وضع أول، وهي لغوية، وعرفية وشرعية، كالأسد، والدابة، والصلاة. ش- الحقيقة فعلية من حق الشيء إذا ثبت، واستعملت في اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا. فاللفظ كالجنس، وبالمستعمل يخرج المهمل واللفظ في ابتداء الوضع فإنه ليس حقيقة ولا مجازا. وقوله:"أول" يخرج المجاز؛ فإنه لفظ مستعمل فيما وضع له ثانيا وسيأتي، وفي كلامه تسامح؛ فإنه ذكر الوضع وأراد بهما وضع له. ومع ذلك ليس بواف للمقصود، فإن لغوية وعرفية وشرعية، وصدق على كل منها هذا الحد، وهو مجاز إلا إذا ضم إليه في اصطلاح وقع به التخاطب، وليس في كلامه ما يدل على ذلك أصلا فهو إيجاز مخل (31/ب) وإذا انضم إليه ذلك تميز أقسام الحقيقة عن أقسام المجاز، وهي ثلاثة كما مر؛ لأن الواضع إن كان أهل اللغة، فهو لغوية،

كالأسد بالنسبة إلى الحيوان المفترس، وإن كان العرف، خاصا كان أو عاما فهي عرفية كالفاعل في عرف النحاة، والدابة لذات الحافز بعد ما كان لما يدب على الأرض في عرف العامة. وإن كان أهل الشرع فهي شرعية، كالصلاة للأركان المعهودة بعد ماكانت في اللغة للدعاء. واعلم أن هذا التقسيم إنما يصح إذا كان الواضع الأول ما ذكر وأما إذا كان هو الله -تعالى- فلا يصح التقسيم، ولا قولهم في وضع أول فتأمل.

المجاز

المجاز ص- والمجاز (اللفظ) المستعمل في غير وضع أول على وجه يصح، ولابد من العلاقة وقد تكون بالشكل كالإنسان (للصورة) أو في صفة ظاهرة، كالأسد على الشجاع لا على الأبخر، لخفائها. أو لأنه كان عليها، كالعبد. أو آيل، كالخمر، أو للمجاورة مثل: جرى الميزاب. ش- المجاز مفعل من الجواز، بمعنى العبور, استعمل في اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا على وجه يصح. وقوله: "اللفظ المستعمل" حاله ماتقدم, وقوله:"في غير وضع أول" لإخراج الحقيقة، وقوله: "على وجه يصح" يعنى بعلاقة بينهما لإخراج الهزل. وقيل: لإخراج المهمل؛ لأنه مستعمل في غير ما وضع له، وهو فاسد قطعا؛ لأن المهمل هو مالم يوضع فكيف استعمل فيكون خروجه بقوله:"المستعمل".

وما ورد على تعريف الحقيقة من وجوب ذكر التخاطب، وارد ههنا مع ضعف تركيبه. واعلم أن جعل المجاز موضوعا بوضع ثان يفضي إلى عدمه وذلك باطل؛ لأن الفرض وجوده فما يفضى إليه -أيضا- باطل وذلك أن الواضع إما أن يكون هو الله -تعالى- أو غيره فإن كان الأول فلا دليل لأحد أن الله -تعالى- وضع الأسد للهيكل المفترس أولا، ثم وضعه للرجل الشجاع نظرا إلى ما اشتركا فيه من الوصف اللازم المشهور، ومن ادعى ذلك فعليه البيان. وإن كان الثاني، فلا يخلو من أن يكون الواضع الثاني هو الأول لو غيره، والأول خلاف المعلوم، فإنا نعلم أن الصلاة كانت للدعاء ثم استعملت بعد موت ذلك الواضع بزمان للأركان المعلومة وكانت مجازا لغويا بلا خلاف. والثاني: يستلزم انتفاء الاعتماد على كون لفظ ما حقيقة لجواز أن يكون اللفظ الذي نسميه حقيقة مستعملا في وضع ثان لعلاقة، وكان واضع آخر -قبله- وضعه لشيء آخر وهلم جرا. وقد اتفق العلماء على أنه لابد من العلاقة بين المفهوم الحقيقي والمجازي، وإلا لجاز أن يقال: سدرة المنتهى في الأرض بطريق أن تكون الأرض مجازا من

اشتراط النقل في آحاد المجاز

السماء، ولم يقل به أحد. والعلاقة المعتبرة بينهما خمسة وعشرون على ما ذكر في (32/أ) الكتب المطولة، والمصنف ذكر منها أربعة أوجه. المشابهة بالشكل كالإنسان للصورة المنقوشة في شيء والمشاركة في صفة ظاهرة، كالأسد للشجاع، وتسمية الشيء بما كان عليه، كالعبد على معتق، وبما يؤول إليه، كتسمية العنب خمرا والمجاورة، كسال الميزاب. وقوله: "لا على الأبخر" مستدرك لخروجه بقوله:"صفة ظاهرة" فلم يكن إلا اطنابا في تركيب مختصر مخلا (بإ) يجازه. وعلماء البيان أطبقوا على أن المجاز انتقال من الملزوم إلى اللازم فإن تأملت في الأمثلة المذكورة وجدتها غير خارجة عن ذلك لكنه بتحمل. ص- ولا يشترط النقل في الآحاد على الأصح. لنا: لو كان نقليا لتوقف أهل العربية عليه ولا يتوقفون. واستدل: لو كان نقليا لما افتقر إلى النظر في العلاقة. وأجيب: بأن النظر للواضع. وإن سلم فللاطلاع على الحكمة. ش- اتفق الناس على أن نقل نوع مجوز المجاز شرط جوازه، واختلفوا في

اشتراط شخص المجوز. وتقريره: أنهم اتفقوا على أن ذكر المحل وإرادة الحال مثلا لو لم يكن منقولا من العرب لما كان مجوزا، وأما أن كل مجاز يكون المجوز فيه ذلك لابد وأن يكون منقولا عنهم فالأصح من عدمه. واستدل المصنف عليه بقياس الخلف قال: "لو كان نقليا لتوقف أهل العربية عليه" يعني على النقل من الواضع، لئلا يلزم تحقيق المشروط مع عدم الشرط، لكنهم لا يتوقفون إذا وجدوا العلاقة استعملوه وإن لم ينقل. ولقائل أن يقول: قد تقدم أن المجاز بوضع ثان فلو لم يكن النقل شرطا لجاز أن يكون غير موضوع فما فرضناه مجازا هذا خلف. وإن ذهب إلى أن مستعمل المجاز هو واضعه فهو شيء لم يقل به أحد ومناقض للاختلاف في اشتراط النقل. واستدل -أيضا-: بأنه لو كان النقل في الآحاد شرطا لما احتاج المجوز إلى إظهار العلاقة؛ لأنه لجواز الاستعمال وجوازه حينئذ ثابت بالنقل، لكن لابد له من النظر فيها، فلم يكن النقل في الآحاد شرطا. وأجيب: أولا: بمنع انتفاء التالي؛ فإن الافتقار إلى النظر في العلاقة إنما هو للواضع عند وضع اللفظ للمفهوم المجازي لا للمستعمل وهذا فاسد؛ لأن النقل إذا لم يكن شرطا، والعلاقة بالنسبة إليه غير معتبرة، جاز أن يستعمل الأرض في

السماء مجازًا، وفيه هدم القواعد الثابتة المستقرة. وثانيا: بمنع صدق الملازمة بناء على عدم انحصار المقصود من النظر في العلاقة على جواز الاستعمال، لجواز أن يكون المقصود من النظر فيها استخراج حكمة الوضع للمفهوم المجازي دون جواز الاستعمال. ولقائل أن يقول: الحكمة إن كانت جواز الاستعمال لم يفد، والمجاز ممنوع. ص- قالوا: لو لم يكن لجاز "نخلة" لطويل غير إنسان، و"شبكة" للصيد، و"ابن" للأب، وبالعكس. (32/ب) وأجيب: بالمانع. قالوا: لو جاز لكان قياسيا أو اختراعا. وأجيب: باستقراء أن العلاقة مصححة، كرفع الفاعل. ش- شارطوا النقل قالوا: لو لم يكن النقل في الآحاد شرطا لجاز إطلاق النخلة على طويل غير إنسان، للمشابهة في الصورة، وإطلاق الشبكة على الصيد للمجاورة، وإطلاق الابن على الأب على ماكان عليه وإطلاق الأب على الابن باعتبار ما سيؤول إليه. واللوازم كلها باطلة بالاتفاق، فالملزوم وهو عدم اشتراط النقل كذلك. وأجيبوا: بمنع الملازمة، يعني لا نسلم أنه إذا لم يشترط النقل جاز الاستعمال في الصورة المذكورة، لجواز أن تكون خصوصية المحال مانعة عن جواز الاستعمال، أو أن يكون أهل اللغة نصوا على عدم جواز الاستعمال فيها فيكون تنصيصهم مانعا عن الجواز. أو أن الواضع لكم يكتف في هذه الصورة بمثل هذه العلاقة فيكون ذلك مانعا. ولقائل أن يقول: خصوصية المحل وغيرها إما أن تكون مانعة لمعنى يقتضي

ذلك، أولاً، والثاني تحكم، والأول لابد من بيانه ليصور فيتكلم عليه. وقالوا -أيضا-: (لو جاز) إطلاق اللفظ في الآحاد بلا نقل، لكان قياسا أو اختراعا؛ لأنه على المعنى المجازي، إن كان بسبب جامع بينه ومعنى مجازي آخر يكون ذلك السبب هو المجوز، لإطلاقه على الإنسان الطويل فهو قياس، وإلا فهو اختراع. وكلا اللازمين باطل لعدم جواز القياس في اللغة، وللخروج عن وضع اللغة في الاختراع. ولقائل أن يقول: القياس في اللغة مختلف فيه فلعله يلتزمه. وأما الاختراع في استعمال اللفظ مجازا بعلاقة فهو عين النزاع لا يوجد في الدليل. وأجيبوا: بأن القسمة غير حاصرة لجواز أن يكون قسما آخر، وهو ما دل عليه الاستقراء أن العلاقة مصححة كما في رفع الفاعل. وأن الاستقراء لما دل على أن كل فاعل مرفوع حكمنا بذلك مطلقا، ولم يكن ذلك لا قياسا ولا اختراعا. كذلك لما (استقرأنا) الألفاظ المجازية وجدناها مشتملة على العلاقة، فحكمنا مطلقا بأن العلاقة مصححة. ولقائل أن يقول: الصور المستقرة إما أن تكون منقولات فيثبت المدعى، أو

وجوه معرفة المجاز

غيرها فيعود الترديد جذعا ويلزم الإلزام. ص- وقالوا: يعرف المجاز بوجوه: بصحة النفي، كقولك للبليد: ليس بحمار، عكس الحقيقة؛ لامتناع "ليس بإنسان". وهو دور. وبأن يتبادر غيره، لولا القرينة، عكس الحقيقة. وأورد: المشترك. فإن أجيب: بأنه يتبادر غير معين، لزم أن يكون المعين مجازا. وبعدم اطراده، ولا عكس. وأورد:"السخي" و"الفاضل" لغير الله، و"القارورة" للزجاجة. فإن أجيب بالمانع فدور. وبجمعه (33/أ) على خلاف جمع الحقيقة "كأمور" جمع "أمر" الفعل وامتناع "اوامر" ولا عكس. وبالتزام تقييده، مثل: (جناح الذل) و (نار الحرب). وبتوقفه على المسمى الآخر مثل: "ومكروا ومكر الله". ش- الظاهر أن هذا قول شارطي النقل في الآحاد، وكأنهم توسموا أن يقال لهم قد يمتد الزمان ويعدم النقل وذلك يفضي إلى انتفاء المجاز، وما يفضي إلى ذلك فهو المنتقي. فتداركوا بقولهم: إن تعذر المعرفة بالنقل فثمة أمور تقوم مقامه منها: صحة النفي: إذا صح مدلول اللفظ الأصلي- عما أطلق عليه كان اللفظ

هناك مجازاً، كقولك (للبليد أنه) ليس بحمار. وقال الشارحون: إذا صح نفي اللفظ عما أطلق عليه كان مجاز وهو فاسد؛ فإن اللفظ لا يصح نفيه عن الإطلاق إلا إذا لم يكن علاقة معتبرة، وبين الحمار والبليد علاقة، فلا يصح نفي اللفظ عن الإطلاق عليه. ويتبين من هذا أن علامة الحقيقة عدم صحة نفي مدلول اللفظ الأصلي عما أطلق عليه؛ فإنه إذا أطلق الحمار على الحيوان المعهود لا يصح نفيه. وقد تقدم على مثله اعتراض إن كان على ذكر منك. قال المصنف: وهو دور، يعني أنه لا يصح معرفا للمجاز؛ لأن صحة النفي وامتناعه تتوقف على معرفة الحقيقة والمجاز، فلو عرفا بهما دار. ولقائل أن يقول: يجوز لهم أن يقولوا: نحن نعلم بيقين أن مدلول اللفظ ينفي عما أطلق عليه في صور دون أخر، ولم نعلم أن أيهما يحمل المجاز. فإذا قيل: الجاز ما يصح فيه النفي، حصل فيه نفيه ولم يدر. ومنها: أن يتبادر غيره لولا القرنية، وبيانه أن المتكلم إذا أطلق لفظا وأراد معنى، فإما أن يتبادر إلى فهم السامع ما أراده أو غيره، فإن كان الثاني فاللفظ فيه مجاز، وإن كان الأول فهو حقيقة مثلا إذا قال: جاءني أسد ولم يذكر قرينة وأراد به

الرجل الشجاع فإن إلى فهم السامع غيره لا محالة فكان مجازا، وإن أراد الهيكل المفترس لم يسبق إلى فهمه غيره فكان حقيقة. وقيل: قوله:"عكس الحقيقة" يستغنى عنه؛ لأنه في بيان المجاز، ولعله ذكره تمهيدا للإيراد الذي أورده ومع ذلك كان تركه أولى تفاديا عن احتياجه إلى الجواب عنه. وتقرير الإيراد: أن التعريف المذكور للحقيقة غير منعكس؛ لأن اللفظ المشترك إذا أطلق وأريد أحد المعاني بدون قرينة فربما يسبق إلى ذهن السامع معناه الآخر مع كونه حقيقة في كل من مدلولاته ولا يكاد الجواب يتم؛ لأن المجيب إن التزم أن المشترك موضوع لكل واحد من معانيه فهو حقيقة، فليس له جواب عن هذا السؤال. وإن التزم ما ذهب إليه بعض من أن المشترك حقيقة بالنسبة إلى أحد مفهوميه لا على التعيين، فلا يتبادر إلى الفهم إلا أحدهما لا على التعيين عند الاطلاق بدون القرنية لزم محذور آخر، وهو: أن يكون المشترك (33/ب) في كل من المعنيين مجازا، وحاصله أن تبادر المراد إلى الفهم لا يصح أن يكون؛ لأنه قد يتبادر إليه غيره وهو حقيقة، أي علامة للحقيقة. ولقائل أن يقول: يجوز أن يلتزم صاحب هذا الرأي أن المشترك مجاز في كل من المعنيين فإنه إن لم يلتزم ذلك لم يتم له الجواب؛ لأنه إذا أطلق المتكلم المشترك وأراد أحد المعاني وتبادر إلى ذهن السامع أحدهما لا على التعيين صدق عليه أنه تبادر إليه غير المدلول؛ لأن أحدهما لا بعينه غير كل من المعيين فيعود السؤال، وكان الحق على المصنف أن لا يذكر قوله:"عكس الحقيقة"، لئلا يرد عليه النقيض بالمشترك. فإن قيل: النقض وارد على المجاز -أيضا؛ فإن المتكلم إذا أراد أحد معاني المشترك جاز أن يسبق إلى ذهن السامع المعنى الآخر، فيكون مجازا في الأول، وليس كذلك.

فالجواب: أن علامة المجاز أن يتبادر غير المدلول إلى الفهم البتة، وفي المشترك جاز أن يتبادر المدلول وأن يتبادر غيره فلا يكون واردا. ومنها: عدم اطراده، على معنى أن اللفظ إذا أطلق على معنى لمعنى ولم يكن جاريا في كل ما فيه ذلك المعنى، كان ذلك دليلا على كون اللفظ مجازا، كإطلاق النخلة على الإنسان الطويل؛ فإنه ليس بجار في المنارة وغيرها من الطوال. وقوله:"ولا عكس" يمكن أن يكون معناه: ولا عكس لهذه العلامة على معنى أنه لا يلزم من وجود المجاز عدم الاطراد؛ فإنه قد يطرد كما في إطلاق الكل على الجزء. وأن يكون، لا يكون اطراد اللفظ في نظائره علامة الحقيقة. فإنه قد يرد المجاز كما ذكرنا، وعلى كل واحد من المعنيين يستغنى عنه. وأورد"بالسخي" و"الفاضل" لغير الله، و"القارورة" للزجاجة؛ فإنها حقيقة في الكريم والعالم. والوعاء المخصوص مع عدم الاطراد فإنه لا يجوز إطلاق الأولين على الله -تعالى- مع أنه كريم وعالم وإطلاق الثالث على غير الزجاجة ما يقر فيه المائع فلا يكون مطردا فإن أجيب بأن عدم الاطراد دليل المجاز إذا لم يمنع مانع لغوي أو عرفي أو شرعي، وأما إذا منع مانع فلا يكون دليلا كما في الصورة المذكورة، فإن الشرع منع إطلاق السخي والفاضل على الله حيث كان أسماء الله توقيفية، واللغة عن إطلاق القارورة على غير الزجاجة، لزم الدور، لتوقف معرفة المجاز على عدم الطرد وتوقف عدم الطرد على معرفة المجاز، وبيانه أن عدم الطرد لموجب ليس الشرع واللغة بالفرض، ولا العقل قطعا، فتعين أن يكون كونه

مجازاً واقتصاره على شق الترديد يشير إلى أن النقض وارد لا جواب له. ومنها: اختلاف الجمع على معنى أن اللفظ إذا كان له جمع باعتبار المفهوم الحقيقي، وقد جمع باعتبار مدلول آخر على خلاف الأول كان اللفظ بالنسبة إلى المدلول الآخر مجازاً، كالأمر، فإن جمعه باعتبار مفهومه الحقيقي وهو قول القائل لغيره على سبيل الاستعلاء [34/أ] افعل على أوامر، وقد جمع باعتبار مفهومه المجازي وهو {{الفعل}} عل أمور وامتنع جمعه بالمعنى الثاني على أوامر. وقوله: {{ولا عكس}}، أي لهذا التعريف؛ فإن الاختلاف قد ينتفي والمجاز باقٍ، فإن أسداً يجمع على أُسْدٍ أُريد به الشجعان، أو الضراغم. ولقائل أن يقول: كون الأمر حقيقة في القول مجازاً في الفعل ليس أولى من العكس لغة. ومنها التزام تقييده، على معنى أن اللفظ لا يطلق على مدلوله إلا مقيداً مثل: جناح الذل، ونار الحرب؛ فإن ذلك يدل على كونه مجازاً عُلِمَ ذلك بالاستقراء أن اللفظ يستعمل في معناه الوضعي مطلقاً وفي غيره مقيداً، وإنما قال: بالتزام تقييده

اللفظ قبل الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز

دون تقييده؛ لأن المشترك قد يقيد في بعض الصور، لكن ذلك ليس بملتزم فيه. ومنها: توقفه على المسمى الآخر، وهو المسمى في علم البديع بالمشاكلة، وهو: أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته كما في قوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}، فإنه توقف إطلاق المكر على ما للخالق على إطلاقه على ما للخلق ففي الأول مجاز، وفي الثاني حقيقة. ص ــــ واللفظ قبل الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز. وفي استلزام المجاز الحقيقة خلاف بخلاف العكس. الملزِم: لو لم يستلزم لعري الوضع عن الفائدة. النافي: لو استلزم لكان لنحو {{قامت الحرب على ساق}} و {{شابت لمة الليل}} حقيقة. وهو مشترك الإلزام، للزوم الوضع. والحق أن المجاز في المفرد، ولا مجاز في التركيب. وقول عبد القاهر في نحو: {{أحياني اكتحالي بطلعتك}} إن المجاز في الإسناد، بعيد؛ لاتحاد جهته. ولو قيل: لو استلزم لكان للفظ {{الرحمن}} حقيقة، ولنحو {{عسى}} كان قوياً.

ش ــــ لاشك أن الاستعمال داخل في حقيقة الحقيقة والمجاز فإذا وضع اللفظ ولم يستعمل لا يوصف بشيء منهما؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء جزئه ولا خلاف؛ لأجل أن الحقيقة لا تستلزم مجازاً. وأما أن المجاز يستلزم الحقيقة أو لا، ففيه خلاف. فمن التزم ذلك قال: لو لم يستلزمها لعرى الوضع عن الفائدة؛ لأن فائدته استعماله فيه وعراء الوضع الأول عنها يفضي إلى كونه عبثاً، وهو باطل. واقتصر عن الجواب لظهوره؛ فإن فائدته يجوز أن تكون استعماله في المعنى المجازي فلا تثبت الملازمة.

ولقائل أن يقول: لا نسلم جواز أن تكون الفائدة من الوضع الأول استعماله في المعنى المجازي؛ لأن الوضع المجازي بوضع ثان، فإن كان استعماله في المعنى المجازي فائدة الوضع الأول كان الوضع الثاني عبثاً، وإن كان فائدة الوضع الثاني كان الأول عبثاً وليس منع صاحب هذا الرأي كون المجاز بوضع ثان ليلزمن [با] لوجوب أن يضع الواضع اللفظ لما ترتب عليه الفائدةبلا وسط فكان فيه حقيقة. لا يقال: جاز أنه لاحظ احتياجه {{عسى}} إلى استعماله فيما وضع له حقيقة [34/ب] بعد استعماله في المجاز، لإمكان حصول غرضه باستعماله إذ ذاك في الأول مجازاً. وقال النافي: لو استلزمها لكان لنحو: {{قامت الحرب على ساق}} و {{شابت لمة الليل}} حقيقة، لكونها مجازات فيما استعملت فيه، لكنها لم تستعمل في غيرها. قال المصنف: {{وهو مشترك الإلزام، للزوم الوضع}} بأن يقال المجاز يستلزم الوضع الأول بلا خلاف. فلو كان هذا الدليل صحيحاً لزم أن تكون هذه الألفاظ موضوعة لشيء خلاف ما استعملت فيه لاستلزام المجاز الوضع، وليست بموضوعة لشيء غير ما استعملت فيه. ولقائل أن يقول: استعمال هذه الألفاظ في المعاني المرادة منها ثابت، أو لا. فإن كان الثاني فلا نقض، وإن كان الأول وبالضرورة يستلزم الوضع، كان لها موضوعات وإن لم نعلمها، وعدم العلم بالشيء لا يستلزم عدمه في نفسه. ثم أراد المصنف إبطال دليل هذا المذهب بالتفصيل فقال: {{والحق أن المجاز في المفرد}}،

وقوع المجاز في التركيب

وتقريره: قولكم لو استلزم المجاز الحقيقة، لكان لنحو {{قامت الحرب على ساق}} حقيقة أردتم به أنه لا بد أن يكون لمفرداتها حقيقة أو للمركب، والأول مسلم، ولا يلزم انتفاء التالي؛ لأن القيام موضوع أولاً لهيئة مخصوصة واللّمَّةُ موضوعة للشعر المجاوز لشحمة الأذن. والشيب لبياض الشعر. فهي مستعملة فيما وضعت له أولاً، فهي حقائقها. والثاني، إنما يلزم أن لو كان المجاز واقعاً في التركيب وهو ممنوع فإن قيل: قال عبد القاهر الجرجاني؛ إن المجاز في نحو {{أحياني اكتحالي بطلعتك}} واقع في الإسناد، وهو ذلك الإمام، فكان المنع غير موجه. أجاب المصنف بقوله: {{بعيد}} يعني عن الصواب، لاتحاد جهته؛ أي جهة الإسناد، كأنه يروم أن يقول: المجاز يستعمل فيما إذا كان ثمة جهتان إحداهما جهة الحقيقة والأخرى جهة المجاز، كما في {{الأسد}} والإسناد ليس له ذلك؛ لأنه لم ينقل أن هذا التركيب وضع أولاً لمعنى ثم نقل إلى هذه المعاني لمناسبته. وهذا الكلام يشعر بعدم اطلاع المصنف على أوضاع علم المعاني فإن الإسناد على قسمين: إسناد إلى ما هو له، وإسناد إلى ما يلابسه. وقولنا: طلعت الشمس ومات زيد، ولا مجاز في المفردين مع كونه مجازاً يُبْلغُ الشك فيه من أصله.

وقال: ولو قيل [لو] استلزم لكان للفظ {{الرحمن}} حقيقة، وكأنه انتصار للنافي، وتقريره: أن لفظ {{الرحمن}} لم يستعمل في الله ـــــ تعالى ـــــ إلا مجازاً لأنه مشتق من الرحمة، وهي رقة القلب حقيقة، وليس له حقيقة؛ لأنه لم يستعمل في غيره. وكذا نحو {{عسى}} فعل بإجماع النحاة، وليس فيه دلالة على الزمان فيكون إطلاق الفعل عليه مجازاً ولا حقيقة له. فيقال: لو كان المجاز يستلزم حقيقة كان لها حقيقة؛ لأن المفروض الاستلزام، لكنه ليس كذلك. وقوله: {{كان قوياً}} جواب قوله: {{ولو قيل}}،وبيان قوته أنه لا يلزم اشتراك الإلزام ضرورة تحقق الوضع الأول فيهما، ولا يمكن منع استعمالهما في مفهوميهما بطريق المجاز. ولقائل أن يقول: {{الرحمن}} لم يستعمل في غير الله مطلقاً أو لغير مانع من الشرع أو العرف، والأول ممنوع لقولهم: رحمان اليمامة لمسيلمة. ولقول

مسألة: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك

الشاعر: {{وأنت غيث الورى لا زلت رحماناً}}. والثاني، مسلم؛ فإن إطلاقهم ذلك تعنت منهم في الكفر، لكن صاحب هذا الرأي لم يلتزم أن المجاز يستلزم حقيقة غير مهجورة. ص ــــ مسألة: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك فالمجاز أقرب لأن الاشتراك يخل بالتفاهم، ويؤدي إلى مستبعدٍ من ضد أو نقيض، ويحتاج إلى قرينتين. ولأن المجاز [أغلب]، ويكون أبلغ، وأوجز، وأوفق، ويتوصل به إلى السجع والمقابلة، [والمطابقة]، والمجانسة، والروي. وعورض بترجيح الاشتراك باطراده، فلا يضطرب. وبالاشتقاق فيتسع. وبصحة المجاز فيهما، فتكثر الفائدة. وباستغنائه عن العلاقة، وعن الحقيقة، وعن مخالفة الظاهر، وعن الغلط عند عدم القرينة.

وما ذكروا أنه أبلغ، فمشترك فيهما، والحق أنه لا يقابل الأغلب شيء [مما ذكرنا]. ش ــــ لا شك أن الاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فإذا تعارضا بأن يكون اللفظ حقيقة باعتبار أحد مدلوليه يتردد الذهن في كونه حقيقة في الآخر فيكون مشتركاً أو غير حقيقة فيكون مجازاً، فالحمل على المجاز أقرب بوجوه، بعضها باعتبار مفاسد الاشتراك، وبعضها باعتبار خواص المجاز وبدأ المصنف ببيان المفاسد تقديماً للأهم، فمن ذلك ما قال: {{لأن الاشتراك يخل بالتفاهم}} وذلك أنه إذا تجرد عن القرينة لم يتعين المراد به فيختل الفهم، بخلاف المجاز فإنه إذا تجرد الكلام عن القرينة فيه يفهم المعنى الحقيقي، وإذا وجد القرينة يفهم المجازي، فلا اختلال ثمة أصلاً. ولقائل أن يقول: قد يكون مراد المتكلم الإجمال، فيكون الاشتراك مفيداً للمقصود بغير اختلال، واستعمال المجاز فيه مخلاً. ومنها: أن الاشتراك قد يؤدي إلى مستبعد من ضدٍ أو نقيض؛ فإن اللفظ قد يكون مشتركاً بين الضدين كما تقدم، وبين النقيضين كلفظ {{النقيض}} المشترك بين كل واحد من طرفي الإيجاب والسلب إن لم نقل إنه موضوع للقدر المشترك بينهما

فيتفاقم الشر حيث لا يكفي أنه لم يفهم المقصود بل فهم ضده أو نقيضه، بخلاف المجاز فإنه إذا حمل عليه كان حملاً على ما يناسب الحقيقة. لا يقال المناسبة قد تكون الضدية ويشترك الإلزام بالإفضاء إلى المستبعد. لأنا نقول: الافضاء هناك باعتبار المناسبة، بخلاف المشترك فإن المناسبة بين المعاني فيه ليست بمعتبرة. ولقائل أن يقول: هذا ليس بصحيح؛ لأن المفهوم من المشترك عند عدم القرينة أحد المعاني لا على التعيين، وهو ليس بضد ولا نقيض. ومنها: أن المشترك يحتاج إلى تعدد القرينة [35/ب] باعتبار تعدد مدلولاته. كالعين مثلاً، فإن القرينة المعينة للباصرة وغيرها للجارية وكذا لغيرهما. وأما المجاز فإنه يحتاج إلى قرينة واحدة؛ لأن الحقيقة لا تحتاج إليها. ولقائل أن يقول: عموم المشترك واجب عندكم أو جائز، فإذا أريد به المعنيان لا يحتاج إلى قرينة أصلاً، فكان غير محتاج إلى القرينة تارة، ومحتاج إلى تعددها أخرى. والمجاز محتاج إليها بالضرورة دائماً فتعارضا. وأن يقول: ليس البتة أن يكون المجاز واحداً ليس إلا، بل وجاز أن يكون متعدداً إذ لامتناع أن يكون للمفهوم الحقيقي مناسبات بأمور يصلح كل منها أن يكون مجازاً، وكل منها محتاج إلى قرينة كالمشترك لا محالة. وأما الوجوه المتعلقة بخواص المجاز فمنها: أن المجاز

أغلب، أي أكثر وقوعاً في اللغة، والأكثر أرجح، وهذا يؤخذ بطريق التسليم لا غير؛ فإن منكري المجاز يحملون الصور المجازية كلها على أنها مشتركة بالاشتراك اللفظي. ومنها: أن أبلغ؛ أي أدل على تمام المقصود، فإن قولنا: {{زيد أسد}} أتم دلالة على شجاعته من قولنا: زيد شجاع، وذلك لأن الأسد ملزوم الشجاعة، والملزوم لا يتحقق بدون لازمه، فكان المجاز كدعوى الشيء ببينة. ولقائل أن يقول: هذا مرمى صحيح في الخطابيات، وأما في الجدليات فممنوع، وما نحن فيه ليس من الأولى. ومنها: أن لفظ المجاز قد يكون أوجز؛ لأن قولنا: {{رأيت أسداً}} قائم مقام {{رجلاً شجاعاً}} وفيه نظر؛ لأن {{أسداً}} قائم مقام {{شجاعاً}} لا {{رجلاً شجاعاً}}، وكون الصفة لا تستغني عن موصوف فذاك من مأخذٍ آخر. ومنها: أنه أوفق للطباع كالتعبير عن النيك بالوطء والجماع. وفيه نظر؛ لأنه يختلف باختلاف السامع والزمان والمكان. ومنها: أن المجاز يتوصل به إلى السجع وغيره كما تقدم في الترادف وقد اختلف كلام الشارحين على كلام المصنف باعتبار اختلاف وقع في النسخ؛ فإن منهم من نقل هذا.

{{ولأن المجاز أغلب فيكون أبلغ}} وقال: {{الفاء}} للسببية، وجعل ما بعد {{الفاء}} إلى آخره أسباباً لغلبة المجاز. وهو فاسد؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون ما قبلها سبباً لما بعدها، وعلى ما ذكر الأمر بالعكس. ومنهم: من نقل {{بالواو}} وجعل كل واحدٍ مما ذكر بعده وجهاً مستقلاً لأولوية المجاز، وذلك يقتضي أن يكون قوله: {{ويكون}} مستدركاً وسنبين له فائدة. وقوله: {{وعورض}} يعني عورض الوجوه الدالة على ترجيح المجاز بوجوده دالة على ترجيح الاشتراك. فمنها: ما قال باطراده فلا يضطرب، يعني أن المشترك حقيقة، وكل حقيقة مطرد يجوز استعماله في جميع نظائره، كما تقدم أن النخل يجوز استعماله في جميع المفردات، وأما إذا أُريد به الرجل الطويل فإنه لا يجوز استعماله في المنارة، وما يكون مطرداً لا يضطرب، وما لم يضطرب فهو أولي. ولقائل أن يقول: إنه دورٌ؛ لأن الحقيقة تعلم بالاطراد، لأنه من علاماتها كما تقدم، والاطراد إنما يعلم إذا كانت حقيقة. ومنها: الاشتقاق يعني أن المشترك حقيقة والاشتقاق من خواصها، وأنه

يتسع [36/أ] لتكثر المشتقات والمتسع أولى. أما أن المشترك حقيقة فظاهر، وأما أن الاشتقاق من خواصها فبالاستقراء. ومثل للتوضيح {{بالأمر}}، فإنه بالنسبة إلى مفهومه [المجازي] الحقيقي يشتق له الماضي، والأمر والنهي وغير ذلك مما يتعلق بالاشتقاق الصغير. وأما بالنسبة إلى مفهومه المجازي وهو {{الفعل}}، فإنه لا يقال: أمر بمعنى {{فعل}}، وكذلك غيره. وأما أن الاتساع أولى فلتكثر الفائدة. وفيه نظر؛ لأن الاشتقاق إما أن يكون من خواص الحقيقة مطلقاً، أو من خواصها غير مشتركة والأول ممنوع، والمثال لغير المشترك، والثاني مسلم ولا يفيده. ومنها: أن المشترك يصح فيه التجوز باعتبار كل من مدلولاته فتكثر الفائدة بكثرة المجازات، بخلاف المجاز فإنه لا يصح التجوز فيه إلا من حقيقة واحدة، وما به تكثر الفائدة أولى. ولقائل أن يقول: هذا الوجه يدل على أن أولويته باعتبار كثرة المجاز فكان المجاز جزء علتها، والعلة أشرف من المعلول كما عُرِفَ في موضعه. ومنها: أن المشترك يستغنى عن العلاقة؛ لأن مدلولاته حقائق بخلاف المجاز، والمستغنى أولى. ولقائل أن يقول: هذا الوجه مشترك الإلزام؛ لأنه قد عُلِمَ ان العلاقة تستلزم المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي، وليست في المشترك، والمناسب أولى.

ومنها: أن الاشتراك لا يفتقر إلى حقيقة، والمجاز يفتقر إليها على رأي كما تقدم، وغير المفتقر أولى. وهذا كلام غير محصل؛ لأن مآله الحقيقة لا تفتقر إلى الحقيقة. ومنها: أن الاشتراك يستغني عن مخالفة الظاهر؛ لأن استعمال المشترك في مدلولاته استعمال اللفظ فيما وضع له فليس فيه خلاف الظاهر، بخلاف المجاز فإ [ن] استعماله في غير ما وضع له، وهو خلاف الظاهر، وهذا إنما يستقيم على رأي من لا يوجب عموم المشترك أو يجوزه، وغيره يستعمله في غير ما وضع له، وهو خلاف الظاهر. ومنها: أن المشترك إذا عرى عن قرينة لم يحمل على واحدٍ من مدلولاته فلا يقع فيه غلط، بخلاف المجاز عند عدم القرينة، فإنه يحمل على مفهومه الحقيقي ويحتمل الغلط، لجواز أن لا يكون مراد المتكلم. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن المشترك لا يقع فيه غلط، فإنه عند عدم القرينة يفهم منه واحد لا بعينه، ويجوز أن يكون مراد المتكلم أحد المعاني بعينه فكان غيره غلطاً. ثم قال المصنف: {{وما ذكر أن أبلغ}}، يعني ما ذكر أن المجاز أبلغ إلى آخر ما ذكر مما يتعلق بالبلاغة كالسجع والمقابلة والمطابقة والروي، مشترك بين المشترك والمجاز؛ لأن المجاز بلاغته من حيث أنه دعوى الشيء ببينةٍ، كما

تقدم. والمشترك له بلاغة بعد البيان من حيث الإجمال والتفصيل فكانا فيما يتعلق بالبلاغة متساويين، ولكن الحق أن الوجوه الدالة على ترجيح المشترك لا يقابل شيء منها كون المجاز أغلب وقد تقدم [36/ب] الكلام عليه، وهذا البيان يبين لك ما وعد لك من فائدة ذكر، {{ويكون}} في قوله: {{ويكون أبلغ}}. ولقائل أن يقول: هذه الوجوه المذكورة في ترجيح المجاز والمشترك مبنية على وقوع التعارض بين كون اللفظ مشتركاً أو مجازاً، وذلك فاسدٌ لا تحقق له والبناء على الفاسد فاسدٌ، وذلك لأن ذلك لا يتحقق إلا إذا تعدد المدلول ولا قرينة، وحينئذٍ إن تردد الذهن كان مشتركاً ليس إلا، وإن سبق إلى خلاف المراد كان مجازاً ليس إلا. لا يقال القسمة غير حاصرة لجواز أن يسبق إلى المراد، لأ [ن] ذلك إنما يكون عند إرادة الحقيقة فليست من ذلك، أو عند القرينة والفرض عدمها.

في وقوع الحقائق الشرعية

في وقوع الحقائق الشرعية ص ــــ مسألة: الشرعية واقعة خلافاً للقاضي، وأثبتت المعتزلة [الد] ينية أيضاً. لنا: القطع بالاستقراء أن الصلاة للركعات، والزكاة والصيام والحج كذلك، وهي في اللغة: الدعاء، والنماء، والإمساك مطلقاً، والقصد مطلقاً. قولهم: باقية والزيادات شروط. رُدّ: بأن في الصلاة، وهو غير داعٍ ولا متبع. قولهم: مجاز. إن أريد به استعمال الشارع لها فهو المدعى. وإن أريد أهل اللغة فخلاف الظاهر؛ لأنهم لم يعرفوها؛ ولأنها تفهم بغير قرينة. ش ــــ اختلف [العلماء] في ان الحقائق الشرعية واقعة أو لا، فمنعه القاضي

وأجازه غيره واختاره المصنف. والمعتزلة قسمتها إلى دينية وغيرها. ولما كان الوقوع دليل الجواز اكتفى المصنف بذكره. والخلاف مفروض فيما استعمله الشارع من الأسماء اللغوية المناسبة كلفظ الصلاة والصوم والحج وغيرها. واما ما وضعه الشرع مخترعاً من غير نقل من اللغة لعلاقة كلام فيه. قال القاضي: تلك الألفاظ مستعملة في المعاني اللغوية، والزيادات التي في المعاني الشرعية شروط زيدت على المعاني اللغوية لجواز إطلاقها على الشرعية، فإن إطلاقها عليها بدون هذه الزيادات غير مجزئة. ومن الناس من ذهب إلى أنها مجازات لغوية لم تبلغ رتبة الحقائق.

والمعتزلة قالوا: الأسماء الشرعية إن كانت في الأفعال كالصلاة والصوم، والزكاة، والحج تسمي شرعية غير دينية. وإن كانت في المشتقات كالمؤمن، والفاسق، والكافر تسمى دينية، واستدل المصنف على ما اختاره بقوله: {{لنا}} القطع بالاستقراء أن الصلاة في الشرع موضوعة للأفعال المخصوصة وهي في اللغة للدعاء، والزكاة للمقدار المعين المخرج من نصاب حولي، وهي فيها للنماء. والصيام: للإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهاراً مع النية، وهي فيها للإمساك مطلقاً. والحج: للقصد إلى زيارة أماكن معلومة في أوقات مخصوصة، وهي فيها لمطلق القصد. وقد استعملها الشرع [فيما] وضعت له بطريق الحقيقة؛ لأنها تسبق إلى الذهن عند الإطلاق بلا قرينة وما كان كذلك فهو

حقيقة. قيل: إنما لم يقتصر المصنف على [37/أ] تقييد القصد بالمطلق بل قيد الإمساك ـــــ أيضاً ـــــ به، لئلا يتوهم رجوع {{مطلقاً}} إلى كل واحد مما قبله أو إلى الأخير فقط وهما غير مرادين. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق بلا قرينة يكون حقيقة، لم لا يجوز أن يكون مجازاً هجرت حقيقته بالشرع فإنه لا يحتاج حينئذٍ إلى القرينة كالذي هجر حقيقته عرفاً، كما إذا حلف لا يأكل رأساً فإنه لا يحنث بأكل رأس العصفور والجراد وإن كان حقيقة. وقوله: {{قولهم، باقية والزيادات شروط}} إيراد مناقضة من المانعين للدليل المذكور على الوجه الذي ذكر في أول البحث. وقوله: {{رُدّ}} خبر قوله: {{قولهم}} وهو جواب هذه المناقضة. وتقريره: لو كانت هذه الألفاظ في الشرع مستعملة في مفهوماتها اللغوية لما استعملت في صورٍ لم تتحقق فيها، لكنها استعملت في صلاة الأخرس المنفرد، وليس فيها دعاء ولا اتباع، وليس معناها لغة إلا الدعاء والاتباع. ولقائل أن يقول: هذا مشترك الإلزام؛ لأن الخلاف في ألفاظ منقولة عن المعاني اللغوية إلى الشرعية لمناسبة بينهما. فيقال: لو كانت هذه الألفاظ مستعملة في الحقائق الشرعية المناسبة لما جاز

استعمالها فيما لا يوجد فيه المناسبة كصلاة المنفرد الأمي. وقوله: {{قولهم، مجاز}} إيراد مناقضة أخرى، وكأنها من جهة من يرى أنها مجازات لم تبلغ رتبة الحقائق كما مر. وتقريرها: لا نسلم أنها في معانيها الشرعية مستعملة بطريق الحقيقة لم لا يجوز أن يكون بطريق المجاز لتحقق العلاقة بين المفهومات فإن الصلاة للدعاء، وهي جزء الأفعال المخصوصة، وكذلك غيرها وتسمية الكل باسم الجزء مجاز، وتقرير الجواب من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن أريد بكون هذه الألفاظ مجازات أن الشارع استعملها في غير موضوعاتها اللغوية، وغلب استعمالها فيها فهو المدعى لأنا لا نريد من الحقائق الشرعية إلا منقولات استعملها الشارع في معان غير الأول، وذلك حاصل إن شئتم وافقونا في التسمية أو لا وإن أريد بذلك أن أهل اللغة قد استعملوها في هذه المعاني فليس بصحيح؛ لأنهم لم يعرفوا هذه المعاني قبل الشرع فكيف استعملوها لها؛ فإن استعمال اللفظ في معنى مسبوق بعلمه. ولقائل أن يقول: دعوى الخصم: {{أنها موضوعات لغوية استعملت في غير موضوعاتها}} وهب أن المستعمل هو الشرع، لكن إنما تكون حقائق شرعية إذا كان هو الواضع والمستعمل ليكون تخاطباً آخر والخصم لا يلتزم أن الشرع وضعه، فكيف يكون مراده عين المدعى؟ والثاني: أن استعمال هذه الألفاظ لهذه المعاني لا يجوز أن يكون بطريق المجاز؛ لأنها تفهم عند الانطلاق بلا قرينة.

والمجاز لا يفهم بدونها. وفيه نظر من وجهين [37/ب]: أحدهما: ما ذكرنا أن حقائقها مهجورة، ومثله لا يحتاج إلى قرينة، ونزيده بياناً، وهو أن الكلام إنما وضع لاستعمال الناس في حاجاتهم للإفهام، والمطلوب به ما يسبق إليه الافهام، فإذا تعارف الناس استعماله للشيء بطريق المجاز صار المجاز بسبب استعمالهم كالحقيقة لا يحتاج إلى قرينة. والثاني: أن قوله: {{لأنها تفهم بغير قرينة}}، معناه أنه لا يجوز أن يكون مجازاً، فيقال: لا يجوز أن يكون مجازاً شرعياً أو لغوياً، فإن أريد الأول كان الدليل صحيحاً، لكن الخصم لم يقل إنها مجازات شرعية، وإن أريد الثاني، كان الدليل غير صحيح؛ لأن اللغوي قد لا يفهم تلك المعاني إلا بقرينة. ص ــــ القاضي: لو كانت كذلك، لفهمها المكلف. ولو فهمها لنقل لأنا مكلفون مثلهم. والآحاد لا تفيد، ولا تواتر. والجواب: أنها فهمت بالتفهيم بالقرائن، كالأطفال. قالوا: لو كانت لكانت غير عربية؛ لأنهم لم يضعوها. وأما الثانية: فلأنه يلزم أن لا يكون القرآن عربياً. وأجيب: بأنها عربية بوضع الشارع لها مجازاً. أو {{أنزلناه}} ضمير السورة، ويصح إطلاق اسم القرآن عليها، كالماء والعسل، بخلاف نحو المائة والرغيف. ولو سُلم فيصح إطلاق اسم العربي على ما غالبه عربي، كشعر فيه فارسية [و] عربية. ش ــــ استدل القاضي على أن هذه الألفاظ ليست حقائق شرعية: بأنها لو

كانت كذلك لزم تفهيم الشارع المكلفين بها تحقيقاً لموجبها ولم يفهم إذ لو فهمهم لنقل إلينا نقلاً يفهم به مراد الشارع لأنا مكلفون مثلهم، والتكليف يوجبه، والنقل بالآحاد غير مفيد لأنها ليست بقطعية، والتواتر غير موجود وإلا لم يقع النزاع. ولقائل أن يقول: ما المراد بالتفهيم تفهيم كونها موضوعة للمعاني الشرعية بوضع الشارع ومستعملة فيها، أو تفهيم المراد بها؟ فإن أريد الأول، فلا نسلم أنه لا بد له منه بل يكفي فهم مراده، وإن أريد الثاني، فلا نسلم أنه [لو] لم يفهمه، بل فهمه بالقول، كما في حديث الأعرابي، وبفعله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وقوله، والآحاد لا يفيد ممنوع؛ فإنها لا تفيد إذا كانت المسألة قطعية

وليس ما نحن فيه كذلك، ولئن سُلم فإنما لا يفيد إذا لم يقع بياناً لمجمل الكتاب، وههنا وقعت بياناً لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. وقوله: {{الجواب}} جواب النقض بمنع الملازمة الثانية، أي لا نسلم أنها لو فهمها الشارع المكلفين لنقل إلينا، لجواز أن يكون تفهيمه إياهم بالقرائن، كالوالدين مع الأطفال، وإذا جاز ذلك لا يلزم النقل، لجواز أن يفهم ـــــ أيضاً ـــــ بالقرائن من غير نقل. ولقائل أن يقول: الفهم الحاصل بالقرائن للمكلفين غير حاصل لنا لأنا لم نشاهدها، والعمل بهذه الألفاظ واجب البتة، فإما أن يكون ذلك بنقل أنهم [38/أ] فهموا بالقرائن، أو لا. والثاني يفضي إلى انتفاء العمل الواجب، والأول، إن كان بالآحاد فلا يفيد، وإن كان بالقرائن فلم يوجد والعجب أن الخصم لا يجوز أن تكون الآحاد مفيدة، فيجاب بقرائن كقرائن الوالدين مع الأطفال. وقوله: {{لو كانت لكانت}} دليل آخر على أنها ليست حقائق شرعية؛ لأنها لو كانت لكانت غير عربية، لأن العربية هي التي وضعته العرب، وهذه ليست كذلك، حيث لم يضعوها لهذه المعاني، لكنها عربية لاشتمال القرآن العربي عليها، والمشتمل على العربي وغير العربي غير عربي، فلا بد أن تكون حقائق لغوية لا شرعية. ولقائل أن يقول: إذا كان الواضع هو الله فهو واضع الحقائق الشرعية كما أنه

واضع الحقائق اللغوية، فكما جاز أن توصف اللغوية بالعربية جاز وصف الشرعية بها. وأجاب المصنف بوجهين: أحدهما: منع الملازمة، أي لا نسلم أنها لو كانت حقائق شرعية كانت غير عربية؛ لأن العربي ليس هو الذي يفيد ما وضعه واضع اللغة، بل هو الذي يفيد معناه على طريقة العرب من حقيقة ومجاز وهذه الألفاظ كذلك؛ لأن الشارع وضعها لمحل المجاز اللغوي فتكون مجازات لغوية صارت حقائق شرعية بحسب الشهرة، فلم تخرج عن كونها عربية. ولقائل أن يقول: سلمنا أن طريقة العرب إفادة المعني بحسب الحقيقة أو المجاز، لكن هل يشترط اتحاد المستعمل في التخاطب، أو لا؟ والأول، مسلم ونصره، والثاني، ممنوع. وثانيهما: منع بطلان التالي بأن يقال: لا نسلم أن هذه الألفاظ عربية واشتمال القرآن عليها لا ينافي عربيته؛ لأن المراد بكونه عربياً أكثره، والضمير في قوله: {إِنَّا أَنزَلنَاهُقُرآنًا عَرَبِيّا} للسورة، فلا يستلزم الكل، والمشتمل على العربي وغيره قرآن تسمية باسم الأغلب. فإن قيل: القرآن اسم للكل فكيف يرجع الضمير إلى البعض؟ أجاب المصنف: بأنه من باب ما يشترك القليل والكثير منه في الاسم والرسم، كالماء والعسل، وغيرهما بخلاف المائة والرغيف، فإن كلاً منهما اسم للمجموع فلا يصح إطلاقه على الجزء.

وقوله: {{ولو سلم}} يعني لو سلم أن القرآن اسم للمجموع كالمائة والرغيف، لكن يصح إطلاق العربي على ما غالبه عربي كشعر فيه ألفاظ فارسية وغالبه عربية جاز إطلاق العربي عليه. وبالعكس. وهو تفسير ما ذكرنا أن المشتمل على العربي وغيره قرآن. والحاصل أن إطلاق القرآن على بعضه بطريق الحقيقة إن كان كالماء، وبطريق المجاز إن كان المائة وكلاهما صحيح. ولقائل أن يقول: التزام أن هذه الألفاظ الشرعية غير عربية مع أنها لا توجد في كلام غير العرب، ولا يفهمها من لا يعرف لسانهم إضافة وصف إلى ما يقتضي خلافه، وهو فساد الوضع.

الإيمان والإسلام

الإيمان والإسلام ص ــــ المعتزلة: الإيمان؛ التصديق. وفي الشرع: العبادات، لأنها الدين المعتبر. والدين: الإسلام، والإسلام: الإيمان. بدليل {ومن يبتغ} فثبت أن الإيمان: العبادات. وقال: [38/ب] {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} إلى آخرها. وعورض بقوله: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}. قالوا: لو لم يكن لكان قاطع الطريق مؤمناً، وليس بمؤمن، لأنه مخزي، بدليل {من تدخل النار فقد أخزيته}، والمؤمن لا يُخزى بدليل: {يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه}. وأجيب: بأنه للصحابة، أو مستأنف. ش ــــ استدل المعتزلة على أن الأسماء الدينية موضوعات مبتدأه لا تعلق لها بالمفهومات اللغوية. وتقريره: أن الإيمان في اللغة: التصديق. وفي الشرع: العبادات، أي فعل الواجبات.

أما الأول: فبالنقل عن أئمة اللغة، وأما الثاني، فلأن العبادات هي الدين المعتبر، والدين المعتبر هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فالعبادات هي الإيمان. أما أن العبادات هي الدين المعتبر فلقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ (5)}، أي دين الملة المستقيمة، ووجه ذلك أنه ذكر العبادات، ثم أشار إليها بأنها هي الدين المستقيم، وهو المعتبر من الأديان لا محالة. وأما أن الدين المعتبر هو الإسلام فلقوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلَامُ}، أخبر أن الدين عند الله، يعني المعتبر هو الإسلام. وأما أن الإسلام هو الإيمان، فلأن الإيمان مقبول من مبتغيه وغير الإسلام ليس

بمقبول من مبتغيه، لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلَامِ دِينا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ (85)}، فالإيمان ليس غير الإسلام وفيه نظر؛ لأن القياس المذكور ينتج العبادات هي الإيمان، وليس ذلك مطلوبهم، وإنما مطلوبهم: الإيمان هو العبادات. وإن عكست النتيجة صارت: بعض الإيمان العبادات، ولا يحصل به المطلوب على أنه استدلال في التعريف، وهو فاسدٌ. ثم ذكر دليلاً آخر لهم على أن الإسلام هو الإيمان، ووجه ذلك: أن الله ـــــ تعالى ـــــ استثنى المسلم من المؤمن في قوله: {فَأَخرَجنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدنَا فِيهَا غَيرَ بَيت مِّنَ المُسلِمِينَ (36)} وبيانه أن {{غير}} في قوله {غَيرَ بَيت} إما أن تحمل على ظاهره، أو معنى {{إلا}} أو على أمر ثالث وهو باطل، فتعين أحد الأولين و {{ظاهره}} كذلك؛ لاستلزامه أن يكون عدم الوجدان ثابتاً بالنسبة إلى {غَيرَ بَيت مِّنَ المُسلِمِينَ (36)} وهو باطل؛ لأن الوجدان ثابت بالنسبة إلى غير بيت المسلمين، فإن بيوت الكفار غير بيت من المسلمين وقد وجدت فتعين حمله على {{إلا}} فيكون استثناءً مفرغاً، ومعناه: فما وجدنا فيها أحداً من المؤمنين إلا أهل البيت من المسلمين وهو استثناء المسلمين من المؤمنين، فدل على أن الإسلام هو الإيمان. وكان المناسب

أن يذكر هذا الدليل تلي قوله: {ومن يبتغ} وكأنه أخرهُ لاختصاصه بالمعارضة المذكورة بعد قوله: {{وعُوْرِضَ}} بقوله ـــــ تعالى ـــــ: {قُل لَّم تُؤمِنُوا [39/أ] وَلَكِن قُولُوا أَسلَمنَا}. وتقريرها: ما ذكرتم من الآيتين وإن دل على أن الإسلام هو الإيمان ولكن عندنا ما ينفيه، وهو أن الإسلام لو كان هو الإيمان لما ثبت عند سلب الإيمان. وإلا لزم اجتماع النقيضين، لكن ثبت بالنص فلا يكون هو هو. وأجيب: بأن الثابت هو الإسلام، بمعنى الاستسلام وهو الإذعان والانقياد، كالذي كان عليه المنافقون، وليس الكلام فيه. وقالت المعتزلة ـــــ أيضاً ـــــ: لو لم يكن الإيمان في الشرع العبادات، أي فعل الواجبات، لكان قاطع الطريق مؤمناً، لقيام الإيمان به حينئذٍ وهو تصديق النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ بما علم مجيؤه به إذ لا قائل بالفصل لكنه ليس بمؤمن، لكونه مخزى، والمؤمن لا يخزى فقاطع الطريق ليس بمؤمن، أما أنه مخزى؛ فلأنه يدخل النار لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَلَهُم فِي الأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}، وكل من دخل النار فهو مخزى لقوله ـــــ

تعالى ـــــ: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدخِلِ النَّارَ فَقَد أَخزَيتَهُ}. وأما أن المؤمن لا يخزى، فلقوله ـــــ تعالى ـــــ: {يَومَ لَا يُخزِي اللَّهُالنَّبِيَّوَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}. وأجيبوا: بأنا لا نسلم انتفاء التالي، والقياس المذكور في بيانه غير مستقيم؛ لأن الكبرى وهو قوله: {{والمؤمن لا يخزى}} لا يصدق كلية وهي شرط في الشكل الأول. وقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} مخصوص بالصحابة لخصيصهم بالمعية، ولا يلزم كون المؤمنين المصاحبين غير مخزيين أن يكون غيرهم كذلك. هذا على تقدير أن يكون {وَالَّذِينَ آمَنُوا} معطوفاً على ما قبله. وإن كان مبتدأ خبره {نُورُهُم يَسعَى} فلم يبق لهم اتصال بمحل النزاع أصلاً. ولقائل أن يقول: استدلالهم هذا مبني على أصل لهم، وهو: أنه لا فرق في هذا المعنى بين المصاحبين وغيرهم؛ لأن صاحب الصغيرة من المؤمنين ليس ممن يدخل النار عندهم، وصاحب الكبيرة الغير تائب ليس من المؤمنين، والتائب منهم لا يدخل النار، كمن لا ذنب له، فلم يبق فرق بين المصاحب وغيره في عدم الخزي، وإنما التفاوت بينهما في ارتفاع الدرجات، وعلى هذا لا يكون الجواب صحيحاً. ص ــــ مسألة: المجاز واقع، خلافاً للأستاذ. بدليل الأسد للشجاع، والحمار

مسألة: وقوع المجاز، أي في اللغة

للبليد، وشابت لمة الليل. المخالف: يخل بالتفاهم. وهو استبعاد. ش ــــ اختلف الأصوليون في وقوع المجاز، منعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وأجازه الباقون، واختاره المصنف مستدلاً بأن استعمال الأسد

مسألة: وقوعه في القرآن الكريم

للشجاع، والحمار للبليد، وشابت لمة الليل لظهور الصبح. واقع لا محالة، وكذا لغيرها من المعاني بطريق الحقيقة، فلو كانت هذه المعاني ـــــ أيضاً ـــــ بطريق الحقيقة لم يسبق الذهن إلى أحدهما عند عدم القرينة، لكن يسبق إلى غيرها فكانت فيها مجازات. واستدل الأستاذ المخالف: بأنه لو وقع لاختل التفاهم؛ لأن إطلاق اللفظ على المفهوم المجازي [39/ب] إن كان بقرينة فقد يذهل المخاطب عنها فلا يفهم، وإن كان بغيرها تبادر إلى الذهن المفهوم الحقيقي، واختل فهم المراد. وأجاب المصنف: بأن هذا يدل على استبعاد وقوع المجاز. وفيه مراعاة للأستاذ، وإلا فهو فاسد؛ لأن الذهول عرضي مفارق، غير شامل، نادر الوقوع فأنى يقاوم القاطع المذكور. ص ــــ مسألة: وهو في القرآن، خلافاً للظاهرية. بدليل {ليس كمثله شيء}، {واسأل القرية}، {يريد أن ينقض} {فاعتدوا عليه}، {سيئة مثلها} وهو كثير. قالوا: المجاز كذب؛ لأنه ينفي فيصدق. قلنا: إنما يكذب إذا كانا معاً للحقيقة. قالوا: يلزم أن يكون الباري متجوزاً. قلنا: مثله يتوقف على الأذن. ش ــــ قيل: {{الواو}} للحال من ضمير {{واقع}} وليس بصحيح لاستلزامه أن

يتقيد الوقوع بكونه في القرآن، لكنه واقع في غيره. والحق أنه مبتدأ، ولو قال: {{أيضاً}} كان أحسن، فإن هذا بيان خلاف آخر بين الظاهرية؛ أي الذين لا يجوزون التأويل في القرآن، وبين المحققين، فإنهم قالوا بوقوعه فيه مستدلين بقوله ـــــ تعالى ـــــ: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيء} فإنه موضوع لنفي مثل المثل، وقد استعمل في غير ما وضع له، وهو نفي المثل بقرينة قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُالْبَصِيرُ (11)} بطريق الحصر فكان مجازاً.

ومنهم من استدل على كونه مجازاً بأنه لو كان المراد به الحقيقة {{نفي مثل المثل}} لزم نفيه. تعالى وتقدس؛ لأنه مثل مثله، وليس بشيء؛ لأن المجاز يحتاج إلى قرينة فإن وجدت فلا حاجة إلى إقامة الدليل، وإن لم توجد لا يفيد الاستدلال. والكلام على هذه الآية ـــــ الكريمة ـــــ كثير لا يحتمله هذا المختصر. وبقوله: {وَس‍ئَلِالقَريَةَ} فإنها موضوعة لأماكن من مدر فاستعملت في أهلها بقرينة السؤال فكان مجازاً. وعلماء البيان يسمون الأول مجازاً بالزيادة، وهو أن يذكر لفظان وأريد معنى أحدهما. والثاني، مجازاً بالحذف، وهو أن يذكر لفظ واحد ويراد معنى لفظين والظاهر خصوصهما بالتركيب الإضافي فلا يكون {فبما رحمة} من الأول، ولا {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم أَن تَضِلُّوا} من الثاني. وبقوله ـــــ تعالى ـــــ: {يريد أن ينقض} فإن الإرادة وضعت لذي شعور واستعملت في ميلان الجدار بقرينة الجدار فكان

مجازاً. وبقوله ـــــ تعالى ـــــ: {فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَى عَلَيكُم} أطلق الاعتداء على القصاص وهو ضده، أو سببه. ومثله: {وَجَزَاؤُا سَيِّئَة سَيِّئَة مِّثلُهَا} وجزاء السيئة حسنة بقرينة لفظ {{جزاء}} وإنما كثر الأمثلة لتقرير وقوعه في القرآن. وقالت الظاهرية: المجاز كذب، والكذب في القرآن غير واقع. أما الثاني، فظاهر، وأما الأول، فلأن سلبه صادق، يجوز أن يقال: البليد ليس بحمار فإثباته يكون كاذباً ضرورة صدق نقيضه [40/أ] وتحقيق جوابه أن اتحاد محل السلب

والإيجاب شرط للتناقض، والنفي للحقيقة والإثبات للمجاز فلم يتحد. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لو جاز وقوعه في القرآن لزم أن يكون الباري متجوزاً لأن ثبوت المشتق منه لشيء يستدعي صحة إطلاق اسم المشتق عليه. والجواب: أن إطلاق أسماء الله توقيفية ولم يرد فيه إذن شرعي.

القرآن المعرب

القرآن المعرّب ص ــــ مسألة: في القرآن المعرب وهو عن ابن عباس وعكرمة ونفاه الأكثرون. لنا: {{المشكاة}} هندية، و {{إستبرق}}، و {{سجيل}} فارسية و {{قسطاس}} رومية. قولهم: مما اتفق فيه اللغتان، {{كالصابون}} و {{التنور}} بعيد وإجماع العربية على أن نحو إبراهيم منع من الصرف للعجمة والتعريف يوضحه. المخالف: بما ذكر في الشرعية، وبقوله: {آعجَمِيّ وَعَرَبِيّ} فنفى أن يكون متنوعاً. وأجيب: بأن المعنى من السياق: أكلام عجمي ومخاطب عربي لا يفهم وهم يفهمونها. ولو سلم نفي التنويع فالمعنى: أعجمي لا يفهمه. ش ــــ واختلف الناس ـــــ أيضاً ـــــ في وقوع المعرب في القرآن. فنفاه الأكثرون.

وروي عن ابن عباس وعكرمة وقوعه فيه واختاره المصنف بدليل أن في

القرآن {المشكاة}، و {سجيل}، و {استبرق}، و {قسطاس}، والأول هندي، والآخران فارسيان، والأخير رومي. وأورد المانعون بأن وجود هذه الألفاظ في غير العرب لا يستلزم أن لا تكون عربية لجواز موافقة وضع العرب وضع لغة أخرى فتكون مما اتفق فيه اللغتان، {{كالصابون}} و {{التنور}}، و {{الهريسة}} وغيرها. وأجاب المصنف: بأنه بعيد. قيل: لأن التعريب في {السجيل}، و {الاستبرق} ظاهر، وليس بظاهر لبقاء الاحتمال المذكور، وبإجماع اهل العربية على أن إبراهيم منع من الصرف للعجمة والعلمية، فإنه يوضح وقوع المعرّب في القرآن.

واستدل المخالف بدليلين: أحدهما: ما ذكر في الحقيقة الشرعية من أنها لو كانت واقعة في القرآن لكان غير عربي. وتوجيهه والجواب عنه قد مضى. والثاني: أنه لو وقع لكان متنوعاً، أي عربياً وأعجمياً، لاشتماله عليهما لكنه لا يجوز ذلك لقوله ـــــ تعالى ـــــ بهمزة الانكار: {أأعجمي وعربي}. وأجيب: بأن المنكر كلام أعجمي ومخاطب عربي لا يفهمه فلا تكون الآية دليلاً. ولئن سلم أن قوله: {أعجمي وعربي} كلاهما صفة للكلام، لكن المراد به: أكلام بعضه أعجمي لا يفهم، وبعضه عربي، والمعرّب أعجمي يفهم فلا يكون منكراً. واعلم أن هذا البحث لا يتعلق بكيفية استنباط الأحكام الشرعية، فذكره في هذا الكتاب المختصر غير مناسب.

المشتق

المشتق ص ــــ مسألة: المشتق ما وافق أصلاً بحروفه الأصول ومعناه وقد يزاد بتغير ما. وقد يطرد، كاسم الفاعل وغيره. وقد يختص، كالقارورة، والدبران. ش ــــ لما فرغ من المسائل المتعلقة بالحقيقة والمجاز، ذكر المسائل المتعلقة بالاشتقاق، وهي خمس ولم يراع معنى [40/ب] يوجب الترتيب في الذكر وترك تعريف الاشتقاق وإن كان أقدم فإن كونه مشتقاً اعتماداً على فهمه من تعريفه المشتق، وكان العكس مفيداً ـــــ أيضاً ـــــ، لكن الاستنباط للأصولي إنما هو بالمشتق. وعرفه بقوله: {{ما وافق أصلاً: بحروفه الأصول ومعناه}}. وأراد كلمة وافقت أصلاً، فكلمة بمنزلة الجنس، وبقوله: {{بحروفه الأصول}} المتوافقان معنى فقط كالمترادفين، وبقوله: {{ومعناه}} مثل الذهب والذهاب. وكأنه أراد بقوله: {{أصلاً}} ما هو مشتق منه، فإن الصرفيين يعبرون عنه بالأصل، وحينئذٍ يكون المراد بالاشتقاق، الاشتقاق الصغير. والمشتق منه تتبعه أشياء المشتقة من المصدر عند البصريين. وعند الكوفيين المشتق منه هو الفعل، ويكون المراد بالأصل الفعل.

وقيل: المراد بالأصل {{الكلمة}}. ومعنى الكلام: المشتق كلمة وافقت كلمة. وعلى هذا التقدير يكون المراد بالاشتقاق: الاشتقاق الكبير ولا يتعين فيه مشتق ومشتق منه، بل كل من الكلمتين صالح لهما، والظاهر الأول؛ لأن المسائل الآتية لا تترتب إلا على الصغير على مذهب البصريين على ما سيظهر. وقوله: {{بحروفه الأصول}} يشير إلى أن المعتبر هو الحرف الأصلي، وهو ما ثبت في تصاريف الكلمة لفظاً أو تقديراً دون الزائد وهو ما يسقط في بعضها، كواو {{قعود}}. فإن {{قعد}} مشتق منه لموافقته إياه في الحروف الأصلية. ومن الناس من رأى أن التعريف ينتقض بفلك مفرداً وجمعاً فزاد فيه {{بتغير ما}}، ولا بد أن يريد به ما هو أعم من أن يكون لفظاً أو فيهما جميعاً، وأن يكون اللفظي بالزيادة أو النقصان، أو بهما جميعاً والزيادة تكون بالحروف، أو الحركة، أو بهما جميعاً، والنقصان كذلك وأن لا يكون التغير حقيقة أو تقديراً بل حقيقة فقط فيدفع النقض بذلك مفرداً او جمعاً فإن التغير بينهما ثابت تقديراً فإن ضمة المفرد كضمة قُفْل، وضمة الجمع كضمة حُمْر، ومع هذا فإنه يرد عليه أنه غير مطرود؛ لأنه صادق على الجُلْبِ والجُلُبِ، وأحدهما ليس بمشتق من الآخر. وأما أمثلة ما ذكر من الأقسام فإنها مذكورة في المطولات فليطلب ثمة. ثم إن المشتق قد يكون مطرداً في جميع مدلولاته، كاسم الفاعل، واسم المفعول، فإنه يستعمل في كل من يباشر الفعل، أو يقع الفعل عليه وقد لا يطرد كالقارورة، والدبران، فإنها لا تطلق على كل ما يقر فيه المائع مع دلالتها عليه، بل

مسألة: اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة

هي مختصة بالزجاجة. وأنه لا يطلق على كل ما هو موصوف بالدُبور، بل هو مختص بمنزلٍ من منازل القمر. ص ــــ مسألة: اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة. ثالثها: إن كان ممكناً. اشترط. المشترط: لو كان حقيقة، وقد انقضى، لم يصح نفيه. وأجيب بأن المنفي: [الأخص] فلا يستلزم نفي الأعم. قالوا: لو صح بعده [41/أ] لصح قبله. وأجيب: [مجاز] إذا كان الضارب من ثبت له الضرب لم يلزم. النافي: أجمع أهل العربية على صحة {{ضارب أمس}} وأنه اسم فاعل. وأجيب: مجاز كما في المستقبل باتفاق. قالوا: صح مؤمن وعالم للنائم. أجيب: مجاز؛ لامتناع {{كافر}} لكفرٍ تقدم. قالوا: يتعذر في مثل {{متكلم}} و {{مخبر}}. أجيب: بأن اللغة لم تبن على المشاحة في مثله، بدليل صحة الحال. وأيضاً فإنه يجب أن لا يكون كذلك. ش ــــ ذهب بعض العلماء إلى أن إطلاق المشتق على محله حقيقة مشروط ببقاء المعنى، يعني المشتق منه، فإن أطلق بعد الزوال كان مجازاً.

وذهب آخرون: إلى أنه ليس بشرطٍ مطلقاً. وفصل آخرون: بأن المعنى إن كان ممكن البقاء كان شرطاً، وإن كان من المصادر السيالة، كالتكلم، والحركة لم يكن شرطاً. فقوله: {{اشتراط بقاء المعنى}} مبتدأ خبره محذوف؛ أي على ثلاثة مذاهب وأشار بكون ثالثها على التفصيل إلى أن أحد الأولين: الاشتراط مطلقاً، والآخر: عدمه كذلك. قال المشترطون: لو كان المشتق حقيقة في الذي فرغ من المعنى لم يصح نفيه، لأن الحقيقة لا تنفى، لكن ليس بضارب في الحال بالضرورة وإذا صح السلب في الحال صح مطلقاً؛ لأن المطلق جزء المقيد. كذا قرره صاحب {{البديع}} وغيره.

وأجيب: بأنا لا نسلم انتفاء التالي، وصدق ليس بضارب في الحال لا يستلزم صدقه مطلقاً؛ لأنه أخص، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم؛ لأن نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم مطلقاً. ولقائل أن يقول: تقرير نفي التالي على الوجه الذي ذكروه غير مستقيم؛ لأنهم قالوا: إذا صح السلب في الحال صح مطلقاً؛ لأن المطلق جزء المقيد، والسلب في الحال لا يستلزم السلب مطلقاً وهو ظاهر. وقولهم: لأن المطلق جزء المقيد على تقدير صحته بأن لا يكون بينهما تقابل تضاد، او العدم والملكة لا يُفيدهم؛ لأن انتفاء الكل لا يستلزم انتفاء الجزء، على أن المشترط يكفيه أن يقول: لو كان حقيقة بعد انقضاء المعنى لم يصح النفي بعد انقضائه، لكن يصح ليس بضارب الآن، وإذا ظهر هذا، ظهر أن جواب المصنف، بقوله: {{بأن المنفي الأخص}} غير صحيح، الأولى أن يقال في الجواب: لو كان حقيقة بعد المضي لم يصح نفيه، لكن كان حقيقة بعده، بدليل كذب {{ما ضرب}} فلا يصح نفيه، وجاز للمناظر أن يلزم رأياً في هدم وضع الخصم، وإن لم يعتقده، وفيه نظر؛ لأن غايته منع بطلان التالي، ومنع المقدمة. قيل: لا يضر المعلل إذا ثبت دعواه. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ لو صح بعده لصح قبله، يعني لو صح حقيقة باعتبار الماضي لصح باعتبار المستقبل بجامع وجود المعنى المشتق منه في أحد الزمانين مع خلو المحل عنه في الحال، وبالتالي باطل بالاتفاق. وأجيبوا: بأن معنى الضارب من ثبت له الضرب بطريق الحقيقة أو المجاز، والثاني مُسَلّم ولا يفيدكم، والأول عين النزاع، وإنما معناه حقيقة من باشر

الضرب. وقال النافون: أجمع أهل العربية على صحة {{زيد ضارب أمس}} وعلى أنه اسم فاعل، والأصل في الاستعمال الحقيقة. وأجيبوا: [41/ب] بأنا لم ننكر استعماله في الماضي مجازاً بقرينة وههنا كذلك بقرينة {{أمس}}، كما أنه لا ينكر استعماله في المستقبل مجازاً بقرينة {{غداً}}، والأصل في الاستعمال الحقيقة إذا لم يوجد قرينة، وأما إذا كانت فجعله حقيقة إبطال لمراد المتكلم فإنه ما نصب القرينة إلا دلالة على مراده. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: صح {{مؤمن}} و {{عالم}} للنائم، والإيمان والعلم ليسا بقائمين به حالة النوم، والأصل في الاستعمال الحقيقة. وأجيبوا: بأنه مجاز بدليل عدم الاطراد؛ فإنه من علاماته كما تقدم وليس إطلاقه على ما ليس المعنى قائماً به مطرداً؛ لأن إطلاق الكافر على المسلم باعتبار السابق ممتنع. وهذا ليس بشيء؛ لأن عدم الاطراد دليل المجاز إذا لم يكن بمانع والشرع منع عن ذلك لتعظيم الصحابة والمؤمنين. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لو كان بقاء المعنى المشتق منه شرطاً في كون المشتق حقيقة. لم تكن المشتقات التي مصادرها سيالة، مثل: المتكلم، والمخبر مستعملاً بطريق الحقيقة أصلاً؛ لأن مصادرها لا يمكن اجتماع اجزاء معانيها في الوجود، إذ الجزء اللاحق لا يوجد إلا بعد عام السابق، وحينئذٍ لا يوجد أصل المعنى دفعة حتى يشترط بقاؤها، والتالي باطل بالاتفاق.

مسألة: لا يشتق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره

وأجيبوا بوجهين: أحدهما: أن اللغة لم تبن على المشاحة في مثله، بل وجود الجزء الأخير كاف في الاشتراط فيما تعذر اجتماع الأجزاء، ألا ترى أن لفظ {{الحال}} حقيقة في زمان الفعل الحاضر، ولا يمكن بقاء أجزائه عند إطلاقه، لكون الزمان [لما] غير قار الذات. والثاني: أن الواجب أن لا يشترط في مثله بقاء المعنى المشتق منه، بل الجزء الأخير وبه يتم المطلوب، فإنه إذا انقضى بالكلية يكون مجازاً. والفرق بين الجوابين: أن الأول فيه التزام التسامح في الوضع. والثاني: بيان وجود مقتضى الحكمة، فإن اشتراط بقاء ما لا يبقى خارج عن الحكمة، وإنما مقتضاها اشتراط بقاء ما يبقى بتمامه. واشتراط آخر أجزاء ما لا يبقى. واعلم أن هذه الاستدلالات كلها فاسدة؛ لأن معرفة الحقيقة إنما تكون بالسبق إلى الذهن عند سماع اللفظ لا بإقامة الدليل وهو ظاهر لا محالة. ص ــــ مسألة: لا يشتق اسم فاعل لشيء والفعل قائم بغيره خلافاً للمعتزلة. لنا: الاستقراء. قالوا: ثبت قاتل وضارب، [والقتل] للمفعول. قلنا: القتل: التأثير، وهو الفاعل. قالوا: أطلق الخالق على الله باعتبار المخلوق، وهو الأثر، لأن الخلق المخلوق، وإلا لزم قدم العالم أو التسلسل. أجيب أولاً: بأنه ليس بفعل قائم بغيره. وثانياً: أنه للتعلق الحاصل بين المخلوق والقدرة حال الإيجاد فلما نسب إلى

الباري صح الاشتقاق جمعاً بين الأدلة. ش ــــ ذهبت المعتزلة إلى جواز إطلاق مشتق على من ليس المصدر قائماً به [42/أ] فسموا الله متكلماً والكلام قائم بغيره؛ لأنه عندهم حادث لا يجوز أن يقوم بالقديم، وهذه المسألة من الكلام وفسادها مبرهن فيه، وذكرها غير مناسب في أصول الفقه؛ لعدم تعلقه بمعرفة كيفية الاستنباط. وذهب الباقون: إلى [عدم] جوازه، مستدلين بأنا قد استقرينا فوجدنا جميع استعمالات المشتقات، ولم نطلع على موقع اشتق اسم فاعل لمن لم يكن الأصل قائماً به. وقالت المعتزلة: الاستقراء غير تام، لأنكم تعلمون أن قاتلاً اشتق لذات، وضارباً لذات، والقتل والضرب قائمان بغيرهما وهو المقتول والمضروب، ضرورة حصول الأثر في المفعول. وأجيب: بأنه غلط؛ لأن الأثر الحاصل في المفعول هو التأثر والقائم بالقتل هو التأثير، والفرق بين مقولة أن يفعل وأن ينفعل بين لا محالة. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: أطلق الخالق على الله ـــــ تعالى ـــــ باعتبار المخلوق، وهو الأثر المباين عن ذاته ـــــ تعالى ـــــ؛ لأنه مشتق من الخلق، والخلق هو

المخلوق إذ لو كان مغايراً لكان إما قديماً أو حادثاً، لعدم خلو مفهوم وجودي أو عدمي عن ذلك، فإنه إن كان مسبوقاً بالعدم سبقاً زمانياً فهو الحادث، وإلا فهو القديم. والثاني تقسيمه باطل؛ لأنه إن كان قديماً لزم قد العالم؛ لأنه نسبة بين الخالق والعالم، وإذا كانت النسبة بين الشيئين قديمة لزم قدم المنتسبين؛ ضرورة تأخر النسبة عنهما. وإن كان حادثاً افتقر إلى مؤثر وذلك إلى آخر ويتسلسل. ولقائل أن يقول: الخلق نسبة بين الخالق والعالم من حيث العلم أو الخارج، والأول مسلم، ولا يستلزم القدم، والثاني ممنوع. وأجيبوا بوجهين: أحدهما: أن الخلق لو كان هو المخلوق لم يكن فعلاً قائماً بالغير، بل يكون هو الغير، وحينئذٍ لا يتم مطلوبهم، فإن مطلوبهم جواز إطلاق الخالق، والفعل غير قائم به. والثاني: أن دليلهم يقتضي جواز إطلاق الخالق على الله ـــــ تعالى ـــــ والفعل غير قائم به. والاستقراء الذي هو دليلنا يقتضي قيامه به، وإعمال الدليلين ولو بوجه أولى من إهمال أحدهما، فيجعل الخلق عبارة عن التعلق الحاصل بين القدرة والمخلوق حال الإيجاد، فاعتبار تعلقه بالقدرة دون ذاته يحصل مقتضى دليلكم من وجه،

مسألة: مفهوم المشتق، كالأسود ونحوه يدل على ذات الصفة

وباعتبار أنه لا يكون أمراً مبايناً عنه بالكلية؛ لأنه متعلق بالصفة القائمة به، والمتعلق بالصفة القائمة به متعلق يحصل مقتضى دليلنا، وهو فاسد من أوجه: الأول: أن القدرة قديمة لا محالة، والمخلوق حادث، فالمتعلق الحاصل بينهما إن كان قديماً لزم قدم متعلقة، لكونه نسبة لا تحقق إلا بعد تحقق المنتسبين، إن كانت حادثة لزم أن يكون القديم محل الحادث، وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث. الثاني: أن {{خلق}} فعل لا بد له من مصدر يكون جزؤه فالو كان هو المخلوق لزم أن يكون الفعل مركباً من الجوهر والزمان وذلك هذيان لا نهاية له. الثالث: إن كان دليلكم إما أن يقتضي وجوب قيام الفعل بغيره، أو جوازه، والأول مخالف لمذهبهم، لأن مذهبهم جواز ذلك، والثاني: لا ينافي حمل الخلق على معنى قائم بالله ــــ تعالى ـــــ؛ لأنه أحد الجائزين. الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون الخلق متعلقاً بالقدرة القديمة أو بذاته ـــــ تعالى ـــــ؛ لأن صفاته ـــــ تعالى ـــــ ليست عين ذاته، بل عينه عند المعتزلة والحق أن الفعل قائم بالنسبة إلى وجود المخلوق العلمي، والتعلق حادث كما نقول في العلم والكلام وغيرهما، وهو التكوين الذي هو قديم عند الأئمة الحنفية ـــــ رحمهم الله. ص ــــ مسألة: الأسود ونحوه من المشتقات يدل على ذات متصفة بسواد لا على خصوص من جسم أو غيره؛ بدليل صحة: {{الأسود جسم}}. ش ــــ مفهوم المشتق، كالأسود ونحوه كالأبيض والناطق والمضروب يدل على ذات ما متصفة بتلك الصفة لا على ذات معينة من جسم وغيره فإن عُلِمَ خصوص،

مسألة: ثبوت اللغة بطريق القياس

كان من خارج بطريق الالتزام لا باعتبار كونه جزءاً من مسماه، والدليل على ذلك صحة أن يقال: الأسود جسم، ولو كان الأسود جسماً ذا سواد لزم التكرار بغير فائدة. ولقائل أن يقول: الحمل إنما يكون مفهوم المحمول على ما صدق عليه الموضوع، فقولنا: الأسود جسم، لو اعتبر فيه المفهوم لكان حملاً للأخص على الأعم، واعتبار مفهوم الموضوع وكلاهما باطل. فإن قيل: لو اعتبر فيه ما صدق عليه الموضوع لم يصح الحمل للتكرار المذكور لكنه صحيح لا محالة. فالجواب: أن ما صدق عليه الموضوع يقدر موضوعاً محذوفاً قامت الصفة مقامه، نحو: الجوهر الأسود جسم، وعدم تعلقها بأصول الفقه لا يخفى. ص ــــ مسألة لا تثبت اللغة قياساً، خلافاً للقاضي وابن سريج. وليس الخلاف في نحو: {{رجل}} ورفع الفاعل. أي لا يسمى مسكوت عنه إلحاقاً بتسمية لمعين لمعنى يستلزمه وجوداً وعدماً، كالخمر للنبيذ للتخمير. والسارق للنباش، للأخذ خفية، والزاني للائط للوطء المحرم، إلا بنقل [أ] واستقراء التعميم. لنا: إثبات اللغة بالمحتمل. قالوا: دار الاسم معه وجوداً وعدماً. قلنا: ودار مع كونه من العنب، وكونه مال الحي، وقبلاً. قالوا: ثبت شرعاً، والمعنى واحد. قلنا: لولا الإجماع لما ثبت. وقطع النباش، وحد النبيذ، إما لثبوت التعميم، وإما بالقياس، لا لأنه سارق أو خمر بالقياس. ش ــــ اختلف الناس في ثبوت الأسماء بطريق القياس.

جوزه القاضي أبو بكر الباقلاني، وابن سريج [من] أصحاب الشافعي.

ونفاه: الحنفية، ومعظم الشافعية. والمصنف حرر موضع الخلاف بقوله: [43/أ] {{وليس الخلاف في نحو رجل، ورفع الفاعل}}. وتقريره: ليس محل الخلاف اسماً عُلِمً تعميمه بين الأفراد الموجودة وغيرها بالنقل {{كرجل}} فإنه موضوع لبالغ من بني آدم، وعُلِمَ بالنقل تعميمه على من كان موجوداً عند الوضع، ومن لم يوجد؛ لأن جواز الإطلاق بالنقل فلا يحتاج إلى القياس. وكذلك {{رفع فاعل}} لم يسمع من العرب فإنه عُلِمَ بالاستقراء جواز رفعه؛ لأنا قد وجدنا كل ما أسند إليه الفعل أو شبهه وقدم عليه مرفوعاً فصار ذلك قاعدة كلية يدخل تحتها كل فاعل فلا يحتاج إلى القياس وإنما محل النزاع: إلحاق مسمى بمسمى آخر باسم لم يسمع للأول من أهل اللغة، وسمى به الثاني لمعنى يستلزم الاسم وجوداً وعدماً ووجد في الأول كالنبيذ فإن مسماه سمي به، فإذا أريد إلحاقه بمسمى الخمر في إطلاق اسم الخمر عليه، وهو لم يسمع للنبيذ من أهل اللغة، وسمي به الخمر لمعنى وهو مخامرة العقل، وهي تستلزم اسم الخمر وجوداً. كما في ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد وعدماً كما إذا لم يغل ولم يشتد، لوجوده في الأول، كان ذلك قياساً في اللغة.

فاستدل المانعون: بأن في جوازه إثبات اللغة بالمحتمل؛ لأن رعاية المناسبة بين الأسامي والمسميات غير مستحقة وإن كانت مستحبة فجاز أن يكون الوضع لا لحامل، وأن يكون لحامل غيره فكان محتملاً وإثبات اللغة بالمحتمل لا يجوز. واستدل الشارحون على إثبات الكبرى بالاتفاق. وليس بصحيح؛ لأنه عين النزاع، فإن القياس عند الخصم محتمل، وهو تثبت اللغة به. وقال المثبتون: اسم الخمر دار مع المخامرة وجوداً في التي من ماء العنب الذي لم توجد فيه الشدة المطربة المخمرة للعقل، فإنه لم يوجد فيه التخمر، ولم يطلق الاسم عليه. وكذلك الزاني، والسارق، دار مع الوطء المحرم، وأخذ المال بخفية وجوداً وعدماً، ودوران الشيء مع الشيء آية كون المدار علة للدائر، فتكون المعاني المذكورة علة للتسمية بالأسامي المذكورة فإذا وجدت في صور أُخر تطلق عليها الأسماء. وإلا لزم تخلف المعلول عن العلة. وأجيبوا: بأن الأسماء المذكورة كما دارت مع ما ذكرتم دارت مع المختص بالصور المذكورة وجوداً وعدماً، فإن لفظ الخمر دار مع تخمير ماء العنب، والسارق مع أخذ المال خفية، ولفظ الزاني مع كون الوطء قبلاً، ودوران هذه الأسماء مع هذه المعاني ظاهرٌ فكان كل من المعنيين صالحاً للعلية، ولا ترجيح لأحدهما، فلا تثبت العلية لأحدهما.

ولقائل أن يقول: التعليل بالعلة القاصرة في القياس الشرعي لا يمنع التعليل بعلة متعدية فجاز أن تكون المعاني المختصة علة للتسمية في صورها الخاصة والمعاني العامة [43/ب] علة لها لقياس غيرها عليها ولا يلزم توارد علتين مستقلتين على معلولٍ واحد، لأنه لما كان باعتبارين كان المعلول متعدداً معنى. وقالوا: ـــــ أيضاً ـــــ: ثبت القياس الشرعي، ومعنى القياس في الشرع واللغة واحد؛ لأنه إثبات مثل حكم الأصل في صورة أخرى بجامع بينهما. ولا تفاوت في هذا بين الشرعي واللغوي، فكما جاز الشرعي وجب أن يجوز اللغوي. وأجيبوا: بأن الأصل أن لا يثبت الشرعي ـــــ أيضاً ـــــ لولا الإجماع على ثبوته فتركنا الأصل بدليل قوي، ولا يلزم من ذلك جواز تركه بلا دليل. وفيه نظر؛ لأن ثبوت القياس ليس بمجمع عليه فلا يجوز دعوى الإجماع إلا على رأي من يرى الإجماع الأكثر كاف ولا معتبر بخلاف الأقل، وهو ضعيف. وقوله: {{وقطع النباش}} جواب سؤال، تقريره: إذا لم تثبت اللغة بالقياس، فما وجه قطع النباش، وحد شارب النبيذ؟ والنص لم يرد إلا في السارق وشارب الخمر، عند من أوجبهما كالشافعي ـــــ رحمه الله. وتقرير الجواب: أن إيجابهما إما ثبوت تعميم اسم الخمر والسارق للنبيذ والنباش، بالنقل على الوجه الذي ذكر، وإما بالقياس الشرعي بأن يقال: الحكم في المنصوص عليه ثابت بعلة وجدت في النبيذ والنباش فعدى إليهما. ولقائل أن يقول: لا نسلم ثبوت تعميم نقل؛ لاختلاف النقل في الموضعين بالحقيقة والمجاز، وليس ذلك بالتعميم المراد ههنا تعميم {{رجل}} لأفراده، وأن

الحروف

الحدود لا تثبت بالقياس إلا إذا كان جلياً، وهذا ليس كذلك. ص ــــ الحروف، معنى قولهم: الحرف لا يستقل بالمفهومية، أن نحو {{من}} و {{إلى}} مشروط في دلالتها على معناها الإفرادي ذكر متعلقها. ونحو {{الابتداء}} و {{الانتهاء}} و {{ابتدأ}} و {{انتهى}} غير مشروط فيها ذلك. [وأما نحو {{ذو}} و {{فوق}} و {{تحت}} وإن لم تذكر إلا بمتعلقها لأمرٍ فغير مشروط فيها ذلك، لما عُلِمَ من أن وضع {{ذو}} بمعنى {{صاحب}} ليتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس اقتضى ذكر المضاف إليه. وأن وضع {{فوق}} بمعنى مكان، ليتوصل به إلى علوٍ خاص اقتضى ذلك، وكذلك البواقي]. ش ــــ قال النحويون: الحرف لا يستقل بالمفهومية. ومعناه: أنه لا دلالة له على معناه الإفرادي بدون ذكر متعلقه، وذلك مثل {{من}} و {{إلى}} مثلاً، فإنه لا دلالة [له] على شيء حتى يذكر متعلقه. فيقال: من كذا، أو إلى كذا، وليس معناهما الابتداء والانتهاء. واستدل على ذلك بأن {{من}} و {{إلى}} مشروط في دلالتهما على معناهما الإفرادي

ذكر متعلقهما، والابتداء والانتهاء ليس بمشروط في الدلالة على ذلك {{فمن}} و {{إلى}} ليس بالابتداء والانتهاء، وإنما قال: {{وابتدأ}} و {{انتهى}} لئلا ينازع أحد بأنه إن لم يكن مفهومهما الابتداء، والانتهاء فليكونا اسمي {{ابتدأ}} و {{انتهى}}، وإشارة إلى أن الاسم والفعل متشاركان في كونهما غير مشروطين في دلالتهما على المعنى الإفرادي بذكر المتعلق، بخلاف الحرف. وقيد المعنى بالإفرادي؛ لأن المعنى التركيبي مشروط في الدلالة على الاسم والفعل بذكر ما يحصل به من أحد المسندين. وأورِدَ بالأسماء اللازمة للإضافة {{كذو}} و {{فوق}} و {{تحت}} وأمثالها فإنها لا تفيد معناها الإفرادي إلا بشرط يذكر متعلقها وهو [44/أ] المضاف إليه. وأجيب: بالفرق، بأن ذكر المتعلق في الحرف مشروط من أول الوضع، وأما الأسماء المذكورة فلم يشترط الواضع في دلالتها على معناها الافرادي ذكر المتعلق، وإنما كان عدم الانفكاك لأمر وهو أنه علم بالاستقراء أن وضع {{ذو}} بإزاء {{صاحب}} ليتوصل به إلى وصف الأسماء بأسماء الأجناس، فلأجل حصول غرضه من الوضع اقتضى ذكر المضاف إليه لا لأجل دلالته على ما وضع بإزائه. وكذلك عُلِمَ أن {{فوق}} وضع بإزاء مكان عالٍ ليتوصل به إلى علوٍ خاص فلذلك اقتضى ذكر متعلقه. فإن قولنا: زيد فوق الدار، إنما يتخصص كون مكانه [عالياً] بالاقتران بالدار وقس الباقي عليه. هذا ما ذكروه، وتساوى المحققون وغيرهم في ذلك، وهذا كلام اضطراري ليس فيه من التحقيق ولا الاخالة شيء، وذلك لأنه يجوز أن يقال {{من}} وضع بإزاء ابتدأ، ليتوصل به إلى ابتداء خاص مثال: {{خرجت من البصرة إلى الكوفة}}. وأما أن ذلك باعتبار أن الواضع شرط عند وضع {{من}}، ولم يشترط عند وضع {{ذو}} فهو دعوى مجردة، والاستقراء إن دل على شيء في هذا لا يزيد على وجود أن كل واحد منهما في الاستعمالات مستعمل مقروناً بذكر المتعلق.

وأما على الاشتراط عند الوضع في أحدهما دون الآخر فليس له دلالة أصلاً والمنازع مكابر، على أن نفس تركيبهم، وهو قولهم: لا يستقل بالمفهومية لا يستقيم في الإفادة إلا بتحمل عظيم؛ لأن معناه الأصلي: الحرف لا يدُلّ على معناه إلا بذكر متعلقه. والعبارة الصحيحة فيه: الحرف لا يستقل في الدلالة على مفهومه إلا بالمفهومية، فيحتاج أن يقال: الحرف لا يستقل في الدلالة على شيء ينسب إلى المفهوم، وذلك تمحل لا محالة، والذي ظهر لي في هذا المقام أن الحرف: ما وضع للتعبير عن نسبة كقولك: {{من}} للابتداء، و {{إلى}} للانتهاء، و {{على}} للاستعلاء، و {{إن}} و {{أن}} للتأكيد، و {{كأن}} للتشبيه، و {{ليت}} للتمني، و {{لا}} للنفي، و {{الهمزة}} للاستفهام وغير ذلك، والمقصود فهمها. والحرف وصلة وأداة، غير مقصود بنفسه، فإذا قلنا: {{خرجت من البصرة}} فإنما المقصود بذكر {{من}} معرفة مبتدأ الخروج لا غير، وهو معنى قولهم: الحرف يدل

على معنى في غيره. وأما "ذو" وأمثاله. فليس المقصود به معرفة المال فقط، بل معناه وهو "الصاحب"- أيضا- مقصود. وكذلك "زيد فوق الدار" ليس المقصود معرفة الدار، بل معرفة علوه على الدار. هذا والله أعلم بالصواب.

الواو

الواو ص- مسألة: الواو للجمع المطلق لا لترتيب، ولا معية عند المحققين. لنا: النقل عن الأئمة أنها كذلك. واستدل: لو كانت للترتيب لتناقض (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) مع الأخرى. ولم يصح "تقاتل زيد وعمرو". ولكن جاء زيد وعمرو بعده تكرارا، وقبله {تناقضا}. وأجيب: بأنه مجاز. لما سنذكر. ش- اختلف الأصوليون في (44/ب) مفهوم الواو. فمنهم من ذهب إلى أنه الترتيب. ومنهم من ذهب إلى أنه المعية.

وذهب المحققون إلى أنه الجمع المطلق، واختاره المصنف. واستدل: بأنه المنقول عن أئمة اللغة، ونقلهم حجة في اللغويات. وقد استدل -أيضا-: بأنها لو كانت لترتيب لتناقض قوله -تعالى- في سورة البقرة: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)، وقوله -تعالى- في سورة الأعراف: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)؛ لأن القصة واحدة فلو كانت للترتيب كان الأمر بدخول الباب مقدما على الأمر بالقول بالآية الأولى، ولم يكن مقدما بالآية الثانية، وذلك تناقض لكنه لا تناقض؛ لأنه كذب وهو على الله محال. وبأنها لو كانت للترتيب لما صح قول القائل: (تقاتل زيد وعمرو)؛ لأن التفاعل يقتضي حصول الفعل من الجانبين معا، لكن أجمع أهل اللغة على صحته. وبأنها لو كانت للترتيب، لكان: (جاء زيد وعمرو بعده) تكرارا؛ لإفادة الواو البعدية، ولكان: (جاء زيد وعمرو قبله) تناقضا؛ لأن مقتضى الواو إذ ذاك يناقض القبلية، ولكن أجمعوا على صحة التركيبين. وأجاب المصنف عن جميع ذلك بمنع الملازمة؛ فإنه يجوز أن يكون استعماله في الصور المذكورة مجازا، وإن كانت حقيقة في الترتيب فلا يلزم شيء مما ذكر من المحالات.

لا يقال: الأصل في الاستعمال الحقيقة؛ لأنه يستلزم الاشتراك، وهو خلاف الأصل. ولقائل أن يقول: فليكن مجازا في الترتيب دفعا للاشتراك اللفظي. وقيل: إذا كانت مستعملة في الترتيب والمعية- أيضا- وليس جعله حقيقة في أحدهما أولى من العكس - تجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الجمع المطلق فيصح الاستدلال. وفيه نظر، لأنه إنما يصح إذا كان معناه لا بشرط شيء فأما إذا كان معناه بشرط فلا يكون الجمع المطلق القدر المشترك بينهما. ص- قالوا: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا). قلنا: الترتيب مستفاد من غيره. قالوا: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ)، وقال: (ابدؤا بما بدأ الله به). قلنا: لو كان له لما احتيج إلى (ابدؤا). قالوا: رد على قائل: (ومن عصاها فقد غوى) وقال: قل: (ومن عصى الله ورسوله). قلنا: لترك إفراد اسمه بالتعظيم بدليل أن معصيتهما لا ترتيب فيها. قالوا: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق وقعت واحدة، بخلاف أنت طالق ثلاثا. وأجيب: بالمنع وهو الصحيح. قول مالك: والأظهر أنها مثل (ثم) إنما قاله في المدخول بها يعني يقع الثلاث (ولا ينوي في التأكيد). ش- تمسك القائلون بالترتيب بوجوه -أيضا- منها: قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) فإن تقديم

الركوع على السجود مستفاد من هذه الآية، وليس فيها ما يدل على ذلك إلا الواو (45/أ) فكان للترتيب. وأجاب المصنف: بأن الترتيب مستفاد من غيره، يعني قوله - صل الله عليه وسلم-: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ولقائل أن يقول: الواو في الآية المذكورة إما أن يفيد الترتيب، أو لا. والأول يفيد المطلوب، والثاني، فساد الاحتجاج بالحديث؛ لأنها حينئذ تفيد مطلق الجمع لعدم ثالث عنده فيكون الحديث مخالفا للآية، فيكون مردودا، لقوله عليه السلام: (إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فاقبلوه، وما خالف فردوه).

ومنها: قوله -تعالى-: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ)، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- (ابدؤا بما بدأ الله به) حين قالوا: بأيهما نبدأ يا رسول الله؟ فلو لم يكن للترتيب ما قال في جوابهم: (ابدؤا بما بدأ الله به). وأجاب المصنف: بأنه لو أفاد الترتيب لفهموه؛ إذ هم من أهل اللسان وما احتاجوا إلى السؤال. وهو معارض بالمثل. ومنها: ما روى عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أن

رجلاً خطب عند النبي -صل الله عليه وسلم- فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: (بئس الخطيب أنت قل: ومن يعص الله ورسوله) فلو كانت الواو للجمع المطلق لما ذمه رسول الله -صل الله عليه وسلم-، إذ لا فرق حينئذ بين ما قاله الخطيب وما علمه النبي - صل الله عليه وسلم- وأجاب المصنف: بأن الذم إنما كان لترك افراد اسمه بالتعظيم، بدليل عدم الترتيب بين معصية الله ومعصية الرسول، بل إنما هي هي وفيه نظر؛ لأنه جاء في الحديث: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) فقد جمع بين الضميرين. وقد ذكرنا تمام هذا البحث في (الإشراق شرح مشارق الأنوار). ومنها: ما استدلوا به، ما وقع في الفروع، وهو ما إذا قال الرجل لامرأته، وهي غير مدخول بها: أنت طالق طالقطالق، فإنه يقع واحدة، وإن قال لها: أنت

طالق ثلاثاً يقع ثلاث. ولو لم يكن الواو للترتيب لم تفترق الصورتان. وأجاب المصنف بمنع الافتراق في الحكم، بل الواقع فيها ثلاث، وهو مذهب بعض أصحاب مالك، وأحمد، وليث، والشافعي في القديم وقال: وهو الصحيح. وأما من فرق بينهما، فيقول: الطلاق إذا قرن بالعدد فالواقع إنما هو بالعدد دون الوصف، ألا ترى أن من قال لامرأته: (أنت طلق ثنتين) لا يقع إلا ثنتان؛ فإنه مفهوم لا ينوى في التأكيد إلا أنها مثل (ثم)، ولو كان للوصف مدخل لوقع ثلاث، فيقع بقوله: (أنت طالق ثلاثا) ثلاث. وأما إذا قال: (أنت طالق) فالواقع إنما هو بالوصف، وقد صادف العدد غير مدخول بها فوقع طلقة وبانت لا إلى عدة فلا يقع شيء بعده. وقوله: (وقول مالك: والأظهر أنها مثل (ثم)).

ابتداء الوضع

قيل: جواب سؤال تقديره: أن مذهب مالك أن الواو مثل (ثم) و (ثم) للترتيب فالواو كذلك (45/ب) وأجاب: بأن مالكا إنما قال: إنها مثل (ثم) في المدخول بها، وعني بذلك أنه إذا قال لها بالواو ثلاثا، وادعي أنه نوى بالثاني والثالث تأكيد الأول لم تعتبر نيته، كما لو قال (ثم) وادعي ذلك؛ لأنه لا يقع في غير المدخول بها ثلاث، وعلى هذا يكون دليلا آخر مع جوابه. ولقائل أن يقول: هو على كل حال مستدرك؛ لأنه إن كان جواب سؤال فلما قلنا، وإن كان دليلا آخر؛ فلأن قول مالك -رحمه الله- لا يثبت به أصل لغوي، إذ هو ليس من أئمة اللغة بل هو من أئمة الفقه. ص- الثالث: إبتداء الوضع. ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية. لنا: القطع بصحة وضع اللفظ للشيء ونقيضه وضده، وبوقوعه (كالقرء) و (الجون). قالوا: لو تساوت لم تختص. قلنا: تختص بإرادة الواضع المختار. ش- المبحث الثالث في ابتداء الوضع، ومعرفته موقوفه على معرفة الواضع، ومعرفته إنما يحتاج إليها إذا لم يكن بين الألفاظ والمعاني الدالة هي عليها مناسبة طبيعية، فلذلك تعرض لبيان عدمها ليبقى على ذلك بحث الواضع، قال: (ليس بين

اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية). وقال عباد بن سليمان الصميري: بل دلالتها عليها إنما هي مناسبة طبيعية ذاتية. واستدل المصنف بقوله: لنا القطع بصحة وضع اللفظ للشيء ونقيضه وللشيء (وضده)، لأن فرضه لا يستلزم محالا، وقد وقع ذلك، (كالقرء) الواقع عن الحيض وعدمه وهو الطهر. و (الجون) على الأسود والأبيض، ولو كانت الدلالة طبيعية لما وقعت؛ لاستحالة مناسبة طبيعة اللفظ الواحد للنقيضين والضدين. وقال غيره: لو كانت دلالة الألفاظ على المعاني ذاتية لما اختلفت باختلاف الأمم، ولأهتدي كل أحد من الناس إلى كل لغة. والتالي باطل فالمقدم مثله. ولقائل أن يقول: المحال إن لزم فإنما هو بالنظر إلى اللفظة الواحدة والكلمات الدالة على المعاني المتقابلة مركبة من عدة أحرف فلم لا يجوز أن تكون المناسبة ثابتة

خلاف العلماء في واضع اللغة

بين حرف ومعنى، وحرف ومعنى آخر؟. وقوله: لما اختلفت باختلاف الأمم ولاهتدى كل أحد من الناس إلى كل لغة ممنوع. لم لا يجوز أن يكون فهم السامع تلك الدلالة الطبيعية مشروطا بعرضي مفارق غير شامل يوجد عند عروضه ويعدم عند عدمه. ألا ترى أن العوام الذين لا يعلمون الوضع والواضع، إذا تعلموا لغة فهموا المعنى لحصول ذلك العرضي حينئذ، وغايته أن لا نعلمه وعدم علمنا به لا يستلزم عدمه في نفسه. وقالوا: أي عباد ومن تابعة -لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية، لتساوت نسبة اللفظ إلى جميع المعاني، وبالعكس. فاختصاص بعض الألفاظ لبعض المعاني دون غيره يكون تخصيصا بلا مخصص. وأجاب المصنف: بأن المخصص هو إرادة (46/أ) الواضع المختار كتخصيص إيجاد العالم بوقت دون (وقت) مع التساوي إلى جميع الأوقات. وفيه نظر؛ لأن هذا يصح على مذهب أبي الحسن الأشعري، وأما غيره فلا يلزمه فيجوز أن يكون عباد منهم. ص- مسألة: قال الأشعري: علمها الله بالوحي، أو بخلق الأصوات أو بعلم ضروري. البهشمية: وضعها البشر واحد أو جماعة، وحصل التعريف بالإشارة، والقرائن كالأطفال. الأستاذ: القدر المحتاج في التعريف توقيف، وغيره محتمل. وقال القاضي الجميع ممكن، ثم الظاهر قول الأشعري.

ش- اختلف القائلون بالواضع على مذاهب. فذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن الله -تعالى- وضعها ووقف عباده عليها، بأن علمها بالوحي أو بخلق الأصوات والحروف في جسم من الأجسام وإسماع ذلك الجسم واحدا، أو جماعة من الناس، أو بخلق علم ضروري في واحد، أو جماعة، بأن واضعا وضع تلك الألفاظ بإزاء المعاني. وسمي هذا المذهب توقيفيا. وذهب أبو هاشم وجماعة: إلى أن الألفاظ وضعها واحد، أو جماعة من البشر، ثم حصل تعريف الباقين بالإشارات، والقرائن، والترديد وهو التكرار مرة بعد أخرى، كما حصل تعريف الأطفال بذلك، ويسمى هذا المذهب اصطلاحيا مطلقا، وربما يسمي توقيفيا. وذهب الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني إلى أن القدر الذي وقع به التنبيه على

الاصطلاح توقيفي على الوجه المذكور، والباقي يحتمل أن يكون توقيفيا وأن يكون اصطلاحيا. وذهب طائفة إلى عكس هذا. ولم يذكره المصنف لضعفه، لعدم متمسك يعتد به. وذهب القاضي وأتباعه: إلى الوقف؛ لأن جميع ذلك ممكن لذاته لعدم لزوم محال بفرض وقوعه، والأدلة متعارضة، ولا مرجح لشيء منها، فلم يحصل الجزم بواحد منها، فوجب التوقف. هذا تحرير المذاهب. والمصنف قال: ثم الظاهر قول الأشعري. وفيه نظر؛ لأن قول الأشعري هو أن الله -تعالى- علمها بالوحي، أو بخلق الأصوات أو بعلم ضروري، والمصنف زيف الأخيرين في جواب البهشمية بأنه خلاف المعتاد كما سيجيء. فبقي الكلام في

الوحي، فإن كان المراد به الإفهام بالخطاب فذلك لا يكون إلا بحروف وأصوات، والكلام فيها، كالكلام في الأول، والمآل دور أو تسلسل. وإن كان المراد به الإلهام وهو تحرك القلب بعلم يدعوك إلى عمل من غير نظر في حجته. فذلك توفيق لا توقيف. وإن كان غير ذلك فلابد من بيانه، وعلى هذا يظهر أن قول من قال: الحق أن المطلوب في هذه المسألة إن كان القطع بوقوع أحد هذه المذاهب فالمختار قول القاضي؛ إذ لا قطع في شيء منها. وإن كان الظن فالحق ما قاله الأشعري؛ لطهور الآيات في المطلوب. ليس بشيء؛ لان مذهب (46/ب) الأشعري غير محرر في نفسه فكيف يستدل عليه. واعلم أن هذه المسألة، أعني ابتداء الوضع، وبيان الواضع ليس ما يحتاج إليه الأصولي؛ لأن نظم الكتاب أو السنة الثابتة إذا دل على معنى ينظر فيه الأصولي لاستنباط ما عن له من الحكم بعمومه أو خصوصه، حقيقته أو مجازه، بدلالته أو إشارته وليس له التفات إلى ابتداء الوضع كيف كان، ولا الواضع من كان، وإنما نظره في أن هذا نظم يجب العمل بما يدل عليه. ص- قال: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا). قالوا: ألهمه أو علمه ما سبق. قلنا: خلاف الظاهر. قالوا الحقائق، بدليل قوله: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ). قلنا: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) يبين أن التعليم لها والضمير للمسميات. استدل بقوله: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)، والمراد اللغات باتفاق. قلنا: التوقيف والإقدار في كونه آية سواء.

البهشمية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) دل على سبق اللغات وإلا لزم الدور. قلنا: إذا كان آدم هو الذي علمها، اندفع الدور. وأما جواز أن يكون التوقيف بخلق الأصوات، أو بعلم ضروري. فخلاف المعتاد. الأستاذ: إن لم يكن المحتاج إليه توقيفيا لزم الدور، لتوقفه على اصطلاح سابق. قلنا: يعرف بالترديد والقرائن، كالأطفال. ش- أقام الدليل على ما هو الظاهر عنده. وتقريره: اللغات توقيفية؛ لأنها معلمة لقوله -تعالى-: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) وكل معلم توقيفي، لأنا لا نعني من التوقيفية إلا (المعلمة) وإذا ثبت التوقيف في الأسماء ثبت في غيرها، لعدم القائل بالفصل. ولقائل أن يقول: قد تقدم بطلان الوجوه المذكورة في تقسيم التعليم فالاستدلال بالتعليم غير مفيد. واعترض عليه: بأنه يجوز أن يكون المراد بقوله -تعالى- (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ، وأعطاه من العلوم ما به قدر على الوضع والاصطلاح، فتكون الآية دليلا على كون اللغات اصطلاحية.

سلمنا أن المراد ليس الإلهام، لكن لم يجوز أن يكون المعلم اصطلاحات قوم خلقهم الله قبل آدم إذ خلقه. وأجاب المصنف عن الاعتراض: بأنه خلاف الظاهر. قيل: لأن الأصل في التعليم إيجاد العلم لا الإلهام، وكذا الأصل عدم اصطلاح سابق. وفيه نظر؛ لأن إيجاد العلم كان بمسموع فهو باطل لما تقدم. وإن كان بخلق علم ضروري فقد أبطله المصنف، فلم يبق إلا الإلهام فلا يندفع السؤال. واعترضوا -أيضا- بأن المراد بالأسماء المسميات، أي حقائق الأشياء، ومعنى الآية -والله أعلم- علم آدم حقيقة كل شيء وصفته مثل: أن الخيل حقيقته كذا، وأنه يصلح للكر والفر، والجمل للحمل، وآخر كذا لكذا. واستند على ذلك إلى قوله -تعالى- (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) بضمير (47/أ) العقلاء بطريق التغليب؛ لأن فيهم العقلاء ولو كان الضمير للأسماء تعين (عرضها أو عرضهن) لانتفاء جهة التغليب. وأجاب المصنف: بأن المراد بالأسماء الألفاظ لا الحقائق لقوله -تعالى- (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) فإن المراد بهؤلاء المسميات، فلو كانت مرادة بالأسماء -أيضا- كان معناه: انبئوني بحقائق هذه الحقائق، ولا معنى له.

فإن قيل: المذكور هو الأسماء؛ فإنه قال: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)، ولم يذكر غيرها، وقال: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) فدل على أن الضمير للأسماء، لئلا يلزم الاضمار قبل الذكر، وتعين أن يراد بها المسميات. فالجواب: أن مفهوم الأسماء مفهوم مضاف يدل على المسميات، فيكون المراد بالأسماء أنفسها، وبالضمير المسميات تغليبا، فإن ضمير (عرضهم) لا يصلح للأسماء لا حقيقة ولا تغليبا. ولقائل أن يقول: أصل السؤال والجواب لم يصدر عن تحصيل، وذلك لأن التعليم سواء كان للأسماء أو المسميات، هل كان بألفاظ أو بغيرها؟ فإن كان الأول، عاد الترديد (بأنها) توقيفية أو توفيقية وإن كان الثاني، فلا فائدة في العدول عن الأسماء إلى المسميات، على أن قولهم: علم أن الخيل حقيقته كذا، وصفته كذا، والجمل كذا وغيره كذا، يدل على أن ثمة هذه الحروف التي هي في الأسماء فكانت ألفاظا فينتقل الكلام إليها. واستدل -أيضا- على مذهب الأشعري بقوله -تعالى-: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ) والمراد به اللغات؛ لأنه لا يجوز أن يراد بالألسنة الجوارح، لأن اختلافها في أجرامها لا يبلغ إلى أن يكون آية، فتكون اللغات مخلوقة فكانت توقيفية. وزيفه المصنف: بأن التوقيف، والإقدار على وضعها سواء في كون كل منهما آية فجاز أن يكون المراد به الإقدار مجازا. ورد: بأن إطلاق الألسنة على اللغات متعارف دون الإقدار على اللغات. واستدل البهشمية: بقوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)

بأنه يدل على أن اللغات سابقة على بعثة الرسل، ولو كانت بالتوقيف بالوحي لكانت البعثة سابقة عليها وهو دور. وأجاب المصنف بما معناه: إنما يلزم الدور أن لو كانت اللغات سابقة على جميع الرسل، وفي الآية ما ينافيه؛ لأنه قال: (إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) فكانت سابقة على الرسل الذين لهم قوم، فيجوز أن يتقدم بعثة آدم -عليه السلام- على اللغات؛ لأنه لم يكن له قوم. وحينئذ يقال: علم الله آدم اللغات بالوحي، ثم علم آدم غيره فتكون اللغات متأخرة عن بعثة آدم، ومتقدمة على غيره من الرسل فلا يلزم الدور. ولقائل أن يقول: هذا الجواب مخالف للآية؛ لأن فيها (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ) نكرة في سياق النفي مؤكدة (من) الاستغراقية، فكيف يجوز إخراج آدم من عام مؤكد لا يقبل التخصيص بدليل فضلا عن غير دليل بل الجواب (47/ب) أن يقال: علم آدم الأسماء حين لم يكن له قوم، ثم أرسله إليهم بلسانهم الذي يتفاهمون به. ولسان كل قوم ما تفاهموا به، على أنه إذا كانت اللغات سابقة على بعثة الرسل لا يلزم الدور؛ لأن بعثة الرسل على ذلك التقدير تكون موقوفة على اللغات، ولكن اللغات لا تتوقف على بعثة الرسل بل على تعليم، ولا يلزم أن يكون ذلك التعليم رسالة. وقوله: (وأما جواز) إشارة إلى تزييف جواب ذكره بعض الأصوليين عن دليل البهشمية، وهو أن يقال: لا نسلم أن اللغات لو كانت توقيفية لزم تقدم البعثة على اللغات، وإنما يلزم ذلك أن لو كان طريق تعليمها منحصرا في الوحي، وهو ممنوع، فإنه يجوز أن يكون التوقيف بخلق الحروف والأصوات في أجسام، أو بخلق علة ضروري في واحد أو جماعة. ووجه توقيفه: أن التعليم بخلق الأصوات، أو علم ضروري خلاف العادة،

وإن كان ممكناً في ذاته. ولقائل أن يقول: في هذا إبطال لمذهب الأشعري بالكلية؛ لأنه جعل القسمين الآخرين فاسداً، وقد تقدم أن المراد به غير معلوم. وقد التزام في هذا الجواب أن الطريق لو انحصر في الوحي لزم الدور فدل على أن ذلك أيضا باطل كغيره من الطريقين، على أن اعتبار العادة في ذلك غير موجه. وقال الأستاذ: لو لم يكن القدر المحتاج إليه في التنبيه توقيفيا لزم الدور؛ لأنه حينئذ يكون الكل اصطلاحيا يحتاج في التعليم إلى اصطلاح سابق عليه، وهلم جرا، ولابد من العودة إلى الأول، ضرورة الاحتياج وتناهي الاصطلاحات. وأجاب المصنف عنه: بأن الجميع لو كان اصطلاحيا جاز أن يعرف الاصطلاح بالترديد والقرائن كما يعرف الأطفال، فلم يلزم الدور. ولقائل أن يقول في بيان اللغات: إن الله -تعالى- خلق الإنسان حيوانا ناطقا متعجبا ضاحكا كاتبا مدركا للكليات والجزئيات، فكما أنه جعل التعجب والضحك من خواصه لا يحتاج في ذلك إلى تعليم جاز أن يجعل في كل صنف منه قوة بها يقطع الصوت الخارج مع النفس في مخارج الحروف ليصير حروفا وينظمها فتصير كلمة فيترجم بها عما يبدو في ضميره مما يحتاج إليه، وجعل فيه قوة قاصمة يفهم بها عند سماعها من غيره ممن هو من أفراد صنفه بلا وسط، وممن هو من غير صنفه بوسط تكرار ومشاهدة. وقد سمعت ثقات يحكمون أن بعض الملوك الذين كان لهم زيادة اهتمام بمعرفة الأشياء حفظوا صغارا، لم يصلوا حد التكلم عن أن يتكلم عندهم، وربما لم يجتمع بهم أحد إلا عند التغذية فاستنبطوا من تلقاء أنفسهم كلاما وتكلموا به وفهم (48/أ) بعضهم من بعض لسائر اللغات ولم يكن هناك توقيف ولا اصطلاح، فإن التزم أن ذلك الجعل توقيف بوحي لزمه أن لا يخصص الوحي بالأنبياء، فإن

طريق معرفة الموضوعات اللغوية

التزم ذلك أيضا -حصل المطلوب، ولا حاجة إلى إقامة دليل؛ لأن التنبيه يكفي فحينئذ يكون علم آدم الأسماء تمثيلا. وقوله: إلا ما علمتنا مذكورا بطريق المشاكلة، وهو أن تذكر شيئا بلفظ غيره لوقوعه في صحبته. والله أعلم بالصواب. ص- الرابع: طريق معرفتها، التواتر فيما لا يقبل التشكيك، كالأرض والسماء، والحر والبرد، والآحاد في غيره. ش- المبحث الرابع في مبادئ اللغة: في بيان معرفة طريق الموضوعات اللغوية لا تستقل النفس في إدراك المسموعات، لأنها جزئيات والنفس لا تدركها إلا بواسطة الحواس فإن كانت المسموعات ما لا يقبل التشكيك كالسماء والأرض، والحر والبرد، وأمثالها فقد عرف ذلك بالتواتر، والقرآن كله كذلك. وإن كانت مما يقبل التشكيك كاللغات عن قبائل العرب غير التي في القرآن فطريق معرفتها الآحاد. ولقائل أن يقول: ثمة طريق آخر وهو الشهرة، وإدخاله في أحدهما تسوية القوي مع الضعيف فكان الواجب ذكره، والله أعلم.

التحسين والتقبيح ومن هنا مبادئ الأحكام الشرعية

التحسين والتقبيح ومن هنا مبادئ الأحكام الشرعية ص- الأحكام: لا يحكم العقل بأن الفعل حسن أو قبيح في حكم الله - تعالى- ويطلق لثلاثة أمور إضافية: لموافقته الغرض ومخالفته, ولما أمرنا بالثناء عليه والذم, ولما لا حرج في فعله ومقابلته. وفعل الله تعالى- حسن بالاعتبارين الأخيرين. وقالت المعتزلة والكرامية والبراهمة: الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها فالقدماء: من غير صفة. [وقوم: بصفة]. وقوم: بصفة في القبيح. والجبائية: بوجوه واعتبارات. ش- لما فرغ عن ذكر ما يستمد منه من اللغة, شرع في بيان ما يستمد منه من الأحكام, ورتب الكلام على أربعة أصول, لأن الحكم يستدعي حاكما, ومحكوما عليه, ومحكوما به. واختلف العلماء في فعل المكلف إذا تعلق به حكم الله, هل يحكم العقل بحسنه أو قبحه, أو لا؟

فذهبت الأشاعرة إلى نفيه, وقالوا: يطلق الحسن والقبح على ثلاثة أمور إضافية. الأول وهو مشهور: أن الفعل إذا كان موافقا لغرض الفاعل فهو الحسن وإن كان مخالفا لغرضه فهو القبيح, والغرض ما لأجله يصدر المعلول عن العلة, فعلى هذا إذا كان الفعل موافقا لغرض شخص دون آخر فهو حسن بالنسبة إلى الأول قبيح بالنسبة إلى الثاني, فهو إضافي لا محالة. الثاني: أن الحسن يطلق على فعل أمرنا الشارع بالثناء على فاعله, والقبيح على فعل أمرنا بالذم على فاعله, وهذا يختلف باختلاف ورود أمر الشرع في الأفعال فيكون -أيضا- إضافيا. الثالث: أنه يطلق الحسن على فعل لا حرج على فاعله في الاتيان به والقبيح على فعل [48/ب] في الإتيان به حرج على فاعله وهو -أيضا- يختلف باختلاف الأحوال والأزمان, والأشخاص. وفعل الله لا يكون حسنا بالاعتبار الأول, لأن الله - تعالى- منزه عن أن يكون فعله لغرض, وهو حسن بالاعتبارين الأخيرين. أما بالاعتبار الثاني, فلأنه أمر الشارع بالثناء على فاعله, وأما بالاعتبار الثالث, فلأنه لا حرج في فعله, والحسن بالمعنى الثاني يتناول الواجب والمندوب, لأن كل واحد منهما أمرنا الشارع بالثناء على فاعله, ولا يتناول المباح, لأنه لم يأمر الشارع بذلك, وبالمعنى الثالث يتناول المباح والمكروه أيضا, لأن كل واحد منهما لا حرج

في فعله. والقبيح بالتفسيرين الأخيرين يختص بالحرام, لأنه أمر الشارع بالذم لفاعله, وفي فعله حرج, [ولا] يتناول المباح والمكروه بالتفسيرين؛ لأنه لم يأمر الشارع بالذم لفاعلهما, ولا حرج في فعلهما, فالمكروه والمباح ليسا بحسن ولا قبيح على التفسير الثاني. وقالت المعتزلة والكرامية والبراهمة: الأفعال حسنة لذاتها, لكن منها: ما يهتدى العقل إلى الحسن والقبح فيه بالضرورة, كإنقاذ الغرقى, والكذب الذي لا نفع فيه. ومنها: ما يدرك بالعقل بالنظر والاستدلال, كحسن الصدق الذي فيه ضرر, وقبح الكذب الذي فيه نفع.

ومنها: ما يدركه بالسمع كحسن الصلاة والحج. والشرع كاشف للحسن والقبح لا موجب لهما. ثم إن القائلين بالحسن والقبح الذاتيين اختلفوا. فقالت القدماء: ليس في الفعل صفة تقتضي حسنه أو قبحه, بل الفعل يقتضي لذاته أحدهما. وقال بعض المتأخرين: حسن الفعل وقبحه لأجل صفة زائدة على الفعل لازمة له تقتضي حسنه أو قبحه, قالوا: الزنا قبيح, لأنه مشتمل على مفسدة اختلاط النسب المفضي إلى هلاك الولد. والصوم حسن لاشتماله على كسره قوة الشهوة الباعثة على الفساد. وقال آخرون: إن الفعل القبيح متصف بصفة توجب قبحه, والفعل الحسن لذاته حسن, ويقولون: إن كان في الفعل ما يؤدي إلى مفسدة كان قبيحا أن لم يكن كان حسنا. وقالت الجبائية: حسن الأفعال وقبحها بوجوه واعتبارات, والوجه عرضي مفارق مع قطع النظر عن الغير, والاعتبار عرضي مفارق بالنظر إلى الغير أفاده شيخي العلامة -رحمه الله- وذلك كالمواقعة بلا ملك إذا تحقق الاشتباه من جانب دون آخر, فهو حسن في حق من اشتبه عليه, قبيح في حق من لم يشتبه فهو حسن من وجه قبيح من وجه وعليك تطبيقه على تعريفه. ولقائل أن يقول: قوله: (لا يحكم العقل بأن الفعل حسن أو قبيح) ليس

بصحيح على إطلاقه؛ لأنه يحكم بذلك إن كانا بالتفسير الأول. وكان الواجب أن يذكر الأقسام, ثم يذكر أن حكم العقل منفي عن أي قسم منها. وأيضا قوله [49/أ] (وفعل الله حسن) لا تعلق له بهذا المبحث, بل هذا المبحث كله من مسائل الكلام, ولكن يذكره في الأصول من يذكره بأن لتصور الأحكام الذي يستمد منه الأصولي نوع تعلق به من حيث أن يعرف أن المباح هو الذي لا يكون مكروها ألبته, والواجب يكون حسنا البتة لا غير فكان ذكره ههنا في غير محله. ص- لنا: لو كان ذاتيا لما اختلف, وقد وجب الكذب إذا كان فيه عصمة نبي, والقتل والضرب وغيرهما. وأيضا: لو كان ذاتيا لاجتمع النقيضان في صدق من قال: لأكذبن غدا, وكذبه. واستدل: لو كان ذاتيا لزم قيام المعنى بالمعنى؛ لأن حسن الفعل زائد على مفهومه, وإلا لزم من تعقل الفعل تعقله, ويلزم وجوده [لأن] نقيضه لا حسن, وهو سلب, وإلا استلزم حصوله محلا موجودا، ولم يكن ذاتيا، وقد وصف الفعل به، فيلزم قيامه به. واعترض: بإجرائه في الممكن. وبأن الاستدلال بصورة النفي على الوجود, دور؛ لأنه قد يكون ثبوتيا أو منقسما, فلا يفيد ذلك. واستدل: فعل العبد غير مختار, فلا يكون حسنا ولا قبيحا لذاته إجماعا, لأنه إن كان لازما فواضح, وإن كان جائزا فإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم وإلا فهو اتفاقي. وهو ضعيف؛ لأنا نفرق بين الضرورية والاختيارية ضرورة, ويلزم عليه

فعل الباري. وأن لا يوصف بحسن ولا قبح شرعا. والتحقيق أنه يترجح بالاختيار. ش- استدل المصنف على نفي مدعى الخصم بدليلين؛ لأن بنفيه يلزم مدعاه. أحدهما: لو كان الحسن ذاتيا, أي لذات الفعل, أو لصفة تقتضيها ذاته, لما اختلف, أي لم يصر الحسن قبيحا وبالعكس, لأن الذاتي لا يزول, لكن قد يصير القبيح حسنا كالكذب إذا كان في عصمة نبي عن الهلاك, و [القتل] إذا كان قصاصا, والضرب إذا كان حدا. ولقائل أن يقول: الوصفان من محتملات المطلق [والمتصف] بأحدهما المقيد, ولا اختلاف ثمة البتة. والثاني: أنه لو كان كذلك لاجتمع النقيضان في صدق من يقول: لأكذبن غدا وكذبه, لأنه لا يخلو إما أن يكذب في الغد أو يصدق, فإن كذب لزم قبحه لكذبه في نفس الأمر وحسنه لاستلزامه صدق الخبر الأول؛ فإن المستلزم للحسن حسن فاجتمع في الخبر الثاني الحسن واللا حسن, وهو اجتماع النقيضين وإن صدق لزم حسنه في نفسه وقبحه, لاستلزامه كذب الخبر الأول, وفيه ما في الأول, والوجهان ليسا بدافعين للجبائية لقولهم بالوجه والاعتبار. واستدل -أيضا-: بأن الحسن والقبح لو كان ذاتيا للفعل لزم قيام العرض بالعرض؛ لأن الحسن زائد على نفس الفعل إذ هو ليس نفسه, ولا داخلا فيه, حيث

لم يلزم من تعقله تعقله, فإنا نعقل الصوم ولا يخطر ببالنا حسنه وهو موجود؛ لأن نقيضه وهو اللا حسن سلب لعدم [49/ب] استلزام حصوله محلا وجوديا. يجوز أن يقال: المعدوم لا حسن, والوجودي ليس كذلك, وإذا كان أحد النقيضين سلبا يكون الآخر موجودا, لاستحالة ارتفاعهما, ولأن الحسن لو لم يكن موجودا لم يكن ذاتيا, لأن المعدوم مسلوب, والذاتي لا يسلب, لكنه ذاتي فيكون موجودا وإذا ثبت أنه زائد وموجود, وقد وصف الفعل به, لزم قيام العرض بالعرض وهذا باطل باتفاق المتكلمين, وموضعه الكلام. ولقائل أن يقول: قيام العرض بالعرض محال مطلقا, أو بشرط أن لا يكون القائم اعتباريا. والثاني مسلم, ولكن الحسن اعتباري بالتفاسير المارة, ويؤيده قول الجبائية والأول ممنوع, فإن الاعتباري جاز أن يقوم بالمعدوم فضلا عن العرض. واعترض على الدليلين بنقض إجمالي وتفصيلي: أما الأول فتقريره أن يقال: لو كان الفعل ممكنا لزم قيام العرض بالعرض؛ لأن إمكان الفعل زائد عليه, لعدم استلزام تعقله, ووجودي, لأنه نقيض للا إمكان وهو عدمي, لا تصاف العدم به, والفعل يوصف به فيلزم قيام العرض بالعرض. وأما الثاني, فلأنا لا نسلم أن الحسن وجودي. قوله: لأن نقيضه لا حسن وهو سلب. قلنا: سلب صورة أو معنى, والثاني ممنوع, والأول مسلم, ولكن الاستدلال به على وجودية الحسن دور؛ لأن وجوديته حينئذ تكون موقوفة على إثبات أن لا حسن سلبي معنوي, وكونه كذلك موقوف على إثبات أن الحسن وجودي وذلك دور.

وإنما لم تكن صورة السلب كافية في ذلك, لأنها قد تكون ثبوتية كاللا معدوم فإنه لا يكون إلا موجودا, وقد تكون منقسمة إلى الثبوتي والعدمي كاللا امتناع فإنه يصدق على الموجود والمعدوم الممكنين, وإذا كان كذلك فما لم يثبت كون نقيضه موجودا لم يلزم كونه عدميا, وهذا الذي ذكره من النقض التفصيلي مختص بالوجه الأول من الدليل. وأما على الوجه الثاني: فما ذكره شيخي العلامة -رحمه الله- وهوه أن يقال: لا نسلم أن الحسن لو كان عدميا لم يكن ذاتيا للفعل. قوله: (لأن العدمي ليس من الصفات الذاتية للشيء). قلنا: ممنوع, فإن كل أمر مقتض لا تصافه بنقيض مباينه, فإن الإنسان يكون مقتضيا لا تصافه بكونه لا فرسا. واستدل -أيضا-: بأن فعل العبد غير مختار, وكل ما ليس بمختار ليس بحسن ولا قبيح لذاته. أما الصغرى فلأن فعل العبد إما أن يكون لازما لا يتمكن العبد من تركه, أو جائزا يتمكن منه, والأول واضح, لأن ما لا يتمكن من تركه ضروري, والضروري غير مختار. والثاني, إن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم بأن يقال الفعل مع المرجح إما أن يكون لازما, أو جائزا, والأول ضروري, والثاني يعود فيه التقسيم فإما أن ينتهي إلى ضروري, أو بتشكيك, أو ينتهي إلى اتفاقي وإن لم يفتقر إلى مرجح كان اتفاقيا, لأن صدوره في زمان [50/أ] دون آخر لما لم يكن الأمر كان اتفاقيا وهو ليس بمختار. وأما الكبرى فبالإجماع.

وضعف المصنف هذا الاستدلال بوجوه منها: أن هذا الدليل تشكيك في الضروريات, لأنا قاطعون بأن فعل العبد اختياري, للقطع بالتفرقة بين الضرورة والاختيار, فإن الضرورية [تصدر] عن العبد, إن أبى, كحركة الإنسان إلى أسفل بالقسر. والاختيارية لا تصدر إذا أبى, كحركته بالإرادة في السطوح المستوية, والتشكك في الضروريات لا يستحق الجواب. ولقائل أن يقول: هذا لا [يستقيم] على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري, لأن أفعال العباد عنده , كحركات المرتعش. ومنها: نقض إجمالي, وهو أن يقال: لو صح الدليل الذي ذكرتم على أن فعل العبد غير مختار, لزم أن يكون فعل الله -تعالى- غير مختار؛ لأنه إما أن يكون لازما أو جائزا, والأول ضروري, والثاني إن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم, وإن لم يفتقر كان اتفاقيا, والكل غير مختار, لكنه مختار فلا يكون الدليل صحيحا ولقائل أن يقول: إن التزم الخصم ذلك في مقام المناظرة بناء على مذهب الحكيم اندفع النقض. ومنها -أيضا-: نقض إجمالي, وهو أن الدليل المذكور لو كان صحيحا بجميع مقدماته لم يوصف فعل العبد بالحسن والقبح شرعا, لأن فعل العبد غير مختار لما ذكرتم وغير المختار لا يتصف بالحسن والقبح شرعا بالإجماع. ولقائل أن يقول: دعوى الإجماع باطلة؛ لأن أبا الحسن الأشعري يقول باضطرارية أفعال العباد, ويقول باتصافها بهما شرعاً.

وقال المصنف: والتحقيق أنه يترجح بالاختيار, ومعناه: أن فعل العبد جائز بذاته, ويترجح أحد جانبيه من الصدور وعدمه باختياره, وعند تعلق الاختيار به يصير لازما, واللزوم بالغير لا ينافي كونه جائزا بالذات فيجوز أن يكون حسنا أو قبيحا من حيث ذاته, لأنه لم يبلغ إلى حد اللزوم عن الاختيار, فإن المانع عنه هو ما يكون لازما بغير اختيار, وهو الوجوب السابق عليه. ولقائل أن يقول: الذي ظهر من كلامه هذا أن فعل العبد جائز مفتقر إلى مرجح فيتأتى للخصم أن يقول: الفعل مع ذلك المرجح, إما أن يكون لازما أو جائزا مفتقرا أو اتفاقيا, وهو أول المسألة. ص- وعلى الجبائية: لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب لم يكم تعلق الطلب لنفسه, لتوقفه على أمر زائد. وأيضا: لو حسن الفعل أو قبح لذاته, أو صفته لم يكن الباري مختارا في الحكم, لأن الحكم [بالمرجوح] على خلاف المعقول, فيلزم الآخر, فلا اختيار. ومن السمع (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) لاستلزام مذهبهم خلافه. ش- هذا دليل على إبطال مذهب الجبائية. وتقريره: لو كان حسن الفعل وقبحه لغير حسن الطلب من الوجوه والاعتبارات لم يكن تعلق الطلب [50/ب] لنفس الفعل, بل لأجل ذلك الاعتبار العارض بالقياس إلى غيره, لأن التعلق حينئذ يتوقف على حصول ذلك الاعتبار الزائد على الفعل, والتالي باطل, لأن التعلق نسبة بين الطلب والفعل, والنسبة بين الأمرين لا تتوقف إلا على حصولهما. والطلب قديم فإذا حصل الفعل تعلق الطلب به سواء عرض ذلك

الاعتبار للفعل أو لم يعرض. ولقائل أن يقول: الطلب لتحصيل الفعل فلو تعلق به بعد حصوله لزم تحصيل الحاصل. وهو محال, ولأن المراد بالفعل إن كان من حيث هو فليس بحاصل في الخارج, وإن كان بصفة يلزم المدعي. وإن كان أريد بالحصول الحصول العلمي, فهو قديم, وما نحن فيه ليس من ذلك. وقوله: (وأيضا) دليل على إبطال مذهب الخصوم على العموم. وتقريره: لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفة لازمة أو اعتبارية عارضة له, لم يكن الباري مختارا في الحكم؛ لأن الفعل الحسن يكون حينئذ راجحا على القبيح في أن يكون متعلقا لحكم الوجوب, والفعل القبيح يكون راجحا على الحسن في أن يكون متعلقا لحكم التحريم وحينئذ لا يخلو إما أن يكون الحكم متعلقا بما هو راجح بالنسبة إليه, أو بما هو غير راجح, والتالي باطل, لئلا يلزم ترجيح المرجوح, فإنه خلاف صريح العقل, فتعين الأول ضرورة وإذا كان الحكم بالراجح ضروريا لم يكن مختارا في حكمه. ولقائل أن يقول: كون الفاعل مختارا يقتضي القدرة, ومتعلقها الإمكان, وليس للوصف الزائد مدخل ضروريا كان أو غيره, ولأن العمل بخلاف صريح العقل قبيح أو ممتنع, لكن بالنسبة إلى الشاهد, وأما بالنسبة إلى الغيب فممنوع وسيأتي مثل هذا في كلامه. وقوله: (ومن السمع) دليل آخر على نفي الحسن والقبح العقليين, مأخوذ من

السمع, وهو قوله -تعالى-: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). ووجهه: أن الآية تقتضي نفي التعذيب بمباشرة بعض الأفعال وترك بعضها قبل بعثة الرسل. ومذهب المعتزلة: يستلزم تعذيب تارك بعض الأفعال, ومباشر بعضها قبل ذلك, لأن الحسن والقبح على مذهبهم يتحقق قبل البعثة. والحسن في بعض الأفعال يستلزم كونه واجبا, والقبح يستلزم كونه حراما فيكون بعض الأفعال قبل البعثة واجبا, وبعضها حراما, وترك الواجب ومباشرة المحرم يستحق به العذاب. فالتعذيب قبل البعثة لازم لمذهب المعتزلة, وهو مناف لمقتضي الآية, ومنافي اللازم مناف للملزوم, فمذهبهم مناف لمقتضي الآية. ولقائل أن يقول: ترك الواجب يستدعي استحقاق العذاب, لا العذاب. فمذهبهم يوجب استحقاق العذاب, ومقتضي الآية نفي التعذيب فلا يكون مذهبهم [51/أ] منافيا لمقتضى الآية. لا يقال: مذهب المعتزلة أن التعذيب على ارتكاب الصغائر قبل التوبة وعلى الكبائر قبلها واجب على الله تعالى- فيكون التعذيب لاستحقاق العذاب. لأنا نقول: الملازمة بعد الخطاب أو قبله, والأول مسلم ولا يفيد, والثاني ممنوع, فإن القبح وإن كان ذاتيا يستحق به العذاب, لكن يجوز أن يكون مشروطا بالخطاب, على أن قوله: على ارتكاب الصغائر قبل التوبة لم يعرف مذهباً لهم, بل

دليل المعتزلة على أن الحسن والقبح ذاتيان

الصغائر مكفرة إذا اجتنبت الكبائر. ص- قالوا: حسن الصدق النافع والإيمان, وقبح الكذب الضار والكفران معلوم ضرورة من غير نظر إلى عرف أو شرع أو غيرهما. والجواب: المنع, بل بما ذكر. قالوا: إذا استويا في المقصود مع قطع النظر عن كل آثر العقل والصدق. وأجيب: بأنه تقدير مستحيل, فلذلك يستبعد منع إيثار الصدق. ولو سلم فلا يلزم في الغائب, للقطع بأنه لا يقبح من الله مع تمكين العبد من المعاصي ويقبح منا. قالوا: لو كان شرعيا لزم إفحام الرسل, فيقول لا أنظر في معجزتك حتى يجب النظر ويعكس, [أو] لا يجب حتى يثبت الشرع ويعكس. والجواب: أن وجوبه عندهم نظري فنقول بعينه على أن النظر لا يتوقف على وجوبه. ولو سلم فالوجوب بالشرع نظر أو لم ينظر, ثبت أو لم يثبت. قالوا: لو كان ذلك لجازت المعجزة من الكاذب, ولأمتنع الحكم بقبح نسبة الكذب على الله - تعالى- قبل السمع والتثليث وأنواع الكفر من العالم. وأجيب: بأن الأول إن امتنع فلمدرك آخر. والثاني ملتزم إن أريد التحريم الشرعي. ش- هذا دليل المعتزلة على أن الحسن والقبح ذاتيان. وتوجيهه أن يقال: حسن الصدق النافع, وحسن الإيمان, وقبح الكذب الضار

والكفران معلوم لنا من غير نظر إلى عرف أو شرع أو برهان, وكل ما هو كذلك فهو ذاتي لفرض عدم خارج أصلا. وإذا كانا ذاتيين في ذلك, كانا في غيرهما كذلك لعدم القائل بالفصل. وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم أنهما في هذه الأمور معلومان لنا بالضرورة, بل علم بما ذكر من العرف أو الشرع أو البرهان, لأنا لو قدرنا أنفسنا خالية عن موجبات الشرع والعرف والبرهان, وعرضنا هذه الأمور لم نجزم بحسنها ولا بقبحها. ولقائل أن يقول: إذا حققنا الخلاف قبل الشرع في لم يتعارفوا ذلك وليسوا من أهل البرهان, لم يلزم من ذلك محال, فكان ممكنا, ولا مبدأ له إلا الذات فكان ذاتيا, على أن البرهان يستلزم ذلك لا محالة. ألا ترى إلى قولنا: الإيمان شكر المنعم, وشكر المنعم حسن؛ فإنه إما أن يظهر ما خفي على الخصم من أنه ذاتي للإيمان, أو يثبت له الحسن, ولا سبيل الثاني عندهم, لأن العقل غير مثبت فتعين الأول, ويثبت به المطلوب. واستدلوا -أيضا-: بأن الصدق والكذب إذا استويا في جميع الأمور التي يمكن أن تكون متعلقة [51/ب] بغرض العاقل بحيث لا يختلفان إلا بكون أحدهما صدقا والآخر كذبا مع قطع النظر عن كل خارج من عرف وشرع وبرهان آثر العقل الصدق, ولا مبدأ إلا الذات فكان ذاتيا. وأجاب المصنف: بأن التقدير محال, لاستحالة تساوي المتنافيين في جميع الصفات, والمحال جاز أن يستلزم محالا آخر. ولو سلم أنه ليس بمحال, لكنه يفيد المطلوب في الشاهد دون الغائب,

إذ لا يستبعد منع إيثار الصدق بالنسبة إلى الغائب. والمتنازع فيه الحسن والقبح للأفعال بالنسبة إلى أحكام الله -تعالى- ويجوز أن يقع بالنسبة إليه ما لا يجوز أن يقع منا. ألا ترى أن تمكين العبد من المعاصي لا يقبح من الله -تعالى- ومنا يقبح, وإذا كان كذلك لم يصح قياس حسن الصدق في حق الله على حسنه في حقنا. ولقائل أن يقول: لا نسلم استحالة ذلك بالنسبة إلى الفاعل المختار, ألا ترى إلى قوله -تعالى-: (سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) فإنه ساوى بين المتنافيين من كل وجه. وقالوا -أيضا-: لو كان شرعيا لزم إفحام الرسل, واللازم باطل بالاتفاق وبيان الملازمة أن الرسول لما ادعى النبوة وأظهر المعجزة وقال للجاحد انظر في معجزتي ليظهر لك صدق دعواي. يقول الجاحد: لا أنظر فيها حتى يجب علي النظر فيها, ويعكس ويقول: ولا يجب النظر علي حتى انظر فيها, لأن وجوب النظر حينئذ بالشرع فيتوقف على ثبوت الشرع, وثبوته يتوقف على دلالة المعجزة على صدق الرسول في دعواه ودلالتها على ذلك موقوفة على النظر في المعجزة, فيقول لا أنظر في معجزتك لئلا تثبت نبوتك , ويلزم الإفحام. وحاصله أن يقول: لا أنظر حتى يجب, ولا يجب حتى أنظر فيتوقف كل منهما على الآخر, وهو دور. ولقائل أن يقول: التقرير المذكور يؤدي إلى أن يكون النظر واجبا بالعقل, والمذهب خلافه, وأن هذه المسألة تدل على أن النظر واجب شرعا لا على أن حسن الأفعال عقلي أو شرعي, بل هذه مسألة أخرى مختلف فيها هي من مقدمات مسألة التحسين وذلك مثل أن يقال: الإيمان حسن عقلا, لأنه شكر المنعم, وشكر المنعم

واجب عقلاً, وذلك موقوف على معرفة المنعم وهي موقوفة على النظر, وما لا يتم الواجب إلا به وهو مقدور فهو واجب. فالنظر واجب, لكنه جهة أخرى خلاف ما نحن فيه. وقوله: (أو لا يجب حتى يثبت بالشرع ويعكس) وجه آخر, وهو أن يقول المعاند: لا أنظر في معجزتك حتى يجب النظر علي, ولا يجب النظر علي في معجزتك حتى يثبت الشرع, ولا يثبت الشرع ما لم يجب علي النظر, لأنه حينئذ لا يثبت إلا بنظري في معجزتك, وذلك دور. وأجاب المصنف عن الدليل المذكور أولا: بأنه مشترك الإلزام؛ لأن وجوب النظر عند المعتزلة نظري [52/أ] لتوقفه على مقدمات متوقفة على أنظار دقيقة, فإن العلم بوجوب النظر, موقوف على العلم بوجوب معرفة الله -تعالى- وعلى العلم بأن النظر طريق إليها, ولا طريق إليها سواه, وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب,

فكل ذلك نظري فحينئذ يقول المعاند: لا أنظر في معجزتك حتى يجب علي النظر, ولا يجب علي النظر فيها حتى أنظر, فيلزم الدور. فكل ما يجعل المعتزلة جوابا لهم , فهو جوابنا. وفيه نظر؛ لأن لهم أن يوجهوا الإفحام على هذا الوجه: وجوب النظر شرعي فلا يثبت إلا به, والعقل لا مدخل له في ثبوت الشرع فلا بد للشرع من شرع آخر ويتسلسل أو يدور, وهذا ليس بمشترك الإلزام. وثانيا: بأن النظر في المعجزة لا يتوقف على وجوب النظر, لإمكان أن ينظر العاقل قبل تعلق الوجوب به. ولئن سلمنا أن النظر يتوقف على وجوبه, لكن وجوبه لا يتوقف على نظر العاقل, بل إنما يكون بالشرع عندنا, فوجوب النظر على العاقل متحقق في نفس الأمر, نظر أو لم ينظر, ثبت الشرع أو لم يثبت. ولا امتناع في ذلك, غايته أنه تكليف الغافل عن وجوب ما كلف به عليه, وهو جائز في هذه الصورة للضرورة. ولقائل أن يقول: وجوب النظر في معرفة الله بالشرع دور, أو تسلسل وبالعقل هو المطلوب. وقالوا -أيضا-: لو كان شرعيا لجاز ظهور المعجزة من الكاذب, واللازم باطل بالضرورة, فالملزوم كذلك. بيان الملازمة: أنه لو كان كذلك لحسن من الله كل شيء ولو حسن من الله كل

شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب, فيجوز أن تظهر المعجزة منه, وهذا فاسد, لأنه إذا كان شرعيا كان كل ما أمر به حسنا لا غير. وقوله: (ولأمتنع الحكم) وجه آخر. وتقريره: لو كانا شرعيين لامتنع الحكم من العالم قبل ورود الشرع بقبح نسبة الكذب إلى الله -تعالى- وبقبح التثليث وبقبح أنواع الكفر من العالم, لأنه لا مجال لحكم العقل حينئذ, ولم يظهر الشرع بعد, لكن أطبق العقلاء على الحكم بقبح ذلك كله. وأجاب المصنف عن الأول: بأنه إن أريد بالجواز, الجواز العقلي على معنى أنه لا يمتنع إظهار المعجزة على يد الكاذب امتناعا ذاتيا, فلا نسلم انتفاء التالي, فإن إظهار المعجزة على يد الكاذب لا يمتنع لذاته وإن أريد بالجواز بحسب العادة فلا نسلم صدق الملازمة؛ لجواز كونهما شرعيين, وامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب يدرك بمدرك آخر غير القبح الذاتي. وهو العادة فإنا نعلم امتناع ذلك بحسب العادة. ولقائل أن يقول: الامتناع عن ذلك ذاتي, فإن الممتنع هو ما يلزم من فرض وقوعه محال. ويلزم على ذلك عدم حكمة الباري, وسفهه -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وعن الثاني: بمنع انتفاء [52/أ] التالي إن أريد بالحكم بقبح هذه الأمور الحكم بتحريمها شرعا فإنا نلتزم أن الحكم بقبح هذه الأمور قبل الشرع ممتنع, وإن

أريد به الحكم بتحريمها عقلا فلا نقول به. واعلم أن الكلام في الحسن والقبح على وجه التنازع بين المعتزلة والأشاعرة لم يصدر عن تحصيل, لأنه بالتفسير الأول عقلي ليس إلا، وبه يفسر المعتزلة لا الأشاعرة, وبالتفسيرين الأخيرين شرعي ليس إلا, وبه يفسره الأشاعرة دون المعتزلة. فاختلف المبحث وانتفى النزاع والله أعلم.

مسألتان في شكر المنعم وفي الأشياء قبل ورود الشرع

مسألتان في شكر المنعم وفي الأشياء قبل ورود الشرع ص- مسألتان على التنزل: الأولى شكر المنعم ليس بواجب عقلا؛ لأنه لو وجب لوجب لفائدة وإلا لكان عبثا وهو قبيح, ولا فائدة لله -تعالى-، ولتعاليه عنها. ولا للعبد في الدنيا؛ لأنه مشقة, ولا حظ للنفس فيه, ولا في الآخرة, إذ لا مجال للعقل في ذلك. قولهم: الفائدة: الأمن من احتمال العقاب في الترك وذلك لازم الخطور, مردود بمنع الخطور في الأكثر. ولو سلم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر؛ لأنه تصرف في ملك الغير. أو لأنه كالاستهزاء. كمن شكر ملكا على لقمة, بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أكثر. الثانية: لا حكم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن أو قبح. وثالثهما: لهم الوقف [عن] الحظر والإباحة. وأما غيرها فانقسم عندهم إلى الخمسة. لأنها لو كانت محظورة وفرضنا ضدين لكلف بالمحال. الأستاذ: إذا ملك جواد بحرا لا ينزف [وأحب] مملوكه قطره, فكيف يدرك تحريمها عقلًا؟

قالوا: تصرف في ملك الغير. قلنا: يبتنى على السمع. [ولو سلم] ففيمن يلحقه ضرر [ما]. ولو سلم فمعارض بالضرر الناجز. ش ــــ اعلم أن بطلان قاعدة التحسين والتقبيح يستلزم بطلان كل فرع مرتب عليها، ولكن عامة الأشاعرة يفردون مسألة شكر المنعم عقلاً، ومسألة الحكم في الأشياء قبل ورود الشرع بالذكر في الإبطال لكثرة دورانهما في المباحث، وههنا التنزل عبارة عن تقدير صحة القاعدة مع استثناء بطلان الفرع المرتب عليها زيادة بيان لبطلانها، وتقديره أن يقال: سلمنا أن تلك القاعدة ثابتة، لكن هذا الفرع غير ثابت تلويحاً إلى أن الفرع الذي له مأخذ واحد إذا بطل دلّ على أن القاعدة غير ثابتة؛ لأنه علة إنيّة لثبوتها، لكنها سلمت من باب إرخاء العنان لتحصيل المقصود. فأما مسألة شكر المنعم وهو عبارة عن استعمال جميع ما أنعم الله به على العبد من القوى الظاهرة والباطنة فيما خلقت له. فقد استدل عليها بشرطية هي قوله: لو وجب، لوجب لفائدة، وإلا لكان عبثاً، وهو قبيح. والفائدة هي: ما يكون الشيء به أحسن حالاً. وبيان الملازمة وبطلان التالي ظاهران فلا بد من فائدة إما للمشكور [53/أ] وهو باطل لتعاليه عنها، أو للشاكر في الدنيا وهو باطل؛ لأن في الشكر على التفسير المارّ مشقة عظيمة، ولا حظ للنفس

فيها. أو في العقبى وهو كذلك؛ إذ لا مجال للعقل في الجزم بحصولها فانتفى الفائدة، فلو وجب كان عبثاً وهو قبيح. ولقائل أن يقول: لا مجال للعقل في ذلك مطلقاً، أو لعقولنا، والثاني مسلم ولا يدفع، والأول ممنوع؛ لجواز أن يكون لبعض العقول في ذلك مجال كعقول الأنبياء ـــــ عليهم السلام ـــــ، وأن يقول: العبث ما لا فائدة فيه، فكان معنى كلامه: لوجب لفائدة وإلا كان بلا فائدة، وهو ليس بصحيح. وقوله: {{وقولهم}} مبتدأ، وقوله: {{مردود}} خبره، وهو جواب إيراد المعتزلة. وتقريره: لا نسلم عدم جواز أن يكون الشكر للشاكر لفائدة في الدنيا. قوله: {{لأنه لا حظ للنفس فيها}}. قلنا: ممنوع؛ فإن الأمن من احتمال العقاب على ترك الشكر الذي يلزم أن يخطر على بال العاقل فائدة. وجوابه بالرد وهو أن يقال: لا نسلم أن هذا الاحتمال لازم الخطور بالبال ولئن سلّم خطوره، فمعارض باحتمال العقاب على الشكر بوجهين: أحدهما: أن الشكر تصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن الشكر إنمت هو باستعمال القوى المذكورة التي هي كلها ملك الحق ـــــ تعالى وتقدس ـــــ والتصرف في ملك الغير بغير إذنه يحتمل العقاب عليه.

الثانية: الحكم على الأشياء قبل الشرع

والثاني: أن الشكر على نعم الله كالاستهزاء به، كمن شكر ملكاً عظيماً على لقمة وصلت إليه من جهته، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أعظم قدراً من الدنيا كلها بالنسبة إلى الله ـــــ تعالى ـــــ فربما يكون الشكر حينئذٍ سبباً للعقاب فكان العقاب محتملاً. ولقائل أن يقول: على الأول احتمال العقاب بترك الشكر، إما أن يكون واقعاً في نفس الأمر، أو لا. فإن كان الأول فالأمن منه من أجلّ الفوائد، وإن كان الثاني لزم أن تكون مواعدة الأنبياء بعد مجيئها على خلاف ما في الواقع وذلك باطل، بخلاف الشكر فإن الأنبياء لم يواعدوا عليه أصلاً. لا يقال: الأنبياء لم يخبروا إلا بعد ورود الشرع، وليس الكلام فيه؛ لأن الاحتمال هو الامكان فلا يتحدد. وأن يقول: التصرف في ملك الغير بغير إذنه لا يجوز مطلقاً، أو إذا تضرر به الغير. والأول ممنوع، والثاني مسلم، لكنه لا يتضرر، وسيجئ في كلامه. وأن يقول: إن أريد بالإذن، إذن الشرع فهو عين النزاع، وإن أريد غيره، فلم لا يجوز أن يكون الاقتضاء العقلي إذناً. وأن يقول: احتمال العقاب إنما يكون بارتكاب قبيح، والقبح إن كان شرعياً فخلاف المفروض، وإن كان عقلياً لزم مدعاهم. وأما مسألة: الحكم على الأشياء قبل الشرع: فمذهب الأشاعرة: أن الأفعال قبل الشرع لا حكم لها؛ ضرورة عدم

الشرع، وبطلان الحسن والقبح العقليين. وأما المعتزلة فقالوا: الأفعال إما أن تكون اضطرارية كالتنفس ونحوه، أو لا، ولا بد من قطع الإباحة في الأول. والثاني: إما أن يقضي العقل فيها بحسن وقبح، أو لا. واختلفوا في الثاني على مذاهب ثلاثة: الأول: الحظر، وهو مذهب معتزلة بغداد. والثاني: الإباحة، وهو مذهب معتزلة البصرة. والثالث: التوقف، لهم. وأفاد بقوله: {{لهم}} أن هذا الاختلاف بين المعتزلة القائلين بوجود الحكم قبل الشرع، لا بين الأشاعرة كما تقدم. ونبه بقوله: {{ثالثها}} على أن ثمة مذهبين آخرين، وإذا كان الثالث التوقف يعلم أن أحد الأولين الحظر والآخر الإباحة. والأول: أعني الذي يقضي العقل فيه بحسن أو قبح ـــــ ينقسم عندهم إلى الأقسام الخمسة؛ لأن قضاء العقل فيها إما بالحسن أو بالقبح والأول إما أن لا يترجح وجوده على تركه وهو المباح. أو يترجح وجوده. وحينئذٍ إما أن يذم تاركه وهو الواجب أو لا وهو المندوب. والثاني: إما أن يذم فاعله وهو الحرام. أو لا وهو المكروه.

وأفاد أيضاً ـــــ بقوله: {{عندهم}} أن هذه الأقسام الخمسة تحققها قبل الشرع إنما هو على رأي المعتزلة. واعلم أن المصنف لم يتعرض لإبطال مذهبهم في الأفعال الاضطرارية لأن نفي الإباحة عنها لا يشبه أوضاع الملّة الحنفية السهلة السمحة البيضاء. ولا لإبطال الأفعال الاختيارية التي يقضي العقل فيها بحسن أو قبح، اكتفاءً بما قيل في إبطال قاعدة الحسن والقبح وإنما تعرض للتي لم يقض بشيء منهما فبدأ بإبطال مذهب الحاظر بما تقريره: أنها لو كانت محظورة، أي محرمة قبل الشرع، وفرضنا ضدين كالحركة والسكون، لزم التكليف بالمحال، لامتناع خلو المحل عنها، والتالي باطل. وفيه نظر؛ لأن التكليف لا يكون إلا بالعقل أو الشرع، والفرض عدمهما فكان غلطاً صرفاً. ولأن مثل تلك الصورة تكون من الضروريات، وليس الكلام فيها. والأستاذ أبو إسحاق رد مذهب هذه الطائفة بتمثيل إقناعي قال: إذا ملك جواد بحراً لا ينزف، أي لا ينفد ماؤه، وأحب مملوكه قطرة منه. فكيف يدرك تحريمه عقلاً؟ يعني أنه لا يتصور منع الجواد مملوكه عن تلك القطرة. فكذلك الباري ـــــ تقدس ذاته ـــــ المالك المطلق لا يمنع مملوكه من الاستلذاذ بنعمه. ولقائل أن يقول: هذه خطابة لم تفد شيئاً؛ لأن الحكم بالعدم إما أن يكون بالعقل أو بالشرع، والفرض عدمهما. والقائلون بالحظر قالوا: مباشرة الأفعال المذكورة تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو حرام كما في الشاهد، وهذا كلام باطل، لِمَا مَرّ أن الفرض عدم محرم شرعي وعقلي. وأجاب المصنف بأن كون التصرف حراماً في ملك الغير بغير إذنه لا يكون إلا

بالشرع ولا شرع. ولئن سلم أنه ليس بالشرع بل بالعقل ولكنه [54/أ] حرام إذا تضرر الغير به، وأما إذا لم يتضرر كالاستضلال بجدار الغير والاقتباس بناره فلا. ولئن سلم حرمته مطلقاً، لجواز أن يتضرر المتصرف به آجلاً، لكنه معارض بالضرر الناجز، أي الحاضر؛ فإن الترك يوجب الضرر في الحال، ودفعه واجب. وهذا كله باطل؛ لِمَا مَرّ من عدم الحاكم. ص ــــ وإن أراد المبيح أن لا حرج، فمسلم. وإن أراد خطاب الشارع فلا شرع. وإن أراد حكم العقل بالتخيير فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه. قالوا: خلقه وخلق المنتفع به، فالحكمة تقتضي الإباحة. قلنا: إنه معارض بأنه ملك غيره وخلقه ليصبر فيثاب. وإن أراد الواقف أنه وقف لتعارض الأدلة ففاسد. ش ــــ هذا إبطال مذهب القائل بالإباحة. وتقريره: المبيح إن أراد بكونه مباحاً أن لا حرج في الفعل والترك فهو مسلم لعدم الحاكم بالحرج، وإن أراد بالإباحة خطاب الشارع وهو الإذن الشرعي في الفعل مع نفي الحرج فلا إباحة قبل الشرع، وإن أراد بالإباحة حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك، فلا إباحة؛ إذ الكلام في الأفعال التي ليس للعقل فيها مدخل. وفيه نظر؛ لجواز أن يلتزم الخصم الوجه الأول، وحينئذٍ يكون الإبطال باطلاً. وقال القائلون بالإباحة: خلق ما ينتفع به، وخلق من ينتفع به وذلك لا يخلو

عن حكمة وإلا كان عبثاً، والحكمة منه حصول الفائدة وهي لا تكون للخالق لتعاليه عنها فتعين المنتفع به لها بالالتذاذ أو الاجتناب، أو الاستدلال على الصانع، وكل ذلك بالتناول فكان مباحاً وفيه نظر؛ لأنه مبني على نفي العبث وقد عرفت ما فيه. وقوله: وكل ذلك بالتناول. ليس بصحيح؛ لأن الاستدلال قد يكون من جهة الباصرة لا من جهة الذائقة. وأجاب المصنف بمعارضة ومناقضة: أما المعارضة: فبأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم وفيه نظر، أما أولاً: فلأنه أبطله حين استدل به القائل بالحظر. وأما ثانياً: فلأن الحاكم بالحرمة غير موجود. وأما المناقضة: فهي أنا نمنع عدم الانتفاع بدون التناول، لجواز أن يكون خلقه ليصبر المكلف على ترك التناول فيثاب على الصبر. وفيه نظر؛ لأن الحاكم بهذا الجواز إما العقل أو الشرع، والفرض خلافهما. وقوله: {{وإن أراد الواقف}} بيان إبطال مذهب الواقف. وتقريره: الواقف عن الحكم بالحظر والإباحة، إن وقف لتعارض أدلة الحظر والإباحة ففاسد؛ لأن التعارض إنما يكون بين موجودين وقد بينا بطلانهما. وإن وقف لأن الحكم بهما موقوف على الشرع، والمفروض خلافه كان حقاً وفيه نظر؛ لأن الوقف لذلك مناقض لمذهبهم، فكيف يقف به؟ على أن القسمة غير حاصرة، لجواز أن يقف باعتبار أن [54/ب] المُحَسّن إننا هو العقل، والفرض في أفعال لا تدخل تحت حكمه فلا بد من الوقف.

الحكم، تعريفه

ص ــــ الحكم. قيل: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين. فورد مثل: {والله خلقكم وما تعملون} فزيد بالاقتضاء أو التخيير. فورد كون الشيء دليلاً وسبباً وشرطاً. فزيد أو الوضع، فاستقام. وقيل: بل هو راجع إلى الاقتضاء أو التخيير. وقيل: ليس بحكم. ش ــــ هذا هو الأصل الثاني، وذكر فيه مقدمة. وثلاث عشرة مسألة المقدمة في تعريف الحكم وأقسامه. قيل في تعريفه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين. والخطاب: توجيهه ما أفاد نحو الحاضر أو من في حكمه. وأريد به ههنا ما توجه نحو المستمع، أو من في حكمه. فالخطاب: كالجنس، يتناول المحدود وغيره، كخطاب الملك، والبشر. وبإضافته إلى الله خرج خطاب غيره. وقوله: {{المتعلق بأفعال المكلفين}} يخرج مثل قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّالقَيُّومُ} فإنه خطاب الله، لكنه لم يتعلق بأفعال المكلفين.

واعترض: بأنه غير مطرد، فإن مثل قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ (96)} ليس بحكم، والحد صادق عليه، فزيد عليه {{بالاقتضاء أو التخيير}} فاطرد إذ ليس في البعض طلب أو تخيير. فانتفض العكس بالزيادة؛ لأن كون الشيء دليلاً، كدلوك الشمس للصلاة، وسبباً كالزنى لوجوب الحد، أو شرطاً كالوضوء للصلاة أحكام، والحد ليس بصادق عليها؛ إذ ليس طلب ولا تخيير. فيفرق الأصوليون حينئذٍ، فمنهم من التزم الاختلال فزاد على التعريف {{أو الوضع}} فاستقام التعريف طرداً وعكساً. فإن الله ـــــ تعالى ـــــ لما جعل الدلوك دليلاً على وجوب الصلاة، والزنا سبباً لوجوب الحد، والوضوء شرطاً لصحة الصلاة، كان ذلك كله بوضع الله ـــــ تعالى ـــــ فيدخل بسبب كونه وضعاً تحت الحكم. ومنهم من منع الاختلال، وقال: لا حاجة إلى هذا القيد. واختلفوا فمنهم من قال: إن ما هو من باب الوضع أحكام راجعة إلى الاقتضاء أو التخيير؛ لأن كون الدلوك دليلاً راجع إلى الوجوب، وهو من الاقتضاء. وكذا كون الزنا سبباً للحد، وكون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة راجع إلى الإباحة وهو التخيير.

ومنهم من قال: إلى أن ما هو من باب الوضع ليست بأحكام بل علامات لها؛ لأن المعنى من كون الدلوك دليلاً على وجوب الصلاة، أن وجوبها يظهر عنده، وكذا سببية الزنا، وشرطية الوضوء. وإذا لم تكن أحكاماً لا يصح قيده بالوضع، لئلا يدخل في الحد ما ليس من المحدود. وخلله كثير فمنه: أنه ذكر الخطاب وأراد به ما وقع به الخطاب وهو مجاز. ومنه: أن المراد بالمكلفين إن كان الحقيقة دار، وإن كان المجاز اختل. ومنه: أن الحكم إما أن يكون قديماً أو حادثاً، ولا سبيل إلى الأول؛ لأن فعل العبد يوصف به، ووصف الحادث، حادث بالضرورة. ولا إلى الثاني؛ لأنه عرف بخطاب الله، وهو قديم لا محالة. ولم أورد شيئاً مما اعترض به في الشروح؛ فإنه كثير لا يحتمل ذكره هذا المختصر.

ص ــــ وقيل: الحكم، خطاب الشارع بفائدة شرعية تختص به، أي لا تفهم إلا منه؛ لأنه إنشاء فلا خارج له. ش ــــ هذا تعريف آخر للحكم لبعض الأصوليين، واختاره منا صاحب البديع. فقوله: {{خطاب}} كالجنس، وبإضافته إلى الشارع خرج خطاب غيره. والفائدة ما يكون الشيء به أحسن حالاً، وخرج باتصافها بالشرعية الخطاب الذي يفيد فائدة عقلية أو حسية، كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات. وبقوله: {{تختص به}}، أي تختص الفائدة بخطاب الشارع، خرج أخبار الشارع عن المغيبات، مثل قوله ـــــ تعالى ـــــ: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)}؛ لأن المراد بالاختصاص هو أن لا تفهم تلك الفائدة الشرعية إلا من ذلك الخطاب. والإخبار الشرعي وإن كان خطاباً بفائدة شرعية، لكن تفهم تلك الفائدة من غير ذلك الخطاب. وهذا لأن الحكم إنشاء ليس لنسبته خارج يعرف منه نسبته الذهنية فلا يعلم إلا من نفس الخطاب بخلاف الإخبار فإن لنسبته الذهنية خارجاً يطابقه أو لا يطابقه، فيمكن معرفتها منه، ولهذا كان محتملاً للصدق والكذب باعتبار تطابق النسبتين ـــــ أعني الذهنية والخارجية ـــــ وعدمه. والنظر الأول في التعريف المتقدم، والثالث اثنان ههنا. وآخر: أخذ الشارع والشرعية في تعريف الحكم الشرعي. وآخر: أن الفائدة تقتضي مستفيداً البتة، والشارع متعالٍ عنها فكان المخاطب.

ويكون تقدير كلامه: الحكم: خطاب الشارع بأمر يكون المخاطب أحسن حالاً به. فلا يكون متناولاً للإباحة. وآخر: أنه استدل على التعريف بقوله: لأنه إنشاء، وقد تقدم الكلام على فساده.

أقسام الحكم الشرعي

بدأ يقسم الحكم الشرعي إلى واجب ومندوب، وحرام وكراهة وإباحة ص ــــ فإن كان طلباً لفعل غير كفٍ، ينتهض تركه في جميع وقته، سبباً للعقاب فوجوب. وإن انتهض فعله خاصة للثواب فندب. وإن كان طلباً للكف عن فعل ينتهض فعله سبباً للعقاب فتحريم ومن يسقط {{غير كف}} في الوجوب يقول: {{طلباً لنفي فعل}} في التحريم. وإن انتهض الكف خاصة للثواب فكراهة. وإن كان تخييراً فإباحة. وإلا فوضعي. وفي تسمية الكلام في الأزل خطاباً، خلاف. ش ــــ هذا بيان أقسام الحكم. وتقريره: الحكم الشرعي إن كان طلباً لفعل غير كف ينتهض ترك ذلك الفعل في جميع وقته سبباً للعقاب، فهو الوجوب. وخرج بقوله: {{طلباً}} التخيير والوضع، وبقوله: {{غير كف}} الحرمة والكراهة فإنها طلب فعل كف عند من يقول إن الكف فعل.

وبقوله: {{ينتهض تركه سبباً [55/ب] للعقاب، أي [يصير تركه سبباً لاستحقاق العقاب، يخرج عنه الندب]. وقوله: {{في جميع وقته}} لئلا تخرج الصلاة في أول الوقت فإن تركها فيه لا ينتهض سبباً للعقاب بل في جميع وقتها. وإن كان طلباً لفعل غير كف ينتهض فعله خاصة سبباً لاستحقاق الثواب فندب. وقوله: {{خاصة}} لبيان عدم ترتب شيء على تركه. وإن كان الحكم طلباً لكف عن فعل يكون فعله سبباً لاستحقاق العقاب فتحريم. والأولى أن يقال: فحرمة، لتطابق قوله: {{وجوب، وندب}}. وقوله: {{ومن يُسْقِط غير كف في الوجوب}} إشارة إلى قول من يقول الكف غير فعل، ويسقط {{غير كف}} في تعريف الوجوب؛ لأن ذكر الفعل يغني عنه، ويقول في تعريف التحريم: إنه طلب لنفي فعل يكون فعله سبباً للعقاب. وإن كان الحكم طلباً لكف انتهض ذلك الكف خاصة سبباً للثواب، فكراهة. وقوله: {{خاصة}} لمثل ما تقدم. وإن كان الحكم تخيير المكلف بين الفعل والترك فإباحة. وإلا؛ أي وإن لم يكن الحكم طلباً ولا تخييراً فوضعي، وفيه بحث. أما أولاً: فلأن الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. والمراد بالاقتضاء: الطلب، وبالتخيير: الإباحة لا محالة. وهو ينقسم إلى

خمسة أقسام، ومورد القسمة مشترك بالضرورة فيكون في كل من الوجوب والإباحة الاقتضاء والتخيير والوضع. وذلك باطل بالبديهة. لا يقال: قوله: {{بالاقتضاء}} في تعريف الحكم فصل للوجوب. و {{التخيير}} فصل للإباحة، و {{الوضع}} للوضعي؛ لأنه حينئذٍ يلزم أن يكون الفصل داخلاً في طبيعة الجنس، وذلك باطل. وأما ثانياً: فإنه ينقسم للواجبات المؤقتة دون غيرها. وأما ثالثاً: فلأنه لم يتناول الوجوب [بالكفاية]. وقوله: {{وفي تسمية الكلام في الأزل خطاباً}} إشارة إلى اختلاف الأصوليين فيها، فإن منهم من ذهب إلى أن الخطاب هو ما قصد به إفهام المتهيء للفهم فسماه خطاباً؛ لأنه يقصد به الإفهام في الجملة.

الوجوب

الوجوب ص ــــ الوجوب: الثبوت والسقوط. وفي الإصلاح: ما تقدم. والواجب: الفعل المتعلق للوجوب، كما تقدم. وما يعاقب تاركه. مردود؛ لجواز العفو. وما أوعد بالعقاب على تركه. مردود بصدق إيعاد الله وما يخاف. مردود بما يشك فيه. القاضي: ما يذم تاركه شرعاً بوجه ما. وقال: {{بوجه ما}} ليدخل فيه الواجب الموسع، والكفاية. حافظ على عكسه فأخل بطرده؛ إذ يرد الناسي والنائم والمسافر. فإن قال: يسقط الوجوب بذلك. قلنا: ويسقط بفعل البعض. والفرض والواجب مترادفان. الحنفية: الفرض: المقطوع به. والواجب: المظنون. ش ــــ الوجوب في اللغة هو: الثبوت والسقوط. قال ـــــ عليه السلام ـــــ: {{إذا وجب المريض فلا تبكين باكية}}، أي إذا ثبت واستقر وزال الاضطراب وقال

الله ـــــ تعالى ـــــ: {فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا} أي سقطت. وفي الاصطلاح، يعني عرف الفقهاء، وهو ما تقدم في قسمة الحكم الشرعي والواجب هو الذي تعلق به الوجوب، وهو فعل غير كف ينتهض تركه سبباً للعقاب. وعرفه بعضهم: بما يعاقب تاركه. وهو مردود؛ لعدم انعكاسه فإن العفو عن العقاب بشفاعة أو غيرها جائز. فيصدق المحدود بدون الحد، ولا يتوهم أنه وارد على التعريف المختار للواجب؛ لأن الترك وإن كان سبباً لاستحقاق العقاب، لكن التخلف عنه جائز لمانع وهو العفو. وآخرون: بأنه ما أوعد بالعقاب على تركه. وهو كذلك؛ لأن معنى قوله: {{أوعد بالعقاب على تركه}} عوقب على تركه؛ لأن إيعاد الله صدق؛ لعدم الخلف في

خبره، فبجواز العفو لا يكون منعكساً وفيه نظر؛ لأن هذا المعرّف يجوز أن يكون ممن يُجوّز الخُلْف في الوعيد والاختلاف معروف. وآخرون بما يخاف على تركه وهو كذلك؛ لأن المندوب الذي يشك فيه قد يخاف على تركه، وهو غير واجب فلا يكون مطرداً. والقاضي أبو بكر عرف الواجب: بما يذم تاركه شرعاً بوجه ما. وقال: {{شرعاً}} إشارة إلى أن الوجوب شرعي، وقال: {{بوجه ما}} ليتناول الواجب الموسع، والواجب على الكفاية؛ لأن تاركهما إنما يذم بوجه ما أما في الموسع فإنما يذم إذا تركه في جميع وقته، وأما الكفاية فإذا ترك الكل. والقاضي حافظ بهذا القيد على عكس التعريف، لكن أخل بطرده، لدخول ما ليس من المعرف فيه، كصلاة الناسي، والنائم، وصوم المسافر، فإنها ليست بواجبة، ويذم شرعاً بوجه ما، وهو ما إذا لم يقضها حتى الموت مع القدرة على القضاء. فإن قال القاضي: لا نسلم أن هذه الأمور غير واجبة، حتي ينتقض بعدم الاطراد، بل هي واجبة لكن سقط وجوبها بذلك، أي بسبب النسيان والنوم والسفر.

ترادف الفرض والواجب

أجاب المصنف: بأن جواز سقوط وجوبها بذلك، يغني عن ذكر هذا القيد؛ لأنه حينئذ يقال: الواجب بالكفاية إنما لم يذم تاركه؛ لأن الوجوب سقط بفعل البعض. والواجب الموسع إنما لم يذم تاركه في أول الوقت؛ لأن دليل التوسع أسقط الوجوب في أول الوقت. وحاصله: أن نقض الحد بعدم الطرد والعكس لا يندفع بوجود مانع عن ذلك، لئلا يصير المحدود غير محدود. وهو مفرغ من لا يرى تخصيص العلة في القياس، فإنه يلزم أن يصير ما فرض علة غير علة. وقوله: {{والفرض والواجب مترادفان}} بيان الاصطلاح؛ فإنهم جعلوهما مترادفين في عرف الفقهاء. والعلماء الحنفية قبلهم [56/ب] كانوا اصطلحوا على التباين. جعلوا الفرض اسماً للمقطوع به، والواجب للمظنون، رعاية للمناسبة فإنها وإن لم تكن مستحقة

فهي مستحبة، وذلك أن الفرض في اللغة: القطع والتقدير، قال الله ـــــ تعالى ـــــ: {فَنِصفُ مَا فَرَضتُم}، أي قدرتم، وقال ـــــ تعالى ـــــ: {سُورَةٌ أَنزَلنَاهَاوَفَرَضنَاهَا} أي قطعنا الأحكام فيها. والواجب هو: الساقط من الوجوب وهو السقوط كما تقدم، فتسمية ما ثبت بدليل قطعي وهو مقدر شرعاً بما في مفهومه دلالة على ذلك مراعاة مناسبة في التسمية لا محالة. وتسمية ما ثبت بدليل ظني، وهو ساقط علينا لم نعلم أن الله قدره علينا، أو لا. كذلك. ومن هذا يعلم فساد قول من قال: تخصيص كل واحد من هذين اللفظين بأحد القسمين تحكم محض، على أنه إن لم تعتبر المناسبة جاز تخصيص أحدهما بأحدهما؛ إذ لا حجر في الاصطلاح لا سيما والمناسبة ليست بشرط.

تقسيم الواجب من حيث الوقوع في الوقت وعدمه

الاداء ص ــــ الاداء: ما فعل في وقته المقدر له شرعاً [أولاً]. والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء، استدراكاً لما سبق له وجوب مطلقاً أخَّره عمداً أو سهواً، تمكن من فعله، كالمسافر، أو لم يتمكن لمانع من الوجوب شرعاً، كالحائض، أو عقلاً، كالنائم. وقيل: لما سبق وجوبه على المستدرك. ففعل الحائض والنائم قضاء على الأول، لا الثاني، إلا في قولٍ ضعيف. والإعادة: ما فُعِلَ في وقت الأداء ثانياً لخلل. وقيل: لعذر. ش ــــ الواجب ينقسم باعتبارات إلى أقسام متقابلة، وهذه قسمة له من حيث الوقوع في الوقت وعدمه. وتقريرها: أن يقال: الواجب إما أن يكون مؤقتاً، أو لا. والثاني لا يوصف بالأداء والقضاء والإعادة، كالنوافل، والأذكار والأول، إما أن يكون الوقت محدوداً أو لا. والثاني، يوصف بالأداء كالحج، والأول، يوصف

بالأداء والإعادة والقضاء. فالأداء: ما فعل في وقته المقدر له شرعاً أولاً. فما فُعِلَ: كالجنس، وقوله: {{في وقته المقدر له}} احتراز عما لا وقت له، وعن القضاء، وقوله: {{شرعاً}} لبيان أن خطاب الوضع ـــــ وهو ما يتعين به السبب والشرط وغيرهما ـــــ شرعي، وقوله: {{أولاً}} وهو متعلق بقوله: {{فُعِلَ}} احتراز عن الإعادة. والقضاء: ما فُعِل بعد وقت الأداء استدراكاً لما سبق له وجوب مطلقاً، أي بالنظر إلى انعقاد السبب للوجوب، لا بالنظر إلى المُسْتَدرَك، سواء وجب على المُسْتدرِك، أو لا. فقوله: {{استدراكاً}} احتراز عما أتى به بعد الوقت لا بقصد الاستدراك. وقوله: {{لما سبق له وجوب}} احتراز عن النوافل، وقوله: {{مطلقاً}} احتراز عن المذهب الآتي ذكره. وعلى هذا إذا وجد سبب وجوب الفعل سمي قضاءً سواء كان تأخيره عمداً كمن ترك الصلاة عمداً في وقته ثم أداها خارج الوقت، أو سهواً كمن تركها فيه ساهياً، ثم أتى بها خارج الوقت. وسواء كان متمكناً من الأداء كالمسافر في حق الصوم، أو لم يتمكن لمانع شرعي، كالحائض، أو عقلي كصلاة النائم. وعلى هذا لا يتوقف وجوب القضاء على وجوب الأداء على المستدرك بل يتوقف على انعقاد سبب وجوبه. وقيل: القضاء، ما فعل بعد وقته استدراكاً لما سبق وجوبه على المستدرك

وعلى هذا يتوقف وجوب القضاء على وجوب الأداء على المستدرك. ففعل الحائض والنائم قضاء على الأول؛ لانعقاد سبب الوجوب على المُسْتَدرِك، وإن لم يجب الأداء عليه وليس بقضاء على الثاني؛ لعدم وجوب الأداء عليه. قال المصنف: إلا على قول ضعيف، وهو قول من قال: الصلاة تجب على الحائض والنائم لأنهما شهدا الوقت. وقيل في وجْهِ ضَعْفِه: إن الفعل يمتنع صدوره عنهما، فيكون الوجوب عليهما تكليفاً بالممتنع. وفيه نظر؛ لأن القائل بالوجوب عليهما يعني نفس الوجوب والممتنع صدوره عنهما، إنما هو فعل الأداء، وامتناع لا يدل على عدم صلاحية الذمة لنفس الوجوب، وإنما يجب التكليف بالممتنع أن لو قال بوجوب الأداء. والإعادة: ما فعل في وقت الأداء ثانياً لخلل. فقوله: {{وقت الأداء}} يخرج القضاء، وقوله: {{ثانياً}} يخرج الأداء، وقوله: {{لخلل}} قيل: أي لفوات ركن أو شرط، احتراز عن صلاة من صلى صلاة مستجمعه لشرائط الصحة مرة ثانية في وقته؛ فإنها لا تسمى إعادة؟ وقيل: الإعادة ما فعل في وقت الأداء ثانياً لعذر. وهو أعم من الخلل. فصلاة من صلى مع الإمام بعد أن صلى صلاة صحيحة منفرداً، إعادة على الثاني دون الأول.

الواجب على الكفاية

الواجب على الكفاية ص ــــ مسألة: الواجب على الكفاية على الجميع، ويسقط بالبعض. لنا: اثم الجميع بالترك باتفاق. قالوا: يسقط بالبعض. قلنا: استبعاد. قالوا: كما أُمِرَ بواحدٍ [مبهم] أُمِرَ بعضٌ [مبهمٌ]. قلنا: إثم واحد مبهمٍ لا يعقل. قالوا: {فلولا نفر}. قلنا: يجب تأويله على المسقط، جمعاً بين الأدلة. ش ــــ اختلف الأصوليون في أن الواجب على الكفاية واجب على الجميع ويسقط الوجوب بفعل البعض، أو على بعض غير معين. فمنهم من ذهب إلى الثاني، ومنهم من ذهب إلى الأول، واختاره

المصنف واستدل بما تقريره: لو لم يجب على الجميع لما أثم الجميع بالترك؛ فإن التأثيم بترك ما لا يجب عليه ليس بحكمة، لكنه يأثم بالإجماع. واستدل الخصم بوجوه: الأول: الواجب على الكفاية يسقط بفعل بعض، والواجب على الجميع ليس كذلك، فالواجب على الكفاية ليس على الجميع. والصغرى ظاهرة، وبيان الكبرى: بأن الواجب على المكلف لا يسقط عنه بفعل غيره. ولقائل أن يقول: الواجب على الجميع لا يسقط بفعل بعض إذا كان فرض عين أو [57/ب] فرض كفاية، والأول مسلم ولا يفيد والثاني عين النزاع. وأجاب المصنف: بأنه مجرد استبعاد، وهو لا يقتضي الامتناع، فيجوز أن يسقط الوجوب عن المكلف بفعل غيره. وفيه نظر؛ لأن الواجب إذا كان على الجميع فالواقع منه إنما هو عن الفاعل لا غير؛ لصرف ماله إلى ما عليه، فلا يقع عن غيره. وأما إذا كان الواجب على غير الفاعل، فوقوعه عنه مستبعد؛ لأنه في الماليات، وفي الحج عن الغير بالنص، وما نحن فيه من

الأول. والثاني: أن الأمر بواحد مبهم جائز، كخصال الكفار، فيجوز أمر واحد مبهمٍ قياساً عليه، والجامع تعدد متعلق الوجوب مع سقوط الوجوب بفعل البعض. وأجاب عنه المصنف بالفرق، وهو أن الإثم بترك واحد [مبهم] من أمور متعددة ممكن معقول. فجاز أن يتعلق به الوجوب. وأما إثم واحد مبهم فلا يعقل، فلا يتعلق به الوجوب. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن ترك واحد مبهم معقول، إذ كل ما ترك منها معين فلا يكون متعلق الوجوب. سلمنا لكن الفرق باطل عند المحققين لاشتماله على التزام دليل المعلل، وهو خلل في المناظرة، ولا نتصابه معللاً بعد ما كان سائلاً وهو غصب. والثالث: قوله ـــــ تعالى ـــــ: {فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَة مِّنهُم طَائِفَة لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فإنه يدل على أن الواجب على الكفاية على بعض غير معين؛ لأن طلب الفقه من فروض الكفاية، والآية أوجبت على كل فرقة أن ينفر منهم طائفة، وتلك الطائفة غير معينة، فيكون المأمور بعضها غير معين.

وأجاب عنه المصنف: بأن الطائفة كما يحتمل أن يكونوا هم الذين أوجب الله عليهم طلب الفقه، يحتمل أن يكونوا الذين يسقطون الوجوب بالمباشرة عن الجميع فتكون الآية حجة عليهم بعد ما كانت حجة لهم؛ لأن طلب الفقه حينئذٍ يكون واجباً على الجميع، ويسقط بفعل بعضهم. وقال: {{جمعاً بين الأدلة}}، وفسروه بأن احتمال الثاني وإن كان مرجوحاً لكنه يحمل عليه جمعاً بين الأدلة، فأما لو حملنا الطائفة على الذين أوجب الله عليهم بطل دليلنا، وهو الإجماع على تأثيم الجميع بتركه ولو حملناها على المسقطين لم يبطل دليلنا ولا العمل بالآية فتعين المصير إليه؛ لأن إعمال الدليل واجب بقدر الإمكان. وفيه نظر؛ لأن تأثيم الجميع بتركه لا يدل على أنه واجب على الكل لأنا لو فرضنا أنه واجب على بعض مبهم أثموا بتركه بالإجماع.

الأمر بواحد من أمور متعددة، الواجب المخير

الأمر بواحد من أمور متعددة ص ــــ مسألة: الأمر بواحد من أشياء، كخصال الكفارة مستقيم. وقال بعض المعتزلة: الجميع واجب. وبعضهم: الواجب ما يفعل. وبعضهم: الواجب واحد [58/أ] معين ويسقط به وبالآخر. لنا: القطع بالجواز، والنص دلّ عليه. وأيضاً وجوب تزويج أحد الخاطبين، واعتاد واحد من الجنس. فلو كان التخيير يوجب الجميع لوجب تزويج الجميع، ولو كان معيناً لخصوص أحدهما امتنع التخيير. ش ــــ واختلفوا ـــــ أيضاً ـــــ في أن الأمر بواحد من أمور متعددة كخصال الكفارة مستقيم، أو لا. ويسميه الفقهاء الواجب المخير فذهب الأشاعرة إلى أنه مستقيم، والتعيين إلى المكلف بفعله. وقال بعض المعتزلة، يعني الجبائي وابنه: الكل واجب على

التخيير. وقال بعضهم: الواجب هو ما يفعله المكلف منها. وذهب آخرون: إلى أن الواجب واحد معين عند الله، لكن يسقط الوجوب به وبغيره من الأمور المتعددة. وحاصله: جوازه مقطوع به عقلاً، وكل ما هو كذلك وجب القول باستقامته. وفيه نظر؛ لأن العقل عند الأشاعرة غير مثبت لشيء فكان تحريره غير معتبر. والنص دلّ عليه، أي على جوازه سمعاً. أما الأول: فلأن السيد إذا قال لعبده: أمرتك أن تخيط هذا الثوب أو تسقي هذا البستان اليوم أيهما فعلت اليوم اكتفيت به، وإن تركتهما عاقبتك، وليس مرادي أن تجمع بينهما، بل أمرتك أن تفعل واحداً منهما لا بعينه، ولا يمكن في هذا أن يقال: إنه لم يأمر بشيء لأنه هدد بالعقاب على تركه، ولا أنه أمر بالجميع؛ لأنه صرح بنقيضه ولا واحداً بعينه؛ لأنه صرّح بالتخيير، فتعين أن يكون المأمور واحداً لا بعينه.

وأما الثاني: فقوله ـــــ تعالى ـــــ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية بكلمة التخيير. ولقائل أن يقول: ليس في الآية ما يدل على ذلك؛ لأن كلمة التخيير لبيان أن المكلف مختار في أن يسقط الوجوب بأيها شاء، وأمّا المكلف به فهو الجميع. واستدل المصنف بفرعين من الفقه وهما: أن الرجل إذا وكل بتزويج أحد الخاطبين، أو بعتق أحد عبديه على التخيير، ليس له أن يجمع بينهما ولو أوجب التخيير الجمع لوجب ذلك فدل على جواز تعلق الأمر بواحد لا بعينه، وهذا البيان أن التخيير لا يوجب الجميع. وقوله: {{ولو كان مُعَيّناً}} لبيان أن التخيير لا يوجب واحداً معيناً، كما أن لا يوجب الجميع. وبيانه: لو كان التخيير يوجب التعيين لبطل التخيير؛ لأنه حينئذٍ كان موجباً لنقيضه، لأن التخيير يُجَوّزُ ترك المعين، والتعيين لا يُجَوّزُه، وكل ما كان موجباً لنقيضه فهو ممتنع، لكن لا يجوز إبطاله لتنصيص المتكلم عليه. ولقائل أن يقول: على الأول، المدعى قاعدة كلية فلا يجوز إثباتها بصورة جزئية. سلمناه: لكن الاستدلال بالفرع على الأصل دور. سلمناه لكن المانع منع عن وجوب تزويج الخاطبين، وهو أن شرعية النكاح

لقطع التنازع في النساء ودفع اشتباه الأنساب ووجوبه يستلزم ذلك [58/ب] فما فرض لقطع شيء ودفعه لا يكون كذلك. هذا خلف باطل. والجمع في الاعتاق إضرار منهي عنه. وعلى الثاني، بأن التخيير يوجب الخصوص بالنظر إلى المكلف. وأحدهما لا بعينه بالنسبة إلى المكلف [به] على ما هو مذهب بعضهم فلا تنافي بينهما. ص ــــ المعتزلة: غير المعين مجهول، ويستحيل وقوعه فلا يكلف به. والجواب: أنه معين من حيث هو واجب، وهو واحد من الثلاثة، فينتفي الخصوص فصح إطلاق غير المعين عليه. قالوا: لو كان الواجب واحداً، من حيث هو أحدها لا بعينه، مبهما لوجب أن يكون المخير فيه واحداً لا بعينه من حيث هو أحدها. فإن تعدد لزم التخيير بين واجب وغير واجب. وإن اتحدا لزم اجتماع التخيير والوجوب. وأجيب: بلزومه في الجنس وفي الخاطبين. والحق أن الذي وجب لم يخير فيه، والمخير فيه لم يجب لعدم التعيين. والتعدد يأبى كون المتعلقين واحداً. كما لو حرّم واحداً وأوجب واحداً. ش ــــ قالت المعتزلة: غير المعين مجهول، والمجهول لا يكلف به، لأن الشعور بالمكلف به شرط صحة التكليف، وغير المعين يستحيل وقوعه، لأن الواقع مشخص البتة، وكل ما يستحيل وقوعه لا يكلف به، لئلا يلزم التكليف بالممتنع،

وهذان الوجهان مبنيان على عدم جواز التكليف بالمحال، والاختلاف فيه معروف، فكان رد المختلف على المختلف. وأجاب المصنف: بأن واحداً من الثلاثة معين من وجه، ومجهول من آخر من حيث أنه واجب معين، ويصح التكليف به من هذه الجهة، ومجهول من حيث أنه واحد من الثلاثة، ومن هذه الجهة ينتفي الخصوص ويصح إطلاق غير المعين عليه. وهذا فاسد؛ لأن الكلام في أن واحداً لا بعينه، هل يتعلق به الوجوب فيصير واجباً أو لا. فلو وصِف ذلك الواحد بالوجوب قبل تعلق الوجوب به لكان تحصيلاً للحاصل، وهو محال. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لو كان الواجب واحداً من حيث هو أحدها لا بعينه مبهماً لوجب أن يكون المخير فيه واحداً لا بعينه من حيث أحدها؛ لأن الكلام في الواجب المخير، فإذا كان الواجب المخير واحداً كان المخير فيه واحداً لكن التالي باطل؛ لأنه يستلزم أحد المحالين التخيير بين الواجب وغيره أو اجتماع التخيير والوجوب في أمر واحد، وما يستلزم المحال محال فالتالي محال، فالمتقدم مثله. وبيان ذلك: أن الواحد الذي هو الواجب، إمّا أن يكون هو الواحد المخير فيه أو غيره، والأول يستلزم الثاني، والثاني الأول، واستحالته من حيث أن المكلف إذا كان مخيراً بين الواجب وغيره جاز له اختيار [59/أ] غير الواجب، وغير الواجب يجوز تركه، فيفضي إلى ترك الواجب مع انتفاء الإثم اللازم للوجوب المستلزم لانتفائه، فما فرضناه واجباً لم يكن واجباً. هذا خلف باطل.

واستحالة الأول للجمع بين المتنافيين في شيء واحد. ولقائل أن يقول: واحد لا بعينه من أمور لا يتعدد أصلاً. فقوله: {{إن تعددا لزم التخيير}} يكون فرض محال، فجاز أن يستلزم محالاً آخر، ولو فرض جواز تعدده بطل الملازمة، لفساد بيانه وهو قوله: الكلام في الواجب المخير، فإذا كان الواجب المخير واحداً كان المخير فيه واحداً. وقوله: يلزم التخيير بين الواجب وغيره، غير مستقيم؛ لأن شيئاً منها قبل التخيير لم يكن واجباً، حتى يلزم التخيير بين الواجب وغيره، والجمع بين المتنافيين في شيء واحد محال إذا اتحدت الجهة، وما نحن فيه ليس كذلك على ما سيظهر. وأجاب المصنف بما معناه: ما ذكرتم يلزمكم في التوكيل بإعتاق واحد من أوقاته، وتزويج المرأة من أحد الخاطبين، فإن الواجب اعتاق واحد لا بعينه، وتزويجها من أحدهما لا بعينه، وكل ما هو جواب لكم عن هاتين الصورتين فهو جوابنا عن صورة النزاع. ولقائل أن يقول: كلامهم في الواجب المخير وليس في الصورتين وجوب؛ لأن التوكيل عقد غير لازم، ولهذا جاز للمأمور أن لا يفعل شيئاً من ذلك، ويجوز أن تكونا متفرعتين على أصل آخر غير هذا الأصل، وقد أشرنا إلى نبذ من ذلك. وقال: {{والحق أن الذي وجب لم يخير فيه}} لما كان جوابه إقناعياً، أشار إلى ما هو الحق، يعني أن الواجب غير مخير فيه؛ لأن الواجب واحد من الثلاثة من حيث هو واحد لا بعينه، والمخير فيه معين وهو كل من الثلاثة على التعيين وهو غير واجب. ولقائل أن يقول: الكلام في الواجب المخير، ولا يجوز أن يكون المخير في غير الواجب؛ لأن جر صفة على الواجب، ولا يجوز أن يشتق لشيء والفعل غير قائم

به، وقد تقدم. فإن تعدد عاد ترديدهم المتقدم في بطلان التالي فلا يصح الجواب بالتزام التعدد. ولعل الحق فيه المصير إلى الاتحاد، ويجتمع الوجوب والتخيير باعتبارين: فالوجوب يكون من حيث أن واحداً منها لا بد منه جزاءً للجناية والتخيير من حيث أن المكلف له أن يعين ذلك المبهم بجعله أحد المعنيين فكان واحداً لا بعينه واجباً، والمكلف مخير في ذلك الواحد المبهم أن يجعله معيناً بما شاء منها. وقوله: {{والتعدد يأبى}} دليل آخر على أن الواجب والمخير فيه لا يتحدان. وتقريره: الوجوب والتخيير متنافيان، وكل متنافيين تأبى وحدة المتعلق؛ لأن المتعلَّق لازم للمُتَعلَّق، وتنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات كما لو حرّم الشارع أمراً وأوجب آخر. ولقائل أن يقول: سلمنا أن تعدد المُتَعلّق يستلزم تعدد المُتَعلَّق [59/ب] لكن المُتَعلَّق فيما نحن فيه متعدد كما ذكرنا، وذلك كافٍ. ألا ترى إلى الصلاة في أرض مغصوبة تعلق بها الوجوب والحرمة باعتبارين لا يقال: ذلك مبني على الحسن والقبح بالوجه والاعتبار وذلك غير ملتزم كما تقدم. لأنا نقول: ذلك مذهبهم، فهم ملتزموه. ص ــــ قالوا: يعم ويسقط وإن كان بلفظ التخيير، كالكفاية.

قلنا: الإجماع ثمة على تأثيم الجميع، وههنا بترك واحد وأيضاً: فتأثيم واحد لا بعينه غير معقول. بخلاف التأثيم على ترك واحد من ثلاثة. قالوا: يجب أن يعلم الآمر الواجب. قلنا: يعلمه [حسبما] أوجبه. فإذا: أوجب غير معين وجب أن يعلمه غير معين؟ ش ــــ ما تقدم كان دليلاً للمعتزلة على نفي مذهب الخصم، وهذا دليل لهم على إثبات مذهبهم، وهو: أن الكل واجب. تقريره: الواجب المخير يعم الجميع، ويسقط بفعل البعض كما في الواجب على الكفاية، والجامع الاشتراك في الوجوب مع سقوطه بفعل البعض، وورود النص بلفظ التخيير لا ينافي عموم الوجوب وسقوطه بفعل البعض، فيكون لفظ التخيير لبيان الواجب الذي هو الجميع يجوز أن يسقطه المكلف بما شاء من الأمور المتعددة. ولقائل أن يقول: سقوط الواجب على الجميع بفعل البعض على خلاف القياس بفعل النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ فلا يجوز القياس عليه.

وأجاب المصنف بالفرق من وجهين: الأول: أن الاجماع منعقد على أن الواجب على الكفاية يأثم الجميع بتركه وههنا إنما يأثم المكلف بترك واحد. والثاني: أن تأثيم مكلف واحد لا بعينه غير معقول؛ إذ لا يمكن عقاب أحد الشخصين لا على التعيين، بخلاف تأثيم المكلف على ترك واحد لا بعينه فإنه معقول، لجواز العقاب على أحد الفعلين. ولقائل أن يقول: الاستدلال بكونه غير معقول تناقض؛ لأن مذهب المجيب أن العقل ليس بمثبت أحد الفعلين لشيء وقد تقدم الكلام على الفرق واستحالة ترك المبهم. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ الواجب يجب أن يعلمه الآمر، وكل ما يعلمه الآمر لا يكون غير معين، والمعين هو الجميع فيجب. أمّا بيان الصغرى: فلأن الآمر طالب للمأمور به وهو الواجب، وطلب المجهول محال. وأمّا بيان الكبرى: فلأن المعلوم غير متميز عن غيره، والمتميز يكون متعيناً. وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم أن كل ما يعلمه الآمر لا يكون غير معين، لأن الآمر يعلم الواجب على الوجه الذي أوجبه، وإذا أوجب واحداً غير معين وجب أن يعلم غير معين، وكون المعلوم معيناً باعتبار تميزه عن غيره في العقل لا ينافي عدم تعينه باعتبار كونه واحداً من الثلاثة. ولقائل أن يقول: هذا بناءً [60/أ] على أن العلم تابع للمعلوم وهو ههنا ليس

بصحيح؛ لأن الواجب ما تعلق به الوجوب وهو حادث، وتبعيّة العلم القديم للواجب الحادث محال. ص ــــ قالوا: علم ما يفعل فكان الواجب. قلنا: فكان الواجب لكونه واحداً منها لا بخصوصه للقطه بأن الخلق فيه سواء. ش ــــ هذا دليل القائلين بأن الواجب واحد معين وهو ما يفعله المكلف. وتقريره: علم الله ما يفعل المكلف من خصال الكفارة، وكل ما علم الله متعين في علمه، فما يفعل العبد متعين في علمه، والوجوب تعلق به وإلا كان تكليفاً بما لا يقع، لاستحالة وقوع ما لا يعلمه الله وكل ما تعلق به الوجوب فهو واجب، وهو إنما يصح إذا سلم عن الاعتراض بعدم العلم بالجزئيات على الوجه الجزئي، والمناظر لا يتقيد بمذهب فله أن يعترض به. وأجاب المصنف: بأن الواجب ما يفعله، وهو قول بموجب العلة، أي سلمنا أن الواجب ما يفعله المكلف، لكن من حيث هو أحدها لا بعينه، لا من حيث خصوصيته، وإلاّ يلزم تفاوت المكلفين فيه، فإنه إذا فعل أحد المكلفين واحداً منها والآخر غيره، فإذا قلنا: الواجب هو ما فعله بخصوصه لا من حيث أحدها، كان الواجب على هذا المكلف غير الواجب على ذلك، فيلزم تفاوت المكلفين، وهو باطل؛ للقطع بتساويهم وفيه نظر؛ لأن وجوب التساوي في

التكليف بالواجب المخير إما أن يكون قبل الفعل أو بعده، والأول مسلّم؛ لعدم العلم بالواجب على كل واحد من المكلفين. وأما الثاني فممنوع. لِمَ لا يجوز أن يكون التفاوت موجوداً لحكمة يعلمها لنفس التخيير، ويتبين لنا ذلك بعد الفعل.

الواجب الموسع

الموسع ص ــــ الموسع. الجمهور: أن جميع وقت الظهر، ونحوه وقت لأدائه. القاضي: الواجب: الفعل أو العزم، ويتعين آخراً وقيل: وقته أوله. فإن آخره فقضاء. بعض الحنفية: آخره، فإنه قدمه فنفل يسقط الفرض. الكرخي: إلا أن يبقى بصفة المكلف فما قدمه واجب. لنا: أن الأمر قيّد بجميع الوقت. فالتخيير والتعيين تحكم. وأيضاً: لو كان معيناً لكان المصلي في غيره مقدماً، فلا يصح أو قاضياً، فيعصى، وهو خلاف الإجماع. القاضي: ثبت في الفعل والعزم حكم خصال الكفارة. وأجيب: بأن الفاعل ممتثل لكونها صلاة قطعاً، [لا لأحد] الأمرين ووجوب العزم في كل واجب من أحكام الإيمان. الحنفية: لو كان واجباً أولا عصى بتأخيره؛ لأنه ترك. قلنا: التأخير والتعجيل فيه كخصال الكفارة. ش ــــ قيل: الواجب الموسع في التحقيق راجع إلى المخير؛ إذ الصلاة

المرادة في كل جزء من أجزاء الوقت غير المرادة في غيره بحسب الشخص، والواجب [60/ب] أحد الأشخاص المتميزة بالأوقات من حيث هو واحد لا بعينه، كخصال الكفارة، فلذلك لم يفرده بجعله مسألة على حدة. وفيه نظر؛ لأن المصلي في أثناء الوقت إنما يصلي الصلاة الفريضة عليه لا إحدى الصلوات الفائتة عليه. واعلم أن الواجب المؤقت إمّا أن يكون بمقدار الوقت أو زائداً عليه أو ناقصاً عنه. والأول: يسمى معياراً كوقت الصوم، والثاني: ليس بواقع، والتكليف به تكليف بالمحال، والثالث: هو الواجب الموسع الذي نحن فيه، ويسمى ظرفاً، وقد اختلف فيه، فذهب الجمهور من أصحاب الشافعي: إلى أن جميع الوقت، كوقت الظهر للظهر، أو العصر للعصر، وقت لأداء الواجب.

وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني: إلى أنه وقت لأداء الفعل الواجب أو العزم والواجب في أوله أحدهما، ويتعين الفعل في آخره. وذهبت طائفة: إلى أن الوقت هو أوله، فإن أخره وأتى به في آخره فهو قضاء. وقال بعض الحنفية: الوقت آخره، فإن أتى به في أوله كان نفلاً يسقط به الفرض. وقال الكرخي: المأتى به في أوله موقوف، فإن بقى الآتي به على صفة المكلفين فما قدمه صار فرضاً، وإن لم يبق كان نفلاً.

والدليل على المذهب المختار، على ما ذكره المصنف وجهان: الأول: أن الأمر بصلاة الظهر قيّد بجميع وقت الظهر، ولم يتعرض لتخصيصه بجزء من أجزاء ذلك الوقت، وليس في ذات الأجزاء ما يقتضي ترجيح بعض على غيره فكان الجميع في الوقتية سواء والتعيين للمكلف في إيقاع الفعل في أيها شاء. فالتخيير بين الفعل والعزم في أوله، وتعيين أول الوقت أو آخره تحكم صرف. ولقائل أن يقول: تعيين أول الوقت أو آخره جاز أن يسمى تحكماً وأمّا إدخال العزم في البين بدلاً فوضع للشرع ابتداءً، وهو باطل لا يسمى تحكماً. وأن يقول: الوقت شرط للأداء لا محالة، وهو اسم لجميع الأجزاء لا محالة، والشرط مقدم على المشروط لا محالة، وذلك يقتضي أن يقع الأداء بعد الوقت تحقيقاً لتقدم الشرط، فما فرضناه أداءً كان [أو] قضاءً، وذلك خلف باطل.

والثاني: أنه لو كان جزء من أجزاء الوقت معيناً لم تصح الصلاة إن قدمت عليه، ولصار قضاءً إن أُخِّرت عنه، وكان عصياناً، واللازم بقسميه باطل بالإجماع. وللخصم أن يقول: الجزء معين على تقدير وقوع الفعل فيه، فإن لم يقع انتقل إلى جزء آخر إلى آخر الوقت؛ لكونه واجباً موسعاً، وحينئذٍ لا تثبت الملازمة. وشبهه القاضي: ما أشار إليه المصنف بقوله: {{ثبت في الفعل والعزم، ـــــ أي قبل آخر الوقت ـــــ حكم [61/أ] خصال الكفارة}} من حيث هو وجوب أحدهما لا بعينه وذلك؛ لأن العل لما جاز تركه بلا بدل، فيكون الواجب في أوّل الوقت أحدهما. وهذا فاسد؛ لأن الحكم بثبوت حكم الكفارة للعزم مسبوق بكون العزم ثابتاً شرعاً من حيث هو أحدهما، وليس ذلك بثابت. وأجاب المصنف: بأن الفاعل في أول الوقت ممتثل، لكونها صلاة واجبة لا لكونها أحد الأمرين. وللخصم أن يقول: جعلت العزم بدلاً عند خلو أول الوقت عن الفعل وإذا وجد الفعل فيه فلا بدل فكيف يتصور أحد الأمرين. وقوله: {{ووجوب العزم}}، يعني إن سلمنا أن العزم واجب فليس ذلك لكونه بدلاً عن الفعل بل من حيث أن كل حكم من أحكام الإيمان فيجب العزم على فعله إذا [كان] واجباً، لقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{إنما الأعمال بالنيات}}.

وقالت الحنفية: لو كان الفعل واجباً في أول الوقت لعصى المكلف بتأخيره الواجب عن وقته، لكنه ليس بعاصٍ بالإجماع. وأجاب المصنف: بأن التأخير والتعجيل في الواجب الموسع، كخصال الكفارة فكما أن تارك أحد الخصال لا يعصى إذا أتى بغيره. كذلك تارك الواجب الموسع في أول الوقت لا يعصى إذا أتى به في آخره. وهذا كما ترى لا تعلق له بشرطية الخصم لا بمنع الملازمة ظاهراً ولا بمنع بطلان التالي. ولعله معارضة، وهي أسوأ حال المناظرة. فإن تُكُلّفَ بجعله منعاً للملازمة مستنداً بالتشبيه فاسد؛ لأن المصلي إنما يصلي فرضاً عليه لا أحد الأمور على سبيل البدل وقد تقدم مثله.

عصيان من أخر الواجب الموسع من ظن الموت قبل الفعل

عصيان من أخر الواجب الموسع ص ــــ مسألة: من أخر مع ظن الموت قبل الفعل، عصى اتفاقاً. فإن لم يمت ثم فعله في وقته فالجمهور: أداء. وقال القاضي: قضاء. فإن أراد وجوب نية القضاء فبعيد. ويلزمه لو اعتقد [انقضاء] الوقت قبل الوقت فعصى بالتأخير. ومن أخّر مع ظن السلامة فمات فجأة، فالتحقيق لا يعصى بخلاف ما وقته العمر. ش ــــ لم يفرد المصنف الواجب الموسع بذكر {{مسألة}} وجعله تبعاً للواجب المخير مع بعد فيه، وأفرد هذه المسألة عن الواجب الموسع مع شدة اتصالها به، وذلك تقريب للبعيد وتبعيد للقريب. القائلون بالواجب الموسع أجمعوا على أن من أخّر الواجب الموسع عن أول الوقت مع ظن موته قبل الفعل عصى؛ لأن أول الوقت بناءً على ظنه صار كآخره، ومن أخّر عن آخره عصى فكذا من أخر عن أوله.

فإن لم يمت ثم فعل الواجب الموسع في الوقت [61/ب] فالجمهور على أنه أداء؛ لأنه فعل في وقته المقدر له أولاً شرعاً. وقال القاضي: هو قضاء؛ لأنه تضيق عليه الوقت بظنه وصار كآخره فكان الفعل بعد انقضاء الوقت وذلك قضاء لا محالة. وزيفه المصنف: بأنه إن أراد بكونه قضاء: وجوب نية القضاء فبعيد؛ لأن القضاء ما يؤتى به خارج وقته المقدر له شرعاً وهذا ليس كذلك؛ لأن الشرع جعل الكل وقتاً. فإن قال: جعل الشرع ظنه دليلاً على كون البعض وقته، ولهذا صار عاصياً بتركه فيه بالاتفاق، فكان الفعل خارجاً عن الوقت المقدر شرعاً فكان قضاءً. أجيب: بأن الظن دليل إذا لم يظهر خطؤه بيقين وقد ظهر. ولم يذكر المصنف الشق الآخر من الترديد وهو يوهم فساد التزييف؛ لجواز أن يكون ذلك الشق جائز الإرادة فلا يكون التزييف صحيحاً، ولعل الشق الآخر هو المعروف، وهو أن يقال: وإن أراد غيره فلا بد من البيان، ليتصور ثم يتكلم عليه. ولعمري أن ما ذهب إليه القاضي ظاهر الفساد؛ لأنه إذا صلى بعد ذلك فإمّا

أن يرفع عصيان التأخير، أو لا. فإن رفع لم يكن قاضياً؛ لأن عصيان القاضي لا يرتفع، وإن لم يرفع لزم عقاب من أطاع الله فيما أوجب عليه من العبادة في الوقت المقدر لها شرعاً، وذلك خلاف الشرع والعقل. وقال المصنف: ويلزمه يعني القاضي أن المكلف لو اعتقد قبل دخول الوقت أن الوقت قد دخل، وأنه إن [لم] يشتغل بالواجب انقضى الوقت فأخر، فعصى بالتأخير. وصلى بعده في الوقت المقدر له شرعاً كان ما فعله في الوقت المقدر شرعاً بعد ظهور خطئه بيقين قضاء؛ لأنه تضيق الوقت عليه بناءً على اعتقاده. فوقوعه بعد ذلك في الوقت المقدر له شرعاً يكون خارجاً عن وقته المضيق. ولقائل أن يقول: لا يلزمه ذلك؛ لأن الوقت إذا لم يدخل كان عملُ الظنّ جَعْلُ غير الوقت الشرعي وقتاً، وذلك فرع إلى الشركة في وضع الشرع وهو باطل. وأمّا فيما نحن فيه فإن عَملَ الظن تضييق ما كان موسعاً عليه، وفي تشديد في الاحتياط في باب العبادة، وهو مشروع. وقوله: {{ومن أخر مع ظن السلامة}} معطوف على قوله: {{ومن أخّر مع ظن الموت}} يعني إذا أخّر الواجب الموسع عن أول وقته على ظن السلامة، فمات فجأة في الوقت، فالتحقيق أنه لا يعصى؛ لجواز تركه إذا لم يظن موته إلى آخر الوقت. وقد أجمع السلف على ذلك، وهذا بخلاف ما وقته العمر كالحج، فإنه لو أخر مع ظن السلامة ومات عصى؛ لأن البقاء [62/أ] إلى سنة أخرى ليس بغالب على الظن.

ما لا يتم الواجب إلا به

ما لا يتم الواجب إلا به ص ــــ مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً شرطاً شرعياً واجب. والأكثر: وغير شرط. كترك الأضداد في الواجب، وفعل ضد في المحرم، وغسل جزء الرأس. وقيل: لا فيهما. لنا: لو لم يجب الشرط لم يكن شرطاً. وفي غيره لو استلزم الواجب وجوبه لزم من تعقل الموجب له ولم يكن تعلق الوجوب لنفسه، ولا امتنع التصريح بغيره، ولعصى بتركه، ولصح قول الكعبي في نفي المباح، ولو جبت نيته. ش ــــ ما لا يتم الواجب إلا به إمّا أن يكون مقدوراً للمكلف، أو لا.

والثاني كالقدرة على الفعل، واليد للكتابة، والرجل للمشي. لا يكون واجباً بل عدمها يمنع الوجوب عند من لم يجوز التكليف بالممتنع. والأول: قد اختلف الناس فيه، وهو ينقسم إلى شرط وغيره. واختار المصنف: أنه إن كان شرطاً شرعياً للواجب، كالضوء وجب بوجوب الواجب، وإلا فلا. وعند أكثر الأصوليين: لا تفرقة بين الشرط وغيره في الوجوب سواء كان الغير سبباً كالنار للإحراق أو غيره. إمّا ترك ضد الواجب الذي لا يتم الواجب إلا به، أو فعل ضد المحرم الذي لا يتم ترك الحرام إلا به، أو طريق إلى الإتيان بالواجب، كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه فإنه لا يمكن إلا بغسل جزء من الرأس أو طريق إلى العلم بإتيان الواجب، كالإتيان بخمس صلوات إذا ترك واحدة منها مجهولة. ومن الناس من ذهب إلى أن وجوب الشيء لا يوجب وجوب شيء من ذلك شرط أو غيره.

واستدل المصنف على ما اختاره قال: لو لم يجب الشرط لوجوب مشروطه لم يكن شرطاً فكان خلفاً باطلاً. وبيان الملازمة ببيان الشرط؛ فإنه المتوقف عليه وجود المشروط فلو لم يكن واجباً جاز عدمه مع تحقق المشروط فلم يكن متوقفاً عليه. وفيه نظر؛ لأن هذا وجوب عقلي وليس الكلام فيه. واستدل على غير الشرط من وجوه ستة: الأول: لو استلزم الواجب وجوب غير الشرط مما لا يتم الواجب إلا به لزم تعقل المُوجِب ـــــ أي الآمر ـــــ لغير الشرط؛ لاستحالة إيجاب الشيء مع الذهول عنه. والمُوجِب قد يغفل عما يتوقف عليه. وفيه نظر؛ لأن كلامنا في المُوجب الذي هو شارع، وذلك لا يجوز عليه على أنه منقوض بالشرط. والثاني: أنه لو استلزم الواجب وجوب غير الشرط لم يكن تعلق الوجوب الذي هو طلب الوجود مع منع النقيض ـــــ بغير الشرط لنفس الوجوب؛ لتوقف تعلق الوجوب على تعلقه بما يستلزمه، لكن تعلق الطلب بغير المطلوب غير متصور. وهو منقوض بوجوب الشرط.

والثالث: أنه لو استلزم الواجب وجوب غير الشرط، لامتنع التصريح بغير وجوبه، أي التصريح بأن غير الشرط لا [62/ب] يكون واجباً؛ لأنه يناقض الحكم بكون الواجب مستلزماً وجوبه، لكن يصح أن يقول الشارع: أوجبت عليكم غسل الوجه وما أوجبت عليكم غسل شيء من الرأس. وفيه نظر؛ لأن التصريح أقوى في الدلالة فيكون رافعاً لا دافعاً. والرابع: لو كان الواجب مستلزماً لوجوب غير الشرط لعصى المكلف بتركه وهو ظاهر لكن ليس كذلك؛ فإن تارك الصوم يعصى بترك الصوم لا بترك إمساك جزء من الليل. وفيه نظر؛ فإن مصادرة؛ لأن ترك جزء ترك ما لا يتم الواجب إلا به فإن كان واجباً يعصى بتركه وإلا فلا. والخامس: لو استلزم وجوبه لصح قول الكعبي في نفي الفعل المباح في الشرع، لأن المباح يحصل به ترك الحرام، وما يحصل به ترك الحرام واجب. وفيه نظر؛ لأن ترك الحرام لم ينحصر في الفعل المباح. والسادس: أنه لو كان واجباً وجب بنية، لكون عبادة، وليس كذلك بالإجماع. وفيه نظر؛ فإن الملازمة ممنوعة، وكونه عبادة

كذلك. ص ــــ قالوا: لو لم يجب لصح دونه، ولما وجب التوصل إلى الواجب والتوصل واجب بالإجماع. وأجيب: إن أريد بلا يصح، و {{واجب}} لا بد منه فمسلم. وإن أريد مأمور به فأين دليله؟ وإن سُلّمَ الإجماع على أن التوصل واجب ففي الأسباب بدليل خارجي. ش ــــ استدل القائلون بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به مطلقاً بوجهين: أحدهما: أنه لو لم يجب لصح دونه؛ لجواز ترك ما ليس بواجب الإجماع لكنه لا يصح؛ لأنه واجب بتمامه ولا تمام بدونه. والثاني: أنه لو لم يجب [لصح دونه]، لما وجب التوصل إلى الواجب؛ لأن التوصل إلى الواجب به، لكنه واجب بالإجماع. وأجاب المصنف: بأنه إن أرادوا بقولهم في نفي التالي: {{لكن لا يصح الواجب بدونه}}، وبقولهم في نفي تالي الملازمة الثانية: {{لكنّ، أي التوصل به إلى الواجب واجب}}: أن ما لا يتم الواجب إلا به لا بد منه في تحصيل الواجب، فنفي التالي مسلّم. لكن لا يلزم من كونه لا بد منه أن يكون مأموراً به، وكلامنا في وجوب مأمور به؛ لأن الإيجاب العقلي غير معتبر.

وإن أرادوا أنه مأمور به، فأين دليله؟ وإن سُلّم أن التوصل إلى الواجب واجب، لكنه إنما يصح ذلك القول في الأسباب بديل خارجي وهو الإجماع. ولقائل أن يقول: المراد بقولهم: لا يصح بدونه أنه مأمور به، والدليل عليه أن الواجب الذي يستلزمه مأمور به لا محالة، والأمر به أمر بما يستلزمه اقتضاءً. وأمر الشارع تارة يكون عبارة، وتارة إشارة، وتارة يكون دلالة، وتارة يكون اقتضاء، وأن الفرق بين الأسباب وغيرها [63/أ] تحكم.

أحكام الحرام

أحكام الحرام ص ــــ مسألة: يجوز أن يحرَّم واحد لا بعينه. خلافاً للمعتزلة. وهي كالمخير. ش ــــ لما فرغ من أحكام الوجوب شرع في بيان أحكام الحرام، وذكرها في مسألتين: الأولى: أن تحريم واحد لا بعينه من أشياء متعددة هل يجوز أو لا يجوز. فذهبت الأشاعرة إلى جوازه، واستدلوا بجواز أن يقول السيد لغلامه حرمت عليك الكلام بأحد هؤلاء الجماعة لا بعينه، ولم أحرم عليك الكلام بجميعهم أو بواحد منهم معين. فليس المحرم مجموع كلامهم، ولا كلام معين للتصريح بنقيضه فلم يبق إلا واحدٌ لا بعينه. وفيه نظر؛ لأنه تجويز عقلي، والمصنف لم يعتبره. وذهبت المعتزلة: إلى منعه، والكلام عليه شبهة وجواباً، كما تقدم في الواجب المخير. ص ــــ مسألة: يستحيل كون الشيء واجباً حراماً من جهة واحدة، إلا عند بعض من يجوز التكليف بالمحال.

وأما الشيء الواحد له جهتان، كالصلاة في الدار المغصوبة فالجمهور: تصح. والقاضي: لا تصح، ويسقط الطلب عندها. وأحمد وأكثر المتكلمين: لا تصح، ولا يسقط. لنا: القطع بطاعة العبد وعصيانه بأمره بالخياطة ونهيه عن مكان مخصوص للجهتين. وأيضاً: لو لم تصح لكان لاتحاد المتعلقين؛ إذ لا مانع سواه اتفاقاً، ولا اتحاد؛ لأن الأمر للصلاة، والنهي للغصب. واختيار المكلف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما. واستدل: لو لم تصح لما ثبت صلاة مكروهة ولا صيام مكروه؛ لتضاد الأحكام. وأجيب: بأنه إن اتحد الكون مُنِعَ، وإلا لم يفد؛ لرجوع النهي إلى وصف منفك. واستدل: لو لم تصح لما سقط التكليف. قال القاضي: و [قد] سقط بالإجماع؛ لأنهم لم يأمروهم بقضاء الصلوات. وردّ بمنع الإجماع مع مخالفة أحمد وهو [أقعد] بمعرفة الإجماع. ش ــــ الثانية أن الشيء الواحد وحدة شخصية إما أن يكون ذا جهتين أو جهة واحدة، والثاني يستحيل أن يكون واجباً حرماً لتنافيهما، إلا عند بعض من يجوز التكليف بالمحال، وهم الذين يجوزونه شرعاً وعقلاً. وأما مجوزوه عقلاً لا شرعاً فلا يجوزونه، لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ

الصلاة في الدار المغصوبة

نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا}. وأما الأول كالصلاة في الدار المغصوبة فإن لها جهتين: كونها صلاة وكونها غصباً، وكل من الجهتين معقول بدون الأخرى. فقد اختلفوا فيه فذهب أكثر الفقهاء إلى جواز اجتماعهما فيه، فتصح الصلاة المرادة في دار مغصوبة. وذهب القاضي: إلى عدم جوازه، فلا تصح الصلاة المذكورة، لكنه قال: يسقط الطلب عن المكلف عند الصلاة لا بها. وذهب أحمد بن حنبل وأكثر المتكلمين، إلى أنه لا يجوز ذلك، ولا تصح إذا أتى بها ولا يسقط عنه الطلب. واستدل المصنف على مذهب الجمهور [63/ب] بوجهين: أحدهما: أنا نقطع بطاعة العبد وعصيانه إذا أمره المولى بالخياطة، ونهاه عن أن تكون الخياطة في مكان مخصوص للجهتين فكان واجباً وحراماً فكذلك الصلاة

في الدار المغصوبة. وفيه نظر؛ لأنه إنما يتم على تقدير كون العقل حجة وأن الحسن والقبح يكونان بالوجوه والاعتبارات، والمصنف لم يقل بهما. والثاني: أنه لو لم يصح اجتماعهما لكان عدم الصحة؛ لاتحاد متعلقي الوجوب والحرمة؛ لانتفاء غيره بالاتفاق، والتالي باطل؛ لعدم اتحاد المتعلقين؛ لأن متعلق الأمر الصلاة، ومتعلق النهي كونها في الدار المغصوبة، واحدهما غير الآخر. واختيار المكلف الجمع بينهما، أي بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة لم يخرجهما عن حقيقتهما لتتحد الجهتان، وهذا ـــــ أيضاً ـــــ مبني على كون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات، وهو مناقض لما تقدم من نفيه. واستدل على المذهب بما تقريره. لو لم يصح اجتماع الوجوب والتحريم بجهتين لما ثبت صلاة مكروهة ولا صيام مكروه؛ لأن التضاد بين الوجوب والكراهة كهو بينه وبين التحريم. فكما أنه منع الجمع بينهما يمنع بين الوجوب والكراهة، لكن الصلاة في معاطن الإبل والأودية والحمّام نص الشارع على كراهتها. وأجاب المصنف: بأنه إن اتحد الكون، أي الجهة التي تعلق بها الوجوب والكراهة فلا نسلم ثبوت صلاة مكروهة تكون جهة وجوبها وكراهتها متحدة، ولا

صوم كذلك، وإلا، أي وإن لم تتحد الجهة المذكورة لم يفد الدليل؛ لأن النهي عن الصلاة المكروهة حينئذٍ يكون راجعاً إلى وصف جائز الانفكاك عنها، كالتعرض لنفار الإبل في أعطانها، ولخطر السيل في بطن الوادي، ولخوف الرشاش في الحمام والأمر راجع إلى الصلاة مطلقاً، فيجوز تعلق الوجوب والكراهة بهاتين الجهتين المتغايرتين. وأما الصلاة في الأرض المغصوبة فإن الجهة التي تعلق النهي بها وهو كونها في الدار المغصوبة لا تنفك عن الصلاة فلم يلزم من جواز اجتماع الوجوب والكراهة جواز اجتماع الحرمة والوجوب، وهو ليس بصحيح؛ لأن متعلق الوجوب في الصلاة في الدار المغصوبة مطلق الصلاة ومتعلق الحرمة بها في الدار المغصوبة، وهو ينفك عن الصلاة فكان النهي في الصورتين راجعاً إلى وصف الصلاة، ومتعلق الحرمة جائز الانفكاك فلا فرق بينهما. واستدل ـــــ أيضاً ـــــ: بأنه لو لم تصح الصلاة في الدار المغصوبة لما سقط التكليف؛ أنه إنما سقط بإتيان المأمور به، وما لم يكن صحيحاً لا يكون إتياناً بالمأمور به، لكنه يسقط بالإجماع على ما قاله القاضي، ويدل ـــــ أيضاً ـــــ على تحقق الإجماع. أن السلف لم يأمروا بقضاء الصلوات المؤداة في الدار المغصوبة. وأجاب [64/أ] المصنف: بمنع الإجماع؛ فإن أحمد خالف الفقهاء في سقوط التكليف بأداء الصلاة في الدار المغصوبة وهو أقعد بمعرفة الإجماع من غيره؛ لأنه قد بالغ في تفتيش النقل ومع مخالفته ضعف دعوى الإجماع. وفيه نظر؛ لأنه نقل عن أحمد أنه قال: من ادعى الإجماع فقد كذب فيجوز

أن يكون قوله بعدم سقوط التكليف بناءً على ذلك، فلا يكون معتبراً، وإلا بطل الإجماعات. ص ــــ قال القاضي والمتكلمون: لو صحت لاتحد المتعلقان؛ لأن الكون واحد، وهو غصب. وأجيب: باعتبار الجهتين بما سبق. قالوا: لو صحت لصح صوم يوم النحر بالجهتين. وأجيب: بأن صوم يوم النحر غير منفك عن الصوم بوجه فلا يتحقق جهتان. أو بأن نهي التحريم لا يعتبر فيه تعدد إلا بدليل خاص فيه. ش ــــ قال القاضي والمتكلمون: لو صحت الصلاة في الدار المغصوبة لاتحد متعلق الأمر والنهي؛ لأن الكون الذي هو الصلاة في الدار المغصوبة نفسه الغصب، لكن لا يصح ذلك لئلا يلزم التكليف بالمحال، وهو الإتيان بشيء يكون واجباً وهو بعينه حرام. وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم اتحاد المعلقين؛ لأن الكون المخصوص له جهتان جهة الصلاة وجهة الغصب، ولا شك في تغايرهما وجواز انفكاك أحدهما عن الآخر، فبالأولى متعلق الأمر، وبالأخرى متعلق النهي. وفيه نظر؛ لأن اعتبار الجهة في الحسن والقبح ههنا مناقض لما تقدم؛ ولأن إحدى الجهتين إن كانت مما ينفك عن الأخرى كان مناقضاً ـــــ أيضاً ـــــ لما تقدم من الفرق بين الصلاة المكروهة في معاطن الإبل وأمثالها فإنه فرق بينهما هناك بكون

الوصف منفكا فيها دون صلاة في الأرض المغصوبة. وان كانت مما لا ينفك اتحد الجهتان. والحق أنه ينفك؛ لأن متعلق الامر مطلق الصلاة وهي تتحقق في المسجد. وقالوا-أيضا-لو صحت الصلاة في الدار المغصوبة للجهتين لصح الصوم يوم النحر كذلك لأن المصحح وهو تعدد الجهة موجود في الصوم - أيضا- قالوا: لكن التالي باطل بالإجماع. وفيه نظر؛ لان المراد بعد الصحة ان كان البطلان فدعوى الاجماع باطلة؛ لان أبا حنيفة لم يقل به؛ وان كان عدم الجواز مع الكراهة فكذلك؛ لان أبا حنيفة وأصحابه يقولون بالجواز مع الكراهة، وان كان غير ذلك فلابد من البيان. وأجاب المصنف بوجهين: أحدهما: بالفرق بين المسألتين، بأن الجهتين في الصوم لا تنفك إحداهما عن الأخرى؛ لأن جهة الأمر كونه صوما، وجهة النفي كونه صوما يوم النحر، وصوم يوم النحر لا ينفك عن الصوم، لاستلزام الأخص الأعم، والشيء الواحد إنما يتعلق به الأمر والنهى باعتبار جهتين تنفك إحداهما عن الأخرى كالصلاة في الدار المغصوبة. ولقائل أن يقول: تعدد الجهة ليس بمنحصر فيما ذكرتك؛ لجواز أن تكون إحداهما الصوم والأخرى الإعراض عن الضيافة في يومها، فمتعلق الوجوب مطلق الصوم، ومتعلق الحرمة الإعراض عن الضيافة، واحداهما تنفك عن الأخرى، فإن الصوم يوجد بلا إعراض، والإعراض قد يوجد بلا صوم بأن لا يفطر بشيء من غير نيه الصوم أو الاحتماء أو لغير ذلك. والثاني: أن نهى صوم يوم النحر نهي تحريم، والمنهى عنه نهي التحريم لا

حظ الأصولي إذا سئل عمن توسط أرضا مغصوبة

يعتبر فيه تعدد الجهتين إلا بدليل خاص فيه، وليس بموجود في صوم يوم النحر، وهذا لأن نهي التحريم يقتضي الانتهاء قطعا، واعتبار تعدد الجهة يقتضي جواز الإتيان وهما متنافيان، فإذن لا يجوز اعتبار الجهتين في نهي التحريم إلا بدليل خارجي وقد دل في الصلاة فإن قوله: (أقم الصلاة) دل على اعتبار جهة الصلاة، وقوله-? -: "من غضب شبرا من الأرض طوقه الله يوم القيامة" الحديث دل على اعتبار جهة الغصب فاعتبر تعددها بالدليل الخارجي وليس في صوم يوم النحر ما يدل على ذلك. وهذا ليس بشيء فان قوله - تعالى -: {كتب عليكم الصيام} دل على اعتبار الصوم، وفي الأحاديث الدالة على ذلك كثرة، وقوله -? -: " فإنها أيام اكل وشرب وبعال" دل على اعتبار ترك الصوم في يوم النحر فكانا سواء. ص- وأما من توسط أرضا مغصوبه فحظ الأصولي فيه بيان استحالة تعلق الأمر

والنهي معاً بالخروج، وخطأ أبى هاشم وإذا تعين الخروج للأمر قطه بنفي المعصية به بشرطه وقول الإمام باستصحاب حكم المعصية مه الخروج، ولا نهى، بعيد. ولا جهتين لتعذر الامتثال. ش- لما فرغ عن اثبات كون مثل الصلاة في الدار المغصوبة مأمورا به ومنهيا عنه، أراد ان يفرق بينها وبين الخروج من الأرض المغصوبة؛ فإنه لا يصح ان يكون متعلق الامر والنهى معا، كذا قالوا. وفيه نظر؛ لأنه لاحظ للأصولي في بيان الفرق بل حظه ما نذكره: اعلم أن من توسط أرضا مغصوبه فسئل الأصولي عن الحكم الشرعي فيه من الخروج والإقامة فليس له في ذلك حظ. بل ذلك موكول الى رأى الفقيه، وإنما حظ الأصولي أن يبين أن تعلف الأمر والنهى معا بالخروج عنها مستحيل؛ اذ بيس جهتان يتعلق الأمر بإحدييهما والنهي بالأخرى وكذلك حظ الأصولي فيه أن يبين خطأ مذهب أبى هاشم، وهو عصيانه بالخروج والإقامة جميعا، وذلك لأن الإقامة إذا كان عصيانا كانت منهيا عنها فيكون الخروج مأمورا به. وإذا كان الخروج عنها عصيانا منها عنه كانت الإقامة مأمورا بها، فيلزم ان يكون كل واحد منها مأمورا به ومنهيا عنه بدون تعدد الجهة لما سنذكره وذلك محال فكان مذهب أبى هاشم خطأ. وقوله: "وإذا تعين" جهة أخرى في بيان خطئه وهي: أنه إذا تعبن الخروج عند كون الإقامة معصيه لكونه متعلق الأمر وجب ان يقطع بنفي المعصية، إذ المأمور به لا يمكن أن يكون معصيه لكن بشرط نفى المعصية عن نفسه، وهو ان يقصد الخروج عن الغصب لا التصرف في ملك الغير ليصير الخروج مأمور به، فكان القول بكونه معصيه خطأ. إذا عرف أن المأمور به لا يكون، معصيه، فقول إمام الحرمين يتعين

الخروج لكونه مأمورا به، ولا يكون النهى متعلقا، ولكن يستصحب حكم المعصية مع الخروج؛ إذ الموجب لها وهو الغصب باق. بعيد؛ لأنه يلزم أن يكون المأمور به معصيه، لعد الموجب لها، وهو النهي. ولقائل أن يقول: لعمري ان نسبه الإمام إلى الخطأ أحرى من أبي هاشم؛ لأن أبا هاشم قال بقيام المعصية، لقيام دليله وهو النهي. وأما الإمام فقد أثبت المعلول ونفى العلة، وهو خطأ ظاهر. وقوله: "ولا جهتن" جواب عما عسى أن يقال: يجوز تعلق الأمر والنهى معا بالخروج من جهتين كما في الدار المغصوبة. وتقريره: لا جهتين للخروج حتى يتعلق الأمر والنهى بهما؛ لأنه يتعذر الامتثال بالخروج على تقدير كونه منهيا عنه ولو كان له جهتان لم يتعذر. ولقائل أن يقول: الخروج من حيث أنه شغل الأرض المغصوبة في الحال ان يكون متعلق النهى، ومن حيث انه سعى في إزالة الغصب يكون متعلق الأمر، فكان له جهتان، وان كان الخروج بشرط نفى المعصية عن نفسه كما تقدم متعلق الأمر، ولا بشرط شيء يكون متعلق النهى، فكان له جهتان. وأن الاستدلال بتعذر الامتثال غير صحيح؛ لأنه متفرع على اتحاد الجهة. وتصور الامتثال بعد تحقق التعدد كتصور في الصلاة في الأرض المغصوبة.

المندوب

المندوب ص - مسألة: المندوب مأمور به. خلافا للكرخي والرازي. لنا: انه طاعة. وأنهم قسموا الأمر الى إيجاب وندب. قالوا: لو كان لكان تركه معصية؛ لأنها مخالفه الأمر، ولما صح: "لأمرتهم بالسواك". قلنا: المعنى أمر الإيجاب فيهما. مسألة: المندوب [ليس [بتكليف خلافا للأستاذ. وهي لفظية. ش- الندب في اللغة: الدعاء، والمندوب المدعو. وفي الشرع هو: ما يتعلق به الندب. وهو مأمور به عند العامة إلا

الكرخي، وأبا بكر الرازي منا. واستدل المصنف للعامة بوجهين: أحدهما: انه طاعة، وكل ما هو طاعة فهو مأمور به، أما الصغرى فبالإجماع، وأما الكبرى؛ فلأن الطاعة تقابل المعصية وهي مخالفه الأمر. فالطاعة امتثاله، فيكون مأمورا به، كما أنه المعصية منهى عنها. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن كل طاعة مأمور بها، وذلك لأن المندوب طاعة عندنا وليس بمأمور به بل هو عين النزاع. وقوله في دليله: لأن الطاعة تقابل المعصية، ممنوع بعين ما ذكرنا في الكبرى. والثاني: أن الأمر ينقسم إلى أمر ايجاب وندب، ومورد القسمة مشترك بالضرورة. وحينئذ يكون مأمورا به لا مجاله وفيه نظر؛ لجواز أن يكون الإطلاق بالاشتراك اللفظي كما ذهب اليه بعض، أو بالمجاز لقول آخرين.

مسألة: هل المندوب تكليف أو لا؟

وقالا: إنه ليس بمأمور به لوجهين: أحدهما: أنه لو كان مأمورا به لكان تركه؛ لأنها مخالفه الأمر، لقوله: {أفعصيت أمري} لكنه ليس بمعصيه وإلا لاستحق النار، لقوله - تعالى -: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم}. والثاني: لو كان مأمورا به لما صح قوله -? -: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة "؛ لأن " لولا" لانتفاء الشيء لوجود غيره، فكان الامر منفيا لوجود المشقة والسواك مندوب بالإنفاق، فلو كان مأمورا به لما صح نفى الامر عنه. وأجاب المصنف عن الوجهين: بأن الأمر الذي يكون ترك معصية، والأمر المنفى عن السواك إنما هو أمر الإيجاب، ولا يلزم من انتفاء أمر الإيجاب انتفاء الأمر المطلق. ولقائل أن يقول: هذا إنما يستقيم أن لو كان الأمر مشتركا بين الإيجاب والندب ولم يلتزمان ذلك، وأما إذا كان الأمر للوجوب فقط كما هو مذهبهما فلا يكون المندوب مأمورا به حقيقة فكان الخلاف واقعا عن عدم تجرير المبحث، وهو خبط بترك ما يجب في المناظرة. وقوله: " مسألة المندوب ليس بتكليف " مسألة أخرى تتعلق ببحث المندوب،

وهو أن الندب تكليف أو لا؟ فالعامة على أنه ليس بتكليف، إلا عند ابى إسحاق الإسفراني فإنه جعله تكليفا. ولقائل أن يقول: هذه المسألة تناقض ما قبلها؛ لأن العامة ذهبوا إلى أنه مأمور به، وكل أمر تكليف لا محاله، ثم يقولون انه ليس بتكليف. فإن قيل: كل أمر تكليف، إن كان التكليف عباره عما يترجح فعله وأما إذا كان التكليف طلبا يمنع النقيض، فهو ليس بتكليف. وخلافهم نشأ من هذا. قلت: إن كان كذلك عاد الخبط في تحرير المبحث، وكان قوله: "وهي لفظية" أي هي مسألة لفظيه النزاع معذره عن ذلك.

المكروه

المكروه ص- مسألة: المكروه منهى عنه، غير مكلف به، كالمندوب ويطلق أيضا على الحرام، وعلى ترك الأولى. ش- المكروه ما تعلق به الكراهة، والخلاف في كونه منهيا عنه وعدمه ومكلفا به او غيره كالخلاف في المندوب في كونه مأمورا به أو لا، ومكلفا به أو لا وقد يطلق على الحرام، وعلى ترك الأولى، كترك الجمع بين الحجر والماء في الاستنجاء.

أحكام المباح

أحكام المباح ص- مسألة: يطلق الجائز على المباح، وعلى ما لا يمتنع شرعا أو عقلا وعلى ما استوى الامران فيه وعلى المشكوك فيه [فيهما [بالاعتبارين. مسألة: الإباحة حكم شرعي خلافا لبعض المعتزلة. لنا: أنها خطاب الشارع. قالوا: انتفاء الحرج، وهو قبل الشرع. مسألة: المباح عير مأمور به، خلافا للكعبي. لنا: أن الأمر طلب يستلزم الترجيح، ولا ترجيح. قال: كل مباح ترك حرام، وترك الحرام واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وتأول الإجماع على ذات الفعل، لا بالنظر إلى ما يستلزم، جمعا بين الأدلة. وأجيب بجوابين: أحدهما: أنه غير متعين لذلك، فليس بواجب. وفيه تسليم أن الواجب واحد فما فعل فهو واجب قطعا. الثاني: إلزامه أن الصلاة حرام إذا ترك بها واجب، وهو يلتزمه باعتبار الجهتين. ولا مخلص إلا بأن ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي أو عادى فليس بواجب.

المسألة: يطلق الجائز على المباح

وقول الأستاذ: " الإباحة تكليف " بعيد. مسألة: المباح ليس بجنس للواجب، بل هما نوعان للحكم. لنا: لو كان جنسه لاستلزم النوع التخيير. قالوا: مأذون فيهما، واختص الواجب. قلنا: تركتم فصل المباح. ش-ذكر أحكام المباح في أربع مسائل: الأولى: في مفهوم المباح، والجائز. والمباح: ما تعلق به الإباحة، والجائز: يطلق على المباح الشرعي، وعلى ما لا يمتنع وجوده شرعا، فيتناول الواجب والمندوب والمباح والمكروه. وعلى ما لا يمتنع وجوده عقلا، فيتناول الواجب، والممكن الخاص. وعلى ما لا يمتنع وجوده وعدمه، وهو المراد بقوله: "ما استوى الأمران فيه" وهو الممكن الخاص، فيكون أخص مما قبله. وعلى ما يشك فيه في الشرع والعقل باعتبار عدم الامتناع، وباعتبار الاستواء.

المسألة الثانية: الإباحة حكم شرعي

قال شيخي العلامة: المعنى أن الجائز يطلق: المعنى أن الجائز يطلق في الشرع على ما يشك أنه لا يمتنع شرعا، وعلى ما يشك أنه استوى الأمران فيه شرعا. وفي العقل على ما يشك أنه لا يمتنع عقلا، وعلى ما يشك أنه استوى الأمران فيه عقلا. والثانية: أن الإباحة حكم شرعي، خلافا لبعض المعتزلة. دليل العامة: أن الإباحة خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك وقد سبق أنه حكم شرعي، لدخوله تحت حد الحكم. وقالت المعتزلة: الإباحة انتفاء الحرج عن الفعل والترك، وهو كان قبل الشرع متحققا. والسؤال الوارد على عدم تحرير المبحث فيما سبق وارد ههنا؛ لأن مراد المعتزلة: الإباحة لا على معنى ورود خطاب الشرع بها، والعامة تريد بها ما ورد به خطاب الشارع، فلو تحرر المبحث لارتفع الخلاف. والثالثة: أن المباح مأمور به، أولا. نفاه الجمهور، وأثبته الكعبي.

واستدل [66/ب] الجمهور: بأن الأمر طلب يستلزم ترجيح الفعل على الترك وترجيح في المباح، فلا يكون مطلوبا، فلا يكون مأمورا به. ولمعارض أن يقول: الأمر لطلب وجود المأمور به، وأدنى ذلك أن يكون جائز الإقدام عليه فتثبت الإباحة حتى يقوم الدليل على الزائد. واستدل الكعبي على ان المباح مأمور به: بأنه واجب، وكل واجب مأمور به، أما الكبرى فظاهرة، وأما الصغرى فلأن كل مباح ترك حرام؛ اذ ما من فعل مباح إلا ويتحقق بمباشرته ترك حرام، وترك الحرام واجب بالإجماع، ولا يتم إلا بمباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولقائل أن يقول: هذا يستلزم أن يكون المباح حراما؛ لأنه ما من فعل حرام إلا ويستلزم ترك مباح، وفعل الحرام حرام، ولا يتم بترك مباح، وما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام؛ لتوقفه عليه، فيلزم أن ترك المبارحة حراما، لكن ترك المباخر مباحا. فإن قيل: ما ذكر الكعبي من الدليل إن صح افضى إلى خروق الإجماع؛ لأن العلماء أجمعوا على أن الأفعال التي تتعلق بها الأحكام خمسه: واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام، وإذا صار المباح واجبا، صار الأحكام أربعه، وهو خلاف الإجماع. أجاب المصنف عنه: بأن الإجماع يأو بالحمل على ذات الفعل، يعنى ان الأقسام بالنظر إلى ذات الفعل مع قطع النظر عما يستلزم من كونه يحصل به ترك الحرام ينقسم الى خمسه، وحينئذ لا يخرج المباح عن كونه مباحا. وأما بالنظر إلى ما يستلزمه من كون المباح يحصل به ترك الحرام، يصير واجبا، ولابد من هذا التأويل جمعا بين الأدلة؛ فإن الإجماع لو حمل على كون الفعلمنقسما إلى الخمسة بالنظر إلى ما يستلزمه لزم بطلان دليل الكعبي، ولوحملعلى ما ذكرنا عمل بالدليلين جميعا، فكان ذلك واجبا.

ولقائل أن يقول: هذا التأويل باطل؛ لأنه كون المباح قسيما للواجب حينئذ ذاتيللفعل فيكون بينهما منافاة ذاتيه، والمنافي الذاتي لا يمكن أن يصير مما يتوقف عليه وجود قسيمه ولا صفه من صفاته سوى المنافاة. وأجيب عن دليل الكعبي بوجهين: الأول: أن فعل المباح غير متعين لأن يحصل به ترك الحرام، لحصوله بالواجب والمندوب - أيضا- فلم يكن المباح على التعيين واجبا. وزيفه المصنف: بأن فيه تسليم أن الواجب أحد ما يحصل به ترك الحرام، فمافعله - يعنى المباح- يكون واجبا؛ لأنه أحد ما يخصل به ترك الحرام. ولقائل أن يقول: ما يحصل به ترك الحرام أحدها غير معين، وهو الواجب، وكل واحد على التعيين معين، وهو غير الامعين فلا يكون واجبا. والثاني: أن ما ذكره يستلزم أن تكون الصلاة حراما إذا ترك بها واجب، كمنأخر العشاء يوم عرفه بحيث أنه لو اشتغل بها فات الوقوف بعرفه، فكان الواجب الذي هو الوقوف لا يتم الا بترك الصلاة فيكون تركها واجبا، وما كان تركه واجباكان فعله حراما. وزيفه المصنف: بأن الكعبي يلتزم كون الصلاة واجبا حراما بالجهتين كالصلاة في الدار المغصوبة، ثم قال المصنف: ولا مخلص - يعنى من شبهه الكعبي-إلا بأن يقال: ما لا يتم الواجب إلا به إن كان شرطا شرعيا، كالوضوء للصلاة فهو واجب، وإن كان شرطا عقليا، كنصب السلم للصعود، أو عاديا كطلب الرفيق في السفر فليس بواجب شرعا. فحينئذ تندفع شبهة الكعبي، لكون ترك الأضداد من الشروط الواجبة عقلا فلا يلزم من وجوب الشيء شرعا وجوب ترك أضداده.

المسألة: هل المباح جنس للواجب

ولقائل أن يقول: إن الصعود والسفر واحد الأضداد إما أن يكون مأمورا به، أو لا. فإن كان الثاني فليس مما نحن فيه، وإن كان الأول كان الشرط شرطا شرعيا اقتضاء كما تقدم. وتقدم أن الفرق بين الشرط وغيره تحكم لفساد الدلائل المذكورة فظهر أن ذلك ليس بمخلص، ولعله فيما ذكرنا. وقوله: "وقول الأستاذ" إشارة إلى ما ذهب إليه أبو إسحاق الإسفراني: أن الإباحة تكليف هو بعيد؛ لأن التكليف إنما يتحقق بطلب ما فيه كلفة، ولا كلفة في التخيير؛ لأنه لم يطلب به شيء. ولقائل أن يقول: تعريف التكليف بما ذكر من باب التفسير بالتشهي وإنما التكليف طلب شيء، وذلك يقتضي وجود المطلوب. وأدنى طرق تحصيله جواز الإقدام عليه وهو الإباحة فكان تكليفا. والمسألة الرابعة: أن المباح جنس للواجب، أولا. وقد اختلفوا فيه واختار المصنف عدمه، وهو مذهب الأكثر. بل هما نوعان بحسب فعل المكلف الذي تعلق به الحكم الشرعي.

فقول الحكم بمعناه لمتعلق الحكم. واستدل على ذلك بأنه لو كان المباح جنسا للواجب لاستلزم النوع، وهو الواجب التخيير؛ لأن التخيير لازم للمباح، والمباح لازم للواجب؛ لأنه جنسه، ولازم اللازم لازم، لكن لا يستلزمه والإد لكان ما فرضناه واجبا لم يكن واجبا، وهذا خلف. ولقائل أن يقول: هذا يناقض ما قدمه أن ما لا يتم الواجب الإد به إذا لم يكن شرطا شرعيا لا يكون واجبا، واستلزام النوع لما يستلزمه الجنس ليس إلا امرا عقليا، قلا يكون مانعا عن الدخول فيه. واستدل القائلون بكونه جنسا: بأن الواجب والمباح مأذون فيهما واختص الواجب بفصل " المنع من الترك "، فالمأذون الذي حقيقة المباح مشترك بين الواجب وغيره فيكون جنسا. وزيفه المصنف: بأن المأذون مشترك بين الواجب الذي هو مأذون مع منع الترك، والمباح الذي هو المأذون مع عدم منع الترك والمأذون بهذا القيد ليس بمشترك بل مباين [67/ب] للواجب. وهو معنى قولنا من قبل: لو كان جنسا ما كان قسيما بالذات، لكنه قسيم بالإجماع فلا يكون جنساً.

خطاب الوضع

خطاب الوضع ص-خطاب الوضع، كالحكم على الوصف بالسببية الوقتيه، كالزوال والمعنوية، كالإسكار والملك والضمان والعقوبات، وبالمانع للحكم لحكمه تقتضي نقيض الحكم، كالأبوة في القصاص، وللسبب لحكمه تحل بحكمه السبب، كالدين في الزكاة. فإن كان المستلزم عدمه فهو الشرط فيهما، كالقدرة على التسلم والطهارة. وأما الضح والبطلان والحكم بهما فأمر عقلي؛ لأنها إما كون الفعل مسقطا للقضاء، وإما موافقه أمر الشارع. والبطلان والفساد نقيضها. الحنفية: الفاسد: المشروع بأصله، الممنوع بوصفه. ش-لما فرغ من بيان خطاب الاقتضاء والتغيير شرع في بيان خطاب الوضع، وهو أقسام: الأول: الحكم على الوصف المعين بكونه سببا. وهو في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، قال الله - تعالى -: {فليمدد بسبب إلى السماء} أي بحبل، لكونه مما يتوصل به إلى الشيء.

الثاني: الحكم على الوصف المعين بالمانعية

وفي الشرع: هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل السمع على تعريفه للحكم الشرعي ولا يكون مؤثرا فيه. واشترط كونه ظاهرا منضبطا؛ لأن الأسباب إنما وضعت معرفات للأحكام تسهيلا لاطلاع المكلف على أحكام الوقائع المتعسرة عليهم معرفتها خصوصا بعد انقطاع الوحي، وإنما نفى أن يكون مؤثرا؛ لأنه أمر وضعي حادث، فلا يمكن أن يكون مؤثرا وإلا لكان مؤثرا قبل الشرع، وهو باطل. ثم إنه ينقسم إلى وقتي ومعنوي؛ لأنه إما أن يستلزم في تعريفه حكمه باعثه، أو لا. فإن لم يستلزم فهو الوقتي، كدلوك الشمس فإنه معرف لوفت وجوب الظهر، وإن استلزم فهو المعنوي، كالإسكار فإنه معنوي جعل معرفا للتحريم. والملك جعل سببا لإباحة الانتفاع. والضمان جعل سببا لمطالبه الضامن بالدين. والعقوبات جعلت معرفات للحدود والقصاص. وليس بالحكم الشرعي نفس الوصف المحكوم عليه بالسببية بل الحكم عليه بالسببية. ولله - تعالى - في كل واقعه عرف الحكم فيها بالسبب حكمان: أحدهما: نفس الحكم المعرف بالسبب، والآخر السببية المحكوم بها على الوصف المعرف للحكم. والثاني: الحكم على الوصف المعين بالمانعين، إما للحكم وهو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المستلزم لحكمه تقتضي نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة

الثالث: الحكم على الوصف بالشرطية

السبب. كالأبوة في القصاص فإنها وصف وجودي ظاهر منضبط مانع لحكم القصاص مع القتل العمد العدوان لاشتمالها على حكمه تقتضي نقيض القصاص، وتلك الحكمة كون الأب سببا لوجود الابن في يجوز أن يكون سببا لعدمه. وإما [لسبب [الحكم: وهذا المانع وهو الوصف الوجودي المقتضى لاختلال حكمه السبب، كالدين على مالك نصاب كامل فإنه وصف وجودي يقتضي اختلال حكمه سبب وجوب الزكاة. فإن سبب وجوبها تحقق النصاب الكامل، وجمته سد خلة الفقير. وحكمه المانع للسبب تخل بحكمه السبب؛ لأن سد خلته بإيفاء دينه أولى من سد خله غيره. والثالث: الحكم على الوصف بالشرطية. قال شيخي العلامة - رحمه الله -: قد ذكرنا أن الوصف المانع للحكم هو المستلزم وجوده لحكمة تقتضي نقيض الحكم. والوصف المانع لسبب الحكم هو المستلزم وجوده لحكمه تقتضي اختلال حكمه السبب. فإن كان الوصف مستلزم عدمه حكمه تقتضي نقيض الحكم، يسمى شرط الحكم. وإن كان الوصف مستلزم عدمه حكمه تقتضي اختلال حكمه سبب الحكم، يسمى شرط السبب.

الصحة والبطلان

مثال شرط السبب: القدرة على التسليم؛ فإن ثبوت الملك حكم وصحة البيع سبب , وإباحة ا] لا [نتفاع حكمه صحه البيع, والقدرة على التسليم شرط صحه البيع؛ لأن عدم القدرة على التسليم مستلزم عدم القدرة على الانتفاع الموجب لاختلال إباحة الانتفاع ومثال شرط الحكم: الطهارة في باب الصلاة, فإن حصول الثواب ودفع العقاب حكم, والصلاة سببه, وحكمة الصلاة التوجه الى جناب الحق, والطهارة شرط الصلاة؛ فإن عدم الطهارة مستلزم ما يقتضى نقيض الحكم, أعنى عدم حصول الثواب وعدم دفع العقاب مع بقاء حكمه الصلاة. قوله: "وأما الصحة والبطلان"اعلم أنهم اختلفوا في الصحة والبطلان في كونهما من خطاب الوضع، أو ليسا بداخلين في الحكم الشرعي بل أمران عقليان، أو أنهما داخلان في الاقتضاء والتخيير. فمنهم من ذهب إلى أنهما من خطاب الوضع؛ لكونهما من الأحكام وليسا بداخلين في الاقتضاء والتخيير؛ لأن صحة العبادة وبطلانها والحكم بها، وكذا بصحه المعاملات وبطلانها لا يتعلق بها اقتضاء ولا تخيير. ومنهم من ذهب: إلى أن الصحة معناها: الإباحة. والبطلان معناه: الحرمة، فكانا داخلين في الاقتضاء والتخيير.

وذهب المصنف: إلى أنهما، والحكم بهما غير مستفاد من الشرع، وإنما ذلك أمر عقلي؛ لأن الصحة في العبادة إما كون الفعل مسقطا للقضاء، كما هو مذهب الفقهاء، أو كونه موافقا لأمر الشريعة، كما هو مذهب المتكلمين. والحاكم بصحتها عند وجود الشرائط والأركان، وبعدمها عندهما على التفسيرين إنما هو العقل ليس إلا، فان ذلك أمرا عقليا ولم يتعرض لصحه المعاملات وبطلانها، وبمكن أن يقال: إنها - أيضا - كذلك؛ لأنها في المعاملات: كون الشيء بحيث يترتب عليه أثره. وإذا كان الشيء مشتملا على الشرائط والأركان، حكم العقل بترتب أثره عليه، سواء حكم الشارع بها أو لم يحكم.

وفيه نظر؛ لأن حكم العقل غير معتبر عنده كما تقدم. وحينئذ لا يحكم في الشرع لا بصحه عبادة ومعاملة ولا ببطلانهما. قوله: "والبطلان والفساد عندنا نقيض الصحة. فهما مترادفان" إن أراد الترادف اللغوي فليس بصحيح، وإن أراد الاصطلاحي فلا نزاع لكن فيه ترك المناسبة في القسمة؛ لأن الفاسد مأخوذ من قولهم: فسد الجوهر إذا بقي أصله وبقي لمعانه وبياضه، وكذلك بقال: لحم فاسد إذا بقي أصله ولم يبق منتفعا به. وإنما المناسب هو أن يكون الفاسد قسما متوسطا بين الصحيح والباطل. فالصحيح: ما شرع بأصله ووصفه.

والباطل ما لم يشرع بأصله ووصفه، كالملاقيح والمضامين. والفاسد: ما شرع بأصله دون وصفه، كعقد الربا، فإنه بأصله وهو أنه بيع مشروع، وبوصفه وهو اشتماله على زياده خاليه عما يقابله من العوض غير مشروع.

الرخصة والعزيمة

الرخصة والعزيمة ص- وأما الرخصة: فالمشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر كأكل الميته للمضطر , والقصر والفطر في السفر واجبا ومندوبا ومباحا. ش-لما فرغ من بيان الأحكام وهي عزيمه ورخصه , أرادأن يبين العزيمة والرخصة والرخصة في اللغة: التيسير. وفي الشرع: عباره عن المشروع لعذر مع قيام المحرم. احتراز عن أحد خصال كفاره الظهار بعد تعذر الأولى, كالإطعام فإنه

مشروع لعذر وهو عدم القدرة على الإعتاق, لكن مع عدم القيام المحرم؛ لأن عند فقد الرقبة لا يكون الاعتاق واجبا, وإذا لم يكن واجبا لم يكن محرم ترك الإعتاق قائما. وإنما فيد بقوله: "لولا العذر" ليعلم أن قيام المحرم إنما كون على تقدير انتفاء العذر، وتركه كان أولى؛ لأنه يستلزم أن يكون الإطعام في كفاره الظهار عند فقد الرقبة رخصه؛ لأنه لولا العذر، وهو فقد الرقبة لكان المحرم قائما، وإنما مثل بأكل الميتة إشارة إلى نفي قول: إن المحرم للأكل [في [المخمصة غير قائم. وقوله: "والقصر" يعنى للمسافر، وقوله:"والفطر"يعنى للمسافر والمريض والحائض. وقوله: "واجبا ومندوبا ومباحا" راجع إلى الأمثلة، أي كأكل الميتة حال كونه واجبا، فإن ترك حتى مات أثم والقصر للمسافر حال كونه مندوبا، والفطر للمسافر حال كونه مباحا وكذا إذا كان مريضا لا حائضا بل هو حرام. والعزيمة: مأخوذة من عزم على كذا إذا قصد مؤكدا قال - تعالى-:

{فنسى ولن نجد له عزما}. وفي الشرع: عبارة عما لزم العباد بإلزام الله - تعالى، كالعبادات ونحوها.

المحكوم فيه الأفعال

المحكوم فيه الأفعال ص- المحكوم فيه: الأفعال. شرط المطلوب: الإمكان. ونسب خلافه إلى الأشعري. والإجماع على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع. لنا: لو صح التكليف بالمستحيل، لكان مستدعى الحصول؛ لأنه معنى الطلب. ولا يصح؛ لأنه لا يتصور وقوعه. واستدعاء حصوله فرعه لأنه لو تصور مثبتا لزم تصور الأمر على خلاف ماهيته، وهو محال. فإن قيل: لو لم يتصور لم يعلم إحالة الجمع بين الضدين؛ لأن العلم بصفه الشيء فرع تصوره. قلنا: الجمع المتصور جمع المختلفات، وهو المحكوم بنفيه ولا يلزم من تصوره منفيا عن الضدين تصوره مثبتا. فإن قيل: يتصور ذهنا للحكم عليه ولا في الخارج. قلنا: فيكون الخارج مستحيل، والذهني بخلافه. وأيضا: فيكون الحكم بالاستحالة على ما ليس بمستحيل. وأيضا: الحكم على الخارج يستدعى تصوره للخارج. ش-الأصل الثالث هو المحكوم فيه، وهو الأفعال التي تعلقت بها

الأحكام. وهي إما أن تكون ممتنعه لذاتها، أو لا، والأول: لا يصح التكليف به عند العامة، وحكي عن أبى الحسن الأشعري جوازه. والثاني: إما أن يكون ممتنعا لغيره، او لا. والثاني: لا نزاع لأحد في أن التكليف به صحيح؛ وكذا الأول بالإجماع. وقد احتج المصنف على عدم صحة التكليف بالمحال. أي الممتنع لذاته بأنه لو صح التكليف بالمحال لكان مستدعى الحصول، لأن التكليف طلب، ومعنى الطلب استدعاء الحصول، لكنه لا يصح طلب حصوله؛ لأن طلب حصوله يستلزم تصور وقوعه لكونه فرعه، وتصور وقوعه منف؛ لأنه لو تصور مثبتا لزم تصور الأمر على خلاف ماهيته، فإن ماهية الممتنع هو ما لا يتصور وقوعه، وماهية الممكن هو ما يتصور وقوعه فلو تصور الممتنع مثبتا لزم قلب الحقائق. قوله: "فإن قيل: لو لم تصور" معارضه لمقدمة المعلل.

تقريرها: لو لم يتصور وقوع المحال امتنع التصديق بإحالة الجمع بين الضدين؛ لأن التصديق بصفه الشيء فرع تصوره فالعلم بمعنى التصديق في الموضعين. ولقائل أن يقول: المقدم إما أن يكون نفى التصور على ما هو الظاهر من لفظه، أو نفى تصور الوقوع. فإن كان الأول فليس مما نحن فيه؛ لأن كلامنا في وقوعه كما تقدم في مقدمه المعلل، وإن كان الثاني فالملازمة ممنوعه، فإن الحكم بإحالة الحم بين الضدين فرع على التصور الجمع لا على تصور وقوعه. وأجاب المصنف: بأن الجمع المتصور، يعنى بين الضدين في الخارج جمع بين المختلفات، وهو المحكوم بنفيه فهو متصور من حيث النفي ولا يلزم من تصوره منفيا عن الضدين تصوره مثبتا ليلزم تصور المحال على خلاف ماهيته. وإنما سمى ذلك مختلفات؛ لأنه لا تضاد بين الصور الحاصلة في الذهن. والضمر في قوله: " ولا يلزم من تصوره منفيا " إن رجع الى الجمع بين المختلفات فليس بصحيح؛ لأنه ليس منفيا عن الضدين؛ لأنها ليست مضادة، وإن رجع الى الجمع بين الضدين لم يكن ذكر المختلفات مناسبا، لخفاء معناه، ولا يناسب في التحقيق إلا ذكره [69/ب]. وقوله: ويلزم من تصوره منفيا عن الضدين تصوره مثبتا ليس بصحيح؛ لأن تصور السلب موقوف على تصور الإيجابيات، إذ السلب المطلق غير معقول ابتداء. ولهذا قيل: الإيجاب أبسط من السلب. وقوله: " فإن قيل يتصور ذهنا للحكم عليه " منع، لقوله: "ولا يلزم من تصوره

منفياً تصوره مثبتا". وتقريره: لا نسلم ذلك بل يلزم من تصوره منفيا تصوره مثبتا في الذهن؛ لأنه محكوم عليه فيه فلابد من تصوره، ولا يلزم في الخارج فيلزم تصور الشيء على خلاف ماهيته. وأجاب عنه بثلاث أجوبه: الأول: أنه إن كان كذلك فيكون الجمع بين الضدين في الخارج مستحيلا ولا يتصور ثبوته فيه بالاتفاق، وليس نزاعكم فيه ويكون الجمع بينهما في الذهن ممكنا ويتصور ثبوته فيه، وذلك تصور ثبوت ممكن لا محاله فلا يكون مما نحن فيه. الثاني: أنه حينئذ يكون الحكم باستحالة الجمع بين الضدين حكما باستحالة ما ليس بمستحيل؛ لأن الجمع بينهما في الذهن هو المحكوم عليه. الثالث: أن الجمع بين الضدين مستحيل في الخارج، والحكم على المستحيل في الخارج يستدعى تصور ثبوته في الخارج لا في الذهن، فالتصور الذهني لا يدل على ثبوت المجال الذي هو الجمع بين الضدين في الخارج. ولقائل أن يقول: الحق أن التأمل في كلام المعلل عن الأصل يقطع هذا الشغب وذلك لأن معنى كلامه هناك: التكليف بالممكن لئلا يكون عبثا، والمستحيل ليس بممكن فلا يقع التكليف به. ص-المخالف: لو لم يصح لم يقع؛ لأن العاصي مأمور، وقد علم الله - تعالى - أنه لا يقع. وأخبر أنه لا يؤمن. وكذلك من علم بموته، ومن نسخ عنه قبل تمكنه. ولأن المكلف لا قدرة له إلا حال الفعل، وهو حينئذ غير مكلف فقد كلف غير مستطيع. ولأن الأفعال مخلوقه لله - تعالى.

الاستدلال على جواز التكليف بالمحال

ومن هذين نسب تكليف المحال الى الأشعري. وأجيب: بأن ذلك لا يمنع تصور الوقوع لجوازه منه، وهو غير محل النزاع. وبأن ذلك يستلزم أن التكاليف كلها تكليف بالمستحيل وهو باطل بالإجماع. ش-استدل المخالف على جواز التكليف بالمحال: بأنه لو لم يصح لم يقع؛ لأن الوقوع مسبوق بالإمكان، لكنه وقع وبينه بوجوه: منها: أن العاصي بترك الفعل مأمور بالإتيان، وإلا لم يكن عاصيا بتركه، والإتيان به محال، لأن الله -تعالى-علم عدم وقوعه فلا يقع، وإلا صار علمه جهلا، وكان العاصي مكلفا بما لا يمكن وقوعه. ومنها: أمر الكفار بالإيمان وأخبر أنهم لا يؤمنون بقوله - تعالى-: {لقد حق القول على اكثرهم فهم لا يؤمنون} فلا يقع منهم الإيمان لئلا يلزم الكذب في خبره، فكان تكليفا بالممتنع. ومنها: أن الله - تعالى - كلف من علم موته قبل تمكنه من الفعل وكذلك كلف من نسخ عنه الفعل قبل تمكنه منه وذلك تكليف بالمحال لا محالة. ومنها: أن المكلف لا قدرة له على الفعل إلا حال صدور الفعل منه؛ لأنها

لو تقدمت تعلقت بغيره، لاحتياجها إلى متعلق موجود، فلا يكون قدرة لهذا الفعل، فالقدرة حال صدور الفعل، والفعل حينئذ غير مكلف به، لاستحاله التكليف بإيجاد الموجود فيكون التكليف قبل صدوره ولا قدرة حينئذ فكان التكليف بالمحال. ولقائل أن يقول: هذا الوجه فاسد؛ لأن تمامه باستحالة التكليف بإيجاد الموجود وهو باطل؛ لأن الكلام في أن التكليف بالمستحيل جائز، فكما يجوز التكليف بإيجاد الممتنع يجوز الموجود؛ لأنهما في عدم طريان الموجود سيان. ومنها: أن أفعال العبد مخلوقه لله - تعالى - على ما عرف في موضعه وكل ما [هو [مخلوق لله لا يكون مقدورا للعبد، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقدره قادرين بقدرة الاختراع محال. وإما بقدرتين: إحداهما قدره الاختراع، والأخرى الاكتساب فلا يسلم أنه محال. ومذهب أبى الحسن الأشعري: أن لا قدرة للفاعل على الفعل إلا حال إيجاد الفعل، وأن أفعال العبد مخلوقة لله - تعالى -، ومن هذين نسب إليه جواز التكليف بالمحال؛ لأن القول بأحدهما يستلزمه فضلا عن القول بهما. وأجاب المصنف عن ذلك بجوابين: أحدهما: أن الصور المذكورة يمكن تصور وقوعها من المكلف، لجواز

صدورها منه بحسب الذات وان امتنع صدورها منه بأمر خارجي، وهو تعلق علم الله -تعالى- بعدم وقوعه فيكون غير محل النزاع؛ لأن النزاع إنما هو في الممتنع بالذات. ولقائل أن يقول: وقوع التكليف بما لا يقع دل على المراد به ليس الامتثال بالفعل فالإمكان مع عدم الوقوع والامتناع سيان في جواز اعتقاد أن المكلف به لو كان ممكنا جائز الوقوع امتثل. والثاني: أنه يلزم مما ذكرتم أن تكون التكاليف كلها تكيفا بالمحال وهو باطل بالإجماع. أما استلزام كون القدرة مع الفعل، وكون الفعل مخلوقا لله - تعالى - إياه فظاهر. وأما استلزام علم الله -تعالى- ذلك؛ فلأنه لو وجب كل ما علم الله وقوعه وامتنع كل ما علم الله عدم وقوعه، كانت الأفعال إما واجبه أو ممتنعه، والتكليف بهما محال. ولقائل أن يقول: هذا غير صحيح لعدم اتصاله بمحل النزاع؛ فإن الكلام في التكليف بالمحال وما علم الله وجوده ليس بمحال فيكون التكليف به تكليفا بالمحال. وأما ما علم الله -تعالى- عدمه فالتكليف به تكليف بالمحال؛ لكونه محالا، وفيه النزاع بأنه يجوز أن يكلف به لا لوقوعه بل لاعتقاده أنه لو كان ممكنا خصل الامتثال، أو لا يجوز، ولا يلزم من ذلك أن يكون التكليف بذلك مستلزما لأنه تكون التكاليف كلها تكليفا بالمحال. ص-قالوا: ملف أبا جهل [70/ب] تصديق رسوله في جميع ما جاء به ومنه أنه لا يصدقه، فقد كلفه بأن يصدقه في ألا يصدقه وهو يستلزم أنه لا يصدقه. والجواب: أنهم كلفوا بتصديقه. وإخبار رسوله كإخبار نوح.

ولا يخرج الممكن عن الإمكان بخبر أو علم. نهم لو كلفوا بعد علمهم لانتفت فأئده التكليف، ومثله غير واقع. ش-هذا دليل آخر لمجوزي التكليف بالمحال. وتقريره: أن الله - تعالى - كلف أبا جهل تصديق رسول -? -في جميع ما جاء به؛ لأنه كلفه بالإيمان به، وهو تصديق بجميع ما جاء به، ومما جاء به أنه لا يصدقه، فكان مكلفا بتصديقه الرسول -?-في أنه لا يصدقه، وهذا الخبر يستلزم ألا يصدقه، وإلا لزم الكذب في خبر الله - تعالى - فكان مكلفا بالتصديق حال عدم تحقيقه، وهو تكليف بالجمع بين الضدين، فكان التكليف بالمحال واقعا. ولقائل أن يقول: التكليف بتصديقه بجميع ما جاء به إما أن يكون قبل الإخبار بأنه لا يصدقه أو بعده. لا سبيل إلى الثاني؛ لانتفاء فأئده التكليف لكونه بعد العلم بأنه لا يصدقه كما يجئ فتعين الأول، وحينئذ لا يلزم التكليف بالجمع بالضدين؛ ولأن التكليف بالتصديق لا يصح إلا حال عدم التصديق، وليس ثمة جمع بين الضدين، وإنما كان كذلك أن لو كان مكلفا بالتصديق وعدمه، بل هو مكلف بالتصديق بما جاء به ومن جملته أنه لا يؤمن فكان الاستحالة باعتبار أنه مكلف بما أخبر أنه لا يحصل من المكلف لاعتبار الجمع بين الضدين، فكان ذكر هذا الدليل

مستدركاً؛ لأنه من قبيل أنه كلف الكافر بالإيمان وأخبر أنه لا يؤمن وقد تقدم فيما قبله. وأجاب المصنف بما حاصله: أنه ليس بمحل نزاع؛ لأنه ممكن في ذاته ممتنع لغيره، ومحل النزاع الممتنع لذاته. وتقريره على ما ذكره: أبو جهل وأمثاله كلفوا بتصديق الرسول فيما جاء به، وتصديق الرسول فيما جاء به أمر ممكن في نفسه، وإخبار الرسول - عليه السلام - بأنهم لا يصدقونه، كإخبار نوح - عليه السلام - في قوله - تعالى -: {لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن} والممكن لا يخرج عن إمكانه بخبر الرسول بعدم وقوعه، وبعلم الله - تعالى - أيضا بعدم وقوعه. غاية ما في الباب أنه يكون ممتنعا بسبب الخبر والعلم. والامتناع بالغير لا ينافي الإمكان فلا يكون تكليفهم بتصديق الرسول تكليفا بالممتنع بالذات الذي هو محل النزاع. نعم لو كلفوا بتصديقه بعد علمهم أنهم لا يصدقونه، لانتفت فأئده التكليف؛ إذ الفائدة ابتلاء، وذلك مع العلم بعد صدور الفعل عن المكلف غير متصور، والتكليف بالفعل مع علم المكلف بعدم وقوع الفعل منه غير واقع. ولقائل أن يقول: قوله: "كإخبار نوح". لا مدخل له في الجواب أصلا. وقوله: "ومثله غير واقع" يقتضي ألا يكون الكفار المنزل فيهم: {إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} بعد النزول وعلمهم بذلك مكلفين بالإيمان، وليس كذلك، وإلا لما جاز ذمهم وقتالهم وغير ذلك.

مسألة: حصول الشرط الشرعي في التكليف

ص-مسأله: حصول الشرط الشرعي ليس شرطا في التكليف قطعا، خلافا لأصحاب الرأي. وهي مفروضة في تكليف الكفار بالفروع. والظاهر [الوقوع [. لنا: لو كان شرطا لم تجب صلاة على محدث وجنب، ولا قبل النية، ولا "الله أكبر " قبل النية، ولا السلام قبل الهمزة. وذلك باطل قطعا. ش-ذكر في المحكوم فيه ثلاث مسائل: الأولى: أن خصول الشرط الشرعي ليس شرطا في التكليف بالمشروط عند جمهور الأشعار والشافعية، وقال أصحاب الرأي، يعنى الحنفية: هو شرط. وسماهم أصحاب الرأي؛ لأن رأيهم في هذه المسألة أظهر من رأي غيرهم. والمرد بالشرط الشرعي: ما يتوقف عليه صحة المشروط شرعا. كالوضوء للصلاة.

وهذه المسألة فرضت في تكليف الكفار بالشرائع حاله الكفر، وإن كانت أعم من ذلك. والظاهر عند المصنف: أن التكليف بالمشروط عند عدم الشرط الشرعي واقع واستدل: بأنه لو كان شرطا في صحة التكليف لم تجب صلاة على محدث وجنب، ولم تجب صلاة قبل النية، ولم يجب -أيضا- "الله أكبر" قبل النية، ولا السلام قبل الهمزة؛ لأن الطهارة عن الحدث الأصغر والأكبر والنية شرط شرعي لصحة الصلاة، والنية شرط لصحة التلفظ بالله أكبر. والهمزة شرط شرعي لصحة التلفظ بالسلام وإذا لم يحصل الشرط - الذي هو حصول هذه الشرائج - انتفى المشروط وهو وجوب هذه الأمور، واللازم باطل قاطعا، فالملزوم مثله. ولقائل أن يقول: [الملازمة [ممنوعة، وإنما لزم أن لو لم تكن الأهلية قائمه مقامه شرعا؛ فإن المسلم بالإيمان حصل له أهلية حكم الآخرة، وهو الثواب فأقيمت مقام الشرط شرعا؛ لأن الظاهر من حاله أنه إذا خوطب بأداء ما التزمه بالإيمان يحصل شرطه [ولا أهلية] للكافر فافترقا.

ص-قالوا: لو كلف بها لصحت منه. قلنا: غير محل النزاع. قالوا: لو صح لأمكن الامتثال. وفي الكفر لا يمكن وبعده يسقط. قلنا: يسلم ويفعل، [كالمحدث [. الوقوع. {ومن يفعل ذلك} و {لم نك من المصلين} قالوا: لو وقع لوجب القضاء. قلنا: القضاء بأمر جديد. فليس بينه وبين وقوع التكليف ولا صحته [ر [بط عقلي. ش-الحنفية قالوا: لو كلف الكافر بالشرائع لصح أداؤها منهم لئلا يكون التكليف بلا فأئده؛ فإنه عبث. وأجاب المصنف: بأنه غير محل النزاع، ووجه كلامه على وجهين: أحدهما: أن النزاع في أنهم مخاطبون بها على معنى استحقاقهم العذاب على ترك المشروط استحقاقهم إياه على ترك الشرط لا على أنهم مكلفون بالإتيان بالمشروط حال عدم الشرط وإذا لم يكن مكلفا به حال عدم الشرط لم يلزم أن يصح لو أتى به حال عدم الشرط. ولقائل أن يقول: هذا يستلزم أن تكون فائدة هذا التكليف عقوبتهم وهي لا تصلح أن تكون فائدة لأنها ما يكون الشيء به أحسن حالا كما

تقدم، ولا نسلم بأن التكليف بها أحسن حالا من تكليف تكون فائدته إذا ما كلف به، ويستلزم أن تكون العقوبة في مقابلة ترك الشرط أمرا معلوما بمقدار معلوم وفي مقابله ترك المشروط ترك المشروط غير ذلك، والعقل لا يهتدى إلى المقادير، والشرع لم يبينه، ومن ادعى البيان فعليه البيان. الثاني: أن النزاع في أن المكلف حال عدم الشرط يكون [مكلفا [بالفعل بأن يأتي به بعد إتيانه بالشرط وحينئذ لم يلزم من التكاليف بهذا المعنى صحة العبادة لو أتى بها قبل الشرط. ولقائل أن يقول: هذا يؤدى إلى ألا يكون للتكليف فائدة أصلا، لا أداء العبادة، ولا العقوبة على تركها؛ لأنه يكون مكلفا بها بشرط تقديم شرطها، فإذا لم يقدمه لم يعاقب على عدمها لأن عدمها لعدم شرطها، بل يعاقب على ترك شرطها، وهو عذاب الكفر. وأما الأداء فإنه ليس بفائدة هذا التكليف عندهم. وقالوا -أيضا-: لو صح تكليف الكافر بالشرائع لأمكن الامتثال، وإلا كان تكليفا بالمحال، لكنه لا يمكن؛ لأنه في حاله الكفر مستحيل لعدم شرطه وهو الإسلام، وبعدها كذلك؛ لأنها الإسلام يجب ما قبله. وأجاب المصنف باختيار الشق الثاني قال: يجوز أن يسلم ويفعل كالمحدث يتوضأ ويفعل. ولقائل أن يقول: حينئذ يكون تكليف بآخر لا الذي قبله.

قوله: " الوقوع" هو بيان ما ادعى في مطلع البحث أن الظاهر وقوعه وذلك بآيتين: إحداهما: قوله - تعالى-: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ?يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ?} ووجه ذلك أن الله - تعالى- ذكر المنتهين عن الشرك، وقتل النفس المحرم، والزنا، وعطف عليه قوله: {ومن يفعل ذلك} إلى آخره. وأشار بلفظ "ذلك" إلى جميع ما تقدم؛ لأن العود إلى البعض خلاف الظاهر، فيكون تضاعف العذاب والخلود فيه في مقابله الجميع. فلو لم يكن الكفار مكلفين بالفروع لما استحقوا العذاب بفعل هذه المحرمات. ولقائل أن يقول: يجوز أن يكون {يضاعف له العذاب} من باب التمثيل شبه حال مرتكب الأمور بحال من جنى جنايات لكل منها عقوبة معينه يستحقها، وليس هناك في الحقيقة تضاعف؛ إذ ليس فيها ولا في غيرها بيان أن المستحق منها بالكفر ماذا؟ ليكون ما عداه في مقابلة ترك العبادات على أن التضاعف لا يتحقق فيما لا

يتناهى، وعذاب الكفار مما لا يتناهى. والثانية: قوله - تعالى-: {قالوا لن نك من المصلين}. ووجه ذلك أن الله - تعالى-حكى عن الكفار: أنهم عللوا دخول النار بترك الصلاة والزكاة، ولم يكذبهم الله -تعالى-، ولم يحكم العقل، بكذبهم، فيكون الظاهر مرادا ويكون ترك الصلاة والزكاة عله لدخول النار. ولقائل أن يقول: معنى قوله: {لم نك من المصلين} لم نك من معتقدي فريضتها ولو لم يكن كذلك لكذبهم الله - تعالى -؛ لأن ترك العبادة مع الكفر ليس بعله لدخول النار بالدلائل التي قدمناها. وقوله: ولم يحكم العقل بكذبهم فاسد؛ لأنه ليس بحاكم عندهم. ومما يدل على صحة التأويل قولهم: {من المصلين} أسي الذين كانوا يصلون، والذين كانوا يصلون هم المؤمنون، فكأنهم قالوا: " لم نك من المؤمنين " فهو دليل لنا حينئذ. وقوله: وقالوا، يعنى الحنفية: لو وقع تكليف الكفار بالشرائع بموجب القضاء؛ لأن المكلف بالعبادة يلزمه الامتثال بالأداء، فإن لم يكن فبالقضاء، لكن لا يجب

القضاء. وأجاب المصنف: بأن القضاء بأمر جديد، ليس بمترتب على وجوب الأداء. وقوله: ليس بينه، أي بين وجوب القضاء وصحة التكليف ولا وقوعه ربط عقلي حتى يلزم من وقوع التكليف بالعبادات أو صحته قضاؤها، فإن التكليف قد يقع بالأداء دون القضاء كالجمعة، وبالعكس كصوم الحائض. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن وجوب القضاء لا يترتب على وجوب الأداء؛ فإن القضاء ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا، أي بالنظر إلى انعقاد سبب الوجوب لا بالنظر إلى المستدرك كما تقدم، فلو كانوا مكلفين بالشرائع لتحقق سبب الوجوب في حقهم كالمسلمين، ومن تحقق في حقه سبب الوجوب لزم القضاء وان سلمنا ذلك كان القضاء لازماللأمر الجديد على ما ذكرتك، وهو لازم للتكليف بالأداء في المسلمين فيما لا خلف له فلو كلف الكفار بذلك لزم الأمر الجديد أو التحكم أو الصرف وهو باطل.

مسألة: لا تكليف إلا بفعل

وقوله: وليس بين وجوب القضاء وبين وقوع التكليف ولا صخته ربط عقلي فاسد؛ لأنه خلف عن الأداء، ولا يتصور بلا أصل، وبيانه بالانفكاك كذلك، لأنا نقول: الخلف لكونه فرعا يستلزم أصلا ولم نقل كل أصل يستلزم فرعا، فلا يلزم إيجاب الأداء في الجمعة دون القضاء. سلمناه، لكن الأداء يستلزم القضاء إذا لم [يكن [له خلف والظهر خلف الجمعة بعد فواتها. وأما صوم الحائض: فلما مر أن القضاء يستلزم سبب وجوب الأداء لا نفسه، وهو متحقق في حقها، على أن نقول: العقل لا يوجبه، ولكن ثبت بالنص على خلاف القياس. على ان حكم العقل مهدر عندهم أصلا، فالتمسك به تناقض ظاهر. ص-مساله: لا تكليف إلا بفعل. فالمكلف به في النهي: كف النفس عن الفعل. وعن أبى هاشم وكثير: نفي الفعل. لنا: لو كان لكان مستدعى حصوله منه، ولا يتصور؛ لأنه غير مقدور له. وأجيب: بمنع أنه غير مقدور له، كأحد قولي القاضي. ورد: بأنه كان معدوماً واستمر.

والقدرة تقتضي أثرا عقلا. وفيه نظر. ش-المسألة الثانية: في أن المكلف به هل يشترط أن يكون فعلا، أو لا. فذهب أكثر المتكلمين إلى أنه لا تكليف إلا بالفعل، وأن المكلف به في النهى كف النفس عن الفعل، وهو فعل، لا نفي الفعل، فإنه ليس بفعل. وذهب أبو هاشم وكثير من المتكلمين إلى جواز التكليف بنفي الفعل، وهو المكلف به في النهي. واستدل المصنف للأول أن نفسي الفعل لو كلف به لكان مستدعى الحصول؛ لأنه مطلوب، وكل مطلوب مستدعى حصوله، لكن لا يكون كذلك؛ لأن استدعاء الحصول فرع تصور وقوعه، ووقوع النفي غير متصور، لكونه غير مقدور عليه؛ لأنه نفي محض. وأجيب: بمنع أن نفى الفعل غير مقدور عليه كما ذهب إليه القاضي أبو بكر في أحد قوليه مستدلا بأن ترك الزنا يوجب مدح المكلف. ] ورد هذا الجواب بأن الفعل كان معدوما قبل وجود المكلف [واستمر العدم بعده فلم يكن العدم بقدرته؛ لأنها تقتضى أثرا عقلا, ولم يوجد. ثم قال: " وفيه نظر" أي في الرد، وذلك لأنا لا نسلم أن نفى الفعل غير مقدور

مسألة: قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه

للمكلف؛ لأنه بعد ان وجد ودعاه نفسه إلى الفعل ولم يطعها وكف عن الفعل يتبع هذا الكف بقاء نفي الفعل، وهو أثر قدرته، فيجوز أن يكون نفي الفعل مكلفا به من هذا الوجه. ولقائل أن يقول: هذه المسألة هذه لا تتعلق بأصول الفقه؛ لأن الأصولي إذا وجد نهيا في كلام الشارع يستبت منه الحرمة أو الكراهة لا محال. وأما أن ذلك كان من حيث أن المكلف به فعل أو نفي لا تأثير له فيه، وإنما هي من مسائل الكلام فذكرها مختصر مثل هذا خبط. ص-مساله: قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه. ومنعه الإمام والمعتزلة. فإن أراد الشيخ أن تعلقه بنفسه فلا ينقطع بعده أيضا. وإن أراد أن تنجيز التكليف به باق فتكليف إيجاد الموجود وهو محال، ولعدم صحة الابتلاء فتنتفي فائدة التكليف. قالوا: مقدور حينئذ باتفاق، فيصح التكليف به. قلنا: قلنا بل يمتنع لما ذكرناه. ش-المسألة الثالثة: في أن التكليف بفعل هل ينقطع عن المكلف حال حدوث الفعل أو لا. فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا ينقطع. ومنعه إمام الحرمين والمعتزلة، واختاره المصنف، وزيف قول الشيخ،

قال إن أراد الشيخ بعدم انقطاع التكليف حال حدوث الفعل أن التكليف تعلق بالفعل لنفس التكليف، لزم ألا ينقطع بعد الحدوث أيضا؛ لأن ما بالذات لا يزول، لكنه ينقطع بالإجماع. وإن أراد أن تنجيز التكليف، أي كون المكلف مكلفا بالإتيان بالمكلف به [73/أ]، باق حال حدوث الفعل لزم أن يكون مكلفا بإيجاد الموجود فإن التكليف تعلق بجميع أجزاء المكلف به فلو كان باقيا كان ما حصل من الأجزاء مكلفا به - أيضا-وهو إيجاد الموجود وهو محال. وأيضا لو كان كذلك عدم صحة الابتلاء؛ لأن الابتلاء إنما يصح قبل الشروع في الفعل فتنتفي فائدة التكليف؛ فإن فائدته إما الامتثال أو الابتلاء، وقد انتفيا جميعا. ولقائل أن يقول: القسمة غير حاصره، لجواز أن يكون مراده أن التكليف طلب مستمر منطبق على أجزاء المكلف به فما لم يفرغ بجميع أجزائه لا ينقطع التكليف. وأن قوله: "فتكليف بإيجاد الموجود " غير صحيح؛ لأن ما وجد منه عدم، لكونه لا يبقى فلا يكون بإيجاد الموجود. وقال الشيخ وأتباعه: الفعل حال حدوثه مقدور بالاتفاق فصح التكليف به. وفيه نظر لأنه إما أن يريد بالتكليف تكليفا جديدا، أو بقاء الأول ولا سبيل إلى

الأول؛ لأن النزاع في انقطاع الأول وبقائه، ولا إلى الثاني؛ لأنه المتنازع فيه فلا يوجد في الدليل؛ ولأن الفعل حال حدوثه جزءا فجزئا كل جزء منه واجب؛ لأنه ما لم يجب لم يوجد في يكون مقدورا اذ ذاك. وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم صحة التكليف حينئذ، بل يمتنع لما ذكرنا من لزوم عدم انقطاع بعد تمام الفعل، أو لزوم إيجاد الموجود وعدم الابتلاء، وقد عرفت سقم ذلك.

المحكوم عليه المكلف

والمحكوم عليه: المكلف ص-المحكوم عليه المكلف. مسالة: الفهم شرط التكليف. وقال به بعض من جوز المستحيل لعد الابتلاء. لنا: لو صح لكان مستدعى حصوله منه طاعة، كما تقدم، ولصح تكليف البهيمة؛ لأنهما سواء في عدم الفهم. قالوا: لو لم يصح لم يقع، وقد اعتبر طلاق السكران وقتله وإتلافه. وأجيب: بأن ذلك غير تكليف بل من قبيل الأسباب، كقتل الطفل وإتلافه. قالوا: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}. قلنا: يجب تأويله، إما بمثل "لا تمت وأنت ظالم". وإما على أن المراد الثمل لمنعه التثبيت، كالغضب. ش-الأصل الرابع: المحكوم عليه وهو المكلف، وفيه ثلاث مسائل. الأولى: الفهم شرط التكليف عند المحققين وبعض من يجوز التكليف بالمحال -أيضا- تركوا أصلهم، بناء على أن فائدة التكليف الابتلاء وهو إنما يكون بالتهيؤ للامتثال وإن لم يكن الامتثال والتهيؤ له لا يحصل بلا فهم فلو جاز انتفى فائدة التكليف.

واستدل المصنف للمحققين بوجهين: أحدهما: أنه لو صح بلا فهم الخطاب لكان مستدعى حصوله من المكلف على وجه الطاعة؛ لأن المكلف به مطلوب، والمطلوب مستدعى الحصول، لكن لا يصح ذلك؛ لأن الاستدعاء ممن لا يفهم عبث. والثاني: أن صحة ذلك تستلزم صحة تكليف البهيمة، لتساويهما في عدم الفهم، والتالي باطل بالإجماع. ولقائل أن يقول: عدم الفهم إن كان لعدم العقل صحت الملازمة، وإن كان [73/ب] لغيره من العوارض فهي ممنوعة. واستدل المجاوزون بالوقود، فإنه لو لم يصح ما وقع؛ لأن الوقوع فرع الجواز، لكنه وقع، فإن طلاق السكران وقاله وإتلافه معتبر وهو غير فاهم. وأجيب: بأنا لا نسلم أنه تكليف بل هو من قبيل الأسباب التي هي أنواع خطاب

الوضع، كقتل الطفل وإتلاف البهيمة إذا أرسلت فأتلفت الزرع، فإن الضمان عليهما ليس باعتبار التكليف، بل من حيث أن فعلهما جعل سببا له فيؤدى الولي وصاحبها الضمان، أو الصبي إذا بلغ، كذلك جعل فعل السكران سببا لأفعاله الصادرة عنه. ولقائل أن يقول: سلمنا أن فعل الصبي والبهيمة سبب، لكن الضمان من حيث أن الولي والممالك مكلفان بالأداء، ألا ترى أن البهيمة لو انفلتت بغير إرسال فأتلفت، فلا ضمان، وكذلك البهائم الوحشية فدل أن السبب لا يستقل بوجوب الضمان ما لم يكن مكلفا، وليس غير السكران من يكون مكلفا دونه فكان مكلفا. واستدلوا -أيضا-بقوله-تعالى-: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فإنه صريح في كون السكران مكلفا بالنهى عن الصلاة حاله السكر. وأجيب: بأن الآية مأكولة لئلا يبطل ما ذكرنا من الدليل على عدم جواز تكليف من لا يفهم، وفي تأويلها وجهان: أحدهما: أن النهى عن السكر حالة إرادة الصلاة إن نزلت قبل التحريم لا عن الصلاة حاله السكر، وذلك مثل ما بقال: لا تمت وأنت ظالم. فإن النهى عن الظلم عند الموت، لا عن الموت حاله الظلم. والثاني: أن المراد بالسكران: الثمل. وهو الذي ظهر منه مبادئ النشاط

والطرب وما زال عقله، وسمى سكرانا تسميه للشيء باسم ما يؤل إليه، وإنما نهى عن الصلاة في تلك الحالة، وإن كان فاهما، لعدم التثبت في الصلاة؛ لأنه يعسر عليه في تلك الحالة إتمام الخشوع ومحافظة أركان الصلاة على الوجه الصحيح، كالغضبان. وقوله - تعالى-: {حتى تعلموا ما تقولون} معناه حتى يتكامل فيكم العقل والفهم. ولقائل أن يقول: المصير إلى تأويل الآية إنما يصح إذا كان ما يقابلها في قوتها دفعا للتعارض، وما ذكر من الدليل رأى فلا يكون في القوة بحيث بحوج إلى تأويل النص الصريح، وأن الحقيقة في المستشهد به متعذرة، لكون النهى عن الموت عبثا؛ لأن المخاطب غير متمكن من كف النفس عنه أو تركه إياه فصار إلى المجاز ضرورة كما في قوله - تعالى -: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. بخلاف ما فيه من المثال، فإن النهى عن قربان الصلاة متصور فلا يصار إلى المجاز، على أن النهى عن السكر غير متصور، كالموت فيكون معناه: لا تشربوا الخمر قبل الصلاة، حتى لا تكونوا سكارى حالة الصلاة، فتكون الآية لتحريم الخمر، الفرض أنها نزلت قبل التحريم ولا يجوز أن يكون المراد به ثمل؛ لأنها حينئذ تكون مشتمله على مجازين: أحدهما: تسميه الثمل سكران [74/أ]. والثاني: حمل قوله: {حتى تعلموا ما تقولون} على يتكامل فيكم العقل مع إمكان العمل بالحقيقة، وهو يمنع العمل بمجاز واحد فضلا عن المجازين على أن

- المسألة الثانية: تعلق الأمر بالمعدوم

عدم التثبت وعدم إتمام الخشوع وعدم محافظة أركان الصلاة في الثمل ممنوع. ص-مساله: قولهم: الأمر يتعلق بالمعدوم، وإن لم يرد تنجيز التكليف، وإنما أريد التعلق العقلي. لنا: لو لم يتعلق به لم يكن أزليا؛ لأن من حقيقته التعلق، وهو أزلي. قالوا: أمر ونهى وخبر من غير متعلق موجود محال. قلنا: محل النزاع وهو استبعاد. ومن ثمة قال ابن سعيد: إنما يتصف بذلك فيما لا يزال. وقال: القديم الأمر المشترك. وأورد: أنواعه فيستحيل وجوده. قالوا: يلزم التعدد. قلنا: التعدد باعتبار المتعلقات لا يوجب تعددا وجوديا. ش-المسألة الثانية: الأمر يتعلق بالمعدوم عند الأشعري لا على معنى أن المعدوم يجوز أن يكون مأمورا بالإتيان بالمأمور به حال كونه معدوما؛ فإنا المجنون والصبي ليسا بالمأمورين بالإتيان بالمأمور به فضلا عن المعدوم، بل على معنى أن الطلب القائم بذات الله - تعالى- يجوز أن يتعلق بالمعدوم الذي هو ثابت في علمه - تعالى - في الأزل، بحيث أنه إذا وجد واستعد لفهم الخطاب يكون مكلفا بذلك الطلب القديم من غير تجدد طلب. وقالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون الأمر أزلياً.

واستدل المصنف على مذهب الأشعري: بأن الأمر لو لم يتعلق بالمعدوم بالمعنى المذكور، لم يكن الأمر أزلياً؛ لأن التعلق بالغير جزء من حقيقة الأمر، فإذا لم يتعلق بالمعدوم لم يكن التعلق موجوداً فلم يكن الأمر موجوداً؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء جزئه، لكنه أزلي لما بين في الكلام أن خطاب الله قديم. فقوله: {{لأن من حقيقته التعلق}} إشارة إلى بيان الملازمة. وقوله: {{وهو أزلي}} إشارة إلى نفي التالي. ولقائل أن يقول: هذه المسألة من مسائل الكلام فإيرادها ههنا خبط. واستدل المعتزلة: بأن خطاب الله في الأزل أمر ونهي وخبر والأمر والنهي والخبر من غير متعلق موجود محال، فخطاب الله في الأزل محال. أمّا الصغرى؛ فلأنه المفروض، وأمّا الكبرى فلأن كلاً منها يستحيل بدون متعلق موجود إخراجاً لها عن وصمة اللاغية. وقال المصنف: أنه محال النزاع، يعني أن استحالتها من غير متعلق موجود خارجي، عين النزاع. فإنا نقول: يجوز أن يكون متعلقاً عِلْمِيّاً لا يحتاج إلى خارج غاية ما في الباب استبعاد التعليق بدون متعلق خارجي، وهو لا يدل على الامتناع. قوله: {{من ثمة}} أي استعداد خطاب بلا سامع.

قال عبد الله بن سعيد: إن الأمر والنهي والخبر إنما يتصف بها كلام الله فيما لا يزال الذي يقابل الأزل. وقال القديم: هو الأمر المشترك بين الثلاثة الذي هو الكلام فقد جمع بين المصلحتين: إثبات الكلام في الأزل، والحكم بحدوث الأمر والنهي والخبر الموجب لرفع الاستبعاد. وَأُورِدَ عَلَى عبد الله بن سعيد أن الأمر والنهي والخبر أنواع الكلام ولا نوع له سواه، فحينئذٍ يستحيل وجود الكلام في الأزل على تقدير كون أنواعه حادثة؛ لأن الجنس لا يوجد إلا في أحد أنواعه، وإذا لم يتحقق شيء من أنواعه في الأزل لم يتحقق هو فيه. ولقائل أن يقول: هذه الأنواع، أنواع الكلام النفسي أو الكلام اللفظي، والثاني مسلّم، وليس الكلام فيه، والأول ممنوع. وقوله: {{وقالوا}} يعني المعتزلة استدلوا بدليل آخر على عدم خطاب الله في الأزل بما تقريره: لو كان كلام الله في الأزل كان متعدداً؛ لأنه عبارة عن الأمر والنهي والخبر، وذلك متعدد، لكن اتفق الجمهور على أن كلام الله واحد في الأزل لا تعدد

- المسألة الثالثة: هل يصح التكليف بفعل علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته

فيه كما أن علمه واحد، ومع وحدته محيط بجميع الأشياء. وأجيب: بمنع الملازمة. قوله: {{لأنه عبارة عن الأمر والنهي والخبر}}. قلنا: ذلك تعدد اعتباري في المتعلقات، فإنها متعلقات كلام الله والتعدد باعتبارها لا يوجب التعدد في وجوده، والجمهور إنما اتفقوا على انتفاء التعدد في الوجود دون الاعتبار. ومعنى وحدة الكلام في ذاته وتعدده باعتبار المتعلقات: أن الكلام في نفسه واحد، وباعتبار أن يكون متعلقاً بما لو فُعِلَ استحق فاعله المدح، ولو ترك استحق الذم، يكون أمراً، وباعتبار تعلقه بما لو ترك استحق فاعله المدح، وإن فعل استحق الذم يكون نهياً. وباعتبار تعلقه بما لا طلب فيه، كان خبراً. ولقائل أن يقول: قوله: التعدد اعتباري لا يكاد يصح؛ لأن الاعتبار ينعدم بعدم المعتبر، والمعتبر غير موجود في الأزل فلا يكون في كلامه في الأزل أمر ولا نهي فلا يكون طلب، فلا يكون خطاب، والحال أن الطلب والخطاب قديم، وقد ذكرنا أن هذه المسألة من الكلام، بل سمي أصول الدين: علم الكلام بسبب هذا البحث فلا يليق إيراد [هـ] ههنا. ص ــــ مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته. فلذلك يعلم قبل الوقت. وخالف الإمام والمعتزلة. ويصح مع جهل الآمر اتفاقاً.

لنا: لو لم يصح لم يعص أحد أبداً؛ لأنه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة. وأيضاً: لو لم يصح لم يعلم تكليف؛ لأنه بعده، ومعه ينقطع، وقبله لا يعلم. فإن فَرَضه متسعاً فرضنا زمناً زمناً، فلا يعلم أبداً. وذلك باطل. وأيضاً: لو لم يصح [لم] يعلم إبراهيم ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وجوب الذبح والمنكر معاند. وقال القاضي: الإجماع على تحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن. ش ــــ المسألة الثالثة: في أنه هل يصح التكليف بفعل علم الآمر انتفاء شرط وقوع ذلك الفعل عن المكلف عند وقته أو لا. فذهب الجمهور إلى صحته، وفرعوا على ذلك علم المكلف قبل وقت الفعل أنه مكلف به، فلو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه من المكلف، لم يتمكن من العلم بكونه مكلفاً به قبل الوقت؛ ضرورة توقف العلم قبل الوقت بكونه مكلفاً به، على العلم بتحقق شرط وقوع الفعل منه عند الوقت. ولقائل أن يقول: إن أريد بالمكلف المقلد الذي لم يدرك هذا المعنى فمسلم، ولكنه لا يتناول الجميع فلا يصلح دليلاً، وإن أريد المجتهد الذي أدرك هذا المعنى فممنوع، لجواز أن لا يقطع بكونه مكلفاً قبل الوقت لتردده في وقوع شرط الفعل المكلف به. وأن يقول: إن هذه المسألة راجعة إلى أن الامتناع بالغير هل ينافي التكليف أو لا؟ وقد تقدم، فكانت يستغنى عنها. ?

وخالفهم إمام الحرمين والمعتزلة. وأمّا التكليف بما جهل الآمر انتفاء شرط وقوعه من المكلف عند الوقت فصحيح بالإتفاق، كما إذا قال السيد لعبده: {{صم غداً}} فإن هذا مشروط ببقاء العبد غداً، وهو مجهول للآمر. واستدل المصنف على مذهب الجمهور بثلاثة أوجه: الأول: لو لم يصح ذلك لم يعص أحد من المكلفين أبداً بترك ما أمر به أو نهي عنه؛ لأن وقوع كل فعل مشروط بإرادة قديمة هي إرادة الله ـــــ تعالى ـــــ كما هو مذهب أهل الحق، أو بإرادة حادثة هي إرادة الخلق كما هو مذهب المعتزلة. فإذا ترك المكلف الفعل فقد علم الله ـــــ تعالى ـــــ أنه لا يريد وقوع ذلك الفعل منه. والفرض أن لا تكليف عند العلم بانتفاء شرط وقوع الفعل، وإذ لا تكليف فلا عصيان، لكن التالي باطل بالإجماع فيلزم بطلان المقدم هذا على تقدير الإرادة القديمة. وأمّا على الإرادة الحادثة فيقال: علم الله ـــــ تعالى ـــــ أن المكلف لا يريد أن يفعل فيكون عالماً بانتفاءِ شرط وقوع الفعل فلا يكون مكلفاً بذلك الفعل فلا يكون عاصياً. والثاني: لو لم يصح، لم يُعْلم تكليف أصلاً؛ لأنه ينقطع بعد الفعل اتفاقاً ومعه عند المعتزلة، والمنقطع معدوم، والمعدوم لا يعلم تكليفاً وإلا لكان العلم على خلاف الواقع فلا يكون علماً. وقبل الفعل لا يجزم بوقوع الشرط عند وقت الفعل،

وإذا لم يجزم بوقوع الشرط لم يجزم بوقوع المشروط. فلا يعلم التكليف قبل الفعل. وإذا لم يعلم قبل الفعل ومعه وبعده لا يعلم أصلاً. قوله: {{فإن فَرَضَهُ متسعاً}} جواب عما يقال: لا نسلم الملازمة، لجواز أن نفرض التكليف بالفعل موسَّعاً، كالواجب الموسع، فإنه إذا انقضى من الوقت القدر الذي يمكن المكلف من الإتيان بالفعل الواجب فيه ولم يأت بعد، فقد علم التكليف بالفعل؛ لعلمه حينئذ بتمكنه من الفعل. وتقرير الجواب أن يقال: نفرض زمناً زمناً، أي يجري الوقت الموسع إلى ما قبل الفعل ومعه وبعده. ونقول: التكليف لم يعلم قبل أول الزمان الموسع، لعدم الجزم بتمكنه من الفعل، ولا مع أوّل الزمان الموسع، إن وقع الفعل فيه، ولا بعده، لانقطاع التكليف. وكذا في بقية الأجزاء. ولقائل أن يقول: لا نسلم عدم الجزم بوقوع الشرط قبل الفعل لم لا يجوز أن يكون الإنسان إذا بلغ أول جزء من الوقت ولم يجد نفسه عادماً شيئاً من الأفعال الاختيارية أن يجزم بوقوع شرط التكليف ويعلمه ويتمكن؟ سلمناه، لكن إذا مضى أوّل جزء من الفعل ينقطع معه التكليف، فلم لا يجوز أن يحصل معه العلم كما أنه ينقطع معه التكليف؟ سلمناه، لكن إذا انقضى الفعل وانقطع التكليف لم لا يجوز أن يتبين له أنه كان مكلفاً من أوّل الفعل؟ والجهل إنما يلزم أن لو علم نفسه مكلفاً بعد الانقضاء؛ لأنه خلاف الواقع، أمّا إذا علم أنه كان مكلفاً قبل الحال فهو مطابق للواقع. وأمّا فرض الوقت زمناً زمناً فليس بمجرد ظاهراً؛ لأنه بعد ما مضى الجزء الأول من الموسع علم أنه كان متمكناً ولم يأت به، فكان عالماً بالتكليف. ولا نسلم انقطاع التكليف بعد أوّل الزمان؛ لأن التكليف في جميع الوقت على

ذلك التقدير. والثالث: لو لم يصح ذلك لم يعلم إبراهيم ـــــ صلوات الله عليه وسلامه ـــــ وجوب ذبح ولده؛ لأن الله ـــــ تعالى ـــــ علم انتفاء شرط وقوعه، وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عالماً به، لكنه علم به؛ لأنه أخذ في مقدماته من الإضجاع، وتلّ الجبين، وإمرار المُدْيَة. ومن أنكر علم إبراهيم ـــــ عليه السلام ـــــ بوجوب الذبح فهو معاند. وفيه نظر؛ لأن هذا الوجه بعينه هو تكرار التفريع الذي ذكره في مطلع البحث بقوله: {{فلذلك يعلم قبل الوقت}} على أن في ذلك سراً آخر يذكر مشافهة. واحتج القاضي أبو بكر على صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه: بأن الإجماع منعقد قبل ظهور المخالف على أن كل واحد من الوجوب والتحريم قد تحقق قبل التمكن من الفعل؛ فإن البالغ العاقل مأمور بالطاعات، منهي عن المعاصي، وهما مع عدم الأمر والنهي محال. فلو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه لم يتحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن من الفعل، لجواز ظهور انتفاء شرط الوقع عند الوقت.

ولقائل أن يقول: معنى قولهم: مأمور الطاعات ومنهي عن المعاصي فيما علم الآمر شرط وقوع الفعل عند الوقت. [ولقائل أن يقول] فلم ينهض دليلاً على ذلك. ص ــــ المعتزلة: لو صح لم يكن الإمكان شرطاً فيه. وأجيب: بإن الإمكان المشروط أن يكون مما يأتي فعله عادة عند وقته واستجماع شرائطه. والإمكان الذي هو شرط الوقوع محل النزاع. وأيضاً: يلزم أن لا يصح مع جهل الآمر. قالوا: لو صح لصح مع علم المأمور. وأجيب: بانتفاء فائدة التكليف. وهذا يطيع ويعصي بالعزم والبشر والكراهة. ش ــــ قالت المعتزلة: لو صح التكليف بذلك لم يكن إمكان المكلف به شرطاً فيه؛ لأن الفعل الذي علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ليس بممكن؛ لأن العلم بعدم الشرط لا يحتمل نقيضه، وإذا عدم الشرط عدم المشروط ضرورة فكان ممتنعاً، لكن إمكانه شرط بالإتفاق. ولقائل أن يقول: المراد بالامتناع الذاتي أو ما لغير. والأول ممنوع والثاني مسلّم؛ فإن شرط التكليف إمكان المكلف به، والامتناع بالغير لا ينافيه، كما تقدم.

وأجاب المصنف بجوابين: أحدهما: أن الإمكان الذي هو شرط صحة التكليف هو أن يكون المكلف به مما يأتي فعله عادة عند دخول وقته واستجماع شرائطه والفعل الذي علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ممكن بهذا الإمكان، وامتناعه بسبب [انتفاء] شرط وقوعه لا ينافي هذا الإمكان، بل الإمكان الذي هو شرط وقوع الفعل ينافي امتناعه بسبب انتفاء شرط وقوعه وكون هذا الإمكان شرطاً لصحة التكليف محل النزاع. وحاصله أن للفعل إمكاناً من حيث التكليف به، وإمكاناً من حيث وقوعه، والأول لا ينافيه الامتناع بسبب انتفاء شرط وقوعه. والثاني ينافيه، ولكن ليس ذلك الإمكان شرط التكليف بل هو محل النزاع. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الفعل الذي علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ممكن على معنى أنه عند دخول وقته واستجماع شرائطه يتأتى وقوعه من المكلف؛ لأن الاستجماع محال، والموقوف على المحال محال. فإن قيل: المراد لو فرض استجماع شرائطه. قلنا: ذلك فرض محال، والمحال جاز أن يستلزم محالاً آخر فلا يثبت به المطلوب. والثاني: لو صح ما ذكرتم لم يصح التكليف بما إذا جهل الآمر انتفاء شرط وقوعه؛ لأن مثل هذا الفعل قد يكون ممتنعاً، لجواز انتفاء شرط وقوعه وفيه نظر؛ فإنه يجوز أن تمنع الملازمة، لجواز أن لا يكون الفعل ممتنعاً. وقالت ـــــ أيضاً ـــــ المعتزلة: لو صح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه، لصح بما علم المأمور انتفاء شرط وقوعه، قياساً عليه. والجامع كون كل واحد منهما معلوماً عدم حصوله. ولقائل أن يقول: العلم بعدم الحصول لا يصلح أن يكون جامعاً؛ لأن الجامع

لابد وأن يكون علة في الأصل، وههنا ليس كذلك؛ إذ لا يصح أن يقال: إنما كلفه به لعلمه بعدم الحصول. وأجاب المصنف: بالفرق. فإن محل الوفاق إنما لا يصح التكليف به لانتفاء فائدة التكليف، وهو الامتثال أو العزم عليه. وإذا علم المأمور امتناع الفعل، يمتنع الامتثال منه والعزم جميعاً. بخلاف ما إذا لم يعلم المأمور امتناع الفعل، فإنه قد يعزم فيطيع بالعزم والبشر، وقد يعصى بالترك والكراهة. وقد تقدم أن الفرق غير صحيح عند المحققين لوجهين مرّ ذكرهما.

* الأدلة الشرعية

الأدلة الشرعية ص ــــ الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة والإجماع، والقياس، والاستدلال. وهي راجعة إلى الكلام النفسي وهو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم. والعلم بالنسبة ضروري. ولو لم تقم [به] لكانت النسبة الخارجية؛ إذ لا غيرهما. والخارجية لا يتوقف حصولها على تعقل المفردين. وهذه متوقفة. الأول الكتاب: القرآن، وهو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. [و] قولهم: {{ما نقل بين دفتي المصحف تواتراً}} حد للشيء بما يتوقف عليه؛ لأن وجود المصحف ونقله فرع تصور القرآن. ش ــــ لما فرغ من بيان المبادئ شرع في الأدلة الشرعية، أي السمعية، وقدمهاعلى الاجتهاد والترجيح؛ لأن الاجتهاد لمعرفة كيفية استنباط الحكم من الدليل، والترجيح لبيان قوة بعض الأدلة على بعض، وكلاهما مسبوق بالأدلة. ووجه حصرها في الخمسة المذكورة؛ أن الدليل إما أن يكون معجزاً أو لا. والأول: الكتاب، والثاني إما أن يكون من عند الرسول أو لا. والأول: السنة، والثاني إما أن يكون ممن يجوز عليه الخطأ أو لا. والثاني هو: الإجماع، والأول إما حمل فرع على أصل بعلة جامعة أو لا.

والأول هو: القياس، والثاني: الاستدلال، وكل ذلك راجع إلى الكلام النفسي؛ لأن أصله الكتاب. أما السنة فلقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْهُوَإِلَّاوَحْيٌيُوحَى (4)}. وأما الإجماع؛ فلأن أصله الكتاب أو السنة، فهو راجع إلى الكتاب. وأما القياس والاستدلال؛ فلأن كلاً منهما راجع إلى معقول الكتاب أو السنة أو الإجماع. وعلى التقادير يلزم رجوعها. والكتاب هو الكاشف عن الكلام النفسي القائم بذات الله ـــــ تعالى ـــــ فيكون الكلام راجعاً إلى الكلام النفسي.

- تعريف الكلام النفسي

وعرف المصنف الكلام النفسي بأنه نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم. وقال: والعلم بالنسبة ضروري، أي كون الكلام النفسي نسبة، العلم به ضروري. واستدل على قيام النسبة بالمتكلم بأنها لو لم تقم به لكانت النسبة الخارجية، أي تكون خارجة عن المتكلم، لأنها إما أن تكون بنفس المتكلم أو لا تكون قائمة به، لا ثالث ثمة، لكنها ليست نسبة خارجة عن المتكلم، لأن النسبة الخارجية لا يتوقف حصولها على تعقل مفرديها وهذه النسبة يتوقف حصولها على تعقل

- الكتاب: تعريفه

مفرديها. فالنسبة الخارجية لا تكون هذه النسبة فهي تكون قائمة بالمتكلم. ولقائل أن يقول: هذا التعريف صادق على الكلام اللفظي أيضاً. يجوز أن يقال: هو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم؛ إذ لو لم تقم به لكانت خارجة، لكنها ليست خارجة؛ لأن الخارجة لا تتوقف على حصول المفردين في العقل، وهذه النسبة يتوقف تعقل حصولها على مفرديها. وأيضاً، هو إثبات الحد بالبرهان، وهو غير جائز. ولعل الأولى أن يقال: الكلام النفسي هو: الصورة العلمية للكلام اللفظي وهو ما تضمن كلمتين بالإسناد. ذكر الأدلة على الترتيب الوضعي وذكر في الكتاب مقدمة وثلاث مسائل وخاتمة. وعرف الكتاب باسم أشهر، وهو القرآن، ولما كان مما يتوهم أن القرآن يطلق على الكلام النفسي مجازاً، تسمية للمدلول باسم الدال أزاله بقوله: {{وهو الكلام المنزل}}. ليخرج النفسي، فإن الأصولي لا يبحث فيه. فقوله: {{هو الكلام}} كالجنس، وبقوله: {{المنزل}} يخرج غيره. وقوله: {{للإعجاز}} وهو إظهار صدق دعوى

- المسألة الأولى: ما نقل آحادا فليس بقرآن

النبي، يخرج الأحاديث [القدسية] والكتب المنزلة على الأنبياء الماضية إن لم يكن نزولها للإعجاز، وهو الظاهر. وقوله: {{بسورة منه}} وأراد بعضاً مخصوصاً يساوي في القدر، {{الكوثر}} التي هي أقصر سورة، يخرج الآية وبعضها، والكتب المنزلة إن نزلت للإعجاز؛ لأن الإعجاز لم يكن بسورة منه. وفيه نظر؛ لأنه جعل غاية الإنزال الإعجاز، وليس كذلك، بل غايته بيان التوحيد والشرائع، والحكمة العلمية والعملية ولزم من ذلك الإعجاز؛ ولأنه ليس بصادق على أقصر سورة أو آية منه؛ لأنه لم ينزل للإعجاز بسورة من أقصر سوره أو من آية. ثم زيّف تعريفاً للكتاب ذكره الغزالي في المستصفى وهو: ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلاً متواتراً، بأنه حد للشيء بما يتوقف تصوره على ذلك الشيء؛ لأن تصور ما نقل إلينا بين دفتي المصحف موقوف على نقله إلينا وعلى وجود المصحف، والمصحف ما ثبت فيه القرآن، فالنقل موقوف على وجود المصحف وتصوره، ووجوده وتصوره موقوف على وجود القرآن وتصوره، وذلك دور. ودفع بالعناية بأن هذا التعريف إنما ذكره لغير المثبت، والإثبات والنقل لا يستدعيان تصور القرآن إلا بالنسبة إلى المثبت. ص ــــ مسألة: ما نقل آحاداً فليس بقرآن للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله. وقوة الشبهة في {{بسم الله الرحمن الرحيم}} منعت من التكفير من الجانبين. والقطع أنها لم تتواتر في أوائل السور قرآناً، فليست بقرآن فيها قطعاً، كغيرها.

- هل البسملة قرانا في أوائل السور أو لا؟

وتواترت بعض آية في النمل فلا مخالف. قولهم: مكتوبة بخط المصحف. وقول ابن عباس: {{سرق الشيطان من الناس آية}}. لا يفيد؛ لأن القاطع يقابله. ش ــــ المسألة الأولى: ما نقل إلينا آحاداً فليس بقرآن. للقطع بأن العادة تقضي أن يكون مثل هذا الكتاب المعجز متواتراً في أصله وأجزائه ووضعه وترتيبه ومحله، إذ الدواعي [تتوفر] على نقله إلى أن يصير متواتراً. فما لم يبلغ حد التواتر لا يحكم بكونه قرآناً. ولقائل أن يقول: أراد بقوله: {{تفاصيل مثله}} مثل القرآن، فالقرآن لا مثل له، فإن نوعه منحصر في شخصه، وإن كان المثل زائداً، كما في قوله: {{مثلك لا يبخل}} فلا عادة فيه، ولو أخذ {{التواتر}} في حده استغنى عن هذه الخطابة في غير محلها. قوله: {{وقوة الشبهة}} جواب عما يقال: ثبت مما ذكر أن كل ما هو متواتر من المنزل فهو قرآن، والبسملة كذلك فهو قرآن، وذلك يستلزم إكفار من تردد فيه، وليس كذلك؛ فإن روي عن الشافعي أنه في غير سورة النمل تردد في كونها من القرآن في أول كل سورة أو لا. وكذلك نُقِلَ عن جميع الأصوليين والقاضي أبي بكر.

وفي الجملة إما أن تكون قرآناً في أوائل السور أو لا. فإن كانت لزم تكفير من تردد، وإن لم تكن لزم تكفير من جعلها فيها منه. وتقرير الجواب: قوة الشبهة من جانب المتردد والمثبت منعت من أن تكفر ?

إحدى الطائفتين، ثم ذكر مختاره بقوله: {{والقطع أنها لم تتواتر في أوائل السور قرآناً فليست بقرآن فيها}}؛ لأنا نقطع بأنها لم تتواتر قرآناً فيها. وكل ما هو كذلك لا يكون قرآناً قطعاً، كغيرها الذي لم يتواتر وسوءُ تركيبه لا يخفى، فإنه لا تعلق له بما قبله أصلاً، وكان المناسب أن يقول بعد قوله: {{ما نقل آحاداً فليس بقرآن}} إلى قوله: {{مثله}} والبسملة لم تتواتر في أوائل السور، فلم يكفر المتردد فيه، ثم ذكر أنها تواترت بعض آية في النمل، فلا مخالف في أنها قرآن في سورة النمل؛ لأن المتواتر مقطوع، والمقطوع لا يخالف فيه ثم ذكر شبهة القائلين بكون التسمية في أوائل السور من القرآن بوجهين: أحدهما: أنها فيها مكتوبة بخط المصحف، ولم ينكره أحد من الصحابة فكانت فيها قرآناً، لمبالغتهم في الحفظ والصيانة عن [خلط] ما ليس منه به، حتى منعوا من كتبة أسامي السور والتعشير في القرآن حذراً عن الاختلاط. ولقائل أن يقول: عدم إنكارهم ذلك إن كان دليلاً لا يزيد على كونه إجماعاً سكوتياً، فيجوز أن لا يلتزم حجيته الخصم. والثاني: أنه نقل عن ابن عباس ـــــ رضي الله عنهما ـــــ أن قال: {{سرق الشيطان من الناس آية}} إشارة إلى ترك التسمية في أوائل السور ولم ينكر عليه أحد، فدل قوله ?

مع عدم الانكار على أنها من القرآن في أوائل السور. ثم أجاب عنهما جميعاً: بأنهما لا يفيدان؛ لأنهما ظنيان، وما يقابلهما ـــــ وهو أنها لو كانت قرآناً لتواترت ـــــ قطعي. والظني لا يفيد إذا كان مقابله قطعياً. فقوله: {{قولهم}} مبتدأ. وقوله: {{لا يفيد}} خبره. . ولقائل أن يقول: شرط كون القرآن متواتراً إنما أثبته بالعادة، وقد تقدم ضعفه، فلا يكون المقابل قطعياً. والعجب من حال هؤلاء أنهم يجعلون العادة دليلاً فيما هو من أعظم أمور الدين، ويعلمون أن دلالة العادة عقلية ثم يهملون العقل عن الدلالة أصلاً ورأساً. ص ــــ قولهم: لا يشترط التواتر في المحل بعد ثبوت مثله ضعيف، يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن المكرر. وجواز إثبات ما ليس بقرآن منه. مثل {{ويل}} و {{فبأي}}. لا يقال: يجوز، ولكنه اتفق تواتر ذلك. لأنا نقول: لو قطع النظر عن ذلك الأصل لم يقطع بانتفاء السقوط ونحن نقطع بأنه لا يجوز. والدليل ناهض. ولأنه يلزم جواز ذلك في المستقبل. وهو باطل. ش ــــ هذا إشارة إلى جواب إيراد على جوابه على الدليلين. تقريره: لا نسلم أن الدليل القطعي دال على أن التسمية في أوائل السور ليست بقرآن؛ فإن التواتر شرط متن القرآن دون المحل والوضع والترتيب، بل نقل الآحاد فيها كافٍ وقد ثبت بالتواتر أنها من القرآن، وإن لم يتواتر كونها قرآناً في أوائل ?

السور فلا يلزم أن لا تكون قرآنا في أوائلها. وتقرير الجواب: القول بأن التواتر لا يشترط في المحل والوضع ضعيف. يستلزم إسقاط ما هو من القرآن منه وإثبات ما ليس منه فيه في المكررات. وقوله: {{يستلزم}} جاز أن يكون استئنافاً دليلاً للضعف وهو الظاهر، وجاز أن يكون خبراً لمبتدأ ـــــ وهو {{قولهم}} ـــــ بعد خبر. وتقريره على الأول: أن قولهم ذلك ضعيف؛ لأنه يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن المكرر، مثل: {وَيْلٌيَوْمَئِذٍلِّلْمُكَذِّبِينَ (15)} و {فَبِأَيِّآلَاءِرَبِّكُمَاتُكَذِّبَانِ (13)}؛لأنهإذالميشترطالتواترفيالمحلجازأنلايتواتركثيرمنالمكررات الواقعة في القرآن، وما لم يتواتر جاز أن لا يصل إلينا، وما جاز أن لا يصل إلينا جاز سقوطه. وجواز إثبات ما ليس بقرآن منها؛ أنه إذا تواتر بعض من القرآن بحسب المتن فبعد ذلك يجوز إثبات ذلك البعض في المواضع بنقل الآحاد، فجاز أن يكون بعض ?

أفراد المكرر قرآناً، ثبت بالتواتر، وبعضها غير قرآن ثبت بنقل الآحاد، لكن كل من الجوازين منتف. وتقريره على الثاني قولهم: ذلك ضعيف؛ لأن العادة تقضي بتواتر المتن والمحل والوضع والترتيب فيما هو مثل القرآن بلا فرق وقولهم ذلك ـــــ أيضاً ـــــ يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن إلى آخره ولقائل أن يقول: لا نسلم أن التواتر في المحل إن لم يكن شرطاً جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن؛ لأن الفرض أن المتن متواتر، بل الجائز أن لا يتواتر المحل، وعدم تواتره لا يستلزم سقوط متن القرآن. وكذلك يقال في جانب الإثبات: لا نسلم أن المحل والوضع والترتيب إذا لم تكن متواترة لزم إثبات ما ليس بقرآن؛ لأن الفرض أن المتن متواتر ففي أي محل وقع فهو قرآن لا يزيد ولا ينقص. وأما الكلام على العادة فقد تقدم. وأما شناعة لفظه في إطلاق {{المكرر}} على القرآن الذي اتفق المحققون على أنه لم يتكرر في {{ألف}} ولا غيرها من الحروف فهي صادرة عن قلة معرفة بحال القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم ?

حميد. وقوله: {{لا يقال}} جواب إيراد على جوابه عن الإيراد الأول، وهو أن يقال: لا نسلم عدم جواز الإسقاط والإثبات، بل جاز ذلك إن لم يمنع مانع، لكنه قد منع عن ذلك اتفاق التواتر فيما هو مكرر. وذلك على وجهين: أحدهما: أن جواز الإسقاط إن تحقق، فلو قطعنا النظر عن ذلك الأصل ـــــ يريد اتفاق التواتر ـــــ لم يقط بانتفاء السقوط؛ لأن الفرض جوازه، لكنا نقطع بانتفاء جوازه، قطعنا النظر عن ذلك الأصل أو لم نقطع. ولقائل أن يقول: قطع النظر عن ذلك اعتبار الموجود معدوماً وهو محال، فلا نعبأ بفرضه، وعلى تقدير تحقق جواز الإسقاط، القطع بانتفاء الجواز قطع على خلاف الواقع فيكون جهلاً. وقوله: {{والدليل ناهض}} يريد به ما سبق من وجوب اشتراط التواتر فيما هو من القرآن. ولقائل أن يقول: الدليل ناهض في المتن أو في الوضع والمحل والأول، مسلم، غير مفيد. والثاني، ممنوع. [78/ب]. ?

- المسألة الثانية: تواتر القراءات السبع

الثاني: أنه لو كان كما ذكرتم، لزم جواز ذلك، أي جواز كل واحد من السقوط والإثبات في المستقبل؛ لأن الجواز إن انتفى في الحال بسبب اتفاق التواتر، لكن يجوز أن ينتفي التواتر في المستقبل، فيلزم جواز السقوط والإثبات. ولقائل أن يقول: لا نسلم ذلك في المستقبل ـــــ أيضاً ـــــ؛ لأن قوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِنَّا نَحْنُنَزَّلْنَاالذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} ينافي ذلك، وهو ثابت قطعاً فينتفي ما ينافيه. ص ــــ مسألة: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء، كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه. لنا: لو لم تكن لكان بعض القرآن غير متواتر، كملك ومالك ونحوهما. وتخصيص أحدهما تحكم باطل لاستوائهما. مسألة: العمل بالشاذ غير جائز مثل: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّام متتابعات}. واحتجبهأبوحنيفة. لنا: ليس بقرآن ولا خبر يصح العمل به. قالوا: يتعين أحدهما، فيجب. قلنا: يجوز أن يكون مذهباً، وإن سلّم فالخبر المقطوع بخطئه لا يعمل به. ونقله قرآناً خطأ. المحكم والمتشابه. المحكم: المتضح المعنى. المتشابه: مقابله، إما لاشتراك أو إجمال أو ظهور تشبيه. والظاهر، الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}: لأن الخطاب بما لا يفهم بعيد. ش ــــ المسألة الثانية: في أن القراءات السبع المنسوبة إلى القراء السبعة:

نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، ?

وعاصم، وحمزة، والكسائي ـــــمتواترة كلها، وإلا يصدق نقيضه، وهو أن يكون بعضها غير متواتر، ولا معين له فتعيين بعض تحكم. وبعض منهم يؤدي إلى جواز نفي التواتر عن الجميع، وهو ?

باطل. والمسألة الثالثة: في أن العمل بالشاذ غير جائز، وهو ما نقل آحاداً. ومثل لذلك بقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّام متتابعات} بناءًعلازعمأنقوله: {{متتابعات}} نُقِلَآحاداً، فلايجوزأنيحتجبهعلاوجوبالتتابعفيصومكفارةاليمين. وجوز أبو حنيفة العمل بمثله، واحتج به على ذلك. واستدل المصنف على ما اختاره بأنه ليس بقرآن حيث لم يتواتر ولا خبر يصح العمل به؛ لأن ما يصح العمل به من الخبر: ما رواه الراوي خبراً عن الرسول. وهذا ليس كذلك. ?

وقالت الحنفية: يتعين إما القرآن، وإما خبر الواحد؛ لأنه إن ثبت كونه قرآناً فذاك، وإن لم يثبت لا يكون أقل من خبر الواحد فيجب العمل به. وأجيبوا: بأنا لا نسلم أنه إذا لم يثبت كونه قرآناً يكون خبر واحد؛ لأن الراوي ما رواه خبراً، فيجوز أن يكون مذهباً للراوي ذكره بياناً لمعتقده. وإن سلّم صحة كونه خبراً، فلا نسلم صحة العمل به؛ لأنه مقطوع بخطئه؛ لأنه نقله قرآناً وهو ليس بقرآن قطعاً، والخبر المقطوع خطئه لا يصح العمل به. ولقائل أن يقول: إن ذلك قراءة أبي، وابن مسعود، وكان مشهوراً في ?

- المحكم والمتشابه

القرن الثاني، مكتوباً في مصحفهما ومصحف كل من كتب من مصحفهما. فتسميته شاذاً ليس على ما ينبغي. وقوله: {{يجوز أن يكون مذهباً للراوي}} خطأ فاحش؛ إذ لا يظن بأحد من جهال العوام أن يدخل مذهبه في مصحفه ويدعي أنه قرآن، وهل هو إلا كفر ومراغمة. وكذلك نسبة الخطأ إلى الصحابة نعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى. المحكم: المتضح، هو خاتمة بحث الكتاب بذكر المحكم والمتشابه؛ لاشتمال الكتاب عليهما. قال الله ـــــ تعالى ـــــ {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَالْكِتَابَمِنْهُآيَاتٌمُّحْكَمَاتٌهُنَّأُمُّالْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. وعرف المحكم بقوله: المتضح المعنى، والمتشابه: بما يقابله إما لاشتراك كقوله ـــــ تعالى ـــــ {ثَلَاثَةَقُرُوءٍ}. أولإجمال، كقولهتعالاـ {أَنتَذْبَحُوابَقَرَةً}،أوظهورتشبيهكمافيقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، ?

وهذا القسم يناسب أن يسمى متشابهاً، وما عداه بغير مناسب بل المناسب فيه المشترك والمجمل دون المتشابه. وقوله: والظاهر الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ}. جواب عما يقال: إذا كان المشترك والمجمل متشابهاً، جاز أن يكون المتشابه مما يعلم. وقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَمَا يَعلَمُتَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يدل على أن المتشابه لا يعلم، فلم يكن المشترك والمجمل متشابهاً، وذلك باختيار مذهب الخلف، وهو الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ}، ليصير مما يعلم فيصح التفسير بالمشترك والمجمل. ?

* السنة وأفعاله صلى الله عليه وسلم

في السنة وأفعاله ــ صلى الله عليه وسلم ص ــــ السنة. مسألة: الأكثر على أنه لا يمتنع عقلاً على الأنبياء معصية. وخالف الروافض. وخالف المعتزلة إلا في الصغائر. ومعتمدهم التقبيح العقلي والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام؛ لدلالة المعجزة على الصدق. وجوزه القاضي غلطاً، وقال: دلت على الصدق اعتقاداً. وأما غيره من المعاصي، فالإجماع على عصمته من الكبائر، وصغائر الخِسَّة. والأكثر على جواز غيرهما. ش ــــ لما فرغ من بحث الكتاب، شرع في السنة، ذكر أحكامها في أربع مسائل. وجعل الأولى في بيان عصمة الأنبياء؛ لأنها كالمقدمة لما بعدها فإن السنة ?

تنقسم إلى أقوال وأفعال، فيجب أن يعلم بأنها حقة توجب التأسي وهو إنما يتحقق بعد بيان عصمتهم فيقل الخلاف الواقع فيها. ونُقِلَ عن أكثر الأصوليين أنه لا يمتنع عقلاً أن يصدر عنهم قبل البعثة صغيرة أو كبيرة، خلافاً للروافض فيهما، وللمعتزلة في الكبائر. ومعتمد الفريقين التقبيح العقلي؛ فإن إرسال من لم يكن معصوماً من الكبائر على رأي المعتزلة، أو منها ومن الصغيرة على رأي الروافض يوجب التنفير عنه، وهو مناف لمقتضى الحكمة، فيكون قبيحاً عقلاً، وأما بعد البعثة فالإجماع منعقد على ?

- المسألة الثانية: فعله صلى الله عليه وسلم

عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام، لدلالة المعجزة على صدقهم. وأما وقوع ذلك منهم غلطاً، فقد جوزه الباقلاني وقال: دلالة المعجزة إنما هي على صدقتهم فيها قصداً واعتقاداً. وأما ما يقع منهم غلطاً، فالمعجزة لا تدل على صدقهم فيه. وأما غير الكذب من المعاصي، فالإجماع منعقد على عصمتهم من الكبائر مطلقاً، والصغائر الدالة على خسة فاعلها ونقص مروءته كسرقة كسرة. وأما غير ذلك فالأكثر على جواز صدورهم منهم. ولقائل أن يقول: هذه المسألة من مسائل الكلام لا محالة فذكرها في أصول الفقه في غير موضعه، وقد تقدم أمثاله. ص ــــ مسألة: فعله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ ما وضح فيه أمر الجبلَّة، كالقيام والقعود، والأكل والشرب، أو تخصيصه، كالضحى، والوتر، والتهجد، والمشاورة، والتخيير، والوصال، والزيادة على أربع، فواضح. [وما سواهما]، إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة، مثل {{صلوا}} و {{خذوا}}. وكالقطع من الكوع، والغسل إلى المرافق اعتبر اتفاقاً. وما سواه، إن عُلِمَت صفته، فأمته مثله. وقيل: في العبادات. وقيل: كما لم تعلم. وإن لم تعلم فالوجوب، والندب، والإباحة، والوقف. والمختار: إن ظهر قصد القرينة فندب، وإلا فمباح. ش ــــ المسألة الثانية: فيما يثبت بأفعاله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وهي على أقسام: ?

ما وضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود، والأكل والشرب والحكم فيه الإباحة. وما وضح تخصيصه به، كالضحى، والوتر، والتهجد،

والمشاورة، وتخيير نسائه بينه وبين زينة الدنيا، والوصال في ?

الصوم، والزيادة على أربع في النكاح، والحكم فيه تخصيصه به وعدم تعبدنا. وما لم يصح فيه شيء من ذلك، وهو لا يخلو من أن يتضح فيه أنه بيان لمجمل بمقارنة قول، كالأفعال الصادرة عنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ في الصلاة، والحج. فإنه وضح كونها بياناً ـــــ عليه السلام: {{صلوا كما رأيتموني أصلي}} و {{خذوا عني مناسككم}} أو يتضح ذلك بقرينة، كما إذا ورد لفظ مجمل ولم يبينه حتى وقع الحاجة إلى بيانه، ففعل فعلاً صالحاً للبيان، فإن فعله ذلك يوضح كونه بياناً لذلك المجمل بقرينة الحال، كقطع يد السارق من الكوع، فإنه بيان لآية ?

- حكم الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيما علم صفته من فعله

السرقة بقرينة الحال. وكغسل الأيدي مع المرفق، فإنه بيان لقوله ـــــ تعالى ـــــ {وَأَيْدِيَكُمْإِلَالْمَرَافِقِ} وإن لم يصح كونه بياناً لقول مجمل فلا يخلو أن تعلم صفة الفعل من الوجوب، والندب، والإباحة، أو لا. فإن عُلِمَت وجب الاقتداء به على الوجه الذي فعله في العبادات وغيرها، وهو مختار المصنف. وقيل: في العبادات خاصة. وقيل: حكم ما عُلِمَت صفته كحكم ما لم يعلم. وإن لم تعلم صفته: ?

فمنهم من ذهب إلى: الوجوب، وهو مذهب الحنابلة، وبعض المعتزلة، وابن سريج، وابن أبي هريرة من الشافعية. ومنهم من ذهب إلى: الندب، وهو مذهب إمام الحرمين، وقيل: أحد قولي الشافعي. ومنهم من ذهب إلى: الإباحة، وهو مذهب مالك. ومنهم من وقف، وهو مذهب الغزالي، وجماعة من الشافعية. ?

ومنهم من فصل قال: إن ظهر قصد القربة، فندب، وإلا فمباح، وهو مختار المصنف. ص ــــ لنا: القطع بأن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته. وقوله ـــــ تعالى ـــــ {فَلَمَّا قَضَى زَيد} إلاخرها. وإذا لم تعلم وظهر قصد القربة ثبت الرجحان فلزم الوقوف عنده. والوجوب زيادة لم تثبت. وإذا لم يظهر، فالجواز، والوجوب والندب زيادة لم تثبت. وأيضاً لما نفى الحرج بعد قوله: {زَوَّجنَاكَهَا} فهمتالإباحةمعاحتمالالوجوبوالندب. ش ــــ استدل المصنف على ما اختاره من القسمين: أما على الأول، وهو ما علم صفته فبوجهين: أحدهما: أن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ كانوا يرجعون إلى فعله الملعون صفته عند كل حادثة، ويقتدون به من غير نكير منهم، كرجوعهم إلى تقبيله ـــــ عليه السلام ـــــ للحجر الأسود. وإلى تقبيله ـــــ عليه السلام ـــــ لنسائه وهو ?

صائم. وذلك دليل إجماعهم على أن حكمهم حكمه ـــــ عليه السلام ـــــ فيما عُلِمَ صفته، وإلا ما أفاد المراجعة. والثاني: قوله ـــــ تعالى ـــــ {فَلَمَّا قَضَى زَيد مِّنهَا وَطَرا زَوَّجَاكَهَا لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌفيأَزوَاجِأَدعِيَائِهِم}. ووجهالتمسكأناللهتعالاعللنفيالحرجعنالمؤمنينفينكاحأزواجأدعيائهمبتزويجرسوله زوجة دعيه زيد. فلو لم يكن حكم الأمة حكمه ـــــ عليه السلام ـــــ في الفعل المعلوم صفته، لم يكن للتعليل معنى؛ لأنه لا يلزم من نفي الحرج عنه، نفيه عنهم. وأما على الثاني: وهو أن ما لم تعلم صفته، إن كان عبادة فندب، وإلا فمباح فبان ذلك الفعل. أما إن ظهر منه ـــــ عليه السلام ـــــ أنه قصد حال الإتيان به القربة أو لم يظهر. فإن دل على رجحان فعله على الترك؛ لأن غير الراجح لا يقصد به قربة، فإن قصد القربة بالفعل إنما هو لإيجاده، فلزم الوقوف عند الرجحان، وهو القدر المشترك بين الواجب والمندوب. وخصوصية الوجوب ـــــ وهو الذم على الترك ـــــ زيادة لا تثبت إلا ?

بدليل، والفرض عدمه. وإذا كان الفعل راجحاً ولم يكن واجباً، تعين أن يكون مندوباً وإن لم يظهر قصد القربة، لم يكن فعله راجحاً على الترك. فأما أن يكون محظوراً، وهو نادر في فعله لا يحمل عليه، أو مباحاً لا حظر فيه، فتعين وخصوصية الوجوب والندب زيادة لم تثبت إلا بدليل، والفرض عدمه. وأيضاً لو لم تكن الإباحة راجحة في صورة عدم قصد القربة لما فهم الإباحة من قوله ـــــ تعالى ـــــ: {زَوَّجنَاكَهَا} الآية؛ لامتناع ترجيح المرجوح أو المساوي، لكنها فهمت فتعين أن يكون مباحاً، لكن مع احتمال الوجوب والندب. ص ــــ الموجب: {وَمَا آتَاكُمُالرَّسُولُ}. أجيب بأن المعنى: ما أمركم لمقابلة {وَمَا نَهَاكُم}. قالوا: {فَاتَّبِعُوهُ}. أجيب: في الفعل على الوجه الذي فعله، أو في القول، أو فيهما. قالوا: {لَّقَد كَانَ} إلاخرها، أي من كان يؤمن فله فيه أسوةً حسنة. قلنا: معنى التأسي: إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله. قالوا: خلع نعليه فخلعوا، وأقرهم على استدلالهم، وبين العلة. قلنا: لقوله: {{صلوا}} أو لفهم القربة. قالوا: لما أمرهم بالتمتع، تمسكوا بفعله. قلنا: لقوله: {{خذوا}} أو لفهم القربة. قالوا: لما اختلف في الغسل بغير إنزال، سأل عمرُ عائشة ـــــ رضي الله عنهما ـــــ فقالت: فعلته أنا ورسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ فاغتسلنا. قلنا: إنما استفيد من {{إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل}} أو لأنه بيان {وَإِن كُنتُم جُنُبا}،أولأنهشرطالصلاةأولفهمالوجوب. قالوا: أحوط، كصلاة، ومطلقة لم تتعينا. والحق أن الاحتياط فيما ثبت

وجوبه. أو كان الأصل، كالثلاثين. أما ما احتمل لغير ذلك فلا. ش ــــ القائلون بالوجوب فيما لم تعلم صفة فعله. استدلوا: بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما الكتاب: فمنه قوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَمَا آتَاكُمُالرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، أمر امتثال ما أتى به؛ لأن الأخذ ههنا مجازٌ عنه، والأمر للوجوب ومما أتى به فعله الذي لم تعلم صفته فكان امتثاله واجباً. وأجاب المصنف بأن معناه: وما أمركم، بدليل مقابلة، قوله: {وَمَا نَهَاكُم} والأمرلايتناولالفعل، فلميتصلبمحلالنزاع. ومنه قوله ـــــ تعالى ـــــ: {فَاتَّبِعُوهُ}، أمر بالمتابعة، وهي الإتيان بمثل فعله. فكان مثل فعله واجباً. وأجاب: بأن المتابعة في الفعل إنما هي إذا وقع على الوجه الذي فعله المُتَّبع، وذلك يقتضي العلم بصفة الفعل، والنزاع في خلافه أو المراد بالمتابعة: المتابعة في القول، وهي امتثال أمره ونهيه، أو المراد بها: المتابعة فيهما، أي في القول والفعل. وعلى كل تقدير لم يجب الفعل الذي لم تعلم صفته. ومنه قوله ـــــ ?

تعالى ـــــ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ظاهره يدل على أن التأسي بالرسول ـــــ عليه السلام ـــــ من لوازم رجاء الله ـــــ تعالى ـــــ واليوم الآخر. والرجاء بهما هو الإيمان بهما، فكان مضمونه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فله أسوةً حسنة في رسول الله، فوجب التأسي بفعله ـــــ عليه السلام ـــــ، وإلا لجاز تركه؛ لأن غير الواجب يجوز تركه، لكن تركه، ترك الإيمان بالله واليوم الآخر. وأجاب: بأن التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله، وذلك يستلزم العلم بالصفة، والفرض خلافه. واستدلوا بالسنة بدليلين: أحدهما: أنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ لما خلع نعليه في صلاة الجنازة فهموا الوجوب، فخلعوا نعالهم، فسألهم النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ {{لم خلعتم نعالكم}}؟ فقالوا: لأنك خلعت. فأقرهم على استدلالهم وبين علة اختصاصه بالخلع حتى حصل الفرق بينه وبينهم فقال: {{أخبرني جبريل أن في أحدهما قذراً}}.فلولا أن الفعل الذي لم تعلم صفته واجب لما خلعوا، وما أقرهم الرسول ـــــ عليه السلام ـــــ على استدلالهم، ولما احتاج إلي بيان علة اختصاصه به. ?

وأجاب المصنف: بأن فهم الوجوبلم يكن من فعله، بل من قوله ـــــ عليه السلام ـــــ: {{صلوا كما رأيتموني أصلي}} فإنه لما سبق هذا الكلام فهموا وجوب المتابعة. أو لأنهم خلعوا ندباً، لفهمهم قصد القرية بخلعه ـــــ عليه السلام ـــــ وفيه نظر؛ لأنه يقتضي سبق قوله: {{صلوا}} والتاريخ مجهول؛ ولأنه إن سبق كان في الصلاة المطلقة، وصلاة الجنازة ليست كذلك؛ ولأن ظهور قصد القربة دليل على الندب لا الوجوب إذا كان الفعل صالحاً للقربة، وذلك في خلع النعال ممنوع. والثاني: أنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ أمر أصحابه عام الحديبية بالتمتع وهو لم يتمتع. فقالوا: مالك تأمرنا بالتمتع ولم تتمتع؟ وذلك دليل على أنهم فهموا من فعله وجوب المتابعة، والرسول عليه السلام ـــــ لم ينكر، بل عين عذراً يختص به، ولو لم يكن فعله ?

موجباً لأنكر. وفيه نظر؛ لأنه ـــــ عليه السلام ـــــ أمرهم بذلك فلم يفهموا منه الوجوب واعترضوا عليه فأنّي فهموه من فعله وهو أبعد من القول في الدلالة. وأجاب المصنف: بأنهم إنما فهموا وجوب المتابعة من قوله ـــــ عليه السلام ـــــ: {{خذوا عني مناسككم}}، أو فهموا الندب؛ لفهمهم قصد القربة من فعله دون الوجوب. وفيه نظر؛ لأن الأمر بالتمتع كان عام الحديبية، قوله: {{خذوا عني}} بعد ذلك عام حجة الوداع، فكيف يصلح دليلاً. واستدلوا بالإجماع ـــــ أيضاً ـــــ، وتقريره: أن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ لما اختلفوا في وجوب الغسل إذا التقى الختانان من غير إنزال، رجع عمر إلى قول عائشة ـــــ ?

رضي الله عنهما ـــــ إذ قالت: {{فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا}}، فأجمعوا على وجوب الغسل بغير إنزال، فلو لم يتقرر عندهم أن فعله ـــــ عليه السلام ـــــ موجب لم يجمعوا على ذلك. وفيه نظر؛ لأنه إجماع لاحق لمخالفة الأنصار، فقد لا يلتزم حجيته. ?

سلمناه، ولكن سند الإجماع يجوز أن يكون فعلاً منه ـــــ عليه السلام مندوباً. وأجاب المصنف: بأن الوجوب استفيد من قوله ـــــ عليه السلام ـــــ {{إذا التقى الختانان وجب الغسل}} وأنزل أو لم ينزل. وفيه نظر؛ لأنهم لو استفادوا منه ما رجعوا إليها. أواستفادوه من فعله لا من حيث هو موجب، بل اعتبار أنه وقع بياناً لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَإِن كُنتُمْجُنُبًافَاطَّهَّرُوا}، ولا نزاع في كون مثله موجباً. وفيه نظر؛ لأن النص محكم متضح المعنى فلا يحتاج إلى [بيان]. سلمناه، ولكن بين بقوله ـــــ عليه السلام ـــــ: {{إذا التقى الختانان}} فالبيان بعده تبيين المبين، وهو غير جائز، لكونه تحصيلاً للحاصل وبأن الغسل شرط الصلاة، وقد بين رسول الله ـــــ ? مساواته لأمته فيما يتعلق بالصلاة بقوله: {{صلوا كما رأيتموني أصلي}} ففهموا وجوبه من ذلك لا لأن فعله موجب. وفيه نظر؛ لأن ذلك لو كان ما زاد على الدلالة على المساواة في الوجوب شيئاً فلا بد من دليل الوجوب في حقه لتساويه الأمة فيه. وقول عائشة، لم يدل إلا على وجود الفعل منه، فلم تكن صفته معلومة. فلولا أن ما لم تعلم صفته موجب لما أجمعوا [81/ب] على الوجوب. وبأن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ فهموا مما حكته عائشة الوجوب، فيكون من القسم الذي علمت صفته. ?

وفيه نظر؛ لأن حكاية عائشة ـــــ رضي الله عنها ـــــ لم تدل على الوجود، والصحابة أوجبوا فدل على أن الفعل موجب، فهو عين النزاع. واستدلوا ـــــ أيضاً ـــــ بالقياس، وتقريره: فعله الذي لم تعلم صفته دار بين كونه للوجوب ولغيره، فالأحوط أن يحمل على الوجوب قياساً على قضاء خمس صلوات تركت منها واحدة ونسيت، فإن كل واحدة منها لما دارت بين أن تكون هي المتروكة وأن لا تكون وجب قضاء الجميع؛ لأنه أحوط. وقياساً على من طلق إحدى نسائه واشتبهت المطلقة بغيرها، فإن الأحوط الكف عن وطئهن جميعاً. وأجاب المصنف: بالفرق، وهو أن الاحتياط يتحقق في المقيس عليه دون المقيس؛ لأنه إنما يتحقق فيما ثبت وجوبه، كالصلاة الفائتة، والكف عن المطلقة، أو كان الوجوب هو الأصل فيبقى بالاستصحاب، كصوم يوم ثلاثين من رمضان، إذا غمّ ليلة الثلاثين فيحتاط في مثله على حفظ الوجوب. وأما ما احتمل أن يكون واجباً، وأن لا يكون كما في المقيس، فالاحتياط لا يوجب الوجوب. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الاحتياط منحصرٌ فيما ذكرتم، لِمَ لا يجوز أن يحتاط في إيجاب ما دار بين أن يكون واجباً وغيره، وأن ما ذكرتم من الفرق باطل عند المحققين، وقد تقدم غير مرّة. ص ـــــ الندب: الوجوب يستلزم التبليغ، والإباحة منتفية بقوله: {لَّقَد كَانَ ?

لَكُم} وهو ضعيف. الإباحة هو التحقق، فوجب الوقوف عنده. أجيب: إذا لم يظهر قصد القربة. ش ـــــ استدل من قال بأن الفعل الذي لم تعلم صفته مندوب بدليل، تقريره: السبر والتقسيم، وهو أن ذلك الفعل، إما أن يكون حراماً أو مكروهاً أو واجباً أو ندباً أو مباحاً؛ لعدم غيرها بالإتفاق. ولا سبيل إلى الأول، والثاني كذلك، ولا إلى الثالث؛ لأن الوجوب يستلزم التبليغ لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {* يَاأَيُّهَاالرَّسُولُبَلِّغْمَاأُنزِلَإِلَيْكَ}. ولميبلغوإلالعلمصفته، وهوخلافالمفروض. ولا إلى الخامس، وهو الإباحة؛ لأن الكلام في الاقتداء، وهو حسن لقوله ـــــ

تعالى -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، والإباحة لا توصف بالحسن، فتعين الرابع وهو الندب. وضعفه المصنف، بأنا لا نسلم أن الوجوب يستلزم التبليغ، وقوله: (بلغ) ليس فيه ما يدل على اختصاص الوجوب به. سلمناه، ولكن لا نسلم أن هلم يبلغ، فإن قوله: (وَاتَّبِعُوهُ) يدل على التبليغ. سلمناه، لكن دليلكم ينفي الندب أيضاً، بأن يقال: لو كان للندب لاستلزم التبليغ لقوله -تعالى- (بلغ) ولم يبلغ، وإلا لعلم صفته. ولقائل أن يقول: إنكار استلزام الوجوب [82/أ] التبليغ مكابرة لا تستحق الجواب. واختصاص الوجوب به، لأن التبليغ لإقامة الحجة يوم القيامة، وذلك فيما يكون تركه خللاً في أمر المعاد، ولا يتحقق ذلك إلا في الوجوب والحرمة. وقال الشارحون في وجه الضعف من جهة الإباحة: إنا لا نسلن انتفاء الإباحة. وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ) الآية، لا يدل على حسن التأسي بل على حسن التأسي به، لأن الحسنة صفة الإسوة فجاز أن يكون للإباحة، ويكون التأسي بها حسناً، بأن يؤتي بها على الوجه الذي أتى به من غير اختلاف. وفيه نظر؛ لأن حسن التأسي باعتبار حسن المتأسى به، ألا ترى أن الفعل إن

- المسألة الثالثة: في التقرير

كان زلة لم يجز الاقتداء؛ لأن المتأسي به ليس بحسن. وقال القائلون بالإباحة: الإباحة متحققة؛ لأن رفع الحرج عن الفعل وتركه ثابت، ولا يثبت الزائد إلا بدليل، ولم يوجد. وأجاب المصنف: بأن هذا إذا لم يظهر قصد القربة، أما إذا ظهر فإنه دليل على رجحان الفعل، كما تقدم. وفيه نظر لأن القصد أمر قلبي لا يظهر إلا بقرينة، فلم لا يجوز حينئذ أن يكون بما علم صفة الفعل، فلا يتصل بمحل النزاع. ص - مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره قادراً. فإن كان كمضي كافر إلى كنيسة فلا أثر للسكوت اتفاقا. وإلا دل على الجواز. وإن سبق تحريمه فنسخ، وإلا لزم ارتكاب محرم، وهو باطل فأن استبشر به فأوضح. وتمسك الشافعي - رحمه الله - في القيافة بالاستبشار وترك الإنكار لقول المدلجي، وقد بدت له أقدام زيد وأسامة: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. وأورد: أن ترك الإنكار لموافقة الحق. والاستبشار بما يلزم الخصم على أصله؛ لأن المنافقين تعرضوا لذلك. وأجيب: بأن موافقة الحق لا تمنع إذا كان الطريق منكرا. وإلزام الخصم حصل بالقيافة فلا يصلح مانعاً. ش- المسألة الثالثة: في التقرير إذا علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل مكلف ولم ينكره قادراً. فأن كان الفعل مما لا يجوز نسخه، كمضي كافر إلى

كنيسة، فلا أثر للسكوت، أي عدم إنكاره، لا يدل على جواز ذلك الفعل بالإتفاق. وإن لم يكن كذلك، بأن يكون الفعل قابلا للنسخ. فإن لم يسبق تحريمه، دل السكوت على جوازه. وإن سبق تحريمه كان السكوت ناسخاً، وإلا لزم ارتكابه -صل الله عليه وسلم- فعلا محرماً؛ لأن ترك إنكاره ما هو محرم مع القدرة حرام لا يصدر عنه عليه السلام. فقوله: (وإلا لزم ارتكاب محرم) دليل للقسمين. فإن استبشر - عليه السلام- بذلك الفعل مع عدم الإنكار كان ذلك دليلاً أوضح على جوازه. ولهذا تمسك الشافعي -رحمه الله- في القيافة بالاستبشار وترك الإنكار لقول المدلجي حيث

نظر إلى زيد وأسامة وهما تحت قطيفة ظهرت منها أقدامهما، فقال: (إن هذه الأقدام بعضها من بعض). فذكر ذلك لرسول الله -صل الله عليه وسلم- فاستبشر بقوله ولم ينكره. ولولا أن القيافة حجة في ثبوت النسب لما استبشر بها ولأنكره -صل الله عليه وسلم-. ولقائل أن يقول: لو [82/ب] صدر قول المدلجي لإثبات النسب لأنكره، لعدم صلاحية القيافة للحجية فيه ولما لم يصدر لذلك لم يوجد ما يوجب الإنكار فلم ينكره. واستبشر لدفع طعن الخصوم. وقد أورد القاضي أبو بكر على الشافعي: بأن ترك الإنكار لقول المدلجي لا يدل على جواز إثبات النسب بالقيافة؛ لأنه إنما ترك لموافقة قوله للحق، وهو ظاهر

الشرع المقتضي لثبوت النسب، لا لأن النسب يثبت بالقيافة. واستبشاره بقوله -عليه السلام- إنما كان لأجل إلزام الخصم بطريقه؛ فإن القيافة كانت حجة عندهم. وطعنهم في نسب أسامة كان يندفع به، فاستبشر بذلك. وأجيب عنه: بأن موافقة الحق في الحكم لا تنافي الإنكار على الطريق إذا كان منكراً، بل يجب الإنكار لئلا يتوهم حقيه الطريق. ولقائل أن يقول: قول المدلجي لم يصدر منه طريقاً لثبوت النسب؛ فإنه لم يعلم المنسوب من المنسوب إليه، ولابد من ذلك في إثبات النسب، وحينئذٍ لا يتوجه الإنكار لا حكما ولا طريقاً. وقوله: (وإلزام الخصم) جواب عن قوله: (والاستبشار بما يلزم الخصم على أصله). وتقريره: إلزام الخصم إنما حصل بالقيافة المقررة عنده، وإنكار الرسول القيافة لم يكن يرفع الإلزام؛ لأن إلزام الخصم بما تقرر عنده جائز وإن كان الملزم منكراً لذلك وحينئذٍ لا يصلح الإلزام أن يكون مانعاً من الإنكار. فلو كان منكراً لأنكره ولم يستبشر به. ولقائل أن يقول: إلزام الخصم بالقيافة المتقررة عنده إنما حصل في دفع الطعن، وأما النسب فإنه كان ثابتاً بدليله، وهو الفراش القائم، وليست القيافة في دفع الطعن منكرة فينكره. واستبشاره لإلزام الخصم ودفع طعنه. ص- مسألة: الفعلان لا يتعارضان، كصوم وأكل؛ لجواز الأمر في وقت،

- المسألة الرابعة: التعارض بين أفعال النبي- صلى الله عليه وسلم -

والإباحة في آخر. إلا أن يدل دليل على وجوب تكرير الأول له أو لأمته فيكون الثاني ناسخاً. ش- المسألة الرابعة: في التعارض بين أفعال النبي -عليه السلام- وبينها وبين الأقوال. والتعارض هو: تقابل الحجتين نفياً وإثباتاً في زمان واحد. فما لا تقابل بينهما لا تعارض بينهما، وما لم يكن التقابل في زمان واحد كذلك. فالصوم والصلاة لا يتعارضان، والصوم والإفطار يتعارضان لأنهما لا يجتمعان في زمان واحد. وحينئذٍ لا يخلو إمّا أن يجب تكرير الأول بدليل. أو لا. والثاني: لا تعارض فيه، تكرر الثاني أو لم يتكرر؛ لجواز تعلق الأمر بأحدهما في وقت، والإباحة في وقت آخر. والأول: لا يخلو إمّا أن يجب التكرر في حقه -عليه السلام- أو في حق أمته، أو في حقهما.

- التعارض بين فعله وقوله- صلى الله عليه وسلم-

فإن كان الأول نسخ وجوب التكرير بالنسبة إليه -عليه السلام- ولا تعارض في حق الأمة إن لم يدل دليل على وجوب التأسي به في الأول. وإن دلّ ووقوع الثاني بعد تأسي الأمة به. فلا تعارض -أيضاً- في حقهم. وقبل التأسي يكون [83/أ] الثاني ناسخاً للأول في حق الأمة -أيضاً- إن دل الدليل على وجوب التأسي به في الثاني، وإلا فلا تعارض في حقهم -أيضاً. وإن كان الثاني فلا تعارف بالنسبة إلى النبي -عليه السلام- ولا بالنسبة إلى أمته إن لم يدل دليل على وجوب تأسيهم به في الثاني، وإلا كان الثاني ناسخاً للأول في حق الأمة وإن كان الثالث، تكرر الأول أو الثاني له ولأمته كما تقدم. ص- فإن كان معه قول ولا دليل على تكرر ولا تأس به، والقول خاص به وتأخر فلا تعارض. فإن تقدم فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا. فإن كان خاصاً بنا فلا تعارض، تقدم أو تأخر. فإن كان عاماً لنا وله فتقدم الفعل أو القول له ولأمته، كما تقدم، إلا أن يكون العام ظاهراً فيه، فالفعل تخصيص كما سيأتي. ش- إذا وقع التعارض بين فعله وقوله -عليه السلام - فإمّا أن لا يدل دليل

على وجوب تكرر الفعل في حقه، ولا على وجوب تأسي الأمة به، أو يدل على وجوب كل منهما، أو يدل على وجوب التكرر دون وجوب التأسي، أو بالعكس. فتلك أربعة أقسام: أمّا الأول: هو شمول العدم فإمّا أن يكون القول خاصاً به أو بنا، أو عاماً. فإن كان خاصاً به، فإمّا أن يتأخر القول عن الفعل أو ينعكس أو يجهل التاريخ. فإن تأخر القول، كما إذا فعل فعلاً ثم قال بعد ذلك فوراً أو تراخياً: لا يجوز مثل هذا الفعل في مثل ذلك الوقت، فلا تعارض بين القول والفعل، لا في حقه ولا في حق أمته؛ أمّا في حقه فلأن القول لم يتناول الزمان الذي وقع فيه الفعل، وكذلك العكس، فلا يكون أحدهما رافعاً لحكم الآخر. وأما في حق أمته؛ فلأنه لم يتعلق بهم شيء من القول والفعل. وإن تقدم القول، مثل أن يقول: يجب على فعل كذا في وقت كذا، ثم اشتغل بضد مقتضى القول، مثل أن يقول: يجب علي فعل كذا في وقت كذا، ثم اشتغل بضد مقتضى القول قبل التمكن من الإتيان بمقتضاه، فالفعل ناسخ للقول بناء على جواز النسخ قبل التمكن من الإتيان بمقتضاه، فالفعل ناسخ للقول بناء على جواز النسخ قبل التمكن عندنا. وقالت المعتزلة: لا يتصور صدور مثل هذا الفعل بعد القول؛ لأن النسخ قبل التمكن لا يجوز عندهم. فكان معصية، وهي لا تجوز وإن كان الفعل ببعد التمكن من العمل بمقتضى القول، لا يكون الفعل ناسخا للقول، إلا أن يدل دليل على وجوب تكرر مقتضى القول، فإنه حينئذ يكون الفعل ناسخا لتكرار مقتضى القول وإن جهل التاريخ، فحكمه مثل القسم الذي دل دليل على وجوب التكرر والتأسي

والقول خاص به وجهل التاريخ. على ما يجيء فيما يلي هذا القسم. وإن كان خاصاً بنا فلا تعارض سواء تقدم الفعل أو تأخر؛ لعدم اجتماع القول والفعل في محل واحد؛ لأن الفعل خاص به، لعدم وجوب التأسي؛ إذ هو المفروض، والقول خاص بنا وإن كان القول عاماً، فإمّا أن يكون شاملاً له بطريق التنصيص، كما إذا قال: وجب عليّ وعليكم فعل كذا، أو بطريق الظاهر، كما إذا قال: وجب على المسلمين كذا. فإن كان الأول، فحكم تقدم القول أو الفعل له وللأمة، كما تقدم، يعني إن كان القول متأخراً، كما لو فعل فعلاً ثم قال: لا يجوز لي ولا لأمتي مثل هذا الفعل في ذلك الوقت، فلا تعارض أصلاً، لا في حقه ولا في حقها؛ لعدم وجوب تكرر الفعل، وعدم وجوب التأسي به. وإن كان الفعل متأخراً، فلا تعارض بالنسبة إلينا، لعدم وجوب التأسي. وأما بالنسبة إليه، فإن كان التلبس بالفعل قبل التمكن فعلى الخلاف. عندنا ناسخ. وعند المعتزلة: لا يتصور الفعل إلا على سبيل المعصية وإن كان بعد التمكن فلا تعارض بالنسبة إليه ـــــ أيضاً إلا أن يقتضي القول التكرار. وإن كان الثاني، فبالنسبة إلينا كما تقدم، وبالنسبة إليه يكون الفعل مخصّصاً لذلك القول، كما سيأتي في باب التخصيص أن فعله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ مخصص للعموم. ص ــــ فإن دلّ على تكرر وتأس، والقول خاص به فلا معارضة في الأمة. وفي حقه، المتأخر ناسخ. فإن جهل فثالثها المختار: الوقف؛ للتحكم. فإن كان خاصاً بنا فلا معارضة فيه. وفي الأمة، المتأخر ناسخ. فإن جهل فثالثها المختار: يعمل بالقول؛ لأنه أقوى؛ لوضعه لذلك ولخصوص الفعل بالمحسوس، وللخلاف فيه، ولإبطال القول به جملة.

والجمع، ولو بوجه أولى. قالوا: الفعل أقوى؛ لأنه يتبين به القول؛ مثل: {{صلوا}} و {{خذوا عني}} وكخطوط الهندسة وغيرها. قلنا: القول أكثر. ولو سّلم التساوي رجح بما ذكرناه. والوقف ضعيف للتعبد. بخلاف الأول. وإن كان عامّاً فالمتأخر ناسخ. فإن جُهِلَ فالثلاثة. ش ــــ القسم الثاني: وهو شمول الوجود، وهو الذي يدل الدليل على وجوب التكرر في حقه، ووجوب التأسي في حق الأمة ـــــ أيضاً ـــــ على ثلاثة أقسام: إمّا أن يكون القول خاصاً به أو بنا أو عامّاً. فإن كان خاصاً به، فلا معارضة في حق الأمة، تقدم القول أو تأخر؛ لأن القول لم يتناولهم. وفي حق الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ المتأخر ناسخ، قولاً كان أو فعلاً، إلا أن يتقدم القول على الفعل، والفعل بعد التمكن من مقتضى القول، ولم يقتض القول التكرار، فإنه حينئذٍ لا معارضة في حقه ـــــ أيضاً ـــــ وإن جُهِلَ التاريخ فلا معارضة في حق الأمة؛ لعدم تناولهم القول، وفي حق الرسول ـــــ عليه السلام ـــــ ثلاثة مذاهب. الأول: أنه يجب العمل بالقول: لأن الفعل يحتاج إليه في بيان وجه وقوعه.

الثاني: أنه يجب العمل بالفعل؛ لأنه أقوى في البيان. الثالث: وهو اختيار المصنف: الوقف إلى أن يتبين التاريخ، لاحتمال تقدم كل واحد منهما وعدم الترجيح، فالجزم بوجوب العمل بأحدهما على التعيين تحكم. والمصنف أشار إلى المذاهب الثلاثة بقوله: {{فثالثها المختار، الوقف}}. وإن كان خاصاّ بنا فلا معارضة في حقه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ تقدم القول أو تأخر؛ لعدم تناوله القول. وأمّا في حق الأمة، فإن المتأخر ناسخ، سواء كان القول متقدماً أو متأخراً إلا أن يتقدم القول على الفعل، والفعل بعد التمكن من مقتضى القول، والقول لم يقتض التكرار، فإنه إذ ذاك في حقنا أيضاً. وإن جهل المتأخر ففيه المذاهب الثلاثة. والمختار عند المصنف في هذا العمل بالقول، لوجوه: أحدها: أن القول أقوى دلالة؛ لأن دلالته على الوجوب وغيره بلا واسطة؛ لأنه وضع لذلك، بخلاف الفعل. الثاني: أن الفعل لا ينبئ عن المعقول، والقول يدل عليه وعلى المحسوس فكان أعمّ فائدة. الثالث: أن القول متفق عليه في الدلالة. واختلف في دلالة الفعل.

الرابع: أن العمل بالفعل يبطل القول بالكلية، أمّا في حقه ـــــ عليه السلام ـــــ فلعدم تناول القول له، وأمّا في حق الأمة فلوجوب العمل بالفعل حينئذٍ والعمل بالقول لا يبطل الفعل بالكلية؛ لبقاء العمل بالفعل في حقه ـــــ عليه السلام ـــــ، فلو عملنا بالقول أمكن الجمع بينهما من وجه، ولو عملنا بالفعل لم يمكن. والجمع بين الدليلين ولو بوجه أولى من إهمال أحدهما. والقائلون بوجوب العمل بالفعل قالوا: الفعل أقوى دلالة من القول؛ لأن الفعل يُبَيّنُ يه القول؛ لأن مثله قوله ـــــ عليه السلام ـــــ {{صلوا كما رأيتموني أصلي}} و {{خذوا عني مناسككم}} يتبين بفعله وكذلك خطوط الهندسة تدل على أن الفعل مبين للقول؛ فإن بيان دعاوي الهندسة إنما هو بفعل الخطوط والسطوح والدوائر، فيكون أولى. وأجاب المصنف: بأن البيان بالفعل وإن كان واقعاً، لكن البيان بالقول أكثر فهو أولى. وإن سلّم تساويهما في البيان، لكن القول أرجح بالوجوه المارة. وأمّا القول بالوقف فضعيف؛ لأنا متعبدون بوجوب العمل بأحدهما، أي القول والفعل؛ لأن كلاً منهما بالنسبة إلينا، ولا يمكن العمل بهما، وقد ثبت رجحان القول على الفعل، فتعين المصير [إلى] العمل به.

بخلاف الصورة الأولى التي حكمنا فيها. فإنا لسنا متعبدين بواحد منهما؛ لأنهما بالنسبة إلى الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ. ولا يجب الحكم علينا بوجوب العمل بأحدهما بالنسبة إلى الرسول ـــــ عليه السلام ـــــ. فالحكم بالوقف فيها أولى. وإن كان عاماً، فإن علم التاريخ وتأخر القول، فهو ناسخ؛ لوجوب تكرار الفعل في حقه، ولوجوب التأسي في حقنا. وإن تأخر الفعل واشتغل به قبل التمكن من الإتيان بمقتضى القول، نسخ الفعل القول عندنا، إلا أن يتناوله القول ظاهراً، فإنه حينئذٍ يكون الفعل مخصوصاً للقول. وعند المعتزلة لا يتصور هذا إلا على سبيل المعصية. وإن اشتغل بالفعل بعد التمكن من الإتيان به، فإن لم يقتض القول التكرار، فلا معارضة، لا في حقه ولا في حقنا. وإن اقتضى القول التكرار فالفعل ناسخ للتكرار. والمصنف لم يفصل وحكم بأن المتأخر ناسخ للمتقدم مطلقاً. وإن جهل التاريخ فالمذاهب الثلاثة: الوقف، العمل بالقول، والعمل بالفعل. والمختار: الوقف في حقه، والعمل بالقول في حق الأمة. كذا في بعض الشروح. ص ــــ فإن دلّ دليل على تكرر في حقه لا تأسٍ، والقول خاص به، أو عام فلا معارضة في الأمة، والمتأخر ناسخ في حقه. فإن جهل بالثلاثة. فإن كان خاصاً بالأمة فلا معارضة.

ش ــــ القسم الثالث، وهو ما يدل دليل على وجوب التكرار في حقه دون وجوب التأسي به على ثلاثة أقسام: إمّا أن يكون القول خاصاً به أو بنا أو عاماً. فإن كان خاصاً به أو عامّاً فلا معارضة في حق الأمة، تقدم الفعل أو تأخر لعدم تناول الفعل إياهم، والمتأخر ناسخ للمتقدم في حقه ـــــ عليه السلام ـــــ إن عُلِمَ التاريخ، وإن جُهِلَ فالمذاهب الثلاثة. والمختار: الوقف. وإن كان خاصاً بنا فلا معارضة في حقه ولا في حقنا، تقدم الفعل أو تأخر؛ لعدم تواردهما على محل واحد. ص ــــ فإن دلّ الدليل على تأسي الأمة به، دون تكرره في حقه، والقول خاص به، وتأخر فلا معارضة. فإن تقدم فالفعل ناسخ في حقه. فإن جهل فالثلاثة. فإن كان خاصاً بالأمة فلا معارضة في حقه، والمتأخر ناسخ في الأمة. فإن جهل فالثلاثة. فإذا كان القول عاماً فكما تقدم. ش ــــ القسم الرابع هو عكس الثالث، وفيه الأقسام الماضية.

فإن كان القول خاصاً به، وتأخر فلا معارضة. أمّا في حقه فلعدم وجوب التكرر، وأمّا في حقنا؛ فلعدم تواردهما على محل واحد. وإن تقدم فالفعل ناسخ قبل التمكن من الإتيان بمقتضى القول خلافاً للمعتزلة. وإن جُهِلَ التاريخ، فالمذاهب الثلاثة. والمختار الوقف. وإنكان خاصاً بنا فلا معارضة في حقه، تقدم القول أو تأخر لعدم تواردهما على محل واحد. وفي حقنا المتأخر ناسخ، قولاً كان أو فعلاً. فإن جُهِلَ التاريخ، فالمذاهب الثلاثة. والمختار: العمل بالقول. وإن كان عامّاً، فحكمه ما تقدم من أن الفعل إن تقدم فلا معارضة في حقه؛ لعدم وجوب التكرر. وأمّا في حقنا فالقول ناسخ قبل وقوع التأسي به، وبعده ناسخ للتكرار في حقهم، إن دلّ دليل على وجوب التكرر في حقهم. وإن تقدم القول فالفعل ناسخ للقول في حقه ـــــ عليه السلام ـــــ قبل التمكن من الإتيان بمقتضى القول، إلا أن يتناوله العموم ظاهراً، فإنه يكون الفعل تخصيصاً للقول، كما تقدم. وفي حق الأمة، إن كان الدليل على وجوب التأسي مخصوصاً بذلك الفعل، فنسخ، وإلا فتخصيص. وبعد التمكن لا معارضة في حقه، ولا في حق الأمة، إن لم يقتض القول التكرار، والله أعلم. [85/أ].

* الإجماع

الإجماع ص ــــ الإجماع: العزم والاتفاق. وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر. ومن يرى انقراض العصر يزيد {{إلى انقراض العصر}}. ومن يرى أن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من ميّت أو حيّ وجوّز وقوعه يزيد {{لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر}}. الغزالي: اتفاق أمة محمد ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ على أمر من الأمور الدينية ويرد عليه أنه لا يوجد ولا يطرد بتقدير عدم المجتهدين، ولا ينعكس بتقدير اتفاقهم على عقلي أو عرفي. ش ــــ لما فرغ من السنة شرع في بيان الإجماع، وذكر مقدمة في تعريفه وإثباته، وإثبات العلم به، وفي كونه حجة، ثم ذكر فيه اثنين وعشرين مسألة. وهو في اللغة: العزم والاتفاق قال الله ـــــ تعالى ـــــ: {فَأَجمِعُواأَمرَكُم}، أي اعزموا، ويقال: اجمعوا على كذا، أي اتفقوا. وفي اصطلاح العلماء: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر.

والاتفاق معلوم، والمراد به أعم من أن يكون في الاعتقاد، أو القول، أو الفعل، أو إطباق بعضهم على الاعتقاد وبعضهم على القول أو الفعل الدالين على الاعتقاد. وخرج بقوله: {{المجتهدين}} اتفاق المقلدين، وبقوله: {{من هذه الأمة}} أعني أمة محمد ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ إتفاق المجتهدين من الأمم الماضية، وقال: {{في عصر}} ليدخل فيه اتفاق مجتهدي كل عصر، فإنه إجماع؛ لأن اتفاقهم في كل الأعصار ليس بشرط ويخرج اتفاق بعضهم في عصر. وإنما قال: {{على أمر}} ليتناول النفي والإثبات، والقول، والفعل، والشرعي، والعقلي والعرفي. وهذا التعريف لمن لم يشترط في الإجماع انقراض أهل العصر، ومن شرط ذلك يزيد فيه {{إلى انقراض العصر}}. ومن ذهب إلى أن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من ميت أو حي وجوّز وقوعه، أي وقوع هذا الإجماع، أي إجماع أهل العصر الثاني بعد استقرار الخلاف بين أهل العصر الأول، يزيد {{لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر}} ليخرج اتفاق أهل العصر الثاني؛ فإنه ليس بإجماع عنده. ولقائل أن يقول: يجوز أن يكون انقراض العصر وعدم سبق الخلاف من شروطه فلا يلزم أخذه في التعريف. وعرفه الغزالي بأنه: اتفاق أمة محمد ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ على أمر من الأمور الدينية. وزيّفه المصنف بأنه يرد عليه عدم الإجماع أصلاً؛ لأن الأمة تتناول جميع المسلمين إلى يوم القيامة، ولا يتصوّر اجتماعهم، وعلى تقدير تخصيص {{الأمة}} بالموجود منهم في كل عصر، لا يطرد الحد بتقدير عدم المجتهدين في عصر. فإن غيرهم من الأمة إذا اتفقوا في عصر صدق الحد، وليس بإجماع.

- ثبوته

وفيه نظر؛ لجواز أن يكون مراده بالأمة الموجودين منهم المجتهدين في كل عصر، وأن يمنع أنه إذا لم يكن في عصر مجتهد، واتفق على أمر من الأمور الدينية الأمة فيه أن لا يكون إجماعاً، ولا ينعكس ـــــ أيضاً ـــــ بتقدير اتفاق المجتهدين على أمر عقلي أو عرفي؛ لأنه إجماع، وليس الحد صادقاً عليه؛ لأنه ليس من الأمور الدينية. وردّ: بجواز أن يكون تعريفه للإجماع الشرعي، وما عداه لا يكون عنده إجماعاً، فلا يلزم عدم الانعكاس. ص ــــ وخالف النظام وبعض الروافض في ثبوته. قالوا: انتشارهم يمنع نقل الحكم إليهم عادة. وأجيب: بالمنع لجدهم وبحثهم. قالوا: إن كان عن قاطع فالعادة تحيل عدم نقله. والظني يمتنع الاتفاق عليه عادة؛ لاختلاف القرائح. وأجيب: بالمنع فيهما؛ فقد يستغنى عن نقل القاطع بحصول الإجماع. وقد يكون الظني جلياً. قالوا: يستحيل ثبوته عنهم عادة؛ لخفاء بعضهم، أو انقطاعه أو أسره، أو خموله، أو كذبه، أو رجوعه قبل قول الآخر. ولو سلّم فنقله مستحيل عادة؛ لأن الآحاد لا تفيد، والتواتر بعيد. وأجيب عنهما: بالوقوع. فإنا قاطعون بتواتر النقل بتقديم النص القاطع على المظنون. ش ــــ اتفق الجمهور على ثبوته، وخالفهم النظام من المعتزلة وبعض

الروافض، وقالوا: لا يثبت الإجماع أصلاً؛ لأن اتفاق المجتهدين على حكم لا يتصور قبل نقله إليهم، وذلك ممتنع؛ لانتشارهم شرقاً وغرباً، والانتشار يمنع الوصول إليهم عادة. وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم أن العادة تقضي بمنع الانتشار، ونقل الحكم إليهم؛ لأن المجتهدين لا يزالون يبحثون عن أدلة الأحكام جادين فيه، ومع البحث والجد لا يمتنع النقل إليهم وإن كانوا منتشرين. وفيه ما فيه؛ لأن السير ما بين المشرق والمغرب إذا كان حثيثاً مستديماً ربما تزيد مدته على قرن، وفي ذلك فوات الحادثة لا محالة. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: اتفاقهم على أمرٍ لا عن سند لا يجوز، وإلا لكان خطأ فلا بد منه. فإن كان قاطعاً لنقل إلينا في مل إجماع؛ لإحالة العادة عدم النقل فيما يتوفر الداعي إلى نقله من القطعيات، لكن لم ينقل إلينا المستند في كل إجماع. وإن كان ظنياً توقف اتفاقهم على توافق آرائهم فيه، وتوافقها في الظني ممتنع

عادة؛ لاختلاف القرائح في مقتضى الظن. وأجاب المصنف: بمنع المقدمتين، أمّا الأولى فأن يقال: لا نسلم أن اتفاقهم لو كان عن قاطع وجب نقله إلينا، والعادة إنما تحيل عدم نقل القاطع إن لم يستغن عن نقل القاطع، وهو ممنوع فقد يستغني عنه بحصول الإجماع. وأمّا الثانية فأن يقال: لا نسلم أن الظني يمنع توافق الآراء عادة واختلاف القرائح إنما هو في الظني الخفي. وأما إذا كان جلياً فيجوز توافق القرائح فيه، فيكون موجباً للحكم في جميع القرائح. وفيه نظر؛ لأنه إنما يتم لو انعقد ما انعقد من الإجماع بالسند الظني عن ظني جلي، وإثباته كإثبات أصل الإجماع. وقالوا ـــــأيضاًـ: إن ثبت الإجماع [لا] يثبت إلا عن المجتهدين؛ لأن إجماعهم هو المعتبر، لكن يستحيل ثبوته عنهم عادة لخفاء بعض المجتهدين عند اتفاقهم بحيث لا يعلم وجود [هـ] أو لانقطاعه عن الناس لا يخالطهم بعد العلم بوجوده، أو لوقوعه أسيراً لم يتمكن من الالتحاق بالباقين، أو لخموله لا يعرف كونه مجتهداً، أو لكذبه بأن أفتى لتغير اجتهاده قبل إفتاء الآخر بذلك الحكم. وإنما قيد بقوله: {{قبل إفتاء الآخر}}؛ لأنه لو رجع بعده كان خرقاً للإجماع. ولو سُلِّم ثبوته، لكن نقله مستحيل عادة؛ لأن الآحاد لا يفيد، والتواتر بعيد؛ لاحتياجه إلى خبر [جماعة] يستحيل تواطؤهم على الكذب أن جميع المجتهدين أفتوا بذلك. وأجاب المصنف: بأنه واقع، وذلك يستلزم الثبوت والنقل جميعاً فإنا قاطعون بسبب تواترا لنقل أن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ أجمعوا على تقديم النص القاطع

- حجيته والأدلة على ذلك

على المظنون. ولقائل أن يقول: هذا لا يدل على الثبوت ولا على النقل. أما النقل فلأنه يحتاج إلى خبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب أن جميع الصحابة أجمعوا على ذلك وأمّا على الثبوت؛ فلأن قطعية دلالات الألفاظ غير قطعيةٍ لاختلاف فيها، وإذا لم يوجد نص قاطع لا يثبت إجماعهم على تقديمه على المظنون. ص ــــ وهو حجة عند الجميع. ولا يعتد بالنظام وبعض الخوارج والشيعة. وقول أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب، استبعاد لوجوده. الأدلة: منها: أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف. والعادة تحيل إجماع هذا العدد الكثير من العلماء المحققين على قطع في شرعي من غير قاطع، فوجب تقدير نص فيه. وإجماع الفلاسفة وإجماع اليهود وإجماع النصارى غير وارد. لا يقال: أثبتم الإجماع بالإجماع، أو أثبتم الإجماع بنص يتوقف عليه؛ لأن المثبت كونه حجة ثبوت نص عن وجود صورة منه بطريق عادي لا يتوقف وجودها ولا دلالتها على ثبوت كونه حجة. فلا دور. ومنها: أجمعوا على تقديمه على القاطع، فدل أنه قاطع، وإلا تعارض الإجماعان؛ لأن القاطع مقدم. فإن قيل: يلزم أن يكون المحتج عليه عدد التواتر؛ لتضمن الدليلين ذلك. قلنا: إن سُلّم فلا يضر. ش ــــ إجماع أهل الحل والعقد حجة شرعية عند جمهور

العلماء. إلا النظام وبعض الخوارج والشيعة، ولا معتبر بهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الحق. وقوله: {{وقول أحمد}} جواب عما يقال: أحمد بن حنبل من أهل الحق، وقد قال: {{من ادعى الإجماع فقد كذب}}. وتقريره: أن ذلك ليس إنكاراً منه لحجيّته بل استبعاد لوجوده وهذا إنما يستقيم

إذا ثبت عنه القول بحجيته. والدليل على الحجية: أنهم أجمعوا على القطع بتخطئة مخالف الإجماع، وما لا يكون قاطعاً لا يجوز القطع بتخطئة مخالفه فالإجماع لا يجوز أن لا يكون قاطعاً. أمّا الكبرى فظاهرة وأمّا الصغرى؛ فلأنه ثبت ذلك عنهم بالتواتر. والعادة تحيل اجتماع لهذا العدد الكثير من العلماء المحققين على قطع في أمرٍ شرعي من غير قاطع يدل على ما أجمعوا على قطعه فوجب ـــــ بحكم العادة ـــــ تقدير نص قاطع يدل على القطع بتخطئة مخالف الإجماع. هذا تقرير الدليل، ولمّا تفطن لِمَا يَرِدُ عليه تعرض للدفع. أما الوارد عليه فأمران: أحدهما: أن يقال: أجمع الفلاسفة على قِدَمِ العالم، واليهود على أن لا نسخ لشريعتهم، والنصارى على أن عيسى صلب وقطعوا بذلك، ولم يكن ثمة نص قاطع.

وأجاب: بأن ذلك غير وارد قيل: لأنهم ليسوا بجمع كثير ولا متفقين في أمرٍ شرعي، ولا قاطعين على ذلك. والعادة لا تحيل اجتماع الجمع القليل على غير أمر شرعي، غير قاطعين من غير قاطع. وفيه نظر؛ فإن نفي الكثرة عن الفلاسفة واليهود والنصارى غير صحيح، وكذلك نفي القطع عنهم. وكذلك كون النسخ والصلب غير شرعي فإنهما راجعان إلى الجواز وعدمه، مذكوران في التوراة والإنجيل. وأن اجتماع هذا العلماء المحققين على [القطع] في شرعي يجوز أن يكون بظني، كخبر الواحد والقياس، كما سيجيئ في كلامه. والثاني: أن يقال: أثبتم الإجماع، أي حجيته بالإجماع، والكلام في حجيته، الثاني كهو في الأولى. وأثبتم حجية الإجماع بنص يتوقف على الإجماع، وكل ذلك دورٌ. وأجاب: بأن المدعى كونه حجة، وأثبتاه بثبوت نص قاطع مستفاد من وجود صورة من الإجماع بطريق عادي، وتلك الصورة لا يتوقف وجودها على كون الإجماع حجة. ودلالتها على ثبوت النص القاطع أيضاً لا يتوقف على كونه حجة. فلا يكون دوراً. فإن كون الإجماع حجة حينئذ يتوقف على ثبوت النص القاطع، وثبوت النص القاطع يتوقف على وجود صورة من صور الإجماع، ولم يتوقف وجود تلك الصورة

ودلالتها على ثبوت النص [على كون الإجماع حجة؛ لأن وجود تلك الصورة مستفاد من التواتر، ودلالتها على ثبوت النص] مستفادة من العادة. ولقائلٍ أن يقول: في هذا الدليل خلل آخر غير الدور، والدور باقٍ أمّا بقاؤه؛ فلأنكم قلتم الإجماع حجة؛ لأنهم أجمعوا على القطع بتخطئة مخالف الإجماع، وهذا صورة من صوره لا محالة، فلا يثبت به شيء حتى تثبت حجيته. وأمّا الخلل الآخر: فهو أنكم قلتم العادة تحيل إجماعهم على القطع بتخطئة المخالف من غير قاطع، والعادة ليست بحجة في عظائم الأمور والإجماع منها؛ لكونه أصلاً من أصول الشرع. سلمناه، لكن لا نسلم اقتضاء قاطع؛ لأن المحتاج إليه سند الإجماع، ويجوز أن يكون أمراً ظنياً. وأمّا الكلام على قطعية دلالة النص فقد مرّ. قوله: {{ومنها: أجمعوا}} دليل آخر على كون الإجماع حجة قطعية. وتقريره: أجمع العلماء المحققون على تقديم الإجماع على النص القاطع، ولولا أنه قاطع لما قدموه. أمّا إجماعهم على ذلك فبالتواتر. وأمّا بيان الملازمة فبدفع تعارض الإجماعين؛ فإنه ثبت بالتواتر ـــــ أيضاً ـــــ أنهم أجمعوا على أن القاطع مقدم على غيره. فهذا الإجماع يقتضي تقدم القاطع على غيره، والإجماع الأول يدل على تقدم الإجماع على القاطع، فلو لم يكن الإجماع قاطعاً كان أحدهما مقتضياً لجواز تقدم غير القاطع على القاطع. والآخر [يقتضي عدم تقدمه]، لوجوب تقدم القاطع على غيره، وذلك تعارض والعادة تحيل وقوع التعارض بين قولي مثل هذا العدد من العلماء المحققين.

وفيه نظر: أمّا أولاً؛ فلأن تقديم الإجماع على النص القاطع مستبعد جوازاً فضلاً عن الوقوع لا سيما وقد أنكر وجوده طائفة، وحجيته طائفة، وكونه قاطعاً طائفة أخرى. وأمّا ثانياً: فلأن هذا الدليل معارض باستلزام تعارض الإجماعين. وذلك لأن الإجماع على تقدير كونه قاطعاً بتقديمه على النص القاطع بالإجماع يستلزم تقدم القاطع على القاطع، والإجماع منعقد على تقدم القاطع على غير القاطع فتعارض الإجماعان. وأمّا ثالثاً: فلأن تعارض الإجماعين يندفع بجعل أحدهما ناسخاً للآخر، أو مخصصاً إن جُهِلَ التاريخ. فإن قيل: كل واحد من الدليلين الدالّيْنِ على كون الإجماع حجة قطعية يقتضي أن يكون الإجماع المحتج به على كونه حجة ما بلغ المجمعون فيه عدد التواتر؛ لتضمن كل واحد منهما ذلك. أمّا الأول: فلأن العادة إنما تحيل اجتماع العدد الكثير على القطع في شرعي من غير قاطع إذا بلغ عددهم عدد التواتر. وأمّا الثاني: فلأن العادة إنما تقضي بامتناع التعارض بين أقوال مثل هذا العدد إذا بلغوا حد التواتر. وإذا كان كذلك، فلا يكون اتفاق من نقص عددهم عن عدد التواتر حجة. والاختصاص كونه حجة باتفاق المجتهدين، بل كل طائفة بلغوا عدد التواتر إجماعهم يكون حجة، وإن لم يكونوا مجتهدين. أجاب المصنف: بمنع استلزام الدليلين لذلك؛ فإن العادة تحيل اجتماع المحققين على القطع في أمر شرعي بغير قاطع، بلغوا حد التواتر أو لا. والعادة تحكم بامتناع التعارض بين أقوال جمع من المحققين بلغوا حد التواتر أو لا.

- استدلال الشافعي على حجية الإجماع

سلمنا استلزامهما لذلك، لكن لا يضر؛ لأن اللازم حينئذ كون القاطعين بتخطئة مخالف الإجماع، والقاطعين بتقدم الإجماع على النص عددهم عدد التواتر لا كون أهل الإجماع. ولقائل أن يقول: إذا كان لازماً في القَاطِعِين فالخصم يمنع بلوغهم حد التواتر، فلا تثبت إذ ذاك حجية الإجماع؛ لبنائها عليهما فكان ضاراً. ص ــــ الشافعي: {وَيَتَّبِع غَيرَسَبِيلِ المُؤمِنِينَ}. وليس بقاطع؛ لاحتمال في متابعته أو مناصرته، أو الاقتداء به، أو في الإيمان، فيصير دوراً؛ لأن التمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع، بخلاف التمسك بمثله في القياس. ش ــــ استدل الشافعي ـــــ رحمه الله ـــــ على حجية الإجماع بقوله ـــــ تعالى ـــــ {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِمَاتَبَيَّنَلَهُالهُدَى وَيَتَّبِع غَيرَسَبِيلِ المُؤمِنِينَ} ووجه ذلك أنه ـــــ تعالى ـــــ جمع في الآية بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد. فيجب أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً، وإلا لما جمع بينه وبين الحرام الذي هو المشاقة في الوعيد؛ لأن الجمع بين المباح والحرام في الوعيد لا يجوز. لا يصدر عن الحكيم {{إن زنيت وشربت الماء عاقبتك}}، وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً كان اتباع سبيل المؤمنين واجباً. والحكم المجمع عليه سبيل المؤمنين؛ إذ المراد بالسبيل ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو فعل. وزيّفه المصنف بأنه ليس بقاطع في الدلالة على المطلوب وهو متابعة الإجماع؛ لأن اتباع سبيل المؤمنين عام يتناول اتباعهم في متابعة الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ واتباعهم في

نصره ودفع الأعداء عنه. أو اتباعهم في الاقتداء بالرسول، أو اتباعهم في الإيمان به. ودلالة [العام] على فرد بعينه من أفراده ليس بقطعي؛ لجواز تخصيص العام وإخراج ذلك الفرد منه. وإذا لم يكن قطعياً، وتمسك به في كون الإجماع حجة، لزم الدور. لأن غاية ما في الباب أنه يدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين ظاهراً. والظاهر إنما يثبت كونه حجة بالإجماع. فلو أثبتنا كون الإجماع حجة بها دار. وهذا [بخلاف] التمسك بمثل هذا الظاهر في كون القياس حجة كالتمسك بقوله ـــــ تعالى ـــــ {فَاعتَبِرُوايَاأُوْلِيالأَبصَارِ (2)} فإنه يستلزم الدور؛ لأن التمسك بالظاهر ما ثبت بالقياس. والكلام على الآية التي استدل بها الشافعي على حجية الإجماع كثير جداً تصحيحاً وتزييفاً، وقد ذكرنا جملة من ذلك في التقرير شرح أصول الإمام فخر الإسلام.

- استدلال الغزالي على حجية الإجماع

ص ــــ الغزالي بقوله: {{لا تجتمع أمتي}} من وجهين: أحدهما: تواتر المعنى لكثرتها، كشجاعة على وجود حاتم. وهو حسن. والثاني: تلقى الأمة لها بالقبول. وذلك لا يخرجها عن الآحاد. واستدل: إجماعهم يدل على قاطع في الحكم؛ لأن العادة امتناع إجماع مثلهم على مظنون. وأجيب: بمنعه في الجلي وأخبار الآحاد بعد العلم بوجود العمل بالظاهر. ش ــــ واستدل الغزالي ـــــ رحمه الله ـــــ بقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{لا تجتمع أمتي على الخطأ}} من وجهين. أحدهما: أنه تظاهرت الروايات عن رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ في عصمة هذه الأمة عن الخطأ، كقوله: {{لا تجتمع أمتي على الضلالة}}. و {{سألت الله أن لا تجتمع أمتى على الضلالة فأعطانيها}}. و {{يد الله على الجماعة ولا يبالي الله بشذوذ من

شذ}}. وغير ذلك مما فيه كثرة، وكل واحد منها إن لم يصل إلى حد التواتر فالقدر المشترك فيها متواتر، كشجاعة علي، وجود حاتم، وإذا كان كذلك، وجب أن

يكون الإجماع حجة. واستحسنه المصنف؛ لأنه أثبت حجيته بالتواتر المفيد للقطع. وفيه نظر من وجهين: الأول: أن هذا الوجه لا يربو على إجماع الصحابة على حجية الإجماع، ولا ينفع ما لم تثبت حجية الإجماع. والثاني: إن أفاد لم يزد على كونه حجة، وأمّا على كونه حجة قطعية فلا. والنزاع في ذلك. والآخر: أن الأمة قرناً بعد قرن تلقتها بالقبول، واحتج بها بعض، وأجاب عنها آخرون، وكل ذلك دليل صحتها. وزيفه المصنف: بأن ذلك لا يخرجها عن الآحاد. فهي ظنية لا تفيد القطع، وفيه نظر؛ لكون التلقي في الصدر الأول، فكانت مشهورة وخرجت عن الآحاد، فجاز أن يستدل بها، لكن على الحجية لا على القطعية. ومن الناس من استدل: بأن إجماع المجمعين على الحكم يدل على دليل قاطع يستند الإجماع إليه؛ لأن العادة تحيل اجتماع مثل هذا الجمع الكثير من العلماء على المظنون. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم صلوح العادة للغلبة في مثل هذا الأمر سلمناه، لكنها تفيد الظن لا اليقين. وزيفه المصنف، بمنع إحالة العادة اجتماعهم على مظنون؛ فإن سند الإجماع إذا كان قياساً جلياً، أو خبر واحد، بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر الذي هو مظنون، جاز أن ينعقد به الإجماع. ولقائل أن يقول: هذا يناقض ما ذكره في الدليل الأول على حجية الإجماع. ص ــــ المخالف: {تِبيَانالِّكُلِّشَيء}، {فَرُدُّوهُ} ونحوه.

- استدلال المخالف على عدم حجية الإجماع

وغايته الظهور. وأجيب: بأنه لم يكن حينئذ حجة. ش ــــ المخالف استدل على عدم حجية الإجماع بالكتاب والسنة. أمّا الكتاب، فقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَنَزَّلنَاعَلَيكَالكِتَابَتِبيَانالِّكُلِّشَيء}. ووجهه: أن الحكم الذي يتوخى إثباته بالإجماع شيء، وهو ظاهر وكل ما هو شيء فالكتاب تبيان له، لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {تِبيَانالِّكُلِّ شَيء} فلا يحتاج إلى الإجماع. وقوله ـــــ تعالى ـــــ: {فَإِن تَنَازَعتُمفِيشَيءفَرُدُّوهُإِلَاللَّهِوَالرَّسُولِ}. ووجهه: أن الأحكام الشرعية مما تنازع فيه المجتهدون، أو آراء مجتهد واحد، وذلك ظاهر، وكل ما شابه ذلك فردوه إلى الكتاب والسنة بالآية، فلم يكن الإجماع محتاجاً إليه. بل المصير إليه مخالفة الكتاب، وهي حرام. وقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَمَا اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَيءفَحُكمُهُ إِلَى اللَّهِ}. فليس إلى الإجماع. وزيفه المصنف: بأن غايته؛ أي غاية هذا الاستدلال الظهور، فلا يعارض القطعي الدال على كون الإجماع حجة. ولقائل أن يقول: الدليل الذي ذكره على حجية الإجماع لم يبلغ حد القطع، كما تقدم بيان كل في موضعه. فكان ظاهراً في مقابلة ظاهر وتعارضا.

وأمّا السنة: فحديث معاذ ـــــ رضي الله عنه ـــــ وهو أنه حين وجهه إلى اليمن قاضياً سأله: {{بم تقضي}}؟ قال: بكتاب الله. قال ـــــ عليه السلام ـــــ: {{فإن لم تجد}}؟ قال: بسنة رسول الله، قال: {{فإن لم تجد}}؟ قال: اجتهد برأيي. ولم يذكر الإجماع. وصوبه رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وقال: {{الحمد لله الذي وفق رسول رسوله بما يرضي رسوله}}. ولو كان الإجماع حجة للقنه.

وأجيب: بأن الإجماع لم يكن في زمن النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ حجة، فلذلك سكت عنه. وقد ذكرنا في التقرير أجوبة عن استدلالهم بالكتاب والسنة فليطلب ثمة.

- مسألة: عدم اعتبار وفاق من سيوجد اتفاقا، (أهل الإجماع)

ص ــــ مسألة: وفاق من سيوجد، لا يعتبر اتفاقاً. والمختار أن المقلد كذلك. وميل القاضي إلى اعتباره. وقيل: يعتبر الأصولي. وقيل: الفروعي. لنا: لو اعتبر لم يتصور. وأيضاً: المخالفة عليه حرام. فغايته مجتهد خالف وعُلِمَ عصيانه. ش ــــ هذه المسألة في بيان أهل الإجماع، اتفقوا على أن أهله، أهل الفقه. فإذا اتفقوا على حكم شرعي كان إجماعاً، ولا يعتبر فيه موافقة من سيوجد بعد انقراض عصرهم، أو وجد ولم يبلغ رتبة الاجتهاد في عصرهم بالاتفاق. وأمّا موافقة المقلد، وهو من لا يكون مجتهداً ففيه خلاف. والمقلد يتناول العامي الذي لا يعلم الفروع ولا الأصول، والذي يعلم الأصول دون الفروع، وعكسه. والمختار عند المصنف أنه لا يعتبر بموافقته مطلقاً. وميل القاضي إلى اعتباره مطلقاً. ومنهم من اعتبر موافقة الأصولي الذي لا يعلم الفروع.

وقيل: يعتبر عكسه. واستدل المصنف على عدم اعتباره بوجهين: الأول: لو اعتبر موافقة المقلد فيه لم يتصور الإجماع؛ لأن المقلدين لكثرتهم، وتباين أماكنهم لا يتصور اتفاق كلمتهم لكن قد دلّ الدليل على وجوده. وفيه نظر؛ لأن أهل الإجماع كذلك. والثاني: أن المقلد يحرم عليه مخالفة العلماء، وكل من حَرُمَ مخالفته لا تعتبر موافقته في الإجماع. أمّا الصغرى فظاهرة، وأما الكبرى، فكالمجتهد الذي لم يوجد وقت الانعقاد، فإنه يحرم عليه مخالفة الإجماع بعد علمه بالإجماع، وموافقته غير معتبرة، بل المقلد أولى؛ لأنه إذا لم تعتبر موافقة القادر على الاستنباط، وهو المجتهد الذي وجد بعد الإجماع، فلأن لا تعتبر موافقة غير القادر أولى. وفيه نظر؛ لأن هذا المجتهد إنما لم تعتبر موافقته؛ لكونه لم يوجد وقت الإجماع، وانقراض العصر ليس بشرط على الصحيح، والمقلد كان موجوداً وقت الإجماع، فكان قياساً مع الفارق، وهو لا يجوز.

- المبتدع

المبتدع ص ــــ مسألة: المبتدع بما تضمن كفراً، كالكافر عند المكفر وإلا فكغيره. وبغيره، ثالثها يعتبر في حق نفسه فقط. لنا أن الأدلة لا تنتهض دونه. قالوا: فاسق، فيرد قوله كالكافر والصبي. وأجيب: بأن الكافر ليس من الأمة، والصبي لقصوره، ولو سُلّم فيقبل على نفسه. ش ــــ المسألة الثانية: في اعتبار قول المبتدع في الإجماع، وهو المخطئ من أهل القبلة في الأصول. وهو لا يخلو من أن يكون مبتدعاً بما يوجب الكفر بصريحه، كغلاة الروافض والمجسمة، أو لا. فإن كان الأول فلا نزاع في عدم

اعتبار خلافه ووفاقه؛ لأنه كافر، والإجماع كرامة لهذه الأمة خاصة. وإن كان الثاني، فإن كان مبتدعاً بما تضمن كفراً، أي بما يوجبه لا بصريحه، وهو المخطئ في الأصول بتأويل ففيه الخلاف مَنْ كَفَّرَهُ لم يعتبر كالكافر الأصلي ومَنْ لم يُكَفِّرْهُ جعله كمجتهد مبتدع بغير ما تضمن كفراً، بل بفسق. وإن كان مبتدعاً بغير ما يتضمن كفراً ففيه ثلاثة مذاهب: الأول: الاعتبار مطلقاً، لا ينعقد الإجماع بمخالفته، ومال إليه المصنف. والثاني: انه لا يعتبر مطلقاً؛ لأنه فاسق. والثالث: أنه تعتبر موافقته في حق نفسه دون غيره، على معنى أنه يجوز له مخالفة الإجماع الذي انعقد بدونه، ولا يجوز لغيره واحتج المصنف على مختاره بما تقريره: أن الأدلة الدالة على الإجماع شاملة له، لكونه من المجتهدين فلا ينعقد بدونه.

وفيه نظر؛ لأن الأدلة هي المقتضية، لكن قيام المقتضي لا يكفي لاتحاد الحكم ما لم ينتف المانع ولم ينتف وهو الفسق المخرج له عن كونه وسطاً، أي عدلاً. وقال ـــــ تعالى ـــــ {وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمأُمَّةوَسَطالِّتَكُونُواشُهَدَاءَعَلَى النَّاسِ}. ولم تصر الأمة أهلاً للإجماع إلا بصفة العدالة. وقال المانعون مطلقاً: إنه فاسق فَيُرَدُّ قوله، كالكافر والصبي لاشتراكهم في عدم التحرز عن الكذب. وأجاب المصنف: بالفرق، بأن الكافر يرد قوله، لأنه ليس من الأمة بخلاف الفاسق؛ فإنه لا يخرج عن الأمة، والصبي يرد؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد بخلاف الفاسق فإن الفرض أنه منهم. ولو سُلّمَ منع قوله في حق الغير للتهمة، لكنه لا تهمة بالنسبة إلى نفسه فيما اجتهدوا على ما هو له ولم يوافقهم فيقبل. ولقائل أن يقول: عدم خروجه عن الأمة لا يستلزم، [قبول] قوله؛ إذ ليس كل من هو من الأمة من أهل الإجماع، وإن الفرق غير مرضي عند المحققين، وقد مرّ غير مرة. وأنه إذا لم يكن من أهل الإجماع صار نفسه وغيره سواء. ص ــــ مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة. وعن أحمد قولان: لنا: الأدلة السمعية. قالوا: إجماع الصحابة قبل مجيء التابعين وغيرهم. على أن ما لا قطع فيه سائغ فيه الاجتهاد. فلو اعتبر غيرهم خولف إجماعهم، وتعارض الإجماعان.

- المسألة الثالثة: لا يختص الإجماع بالصحابة

وأجيب: بأنه لازم في الصحابة قبل تحقق إجماعهم، فوجب أن يكون ذلك مشروطاً بعد الإجماع. قالوا: لو اعتبر، لاعتبر مع مخالفة بعض الصحابة. وأجيب: بفقد الإجماع مع تقدم المخالفة عند معتبرها. ش ــــ المسألة الثالثة: في أن الإجماع لا يختص بالصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ وهو مذهب المحققين، بل ينعقد إجماع مجتهدي كل عصر. وذهب أهل الظاهر إلى اختصاصه بهم. ونقل عن أحمد ـــــ رحمه الله ـــــ قولان: أحدهما: كما ذهب إليه المحققون. والثاني: كما ذهب إليه الظاهريون. دليل المحققين: أن الأدلة السمعية الدلة على الإجماع عامة في مجتهدي كل عصر، فلا وجه لاختصاصها بالصحابة. ولقائل أن يقول: الأدلة السمعية المذكورة في هذا الكتاب زيفها المصنف سوى قوله ـــــ عليه السلام ـــــ: {{لا تجتمع أمتي على الضلالة}} وقد عرفت ما فيه. ودليل أهل الظاهر: أن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ قبل مجيء التابعين وغيرهم

من الأئمة المجتهدين، أجمعوا على ما لا قطع فيه، أي كل مسألة فيها دليل قاطع يجوز فيه الاجتهاد. ولو كان إجماع غيرهم صحيحاً لزم مخالفة إجماع الصحابة، وتعارض الإجماعين، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم كذلك. وبيان الملازمة: أن التابعين لو أجمعوا على مسألة اجتهادية لما جاز الاجتهاد فيها بعد إجماعهم، فيلزم مخالفة إجماع الصحابة لأن إجماعهم على الاجتهاد في كل مسألة اجتهادية جائز، ويلزم تعارض الإجماعين، أحدهما إجماع الصحابة على جواز الاجتهاد فيها، والآخر إجماع غيرهم على أنه لا يجوز الاجتهاد فيها. وأجيب: بأن لذلك لازم في إجماع الصحابة ـــــ أيضاً؛ لأنهم قبل الإجماع على الحكم أجمعوا على جواز الإجتهاد فيه، وبعد إجماعهم لا يجوز الاجتهاد فيه، فلزم مخالفة إجماعهم، وتعارض إجماعهم وإذا كان كذلك كان الخلاص بأن يقال: إجماعهم على جواز الاجتهاد فيما لا قاطع فيه مشروط بعد الإجماع بعده، وإذا أجمع التابعون بعده زال شرطهم إجماعهم الأول، فيزول الإجماع الأول، فلا يلزم المخالفة، ولا تعارض الإجماعين. ولقائل أن يقول: لا نسلم لزوم ذلك في إجماع الصحابة؛ لأنهم أجمعوا على جواز الاجتهاد فيما لا قاطع فيه، وإذا أجمعوا على الحكم وجد القاطع فيه فانتفى شرط جواز الاجتهاد فيه، فلا يلزم المخالفة ولا تعارض الإجماعين. لا يقال: المراد بالقاطع النص القاطع؛ لأن قطعية دلالة النص غير قطعية كما تقدم. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ لو اعتبر إجماع غير الصحابة، لاعتبر مع مخالفة الصحابة، يعني إذا كان في المسألة خلاف بين الصحابة، ثم أجمع التابعون، وجب أن ينعقد الإجماع؛ لأنه كما انعقد إجماعهم مع عدم قول الصحابة فيها فلأن ينعقد معه أولى.

- المسألة الرابعة: لو ندر المخالف مع كثرة المجمعين

وأجاب بأن من شرط في الإجماع عدم خلاف سابق يمنع الملازمة بأنه إنما لم ينعقد مع مخالفة الصحابة؛ لأن شرطه عدم الخلاف، ولم يوجد. وأجاب من يشترط ذلك: بمنع بطلان التالي، فإن عنده ينعقد الإجماع. ولقائل أن يقول لو لم يعتبر إجماع غير الصحابة، لم يعتبر إجماعهم واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم كذلك. بيان الملازمة: أن الإجماع صار حجة، كرامة لهذه الأمة، وإدامة للحجة، وذلك مشترك بينهما؛ إذ الأمة ليست مقولة بالتشكيك، فإن اعتبر فيهما، وإن لم يعتبر لم يعتبر فيهما. فإن قال: صار حجة لذلك، لكن يشترط كونه صحابياً. منعناه؛ لانتفاء إدامة الحجة باشتراطه. ص ــــ مسألة: لو ندر المخالف مع كثرة المجمعين، كإجماع غير ابن عباس ـــــ رضي الله عنهما ـــــ على العول، وغير أبي موسى ـــــ رضي الله عنه ـــــ على أن النوم ينقض الوضوء لم يكن إجماعاً قطعياً؛ لأن الأدلة لا تتناوله. والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف. ش ــــ المسألة الرابعة: في أن خلاف الواحد كخلاف الأكثر في عدم [الانعقاد] عند أكثر الأصوليين. وذلك كخلاف ابن عباس ـــــ رضي الله عنهما ـــــ في العول في

الفرائض لعامة الصحابة ـــــ رضي الله عنهم. وكخلاف أبي موسى الأشعري ـــــ رضي الله عنه ـــــ في كون النوم ناقضاً

للوضوء. وخالفهم بعض المعتزلة، ومحمد بن جرير الطبري. حجة الأكثرين: أن الأدلة الدالة على ثبوت الإجماع تفيد عموم المؤمنين فتخصيصه ببعض بلا ضرورة تحكم صرف. ثم القائلون: بأنه ليس بإجماع اختلفوا في كونه حجة. فنفاه بعض وأثبته الآخرون، واختاره المصنف وقال: والظاهر أنه حجة؛ لأن أحد القولين لا بد وأن

- المسألة الخامسة: هل يعتبر التابعي المجتهد مع الصحابة أو لا؟

يكون حقاً، ويبعد أن يكون قول الأقل؛ إذ الغالب أن متمسك الأكثر راجح، فتركه إلى غيره لا يجوز. وفيه نظر؛ لأنه ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا استدلال؛ لأن مختار المصنف في الاستدلال أنه ثلاثة أقسام تلازم بين حكمين من غير تعيين علة جامعة، واستصحاب وشرع من قبلنا. فكان اختياره لحجيته مخالفاً لاختياره ما ذكره في آخر الكتاب. ص ــــ مسألة: التابعي المجتهد معتبر مع الصحابة. فإن نشأ بعد إجماعهم فعلى انقراض العصر. لنا: ما تقدم. واستدل: لو لم يعتبر، لم يسوغوا اجتهادهم معهم، كسعيد بن المسيب، وشريح، والحسن، ومسروق، وأبى وائل، والشعبي، وابن جبير، وغيرهم. وعن أبي سلمة: تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة في عدة الحامل للوفاة، فقال ابن عباس؛ أبعد الأجلين، وقلت أنا: بالوضع. فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي. وأجيب: بأنهم إنما سوَّغوه مع اختلافهم. ش ــــ المسألة الخامسة: في أن مخالفة التابعي المجتهد تمنع انعقاد

الإجماع، أو لا. ذهب أكثر الأصوليين إلى اعتبار موافقته، واختاره المصنف وذهب طائفة إلى عدمه، بل ينعقد الإجماع مع مخالفته. وهذا إذا كان التابعي مجتهداً وقت إجماعهم. وأما إذا بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماع الصحابة، فمن شرط في الإجماع انقراض العصر اعتبر موافقته، ومن لم يشترطه لا يعتبرها. وقال المصنف للمختار: لنا ما تقدم، يعني أن الدليل الدال على انعقاد الإجماع لا ينتهض دونه؛ لأن الصحابة بدونه بعض المؤمنين، والإجماع بالجميع. واستدل للمختار بدليل ضعيف، وهو أن الصحابة سوّغوا اجتهادهم معهم، ولو لم يعتبروا موافقتهم لما سوَّغوا؛ لأن غير المعتبر لا يصح تجويزه، فضلاً عن الرجوع إليه. وقد صح رجوع الصحابة إلى التابعين، كسعيد بن المسيب

وشريح، والحسن البصري، ومسروق، والشعبي، وسعيد بن

جبير، فإن عليّاً وعمر وليا القضاء شريحاً، ولم يعترضا عليه فيما خالفهما فيه. وحكم شريح على علي في خصومه له مع يهودي على خلاف رأي علي، ولم ينكر عليه. وروى عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة فقال: {{سلوا سعيد بن جبير فإنه

أعلم بها مني}}. وسئل الحسن بن علي ـــــ رضي الله عنهما ـــــ عن مسألة فقال: {{سلوا الحسن البصري}}. وسئل ابن عباس عن النذر بذبح الولد، فأشار إلى مسروق ثم أتاه السائل بجوابه فتابعه.

وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: {{تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة ـــــ رضي الله عنهما ـــــ في عدة الحامل [90/ب] المتوفي عنها زوجها، فقال ابن عباس: أبعد الأجلين من وضع الحمل، وانقضاء أربعة أشهر وعشر، فقلت أنا: بالوضع، فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي}}. وسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه مع أبي هريرة، وهو تابعي. وأمثال ذلك كثيرة. ووجه ضعفه ما ذكره المصنف أن الصحابة اعتبروا اجتهادهم فيما اختلف فيه الصحابة، فإن الصور المنقولة إنما هي صور وقع الخلاف فيما بين الصحابة لا فيما انعقد عليه إجماعهم، ولا يلزم من اعتبار قولهم في صور الخلاف اعتباره في صورة الإجماع. ولقائل أن يقول: اللازم أحد الشمولين إمّا شمول الاعتبار في [المجمع]

- المسألة السادسة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين

عليه والمختلف فيه، أو عدمه فيهما؛ لأن اعتبار قوله إمّا أن يكون لدليل أو لا. فإن كان الأول فاللازم شمول الاعتبار لا سيما وهو دافع لا رافع، وإن كان الثاني فاللازم شمول العدم؛ لأن اتباع الصحابة لغيرهم بغير دليل حرام. ص ــــ مسألة: إجماع المدينة من الصحابة والتابعين حجة عند مالك ـــــ رحمه الله ـــــ. وقيل: محمول على أن روايتهم متقدمة. وقيل: على المنقولات المستمرة، كالأذان والإقامة. والصحيح: التعميم. لنا: أن العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع المنحصر من العلماء الأحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلا عن راجح. فإن قيل: يجوز أن يكون متمسك غيرهم أرجح، ولم يطلع عليه بعضهم. قلنا: العادة تقضي باطلاع الأكثر، والأكثر كاف فيما تقدم. ش ــــ المسألة السادسة: في أن إجماع المدينة من الصحابة والتابعين حجة، أو لا. فذهب الأكثرون إلى أنه لا يكون حجة. ونقل عن مالك أنه حجة. واستبعد بعضهم هذا النقل عنه فأوّل كلامه بأنه محمول على أن روايتهم متقدمة على رواية غيرهم وآخرون قالوا: إنه محمول على أن إجماع أهل المدينة على المنقولات المستمرة، أي المكرر وقوعها، كالأذان والإقامة، حجة.

فإنهم لو أجمعوا على أن الإقامة فرادى كان حجة. ولو أجمعوا على ما لم يكن متكرراً، لم يكن حجة. قال المصنف: والصحيح التعميم، يعني أن مذهب مالك أن إجماع أهل المدينة حجة سواء كان على المنقولات المستمرة أو غيرها. واحتج لذلك: بأن العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع من العلماء المنحصرين أي غير منتشرين في الآفاق، الأحقين بالاجتهاد بسبب مشاهدتهم التنزيل وسماعهم التأويل، وعرفانهم بأحوال الرسول، لا يجمعون على حكم من الأحكام إلا عن متمسك راجح، والمتمسك الراجح حجة لا محالة. فإن قيل: يجوز أن يكون متمسك غيرهم أرجح ولم يطلع عليه بعض أهل المدينة.

أجيب: بأن العادة تقضي باطلاع الأكثر، واطلاع الأكثر كاف في حجية قولهم، وإن لم يكن كافياً في كونه إجماعاً قاطعاً، كما تقدم أن مخالفة النادر للأكثر لا يمنع أن يكون اتفاق الأكثر حجة. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن العادة تقضي بذلك، وأن كونه حجة غير صحيح. كما تقدم أنه ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا استدلال، والحجج الشرعية منحصرة في ذلك. ص ــــ واستدل بنحو: {{إن المدينة طيبة تنفي خبثها}}. وهو بعيد. وبتشبيه عملهم بروايتهم. وردّ: بأنه تمثيل، لا دليل. مع أن الرواية ترجح بالكثرة بخلاف الاجتهاد. ش ــــ واحتج بعضهم على مذهب مالك بوجهين آخرين: أحدهما: قوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد}}. و {{طيبة}} على وزن شيبة، اسم من أسماء المدينة.

- المسألة السابعة: إجماع أهل البيت وحدهم

ووجهه: أنه يدل على نفي الخبث، والخطأ خبث فيكون منفياً، وما ينتفى عنه الخطأ فهو حجة. قال المصنف: وهو بعيد؛ إذ لا دلالة على أن قول أهله يكون حجة أصلاً. الثاني: أن رواية أهل المدينة متقدمة، أي راجحة على رواية غيرهم فيكون عملهم كروايتهم، أي يكون اجتهادهم راجحاً على اجتهاد غيرهم قياساً عليها، فيكون إجماعهم حجة. ورده المصنف: بأنه مجرد تمثيل خالٍ عن الوصف الجامع، فلا يكون دليلاً، على أن الفرق بين الرواية والاجتهاد ثابت، فإن الرواية ترجح بكثرة الرواة دون الاجتهاد. وفيه نظر؛ فإن الفرق غير مسموع. كما تقدم غير مرة، ولا نسلم أن الرواية ترجح بكثرة الرواة، بل بالعدالة، والجامع مشاهدتهم للتنزيل وسماعهم التأويل، وعرفانهم بأحوال الرسول. ص ــــ مسألة: لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم، خلافاً للشيعة، ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافاً لأحمد. ولا بأبي بكر وعمر عند الأكثرين. قالوا: {{عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي}}. {{اقتدوا باللذين من بعدي}}. قلنا: يدل على أهلية اتباع المقلد. ومعارض بمثل {{أصحابي كالنجوم}} و {{خذوا شطر دينكم عن الحميراء}}. ش ــــ المسألة السابعة: في أن الإجماع هل ينعقد بأهل البيت علي والحسن

والحسين وفاطمة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ، أو لا. جوزه الشيعة ونفاه الأكثرون.

احتجت الشيعة بالكتاب قول الله ـــــتعالاـ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَعَنكُمُالرِّجسَ أَهلَالبَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرا (33)} والخطأ رجس فيطهر أهل البيت عنه، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة. وبالسنة قوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي}}. وأجيب عن الأول: بأن المراد بأهل البيت أزواجه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ لأن سياق الآية وسياقها فيهم. وعن الثاني: بأنه من الآحاد، فلا يفيد القطع، والمسألة قطعية. سلمناه، ولكن لا دلالة له على أن قول العترة وحدها حجة. ومن الناس من ذهب إلى أن الإجماع ينعقد بالأئمة الأربعة: أبي بكر وعمر

وعثمان وعلي ـــــ رضي الله عنهم ـــــ، وهو رواية أحمد، ونفاه الأكثرون. ومنهم من ذهب إلى أنه ينعقد بقول الشيخين أبي بكر وعمر ـــــ رضي الله عنهما ـــــ ونفاه الأكثرون. استدل الأولون بقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي}} فإنه يدل على وجوب اتباعهم سنتهم، كوجوب اتباع النبي في سنته؛ لأن كلمة {{على}} للوجوب.

واستدل الآخرون بقوله ـــــ عليه السلام ـــــ: {{اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر}}. والجواب عنهما جميعاً: أن الحديثين لا يدلان إلا على أن للأئمة الأربعة وللشيخين أهلية أن يتبعهم المقلدون لا على أن إجماعهم حجة. وفيه نظر؛ فإن ظاهر الحديثين يدل على وجوب الاقتداء بهم، ومن لم يكن قوله حجة لا يجب الاقتداء به. وأيضاً: الحديثان معارضان بمثل قوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم}} و {{خذوا شطر دينكم عن الحميراء}}. مع أن قول كل واحد من الصحابة

- المسألة الثامنة: هل يشترط بلوغ أهل الإجماع حد التواتر، أو لا؟

وقولها ليس بحجة. وفيه نظر؛ فإن الحديث الأول ليس فيه ما يدل على وجوب الاقتداء حتى يستلزم حجية قول كل واحد منهم، غاية ما في الباب أن يدل على جواز الاقتداء، وذلك لا يستلزم أن يكون قوله حجة موجبة. والحديث الثاني: فيه ما يدل على أن المراد به المسموعات؛ فإن شطر الدين يستبعد أن يثبت بقولها وحدها، فيكون المراد به الرجوع إليها في الرواية. ص ــــ مسألة: لا يشترط عدد التواتر عند الأكثرين. لنا: دليل السمع. فلو لم يبق إلا واحد ـــــ فقيل: حجة؛ لمضمون السمعي. وقيل: لا؛ لمعني الاجتماع. ش ــــ المسألة الثامنة: في أن بلوغ أهل الإجماع حد التواتر شرط، أو لا. فمن جوّز الإجماع بالعقل واستحالة الخطأ بحكم العادة، لزمه الاشتراط. ومن جوزّه بالسمع، لم يشترطه. فلو فرض أنه لم يبق من أهله إلا واحد.

فقيل: حجة، بمضمون السمعي، فإن قوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَيَتَّبِع غَيرَسَبِيلِ المُؤمِنِينَ} وقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ {{لا تجتمع أمتي على الخطأ}} عام يتناول عدد التواتر دونه، ولم يظهر مخصص فيجري على عمومه، والأمة قد تطلق على الواحد كما في قوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِنَّ إِبرَاهِيمَكَانَأُمَّةً}. وقيل: لا يكون حجة؛ لأن الإجماع إنما يتصوّر عند الاجتماع، وأقل ما يقع فيه اثنان، وفي كلام المصنف نظر؛ لأنه قال: لنا دليل السمع وهو ممن استدل على الإجماع بوجهين عقليين، كما تقدم في أوّل الإجماع واستحسن استدلال الغزالي في وجه، وقد عرفت ما فيه. ص ــــ مسألة: إذا أفتى واحد وعرفوا به، ولم ينكره أحد قبل استقرار المذاهب، فإجماع أو حجة. وعن الشافعي: ليس بإجماع ولا حجة. وعنه خلافه. وقال الجبّائي: إجماع بشرط انقراض العصر. ابن أبي هريرة: إن كان فتياً، لا حكماً. لنا: سكوتهم ظاهر في موافقتهم، فكان كقولهم الظاهر، فينهض دليل السمع.

- المسألة التاسعة: إذا أفتى واحد وعرفوا به، ولم ينكره أحد قبل استقرار المذاهب

المخالف يحتمل أنه لم يجتهد، أو وقف، أو خالف فترَوَّى، أو وقّر، أو هاب. فلا إجماع ولا حجة. قلنا: خلاف الظاهر؛ لأن عادتهم ترك السكوت. الآخر: دليل ظاهر لما ذكرناه. الجبائي: انقراض [العصر] يضعف الاحتمال. ابن أبي هريرة: العادة في الفتيا لا في الحكم. وأجيب: بأن الفرض قبل استقرار المذاهب. وأمّا إذا لم ينتشر فليس بحجة عند الأكثر. ش ــــ المسألة التاسعة: إذا ذهب واحد من المجتهدين إلى حكم في صورة، قبل استقرار المذاهب على حكم تلك الصورة، وعلموا صدوره عنه ولم ينكر أحد ففيه خلاف. قيل: إن علم أن سكوتهم عن رضى فهو إجماع قطعي، وإن لم يعلم فحجة، وهو مختار المصنف. ونقل عن الشافعي أنه ليس إجماعاً ولا حجة. ونقل عنه أيضاً ـــــ خلاف ذلك، وهو أنه حجة لا إجماع.

ونقل عن الجبائي أنه إجماع بشرط انقراض عصر المجتهدين وعدم إنكارهم عليه. وعن علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي أنه إجماع وإن كان فتياً، وليس بإجماع إن كان حكماً من حاكم. واستدل المصنف على ما اختاره: بأن سكوت أهل عصره من المجتهدين مع حرمته عليهم دليل ظاهر على موافقتهم إياه في ذلك الحكم فكان سكوتهم الظاهر كقولهم الظاهر فينهض دليل السمع على كونه إجماعاً ظاهراً. وهذا دليل كونه إجماعاً، وليس في كلامه ما يدل على الشق الآخر. وقد قيل: وحينئذٍ إن علمت موافقتهم باطناً كان إجماعاً قطعاً، وإلا كان حجة لأن العمل بالظاهر واجب. وقال المخالف القائل بما نقل عن الشافعي: أولاً: سكوتهم محتمل، والمحتمل ليس بحجة. أمّا الكبرى فظاهرة، وأما الصغرى فلأن سكوته قد يكون لأنه لم يجتهد بعد أو وقف في الحكم لم يصل اجتهاده إلى مبلغ. أو خالف في الحكم لكنه لم يظهره؛ لأنه تروّي، أي تفكر في طلب وقت يتمكن من إظهار الخلاف، أو وقّر القائل بترك الإنكار عليه، أو هابه

لعلمه أنه لا يلتفت إلى إنكاره، كما قال ابن عباس ـــــ رضي الله عنهما ـــــ في سكوته عن مسألة العول في حياة عمر حين سئل عنه: كان رجلاً مهيباً فهبته}}. وأجاب المصنف: بأن هذه الاحتمالات خلاف الظاهر؛ لأن عادتهم ترك السكوت عمّا أفتى به أحد إذا لم يكن موافقاً لهم. وفيه نظر؛ لأن عادتهم كانت ذلك إذا لم يكن ثمة مانع، وكل منها مستقل بالمنع. وقال الناقل عن الشافعي ـــــ ثانياً: دليل ظاهر؛ أي سكوتهم دليل ظاهر عند علمهم بحكم ذلك المبني على الموافقة، لرجحان احتمال الموافقة بحكم العادة فيكون حجة لا إجماعاً قطعاً، وهذا دون الأول لما ذكرنا على كونه حجة، وللنظر المذكور آنفاً. وقال الجبائي: هذه الاحتمالات وإن كانت قوية، لكن شرط انقراض عصر المجتهدين يضعفها فيتقوى احتمال الموافقة. ولقائل أن يقول: اشتراط انقراض العصر فاسد، لما سنذكره، وهذا مبني عليه، والبناء على الفاسد، فاسد. وقال علي بن أبي هريرة: العادة تقضي بأن ترك الإنكار في الفتيا للموافقة ظاهراً. بخلاف حكم الحاكم، فإن الفقهاء يحضرون مجالس الحكم ويشاهدون خطأهم في الأحكام، ويتركون الإنكار عليهم، لمهابتهم ولغير ذلك. وأجاب المصنف عنه: بأن الفرض قبل استقرار المذهب، وإذا لم يستقر المذهب يجوز إنكار قول الحاكم، كما يجوز إنكار قول المفتي فلا فرق بينهما إذاً. وفيه نظر؛ فإنه ليس الكلام في جواز الإنكار وعدمه، وإنما [92/ب] الكلام في

- المسألة العاشرة: اشتراط انقراض العصر

تركهم الجائز لمهابته أو لغيره. وقوله: {{وأمّا إذا لم ينتشر}} معطوف على قوله في مطلع البحث {{وعرفوا به}}، يعني هذه المذاهب فيما إذا أفتي واحد وعرف الباقون به، أي انتشر قوله بين أهل عصره. وأمّا إذا لم ينتش فليس بحجة عند الأكثرين؛ لاحتمال أن لايكون للباقين في ذلك الحكم قول؛ لعدم خطورة ببالهم، أو يكون له قول مخالف أو موافق، وهي احتمالات متساوية فلا يكون حجة. ص ــــ مسألة انقراض العصر غير شرط عند المحققين. وقال أحمد وابن فورك: يشترط. وقيل: في السكوتي. وقال الإمام: إن كان عن قياس. لنا: دليل السمع. واستدل: بأنه يؤدي إلى عدم الإجماع للتلاحق. وأجيب: بأن المراد عصر المجمعين الأولين أو لا مدخل للاحق. ش ــــ المسألة العاشرة: إذا اتفقت كلمة مجتهدي عصر في لحظة انعقد الإجماع عند المحققين. وقال أحمد وابن فورك: انقراض العصر شرط

انعقاده. وقيل: ذلك في الإجماع السكوتي، كالذي مرّ آنفاً. وقال إمام الحرمين: إن حصل الإجماع عن قياس يشترط ذلك وإلا فلا. واحتج المصنف للمحققين بالسمع؛ فإن الأدلة السمعية تدل على أن إجماع الأمة حجة من غير تقييده بموت وانقراض عصر، والأصل عدم التقييد، وقد تقدم على ذلك نظر فيذكر. واستدل ـــــ أيضاً ـــــ: بأن اشتراط الانقراض يؤدي إلى عدم الإجماع وما يؤدي إليه باطل قطعاً، وذلك لأنه لو أجمع الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ ولحقهم التابعي في عصرهم يجوز له مخالفتهم، لعدم انعقاد إجماعهم، لعدم انقراض عصرهم. وحينئذٍ

لا يخلو إمّا أن يوافقهم التابعي، أو لا. فإن خالفهم لم يبق إجماعهم إجماعاً، وإن وافقهم ولحق تبع التابعين قبل انقراض عصر التابعين يجوز لهم مخالفتهم؛ لأنه لم ينعقد إجماعهم بعد، فإن خالفوا لم يكن إجماعهم إجماعاً، وهلم جرا إلى زماننا. فلم يتحقق إجماعٌ أبداً. وأجاب المصنف ـــــ رحمه الله ـــــ بأن المراد انعقاد عصر المجمعين الأولين عند حدوث الواقعة، لا انقراض عصر من يتجدد بعدهم، فإذا انقرض عصرهم ولم يظهر منهم ولا من التابعين المدركين عصرهم خلاف، انعقد الإجماع ولم يؤثر حدوث تبع التابعين بعد انقراض عصر المجمعين الأولين. هذا إذا كان فائدة اشتراط انقراض العصر اعتبار موافقة من أدرك عصر المجمعين الأولين في إجماعهم، كما هو المختار عند بعض المشترطين. وأمّا إذا كان فائدة الاشتراط جواز رجوع بعض المجتهدين بسبب ظهور فكر أو تحصيل اجتهاد، كما هو المختار عند أحمد لا اعتبار موافقة من سيوجد في إجماعهم فلا مدخل للاحق فينعقد إجماع الأولين عند انقراضهم إذا لم يرجع واحد منهم، ولا تؤثر مخالفة من أدرك عصرهم من التابعين، وهو معنى قوله {{أَوْلاَ [93/أ] مدخل للاحق}}. ص ــــ قالوا: يستلزم إلغاء الخبر الصحيح بتقدير [الاطلاع] عليه. قلنا: بعيد. وبتقديره فلا أثر له مع القاطع، كما لو انقرضوا. قالوا: لو لم يشترط لمنع المجتهد من الرجوع عن اجتهاده. قلنا: واجب لقيام الإجماع. قالوا: لو لم تعتبر مخالفته لم تعتبر مخالفة من مات؛ لأن الباقي كل الأمة. قلنا: قد التزمه بعض.

والفرق أن هذا قول بعض من وجد من الأمة، فلا إجماع. ش ــــ قال الذين يشترطون انقراض العصر: لو لم يشترط لزم إلغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه؛ فإن الاطلاع عليه ممكن والإجماع المنعقد لا ينقض فلزم أن يترك الخبر. لكن لا يجوز إلغاء الخبر الصحيح وإبقاء الإجماع لئلا يستمر الخطأ الظاهر. ولقائل أن يقول: كان اشتراط عدم ظهور خبر صحيح في عصرهم أولى من اشتراط انقراض العصر؛ لأنه شرط بالذات وهذا شرط بالعرض. وأجاب المصنف: بأن الإلغاء إنما يكون بظهور الخبر الصحيح والإطلاع عليه وذلك بعد البحث والتفتيش بعيد. سلمناه، ولكن لا أثر له؛ لأنه ظني والإجماع قطعي، والظني لا يؤثر مع القطعي، كما لو انقرض عصر المجمعين ثم اطلع أهل العصر الثاني على الخبر الصحيح المخالف للإجماع، فإنه لا أثر له حينئذ بالاتفاق. ولقائل أن يقول: لا يقاس ما قبل الانقراض على ما بعده، لجواز أن يؤثر قبله، لإمكان الرجوع قبله إن لم يكن سندهم أرجح من ذلك الخبر الصحيح وعدم إمكانه بعده. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لو لم يشترط لمنع المجتهد من الرجوع عن اجتهاده، لأن الرجوع عن الإجماع المنعقد خرق له، وهو ممنوع لكن جاز للمجتهد أن يرجع إذا تغير اجتهاده، فيكون الانقراض شرطاً. وأجاب بمنع بطلان التالي؛ فإن المجتهد لا يجوز له أن يرجع عن اجتهاده بعد الإجماع؛ لقيام الإجماع. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ لو لم تعتبر مخالفة مجتهد وجِدَ في عصر المجمعين بعد

- المسألة الحادية عشرة: لا إجماع إلا عن مستند

إجماعهم لم تعتبر مخالفة من مات؛ لأن المجمعين في الصورتين كل الأمة، ومخالفة كل الأمة باطلة، لكنه اعتبرت مخالفة من مات بالاتفاق. ولقائل أن يقول: إنما اعتبر مخالفة من مات لبقائها بالاستصحاب في زمان الإجماع، ولا إجماع مع المخالفة. وليس مخالفة من يحدث كذلك. وأجاب المصنف أولاً: بمنع انتفاء التالي بناءً على قول بعض الأصوليين أنها غير معتبرة؛ لأن الباقي كل الأمة. وثانياً: بالفرق، فإن المجمعين في المقيس كل إذا لم يكن غيرهم موجوداً بخلافهم في المقيس عليه، فإن قولهم قول بعض من وجد من الأمة، إذا كان غيرهم عند اتفاقهم موجوداً، فلا يكون قولهم إجماعاً. ولقائل أن يقول: زال المانع عن الإجماع بموته، والموجود حينئذ كل الأمة في الصورتين. ص ــــ مسألة: لا إجماع إلا عن مستند لأ [نه] يستلزم الخطأ؛ ولأنه مستحيل عادة. قالوا: لو كان عن دليل لم يكن له فائدة. قلنا: فائدته سقوط البحث وحرمة المخالفة، وأيضاً فإنه [93/ب] يوجب أن يكون عن غير دليل ولا قائل به. ش ــــ المسألة الحادية عشرة: في أن الإجماع لا يكون إلا عن مستند عند المحققين، سواء كان دليلاً أو أمارة.

وقال قوم: يجوز أن يكون لا عن مستند، واستدل للمحققين بوجهين: أحدهما: أن حصوله بغير مستند يستلزم خطأ الإجماع؛ لأن القول في الدين بلا دليل أمارة الخطأ. ولقائل أن يقول: الإجماع دليل في الدين فلا يحتاج إلى دليل آخر. والثاني: أن العادة يستحيل اجتماع الجمع الكثير من العلماء المجتهدين على حكم من غير سند. وفيه نظر؛ لكن الدلائل السمعية الدالة على حجيته لا تدل على شيء من ذلك، والعادة يستحيل الاجماع على حكم بغير سند، إذاً لم يكن قولهم حجة للاحتياج إذ ذاك إلى حجة. وأمّا من كان قولهم حجة فلا نسلم الإحالة بل طلب الدليل يكون مستحيلاً حينئذٍ؛ إذ الدليل لا يحتاج إلى دليل. فإن قيل: قولهم حجة إذا كان عن دليل. قلنا: قول النزاع. واستدل للآخرين: بأنه لو لم ينعقد إلا عن دليل لم يكن للإجماع فائدة للاستغناء به عنه. وأجاب: بأن فائدته سقوط البحث، وحرمة مخالفة ذلك الحكم بعد انعقاده. ولقائل أن يقول: سقوط البحث بين المجتهدين ليس أمراً مرغوباً فيه يجعل فائدة، بل هو حجر في واسع.

- المسألة الثانية عشرة: الإجماع عن قياس

وأمّا حرمة المخالفة، فإمّا أن تكون مطلقة أو عند إجماع معارض والأول ممنوع، والثاني مسلّم، لكن مخالفة كل دليل لم يعارضه معارض حرام. ص ــــ مسألة: يجوز أن يجمع عن قياس. ومنعت الظاهرية، الجواز. وبعضهم: الوقوع. لنا: القطع بالجواز كغيره. والظاهر، الوقوع كإمامة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير وإراقة نحو الشيرج. ش ــــ المسألة الثانية عشرة: الموجبون للسند اختلفوا في جوازه عن قياس، فجوّزه الأكثرون، ومنعه الظاهرية ومن المجوّزين من منع الوقع عنه. استدل الأكثرون على الجواز: بأنه إذا فرض ذلك لم يلزم منه محال وهو أمارة الجواز. وعلى ظهور الوقوع، بإمامة أبي بكر ـــــ رضي الله عنه ـــــ بالقياس على تقديم الرسول إيّاه في الصلاة، ثم أجمعوا

عليها. وكذلك أجمعوا على تحريم شحم الخنزير بالقياس على لحمه. وأجمعوا على إراقة نحو الشيرج من المائعات إذا وقعت فيه فأرة بالقياس على السمن. ص ــــ مسألة: إذا أجمع على قولين وأحدث قول ثالث، منعه الأكثر. كوطيء البكر، قيل: بمنع الرد، وقيل: مع الأرش. فالرد مجاناً. ثالث. وكالجد مع الأخ، قيل: المال كله للجد، وقيل: المقاسمة. فالحرمان ثالث. وكالنية في الطهارات، قيل: تعتبر، وقيل: في البعض. فالتعميم بالنفي ثالث. وكالفسخ بالعيوب الخمسة، قيل: يفسخ بها، وقيل: لا. فالفرق ثالث. والصحيح: التفصيل. إن كان الثالث يرفع ما اتفقنا عليه فممنوع، كالبكر، والجد، والطهارات [94/أ] وإلا فجائز، كفسخ النكاح ببعض، وكالأم؛ فإنه يوافق في كل صورة مذهباً. لنا: أن الأول مخالفة الإجماع فمنع. بخلاف الثاني. كما لو قيل: لا يقتل

- المسألة الثالثة عشرة: إذا أجمع على قولين فهل يجوز إحداث قول ثالث؟

مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب. وقيل: يقتل، ويصح، لِمَ يُمْنَع يقتل ولا يصح، وعكسه باتفاق. ش ــــ المسألة الثالثة عشرة: إذا أجمع أهل العصر على قولين مختلفين في مسألة، واستقر رأي جميعهم فيها على المذهبين، لا يجوز لثالث أن يحدث قولاً ثالثاً مطلقاً عند الأكثرين. وجوّزه بعض الظاهرية والشيعة مطلقاً. ومنهم من فصل فقال: إن كان الثالث رافعاً لما اتفقا عليه كان باطلاً وإلا فلا. ومثل لذلك أمثلة: وذلك كما إذا وطيء المشتري بكراً، ثم وجد بها عيباً، فإنه قيل: لا يردها، وقيل: يردها وأرش البكارة.

فالقول بردها مجاناً، يعني بلا أرش باطل. وكالجد مع الإخوة في الميراث، قيل: المال كله للجد. وقيل: يقسم المال بينهم متساويا. فالقول بحرمان الجد قول ثالث. وكالنية في الطهارات، قيل: تعتبر في جميعها، أي الوضوء والغسل والتيمم. وقيل: تعتبر في بعض منها، وهو التيمم. فالقول بتعميم النفي بأن لا تعتبر في شيء منها، قول ثالث. وكفسخ النكاح بالعيوب الخمسة التي هي: البرص، والجذام،

والجنون، والجَبُّ، والعُنَّة في الزوج، والقَرَن والرَّتَق مع الثلاثة الأول في الزوجة. قيل: يفسخ بها. وقيل: لا يفسخ بشيء منها. فالفرق بالفسخ ببعض دون بعض قول ثالث. كالأبوين مع أحد الزوجين، قيل: للأم ثلث كل المال. وقيل: ثلث ما بقى بعد فرض أحد الزوجين. والقول بالتفصيل: بأن يكون

لها ثلث الجميع في إحدى الصورتين، وثلثما تبقى في أخرى قول ثالث. واختار المصنف التفصيل فقال في صورة البكر: الرد مجاناً يرفع ما اتفقا عليه؛ لأنهما اتفقا على امتناع الرد من غير أرش. وكالجد مع الأخ فإن حرمان الجد يرفع ما اتفقا عليه فإنهما اتفقا على عدم حرمان الجد. وكالطهارات فإن التعميم في النفي يرفع ما اتفقا عليه، فإنهما اتفقا على اشتراطها في بعض، فلا يجوز ذلك كله. وقال في صورة فسخ النكاح: إن القول الثالث، وهو الفسخ ببعض دون بعض لا يرفع ما اتفقا عليه، فإن يكون موافقاً لكل من القولين في صورة. وكالأم، فإن القول الثالث، وهو أن يكون لها ثلث الجميع مع الزوج وثلث ما تبقى مع الزوجة، ليس برافع لما اتفقا عليه فيكون جائزاً. ولقائل أن يقول: ليس بين الرافع وغيره فرق في المنع عن الجواز، وذلك لأنه يستلزم جواز اجتماع الأمة على الخطأ؛ لجواز أن يكون القول الثالث حينئذٍ حقاً فقد أجمعوا على الخطأ، وذلك باطل. واحتج المصنف لما اختاره: بأن الأول، أي القول الثالث الرافع لما اتفقا عليه مخالف فلإجماع، فيكون ممنوعاً؛ لأن خرق الإجماع لا يجوز بالاتفاق. بخلاف الثاني، أي الثالث الذي لا يرفع فإنه ليس [94/ب] مخالفاً للإجماع فكان جائزاً. ونظر لذلك بما لو قيل: لا يقتل مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب.

وقيل: يقتل مسلم بذمي، ويصح بيع الغائب، فإن القول الثالث، وهو أن يقتل مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب، وعكسه، لا يمنع بالاتفاق؛ لأنه لم يرفع ما اتفقا عليه بل يكون موافقاً لكل من القولين في مسألة دون أخرى. وقد علمت آنفاً أن مأخذ الامتناع ليس رفع ما اتفقا عليه وإنما هو استلزام جواز الخطأ على الأمة، وما ذكره ليس نظير ما نحن فيه؛ لأن ما نحن فيه في مادة واحدة وذلك في مادتين بل ذلك نظير ما يقال. قيل: لا تجب النية في الوضوء، ولا تحل المرأة المبانة بالوطء بنكاح فاسد. وقيل: تجب النية في الوضوء، وتحل المبانة بذلك، وليس ذلك مما نحن فيه، فإن ذلك كثير في أوضاع الفقه. ص ــــ قالوا: فَصّلَ ولم يُفَصّل أحدٌ، فقد خالف الإجماع. قلنا: عدم القول به ليس قولاً بنفيه، وإلا امتنع القول في واقعة تتجدد. ويتحقق بمسألتي الذمي والغائب. قالوا: يستلزم تخطئة كل فريق، وهم كل الأمة. قلنا: الممتنع تخطئة كل الأمة فيما اتفقوا عليه.

ش ــــ المانعون مطلقاً قالوا: الفصل بين عيب وعيب في جواز الفسخ مخالف للإجماع؛ لأنه لم يفصل بينهما أحد من الفريقين. وأجيبوا: بأن الفرقتين لم تقل واحدة منهما بالفصل، ولكن عدم القول بالفصل ليس قولاً بعدم الفصل، وإلا لامتنع القول بحكم واقعة متجددة لم يكن فيها قول لمن سبق؛ لأن عدم القول قول بالعدم، لكنه ليس كذلك، فلم يكن القول بالفصل مخالفاً للإجماع، ويتحقق ما ذكرنا أن عدم القول بالفصل لا يستلزم القول بنفي الفصل بمسألتي الذمي والغائب. فإن الفصل جوّز فيهما وإن لم يقل واحد من الفريقين به. ولقائل أن يقول: الكلام فيما اختلف أهل العصر على قولين: في مسألة واستقرت المذاهب على ذلك، هل يكون إجماعهم نفياً لثالث، أو لا. والواقعة المتجددة ليست من ذلك، وإن نفي الثالث ليس مستنداً إلى عدم قولهم حتى يقال: عدم القول ليس قولاً بالعدم وإنما هو مستند إلى استقرارهم على القولين، وذلك معنى آخر غير عدم القول بالضرورة. وأمّا مسألة الذمي والغائب فقد تقدم الكلام عليهما. وقال المانعون مطلقاً ـــــ أيضاً ـــــ القول بالفصل يستلزم تخطئة كل من الفريقين؛ لأن القول الثالث مخالف لكل منهما في بعض ما ذهبوا إليه، وذلك تخطئة لكل الأمة؛ لأن الفريقين كل الأمة، وذلك غير جائز؛ لأنهم معصومون عنها بما مرّ من السمع.

وأجيبوا: بأن تخطئة كل الأمة بحيث تكون تخطئة بعضهم في أمرٍ، وتخطئة الآخرين في غير ذلك غير ممتنع، بل الممتنع تخطئتهم فيما اتفقوا عليه. والقول بالفصل لم يستلزم ذلك. وفيه نظر؛ لأن عدم الفصل متفق عليه، فلا يكون الجواب دافعاً. ص ــــ الآخر: اختلافهم [95/أ] دليل على أنها اجتهادية. قلنا: ما منعناه، لم يختلفوا فيه. ولو سلّم فهو دليل قبل تقرر إجماع مانع منه. قالوا: لو كان لأنكِرَ لمّا وقع. وقد قال ابن سيرين في مسألة الأم مع زوج وأب بقول ابن عباس. وعكَسَ آخَرُ. قلنا: لأنها كالعيوب الخمسة، فلا مخالفة لإجماع. ش ــــ يعني الذي جوّز إحداث قول ثالث مطلقاً قال: اختلافهم في المسألة دليل على أنها اجتهادية، والاجتهادية يجوز فيها الأخذ بما أدى إليه الاجتهاد، والقول الثالث ما أدى إليه الاجتهاد، فيجوز الأخذ به. وأجيبوا: بأن ما منعناه من إحداث القول الثالث، كالردّ مجاناً لم يختلفوا فيه، فلا يكون ما يجوز فيه الأخذ بالاجتهاد. ولو سُلِّمَ أنه مختلف فيه، لكن الاختلاف دليل جواز الاجتهاد قبل تقرر إجماع من المجتهدين مانع عن الاجتهاد، والفرض وجوده. وفيه نظر؛ لأن الكلام في مانعيّة هذا الإجماع. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لو امتنع إحداث ثالث لأنكِرَ إذا وقع؛ لأن عادة المجتهدين إنكار المنهي عنه، لكنه لم ينكر؛ فإن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ اختلفوا في مسألة

زوج أو زوجة وأبوين، فقال ابن عباس للأم ثلث الجميع في الصورتين، وقال الباقون: ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين. وأحدث التابعون قولاً ثالثاً، فقال ابن سيرين: للأم في صورة الزوج ثلث الجميع، ومع الزوجة ثلث ما تبقى، وعكس تابعي آخر، ولم ينكر أحد. ولقائل أن يقول: لا نسلم عدم الإنكار، وعدم النقل لا يدل على عدمه؛ لأنها ليست من الحوادث المحتاجة إليه. ولو سُلِّمَ جاز أن يكون عدم الإنكار لعدم الالتفات إلى المخالفة؛ لعدمه وقوعها في محلها. وأجيبوا: بأنه إنما لم ينكر أحد؛ لأن هذه المسألة كالعيوب الخمسة في أن القول الثالث فيها لا يرفع ما اتفقا عليه. وفيه نظر؛ لأن فيه جهة أخرى للمنع غير رفع المتفق عليه، وقد تقدم. ص ــــ مسألة: يجوز إحداث دليل آخر وتأويل آخر عند الأكثر. لنا: لا مخالفة لهم فجاز.

- المسألة الرابعة عشرة: هل يجوز لمن بعد المجمعين إحداث دليل آخر أو تأويل آخر؟

وأيضاً: لو لم يجز لأنكر. ولم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات. قالوا: اتبع غير سبيل المؤمنين. قلنا: مؤول فيما اتفقوا وإلا لزم المنع في كل متجدد. قالوا: {تَأمُرُونَبِالمَعرُوفِ}. قلنا: معارض بقوله: {وَتَنهَونَعَنِ المُنكَرِ}. فلو كان منكراً لنهوا عنه. ش ــــ المسألة الرابعة عشرة: إذا استدل أهل الإجماع بدليل أو تأويل في حكم، هل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر أو تأويل آخر، أو لا. فإن كان الآخر قادحاً في دليل أهل الإجماع وتأويلهم، لم يجز بالاتفاق. وإن لم يقدح في ذلك فالأكثرون على جوازه. محتجين بأن إحداث الدليل الثاني، أو التأويل الثاني ليس مخالفة للإجماع، فجاز إحداثه. وبأنه لو لم يجز ذلك لأنكر السلف إذا وقع؛ إذ العادة تقضي بإنكار ما لا يجوز. لكن لم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات ولم ينكر عليهم أحد. ولقائل أن يقول: المانعون عن الجواز من المتأخرين، أو من المتقدمين وعلى كل تقدير ثبت الإنكار يصح قوله: {{ولم ينكر أحد}}. وقال المانعون: إحداث ذلك اتباع لغير سبيل المؤمنين؛ لسكون أهل الإجماع عنه وذلك حرام توعد عليه.

وأجيبوا: بأن سبيل المؤمنين في الآية مأوّل بما اتفقوا عليه فيكون اتباع غير سبيل المؤمنين مخالفتهم فيما اتفقوا عليه لا احداث ما سكتوا عنه ولو لم يأوّل بذلك لزم المنع من كل متجدد سكت عنه المتقدمون، والكلام على منع المتجدد قد تقدم. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: قوله ـــــ تعالى ـــــ: {تَأمُرُونَبِالمَعرُوفِ} خطاب مشافهة وهو لا يتناول إلا العصر الأول لعدم المشافهة في غيرهم فوجب أن يكون العصر الأول آمرين بكل معروف؛ لأن اللام للاستغراق وكل ما لم يأمروا به لم يكن معروفاً بل يكون منكراً. والدليل أو التأويل الآخر لم يأمروا به فيكون منكراً، فلا يجوز إحداثه. ولقائل أن يقول: وجب على العصر الأول الأمر بكل معروف إجمالاً أو تفصيلاً. والثاني متعذر بالضرورة، والأول مسلّم، لكن لِمَ لا يجوز أن يكون إحداث دليل أو تأويل آخر معروفاً داخل تحت أمرهم بالإجماع، فإن فيه تقوية واستظهاراً للأحكام الشرعية ولا شك أن ذلك معروف. وأجيبوا: بالمعارضة بقوله: {وَتَنهَونَعَنِ المُنكَرِ}، فإنه يقتضي نهيهم عن كل منكلا للام فلو كان إحداث ذلك منكراً لنهو عنه. وهذا ضعيف؛ لأن المعارضة أسوأ حال المناظر؛ لتسليمه دليل الخصم ويجوز أن يجابوا بأن الواجب عليهم النهي عن المنكر إجمالاً فيجوز أن يكون إحداث الدليل أو التأويل الآخر منكراً لكونه على خلاف ما اتفقوا عليه فيكون داخلاً تحت نهيهم. ص ــــ مسألة اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول بعد أن استقر خلافهم. قال الأشعري وأحمد والإمام والغزالي: ممتنع. وقال بعض المجوّزين: حجة.

- المسألة الخامسة عشرة: اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول بعد أن استقر خلافهم

والحق أنه بعيد إلا في القليل. كا [لا] ختلاف في أم الولد، ثم زال. وفي الصحيح أن عثمان كان ينهى عن المتعة. قال البغوي: ثم صار إجماعاً. الأشعري: العادة تقضي بامتناعه. وأجيب: بمنع العادة وبالوقوع. قالوا: لو وقع لكان حجة، فيتعارض الإجماعان؛ لأن استقرار خلافهم دليل إجماعهم على تسويغ كل منهما. وأجيب: بمنع الإجماع الأول. ولو سُلِّمَ فمشروط بانتفاء القاطع، كما لو لم يستقر خلافهم. ش ــــ المسألة الخامسة عشرة: إذا اختلف العصر الأول في مسألة واستقر الخلاف بينهم بحيث صار أحد القولين مذهباً لبعض، والآخر مذهباً لغيره، هل يجوز أن يتفق العصر الثاني على أحد القولين، أو لا؟ فذهب الأشعري وأحمد وإمام الحرمين والغزالي إلى عدمه. وقالت الحنفية وبعض الشافعية والمعتزلة: يجوز. ثم المجوّزون اختلفوا، فقال بعضهم: إنه ليس بحجة، وقال آخرون: إنه حجة.

وقال المصنف: والحق أن اتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين بعيد، إلا في المخالف القليل؛ لأن اتفاقهم عليه لا يكون إلا [96/أ] عن دليل قاطع، أو جلي والعادة تمنع عدم اطلاع الأكثر على القاطع، أو الجلي، وذلك كاختلاف الصحابة في بيع أم الولد على قولين: فذهب الأكثرون منهم إلى عدم الجواز، والأقلّون إلى الجواز، ثم أجمع التابعون على عدم الجواز.

وكذا اختلفوا في نكاح المتعة. فذهب الأكثرون إلى عدم جوازه. والأقلّون إلى جوازه. وجاء في الخبر الصحيح أن عثمان نهى عن المتعة، هكذا قال

البغوي، ثم صار عدم جوازه إجماعاً باتفاق التابعين.

واستدل الأشعري على المنع: بأن العادة تقضي بامتناع اتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين لامتناع تطابق الآراء على أحد القولين دون الآخر مع أن لكل منهما دليلاً. وأجاب: بمنع اقتضاء العادة؛ لجواز أن يكون سند أحدهما جلياً فيصار إليه.

وبأن مثل هذا الاتفاق واقع، كما مرّ، والوقوع دليل الجواز وقال غيره من القائلين: بالامتناع، لو وقع ذلك لكان حجة للدلائل السمعية الدالة على عصمة الأمة من الخطأ، ولو كان حجة لتعارض إجماع العصر الأول على تجويز كل من القولين؛ لأن استقرار خلافهم على القولين يدل على إجماعهم على تجويز كل منهما. وإجماع العصر الثاني على أحد القولين؛ فإنه يدل على عدم تجويز القول الآخر. وأجاب: بمنع الإجماع الأول، فإن اتفاقهم إجماع على عدم جواز إحداث قول ثالث. لا على أن العمل بكل منهما جائز، بل كل منهما يدعي أن العمل بغير ما ذهب إليه غير جائز. ولو سُلِّمَ أن اختلافهم على القولين دليل على إجماعهم على جواز الأخذ بكل منهما، لكن لا نسلم تعارض الإجماعين؛ لأن الإجماع الأول مشروط بانتفاء القاطع الذي هو الإجماع الثاني، كما لو لم يستقر خلافهم فإنه يدل على إجماعهم على تسويغ كل منهما بشرط انتفاء القاطع الذي هو الإجماع. وإذا كان الإجماع الأول مشروطاً بانتفاء القاطع زال عند الإجماع الثاني، لزوال شرطه، فلا تعارض بينهما. ولقائل أن يقول: أمّا المنع فهو صحيح، وأمّا التنزل بأن الأول إجماع بشرط انتفاء القاطع، وهو الإجماع الثاني، فليس بصحيح؛ لأن الإجماع الذي سبقه خلاف ليس بقاطع. ص ــــ المجوّز: وليس بحجة. لو كان حجة لتعارض الإجماعان. وقد تقدم. قالوا: لم يحصل الاتفاق. وأجيب: بأنه يلزم إذا لم يستقر خلافهم. قالوا: لو كان حجة لكان موت الصحابي المخالف يوجب ذلك؛ لأن الباقي كل الأمة الأحياء. وأجيب: بالالتزام. والأكثر {{على خلافه}}.

الآخر: لو لم يكن حجة لأدى إلى أن تجتمع الأمة الأحياء على الخطأ والسمع يأباه. وأجيب: بالمنع. والماضي ظاهر الدخول، لتحقق قوله. بخلاف من لم يأت. ش ــــ الذين قالوا بجواز اتفاق العصر الثاني على أحد القولين ولم يقولوا بحجيته، احتجوا بثلاثة أوجه: الأول: لو كان ذلك حجة لحصل اتفاق كل الأمة؛ لأنه الموجب لحجيته، لكنه لم يحصل؛ لأنه مسبوق لخلاف مستقر، وقول من مات لم يبطل لبقاء دليله. وأجاب: بأن ما ذكرتم إن صح لزم [96/ب] عدم حجية اتفاقهم إذا لم يستقر خلاف الأولين؛ لأن الدليل ناهض فيه بعينه، ولمانعٍ أن يمنع نهوض الدليل فيما إذا لم يستقر الخلاف؛ لأن بطلان التالي بأنه مسبوق بالخلاف المستقر. وليس ذلك في صورة النقض موجوداً، وللاستقرار تأثير فيه؛ فإن غير المستقر غير معتدٍ به. والثالث: أنه لو كان اتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين حجة لكان موت الصحابي المخالف للباقين يوجب أن يكون قول الباقين حجة؛ لأن قول الباقين بعد موته قول كل الأمة الأحياء، كاتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين. وأجاب المصنف: بالإلتزام، أي بالتزام كون قول الباقي حجة بعد موت المخالف، فإنه مذهب لبعض، لكن الأكثر على خلاف هذا المذهب وهذا الالتزام لا

- المسألة السادسة عشرة: اتفاق أهل العصر عقيب الاختلاف

يكون جواباً من جهتهم. وأجيب من جهتهم: بالفرق، بأن قول المخالف الذي مات، قول من وجد في العصر الأول، فيجب اعتباره في إجماع أهل العصر الأول. وقول المنقرضين ليس قول من وجد في العصر الثاني، فلا يعتبر في إجماع أهل العصر الثاني. وقد مرّ الكلام على الفرق غير مرة. واحتج المجوّز القائل بحجيته: بأنه لو لم يكن حجة، لأدى إلى اجتماع الأمة الأحياء على الخطأ، وهو باطل؛ لأن الأدلة السمعية دالة على عصمة الأمة عن الخطأ. وبيان الملازمة: أن اجتماعهم إمّا أن يكون على الحق أو الخطأ. فإن كان الأول وجب اتباعه، وما ليس بحجة لا يجب اتباعه، فكان حجة. وإن كان الثاني، لزم اجتماعهم على الخطأ. وأجاب بمنع انتفاء التالي؛ لأن الأدلة السمعية لا تدل إلا على عصمة كل الأمة عن الخطأ، وليسوا كذلك؛ لأن الماضي، أي من مات داخل في الأمة ظاهراً لتحقق قوله. بخلاف من لم يأت بعد فإنه ليس بداخل في كل الأمة الموجودين لعدم تحقق قوله. ولقائل أن يقول: كل ممن مات ومن لم يأت ليس بداخل في كل الأمة الموجودين حقيقة، وإنما هو بطريق المجاز، وكلاهما في ذلك سواء، ولا أثر لتحقق قوله فيما مضى إذا كان الكلام فيما هو موجود من الأمة في الحال. ص ــــ مسألة: اتفاق أهل العصر عقيب الاختلاف إجماع وحجة، وليس ببعيد. وأمّا بعد استقراره فقيل: ممتنع. وقال بعض المجوّزين: حجة. وكل من اشترط انقراض العصر، قال: إجماع. وهي كالتي قبلها، إلا أن كونه حجة، أظهر؛ لأنه لا قول لغيرهم على خلافه. ش ــــ المسألة السادسة عشرة: اتفاق أهل عصر على حكم بعد اختلافهم فيه

وقبل استقراره، إجماع وحجة عند الأكثرين. قال المصنف: وليس وقوع هذا الإجماع بعيداً؛ لجواز أنهم بعد اختلافهم وقفوا على سند جلي أوجبهم الاتفاق. وأمّا إذا كان بعد استقرار خلافهم فقد اختلف فيه، فمن لم يشترط في الإجماع انقراض العصر، منهم من قال: بامتناعه. ومنهم من قال: بجوازه، وهو ليس بحجة. ومنهم من قال: بجوازه، وهو حجة. ومن شرط ذلك قال هو إجماع. وهذه المسألة كالتي قبلها اختلافاً واحتجاجاً واعتراضاً وجواباً. إلا أن كون هذا حجة أظهر من ثمة؛ لأن ههنا لا قول لغيرهم على خلاف ما اتفقوا عليه حتى يلزم أن لا يكون اتفاقهم اتفاق كل الأمة بخلاف ثمة، فإن أهل العصر الثاني بعض الأمة؛ لأن لغيرهم قولاً على خلاف ما اتفقوا عليه. ص ــــ مسألة: اختلفوا في جواز عدم علم الأمة بخبر أو دليل راجح إذا عمل على وفقه. المجوّز: ليس إجماعاً، كما لو لم يحكموا في واقعة. النافي: اتبعوا غير سبيل المؤمنين.

- المسألة السابعة عشرة: الخلاف في جواز عدم علم الأمة بخبر أو دليل راجح

ش ــــ المسألة السابعة عشرة: إذا كان في الواقع دليل أو خبر يقتضي حكماً على المكلفين، وليس لذلك الحكم دليل آخر، لا يجوز للأمة عدم العلم به؛ لأنه لا يخلو إمّا أن يعمل بذلك الحكم، أو لا. فإن عُمِلَ به كان عملاً بلا دليل، وهو لا يجوز. وإن لم يُعْمَل به كان تركاً للحكم المتوجه على المكلف. وإذا كان في الواقع دليل أو خبر راجح، أي بلا معارض وقد عُمِلَ على وفق ذلك الدليل أو الخبر بدليل آخر، فهل يجوز عدم علم الأمة به، أو لا؟ فمنهم من جوزه. واحتج بأن اشتراك جميعهم في عدم العلم بذلك الدليل أو الخبر الراجح لم يوجب محذوراً؛ إذ ليس ذلك إجماعاً يوجب المتابعة، بل عدم علمهم بذلك كعدم حكمهم في واقعة لم يحكموا فيها بشيء، فجاز أن يسعى غيرهم في طلب الدليل أو الخبر ليعلم. ومنهم من نفاه. واحتج بأنه لو جاز عدم علم جميعهم بذلك الدليل أو الخبر حرم تحصيل العلم به، لكن لا يحرم تحصيل العلم أبداً. وبيان الملازمة: أنه حينئذٍ يكون عدم علمهم به سبيل المؤمنين، فلو طلبوا العلم لاتبعوا غير سبيل المؤمنين. وردّ: بأن السبيل ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو عمل. وعدم العلم ليس مختاراً لأحد، فلا يكون سبيلاً لهم. ص ــــ مسألة: المختار امتناع ارتداد الأمة سمعاً. لنا: دليل السمع.

- المسألة الثامنة عشرة: امتناع ارتداد كل الأمة

واعترض: بأن الارتداد يخرجهم. وردّ: بأنه يصدق أن الأمة ارتدت، وهو أعظم الخطأ. ش ــــ المسألة الثامنة عشرة: المختار امتناع ارتداد كل الأمة سمعاً؛ فإن الأدلة السمعية دالة على امتناع اجتماعهم على الضلال والخطأ، ولا ضلال وخطأ أعظم من الارتداد ـــــ والعياذ بالله. واعترض: بأنها تدل على امتناع الأمة على ذلك. وهم بالارتداد خرجوا عنها. وأجاب بما معناه: أنهم إذا ارتدوا صدق عليهم أنهم أجمعوا على الارتداد وهو أعظم خطأ. وتحقيقه أن زوال اسم الأمة عنهم إنما هو بعد الارتداد بالذات، لكونه معلول الارتداد، فعند حصول الارتداد هم من الأمة حقيقة. ص ــــ مسألة: مثل قول الشافعي: إن دية اليهودي ثلث. لا يصح التمسك بالإجماع فيه.

- المسألة التاسعة عشرة: إذا اختلف في ثبوت الأقل والأكثر، فهل يصح دعوى الإجماع في إثبات الأقل؟

قالوا: اشتمل الكامل، والنصف عليه. قلنا: فأين نفي الزيادة؟ فإن أبدى مانع أو نفي شرط أو استصحاب. فليس من الإجماع في شيء. ش ــــ المسألة التاسعة عشرة: إذا اختلف في [97/ب] ثبوت الأقل والأكثر في مسألة، لا يصح دعوى الإجماع في إثبات الأقل. وذلك مثل قول الشافعي ـــــ رحمه الله ـــــ: دية اليهودي ثلث دية المسلم، لا يصح أن يتمسك في إثباته بالإجماع؛ لأن دعواه تشتمل على أمرين: أحدهما: إن كان مجمعاً عليه، وهو الثلث، فالآخر ليس كذلك وهو نفي الزيادة. ومنهم من صحح ذلك، وقال: ديته إمّا مثل دية المسلم أو نصفه أو ثلثه بالإجماع، والكامل والنصف يشتمل على الثلث، فالقول بالثلث ثابت بالإجماع. وأجاب عنه بدليل المانعين، وهو أن الثلث وإن كان مجمعاً عليه، لكن نفي الزيادة ليس كذلك، فالمجموع لا يكون مجمعاً عليه. والقائل بالثلث مطلوبه مركب من الأمرين جميعاً. فإن قال: نفي الزيادة ليس بثابت باعتبار مانع منها، أو بانتفاء شرط، أو هو ثابت بالاستصحاب لم يكن حينئذٍ نفي الزيادة بالإجماع. وهذا إنما يتم إذا كان مطلوب الخصم إثبات الأمرين بالإجماع، أمّا إذا كان

- المسألة العشرون: العمل بالإجماع المنقول بنقل الآحاد

مطلوبه إثبات الثلث به، ويلزم من ذلك نفي الزيادة فإنه لا يتم. ص ــــ مسألة: يجب العمل بالإجماع بنقل الواحد. وأنكره الغزالي. لنا: نقل الظني موجب [فا] لقطعي أولى. وأيضاً: نحن نحكم بالظاهر. قالوا: إثبات أصل بالظاهر. قلنا: التمسك الأول قاطع، والثاني مبني على اشتراط القطع. والمعترض مستظهر من الجانبين. ش ــــ المسألة العشرون: الإجماع المنقول بنقل الآحاد إلينا يجب العمل به عند الأكثرين. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة، والغزالي: لا يجب العمل به. واحتج للأكثرين: بأن الظني، كالخبر إذا نقله الآحاد وجب العمل به فالقطعي، وهو الإجماع أولى. وفيه نظر؛ لأن الخبر من حيث الأصل كالإجماع، والظن وقع في طريقه فلا فرق بينهما، وبطل الأولية. وبقوله ـــــ عليه الصلاة والسلام ـــــ: {{نحن نحكم بالظاهر}}، فإنه يدل على

أنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ أنه يحكم بالظاهر، فوجب على الأمة أن يحكموا ـــــ أيضاً ـــــ بالظاهر؛ لأن الحديث صدر في معرض تعليم الأحكام، والظاهر يتناول الإجماع المنقول بطريق الآحاد؛ إذ اللام للاستغراق. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن اللام للاستغراق، ألا ترى أنه لم يحكم بشهادة الفرد العدل من أصحابه. فدل على أن المراد به معهود ليس نقل الإجماع لا محالة، بل الظاهر من الحديث نفي أن يحكم أحدٌ بما يعلمه الله من باطن الأمر ما لم يظهر ذلك ظهوراً شرعياً نفياً للتهمة. وقال المنكرون: الإجماع المنقول إلينا بالآحاد أصل من أصول الفقه وكل ما هو كذلك لا يثبت بالظاهر؛ لأنه قاعدة علميّة يتوصل بها إلى المسائل العلمية،

- المسألة الحادية والعشرون: في إنكار حكم الإجماع القطعي

والظاهر لا يفيد العلم. وما ذكرتم من الدليلين ظاهر فلا يفيد المطلوب. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه قاعدة علميه، لاحتماله النقيض. سلمناه، ولكن يتوصل بها إلى مسائل ظنية، والظن فيها كاف. وأجاب المصنف: بأن التمسك الأول، وهو القياس الذي يستدل به أولاً قطعي؛ لأنه قياس بطريق الأولى، فلا يكون الإثبات به إثباتاً بالظاهر وفيه نظر؛ لأن الأولوية باطلة بما تقدم. والتمسك الثاني ـــــ وهو الحديث ـــــ ظاهر، وإثبات الأصل بالظاهر مبني على اشتراط القطع في أدلة الأصول. فمن شرط القطع فيها منع إثبات الأصل بالظاهر، فمنع إثبات الإجماع بالحديث المذكور. ومن لم يشترط لم يمنع. ثم قال المصنف: والمعترض مستظهر من الجانبين، أي متمكن من منع دليل النافي والمثب. أمّا المثبت، فبأن يقول: لا نسلم أن كل دليل ظني يجب العمل به. وأما النافي، فبأن يقول: لا نسلم امتناع ثبوت الأصل بالظواهر. ص ــــ مسألة: إنكار حكم الإجماع القطعي. ثالثها المختار أن نحو العبادات الخمس، يكفر. ش ــــ المسألة الحادية والعشرون في أن إنكار الإجماع القطعي يوجب الكفر، أو لا. وفيه ثلاثة مذاهب. الأول: أنه يوجبه مطلقاً؛ لأن إنكاره يستلزم إنكار سند قاطع، وذلك يستلزم

- المسألة الثانية والعشرون: التمسك بالإجماع فيما لا تتوقف صحته عليه

إنكار صدق الرسول الموجب للكفر. وفيه نظر؛ لأن إنكاره لا يستلزم إنكار سند قاطع، لكونه ليس بشرط. والثاني: أنه لا يوجبه مطلقاً؛ لأن أصل أدلة الإجماع لا تفيد القطع، فالفرق كذلك. والثالث، وهو مختار المصنف: أنه إن كان الإجماع في أمر عُلِمَ قطعاً كونه من الدين، كالعبادات الخمس، كان إنكار حكمه كفراً وإلا فلا. وفيه نظر؛ لأن الإجماع الظني ـــــ أيضاً ـــــ إنكار حكمه في مثل ذلك يكون كفراً. فلم يكن ذلك من جهة الإجماع بل من جهة ما دلّ قطعاً على كونه من أمور الدين. وعلى هذا كان القطعي والظني سواء، فتخصيصه بالقطعي هدر. ص ــــ مسألة التمسك بالإجماع فيما لا تتوقف صحته عليه، صحيح. كرؤية الباري، ونفي الشريك. ولعبد الجبار في الدنيوية قولان. لنا: دليل السمع. ش ــــ المسألة الثانية والعشرون: التمسك بالإجماع إنما يصح فيما لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به، لئلا يدور. وذلك مثل رؤية الباري، ونفي

الشريك. فإن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم بكونه مرئياً وواحداً؛ لإمكان أن تعلم حجية الإجماع قبل أن يعلم كل منهما. وللقاضي عبد الجبار في الأمور الدنيوية، مثل الآراء والحروب في صحة التمسك به قولان. قال المصنف: لنا، أن الدليل السمعي دلّ على التمسك به مطلقاً، فوجب المصير إليه؛ لأن الأصل عدم التقييد. * ... * ... *

- اشتراك الكتاب والسنة والإجماع في السند والمتن

في السند والمتن ص ــــ ويشترك الكتاب والسنة والإجماع في السند والمتن. فالسند: الإخبار عن طريق المتن. والخبر قول مخصوص للصيغة والمعنى. فقيل: لا يحد لعسره. وقيل: لأنه ضروري من وجهين: أحدهما: أن كل أحد يعلم أنه موجود ضرورة. فالمطلق أولى. والاستدلال على أن العلم ضروري، لا ينافي كونه ضرورياً. بخلاف الاستدلال على حصوله ضرورة. ورُدّ بأنه يجوز أن يحصل ضرورة [ولانتصوره] أو بتقدم تصوره. والمعلوم ضرورة ثبوتها أو نفيها. وثبوتها غير تصورها. الثاني: التفرقة بينه وبين غير ضرورة]. وقد تقدم مثله. ش ــــ لما فرغ من المباحث المخصوصة بكل واحد من الأدلة الثلاثة شرع في المباحث المشتركة بينها فقال: {{ويشترك الكتاب والسنة والإجماع في السند والمتن}}. فالسند [98/ب] الإخبار عن طريق المتن وذلك نوعان:

- الخبر

التواتر، والآحاد. ولما كان السند يحصل بالإخبار احتاج إلى ذكر الخبر فقال: {{والخبر قول مخصوص الصيغة والمعنى}}. قيل: معناه اسم لقول له صيغة ومعنى مخصوصان. وفيه نظر؛ لأنه لا يفيد تمييزاً، فإن الطلب ـــــ أيضاً ـــــ كذلك. والظاهر أن المراد أنه يطلق على الصيغة والمعنى. فعلى الصيغة، كقولك: زيد قائم. وعلى المعنى أي الكلام النفسي. والصيغة أكثر، ولهذا يتبادر إلى الذهن. وقد يطلق على الإشارة الحالية مجازاً كما في قوله: وكم لسواد الليل عندك من يدٍ تُخَبّرُ أنَّ المانوية تكذب ولكن عبارة المصنف لا تساعده. واختلف الناس في تحديده: فقيل: لا يمكن تحديده لعسره. كما قيل في العلم. وقال فخر الدين الرازي ـــــ رحمه الله ـــــ: لا يحد؛ لأنه ضروري بوجهين: الأول: أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه موجود، أي يعلم معنى قوله: أنا

موجود، من حيث وقوع النسبة على وجه يحتمل الصدق والكذب، وهو خبر خاص. فمطلق الخبر الذي هو جزؤه أولى أن يكون ضرورياً. فإن قيل: الاستدلال على أن مطلق الخبر ضروري ينافي دعوى ضروريّته؛ لأن الضروري هو الذي لا يتوقف على دليل ونظر. أجاب عن ذلك بقوله: {{والاستدلال على أن العلم ضروري}}. وتقريره؛ أنا استدللنا على أن العلم بالخبر ضروري، لا على حصول الخبر ضرورة، والاستدلال على أن العلم بالخبر ضروري، لا ينافي كون الخبر ضرورياً؛ لأ [ن] توقف ضرورة العلم بالخبر على الدليل والنظر لا يستلزم توقف الخبر عليهما. بخلاف الاستدلال على حصول الخبر ضرورة، فإنه يكون منافياً لكون الخبر ضرورياً. وحاصله أنه يجوز أن يكون الشيء ضرورياً وطريق العلم بضروريته كسبية. وأجاب المصنف عن دليل الإمام: بأنه عُلِمَ حصول الخبر ضرورة، ولا يلزم من حصوله ضرورة تصوره، أو تقدم تصوره، فإن حصول الشيء لا يستلزم تصوره، والنزاع في تصور الخبر لا في حصوله. فإن قيل: إذا كان العلم بحصول الخبر ضرورياً، كان تصوره كذلك؛ لأن المعلوم ضرورة حينئذٍ ثبوت النسبة أو نفيها، والعلم بذلك عن تصوره، وهذا بناءً على أن الوجود زائد على الماهية في الذهن والخارج، وقد تقدم مثله في صدر الكتاب. والوجه الثاني: أنا ندرك بالضرورة التفرقة بين الخبر وغيره. والتفرقة بين

الشيئين لا يكون إلا بعد معرفتهما فيكون تصورهما بديهياً؛ لأن السابق على البديهي أولى أن يكون بديهياً. ورُدّ بأن التفرقة لا تقتضي التصور من حيث الحقيقة. وقيل: حوالة المصنف غير رابحة؛ لأنه لم يتقدم في هذا المختصر مثل هذا الدليل.

- تعريف الخبر

تعريف الخبر ص ــــ قال القاضي والمعتزلة: الخبر الكلام الذي يدخله الصدق والكذب. واعترض: بأنه يستلزم اجتماعهما، وهو محال [99/أ] لا سيّما في خبر الله. أجاب القاضي: بصحة دخوله لغة. فورد أن الصدق: الموافق للخبر، والكذب نقيضه. فتعريفه به دور. ولا جواب عنه. وقيل: التصديق أو التكذيب، فيرد الدور. وأن الحد يأتي {{أو}}. وأجيب: بأن المراد قبول أحدهما. وأقر بها قول أبي الحسين: كلام يفيد بنفسه نسبة. قال: {{بنفسه}} ليخرج نحو {{قائم}}؛ لأن الكلمة عنده كلام، وهي تفيد نسبة مع الموضوع. ويرد عليه باب {{قم}} ونحوه؛ فإنه كلام يفيد بنفسه نسبة، إمّا لأن] القيام [منسوب، وإمّا لأن الطلب منسوب. والأولى: الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية. ونعني الخارج عن كلام النفس.

فنحو طلبت القيام، حكم بنسبة لها خارجي، بخلاف {{قم}}. ش - قال القاضي والمعتزلة في تعريف الخبر: هو الكلام الذي يدخله الصدق والكذب. فالكلام - وهو ما تضمن كلمتين بالإسناد - جنس. وقوله: {{الذي يدخله الصدق والكذب}} يخرج الإنشاءات. واعترض على هذا التعريف: بأنه يستلزم اجتماع الصدق والكذب في كل خبر؛ لأن الواو يقتضي الجمع. لكن اجتماعهما محال؛ لأن الخبر قد يكون صادقاً ليس إلاّ، كأخبار الله، وقد يكون كاذباً كذلك كخبر مسيلمة عن نبوته. وأجاب القاضي: بأن الخبر الصادق جارٍ دخول الكذب عليه من حيث مفهومه لغة، مع قطع النظر عن خصوصية المادة. وكذا يصح دخول الصدق على الخبر الكاذب من حيث المفهوم لغة، فسقط الاعتراض. وورد عليه: أن الصدق: هو الخبر الموافق للمخبر، والكذب نقيضه، أي الخبر الغير الموافق للمخبر. فيتوقف الصدق والكذب على الخبر فتعريف الخبر بهما دور. قال المصنف: {{ولا جواب عن لزوم الدور}}. وفيه نظر: لجواز أن يكون التعريف لفظياً. فيقال: نحن نعلم أن نوعاً من الكلام يوصف بدخول الصدق والكذب فيه، ونوع لا يوصف، ولا يعلم بأن أيّهما يسمى خبراً. فقال: الخبر هو الذي يدخله الصدق والكذب.

وفي عبارة المصنف تسامح؛ لأنه عرف الصدق بالموافق للمخبر وليس تظاهره مراد بالضرورة. فإن كان مراده لاعتقاد المخبر، فهو مذهب مرجوح. وإن كان المراد بالمخبر الواقع فليس فيه دلالة عليه. وقيل في تعريف الخبر: إنه الكلام الذي يدخله التصديق أو التكذيب. والاعتراض الوارد على {{الواو}} ساقط، ولكن الدور باقٍ؛ لأن التصديق هو الإخبار عن كون المتكلم صادقاً، فتوقف معرفته على الصادق، والصادق على الصدق، والصدق على الخبر وفيه الدور بتوقف الشيء على نفسه ثلاث مراتب. ويرد ـــــ أيضاً ـــــ أنه يشتمل على {{أو}} والحد يأباه. وأجيب بأن المراد أن الخبر يدخله أحدهما لا بعينه على التعيين وليس في ذلك تردد، بل التردد في دخول أيهما على التعيين وهو في الحد غير معتبر. قال المصنف: وأقرب الحدود المذكورة للخبر قول أبي الحسين البصري: كلام يفيد بنفسه نسبة [99/ب] فالكلام كالجنس. وقوله: {{يفيد بنفسه}} يخرج {{قائم}} في {{زيد قائم}}؛

لأ [ن] {{قائماً}} كلام؛ لأن الكلمة عنده كلام، ولكنه لا يفيد بنفسه بل بواسطة الموضوع. قوله: {{نسبة}} يخرج الإنشاءات؛ لأن المراد بالنسبة إضافة أمرٍ إلى أمر بنفي أو إثبات، بحيث يحسن السكوت عليه. قال: ويرد عليه باب {{قم}} أي فعل الأمر ونحوه، كالنهي وغيره، فإنه يصدق عليه أنه كلام يفيد بنفسه بنسبة؛ لأن {{قم}} يفيد بنفسه نسبة القيام إلى المخاطب، أو نسبة الطلب إلى الآمر. وفيه نظر؛ لأن المراد بالنسبة إضافة أمرٍ إلى أمرٍ، وليس في {{قم}} ذلك؛ لأن الإضافة تقتضي وجود المضاف وهو الأمر غير موجودة، وكذلك نسبة الطلب إلى الآمر ليست مما يدخل تحت قولهم: يحسن السكوت عليه. ثم قال: {{والأولى}} أي أولى الحدود: الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية. والمراد بالكلام: ما تضمن كلمتين بالإسناد. فيخرج عنه الكلمة، والمركب الإضافي والتقييدي؛ لأنه لا كلام فيها كذا قالوا. وفيه نظر؛ لأنه احتراز بالجنس؛ والمراد بالنسبة الخارجية الأمر الخارج عن كلام النفس المتعلق به هو بالمطابقة، واللامطابقة {{كزيد قائم}} فإنه يدل على حكم في النفس، وهو إسناد القيام إلى {{زيد}} بالإثبات، ويسمى ذلك كلام النفس، وله متعلق في الخارج يطابقه إن كان صادقاً، ولا يطابقه إن كان كذباً فيدخل فيه {{طلبت

القيام}}؛ لأنه أخبر عن حكم موجود في النفس] في الزمان الما [ضي وله خارج، وهو الطلب الخارجي. فإن تقدم له طلب فيه كان صادقاً وإلا كان كاذباً. بخلاف {{قم}} فإنه ليس لنسبته الذهنية خارج يطابقه أو لا يطابقه فلا يكون خبراً. وفيه نظر؛ لأنه منقوض بمثل {{أطلب القيام}} فإنه خبر لا محالة، وليس له خارج {{كقم}}.

- تسمية غير الخبر إنشاء وتنبيها

تسمية غير الخبر إنشاءً وتنبيهاً ص ــــ ويسمى غير الخبر إنشاءً وتنبيهاً. ومنه الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والترجي، والقسم، والنداء. والصحيح أن نحو {{بعت}} و {{اشتريت}} و {{طلقت}} التي يقصد بها الوقوع، إنشاء؛ لأنها لا خارج لها. ولأنها لا تقبل صدقاً ولا كذباً. ولو كان خبراً لكان ماضياً ولم يقبل التعليق. ولأنا نقطع بالفرق بينهما، ولذلك لو قال للرجعية: طلقتك سئل. ش ــــ الكلام الذي هو غير الخبر، يسمى: إنشاءً وتنبيهاً. جعل الإنشاء والتنبيه كالمترادفين، فجاز أن يكون الضمير في قوله: {{ومنه}} راجعاً إلى الإنشاء والتنبيه وغيره. قال: الكلام إن احتمل الصدق والكذب فهو خبر. وإلا فهو إنشاء، والإنشاء

إن وضع لطلب الفعل فهو أمرٌ، وإن وضع لطلب الكف فهو نهي، وإن وضع لطلب الإفهام فهو استفهام. وإن لم يوضع لطلب فهو التنبيه، ويندرج فيه التمني، والترجي، والقسم، والنداء. واختلفوا في أن الصيغ التي تستعمل في الشرع لتستحدث بها الأحكام، مثل {{بعت}} و {{اشتريت}} و {{طلقت}} أخبار وإنشاء؟ قال المصنف: الصحيح أنه إنشاء، وذلك لأربعة أوجه: الأول: أنه محكوم فيه بنسبة خارجية؛ لأنه لا [100/أ] خارج له. الثاني: أنه غير قابل للصدق والكذب، وهو خاصة متساوية للخبر فإذا انتفى، انتفى. وفيه نظر؛ لأن دعوى التساوي دعوى باطلة. الثالث: أنه لو كان خبراً كان ماضياً؛ لأن الصيغة صيغة الماضي ولم يوجد {{. . .}} ولو كان ماضياً لم يقبل التعليق؛ لأنه توقيف وجود أمرٍ على غيره والماضي وجد ومضى، فلا يتوقف وجوده على شيء. الرابع: أنا نقطع بالفرق بين {{طلقت}} إذا قصد به وقوع الطلاق، وبين {{طلقت}} إذا قصد بها الإخبار، ولهذا إذا قال الرجل للمطلقة الرجعية: طلقتك. سئل عنه، ماذا يريد الإيقاع أو الإخبار عن طلاق سابق، ولولا الفرق لما سُئِلَ.

- تقسيم الخبر إلى صدق وكذب

تقسيم الخبر إلى صدق وكذب ص ــــ الخبر صدق وكذب؛ لأن الحكم إمّا مطابق للخارجي، أو لا. الجاحظ: إمّا مطابق مع الاعتقاد ونفيه، أو لا مطابق مع الاعتقاد ونفيه. فالثاني فيهما ليس بصدق ولا كذب؛ لقوله: {افترى على الله كذباً أم به جنّة}. والمراد الحصر، ولا يكون صدقاً؛ لأنه لا يعتقدونه. وأجيب بأن المعنى: افترى أم لم يفتر، فيكون مجنوناً؛ لأن المجنون لا افتراء له] أو ا [قصد أم لم يقصد للجنون. ش ــــ لما فرغ من تعريف الخبر بأقسامه، وله تقسيمات باعتبارات ستذكر. ينقسم إلى صدق وكذب، ولا واسطة بينهما عند الجمهور؛ لأن الحكم الذي هو مدلول الخبر، إمّا أن يكون مطابقاً للواقع، أو لا. فإن كان فهو صدق، وإلا فهو كذب. وقال الجاحظ: ينقسم إلى صادق وكاذب، وإلى ثالث ليس

إياهما؛ لأن الخبر إمّا أن يكون مطابقاً، أو لا. فإن كان، فإمّا أن يكون معه اعتقاد المطابقة، أو لا. والثاني إمّا أن يكون معه اعتقاد اللا مطابقة، أو لا. وإن لم يكن فإمّا أن يكون معه اعتقاد اللامطابقة، أو لا. والثاني إمّا أن يكون معه اعتقاد المطابقة، أو لا. فذلك ستة أقسام: الأول منها: وهو المطابق للواقع والاعتقاد ــــ صدق. والرابع: وهو غير المطابق له مع اعتقاد عدم المطابقة ــــ كذب. والأربعة الباقية: ليست بصدق ولا بكذب. مثال الصدق: {{زيد في الدار}} إذا كان فيها مع اعتقاد أنه فيها. ومثال الكذب: {{زيد في الدار}} إذا لم يكن فيها مع اعتقاد أنه ليس فيها. احتج بقوله ـــ تعالى ـــ: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةُم}. ووجهه أن النبي ــــ ? ــــ لما أخبر عن نبوته حصر الكفار إخباره ذلك بطريق منع الخلو في الافتراء وإخبار من به جنة. والافتراء هو الكذب. والإخبار حالة الجنون ليس بكذب؛ لأنهم أوقعوه قسيماً له، ولا صدق؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه.

وفيه نظر؛ لأن الاعتبار لاعتقاد المخبر لاعتقاد السامعين. وأجاب المصنف: بأن المعنى افترى أم لم يفتر فيكون مجنوناً؛ لأن المجنون لا افتراء له قصد أو لم يقصد؛ للجنون. وحاصل معناه: أن الترديد بين الكذب، وغير الخبر؛ لأن مؤداه افترى بل هو مجنون لم يفتر؛ لأنه يستلزم القصد، والمجنون لا قصد له. فكان معناه: إخباره كاذب أو ليس [100/ب] بخبر؛ لأن به جنّة. والمجنون قصد أم لم يقصد لا معتبر بخبره. وفيه نظر؛ لأن عبارته لا تساعده؛ ولأنه جعل الترديد بين الافتراء وعدمه، وأخبر بأن المجنون لا افتراء له قصد أو لم يقصد؛ لجنونه. فيكون معناه: افترى أم لم يفتر إن كانت متصلة، بل لم يفتر إن كانت منقطعة لأنه مجنون، ولا يلزم من ذلك أنه لم يخبر؛ لأن انتفاء الافتراء لجنونه لا يستلزم عدم إخباره، فلم يكن الترديد بين الافتراء وعدم الخبر. نعم لو قال: المعنى افترى أم لم يخبر؛ لأنه مجنون لا معتبر بخبره، كان أنسب وإن لم يخل عن مناقشة. والظاهر أن المعنى ـــــ والله أعلم ـــــ أتعمد الكذب أم مجنون لا يعلم ما يقوله. ص ــــ قالوا: قالت عائشة: ما كذب ولكنه وهم. وأجيب: بتأويل ما كذب عمداً. ش ــــ القائلون بالواسطة، احتجوا بقول عائشة ـــــ رضي الله عنها: ما كذب، ولكنه وهم. روى الترمذي أن ابن عمر ـــــ رضي الله عنهما ـــــ قال: إن النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ

قال: {{الميت يعذب ببكاء أهله عليه}} فقالت عائشة ـــــ رضي الله عنها ـــــ: يرحمه الله ـــــ لم يكذب، ولكنه وهم. إنما قال رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: لرجل مات يهودياً: {{إن الميت ليعذب وإنهم ليبكون عليه}}. ووجه الاستدلال: أن قولنا: {{ولكنه وهم}} يدل على أن خبر ابن عمر رضي الله عنه ـــــ لم يكن كذباً؛ لأنه وقع قسيماً للكذب بالاستدراك ولم يكن صدقاً بالضرورة، فثبت الواسطة. وأجاب المصنف: بأن معناه: ما كذب عمداً نفت الكذب المتعمد، ولا يلزم من انتفائه انتفاء المطلق. ولقائل أن يقول: هذا الجواب إنما يكون واقعاً إذا كان {{وهم}} بمعنى كذب غير متعمد، وليس ذلك معناه اللغوي، ولا الاصطلاحي. وقد جاء في رواية عمرة عن عائشة ـــــ وقد ذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول:

إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه ـــــ أنها قالت: {{يغفر الله لأبي عبد الرحمن أمّا إنه لم يكذب، ولكنه نسى، أو أخطأ}}، ولا شك أن الخطأ والنسيان ليس عبارة عن كذب غير عمد فكأن الدلالة لما كانت لجاحظ. ص ــــ وقيل: إن كان معتقداً فصدق وإلا فكذب؛ لقوله: {إِنَّ المُنَافِقِينَلَكَاذِبُونَ (1)}. وأجيب: لكاذبون في شهادتهم. وهي لفظية. ش ــــ ومن الناس من ذهب إلى أن الخبر منحصر في الصدق، والكذب، لكن لا على الوجه الذي اعتبره الجمهور. وتقريره: أن الخبر إمّا أن يكون مطابقاً ومعتقداً للمخبر أو لا. فإن طابق واعتقد كان صدقاً، وإن لم يكن كذلك سواء كان انتفاؤه بانتفاء المطابقة، أو الاعتقاد، أو كليهما كان كذباً. والصدق بهذا التفسير عين الصدق] و [بتفسير الجاحظ. وأمّا الكذب بهذا التفسير فهو أعمّ من الكذب بتفسير الجاحظ. واستدلوا بقوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِذَا جَاءَكَالمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُإِنَّكَلَرَسُولُاللَّهِوَاللَّهُ يَعلمإِنَّكَلَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشهَدُإِنَّالمُنَافِقِينَلَكَاذِبُونَ (1)}. كذب الله المنافقين في إخبارهم عن رسالة محمد ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وإن طابق الواقع حيث

لم يكن معتقداً لهم فدل [101/أ] على اعتبار اعتقاد المطابقة. وأجاب المصنف بقوله: {{لكاذبون في شهادتهم}} ومعناه أن المتقدم على التكذيب خبران: أحدهما: قوله: {{نشهد}}. والثاني: قوله {{إنك لرسول الله}}. والتكذيب متوجه إلى الأول؛ لأن شهادتهم وإن طابقت الواقع لكنهم لم يعتقدوا المطابقة، فكانت خبراً كذباً. هذا ما قيل في توجيه الجواب. وفيه نظر؛ لأنه تقرير لمذهب الخصم، لأن مذهبه أن صدق الخبر إنما يكون بمطابقة الواقع، وأن يكون معتقداً المخبر، وإذا انتفى أحدهما، أو كلاهما كان كذباً على أن كون (نشهد) إخباراً يتوجه إليه التكذيب ممنوع، بل هو إنشاء للشهادة. قوله {{وهي لفظية}} أي المنازعة؛ لأنه إن اعتبر اعتقاد المطابقة في الصدق، والكذب كان عدم الاعتقاد واسطة وإلا فلا.

- تقسيم الخبر إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه

تقسيم الخبر إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه ص ــــ وينقسم إلى ما يعلم صدقه، وإلى ما يعلم كذبه، وإلى ما لا يعلم واحد منهما. فالأول: ضروري بنفسه، كالمتواتر. وبغيره: كالموافق للضروري. ونظري، كخبر الله، ورسوله، والإجماع، والموافق للنظري. والثاني: المخالف لما عُلم صدقه. والثالث: قد يظن صدقه، كخبر العدل، وقد يظن كذبه، كخبر الكذاب. وقد يشك، كالمجهول. ومن قال: كل خبر لم يعلم صدقه فكذب قطعاً؛ لأنه لو كان صدقاً لنصب عليه دليل، كخبر مدعي الرسالة، فاسد بمثله في النقيض. ولزوم كذب كل شاهد] و [كفر كل مسلم. وإنما كذب المدعي للعادة. ش ــــ هذه قسمة أخرى للخبر باعتبار المعلوميّة وعدمها.

فإنه ينقسم إلى خبر يعلم صدقه، وإلى خبر يعلم كذبه، وإلى خبر لا يعلم شيء منهما. وما عُلم صدقه إمّا ضروري، أو غيره والضروري إمّا ضروري بنفس الخبر، أي بتكرره من غير نظر، كالمتواتر، أو بغير نفس الخبر، بل لكونه موافقاً للضروري، والمراد بالموافق للضروري ما يكون متعلقه معلوماً لكل أحدٍ من غير كسب وتكرر. زغير الضروري إمّا نظري، كخبر الله ـــــ تعالى ـــــ؛ وخبر الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ، والإجماع. فإن كل واحد منهما عُلم صدقه بالنظر والاستدلال. وإمّا موافق للنظر، وهو الخبر الذي عُلم متعلقه بالنظر، كقولنا: {{العالم حادث}}. وما عُلم كذبه، هو الخبر المخالف لما عُلم صدقه بأحد الاعتبارات المذكورة، بأن يكون مخالفاً لضرورة العقل، أو نظره، أو الحسّ أو خبر التواتر، أو النص القاطع، أو مخالف للإجماع القاطع. وما لا يعلم واحد منهما، قد يظن صدقه، كخبر العدل. وقد يظن كذبه كخبر الفاسق، وقد يشك في صدقه وكذبه كخبر مجهول الحال. وقال قوم: كل خبر لم يعلم صدقه لا بالضرورة ولا بالنظر فهو كذب قطعاً؛ لأنه لو كان صدقاً لما أخلاه الله ـــــ تعالى ـــــ عن نصب دليل كاشف عن صدقه، كخبر مدعي الرسالة؛ فإنه إذا كان صدقاً نصب الله عليه المعجزة، وإذا كان كذباً لم ينصب.

- تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد

وقال المصنف: إنه فاسد؛ لأنه معارض بمثله في نقيضه، قال: لو كان كذباً، لما لأخلاه [101/ب] الله عن نصب دليل كاشف عن كذبه. ولقائل أن يقول: ترك الدليل كافٍ لبيان كذبه، ولم يعكس؛ لأن الكذب أولى بالترك. قال: ولزوم كذب كل شاهد، وكل مسلم، يعني إذا لم يعلم صدقه. وفيه نظر؛ لجواز أن يكون هذا القائل من الخطابية، والكذب عندهم كفر. فكان الإسلام دليلًا على الصدق. وقوله: {{وإنما كذب المدعي للعادة}} منع الملازمة، وما ذكر في بيانها من كذب مدعي الرسالة لا يدل على صدقها؛ لأن كذبه ليس لأجل عدم نصب دليل على صدقه، بل لأجل العادة؛ فإن الرسالة عن الله على خلاف المعتاد، والعادة تقضي بكذب الخبر المخالف للعادة من غير دليل، بخلاف الإخبار عن الأمور المعتادة فإن العادة لا تقضي بكذبه من غير دليل. ولقائل أن يقول: المراد بناصب الدليل إن كان هو الله ـــــ تعالى ـــــ فلابد أن يكون المراد كل خبر عن الله لم يعلم صدقه فهو كذب؛ لأن الله ليس بعاجز عن نصب دليل على صدق خبر كان عنه. وإن كان أعم فذكر مدعي النبوة ليس بمناسب للمقام. ص ــــ وينقسم إلى متواتر، وآحاد. فالمتواتر خبر جماعة مفيد بنفسه للعلم بصدقه. وقيل: بنفسه، ليخرج ما عُلِمَ صدقهم فيه بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عنه عادة وغيرها.

ش ــــ وهذا تقسيم آخر للخبر باعتبار طريق الوصول إلى المخبر له. وقسمه إلى متواتر وآحاد، ولم يذكر المشهور، فإما الاعتبار أنه نوع من المتواتر، أو أنه من الآحاد عنده. وعرّف المتواتر: بأنه خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه. فقوله: {{خبر}} كالجنس، وبإضافة إلى الجماعة خرج خبر الواحد. وبقوله: {{مفيد العلم}} خبر جماعة يفيد الظن. وإنما قال: {{بنفسه}} ليخرج الخبر الذي عُلِمَ صدق المخبرين فيه بسبب القرائن الزائدة على الشرائط المعتبرة في المتواتر، كما سيجئ، وهي المرادة بقوله: {{على ما لا ينفك عنه المتواتر}}. وقوله: {{عادة وغيرها}} أقسام القرائن الزائدة، فإنها قد تكون عادية كالقرائن التي تكون على من يخبر عن موت ولده من شق الجيوب وغيره. وقد تكون عقلية، كخبر جماعة تقتضي البديهة أو الاستدلال صدقه. وقد تكون حسية، كالقرائن التي تكون على من يخبر عن عطشه. ولقائل أن يقول: إن أريد بقوله: {{خبر جماعة}} خبرهم دفعة فليس بصحيح؛ لأنا قاطعون بأن ما نعلمه بالتواتر لم يخبرنا به دفعة، وإن أريد خبرهم واحداً

- خلاف السمنية في إفادة التواتر العلم

بعد واحد، فلا فرق بينه وبين الآحاد في زماننا في الأحاديث. ص ــــ وخالف السمنية في إفادة التواتر. وهو بهت؛ فإنا نجد العلم ضرورة بالبلاد النائية، والأمم الخالية والأنبياء، والخلفاء بمجرد الأخبار. وما يوردونه من أنه كأكل طعام واحد، وأن الجملة مركبة من الواحد. ويؤدي إلى تناقض المعلومين، وتصديق اليهود والنصارى في {{لا نبي بعدي}}، وبأنا نفرق بين الضروري وبينه ضرورة، وبأن الضروري يستلزم الوفاق، مردود. ش ــــ التعريف الذي ذكره للمتواتر إنماهو على قول العقلاء، فإن السمنية، وهم قوم من الهند ينكرون إفادة التواتر للعلم. وهو بهت، أي باطل؛ لأنا نجد العلم بمجرد الإخبار بوجود البلاد النائية في الحال، وبوجود الأمم الخالية، والأنبياء الخالية، والخلفاء الدارجة. قال بعض المحققين، منكر العلم بالتواتر سفيه لا يعرف نفسه، ولا دينه ولا دنياه. وقد أوردوا شبهاً كلها مردود؛ لأنها تشكيك في الضروريات.

قالوا: إنه، أي التواتر ـــــ كأكل طعام واحد، يعنون أن إفادة الخبر العلم موقوفة على اتفاق جمع عظيم على الإخبار به، وهو محال، كاتفاقهم على أكل طعام واحد. وهو مردود؛ لأنه لو فرض وقوعه لم يلزم محال، فكان ممكناً. وإن الجملة مركبة من الآحاد، وكل واحد لم يفد العلم فكذا الجميع. وردّ: بأن للهيئة الاجتماعية تأثيراً كقوى الحبل. وأنه لو أفاد العلم تناقض المعلومان إذا تواتر خبران بوجود شيء في وقت وعدمه فيه. وردّ: بأنه محال. وأنه يلزم صدق اليهود والنصارى في الإخبار عن نبيهم بأنه {{لا نبي بعدي}}. وردّ: بمنع التواتر؛ لتواتر نقيضه عن إخبار الصادق. وأنّا نفرق بين الضروري وبين المتواتر ضرورة، فإذا عرضنا على عقولنا وجود جالينوس، وأن الواحد نصف الاثنين، وجدنا الجزم بالثاني أقوى، فلو أفاد العلم تساويا في الجزم.

- الخلاف في كون العلم بصدق الخبر المتواتر ضروريا أو نظريا

وردّ: بأن الضروريات قد تتفاوت في الجزم على أن الكلام في إفادة العلم دون العلم الضروري. وأن الضروري يستلزم الوفاق. وهذا مختلف فيه. وردّ: بأن الكلام ليس في الضرورة، بل في إفادة العلم. على أن الضروري لا يستلزم الوفاق؛ فإن السوفسطائية ينكرونه. ص ــــ والجمهور على أنه ضروري. والكعبي والبصري: نظري. وقيل: بالوقف. لنا: لو كان نظرياً، لافتقر إلى توسط المقدمتين، ولساغ الخلاف فيه عقلًا. أبو الحسين: لو كان ضرورياً لما افتقر. ولا يحصل إلا بعد علم أنه من المحسوسات. وأنهم عدد لا حامل لهم. وأن ما كان كذلك ليس بكذب، فيلزم النقيض. وأجيب: بالمنع. بل إذا حصل، علم أنه لا حامل لهم، لا أنه مفتقر إلى سبق علم ذلك. فالعلم بالصدق ضروري وصورة الترتيب ممكنة في كل ضروري. قالوا: لو كان ضرورياً لعلم أنه ضروري ضرورة. قلنا: معارض بمثله. ولا يلزم من الشعور بالعلم ضرورة الشعور بصفته. ش ــــ القائلون بإفادة التواتر العلم اختلفوا في كون العلم بصدق الخبر المتواتر ضرورياً أو نظرياً.

فذهب [102/ب] الجمهور إلى أنه ضروري. وذهب الكعبي وأبو الحسين البصري: إلى أنه نظري. وتوقف فيه طائفة. استدل المصنف للجمهور بوجهين: أحدهما: أنه لو كان نظرياً لافتقر إلى توسط المقدمتين بين التواتر والعلم؛ لأن النظري ما يفتقر إلى النظر، وهو ترتيب المقدمتين. لكنه ليس كذلك؛ ولأن العوام الذين لا يعلمون النظر يقطعون بوجود بغداد وأمثاله. والثاني: أنه لو كان نظرياً لساغ، أي جاز للعقلاء الاختلاف فيه؛ إذ النظر قد يكون صواباً، وقد يكون خطأً، لكنه ليس كذلك بالاتفاق. وردّ: بأنه إنما لم يجز الاختلاف؛ لكون مقدمات نظره ضرورية، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون نظرياً. وقال أبو الحسين: لو كان العلم بصدق الخبر المتواتر ضرورياً لم يفتقر إلى

توسط المقدمتين، وهو ظاهر، لكنه مفتقر؛ لأن العلم بصدقه لا يحصل إلا بعد أن نعلم أن المخبر عنه من المحسوسات، وأن نعلم أن المخبرين جمع عظيم لا داعي لهم إلى التوافق على الكذب. ونعلم أن كل خبر عن محسوس أخبره جماعة لا داعي لهم إلى التوافق على الكذب لا يكون كذباً، ونعلم أن ما لا يكون كذباً يكون صدقاً، وهو معنى قوله: {{فيلزم النقيض}}. وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم أن العلم بصدق الخبر المتواتر يتوقف على العلم بهذه الأمور، بل إذا حصل العلم بصدقه علم بعده أنه لا داعي لهم إلى التوافق على الكذب، لا أن العلم بصدقه يفتقر إلى سبق تلك الأمور، فيكون العلم بصدق الخبر ضرورياً. فإن قيل: إذا كان العلم بصدق الخبر المتواتر ضرورياً لم يمكن صورة الترتيب فيه. أجيب: بأن صورة الترتيب ممكنة في كل ضروري، حتى في أجلى البديهيات، كقولنا: الشيء إمّا أن يكون وإمّا أن لا يكون، فإنه أمكن أن يقال: الكون واللا كون متقابلان، والمتقابلان لا يوصف بهما شيء واحد. واعلم أن ههنا مقامين: أحدهما: أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر ضروري أو نظري. والثاني: أن العلم بصدق الخبر المتواتر ضروري أو نظري. وكلام المصنف يحتملهما. فإن كان المراد الأول، فالحق قول الجمهور، وإن كان الثاني فقول أبي الحسين، فتأمل. فكان في تحرير المبحث تسامح.

وقالوا، أي القائلون بكونه نظرياً: لو كان العلم بصدق الخبر المتواتر ضرورياً لعلم أنه ضروري؛ لاستحالة حصول العلم الضروري بالشيء مع عدم الشعور بضروريته، لكنه ليس كذلك بالاتفاق. وأجاب المصنف أولاً: بأنه معارض بمثله؛ لجواز أن يقال: لو كان نظرياً لعلم أنه نظري ضرورة استحالة كون العلم نظرياً مع عدم الشعور بنظريته وللخصم أن يمنع انتفاء التالي. وثانياً: بأن حصول العلم لا يستلزم الشعور بالعلم ضرورة فضلاً عن الشعور بكونه ضرورياً، كذا قيل. ولقائل [103/أ] أن يقول: العلم بالشيء يستلزم الشعور به في وقت مّا لا دائماً، والنزاع مكابرة. وكلام المصنف يشير إلى مرتبة وراء هذه، وهو أن حصول العلم بشيء وإن استلزم الشعور بذلك العلم، لكن لا نسلم أن يستلزم الشعور بصفته؛ فإن الشيء قد يكون مشعوراً به وصفته لا يكون مشعوراً بها. وفي عبارة المصنف تسامح؛ فإنه قدم المعارضة في المناظرة على النقض التفصيلي، وذلك سوء ترتيب. ص ــــ وشرط المتواتر تعدد المخبرين [تعدداً] يمنع الاتفاق والتواطؤ مستندين الحس، مستوين في الطرفين والوسط، وعالمين، غير محتاج إليه؛ لأنه إن أريد الجميع فباطل، وإن أريد بعض فلازم ما قيل. وضابط العلم بحصولها، حصول العلم، لا أن ضابط حصول العلم سبق العلم بها.

- شرائط المتواتر

وقطع القاضي بنقص الأربعة، وتردد في الخمسة. وقيل: إثنا عشر. وقيل: عشرون. وقيل: أربعون. وقيل: سبعون. والصحيح: يختلف. وضابطه ما حصل العلم عنده؛ لأنا نقطع بالعلم من غير علم بعددٍ مخصوص، لا متقدماً و [لا] متأخراً. ويختلف باختلاف قرائن التعريف وأحوال المخبرين والاطلاع عليهما وإدراك المستمعين والوقائع. ش ــــ لما فرغ من بيان تعريفه وحكمه شرع في بيان شرائطه وهي عدة أمور متفق عليها، ومختلف فيها. فشرط بحسب المخبرين تعددهم تعدداً يمنع اتفاقهم على الكذب. وأن يكونوا في إخبارهم مستندين إلى الحسّ لا دليل عقلي. وأن يكون الطرفان والوسط سواء في التعدد، والاستناد إلى الحس وقد شرط بعضهم أن يكونوا عالمين بما أخبروا به. قال المصنف: وهو غير محتاج إليه؛ لأنه إن أريد علم جميعهم فباطل لأن بعضهم قد يكونون ظانين ويحصل العلم. وإن أريد علم بعض فهو لازم ما قيل؛ لأن الإسناد إلى الحس يوجب أن يكون المحسّون عالمين به وضابط العلم بحصول هذه الأمور حصول العلم بصدق

الخبر المتواتر فإذا حصل عُلِمَ حصولها؛ لعدم انفكاكها عن العلم به، لا أن ضابط حصول العلم به سبق العلم بهذه الأمور. والحاصل أن وجود المشروط يتوقف على وجود الشرط لا على العلم بوجوده واختلفوا في أقل عدد يحصل عنده العلم، فمنهم من عين عدداً، ومنهم لم يعين، والمعينون اختلفوا: فقطع القاضي أبو بكر: بأن الأربعة ناقص لا يحصل العلم بهم، وتردد في أن إخبار الخمسة هل يكون مفيداً، أو لا؟ فالستة يوجب العلم عنده جزماً. وقيل: أقله اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل؛ لأنه إنما خصهم بذلك العدد ليحصل العلم بخبرهم. وقيل: عشرون، لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِن يَكُن مِّنكُم عِشرُونَصَابِرُونَيَغلِبُوامِائَتَينِ}، وإنما خصهم بذلك ليحصل العلم بخبرهم. وقيل: أربعون، أخذاً من عدد أهل الجمعة. وقيل: سبعون، لاختيار موسى ـــــ عليه السلام ـــــ ذلك؛ لحصول العلم

بخبرهم [103/ب]، وهذه التمسكات كما ترى بعيدة عن المطلوب. والصحيح أن ذلك العدد غير معين، ويختلف بحسب المخبرين، والوقائع وغير ذلك. وضابطه حصول العلم، فإن كل عدد حصل عنده العلم بصدق الخبر كان عدد التواتر. والدليل على عدم تخصص عدده، القطع بحصول العلم بصدق الأخبار المتواترة بوجود البلدان النائية والأمم الماضية من غير علم بعدد مخصوص قبل العلم بصدقه وبعده. ثم إن العدد الذي يحصل العلم بصدق الخبر عنده يختلف باختلاف قرائن التعريف، وباختلاف إدراك المستمعين، لتفاوت الأذهان والقرائح، وباختلاف الوقائع في عظمها وحقارتها. ص ــــ وشرط قوم الإسلام والعدالة؛ لإخبار النصارى بقتل المسيح. وجوابه اختلال في الأصل [و] الوسط. وشرط قوم أن لا يحويهم بلد. وقوم اختلاف النسب والدين والوطن. والشيعة، المعصوم، دفعاً للكذب. واليهود أهل الذمة فيهم دفعاً للتواطؤ لخوفهم. وهو فاسد. وقول القاضي وأبي الحسين: كل عدد أفاد خبرهم علماً بواقعة لشخص [فمثله يفيد بغيرها لشخص] صحيح إن تساويا من كل وجه. وذلك بعيد عادة.

- الشرائط المختلف فيها في المخبرين

ش ــــ هذا بيان الشرائط المختلف فيها في المخبرين. شرط قوم الإسلام والعدالة في المخبرين؛ لأن الكفر والفسق مظنة الكذب والتحريف، والإسلام والعدالة يمنعانه، واختاره الإمام المحقق فخر الإسلام، وذلك لأن إخبار النصارى تواتر بصلب عيسى ـــــ عليه السلام ـــــ ولم يفد العلم. والمصنف لم يعتبره معتمداً على أن جمعاً كثيراً من الكفار والفساق إذا أخبروا بواقعة يحصل العلم بصدق خبرهم. وأجاب عن تواتر النصارى: بأنه إنما لم يفد العلم لاختلال في الأصل والوسط، والمراد بالأصل: الطبقة الأولى، أي أنهم لم يبلغوا حد التواتر فيها، ولم يكن الوسط مثل الأصل، بل كان مخالفاً له، والتساوي شرط كما تقدم. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن العلم يحصل بقول جمع كثير من الكفار والفسقة، بل هو عين النزاع، فإن من شرط ذلك لا يمكنه أن يقول بذلك. وأن قوله: {{لم يبلغوا حد التواتر}} فاسد؛ لأن الصحيح عدم تعيين عدد يعتبر البلوغ إليه. وأن العلم بذلك إمّا أن يكون حاصلاً بالآحاد وهو فاسد قطعاً، أو بالتواتر وليس إلا تواتر النصارى، والفرض أنهم في الأصل لم يبلغوا حد التواتر، فكان ثبوت عدم بلوغهم حد التواتر بإخبار من لم يبلغوا حد التواتر، فلا يفيد العلم بذلك، وإذا كان الجواب فاسداً كان الإيراد باقياً، فلا بد من شرط الإسلام.

وشرط قوم أن لا يحصرهم بلد، دفعاً لتواطئهم على الكذب. وآخرون: اختلاف نسبهم ودينهم ووطنهم كذلك. وشرط الشيعة وجود المعصوم فيهم؛ فإنه لا يتفق معهم على الكذب. واليهود [104/أ]: أهل الذلة؛ لأن الأعزاء لا يخافون. فيجوز أن يتواطؤا على الكذب، بخلاف الأذلاء، لأنهم أهل الخوف فلا يجرؤن على الكذب. قال المصنف: {{وهو أي كل فاسد، أمّا شرط عدم حصر البلد؛ فلأن أهل جامع لو أخبروا عن واقعة حصلت في الجامع إفاد خبرهم العلم فضلاً عن بلد. وفيه نظر. وأمّا اختلاف النسب والدين والوطن؛ فلأن التهمة إن حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا متفقين في الأمور المذكورة أو مختلفين فيها. وإن لم تحصل حصل العلم كيف ما كانوا. وفيه نظر: لجواز أن تحصل التهمة عند الاتفاق، ولم تحصل عند الاختلاف. وأمّا شرط اليهود، فلأن دليلهم معارض بأن أهل الذلة لخستهم لا ينتهون عن الكذب، وأهل العزم لشرفهم لا يقدمون عليه. قوله: وقول القاضي وأبي الحسين كالتذنيب لبحث التواتر. قال القاضي أبو بكر، وأبو الحسين البصري: كل عدد أفاد خبرهم علماً بواقعة لشخص فمثله يفيد في غير تلك الواقعة علماً لذلك الشخص أو لشخص آخر.

- مسألة: التواتر المعنوي

وقال المصنف: {{صحيح}}، أي قولهما صحيح إن تساويا بمعنى العددين من كل وجه من القرائن العائدة إلى الخبر، والمخبرين، والسامعين. لكن استواؤهما غي جميع ما ذكر مستبعد عادة. ص ــــ مسألة: إذا اختلف التواتر في الوقائع، فالمعلوم ما اتفقوا عليه يتضمن أو التزام، كوقائع حاتم وعلي. ش ــــ هذه مسألة في بيان التواتر المعنوي. وتقريرها: إذا وقع أخبار مختلفة من أهل التواتر في وقائع مختلفة مشتملة على أمر كليّ مشترك داخل في تلك الوقائع يدل عليه تضمناً، أو خارج عنها لازم لها يدل عليه التزاماً، فالمعلوم منها ذلك الأمر الكلي المشترك، كالأخبار الواردة في شجاعة علي، وجود حاتم؛ لأن الكل مخبرون بذلك الأمر الكلي ضرورة إخبارهم عن

جزئياته، لكن لا يبعد أن يكون حصول العلم بالقسم المتقدم أسرع من حصوله بهذا لاتحاد ألفاظه ومعانيه وإسناد الاختلاف إلى التواتر مجاز؛ لأنه في الحقيقة مسند إلى الوقائع المتضمنة والمستلزمة للقدر المشترك. * ... * ... *

* خبر الواحد

خبر الواحد ص ــــ خبر الواحد: ما لم ينته إلى التواتر. وقيل: ما أفاد الظن. ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظن. والمستفيض: ما زاد نقلته على ثلاثة. ش ــــ لما فرغ من الخبر المتواتر بين خبر الواحد وعرّفه بأنه: خبر لم ينته إلى حد التواتر، إمّا بأن لا يكون المخبر جماعة، أو يكون ولكن لم يفد إخبارهم العلم، لانتفاء شرط، أو يفيده لكن لا بنفسه بل بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عن المتواتر. وفيه نظر؛ فإنه منقوض بالمشهور؛ فإنه خبر لم ينته إلى حد التواتر وليس بخبر واحدٍ. وقيل: خبر الواحد: ما أفاد الظن. ونقضه المصنف بعكسه؛ فإن واحداً إذا

أخبر بخبر ولم يفد الظن فهو خبر واحد [104/ب] بالاتفاق وإن لم يفد الظن، فقد وجد المحدود بدون الحد. وفيه نظر؛ لأن ذلك خبر واحد لغوي لا اصطلاحي، وليس الكلام في اللغوي. نعم هو غير مطرد؛ لأن القياس يفيد الظن، وليس خبر واحد، فقد وجد الحد بدون المحدود، وفي ترتيب كلامه تسامح؛ لأنه قدم خبر الواحد على المشهور، فلم يكن الوضع مناسباً للطبع. وعرفه: بما زاد نقلته على ثلاثة، وهو فاسد؛ لأن المتواتر كذلك. ص ــــ مسألة: قد يحصل العلم بخبر الواحد [العدل] بالقرائن لغير التعريف. وقيل: وبغير قرينة. وقال أحمد: ويطرد. والأكثر: لا بقرينة ولا بغيرها. لنا: لو حصل بغير قرينة لكان عادياً، فيطرد، ولأدى إلى تناقض المعلومين ولوجب تخطئة المخالف. وأمّا حصوله بقرينة فلو أخبر ملك بموت ولد مشرف مع صراخ وجنازة وانهتاك حريم ونحوه لقطعنا بصحته. واعترض: بأنه حصل بالقرائن. وردّ: بأنه لولا الخبر لجوّزنا موت آخر.

- مسألة: حصول العلم بخبر الواحد العدل

قالوا: دليلكم يأباه. قلنا: انتفى الأول؛ لأنه مطرد في مثله. وانتفى الثاني؛ لأنه يستحيل حصول مثله في النقيض. وانتفى الثالث؛ لأنا نخطئ المخالف لو وقع. قالوا: قال: {وَلَا تَقفُ} {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}. فنهى وذم، فدل على أنه ممنوع. وأجيب: بأن المتبع الإجماع. وبأنه مؤول فيما المطلوب فيه العلم من الدين؟ ش ــــ لما فرغ من تعريفه ذكر فيه ست مسائل: الأولى: قد يحصل العلم بخبر الواحد العدل بالقرائن لغير التعريف. وتحقيقه بتقسيم هو: أن خبر الواحد العدل إمّا أن يكون معه قرينة، أو لا. فإن كانت فإمّا أن تكون للتعريف، كموافقته للدليل العقلي، أو خبر الصادق ـــــ عليه السلام ــــ. أو لغير التعريف، كالأمارات الدالة على صدق الخبر، كالبكاء وشق الجيوب ونحو ذلك. والخبر الذي معه قرينة للتعريف لا أثر له في إفادة العلم بصدقه؛ فإن المفيد له الدليل العقلي الذي يقتضي العلم بمتعلق الخبر، أو الخبر الصادق. وأمّا الذي معه القرينة لغير التعريف، فقد قال المصنف: {{أنه قد يحصل العلم به}}. وقيل: كما يحصل العلم بخبره مع القرينة، يحصل بغيرها ـــــ أيضاً.

وقال أحمد: {{ويطرد}} أي يحصل العلم بخبر كل واحد عدل، سواء كان معه قرينة، أو لا. والأكثر: على أن خبر الواحد العدل لا يفيد العلم مطلقاً. ولقائل أن يقول: قد تقدم في أول الكتاب أن العلم ما عنه ذكر حكمي لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه المذكورة ثمة. ولا شك أن النفوس في صحة الاتصاف بالعلوم متفاوتة، فمن نفس تتصف بالعلم بشئ بتنبيه أو إشارة أو غير ذلك. لا تتوقف لشدة المناسبة بينها وبين ذلك الشيء، وأخرى تتوقف بحيث لا يُنْجِعُ البرهان فيهما؛ لعدمها بينهما. فالحكم على كل واحد بأن خبر الواحد بقرينة أو بغيرها يفيده العلم بعيد عن التحقيق [105/أ]. واستدل المصنف على أنه بدون القرينة لا يفيده وبها يفيده. أمّا على الأول فبوجوه منها: أن خبر الواحد العدل لو أفاد العلم أفاده عادة؛ لأن العقل لا يستقل بإدراك ما لأجله أفاد ذلك الخبر العلم، ولو كان عادة لاطرد، أي حصل بخبر كل عدل؛ لأن

الموجب لحصوله ـــــ وهو خبر العدل ـــــ متحقق في كل عدل فيلزم من الشرطيتين أن خبر الواحد العدل لو كان موجباً للعلم لحصل العلم بخبر كل عدل، لكنه ليس كذلك. وفيه نظر؛ لأن بطلان التالي ممنوع، وهو مذهب أحمد. ومنها: أن خبره لو أفاد العلم تناقض المعلومان؛ لإمكان أن يخبر عدل عن شيء، وآخر عن نقيضه، والفرض إفادة كل منهما العلم. وفيه نظر؛ لأن المقتضي يقتضي إفادة كل منهما العلم ولكن المانع ــــ وهو التعارض ـــــ منعه، فلم يفد واحد منهما. ومنها: لو حصل العلم بخبر كل عدل، لوجب تخطئة مخالفه، وهو ظاهر لوجوب تخطئة مخالف اليقين. وبالتالي باطل بالاتفاق. وفيه نظر؛ فإن بطلان التالي ممنوع؛ فإن بعض المجتهدين يُخَطّئُ بعضاً من مخالفي خبر الواحد، ومذهبه أنه يفيد الظن فضلاً عمن ذهب إلى أنه يفيد العلم، ولهذا نقل عن السلف أنهم كانوا يقولون: في الفروع: مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب الخصم خطأ يحتمل الصواب. وأمّا على الثاني: وهو أن خبر الواحد العدل بقرينة يفيد العلم فبأنه لو أخبر ملكٌ بموت ولده المشرف على الموت مع صراخ وجنازة، وانهتاك حريم ونحوه، كخروج نسائه على حالات مستقبحة معتادة في موت مثله، لقطعنا بصحة خبره. واعترض: بأن العلم حصل بالقرائن لا بخبر الملك. وأجيب: بأنه لولا الخبر بموت الولد لجوّزنا موت غيره من ملازمته. وفيه نظر؛ لأن من جملتها إشراف الولد، والفرض عدمه في غيره. فإن فُرِضَ اشتراكه بين اثنين فاتت القرينة. واعترض على ما اختاره المصنف بما تقريره أن يقال: الأدلة التي ذكرتم على

أن خبر الواحد العدل لا يفيد العلم بغير قرينة، بعينها قائمة على أنه لا يفيده مع القرينة ـــــ أيضاً. وأجاب بمنع قيامها على ذلك التقدير، بل هي منفية. أمّا الأول: فلأنا لا نسلم أن حصول العلم بخبر الواحد العدل مع قرينة غير مطرد، بل العلم يحصل به دائماً. وفيه نظر؛ لأن نقيضه ممكن؛ إذ لا يلزم بفرض وقوعه محال. وأمّا الثاني: فلأن الملازمة ممنوعة، لاستحالة حصول مثل ذلك في نقيضه. وفيه نظر؛ فإن الاستحالة ممنوعة؛ فإن أنهى ما يقدر ذلك في صورة الموت، وإحياء الميت ممكن فجاز أن ينقلب خبر الموت إلى الحياة، والقرائن إلى أضدادها. وأمّا الثالث: فلأن انتفاء التالي ممنوع؛ لأنا نحكم بوجوب تخطئة المخالف. وفيه نظر؛ لأنه مشترك كما تقدم. واستدل القائلون بإفادته العلم مطلقاً، بما تقريره: لو لم يفد العلم خبر الواحد العدل بغير قرينة العلم لما جاز اتباعه. والتالي باطل بالاتفاق. أمّا الملازمة فلأنه لو لم يفد العلم فإمّا أن يفيد الظن، أو لا. والثاني لا يتبع بالإجماع. والأول كذلك، لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَلَا تَقفُمَالَيسَلَكَبِهِ عِلمٌ}، ولقوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}. ووجه الاستدلال: أن الله ـــــ تعالى ـــــ نهى في الآية الأولى عن اتباع ما ليس بمعلوم، وذم في الثانية على متابعة الظن، فدل على أن اتباع الظن ممنوع. وقد ثبت أن اتباع خبر الواحد العدل واجب، فكان مفيداً للعلم. وأجاب عنه: بأن المتبع الإجماع، يعني أنا لا نتبع خبر الواحد، بل المتبع

- مسألة: إذا أخبر واحد بحضرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر لم يدل عدم إنكاره على صدقه قطعيا

الإجماع الدال على كون الخبر حجة، والإجماع قطعي. وفيه نظر؛ لأن دعوى الإجماع باطلة؛ فإن من العلماء من يمنع حجيته؛ لأنه لا يوجب العلم بالاتفاق، ولا العمل ـــــ أيضاً ـــــ لانتفاء لازمه. سلمناه، لكن الإجماع على كونه موجباً للعمل، لا يوجب أن يفيد العلم. وبأن الإتباع في الآيتين مؤول بالاتباع فيما يكون المطلوب فيه العلم من الدين يعني المطالب الاعتقادية التي لا تتعلق بالعمل، كإثبات الصانع ووحدته؛ فإن اتباع الظن في ذلك حرام، والمخصص الإجماع الدال على وجوب العمل بالظن فيما هو من الفروع. وفيه نظر؛ لأن من العلماء من يمنع حجيته في حق العمل فلا إجماع وقد تقدم آنفاً. ص ــــ مسألة: إذا أخبر واحد بحضرته ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ ولم ينكر لم يدل على صدقه قطعاً. لنا: يحتمل أن ما سمعه، أو ما فهمه، أو كان بيّنه، أو رأى تأخيره، أو ما علمه، أو صغّرَه. مسألة: إذا أخبر واحد بحضرة خلق كثير ولم يكذبوه، وعُلِمَ أنه لو كان كذباً لعلموه، ولا حامل على السكوت، فهو صادق قطعاً للعادة. ش ــــ إذا أخبر واحد بحضرة الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ ولم ينكر خبره، لم يدل عدم إنكاره ـــــ عليه السلام ـــــ على صدقه قطعاً، بل يدل عليه ظناً. وقيل: قطعاً، وإلاّ لأنكر.

- مسألة: إذا أخبر واحد بحضرة خلق كثير ولم يكذبوه

قلنا: يحتمل أنه ـــــ عليه السلام ـــــ لم يسمعه، أو سمع ولم يفهم، أو فهم وقد كان بيّنه قبل ذلك أنه كذب، فلم يحتج إلى الإنكار. أو رأى مصلحة في تأخيره إلى وقت آخر، أو ما عَلِمَ الرسول كذب خبره لكونه دنيوياً، أو استصغر النبي ـــــ عليه السلام ـــــ كذبه. وقيل: ويحتمل أن يكون ذلك من الصغائر، والصغيرة غير ممتنعة منه ـــــ عليه السلام ـــــ، والحمل على الأول أولى، ومع هذه الاحتمالات كيف يدل عدم الإنكار على صدقه قطعاً. وأمّا إذا أخبر واحد بحضرة جمع كثير ولم يكذبوه [وبلغ كثرتهم] إلى حد علم أن الخبر لو كان كذباً لعلموه، وعلم أنه لا حامل لهم على السكوت وهي المسألة الثالثة، فقد قال المصنف: {{إنه صدق قطعاً للعادة}}؛ فإنها تحتمل جهل الكل بكذبه، ومع الإطلاع فهي حاكمة بأن السكوت مع اختلاف الآراء والأمزجة دليل الصدق. ص ــــ مسألة: إذا انفرد واحد فيما تتوفر الدواعي على نقله، وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو [106/أ] كاذب قطعاً

خلافاً للشيعة. لنا: العلم عادة. ولذلك نقطع بكذب من ادعى أن القرآن عورض. قالوا: الحوامل المقدرة كثيرة. ولذلك لم ينقل النصارى كلام المسيح في المهد. ونقل انشقاق القمر، وتسبيح الحصا، وحنين الجذع، وتسليم الغزالة، وإفراد الإقامة، وإفراد الحج، وترك البسملة، آحاداً. وأجيب: بأن كلام عيسى إن كان بحضرة خلق فقد نقل قطعاً، وكذلك غيره مما ذكر، واستغنى عن الاستمرار بالقرآن الذي هو أشهرها. وأمّا الفروع فليس من ذلك. وإن سلّم فاستغنى لكونه مستمراً، أو كان الأمران سائغين. ش ــــ المسألة الرابعة: إذا انفرد واحد بالخبر عن شيء توفرت الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير في مشاهدة ذلك الشيء كما لو انفرد شخص واحد بالخبر عن قتل خطيب على منبر في مدينة، فهو كاذب قطعاً عندنا. خلافاً للشيعة. لنا: أن العادة تقضي بكذب مثل ذلك الخبر. ولذلك نقطع بكذب من ادعى أن القرآن عورض؛ لأنها مما تتوفر الدواعي على نقلها لكثرة الأعداء، فلو عورضت لنقلت إلينا. وقالت الشيعة: لا نسلم أن صدق مثل ذلك يستلزم؛ لجواز أن لا ينقلوا

لأعراض حاملة على كتمان ما شاهدوا، وهي كثيرة، كغرض عائد إلى الكل في أمر البلد، أو إصلاح معاش، أو خوف من عدوٍ غالب، أو ملك قاهر، أو أغراض عائدة إلى كل منها. ولذلك لم ينقل النصارى كلام المسيح في المهد مع غرابته التي تتوفر الدواعي إلى نقلها. ونقل انشقاق القمر، وتسبيح الحصا في كف رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وحنين

الجذع إليه. وتسليم الغزالة عليه، وإفراد الإقامة، وإفراد الحج. وترك البسملة في أول الفاتحة في الصلاة، بطريق الآحاد، مع أنها من

الوقائع التي تتوفر الدواعي إلى نقلها. وأجاب المصنف: بأن العادة تقضي بامتناع اشتراك الجمع العظيم في الحامل على الكتمان، كما تقضي بامتناع اجتماع الجمع العظيم على مأكل واحدٍ. والصور المذكورة لا تدل على مدعاكم؛ لأن كلام عيسى ـــــ عليه السلام ـــــ في المهد إن لم يكن بحضور جمع كثير لم يرد نقضاً، وإن كان بحضورهم فقد نقل نقلاً قطعياً أولاً لما ذكرنا من الدليل، ثم لم ينقل بعد ذلك لاشتمال القرآن عليه، فاستغنى عن استمرار نقله بالقرآن. وكذلك غيره من الصور المذكورة من المعجزات لم ينقل متواتراً؛ لعدم توفر الدواعي إلى نقلها، أو ضعفت؛ لأن المقصود الذي هو صدق رسالته قد حصل بالقرآن الذي هو أعظم المعجزات الدالة على صدقها؛ لبقائه على صفحات الدهر، فاستغنى به عن غيره. وأمّا الفروع المذكورة فليست من ذلك، أي ما تتوفر الدواعي إلى نقلها. وإن سُلّمَ فقد استغنى عن نقلها متواتراً، لكونها مستمرة في الأنام والأعوام. أو كان الأمران، أي إفراد الإقامة وتثنيتها، وإفراد الحج وقرانه، والبسملة وتركها

سائغين، فنقل كل ما ثبت عنده فلم يتواتر لذلك. كذا [106/ب] بعض الشروح. وفيه نظر من أوجه: الأول: أن محل النزاع ما إذا انفرد واحد بنقل ما تتوفر الدواعي إلى نقله، وذلك لا يستلزم أن ينقل متواتراً، بل إذا بلغ إلى حد الشهرة خرج عن محل النزاع. الثاني: أن كلام عيسى ـــــ عليه السلام ـــــ في المهد إن كان بحضور جمع عظيم لا يلزم أن ينقل نقلاً قطعياً، ودعوى ذلك دعوى بلا دليل. والدليل المذكور مدفوع بوقوع ما ذكروا من كثرة الحوامل المقدرة. الثالث: أن قوله {{واستغنى عن الاستمرار بالقرآن الذي هو أشهرها غير مفيد؛ لأن الناقل هو النصارى، ولم يقولوا بصحة القرآن}}. الرابع: أن الفروع المذكورة ليست مما تفرد بنقله واحد فلم يتصل بالمبحث فالتزام الجواب عنها التزام جهل. الخامس: أن الجواب على الوجه المذكور في المتن، على تقدير صحته إنما هو عما استشهدوا به من النظائر، وأصل نكتتهم باقٍ، وهو ليس بصحيح عند المحصلين. ص ــــ مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز عقلاً. خلافاً للجبّائي. لنا: القطع بذلك. قالوا: يؤدي إلى تحليل الحرام وعكسه. قلنا: إن كان المصيب واحداً، فالمخالف ساقط، كالتعبد بالمفتي، والشهادة. وإلا فلا يرد. وإن تساويا فالوقف أو التخيير يدفعه. قالوا: لو جاز لجاز التعبد به في الإخبار عن الباري ـــــ تعالى ـــــ. قلنا: للعلم بالعادة بأنه كاذب.

- مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل

ش ــــ المسألة الخامسة: ذهب الجمهور إلى التعبد بخبر الواحد العدل جائز عقلاً، خلافاً للجبائي. لنا: القطع بأنا لو فرضنا ورود الشرع بالتعبد به لم يلزم منه محال، ولا نعني بالجواز العقلي إلا ذلك. وقالوا: لو جاز ذلك أدى إلى تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ لجواز أن يخبر عدل بحرمة فعل، وآخر بحله. والفرض جواز العمل بقول كل منهما فيؤدي إلى ذلك لا محالة. وهذا لا يلزم إذا كان القول الواحد راجحاً يسقط به المرجوح كما تبين. وأجاب المصنف: بأن المصيب في الإجتهاد إن كان واحداً كما هو مذهب عامة أهل السنة، سقط الدليل؛ لأن الحكم حينئذٍ واحد منهما، وهو الثابت في علم الله ـــــ تعالى ـــــ، والحكم المخالف لحكم المصيب ساقط ليس بحكم في علم الله. وإن كان المجتهد مأموراً بالعمل بموجبه، كما في التعبد بالإفتاء، وشهادة الشاهدين؛ فإنه يجب العمل بهما، وإن كان خطأً. ولا يلزم من العمل به تحريم

ما حل، ولا عكسه؛ لأن حكمهما ليس بحكم ثابت في علم الله؛ لأن الحكم فيه أحدهما. وإن كان كل مجتهد مصيباً فلا يرد ـــــ أيضاً ـــــ ما ذكرتم؛ لأن كل واحد من الحكمين ثابت في علم الله من غير أن يغير أحدهما الآخر. قوله: {{وإن تساويا}} إشارة إلى الجواب عمّا يقال: ما ذكرتم إنما يتم إذا كان أحد الخبرين راجحاً. والآخر مرجوحاً [107/أ] ليسقط المرجوح المخالف للصواب الذي هو الراجح. وأمّا إذا تساوى الخبران لزم اجتماع الحكمين المتنافيين في واقعة واحدة. وتقريره: لا نسلم اجتماع المتنافيين على ذلك التقدير؛ فإنه على ذلك التقدير يتوقف حتى يتبين الرجحان، كما هو مذهب بعض. أو يتخير بينهما كما هو مذهب بعض. وبذلك يندفع المحال. وفيه نظر؛ لأن المصيب إذا كان واحداً، والحكم ما هو الثابت عند الله ينبغي أن لا يلتفت إلى الرجحان في الظاهر، لجواز أن يكون ذلك مرجوحاً في علم الله، والحكم عنده ما دلّ عليه المرجوح. وقالت ـــــ أيضاً ـــــ الجبائية: لو جاز التعبد بخبر الواحد العدل عن

الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ، لجاز عن الباري ـــــ تعالى وتقدس ـــــ بأنه أرسله؛ لأن الموجب لجواز ذلك هو الظن بالصدق، وهو حاصل فيه حصوله في الأول، لكن لا يجوز التعبد بخبر الواحد عن الله بإرساله بدون معجزة دالة على صدقه. ولقائل أن يقول: سلمنا أن الموجب في الأول هو الظن، لكنه لا يكفي في الثاني؛ لأنه من الاعتقادات، ولا بد فيها من القطع. وأجاب المصنف: بالفرق، بأنه عُلِمَ بالعادة أن المخبر عن الله ـــــ تعالى ـــــ بالرسالة كاذب بدون معجزة تصدقه، ولا كذلك خبر العدل عن الرسول. ولقائل: أن يقول: عُلِمَ بالعادة أن العدل لا يكذب، وإلا لم يكن عدلاً وذلك خلف فاستوى الصورتان، على أن الفرق غير معتبر عند المحققين، وقد تقدم غير مرة. ص ــــ مسألة: يجب العمل بخبر الواحد. خلافاً للقاساني، وابن داود، والرافضة. والجمهور بالسمع. وقال أحمد، والقفال، وابن سريج، والبصري؛ بالعقل. لنا: تكرر العمل به كثيراً في الصحابة والتابعين شائعاً ذائعاً من غير نكير. وذلك يقضي بالاتفاق عادة، كالقول قطعاً. قولهم: لعل العمل بغيرها.

- مسألة: وجوب العمل بخبر الواحد العدل

قلنا: عُلِمَ قطعاً من سياقها أن العمل بها. قولهم: قد أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتى رواه محمد بن مسلمة. وأنكر عمر خبر أبي موسي الأشعري في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد. وأنكر خبر فاطمة بنت قيس. وأنكرت عائشة خبر ابن عمر. وأجيب: إنما أنكروا عند الارتياب. قالوا: لعلها أخبار مخصوصة. قلنا: نقطع بأنهم عملوا لظهورها، لا لخصوصها. ش ــــ المسألة السادسة: القائلون بجواز التعبد بخبر الواحد العدل اختلفوا في وجوب التعبد به. فذهب كثير من الأصوليين إلى وجوبه. وذهب القاساني، وابن داود، والرافضة: إلى حرمة التعبد

به. والقائلون بالوجوب اتفقوا على أنه ثبت سمعاً. وقال أحمد، والقفال، وابن سريج، وأبو عبد الله البصري: إنه يثبت بالعقل ـــــ أيضاً. واحتج المصنف ـــــعلى وجوب العمل به سمعاً ـــــ بأنه تكرر العمل بخبر الواحد العدل في زمن الصحابة، والتابعين كثيراً شائعاً ولم ينكر منهم أحد وذلك يقضي عادة

باتفاقهم على وجوب العمل بذلك، كما أن قولهم بوجوب العمل يدل قطعاً [107/ب] على أنهم اتفقوا على وجوب العمل به. وردّ: بأن تكرر العمل به يدل على الجواز، دون الوجوب. وأجيب: بأن الجواز يدل على الوجوب؛ لعدم القائل بالفصل وفي كلامه نظر من وجهين: أحدهما: أن الذي ذكره إنما هو قياس على السمع، والقياس على السمع ليس بسمع. والثاني: أن الجواز والوجوب لو كانا متساويين في هذا الموضوع كان ذكر هذه المسألة مستدركاً؛ لأن الجواز عُلِمَ مما قبلها، وهو يستلزم الوجوب؛ لعدم القائل بالفصل. وقالوا: لعل العمل بغيرها، يعني لا نسلم أن الصحابة عملوا بأخبار الآحاد، بل لعلهم عملوا بغيرها حين سمعوها، فلا ينهض دليلاً. وأجاب: بأنه عُلِمَ قطعاً من سياق تلك الأخبار، وبقرينة الحال أنهم عملوا في تلك الصور لأجل تلك الأخبار، ولا يخفى على من اطلع على قرائن الأحوال. وفيه نظر؛ لأن أقوالهم لا تفيد القطع ما لم تبلغ حد التواتر فضلاً عن قرائن الأحوال. وقالوا ــــ أيضاً ــــ: سلمنا أنهم عملوا بخبر الواحد، لكنهم لم يجمعوا على ذلك، بل تحقق الإنكار من بعضهم؛ فإنه ثبت أن أبا بكر ـــــ رضي الله عنه ـــــ أنكر خبر المغيرة،

وهو أن رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ أعطى الجدة السدس حتى شهد له محمد بن مسلمة. وأن عمر ـــــ رضي الله عنه ـــــ أنكر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان وهو ما

روي أنه سمع رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ يقول: {{إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف}} حتى رواه أبو سعيد الخدري ـــــ رضي الله عنه. وأنكر عمر ـــــ رضي الله عنه ـــــ أيضاً ـــــ خبر فاطمة بنت قيس في السكنى، وقال: {{لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة ما ندري أصدقت أم كذبت، أحفظت أم نسيت}}.

وأن عائشة ـــــ رضي الله عنها ـــــ أنكرت خبر ابن عمر ـــــ رضي الله عنهما ـــــ أن الميت ليعذب ببكاء أهله. وأجاب: بأنهم إنما أنكروا عند الارتياب. وتحقيقه: أنه ثبت منهم العمل، وثبت منهم الإنكار، فلا بد من التوفيق فيحمل الإنكار على الارتياب في الراوي، والعمل على غيره. وفيه نظر؛ لأن الكلام في العدل، والارتياب في عدالة الصحابة زيغ نعوذ بالله منه. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لعل الأخبار التي عملوا بها أخبار مخصوصة تلقوها بالقبول وذلك لا يستلزم وجوب العمل بخبر الواحد العدل مطلقاً. وأجاب: بأنا نقطع أن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ عملوا لأجل ظهور تلك الأخبار صادقة، لا لخصوص تلك الأخبار، فحيث يظهر الصدق وجب العمل به. وفيه نظر؛ لأنه دعوى قطع بلا قاطع. ص ــــ وأيضاً: التواتر أنه كان ينفذ الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام واستدل بظواهر. مثل: {فلولا نفر من} إلى قوله: {لعلهم يحذرون}. {إن الذين يكتمون}، {إن جاءكم فاسق}. وفيه بعد.

ش ــــ هذا دليل آخر على وجوب العمل بخبر الواحد. وتقريره: تواتر أنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ كان ينفذ آحاد الصحابة إلى القبائل لتبليغ الرسالة [108/أ] والأحكام، فلو لم يجب العمل بخبر الواحد ما أفاد البعث. وقد استدل ـــــ أيضاً ـــــ على وجوب العمل بخبر الواحد بآيات: منها قوله ـــــ تعالى ـــــ: {فَلَولَانَفَرَمِنكُلِّفِرقَةمِّنهُمطَائِفَةلِّيَتَفَقَّهُوافِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُمإِذَارَجَعُواإِلَيهِملَعَلَّهُميَحذَرُونَ (122)}. ووجه التمسك بها أن الله ـــــ تعالى ـــــ أوجب الحذر بإخْبَارٍ مخوف يحصل من واحد، أو اثنين، ولولا أن خبر الواحد يوجب العمل، لما وجب الحذر به؛ وذلك لأن الفرقة ثلاثة، فتكون الطائفة واحداً أو اثنين، ولعل للترجي وهو على الله محال، فيحمل على الوجوب، لاشتراكهما في الطلب. ومنها قوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ}.

ووجهه: أن الله وعّد على كتمان الهدى، فيجب على من سمع من النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ شيئاً ـــــ إظهاره، فلو لم يجب قبوله كان الاظهار كعدمه. ومنها قوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِن جَاءَكُمفَاسِقُبِنَبَإفَتَبَيَّنُوا}. ووجهه: أن الله ـــــ تعالى ـــــ أمر بالتبين في خبر الفاسق، وتعليق الحكم على الصفة مشعر بالعلية، فيجب أن لا يتبين خبر غير الفاسق؛ لانتفاء علته، فيجب العمل بخبره. قال المصنف: {{وفيه بعد}}. ووجه البعد إجمالاً: أن الآيات المذكورة ليست بقطعية الدلالة على المطلوب. فصارت في الدلالة، كخبر الواحد فلا يجب العمل بها، فكانت كالمتنازع فيه. ص ــــ قالوا: {وَلَا تَقفُ} {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} وقد تقدم. ويلزمهم أن لا يمنعوه إلا بقاطع. قالوا: توقف رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ في خبر ذي اليدين حتى أخبره أبو بكر وعمر. قلنا: غير ما نحن فيه. وإن سلّم فإنما توقف للريبة بالانفراد، فإنه ظاهر في الغلط ويجب التوقف في مثله. ش ــــ القائلون بعدم وجوب العمل بخبر الواحد تمسكوا بالآيتين، وقد تقدم وجه التمسك، والجواب في المسألة المتقدمة، فلا يحتاج إلى إعادته. ويلزمهم من التمسك بالآيتين أن لا يمنعوا العمل بخبر الواحد إلا بدليل قاطع؛ لأنهما دلتا على أن التمسك بما لا يفيد العلم غير جائز فلا يجوز منع العمل بخبر الواحد بالآيتين؛ لعدم قطعية دلالتهما على ذلك.

وهنا بحث مشكل وهو: أن الأشاعرة عطلوا العقل عن الدلالة رأساً، وذهبوا إلى أن دلالة الألفاظ غير قطعية. فلزمهم من ذلك أن لا يكون شيءٍ مّا معلوماً لهم، لا في أصول الديانات، ولا في الفروع ولزمهم من ذلك أن لا يكفروا أحداً ممن ينكر شريعة من الشرائع؛ لكونها غير قطعية. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: توقف رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ في خبر ذي اليدين، وقصته ما روى أن رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ صلى إحدى صلاتي العشي ركعتين، وفي القوم أبو بكر، وعمر فقال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{كل ذلك لم يكن}} ثم قال: {{أحق ما يقوله ذو اليدين}}؟ فقال أبو بكر، وعمر: نعم. فرجع وأتم الصلاة أربعاً، وسجد للسهو. ولو كان خبر الواحد يوجب العمل ما توقف

عليه السلام. وأجاب المصنف بأن هذه الصورة [108/ب] ليست مما نحن فيه؛ لأن الكلام في أنه يوجب العمل علينا لا على رسول الله ـــــ عليه السلام. سلمناه، ولكن توقف رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون الباقين، فإن ذلك ظاهر في غلطه، فتوقف لذلك. واعلم أن حديث ذي اليدين يدل على أن صدق الخبر إنما هو بمطابقته لاعتقاد المخبر فهو حجة على الجمهور، وقد ذكرت ذلك والجواب عنه في الإشراق شرح مشارق الأنوار. فليطلب ثمة. ص ــــ أبو الحسين: العمل بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل واجب عقلاً، كالعدل في مضرة شيء، وضعف حائط. وخبر الواحد كذلك؛ لأن الرسول بعث للمصالح، فخبر الواحد تفصيل لها. وهو مبني على التحسين. سلمنا ولا نسلمه في الشرعيات. سلمنا، وغايته قياس ظني في الأصول. قالوا: صدقه ممكن فيجب احتياطاً. قلنا: إن كان أصله المتواتر فضعيف. وإن كان المفتي فالمفتي خاص وهذا عام. سلمنا، لكنه قياس شرعي. قالوا: لو لم يجب، لخلت وقائع. رُدّ بمنع الثانية.

سلمنا، لكن الحكم: النفي، وهو مدرك شرعي بعد الشرع. ش ــــ احتج أبو الحسين على وجوب العمل بخبر الواحد عقلاً، بأنه إذا عُلِمَ أصل كلي كدفع المضار وجلب المنافع، وجب عقلاً العمل بالظن في تفاصيل ذلك الأصل المعلوم، فإذا أخبر واحد عدل عن مضرة شيء مخصوص، أو عن ضعف جدار، وجب على العاقل الاحتزاز عن ذلك الشيء عقلاً، والهروب عن الحائط كذلك، وهذا المعنى متحقق في خبر الواحد؛ لأن الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ بعث لتبيين الأحكام الشرعية المشتملة على مصالح العباد، وخبر الواحد يفيد الظن في تفاصيل تلك الأحكام والمصالح، فوجب العمل به عقلاً. وأجاب المصنف: بأن هذا الدليل مبني على قاعدة التحسين العقلي وهي باطلة، كما تقدم. سلمنا صحتها، لكن لا نسلم أن العمل بالظن، وتفاصيل الأصل المعلوم واجب في العقليات، بل العقليات أولى أن لا يجب فيها العمل بالظن. سلمنا وجوبه في العقليات، لكن لا نسلم في الشرعيات؛ لجواز أن يكون خصوصية الصور العقلية شرطاً لوجوب العمل. أو خصوصية الصور الشرعية مانعة للوجوب. سلمنا وجوبه فيها قياساً على العقليات، لكن غاية هذا الدليل قياس يفيد الظن. وهو مسائل في الأصول. وقالوا: صدق خبر الواحد ممكن، وكل ما كان كذلك يجب العمل به، كالمتواتر، وقول المفتي. وأجاب: بأن القياس على المتواتر ضعيف، لعدم الجامع؛ لأن وجوب العمل

بالمتواتر لإفادته العلم، لا لإمكان الصدق. وعلى المفتي قياس مع الفارق؛ فإن وجوب العمل بقول المفتي شرع خاص لا يعم الأشخاص كلها، وبخبر الواحد عام يعمهم. ولئن سلمنا صحة القياس عليهما، لكنه قياس شرعي؛ إذ العمل في الأصلين واجب بالدليل الشرعي فلا يتصل [109/أ] بمحل النزاع؛ لأن المطلوب إثبات وجوب العمل به عقلاً. ولقائل أن يقول: كلام الخصم دليل عقلي من الشكل الأول، على الوجه الذي ذكر، والكلام على الفرق قد تقدم غير مرة. وقوله: {{قياس شرعي}} إنما هو على تفسيره تفسير بالتشهي لا يلزم على الخصم به شيء. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لو لم يجب العمل بخبر الواحد، لخلت وقائع عن الحكم والتالي باطل بالإجماع، فالمقدم كذلك. وبيان الملازمة أنه إذا لم يوجد في الوقائع الحادثة من الدليل سوى خبر الواحد، ولم يوجب الحكم خلت عن الحكم بالضرورة. وأجاب بمنع الثانية، أي التالي، يعني لا نسلم بطلان خلو بعض الوقائع عن الحكم؛ فإن التي اتفق على امتناع خلوّها عنه، هي التي لها دليل، لا التي لا دليل عليها. سلمنا صحة نفي التالي، لكن لا نسلم الملازمة؛ فإنه إذا لم يوجب خبر الواحد العمل كان هناك نفي الحكم، ونفي الحكم حكم. قوله: {{وهو مدرك شرعي}} بعد الشرع إشارة إلى جواب ما يرد على أن نفي الحكم حكم. وتقريره: نفي الحكم ليس حكماً شرعياً؛ لأنه يستند إلى عدم الدليل وعدم الدليل عقلي.

وتقرير الجواب: أن عدم الحكم وإن كان ثابتاً عند عدم الدليل وقبل الشرع لكنه بعد ثبوت الشرع مدرك شرعي. ولقائل أن يقول: عدم الحكم ليس وجوباً، ولا حرمة، ولا ندباً، ولا كراهة، ولا إباحة، والأحكام منحصرة فيها. وأن الظاهر أن المراد بالمدرك الشرعي: ما يدرك به حكم شرعي، وذلك منحصر في الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال وعدم الحكم ليس منها بالضرورة. وإن كان المراد بالمدرك غير ذلك، فلا بد من تصوره أولاً.

* شرائط الراوي أربعة

شرائط الراوي أربعة ص ــــ الشرائط: فمنها: البلوغ، لاحتمال كذبه، لعلمه بعدم التكليف. وإجماع المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الدماء وقبل تفرقهم، مستثنى؛ لكثرة الجناية بينهم منفردين. والرواية بعده والسماع قبله مقبولة، كالشهادة، ولقبول ابن عباس، وابن الزبير، وغيرهم في مثله، ولإسماع الصبيان. ش ــــ لما فرغ من إثبات وجوب العمل بخبر الواحد شرع في ذكر شرائط الراوي، وهي أربعة. الأول: البلوغ؛ لأن الصبي إن كان غير مميز لا يضبط ما يحتمل وإن كان مميزاً فقد لا ينزجر عن الكذب، لعلمه بعدم المؤاخذة به وإذا لم يتقبل رواية الصبي، فرواية المجنون [أ] ولى. قوله: {{وإجماع المدينة}} إشارة إلى جواب دخل مقدر. تقريره: أهل المدينة أجمعوا على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في

الدماء، والجنايات قبل تفرقهم. وإذا قبلت شهادتهم وبابها أضيق، وجب قبول روايتهم بالطريق الأولى. وتقرير الجواب؛ هذه الصورة مستثناة؛ لكثرة وقوع الجناية بينهم منفردين عن الرجال، والحاجة ماسة إلى معرفة ذلك ولا طريق إليها سوى شهادتهم، فوجب اعتبارها صيانة للدماء عن الهدر، وإنما شرط أن يكون الأداء قبل التفرقة دفعاً لتهمة التلقين [109/ب]. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم كثرة وقوعها بينهم؛ فإنا مدة عمرنا نيِّفاّ وخمسين سنة لم نشاهد ذلك، ولم نسمعهم فعلوا قتلاً أو ما يقربه؛ ولأنه مخالف لقوله ـــــ تعالى ـــــ: {وَاستَشهِدُوا شَهِيدَينِمِنرِّجَالِكُم}. على اختلاف تقدم في حجية إجماع أهل المدينة خاصة وإذا كان السماع قبل البلوغ، والرواية بعده فهي مقبولة لوجهين: أحدهما: القياس على قبول الشهادة، فإنه إذا تحمل الشهادة قبل البلوغ وأداها بعده قبلت بالاتفاق، فكذا الرواية، بل أولى؛ لأن بابها أضيق، ولهذا اختلفوا في قبول شهادة العبد، ولم يختلفوا في قبول روايته.

والثاني: الإجماع، فإن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم أجمعوا على قبول رواية ابن عباس، وابن الزبير،

والنعمان بن بشير، وغيرهم من أحداث الصحابة في مثل ما ذكرنا، وهو ما تحملوا في حال الصبا وأدّوه بعده، وأيضاً: أجمع السلف على إحضار صبيانهم في مجالس الأحاديث، وإسماعهم إيّاها، وقبول رواية ما سمعوه حال

- الثاني: الإسلام

الصبا. ص ــــ ومنها: الإسلام؛ للإجماع. وأبو حنيفة وإن قبل شهادة بعضهم على بعض لم يقبل روايتهم. ولقوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ}. وهو فاسق بالعرف المتقدم. واستدل: بأنه لا يوثق به، كالفاسق. وضعف: بأنه قد يوثق ببعضهم لتدينه في ذلك. والمبتدع بما يتضمن التكفير، كالكافر عند المكفر. وأمّا غير المكفر فكالبدع الواضحة. وما لا يتضمن التكفير إن كان واضحاً، كالخوارج ونحوه. فرده قوم وقبله قوم. الراد: {إن جاءكم فاسق} وهو فاسق. القابل: نحن نحكم بالظاهر. والآية أولى؛ لتواترها وخصوصها بالفاسق وعدم تخصيصها. وهذا مخصص بالكافر والفاسق المظنون صدقهما باتفاق. ش ــــ الشرط الثاني: الإسلام. فإن رواية مخالف الإسلام غير مقبولة لوجهين: الأول: الإجماع. قوله: {{وأبو حنيفة وإن قبل شهادة بعضهم على بعض}}. قيل: هو جواب عما يقال: كيف يصح دعوى الإجماع على عدم قبول روايته،

وأبو حنيفة يقبل شهادة بعضهم على بعض، والتأكيد في أمر الشهادة أكبر، كما تقدم. وأقول: إن كان هذا مراد المصنف فكلامه فاسد؛ لأن النزاع في رواية الكافر، لا في شهادة بعضهم على بعض؛ فإن الرواية إذا قبلت صارت حجة على المسلمين، والكافر ساع في هدم الدين الحق، وهو عدوٌ للمسلمين، فكيف تكون روايته حجة؟ بخلاف الشهادة فيما بينهم، فإنها أمر لا يعدوهم. الثاني: قوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِن جَاءَكُمفَاسِقُ} الآية. وجه ذلك: أن الكافر فاسق في العرف المتقدم. وتخصيص الفاسق بمسلم صدرت عنه الكبيرة، عُرْف متجدد، وإذا كان كذلك، لا تكون روايته معتداً بها. وفيه نظر؛ لأن الآية تقتضي التوقف في خبره لا عدم القبول. ومنهم من جعل الكافر غير الفاسق، وقاس عدم قبول رواية الكافر على الفاسق [110/أ] بجامع عدم الوثوق بكل منهما.

- حكم رواية المبتدع

وضعف هذا الاستدلال، أي القياس ـــــ بالفرق؛ فإن بعضهم الكفار لتدينه في دينه قد يوثق به، بخلاف الفاسق؛ فإنه لعدم تدينه لم يوثق به. وفيه نظر؛ لأن الفرق باطل عند المحققين، كما مّر غير مرّة. ولأنه يشم منه رائحة ترجيح الكافر على المسلم بوجه، وهو شنيع. بل علة عدم قبول رواية الكافر ما ذكرنا آنفاً من سعيه في هدم أمر الدين، لعداوته. والمبتدع بما يوجب الكفر صريحاً فهو كالكافر اليهودي والنصراني اتفاقاً. والمبتدع بما يتضمن الكفر وهو المخطئ في الأصل بتأويل، اختلف الناس فيه فمن أكفره جعله كالكافر، ومن لم يكفره جعله كالمبتدع الذى لا خفاء في بدعته. والمبتدع بما لا يتضمن كفراً إن وضحت بدعته، كفسق الخوارج في إباحة دماء المسلمين وأموالهم بغير دليل. وردّ روايته بعض، وقبلها آخرون.

- حكم شارب النبيذ واللاعب بالشطرنج ونحوهما

حجة الأولين، قوله ـــــ تعالى ـــــ: {إن جاءكم فاسق} الآية، وهو واضح الفسق. وحجة الآخرين قوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{نحن نحكم بالظاهر}}. خص عنه الكافر والفاسق اللذان ظن صدقهما فيبقى حجة في الباقي؛ لأن غيرهما لا يعلم فسق نفسه، ويعظم أمر الدين، ويحترز عن الكذب، فنحكم بصدقه ظاهراً. واختار المصنف المذهب الأول، وإليه أشار بقوله: {{والآية أولى}}. بأوجه: الأول: أن متنها متواتر، والحديث من الآحاد. الثاني: أنها مخصوصة بالفاسق، والحديث غير مخصوص، والعمل بالمخصوص أولى؛ لاحتمال التخصيص في غير المخصوص. الثالث: أنها لم تخص؛ لأنه لم يخرج منها فاسق، والحديث خص منه الكافر والفاسق المظنون صدقهما؛ لأن روايتهما غير مقبولة بالاتفاق. ص ــــ قالوا: أجمعوا على قبول قتلة عثمان. ورد بالمنع. أو بأنه مذهب بعض. وأما نحو خلاف البسملة وبعض الأصول، وإن ادعى القطع، فليس من ذلك؛ لقوة الشبهة من الجانبين. وأمّا من يشرب النبيذ ويلعب بالشطرنج ونحوه من مجتهد ومقلد فالقطع أنه ليس بفاسق، وإن قلنا: المصيب واحد؛ لأنه يؤدي إلى تفسيق بواجب.

وإيجاب الشافعي الحد لظهور أمر التحريم عنده. ش ــــ الذين ذهبوا إلى قبول رواية مثل الخوارج قالوا: أجمع الصحابة على قبول رواية قتلة عثمان ـــــ رضي الله عنه ـــــ وظلمهم وبغيهم لا يخفى على أحد. وردّ دعوى الإجماع: بأنا لا نعلم أن الصحابة كلهم اتفقوا على ذلك. أو أن بعض الصحابة ذهب إلى أن قتلة عثمان لم يفسقوا بما فعلوا من الحق فهم الذين قبلوا. وأمّا ما وقع فيه الخلاف بين الأئمة، كالاختلاف في كون البسملة من القرآن، أو لا. وفي الكلام النفسي، فليس مما يوجب ردّ الرواية وإن كان كل من الخصمين يقطع ببطلان مذهب الآخر؛ لقوة الشبهة من الجانبين، كما تقدم. وأمّا ما كان من باب الفعل، كشرب النبيذ، وأكل متروك التسمية عامداً،

واللعب بالشطرنج ونحوه مما اختلف في حرمته بالقطع بأن [110/ب] مباشره ليس بفاسق، وإن كان المصيب واحداً لئلا يلزم تفسيق مجتهد بما يجب عليه. فإن قيل: شارب النبيذ لو لم يكن فاسقاً، لما أوجب الشافعي ـــــ رحمه الله ـــــ عليه الحد؛ لأنه لا حد على غيره قطعاً. أجاب المصنف: بأنه إنما أوجبه لظهور أمر التحريم عنده، لا لفسقه. ولقائل أن يقول: إنه إمّا فاسق وإمّا غيره، لا يجتمعان ولا يرتفعان فإن لم يكن فلا حد قطعاً، وإن كان حُدّ لفسقه؛ لاطراده دون قيام دليل التحريم لتخلفه في أكل التراب. ص ــــ ومنها: رجحان ضبطه على سهوه لعدم حصول الظن. ومنها: العدالة. وهي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، ليس

- الرابع: العدالة

معها بدعة. وتتحقق باجتناب الكبائر وترك الاصرار على الصغائر وبعض الصغائر وبعض المباح. وقد اضطرب في الكبائر. فروى ابن عمر الشرك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد في الحرم. وزاد أبو هريرة: أكل الربا. وزاد علي: السرقة، وشرب الخمر. وقيل: ما توعد الشارع عليه بخصوصه. وأمّا بعض الصغائر فما يدل على الخسَّة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة. وبعض المباح كاللعب بالحمام، والاجتماع مع الأراذل، والحِرَف الدنية مما لا يليق له ولا ضرورة. وأمّا الحريّة والذكورة وعدم القرابة والعداوة، فمختص بالشهادة. ش ــــ الشرط الثالث: رجحان ضبط الراوي على سهوه لعدم حصول الظن بانتفائه. والشرط الرابع: العدالة، وعرفها المصنف بأنها محافظة دينية تحمل على

- الكبائر

ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة. وفيه نظر؛ أمّا أولاً: فلأنه استعمل المفاعلة ولا بد له من ارتكاب المجاز في التعريف. وأما ثانياً: فلأنه تعريف الشيء بما هو أخفى؛ لأنه يحتاج إلى معرفة الدين، وقد عرفه المحققون: بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات. وتقريره: يطلب في تقريرنا، شرح أصول الإمام فخر الإسلام. وإلى معرفة التقوى والمروءة، مع الاختلاف الواقع في تفسيرهما. أما ثالثاً: فلأنه قال: {{ليس معها بدعة}} فيكون التعريف مختصاً بمن لا يقبل رواية المبتدع. والإطلاق في التعريف إمّا لازم أو حسن. وتتحقق العدالة بالاجتناب عن الكبائر وترك الإصرار على الصغائر، وترك بعض الصغائر وترك بعض المباحات المخل للمروءة. والكبائر هي ما ذكره المصنف، وهي تسع على رواية ابن عمر ـــــ رضي الله عنهما ـــــ الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من

الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم. وزاد أبو هريرة: أكل الربا. وزاد علي: السرقة، وشرب الخمر. ولم يذكروا شهادة الزور، والذي ذكره مأخوذ [111/أ] من أحاديث ليس في حديث واحد. وقد ذكرنا ذلك كله في {{الإشراق شرح مشارح الأنوار}}.

ومن الناس من قال: كل ما توعد الشارع عليه بخصوصه فهو كبيرة. والإصرار على الصغيرة كبيرة بالاتفاق. وله ضابط ذكرته في التقرير والإشراق، ولم أذكره ههنا مخافة التطويل. وأما بعض الصغائر الذي لا بد للعدل من تركه فما يدل على الخسة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة. وأما بعض المباح، كاللعب بالحمام، والاجتماع مع الأراذل، والحرف الدنيّة إذا لم تكن ضرورة، كالحياكة، والدباغة؛ لأنها تخل بالمروءة. وأمّا الحرية، والذكورة وعدم القرابة القريبة، وعدم العداوة، فليس محتاجاً إليه في الرواية، بل هي مختصة بالشهادة.

- رواية مجهول الحال

رواية مجهول الحال ص ــــ مسألة: مجهول الحال لا يقبل. وعن أبي حنيفة قبوله. لنا: الأدلة تمنع من الظن، فخولف في العدل فيبقى ما عداه. وأيضاً: الفسق مانع فوجب تحقق ظن عدمه، كالصبا والكفر. قالوا: الفسق سبب التثبت فإذا انتفى. انتفى. قلنا: لا ينتفي إلا بالخبرة أو التزكية. قالوا: نحن نحكم بالظاهر. وردّ: بمنع الظاهر، وبنحو {وَلَا تَقفُ}. قالوا: ظاهر الصدق كإخباره بالذكاة، وطهارة الماء ونجاسته، ورِقّ جاريته. وردّ: بأن ذلك مقبول مع الفسق، والرواية أعلى رتبة. ش ــــ إذا جهل حال الراوي من العدالة والفسق لم تقبل روايته عند أكثر العلماء. وقبله أبو حنيفة ـــــ رحمه الله ـــــ.

قالوا: الأدلة السمعية، كقوله ـــــ تعالى ـــــ: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}. وقوله: {وَلَا تَقفُمَالَيسَلَكَبه عِلمٌ}. وقوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِيمِنَ الحَقِّشيئا (28)} مانعة من العمل بالظن مطلقاً، لكن خولف في الظن الحاصل من قول العدل لاختصاصه بزيادة ظهور الثقة، وبعده عن التهمة فبقيت معمولاً بها في غير العدل لسلامته عن المعارض. وفيه نظر؛ لأن ما ذكر من زيادة ظهور الثقة ونحوه لا يصلح معارضاً للقرآن لا محالة، فيجب العمل به مطلقاً، لكنه ليس كذلك فكان متروك الظاهر لا يصلح حجة. ولأن أنا حنيفة ـــــ رحمه الله ـــــ اعتمد على شهادة النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ بخيرية القرن الذي كان فيه، فكانت العدالة ظاهرة في زمنه. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: الفسق مانع عن قبول رواية صاحبه، فوجب تحقق ظن عدمه، قياساً على الكفر والصبا. فإنهما لما كانا مانعين عن قبول رواية صاحبهما، وجب تحقق ظن عدمهما، دفعاً للمفسدة. وفيه نظر؛ فإن الظن كان متحققاً في زمنه اعتماداً على شهادة النبي ـــــ عليه السلام ـــــ.

واحتجت الحنفية على قبول رواية المجهول بأوجه: منها: أن سبب التثبت هو الفسق بالنص، وهو فيه منتفٍ؛ لأن الأصل عدمه، فينتفي التثبت ويجب القبول. وأجاب المصنف: بمنع انتفاء الفسق، بل إنما ينتفي إذا عُلِمَ عدم فسقه بالخبرة، أو التزكية. ولقائل أن يقول: اشتراط العلم في ذلك متعذر قطعاً، والظن حاصل بالزمن. ومنها [111/ب] قوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{نحن نحكم بالظاهر}}. ومجهول الحال الظاهر منه لا من حاله العدالة فيحكم بقوله. وأجاب بمنع ظهور العدالة من المسلم، فإن الفرض أنه مجهول الحال. وفيه نظر؛ لأنه لم يقل: إن الظاهر من حاله العدالة، بل قال: الظاهر من المسلم العدالة والفرق بيّن، على أن منع ظهور العدالة عن المسلم إمّا أن يكون في زماننا، أو في زمان أبي حنيفة، أو مطلقاً، والثالث سوء ظن بالصحابة. والثاني رَدٌّ لشهادة النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ والأول ليس بمراد لأبي حنيفة. وقال: ـــــ وأيضاً ـــــ مُعَارَضٌ بقوله ـــــ تعالى ـــــ {وَلَا تَقفُمَالَيسَلَكَبه عِلمٌ} فإنه يدل على عدم اعتبار قوله، لعدم العلم به. وفيه نظر؛ لما تقدم أن الاستدلال بهذه الآية لا يتم، على أنها تدل على اشتراط العلم، وهو ليس بشرط بالاتفاق.

ومنها: أن مجهول الحال ظاهر الصدق فيما رواه كما أنه ظاهر الصدق في إخباره بكون اللّحم مذكى، وطهارة الماء ونجاسته، وَرِقَّ جاريته وقول ظاهر الصدق مقبول. وأجاب بالفرق من وجهين: الأول: أن إخباره فيما ذكرتم من الصور مقبول مع الفسق، فكذا مع كونه مجهول الحال. بخلاف روايته فإنه لا تقبل مع الفسق، فكذلك مع الجهل بحاله. وفيه نظر، أمّا أولاً: فلأن مبناه الفرق، وقد علمت ما فيه. وأما ثانياً: فلأن الفاسق إذا أخبر بما ذكر من الصور بحكم رأي المبتلى به لا يقبل مثله. وأمّا ثالثاً: فلأن قوله: بخلاف روايته؛ فإنها لا تقبل مع الفسق، فكذلك لم تقبل مع الجهل ظاهر الفساد. والثاني: أن الرواية أعلى رتبة من الإخبار فيما ذكرتم من الصور ولا يلزم من قبول إخبار مجهول الحال فيما هو أدنى رتبة، قبوله فيما هو أعلى رتبة. وفيه نظر؛ لأن كل واحد منهما متعدٍ إلى الغير، وفي ذلك سيّان في المرتبة؛ ولأن مبناه على الفرق. ص ــــ مسألة: الأكثر أن الجرح والتعديل يثبت بالواحد في الرواية دون الشهادة. وقيل: لا فيهما. وقيل: نعم فيهما. الأول: شرط فلا يزيد على مشروطه، كغيره.

- مسألة: هل يثبت الجرح والتعديل بخبر الواحد، أو لا؟

قالوا: شهادة فيتعدد. وأجيب: بأنه خبر. قالوا: أحوط. أجيب: بأن الآخر أحوط. والثالث: ظاهر. ش ــــ اختلف العلماء في أن الجرح والتعديل هل يثبت بخبر الواحد أو لا؟ فالأكثر أنهما يثبتان به الرواية دون الشهادة. وقيل: لا يثبتان به فيهما. وقيل: يثبتان به فيهما. حجة الأكثرين: أن الرواية تثبت بخبر الواحد، وكل من الجرح والتعديل شرط الرواية، والشرط لا يزيد على مشروطه في طريق إثباته كما في غير محل النزاع. وإنما قيل: في طريق إثباته؛ لأن الشرط قد يزيد على مشروطه في طريق تحصيله، كما في النكاح؛ فإنه سنة، وحضور الشاهدين شرطه، وهو واجب.

وأمّا الشهادة فلا بد فيها من التعدد، ولا تثبت بخبر الواحد وحجة النافين فيهما جميعاً: أن الجرح والتعديل شهادة فلا بد [112/أ] من تعدد الجارح والمعدل، كسائر الشهادات. وأجيب: بأنهما من باب الإخبار دون الشهادة، ولا يشترط التعدد. ولقائل أن يقول: لو كان كذلك ثبتا به في الشهادة، فكان حجة على الأكثرين. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: اعتبار العدد فيهما أحوط، والعمل به أولى. وأجيب: بأن عدم التعدد أحوط؛ لاحتمال تضييع الأحكام عند اشتراط العدد. وإذا كان كذلك وقع التعارض بين جهتي الترجيح ولا مرجح فيسقط الدليل. ولقائل أن يقول: الترجيح الأول راجع إلى ذات الجرح والتعديل، والثاني إلى حالٍ من أحوالهما. والأول أولى لا محالة. وحجة المذهب الثالث: ظاهر مما سبق، وهو أن الجرح والتعديل خبر فلا يحتاج إلى التعدد مطلقاً. ص ــــ مسألة: قال القاضي: يكفي الاطلاق فيهما. وقيل: لافيهما. وقال الشافعي: في التعديل. وقيل: بالعكس. وقال الإمام: إن كان عالماً كفى فيهما وإلا لم يكف. القاضي: إن شهد من غير بصيرة لم يكن عدلاً. وفي محل الخلاف، مدلس.

- مسألة: هل يكفي في التعديل والجرح إطلاق العدالة والفسق، أو لا؟

وأجيب: بأنه قد يبني على اعتقاده. أو لا يعرف الخلاف. الثاني: لو اكتفى لأثبت مع الشك للالتباس فيهما. أجيب: بأنه لا شك مع إخبار العدل. الشافعية: لو اكتفى في الجرح، لأدى إلى التقليد للاختلاف فيه. العكس: العدالة ملتبسة لكثرة التصنع، بخلاف الجرح. الإمام: غير العالم يوجب الشك. ش ــــ واختلفوا ـــــ أيضاً ـــــ في أنه هل يكفي في التعديل والجرح إطلاق العدالة، والفسق بدون ذكر السبب، أو لا؟ فقال القاضي: يكفي الإطلاق فيهما. وقيل: لا يكفي في واحد منهما. وقال الشافعي: يكفي في التعديل دون الجرح. وقيل: بالعكس.

وقال إمام الحرمين: إن كان المعدل والجارح عالمين بسبب الفسق والعدالة كفى الإطلاق فيهما، وإلا فلا. واستد القاضي: بأن الكلام في إطلاق العدل، وحاله لا يخلو عن ثلاثة: عن عدم علم بالسبب، وعلم به وهو مختلف فيه، وعلم به وهو متفق عليه. والأول: يفضي إلى عدم عدالته؛ لأنه تكلم بغير بصيرة، والعدل لا يفعله، فمن فرضناه عدلاً لم يكن كذلك، هذا خلف. والثاني: يفضي إلى التدليس، والمدلس، أي الملبس ــــ لا يكون عدلاً فتعين الثالث، فكان إطلاقه دليلاً على العلم بالعدالة أو عدمهما. وأجيب: بأنه قد يبني المعدل أو الجارح على اعتقاده العدالة أو الفسق بأمر ظنه سبباً ولم يكن سبباً، أو أطلق بناء على سبب ولم يعرف الخلاف، فلا يكون مدلساً. وفيه نظر؛ لأنه صدق عليه حينئذٍ أنه شهد من غير بصيرة وهو قادح في العدالة. واستدل من قال: لا يكفي الإطلاق فيهما، بأنه لو كفى وقع الإلتباس الموجب للشك؛ لجواز أن يكون الإطلاق عن سبب، وعن ما ظُنّ أنه سبب وليس بسبب، والحمل على السبب ترجيح بلا مرجح، فلزم الالتباس. وأجيب: بأنه لا يشك عند إخبار العدل [112/ب] فإن فرض عدالته ترجح كونه عن سبب. وفيه نظر؛ فإن الذي ذكره المصنف جواباً للقاضي إن صح فهو وارد على هذا، وإن لم يصح، صح مذهب القاضي. واستدلت الشافعية: بأنه لو اكتفى في الجرح، أدى إلى تقليد المجتهد؛ لأن الاختلاف واقع في سبب الجرح، فالمجتهد إذا اكتفى بقول الجارح أنه مجروح، ولم

يعرف ما هو سبب الجرح عند الجارح مع جواز أن يكون ما هو عند الجارح سبب، لا يكون سبباً عند المجتهد، لزم تقليد المجتهد الجارح في ذلك، وذلك غير جائز على ما سيأتي. وهذا بخلاف أسباب التعديل، فإنها لكثرتها لا تنضبط فلا يمكن ذكرها فيكتفي فيه بالإطلاق. وفيه نظر؛ لأن فرض العدالة يقتضي أن يكون الجرح بما هو سبب متفق عليه، وإلا كان مدلساً. واستدل من قال بعكس مذهب الشافعي: بأن العدالة متلبسه يتعسر الاطلاع عليها؛ لكثرة التصنع فربما يظهر الرجل صلاحية بالتصنع. بخلاف الجرح فإنه لا يمكن التصنع فيه. فلا بد في العدالة من ذكر سببها، لدفع الإلتباس. فلا يجب ذكره في الجرح لعدم الالتباس. وفيه نظر؛ لأن من امتثل الأوامر واجتنب النواهي كان عدلاً، وإظهار الصلاحية غير قادح، إلا إن كان على خلاف ما في باطنه، وذلك أمر لا يطلع عليه. واحتج الإمام بأن المعدل أو الجارح إن كان غير عالم، ولم يذكر السبب فيهما يكون قوله موجباً للشك؛ لأنه إذا كان غير عالم، احتمل أن يجعل ما هو موجب للجرح موجباً للعدالة، وبالعكس. فلم يحصل الجرح والتعديل بتعديله وجرحه. ولقائل أن يقول: التعديل عند عدم العلم بأسباب العدالة ممن فُرِضَ عدلاً غير متصوّر، والإقدام على الجرح والتعديل ممن لا يعلم أسبابه قادح في عدالته، فكان وجه الإمام ضعيفاً في جانبيه. ص ــــ مسألة: الجرح مقدم. وقيل: الترجيح.

- مسألة: إذا وقع تعارض بين الجرح والتعديل، فأيهما يقدم؟

لنا: أنه جمع بينهما. فوجب. أمّا عند إثبات معّين ونفيه باليقين فالترجيح. ش ــــ إذا وقع التعارض بين الجرح التعديل، فقال قوم: يقدم الجرح مطلقاً. وقال آخرون: لا بد من الترجيح في كل صورة، فأيهما ترجح قُدم على الآخر. واختار المصنف التفصيل فقال: إذا عين الجارح سبب الجرح، ونفاه المعدل بطريق يقيني، قُدّم أحدهما على الآخر بالترجيح. وذلك مثل أن يقول الجارح: رأيته قتل فلاناً. ويقول المعدل: رأيت فلاناً المدَّعَى قَتْلَه، حيّاً وإذا لم يعين الجارح سبب الجرح، أو عينه ولم ينفه المعدّل، أو نفاه بطريق غير يقيني، فالجرح مقدم. واستدل بما تقريره: إن تقديم الجرح في الصور الثلاث جمع بين الترجيح وتقديم الجرح، فوجب تقديم الجرح. وإنما قلنا: إن تقديم الجرح في الصور الثلاث جمع بين الترجيح وتقديمه؛ لأن الجرح في الصور الثلاث راجح. أمّا في الأولى؛ فلأن الجارح اطّلَع على ما لم يعرفه المعدل ولم ينفه. وأمّا في الثانية؛ فلأن المعدل لم يتعرض لنفي ما أثبته الجارح. وأمّا في الثالثة؛ فلأنه لم ينفه بطريق يقيني. وأمّا في غير الصور الثلاث وهو الصورة التي عيّن فيها الجارح سبب الجرح،

ونفاه المعدل بطريق يقيني فيقدم أحدهما على الآخر بالترجيح. والترجيح يتحقق بكثرة العدد وشدة الورع والتحفظ. هذا ما ذكره شيخي ـــــ العلامة رحمه الله. ودلالة لفظ المصنف عليه حقيقة. ومن الشارحين من حمل كلام المصنف على أن العمل بالجرح في غير صورة التعيين، فيكون جمعاً بينهما، فيكون أولى. أمّا إذا عين سبب الجرح ونفاه المعدل بطريق يقيني فلا يمكن الجمع والعمل بأحدهما من غير مرجح لا يجوز، فلا بد من الترجيح، وهو مثله فكان في دلالة لفظ المصنف اختلال.

* هل العمل بالشهادة والرواية يكون تعديلا؟

هل العمل بالشهادة والرواية يكون تعديلاً ص ــــ مسألة حكم الحاكم المشترط العدالة بالشهادة تعديل باتفاق. وعمل العالم مثله. ورواية العدل، ثالثها المختار: تعديل، إن كانت عادته أنه لا يروي إلا عن عدل. وليس من الجرح ترك العمل في شهادة ولا رواية؛ لجواز معارض. ولا لحد في شهادة الزنا؛ لعدم النصاب. ولا بمسائل الاجتهاد ونحوهما مما تقدم. ولا بالتدليس على الأصح، كقول من لحق الزهري: قال الزهري موهماً أنه سمعه. ومثل: وراء النهر، يعني [غير] جيحان. ش ــــ الحاكم الذي يشترط العدالة في الشهادة إذا حكم بشهادة شاهد كان الحكم بشهادته تعديلاً، لذلك الشاهد بالاتفاق. وكذلك العالم الذي [لم] يشترط العدالة في الرواية إذا عمل برواية [ر] اوٍ

- إذا روى العدل عن شخص، فهل تكون تعديلا لذلك الشخص

كان عمله بروايته تعديلاً. والعدل إذا روى عن شخص فروايته هل تكون تعديلاً لذلك الشخص، أو لا؟ فيه ثلاثة مذاهب: الأول: التعديل مطلقاً. الثاني: عدمه مطلقاً. الثالث، وهو مختار المصنف: التفصيل، وهو أن ذلك العدل، إن كان عادته أن لا يروي إلا عن عدل، فتعديل، وإلا فلا. أمّا الأول: فلأنه لو لم يكن ذلك الشخص عدلاً يلزم خلاف ما عهد عليه من العادة، وهو خلاف الأصل. وأمّا الثاني: فلأنه يجوز أن يروي العدل عن فاسق. وإذا ترك الحاكم العمل بشهادة شاهد، لم يلزم جرح ذلك الشاهد، وكذلك إذا ترك العالم العمل برواية [ر] اوٍ؛ لأن أسباب ترك العمل بشهادة الشاهد، ورواية الراوي كثيرة، وليس في الترك دلالة على شيء منها، فجاز أن يكون ترك العمل بها لوجود معارض لا يجرح الشاهد والراوي.

وإذا حد الحاكم شاهد الزنا لا يكون ـــــ أيضاً ـــــ جرحاً له، لجواز ثبوت عدالة ذلك الشاهد مع وجوب الحد عليه، فإن العدالة لا تنافي وجوب الحد؛ لجواز أن يحد لانتفاء كمال النصاب، دون العدالة. وإذا ترك الراوي العمل بالمسائل الاجتهادية ونحوها، كالحنفي إذا شرب [113/ب] النبيذ ولم يعمل بالقياس المحرم، أو صلى بعد اللمس ولم يتوضأ، لا يكون جرحاً له. وكذلك التدليس، كقول من أدرك الزهري مثلاً ـــــ ولم يصاحبه ـــــ: قال الزهري، كذا، فإنه يوهم أنه سمعه. وكقول من قال: سمعت فلاناً فيما وراء النهر، موهماً أنه نهر جيحان ومراده غيره.

- مسألة: الصحابة - رضي الله عنهم- كلهم عدول

ص ــــ مسألة: الأكثر على عدالة الصحابة. وقيل: كغيرهم. وقيل: إلى حين الفتن، فلا يقبل الداخلون؛ لأن الفاسق غير معين. وقالت المعتزلة: عدول إلا من قاتل علياً. لنا: {والذين معه}، {{أصحابي كالنجوم}} وما تحقق بالتواتر عنهم من الجد في الامتثال. وأمّا الفتن فتحمل على اجتهادهم. ولا إشكال بعد ذلك على قول المصوبة وغيرهم. ش ــــ الصحابة ــــ رضي الله عنهم ـــــ كلهم عدول، لا حاجة إلى تعديلهم عند الأكثرين. وقيل: هم كغيرهم، يحتاجون إلى التعديل. وقيل: كانوا عدولاً إلى ظهور الفتن، وهو آخر عهد عثمان ــــ رضي الله عنه. ثم ما روى بعد ذلك، من دخل فيها لم تقبل إلا بعد التعديل؛ لأن إحدى الطائفتين منهم فاسقون لا على التعيين.

- تعريف الصحابي

وقالت المعتزلة كلهم عدول إلا من قاتل علياً ــــ رضي الله عنه ـــــ. والحق ما عليه الأكثرون. والدليل عليه قوله ــــ تعالى ـــــ: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُعَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُبَينَهُمتَرَاهُمرُكَّعاسُجَّدا} الآية. مدحهم، وغير العدول لا يمدح. وقوله ــــ عليه السلام ـــــ: {{أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم}} جعل الاقتداء بهم هدى، والاقتداء بغير العدل ليس بهدى. وأيضاً: ثبت بالتواتر جدهم في أمر الدين وامتثال أمر الرسول ــــ ? ـــــ ونهيه، ولا نعني بالعدل إلا ذلك. فإن قيل: وقوع الفتن بينهم ينافي العدالة. أجاب المصنف بقوله: وأمّا الفتن الواقعة بينهم فتحمل على اجتهادهم، وظنّ كل فريق منهم أنهم مصيبون، لوجوب الكف عن الطعن فيهم. وحينئذٍ لم يبق إشكال. أمّا على قول المصوبة فظاهر. وأمّا على قول غيرهم؛ فلأن الخطأ عن المجتهد موضوع، بل هو مثاب على اجتهاده. ص ــــ مسألة: الصحابي من رآه ــــ عليه السلام ـــــ وإن لم يرو [و] لم تطل. وقيل: إن طالت. وقيل: أن اجتمعا. وهي لفظية، وإن ابتنى عليها ما تقدم. لنا: تقبل التقييد بالقليل والكثير فكان للمشرك، كالزيارة، والحديث. ولو حلف أن لا يصحبه حنث بلحظة.

قالوا: أصحاب الجنة، أصحاب الحديث، للملازم. قلنا: عرف في ذلك. قالوا: يصح نفيه عن الوافد والرائي. قلنا: نفي الأخص لا يستلزم [نفي] الأعم. ش ــــ لما ذكر الصحابي في المسألة المتقدمة، أراد أن يبين من هو وقد اختلفوا فيه: فذهب بعضهم: إلى أنه من رأى الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ لحظة، وإن لم يرو عنه، وهو مختار المصنف. وذهب آخرون: إلى أنه من طالت صحبته معه، وإن لم يرو عنه. وآخرون: إلى أنه من طالت صحبته وروى عنه. وإليه أشار بقوله: {{وقيل: [114/أ] إن اجتمعا}}. وهذه المسألة لفظية. وقيل: هذه الاختلافات لفظية، وإن ابتنى عليها مسألة معنوية، وهي التي تقدمت في بيان عدالة الصحابة، فإنه يجوز أن تبتني المسائل

المعنوية على اللفظية. واستدل للمختار من وجهين: أحدهما: أن الصحابي مشتق من الصحبة، وهي تطلق على القليل والكثير، يقال: صحبته ساعة وسنة فتكون القدر المشترك دفعاً للاشتراك والمجاز. كالزيارة والحديث، يقال: زارني، وحدثني فلان وإن لم يزره، ولم يحدثه إلا مرة واحدة. الثاني: إذا حلف الرجل أن لا يصحب فلاناً، حنث بلحظة. واستدل من قال: الصحابي من طالت صحبته ـــــ أيضاً ـــــ بوجهين: أحدهما: ما هو المشهور في قول الناس: أصحاب الجنة، أصحاب الحديث للملازمين لهما. فكان المراد بالصحبة في هذه الصورة الملازمة، فيكون في غيرها ـــــ أيضاً ـــــ كذلك، دفعاً للاشتراك، والمجاز. وأجاب المصنف: بأن ذلك معنى عرفي، والكلام في اللغوي. وفيه نظر؛ وأن مبنى الأيْمَان ـــــ أيضاً ـــــ على العرف. وقد استدل به ـــــ أيضاً ـــــ للمذهب الأول. والثاني: أنه لو كان حقيقة فيمن صحب لحظة لما صح نفيه عن الوافد [أ] ي الوارد، والرائي لحظة؛ لأنهما صحباه لحظة، لكن يصح نفي الصحبة عنهما.

- مسألة: إذا قال العدل المعاصر للنبي- صلى الله عليه وسلم-: أنا صحابي

وأجاب: ما يصح نفيه هو الصحبة الطويلة، وهي الأخص، ولا يلزم من نفيه نفي الأعم. ص ــــ مسألة: لو قال المعاصر العدل: أنا صحابي، احتمل الخلاف. ش ــــ إذا قال العدل المعاصر للنبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: أنا صحابي يحتمل الخلاف، أي يحتمل أن يكون مقبولاً؛ لأنه عدل، وهو لا يكذب ويحتمل أن لا يكون؛ لكونه متهماً بدعوى رتبة لنفسه، كما لو شهد لنفسه، أو زكاها. وهذه المسألة لا تتعلق بأصول الفقه ولا تبع لها فيه. ص ــــ مسألة: العدد ليس بشرط. خلافاً للجبائي فإنه اشترط خبراً آخر، أو ظاهراً، أو انتشاره في الصحابة، أو عمل بعضهم. وفي خبر الزنا أربعة. والدليل والجواب ما تقدم في خبر الواحد. ولا الذكورة، ولا البصر، ولا عدم القرابة، ولا عدم العداوة، ولا الإكثار، ولا معرفة نسبه، ولا العلم بفقه أو عربية، أو معنى الحديث؛ لقوله: {{نضّر الله امرءاً}}. ولا موافقة القياس، خلافاً لأبي حنيفة. ش ــــ جمهور العلماء: على أن العدد ليس بشرط في قبول الرواية. خلافاً للجبائي فإنه اشترط في قبول الرواية إمّا العدد، أي انضمام خبر آخر إلى خبره، أو موافقة المروى ظاهر آية، أو انتشاره بين الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ أو عمل بعض

- لا تشترط في قبول الرواية الذكورة، ولا البصر ... إلخ ...

الصحابة بذلك المروي. وشرط ـــــ أيضاً ـــــ في الخبر الذي يتعلق بأحكام الزنا، أن لا يكون المخبرون أقل من أربعة. والدليل على أن العدد ليس بشرط، والجواب عن الخصم ما تقدم في خبر الواحد. ولا تشترط الذكورة في الرواية؛ لأن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ أجمعوا على قبول رواية أمهات المؤمنين، وغيرهنّ ـــــ رضي الله عنهنّ ـــــ ولا البصر؛ لأن الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ رووا عن عائشة ما سمعوا [114/ب] منها، وكانوا [لا] يبصرونها. فلو كان البصر شرطاً لما رووا عنها؛ لأنهم كالأعمى في حقها. ولا عدم القرابة؛ فإن الإجماع على قبول رواية الولد عن والده. ولا عدم العداوة؛ لأن حكم الرواية لا يختص بواحدٍ معين، فلا تؤثر العداوة فيها. ولا الإكثار من سماع الحديث؛ فإن الصحابة قبلوا رواية من لم يرو إلا خبراً

واحداً، كوابصة بن معبد، وسلمة بن المحبق. ولا معرفة نسب الراوي؛ فإنهم قبلوا خبر من لم يعرفوا نسبه. ولا العلم بفقه الراوي، أو معنى الحديث؛ لأنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ قال: {{نضّر الله امرءاً سمع مقالة فوعاها وأداها كما سمعها}} دعا له، وأقرّ على الرواية مطلقاً.

ولا موافقة الحديث القياس إذا كان الراوي غير فقيه، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله ـــــ فإنه يقول: إذا كان الراوي غير فقيه بالنسبة إلى الخلفاء الراشدين، والعبادلة، فإن شرط القبول أن لا يسد به باب القياس من كل وجه، كحديث أبي هريرة ـــــ رضي الله عنه ـــــ في المصراة.

وقد ذكرناه في التقرير.

* مسند الصحابي

مستند الصحابي ص ــــ مسألة: إذا قال الصحابي: قال ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ حمل على أنه سمعه منه. وقال القاضي: متردّد. فينبني على عدالة الصحابة. ش ــــ إذا قال الصحابي: قال رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ حمل على أنه سمع منه؛ لأن الظاهر من حاله. وقال القاضي: متردّد؛ فإنه ثبت أن بعض الصحابة كان يروي عن بعض آخر، كما روى أبو هريرة ـــــ رضي الله عنه ـــــ قوله قال ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{من أصبح جنباً فلا صوم له}} فلما اسْتُكْشِفَ قال: حدثني فضل بن عباس. وحينئذٍ ينبني قول القاضي على

- مسألة: إذا قال الصحابي: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

عدالة الصحابة. فإن قلنا: إنهم عدول، كان قوله: قال رسول الله محمولاً على السماع، وإن قلنا: إنهم كغيرهم، كان حكمه حكم مرسل التابعي. ص ــــ مسألة: إذا قال: سمعته أو أمر أو نهى. فالأكثر: حجة؛ لظهوره في تحققه ذلك. قالوا: يحتمل أنه اعتقد وليس كذلك عند غيره. قلنا: بعيد. ش ــــ إذا قال الصحابي: سمعت رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ أمر أو نهى فالأكثر على أنه حجة؛ لأن الظاهر من حاله أن يكون ما سمعه حقيقة للأمر والنهي؛ لعلمه بأوضاع اللغة، وعدالته. وقيل: يحتمل أنه اعتقد أن ما سمعه أمر ولا يكون أمراً عند غيره فلا يكون حجة.

وأجاب المصنف: بأن هذا احتمال بعيد؛ لأن عدالته وعلمه بأوضاع اللغة، ومواضع الخلاف، منعه عن إطلاقها على مواضع الخلاف. ولقائل أن يقول: هذه المسألة كانت أولى أن تبتنى على عدالة الصحابة من الأولى؛ لأنه إذا قال: قال رسول الله، ولم يسمع هو لم يكذب، بخلاف ما إذا قال: سمعته ولم يسمع.

- إذا قال: أمرنا أو نهينا، أو أوجب أو حرم

أمرنا أو نهينا أو أوجب أو حرم ص ــــ إذا قال: أُمِرنا أو نُهِيّنَا أو أوجب، أو حرّم، فالأكثر حجة، لظهوره في أنه الآمر. قالوا: يحتمل ذلك، وأنه أمر الكتاب أو بعض الأئمة، أو عن استنباط. قلنا: بعيد. ش ــــ إذا قال الصحابي: أُمِرْنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو أوجب علينا، أو حرّم. فالأكثر: على أنه حجة [115/أ]؛ لظهور قول الصحابي في أن الآمر هو الرسول. وقال غيرهم: يحتمل ذلك، ويحتمل أن يريد أمر الكتاب، أو أمر بعض الأئمة أو أمراً عن استنباط صحابي، والمحتمل لا يصلح حجة. وأجاب المصنف: بأنها احتمالات بعيدة فلا تَرُدّ الظاهر.

أمّا أمر الكتاب فلعدم اختصاصه بأحد، وأمّا أمر غيره فيستلزم تقليده القائل، وهو غير معلوم.

- مسألة: إذا قال: من السنة كذا

من السنة كذا ص ــــ مسألة: إذا قال: من السنة كذا. فالأكثر: حجة، لظهوره في تحققها عنه. خلافاً للكرخي. ش ــــ إذا قال الصحابي: من السنة كذا، فالأكثر على أنه حجة، لظهوره في سنة رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وسنته حجة. وقال الكرخي: ليس بحجة؛ لأنها تطلق على سنة غيره ـــــ عليه السلام ـــــ قال: ? ـــــ: {{عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي}}. والحق أن إطلاق الصحابي السنة، إن كان في عهد النبي ـــــ عليه السلام ـــــ ينصرف إلى سنته ـــــ عليه السلام ـــــ؛ لأن سنة الخلفاء إنما تظهر بعده وإن كان بعده ـــــ عليه السلام ـــــ فالأمر محتمل.

- مسألة: إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا

كنا نفعل ص ــــ مسألة: إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا. فالأكثر حجة؛ لظهوره في عمل الجماعة. قالوا: لو كان لما ساغت المخالفة. قلنا: لأن الطريق ظني، كخبر الواحد النص. ش ــــ إذا قال الصحابي: كنا نفعل، كقول أبي سعيد الخدري ـــــ رضي الله عنه ـــــ: {{كنا نخرج في عهد رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ صاعاً من تمرٍ}}. فالأكثر أنه حجة؛ لأنه ظاهر في كونه فعل الجماعة في عهده ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ ومثله حجة؛ لأنهم عملوا ولم ينكر عليهم. وقيل: ليس بحجة؛ لأنه لو كانت حجة ما ساغت المخالفة لكونها مخالفة الإجماع، لكنها سائغة. وأجاب المصنف: بأن جوازها؛ لكون الطريق ظنياً، كخبر الواحد النص؛

فإنه يجوز مخالفته. واعلم أن الشارحين جعلوا هذه المسائل الست مراتب، وقالوا: إن كل مرتبة تقدمت فهي أعلى مما تأخرت عنها. وتكلفوا لذلك، ولمّا كان ذلك موضع المشاحّة لم أتعرض له.

- مستند غير الصحابي في القراءة وا لإجازة والمناولة، وهي ستة

مستند غير الصحابي في القراءة والإجازة والمناولة وهي ستة ص ــــ ومستند غير الصحابي قراءة الشيخ، أو قراءته عليه، أو قراءة غيره عليه، أو إجازته، أو مناولته، أو كتابته بما يرويه. فالأول أعلاها على الأصح إلا أنه إذا لم يقصد إسماعه قال: قال وحدث، وأخبر، وسمعته. وقراءته عليه من غير نكير، ولا ما يوجب سكوتاً من إكراه، أو غفلة أو غيرهما معمول به. خلافاً لبعض الظاهرية. لأن العرف تقريره، ولأن فيه إيهام الصحة. فيقول: حدثنا، وأخبرنا مقيداً أو مطلقاً على الأصح. ونقله الحاكم عن الأئمة الأربعة. وقراءة غيره كقراءته. ش ــــ لما فرغ من مستند رواية الصحابي، بين مستند غيره، وهو ـــــ أيضاً ـــــ ستة.

- قراءة الشيخ على الراوي

الأول: قراءة الشيخ على الراوي، سواء قصد إسماعه، أو لا. الثاني: عكسه. الثالث: قراءة غير الراوي على الشيخ. الرابع: الإجازة. الخامس: المناولة. السادس: كتابة الشيخ بما يرويه، بأن يكتب الشيخ إجازة الرواية عنه. والأول أعلى المراتب؛ لأنه طريقة رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وإنما قال: على الأصح؛ لأن منهم من ذهب إلى أن الثاني أعلى [115/ب]؛ لأن رعاية الطالب أشد، وإنما كان ذلك للأول من النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ أولى؛ لأنه كان مصوناً عن الخطأ وموصوفاً بدوام الحفظ. ثم إن الأول على قسمين: أحدهما: أن يقصد الشيخ بقراءته إسماع الراوي. والثاني: أن لا يقصده. فإن كان الثاني، لا يجوز للراوي أن يقول حدثني وأخبرني؛ لأنه كذب، وإنما يقول: قال الشيخ، وحدث، وأخبر، وسمعته. وأمّا الثاني، فإن لم يكن معها إنكار الشيخ ولا يوجب سكوت الشيخ من

إكراه أو غفلة أو غيرها، فهو معمول به، خلافاً لبعض أهل الظاهر، فإنه يقول: السكوت ليس بحجة. والدليل على كونه معمولاً به وجهان: أحدهما: أن العرف يقتضي بأن الراوي إذا قرأ على الشيخ وقصد بالقراءة أن يروي عنه وسكت الشيخ من غير حامل آخر على السكوت فإن سكوته تقريراً لما قرأه الراوي عليه. الثاني: أنه لو لم يكن ما قرأه الراوي عليه صحيحاً كان السكوت إيهاماً للصحة، وهو غير جائز. وكيفية الرواية في هذا الوجه، أن يقول: حدثنا، وأخبرنا مقيداً بقراءتي عليه، وأمّا إذا أطلق فقال: حدثنا، أو أخبرنا ففيه خلاف. والأصح جوازه.

- قراءة غير الراوي على الشيخ

وقد نقل الحاكم عن الأئمة الأربعة جوازه. وأمّا قراءة غير الراوي على الشيخ فكقراءة الراوي عليه. ص ــــ وأمّا الإجازة للموجود المعين. فالأكثر: على تجويزها. والأكثر: على منع: {{حدثني، وأخبرني}} مطلقاً. وبعضهم: ومقيداً. وأنبأني، اتفاق للعرف. ومنعها أبو حنيفة، وأبو يوسف. ولجميع الأمة الموجودين، الظاهر قبولها، لأنها مثلها. وفي نسل فلان، أو من يوجد من بني فلان، ونحوه، خلاف واضح. لنا: أن الظاهر أن العدل لا يروي إلا بعد علم، أو ظن، وقد أذن له. وأيضاً: فإنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ كان يرسل كتبه مع الآحاد و [إ] ن لم يعلموا ما فيها.

قالوا: كذب؛ لأنه لم يحدثه. قلنا: حدثه ضمناً، كما لو قرئ عليه. قالوا: ظن، فلا يجوز الحكم به، كالشهادة. قلنا: الشهادة آكد. ش ــــ الإجازة لموجود معين، مثل أن يقول الشيخ لراو معين: أجزت لك أن تروي عني ما في هذا الكتاب. فالأكثر على تجويزها ولا يقول: حدثني، وأخبرني مطلقاً عند الأكثر؛ للإشعار بصريح نطق الشيخ، وهو كذب. ومنهم من منع مقيداً ـــــ أيضاً ـــــ وهو أن يقول: حدثني إجازة. وأمّا {{أنبأني}} فيصح الرواية فيه باتفاق المجوّزين؛ لأن الإنباء يطلق على هذا بحسب العرف. قال المصنف: ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف الرواية

بالإجازة وهو غلط بوجهين: أحدهما: أن أبا حنيفة لم يمنعها مطلقاً، وإنما منعها إذا لم يكن المجاز له عالماً بما في الكتاب. فأما إذا كان عالماً به قد نظر فيه وفهمه، فقال له المجيز: إن فلاناً قد حدثنا بما في هذا الكتاب على ما فهمه بأسانيده هذه، فأنا أحدثك به، وأجزت لك الحديث [116/أ] به، فإنها تصح. والثاني: أن المتفق مع أبي حنيفة في هذه المسألة هو محمد على الوجه الذي ذكرناه لا أبو يوسف، فإنه يجوّزها. وأمّا الإجازة لجميع الموجودين، مثل أن يقول: أجزت لجميع الأمة

الموجودين أن يروا عني كذا، فالظاهر أنها تقبل؛ لأنها مثل الإجازة لموجود معين. وأمّا إذا قيل المجيز: أجزت لنسل بني فلان، أو أجزت لمن يوجد من بني فلان، ففيه خلاف واضح؛ لأن إجازة الموجود المعين إذا كان مختلفاً فيها، كان إجازة غير الموجود أولى بالاختلاف. واستدل المصنف على جواز الرواية بالإجازة: بأن الظاهر أن الراوي يعني المخبر العدل لا يروي إلا بعد علم أو ظن بصحة ما أجاز به، وقد أذن له أن يروي عنه فيحصل ظن صحة ما أجازه، فتجوز الرواية. وفيه نظر؛ لأن الكلام ليس في رواية المخبر، ولا في إذنه، وإنما الكلام في جواز رواية المجاز له مع عدم العلم أو الظن بما يروي، فإن في ذلك إضاعة للأحاديث بالإنكار على الإجازة، وفيه من الفساد ما لا يخفى. قال: وأيضاً ـــــ فإنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ كان يرسل كتبه مع الآحاد وإن لم يعلموا ما فيها.

وفيه نظر؛ لأن باب الكتابة والرسالة غير باب الإجازة، فإنهما بعدما ثبت عند السامع أنهما من عند فلان كانتا بمنزلة الخطاب، لما عرف في موضعهما فكان خلط أحد البابين بالآخر خبطأ. واستدل المصنف لأبي حنيفة: بأن الإجازة لا تكون إخباراً بالحدث فلو قال الراوي: {{أخبرني وحدثني}}، كان كذباً؛ لأنه لم يحدثه، وليس باستدلالٍ صحيح، ولم يقل به أبو حنيفة؛ لأن المجاز له إذا كان عالماً بما في الكتاب، فإنه يصح أن يقول: {{أخبرني وحدثني}}، والمعنى المذكور موجود فيه. وأجاب المصنف بما معناه: أن صريح الإجازة وإن لم يوجد فقد وجدت ضمناً، كقراءة الراوي على الشيخ؛ فإنه وإن لم يكن إخباراً بالحديث صريحاً، لكنه أجاز به ضمناً. وفيه نظر؛ لأنه مبني على ذلك الدليل الفاسد، والبناء على الفاسد فاسد، ولأن الاعتماد على الإخبار الضمني غير صحيح؛ لإفضاله إلى خلل في باب التبليغ، كما مرّ. وأمّا قراءة الراوي على الشيخ فشرط الرواية فيها أن يقول القارئ للشيخ بعد ما قرأ عليه: أهو كما قرأت؟ فيقول: نعم. وحينئذٍ ليس الإخبار ضمناً.

وقال ـــــ أيضاً ـــــ قالوا ـــــ يعني الحنفية ـــــ: {{ظن}}. أي الرواية بمجرد الإجازة ظن، فلا يجوز الحكم به، كالشهادة فإن الحكم بها لا يجوز إذا كان ظناً. والجامع بينهما كون كل منهما يوجب الحكم الشرعي، وهذا فاسدٌ، وافتراء على الحنفية؛ فإنهم قاطعون بأن باب الرواية أوسع من باب الشهادة، فكيف يقيسون إحداهما على الأخرى. ثم أجاب: بالفرق بأن الشهادة أكد من الرواية، ولهذا اشترط الحرية في الشهادة دون الرواية، وهو ـــــ أيضاً ـــــ فاسد؛ لأنه مبني على فاسد ولأنه مبني على الفرق، وهو غير مسموع كما مرّ غير مرة. * ... * ... *

- مسألة: نقل الحديث بالمعنى

نقل الحديث بالمعنى ص ــــ مسألة: الأكثر على جواز نقل [116/ب] الحديث بالمعنى للعارف. وقيل: بلفظ مرادف. وعن ابن سيرين منعه. وعن مالك أنه كان يشدد في الباء والتاء. وحمل على المبالغة في الأولى. لنا: القطع بأنهم نقلوا عنه أحاديث في وقائع متحدة بألفاظ مختلفة شائعة ذائعة، ولم ينكره أحد. وأيضاً: ما روي عن ابن مسعود وغيره أنه قال ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ كذا ونحوه، ولم ينكره أحد. وأيضاً أجمع على تفسيره بالعجمية، فالعربية أولى. وأيضاً فإن المقصود المعنى قطعاً، وهو حاصل. قالوا: {{نضّر الله امرءاً}}. قلنا: دعاء له؛ لأنه الأولى، ولم يمنعه. قالوا: يؤدي إلى الإخلال، لاختلاف العلماء في المعاني وتفاوتهم، فإذا قدر ذلك مرتين [أو ثلاثاً] اختل بالكلية. وأجيب: بأن الكلام فيمن نقل بالمعني سواء.

ش ــــ لما فرغ من بيان الأمور الموجبة لقبول الخبر، ذكر الأمور المانعة منه، ومن جملتها عند بعض: النقل بالمعنى، وهو جائز عند الشافعي وعامة أهل الأصول مطلقاً، سواء كان بلفظ مرادف، أو بغيره إذا كان عارفاً بمعناه. وقيل: إذا كان بلفظ مرادف، كإبدال لفظ التحريم بلفظ الحظر. ونقل عن ابن سيرين منعه مطلقاً. ونقل عن مالك أنه كان يشدد في الباء والتاء، يعني بالغ في المنع حتى لم يجوّز إبدال الباء بالتاء في القسم أن يقول بالله بدل تالله. قال المصنف هذا النقل منه محمول على المبالغة في الأولوية لا في الوجوب لجواز النقل بالمعنى عند مالك إذا كان عارفاً بمعناه. حجة الأكثرين أوجه:

الأول: أنا نعلم قطعاً أنهم مقلوا حديثاً واحداً جرى في مجلس في واقعة بألفاظ مختلفة شائعة ذائعة بينهم، ولم ينكر أحد من الصحابة ـــــ رضي الله عنهم. [الثاني: ما روي عن ابن مسعود وغيره من الصحابة ـــــ رضي الله عنهم ـــــ] أنه ـــــ عليه السلام ـــــ قال: كذا، أو نحواً منه. ردّد الرواية بين عبارتين، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وقبلوا روايته، والقبول مع الشك في لفظ الرسول دليل الجواز. الثالث: أجمعوا على جواز تفسير الحديث بالعجمية، فجواز تفسيره بالعربية أولى؛ لأن العربية أقرب إلى لفظ الرسول. وفيه نظر؛ لأن التفسير عبارة عن أن يذكر لفظ يراد بيانه بما هو أوضح في أداء المراد، وليس النقل كذلك. الرابع: أنا نعلم قطعاً أن الألفاظ غير مقصودة بل المقصود هو المعنى وهو

حاصل إذا نقل بلفظ آخر فلا أثر لاختلاف اللفظ. وفيه نظر؛ لأنه إنما يصح إذا كان بلفظ مرادف، وهو ليس مذهب الأكثرين. واستدل للمانعين بوجهين: أحدهما: أنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ قال: {{نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها}}. وذلك يدل على وجوب نقل الحديث بلفظه لأنه هو أداء المقالة كما سمع. وأجاب: بأنه لا دلالة على الوجوب، بل هو دعاء للناقل كما سمع. وغايته الدلالة على الأولوية. الثاني [117/أ] أن النقل بالمعنى، يؤدي إلى الإخلال بالمعنى المقصود؛ لاختلاف العلماء في درك المعاني المقصودة، وتفاوتهم في فهمها فلا يبعد أن يغفل الناقل عن إدراك بعض دقائقها بنقله بلفظ آخر لا يدل عليها. فلو قدر ذلك مرتين، أو ثلاثاً اختل المعاني المقصودة بالكلية. وأجاب: بأن الكلام فيمن ينقل بالمعنى سواء من غير زيادة ولا نقصان. وفيه نظر؛ لاستلزامه المترادف كما تقدم.

- إذا كذب الأصل الفرع سقط القبول

إذا كذب الأصل الفرع سقط ص ــــ إذا كذب الأصل الفرع سقط؛ لكذب واحد غير واحد معين، ولا يقدح في عدالتهما. فإن قال: لا أدري، فالأكثر: يعمل به، خلافاً لبعض الحنفية ولأحمد: روايتان. لنا: عدل غير مكذب، كالموت والجنون. واستدل: أن سهيل بن أبي صالح روى عن أبيه عن أبي هريرة أنه قضى باليمين مع الشاهد. ثم قال لربيعة: لا أدري. فكان يقول: حدثني ربيعة عني. قلنا: صحيح. فأين وجوب العمل. قالوا: لو جاز، لجاز في الشهادة. قلنا: الشهادة أضيق. قالوا: لو عمل به لعمل الحاكم بحكمه إذا شهد شاهدان، ونسي. قلنا: يجب ذلك عند مالك وأحمد وأبي يوسف، وإنما يلزم الشافعية. ش ــــ إذا كذب الأصل الفرع، سقط القبول؛ لكذب أحدهما لا بعينه، وذلك يستلزم ردّ ما رواه الفرع. أمّا إذا كذب الفرع فظاهر. وإن كَذَبَ الأصلُ في التّكْذِيب كان مجروحاً لكن لا يقدح ذلك في عدالتهما؛ لثبوتهما بيقين لا يزول بالشك. هذا إذا كذبه جزماً.

وأمّا إذا قال: لا أدري صحة ما قاله الفرع ففي وجوب العمل به خلاف. فالأكثر: يعمل به. خلافاً لبعض الحنفية. ولأحمد روايتان: إحداهما، في العمل به، والأخرى في عدمه. والدليل للأكثر: أن المقتضي للعمل، وهو عدالة الفرع موجود والمانع وهو التكذيب منتف؛ فإن قول الأصل: لا أدري ليس بتكذيب؛ لاحتمال النسيان فصار كموت الأصل، وجنونه في عدم المانعية. وقد استدل لهم: بأن سهيل بن أبي صالح روى عن أبيه عن أبي هريرة أنه قضى باليمين مع الشاهد. رواه عن سهيل ربيعة، ثم قال سهيل لربيعة:

لا أدري صحة ذلك. وكان بعد ذلك يقول سهيل: حدثني ربيعة عنّي، واشتهر ذلك، ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعاً على قبوله. وأجاب المصنف: بأن هذا الحديث على الوجه المذكور صحيح الرواية، وليس فيه ما يدل على وجوب العمل به. وفيه نظر؛ لأنه إذا لم ينكره صار كخبر واحدٍ سالم عن توهم ما يمنع العمل به، فكان كسائر أخبار الآحاد الموجبة للعمل. وقال المانعون للعمل به: لو جاز العمل برواية الفرع مع نسيان الأصل، لجاز العمل بشهادة الفرع مع نسيان الأصل، والتالي باطل بالاتفاق. وأجاب: بمنع الملازمة؛ فإن الشهادة أضيق وأكد من الرواية، كما مرّ. وقالوا ـــــ أيضاً ـــــ: لو جاز العمل بذلك لعمل الحاكم بشهادة شاهدين [117/ب] شهدا على حكمه وهو ناسٍ. والتالي باطل بالاتفاق. وأجاب: بمنع انتفاء التالي؛ فإنه يجب على الحاكم العمل بشهادتهما على حكمه عند مالك، وأحمد، وأبي يوسف.

- إذا انفرد العدل بزيادة والمجلس واحد

وإنما يلزم الشافعية، فإنهم يمنعون ذلك. ص ــــ إذا انفرد العدل بزيادة والمجلس واحد. فإن كان غيره لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة، لم تقبل. وإلا فالجمهور: تقبل. وعن أحمد: روايتان. لنا: عدل جازم، فوجب قبوله. قالوا: ظاهر الوهم، فوجب رده. قلنا: سهو الإنسان بأنه سمع ولم يسمع، بعيد، بخلاف سهوه عما سمع، فإنه كثير. فإن تعدد المجلس قبل باتفاق. فإن جهل فأولى بالقبول. ولو رواها مرة، وتركها مرةـ فكراويين. وإذا أسند وأرسلوه، أو رفعه ووقفوه، أو وصله وقطعوه فكالزيادة. ش ــــ إذا روي العدول حديثاً وانفرد منهم عدل برواية زيادة على ما رووه. فإمّا أن تكون منافية للمزيد عليه، كما إذا قال: في أربعين شاة شاة، وزاد واحد في أربعين شاة نصف شاة، أو نفى غيره تلك الزيادة كما إذا قال الغير: سمعت رسول الله قال: {{في أربعين شاة شاة}} ولم يزد وكنت أرصده. وهذان القسمان لا يقبلان، ولهذا لم يتعرض لهما المصنف. وقسم آخر وهو المذكور، أي يروي جماعة أن رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ

دخل البيت، ونفرد واحد منهم بزيادة قوله: {{وصلى}} وهو على ثلاثة أقسام: إمّا أن يكون مجلس التحمل واحداً أو متعدداً، أو مجهولاً وحدته وتعدده. فإن كان المجلس واحداً، فإمّا أن يكون غير ذلك المنفرد من الرواة جمعاً لا يغفل مثلهم عن مثل تلك الزيادة عادة، أو لا. فإن كان الأول، لم تقبل الزيادة بالاتفاق، وإن كان الثاني: فالجمهور تقبل. وعن أحمد روايتان في الرد والقبول. واحتج للجمهور: بأن المقتضي للقبول، وهو إخبار العدل الجازم بما أخبر موجود، والمانع ـــــ وهو كون ما رواه الآخرون منافياً للزيادة ـــــ منتفٍ، وإذا تحقق المقتضي وانتفى المانع، وجب العمل بلا خلاف. واحتج الخصم بأن قول المنفرد ظاهر الوهم فيما رواه من الزيادة إذ يجوز أنه

لم يسمع ووهم أنه سمعه، أو سمع من غير الرسول وتوهم أنه سمع منه. وأجاب: بأن سهو الإنسان بأنه سمع ولم يسمع بعيد عن الوقوع بخلاف سهوه عمّا سمع فإنه كثير شائع. فكان احتمال الوهم في حق من لم يرو الزيادة أكثر. وفيه نظر؛ فإن الاحتمال في الأول من وجهين: وهو أنه سمع أو لم يسمع، وسمع منه أو من غيره. وفي الثاني من وجه واحد، والواحد نصف الاثنين. وإن كان المجلس متعدداً تقبل الزيادة اتفاقاً. وإن جهل الواحدة، والتعدد فهو أولى بالقبول مما إذا اتحد. وأمّا إذا روى الراوي الزيادة مرة وتركها أخرى، فحكمه حكم الراويين فحيث اتحد المجلس اتحاداً في الزمان جاء الخلاف. وحيت تعدد [118/أ] ثبت الاتفاق ـــــ وحيث جهل كان أولى بالقبول. وإذا أسند وأرسل الباقون، أو رواه مرفوعاً إلى النبي ـــــ عليه السلام ـــــ ورووه موقوفاً على صحابي أو وصله لم يخل براوٍ في البين، وقطعوه. فحكم هذه الصور حكم الزيادة؛ لأنه يظهر عند التأمل أن المُسْنِدَ والرافع والواصل يزيد بالنسبة إلى المرسل والواقف والقاطع.

- مسألة: جواز حذف بعض الخبر

جواز حذف بعض الخبر وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ص ــــ مسألة: حذف بعض الخبر جائز عند الأكثر، إلا في الغاية والاستثناء ونحوه مثل: {{حتى تزهي}}، و {{إلا سواء بسواء}} فإنه ممتنع. مسألة: خبر الواحد فيما تعم به البلوى. كابن مسعود في مس الذكر، وأبي هريرة في غسل اليدين ورفع اليدين. مقبول عند الأكثر، خلافاً لبعض الحنفية. لنا قبول: الأمة له في تفاصيل الصلاة. وفي نحو الفصد والحجامة. وقبول القياس، وهو أضعف. قالوا: العادة تقضي بنقله متواتراً. ردّ: بالمنع، وتواتر البيع والنكاح والطلاق والعتق اتفاق. أو كان مكلفاً بإشاعته. ش ــــ حذف بعض الخبر جائز إن لم يكن مخلاً لحكم الباقي، كقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{هو الطهور ماؤه والحل مميتته}} فإن حذف قوله: {{حل مميتته}} لا يخل للباقي.

- مسألة: خبر الواحد فيما تعم به البلوى

وإن كان مخلاً، كحذف الغاية في قوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{لا تبيعوا الثمار حتى تزهي}}. وحذف الاستثناء في قوله ـــــ عليه السلام ـــــ: {{لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء}} لا يجوز بالاتفاق. لاختلال المعنى بلزوم منع بيع الثمار مطلقاً، ومن بيع البر بالبر مطلقاً وذلك باطل. ومما يمنع القبول وقوع خبر فيما لم يختص به قوم دون آخرين بل هو مما يحتاج إليه عموم الناس، وهو المراد بقوله: {{عموم البلوى}} فإنه مما لا يقبله بعض

الأئمة، وذلك كخبر ابن مسعود ـــــ رضي الله عنه ـــــ في انتفاض الوضوء بمس الذكر. وخبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل أن يدخلهما الإناء إذا استيقظ المتوضي من منامه.

وخبره في رفع اليدين عند الركوع. وقبله الأكثرون، محتجين: بأن الأمة أجمعوا على قبول خبر الواحد في تفاصيل الصلاة؛ أي أركانها وشرائطها؛ لأنها وإن كانت متواترة في الجملة لم تتواتر تفاصيلها، ولذلك وقع فيها خلاف العلماء، وهي مما تعم به البلوى. وأجمعوا ـــــ أيضاً ـــــ على قبول خبر الواحد في الفصد والحجامة.

وأجمعوا على قبول القياس فيما تعم به البلوى، وهو أضعف من خبر الواحد، وإذا كان الضعيف مقبولاً، كان القوي أولى. ولقائل أن يقول: ما ورد من الخبر في تفاصيل الصلاة، فهو بيان لمجمل الكتاب، والحكم في مثله مضاف إلى الكتاب أو يتقوى به، فليس مما نحن فيه. وما ورد في الفصد والحجامة قد نقله جماعة. سلمناه، لكن لم يرد فيه إنكار، بخلاف خبر ابن مسعود، فإنه روى عن عائشة ـــــ رضي الله عنها ـــــ أن رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ سئل عن مسّ الذكر فقال: {{ما أبالي أمسسته أم مسست أنفي}}. وروي عن قيس بن طلق أنه قال: قلت يا رسول الله، أفي مس الذكر

الوضوء؟ فقال: {{أو غير ذلك}} [118/ب] فكان حديث ابن مسعود مستنكراً، وحكم المستنكر عند الحنفية أنه غير حجة، يحتمل أن يكون حجة، كما في حديث أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، ولم يعمل بخبره في رفع اليدين؛

للأحاديث الدالة على نفيه على ما عرف في موضعه. وقبول القياس في ذلك ممنوع. سلمناه، ولكنه يستند إلى أصل غير مستنكر. واستدل المصنف للحنفية: بأن العادة تقضي بتواتر ما تعم به البلوى، ولذلك تواتر البيع والنكاح، والطلاق، والعتق. فإذا لم تتواتر دل على عدم صدقه. وأجاب: بالمنع؛ أي لا نسلم أن العادة تقضي بالتواتر فيما تعم به البلوى، بل يجوز أن يكتفي في ثبوته بما يفيد الظن. وتواتر مثل البيع، والنكاح، والطلاق، والعتاق إنما وقع اتفاقاً. أو لأن الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ كلف بإشاعتها، لا لأن عموم البلوى اقتضى تواترها. ولقائل أن يقول: لم يقل الحنفية إن عموم البلوى يقتضي تواتره، بل قالوا: يقتضي النقل عن وجه يفيد الظن، وهو لا يفيده مع اشتهار الحادثة وخفاء الخبر. ألا ترى أنه كيف اشتهر في الخَلَفِ. فإذا شذّ الحديث مع اشتهار الحادثة كان ذلك أمارة زيفه. وإذا كان ما ذكره من الاستدلال لهم فاسد، كان ما بني عليه من الجواب

- مسألة: خبر الواحد في الحد

كذلك. على أن تكليف الرسول ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ بإشاعة البيع ونحوه، إمّا أن يكون معللاً، أو لا. والثاني خلاف الأصل؛ لأن الأصل التعليل، والأول تكون العلة فيه اشتهار الحكم فيما تعم به البلوى؛ لانتفاء غيره ظاهراً. وهي موجودة فيما نحن فيه. فلو كان الخبر صحيحاً أشاع حكمه. ص ــــ مسألة: [خبر] الواحد في الحد مقبول، خلافاً للكرخي، والبصري. لنا: ما تقدم. قالوا: {{ادرؤا الحدود بالشبهات}} والاحتمال شبهة. قلنا: لا شبهة، كالشهادة، وظاهر الكتاب. ش ــــ خبر الواحد في حد من الحدود، كحد الزنا والقذف وغيره مقبول خلافاً للكرخي، وأبي الحسين البصري. والدليل على القبول إطلاق الحجة الدالة على كون خبر الواحد حجة من غير تخصيص في صورة دون أخرى. واحتج الخصم: بأن خبر الواحد يفيد الظن، والظن يبقى معه احتمال النقيض، واحتمال النقيض شبهة، والحد يندفع بالشبهة، لقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{ادرؤا الحدود بالشبهات}}.

وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم أن احتمال النقيض شبهة يندفع به الحد وإلا لا ندفع بشهادة الشهود الأربعة، وبظاهر الكتاب؛ لوجود الاحتمال فيهما. ولقائل أن يقول: الشهادة صارت حجة بالنص الذي لا شبهة فيه، قول الله ـــــ تعالى ـــــ: {فَاستَشهِدُوا عَلَيهِنَّأَربَعَةمِّنكُم} على خلاف القياس وبالإجماع ـــــ أيضاً ـــــ فلا يجوز القياس عليها، ولا الإلحاق بها، بالدلالة لأنه ليس في معناها من كل وجه، لعدم توقفه على الذكورة، والحرية [119/أ] والبصر، وتوقفا عليها. وظاهر الكتاب قطعي المتن دون خبر الواحد، فلا يلحق به. * ... * ... *

حمل الصحابي ما رواه على أحد محمليه

حمل الصحابي ما رواه على أحد محمليه ص ــــ مسألة: إذا حمل الصحابي ما رواه على أحد محمليه، فالظاهر حمله عليه بقرينة. فإن حمله على غير ظاهره، فالأكثر على الظهور. وفيه قال الشافعي: {{كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته}}. فلو كان نصاً فيتيعن نسخه عنده. وفي العمل نظر. وإن عمل بخلاف خبر أكثر الأمة فالعمل بالخبر، إلا إجماع المدينة. ش ــــ الخبر إمّا أن يكون مجملاً، أو ظاهراً، أو نصاً. فإن كان مجملاً وحمل الصحابي الراوي على أحد محتمليه، فالظاهر أنه حمله عليه لقرينة مخصصة، وإنما قال: {{الظاهر}} أنه لا يجوز أن يكون حمله عليه باجتهاده، وحينئذٍ جاز للمجتهد أن يخالفه بالإجتهاد.

وإن كان ظاهراً وحمله على غير الظاهر، فالأكثر على أنه يحمل على الظهور لا على ما حمل إليه الراوي، وفي مثل هذا قال الشافعي ـــــ رحمه الله ـــــ: {{كيف اترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته}}. وباب المفاعلة كان أولى بالذكر فتأمل. ومنهم. من قال: يحمل على ما حمل عليه الراوي. محتجاً بأنه لو لم يجد دليلاً راجحاً، لكان حمله على غير الظاهر قدحاً في عدالته. وأجيب: بأنه يجوز أن يكون الدليل راجحاً باجتهاده، ولم يكن راجحاً في نفس الأمر. وإن كان الخبر نصاً، وعمل الراوي بخلافه، تعين أن يكون الخبر منسوخاً عنده، وإلا لما عمل بخلافه. وفي جواز العمل بهذا النص نظر، كأنه يريد بهذا أن لا يترك العمل به؛ لأن النص أقوى من الظاهر، والظاهر لا يكون متروكاً عند الأكثر، إذا ترك الراوي العمل به، فالنص أولى أن لا يترك. وردّ: بأنا لا نسلم أن النص أولى بأن لا يترك؛ لأن دلالته قطعية، لا تحتمل

غير معناه. فلا يكون ترك الراوي إيّاه إلاّ [ا] لنص راجح. بخلاف الظاهر، فإنه لمّا احتمل غير معناه جاز أن يكون تركه باجتهاده. وأجيب: بأن النص بالعمل أولى؛ لأن المقتضي للعمل به متحقق بخلاف عمل الراوي؛ فإنه يجوز أن تكون مخالفته لنص آخر ظنه الراوي ناسخاً وليس في الواقع كذلك. وإذا عمل أكثر الأمة على خلاف خبر الواحد، فالعمل بخبر الواحد لا بعمل أكثر الأمة، لما علمت أن قول الأكثر لا يكون حجة فضلاً عن أن يكون راجحاً على خبر الواحد. إلا إذا كان الأكثر العامل أهل المدينة، فإنه يتعين العمل بعمل أهل المدينة؛ لأنه ثبت أن اتفاق أهل المدينة إجماع، وهو مقدّم على خبر الواحد. وقد تقدم الكلام على ذلك.

الخبر المخالف للقياس

الخبر المخالف للقياس ص ــــ مسألة: الأكثر على أن الخبر المخالف للقياس من كل وجه مقدم. وقيل: بالعكس. أبو الحسين: إن كانت العلة بقطعي فالقياس، وإن كان الأصل مقطوعاً به، فالاجتهاد. والمختار: إن كانت العلة بنص راجح على الخبر [119/ب] ووجودها في الفرع قطعي فالقياس. فإن كان وجودها ظنياً، فالوقف. وإلا فالخبر. لنا: أن عمر ترك القياس في الجنين بالخبر، وقال: {{لولا هذا لقضينا فيه برأينا}}. وفي دية الأصابع باعتبار منافعها، بقوله: {{في كل اصبع عشر}}. وفي ميراث الزوجة من الدية، وغير ذلك. وشاع وذاع ولم ينكره أحد. وأمّا مخالفة ابن عباس خبر أبي هريرة {{توضؤا مما مست النار}} فاستبعاد لظهوره. وكذلك هو وعائشة في: {{إذا استيقظ}}. ولذلك قالا: فكيف [نصنع] بالمهراس. وأيضاً: أخر معاذ العمل بالقياس، وأقرّه.

وأيضاً: لو قدم لقدم الأضعف. والثانية إجماع؛ لأن الخبر يجتهد فيه في العدالة والدلالة، والقياس في ستة: حكم الأصل، وتعليله، ووصف التعليل، ووجوده في الفرع، ونفي المعارض فيهما. وإلى الأمرين ـــــ أيضاً ـــــ إن كان الأصل خبراً. ش ــــ خبر الواحد المخالف للقياس، إن كان الجمع بينهما ممكناً بوجه فسيأتي وإن لك يكن، فالأكثر على أن خبر الواحد مقدم على القياس مطلقاً. وقيل: بالعكس، أي يقدم القياس مطلقاً. وقال أبو الحسين: إن كانت العلة منصوصة بنص قطعي فالقياس مقدم؛ لأن النص على العلة كالنص على حكمها، وإن لم يكن كذلك، فإن كان الأصل مقطوعاً به خاصة فموضع اجتهاد يقدم ما تقدم بالاجتهاد والترجيح. وإلا فالخبر؛ لاستواء النصين في الظن، وترجيح الخبر بالدلالة على الحكم بلا واسطةٍ.

وإن كانت العلة مستنبطة، فحكم الأصل إن كان بخبر واحد كالخبر، أو بدليل مقطوع به فموضع اجتهاد. وتوقف القاضي. واختار المصنف، التفصيل قال: إن كانت العلة ثابتة بنص راجح على الخبر سواء كان النص قطعياً أو ظنياً، ووجود العلة في الفرع قطعياً فالقياس مقدم. وإن كان وجودها في الفرع ظنياً فالوقف. وإن لم تكن العلة ثابتة بنص راجح على الخبر، فالخبر مقدم. واحتج على تقدم الخبر إذا لم تثبت العلة بنص راجح بأوجه: الأول: أن عمر ترك العمل بالقياس في دية الجنين بحديث حمل ابن مالك حيث قال: {{كنت بين ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميتاً، فقضى رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ بالغرة}} فقال عمر ـــــ رضي الله عنه ـــــ: {{لولا هذا لقضينا برأينا}}.

وأيضاً: ترك العمل بالقياس وأخذ في دية الإصبع، فإنه قصد إيجاب دية الأصابع على قدر منافعها، حتى روى واحد من الصحابة: {{في كل أصبع عشر من الإبل}}. وأيضاً: اجتهد عمر واستقر رأيه على أن زوجة المقتول لا ترث من دية زوجها، فلما نقل عن الرسول توريث الزوجة من دية زوجها ترك الاجتهاد، وأخذ

بالخبر، وشاع ذلك وذاع، ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع. فإن قيل: لا نسلم أنه لم ينكر أحد تقديم الخبر على القياس؛ فإن [120/أ] ابن عباس ـــــ رضي الله عنهما ـــــ قدم القياس على الخبر. خبر أبي هريرة ـــــ رضي الله عنه ـــــ: {{توضؤوا مما مسته النار}} فقال: ألسنا نتوضأ بالماء الحميم، فكيف نتوضأ بما نتوضأ عنه. وخالف ابن عباس وعائشة ـــــ رضي الله عنهما ـــــ خبر أبي هريرة ـــــ أيضاً ـــــ {{إذا استيقظ أحدكم من نومه}} الحديث. لكونه مخالفاً للقياس. أجاب المصنف: بأنا لا نسلم أن إنكار ابن عباس في الحديث الأول لترجيح

القياس على الخبر، بل كان لاستبعاده الحديث المذكور؛ لظهور الأمر على خلافه. وكذلك إنكارهما للخبر الثاني. ولذلك قالا: {{كيف نصنع بالمهراس؟}} وهو حجر منقور يتوضأ منه. الثاني: أنه ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ لما بعث معاذا إلى اليمن، قال: {{بم تقضي}}؟ قال:

بالكتاب. قال ـــــ عليه السلام ـــــ: {{فإن لم تجد؟}} قال: بالسنة. قال: {{إن لم تجد؟}} قال: اجتهد برأيي. قال رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ: {{الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله}}، جعل معاذ العمل بالقياس مشروطاً بعدم وجدان الحكم في السنة أعم من أن يكون متواتراً، أو مشهوراً، أو آحاداً، وأقره رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ على ذلك وحمد. فلو لم يكن الخبر مقدماً على القياس لم يكن كذلك. الثالث: لو [قدم] القياس على خبر الواحد، لزم تقدم الأضعف على الأقوى. والثاني: إجماع، أي التالي باطل بالإجماع. وبيان الملازمة: بأن الخبر يتوقف على مقدمات أقلّ من القياس. وما كان أقل مقدمات كان أبعد عن وقوع الخطأ فيه، وما كان كذلك فهو أقوى في الحجية. وبيان ذلك: أن الخبر يجتهد فيه في أمرين: عدالة الراوي، ودلالته على ما هو المراد. والقياس يجتهد فيه في ستة أمور: ثبوت حكم الأصل، وتعليل حكم الأصل، والوصف الصالح له، ووجود ذلك الوصف في الفرع، وعدم المعارض في الأصل وعدمه في الفرع. إذا لم يكن الأصل ثابتاً بالخبر. فإن كان، احتاج القياس إليها وإلى الأمرين ـــــ أيضاً ـــــ، أي العدالة والدلالة. ص ــــ قالوا: الخبر محتمل للكذب والكفر والفسق والخطأ والتجوّز والنسخ. وأجيب: بأنه بعيد.

وأيضاً فمتطرق إذا كان الأصل خبراً. وأمّا تقديم ما تقدم؛ فلأنه يرجع إلى تعارض خبرين عمل بالراجح منهما. والوقت لتعارض الترجيحين. فإن كان أحدهما أعم، خصّ بالآخر، وسيأتي. ش ــــ احتج من قدم القياس على الخبر، بأن القياس أقوى من الخبر لأن الخبر يحتمل الكذب، لعدم عصمة الراوي، ويحتمل كفر راوٍ من الرواة، وفسقه. ويحتمل الخطأ؛ لجواز ذهول أحد الرواة. والتجوّز، والنسخ. والقياس لا يحتمل شيئاً منها فكان أقوى، والأقوى أقدم. أجاب المصنف: بأن هذه الاحتمالات بعيدة مع ظهور عدالة الراوي ويتطرق إذا كان أصله خبراً. فإن قيل: لو كان ما ذكرتم صحيحاً لم يتقدم خبر على قياس أصلاً؛ لوجود ما ذكرتم فيه، لكن ليس كذلك بالاتفاق فيما إذا كانت العلة منصوصة بنص راجح على الخبر، ووجودها في الفرع قطعياً [120/ب] أجاب المصنف، بما تقريره: أن حاصل التعارض في هذه الصورة يرجع إلى تعارض خبرين دلّ أحدهما على العلة، والآخر على الحكم؛ إذ العلة موجودة في الفرع قطعاً، فيجب العمل بالخبر الراجح، وهو الدال على العلة؛ إذ التقدير أنه راجح على الخبر الدالّ على الحكم. واحتج المصنف على الوقف في الصورة التي تكون العلة في القياس منصوصاً عليها بنص راجح على الخبر، ووجودها في الفرع ظنياً، بأن كل واحد من القياس والخبر راجح من وجه، ومرجوح من وجه؛ لأن القياس من حيث أن نص العلة راجح

مسألة: الخبر المرسل

على الخبر يقتضي الرجحان، ومن حيث أن وجود العلة في الفرع ليس بقطعي يقتضي المرجوحيّة؛ لأنه من هذه الجهة يتطرق إلى القياس مفسدة لم تتطرق إلى الخبر. والخبر راجح من حيث أن مقدماته أقل من مقدمات القياس، كما تقدم. ومرجوح بالنسبة إلى النص الدال على علة الحكم، وإذا كان كذلك تساويا فوجب الوقف. ولقائل أن يقول: جهة الرجحان في القياس واصلة إلى حد القطع دون الخبر وجهة المرجوحية تقتضي التساوي مع جهة الرجحان في الخبر، لعدم بلوغهما إلى حد القطع، فكان القياس راجحاً فيقدم. قوله: {{فإن كان أحدهما أعم}} هو الشق الأول من الترديد، وهو أن يمكن الجمع بين القياس والخبر بوجه مّا. وذلك إنما يكون إذا كان أحدهما أعمّ والآخر أخصّ. وطريق الجمع بينهما تخصيص العام، قياساً كان أو خبراً. وسيأتي ذلك في التخصيص. ص ــــ مسألة: المُرْسَلُ: قال غير الصحابي: قال ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ. ثالثها: قال الشافعي: إن أسنده غيره، أو أرسله وشيوخهما مختلفة أو عضده قول صحابي، أو أكثر العلماء أو عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل، قُبِلَ. ورابعها: إن كان من أئمة النقل قُبِلَ، وإلا فلا. وهو المختار. لنا: أن إرسال الأئمة من التابعين كان مشهوراً مقبولاً، ولم ينكره أحد، كابن المسيب، والشعبي، والنخعي، والحسن وغيرهم.

فإن قيل: يلزم أن يكون المخالف خارقاً للإجماع. قلنا: خرق الإجماع الاستدلالي أو الظني لا يقدح. وأيضاً: لو لم يكن عدلاً عنده، لكان مدلساً في الحديث. قالوا: لو قبل، لقبل مع الشك؛ لأنه لو سئل لجاز أن لا يعدل. قلنا: في غير الأئمة. قالوا: لو قُبِلَ، لقبل في عصرنا. قلنا: لغلبة الاختلاف فيه. أمّا إن كان من أئمة النقل، ولا ريبة تمنع قُبِلَ. قالوا: لا يكون للإسناد معنى. قلنا: فائدته في أئمة النقل تفاوتهم ورفع الخلاف. ش ــــ الخبر المرسل: هو أن يقول غير الصحابي: قال النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ. واختلفوا فيه على أربعة أقوال: أحدها: قبوله مطلقاً، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وثانيها: عدمه مطلقاً، وهو مذهب أهل الظاهر، وجماعة من المحدثين [121/أ].

وثالثها: أنه إن أسند ذلك المرسل مرة أخرى، أو أسنده غير المرسل، أو أرسله غيره بشرط أن يختلف شيوخ المرسلين. أو عضد المرسل قول صحابي، أو قول أكثر العلماء، أو عُرِفَ أن المرسل لا يرسل إلا عن عدل قُبِلَ. فإن لم يتحقق أحد هذه الشروط لم يقبل، وهو قول الشافعي. ورابعها: أن المُرسِلَ إن كان من أئمة النقل، كسعيد بن المسيب، والنخعي، والشعبي، ومكحول، وغيرهم قُبِلَ، وإلا فلا وهو مذهب عيسى بن

أبان، واختاره المصنف، واحتج عليه بوجهين: أحدهما: أن إرسال أئمة النقل من التابعين كان مشهوراً، قال ابن سيرين: ما كنا نسند الحديث إلى أن وقعت الفتنة. وكان مقبولاً من غير نكير فكان إجماع على قبوله. وأورد: بأنه لو كان إجماع لكان المخالف خارقاً للإجماع، وهو يوجب القدح. وأجاب: بأن الموجب للقدح خرق الإجماع القطعي، وأمّا خرق الإجماع الاستدلالي، والظني فلا يقدح في خارقه. والثاني: أن لو لم يُقْبَل المرسل لم يقبل؛ لكون الأصل غير عدل عند المرسل؛ إذ لا مانع عن القبول غيره، لكنه لو كان كذلك وقد روى عنه كان مدلساً، فلا يكون عدلاً، والفرض عدالته. وفيهما نظر؛ لأن عدم الإنكار ممنوع. لا يقال لو أنكر لنقل؛ لأنه ليس مما تتوفر الدواعي على النقل، لأن في المسانيد كثرة وبها عن المرسل مندوحة.

سلمناه، لكن عدمه لم يكن؛ لأنهم من أئمة النقل، بل لأنهم ما كانوا يروون إلا عن عدل كما قال الشافعي. ولأنه يستلزم القبول من كل عدل، وإن لم يكن من أئمة النقل فكان مشترك الإلزام. واحتج المانعون مطلقاً بأوجه ثلاثة: الأول: أنه لو كان مقبولاً، لقبل الخبر مع الشك في عدالة الراوي فإن المرسل لم يذكر الأصل، ولو سئل عنه جاز أن لا يعدله، فكان مشكوك العدالة، لكن لا يجوز ذلك بالاتفاق. وأجاب المصنف: بأن المرسل إذا كان من أئمة النقل لا يروي إلا عن عدل، فلا يمكن أن لا يعدل الأصل. ولقائل أن يقول: عدم إمكان عدم تعديل الأصل لا يثبت إلا إذا كان عدم التعديل فسقاً ليلزم خلاف الفرض المحال وهو ليس بثابت. الثاني: لو كان الْمُرْسَلُ مقبولاً لقبل في عصرنا؛ لأن علة القبول ظهور عدالة المرسل، وأنه لا يروي إلا عن عدل، وهو معنى لا يختص بالمرسلين في غير عصرنا، بل هو مشترك، لكن لا يقبل في عصرنا بالاتفاق. وأجاب بالفرق، فإن غلبة الخلاف وكثرة المذاهب تمنعه منه. ولئن سُلّم عدم الفرق فلا نسلم نفي التالي؛ فإن مراسيل أئمة النقل تقبل في عصرنا ـــــ أيضاً؛ لأنهم عارفون بالشيوخ فلا يروون إلا عن عدل.

وفيه نظر؛ لأن الفرق غير مسموع، كما تقدم. وصار المدار الرواية عن عدل، وهي مشتركة بين أئمة النقل، وغيرهم. الثالث: أنه لو قبل لم يكن للإسناد فائدة وهو ظاهر. وأجاب بمنع الملازمة؛ فإن فائدة [121/ب] الإسناد في غير أئمة النقل ظاهرة، وهي زوال الاشتباه في عدالته، وفي أئمة [النقل] معرفة تفاوت درجاتهم ورفع الخلاف الواقع في المرسل. وفيه نظر؛ لأن معرفة تفاوت الدرجات يحتاج إليها لدفع التعارض، والكلام في نفس القبول، والعدالة فيه كافية؛ ولأن رفع الخلاف لو صلح فائدة وجب الإسناد؛ لأنه يقطع النزاع والخصام وتحكم الشريعة باتفاق العلماء على الحكم، وإذا وجب لم يقبل مرسل أئمة النقل ـــــ أيضاً ـــــ لكنه ليس كذلك عندكم. ص ــــ القابل مطلقاً: تمسكوا بمراسيل التابعين. ولا يفيدكم تعميماً. قالوا: إرسال العدل يدل على تعديله. قلنا: نقطع أن الجاهل يرسل ولا يدري من رواه. وقد أخذ [على] الشافعي، فقيل: إن أسند فالعمل بالمسند. وهو وارد. وإن لم يسند، فقد انضم غير مقبول إلى مثله. ولا يرد؛ فإن الظن قد يحصل أو يقوى بالانضمام. والمنقطع: أن يكون بينهما رجل. وفيه نظر. والموقوف أن يكون قول الصحابي أو من دونه. ش ــــ أي الذين يقبلون المرسل مطلقاً تمسكوا بوجهين:

أحدهما: قبول مراسيل التابعي على الوجه الذي قررناه. وأجاب المصنف: بأن ذلك لا يفيدهم قبول كل مرسل على التعميم؛ لجواز اختصاص التابعين بمعنى يوجب قبول مراسيلهم. وفيه نظر؛ لأن التساوي في الرواة من جميع الوجوه غير ملتزم والمؤثر في القبول هو العدالة للقطع بعدم قبول مسند الغير العدل فضلاً عن مرسله، والعدالة مشتركة فيجب القبول. الثاني: أن إرسال العدل يدل على تعديل الأصل، وعدالته توجب القبول. وأجاب بمنع الدلالة على تعديله مستنداً بأن الجاهل مرسل ولا يدري من رواه، فضلاً عن عدالته. وفيه نظر؛ لأنه إذا أرسل وهو عدل فكأنه قال: حدثني عدل وذلك مقبول، ولو فرض خلافه كان مجازفاً لا يقبل. وقد أخذت الحنفية على الشافعي في قوله: المرسل يقبل بالشروط المذكورة. قالوا: المرسل إذا أسند من وجه آخر كان القبول حينئذٍ لكونه مسنداً وليس الكلام فيه. واعترف المصنف بوروده. وإذا تحقق معه شرط آخر من الشروط المذكورة، ولم يسند انضم غير مقبول إلى مثله فأنّى يفيد القبول. وردّ: بأنه قد لا يحصل الظن بواحد منهما، ويحصل بانضمام أحدهما إلى

المنقطع

الآخر أو يحصل الظن الضعيف بأحدهما، ويقوى بالإنضمام. قيل: والحق أن الأول ـــــ أيضاً ـــــ غير وارد؛ فإن المرسل قد يقوى بالمسند فيقبل. وفيه نظر: أما على رد المصنف؛ فلأنه يرجع إلى اعتبار كثرة الرواة، أو الرواية في الحديث وليس كذلك بمعتبر عند السلف والحنفية لا يلتزمونه، فلا يفيد. وأما على غيره؛ فلأن المسند مقبول بالإتفاق فلا يحتاج إلى انضمام شيء آخر إليه، واعتبار الترجيح فيما نحن فيه غير [122/أ] صحيح؛ لأن الكلام في نفس المقبول على انه لا يفيد الترجيح عند الخصم، فكان رد المختلف على المختلف، وهو غير مفيد. وأمّا المنقطع فقد عرفه المصنف بقوله: {{أن يكون بينهما رجل}}، ومعناه رجل لم يذكر ولم يعرف حاله، كما يروي راوٍ عن شيخ شيخه ولم يذكر شيخه. قال: وفيه، أي قبول المنقطع نظر؛ فإن لقائل أن يقول: الراوي المتوسط مجهول الحال فلا تكون روايته مقبولة.

والموقوف بأن يكون قول صحابي، أو من دونه، وهو أن يكون الراوي قد وقفه على غير الرسول، بأن تنتهي روايته إلى قول صحابي أو من دونه. * ... * ... *

المجلد الثاني

في حقيقة الأمر وحده ص - / الأمر: أم ر. حقيقة في القول المخصوص اتفاقا , وفي الفعل مجاز. قيل: مشترك. وقيل: متواطئ. لنا: سبقه إلى الفهم. ولو كان متواطئا لم يفهم منه الأخص , كحيوان في إنسان. واستدل: لو كان حقيقة لزم الاشتراك. فيخل بالتفاهم. فعورض بأن المجاز خلاف الأصل فيخل بالتفاهم. وقد تقدم مثله. التواطؤ: مشتركان في عام , فيجعل اللفظ له دفعا للمحذورين. وأجيب بأنه يؤدي إلى رفعهما أبدا. فإن مثله لا يتعذر. وإلى صحة دلالة الأعم " للأخص " ... . وأيضا فإنه قول حادث هنا. حد الأمر: اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء. وقال القاضي والإمام: القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به. ورد بأن المأمور مشتق منه. وأن الطاعة موافقة الأمر فيجيء الدور فيهما. وقيل: خبر عن الثواب على الفعل. وقيل: عن استحقاق الثواب. ورد بأن الخبر يستلزم الصدق أو الكذب , والأمر يأباهما /.

- اختلاف العلماء في إطلاقه حقيقة على الفعل

ش - لما فرغ من بحث الخبر شرع في الأمر. فقال الأمر أي هذا اللفظ حقيقة في القول المخصوص , على ما اختلفوا فيه. وإطلاقه على الفعل مجاز.

وقيل: هو مشترك بينهما , يعني باشتراك لفظي. لم يسبق القول إلى الفهم لتساويهما حينئذ بالنسبة إلى اللفظ لكنه لا يسبق إلى الفهم إلا القول فكان حقيقة قيه , ولو كان متواطئا , لم يفهم منه الأخص وهو القول فإنه أخص من القدر المشترك لا محالة كالحيوان والإنسان فإنه لا يفهم من الحيوان الإنسان. فكان في كلام المصنف لف ونشر فتأمل.

- أدلة كل قول

واستدل على المختار بأنه لو كان حقيقة في الفعل أيضا لزم الاشتراك وهو مخل بالتفاهم. وعورض بأنه لو لم يكن حقيقة كان مجازا وهو خلاف الأصل وقد تقدم أن المجاز أولى. وفي عبارته تسامح , لما تقدم أن " استدل " بلفظ ما لم يسم فاعله يستعمل في دليل مزيف على مذهب مختار , واستعمله المصنف ههنا وأبطل تزييفه بقوله وقد تقدم على الوجه الذي قررنا , وإذا أبطل التزييف خرج لفظ استدل عما اصطلح عليه. واحتج القائلون بالتواطوء بأن القول والفعل يشتركان في أمر عام فيجعل اللفظ له دفعا للاشتراك والمجاز المحذورين. وأجيب بثلاثة أوجه: الأول: أن هذا الاستدلال يؤدي إلى رفع الاشتراك والمجاز أبدا إذ ما من موضع إلا ويمكن التكلف فيه باستخراج أمر عام يمكن جعل اللفظ له. فان خصص هذا الاستدلال بمواضع لم يوجد دليل اشتراك أو مجاز يطلق في هذا الموضع لأن سبق الفهم إلى القول يدل على كونه حقيقة في القول مجازا في الفعل. الثاني: أنه يؤدي إلى صحة دلالة الأعم على الأخص فإن القول أخص حينئذ لا محالة ودلالة لفظ الأمر عليه لا تنكر ألبتة لكن بالضرورة لا دلالة للأعم على الأخص.

- التعريف الأول للأمر

الثالث: أن القول بالتواطوء قول حادث لم يقل به أحد من السلف. واختلف الناس في تعريف الأمر فقيل: اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء. فهو أحد أقسام الكلام النفسي. فقوله: " اقتضاء فعل " يشمل الأمر والنهي والالتماس والدعاء. وقوله: غير كف يخرج عنه النهي. وقوله: " على سبيل الاستعلاء " يخرج الباقين.

- التعريف الثاني

وقال القاضي وإمام الحرمين في حد الأمر: إنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به. ورد بأنه دوري على المأمور المشتق من الأمر والطاعة التي هي موافقة الأمر فيجيء الدور فيهما أي في المأمور والطاعة. والأول يجوز أن يدفع بأنه من باب تعريف الاصطلاحي باللغوي فلا دور. وأما الثاني ففي محل المناقشة لجواز أن يدعى أن الطاعة موافقة الأمر

- التعريف الثالث والرابع

الاصطلاحي وحينئذ يلزم الدور. وقيل في حده: إنه خبر عن الثواب على الفعل. وقيل: إنه خبر عن استحقاق الثواب. وردهما بأن الخبر يستلزم الصدق أو الكذب والأمر يأباهما. ولقائل أن يقول الكلام في الكلام النفسي وأمر الله بشيء يستلزم إخباره بالثواب أو باستحقاقه بدليل الآيات الدالة على الوعد وهو صادق لا يحتمل الكذب لخارج كما تقدم فيكون تعريف الشيء بلازمه. ص - / المعتزلة لما أنكروا كلام النفس قالوا: قول القائل لمن دونه افعل ونحوه. ويرد التهديد وغيره , والمبلغ والحاكي والأدنى. وقال قوم صيغة افعل بتجردها عن القرائن الصارفة عن الأمر. وفيه تعريف الأمر بالأمر. وإن أسقطه بقي صيغة افعل مجردة. وقال قوم صيغة افعل بإرادات ثلاث: وجود اللفظ , ودلالته على الأمر , والامتثال. فالأول عن النائم , والثاني عن التهديد ونحوه , والثالث عن المبلغ. وفيه تهافت لأن المراد إن كان اللفظ فسد لقوله: وإرادة دلالتها على الأمر. وإن كان المعنى فسد لقوله الأمر صيغة افعل. وقال قوم الأمر إرادة الفعل. ورد بأن السلطان لو أنكر متوعدا بالإهلاك ضرب سيد لعبده , فادعى مخالفته وطلب تمهيد عذره بمشاهدته فإنه يأمر ولا يريد لأن العاقل لا يريد هلاك نفسه. وأورد مثله على الطلب لأن العاقل لا يطلب هلاك نفسه وهو لازم. والأولى: لو كان إرادة لوقعت المأمورات كلها لأن معنى الإرادة تخصيصه بحال حدوثه فإذا لم يوجد لم يتخصص. ش - لما أنكروا الكلام النفسي لم يمكنهم تعريف الأمر بالاقتضاء فعرفوه باللفظ أو الإرادة.

وفيه نظر لأن المراد بالاقتضاء إن كان الطلب لم يفارق الأمر نفسيا كان أو لفظيا , وإن لم يكن لم يكن الأمر من الطلبيات وهو باطل. ومن تعريفاتهم: قول القائل لمن دونه افعل ونحوه. أي نحو افعل في الدلالة على مدلوله وإنما قال ونحوه ليندرج تحت الحد صيغة أمر غير العربي. وفيه نظر لأن النصوص التي تستنبط عنها الأحكام الشرعية عربية والتعريف للأمر منها وأما غير العربي فلكونه يقع ترجمة يعتبر فيه المعنى دون اللفظ. والظاهر أنه " لإخال " نحو قل وضع وعد ولتضم فإنها ليست أفعل ولكنها نحوه في كونه أمرا في لغة العرب. وزيفه المصنف طرده وعكسه. وأما طرده فإنه يرد عليه التهديد كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) والإباحة كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) والتكوين كقوله تعالى: (كن فيكون) وقول الحاكي لمن دونه من أمر أمر. والمبلغ لغيره فإن ذلك قول القائل لمن دونه افعل وليست بأمر. وأما عكسه فإنه يرد عليه قول الأدنى للأعلى افعل ونحوه إذا كان على سبيل الاستعلاء إذ العلو ليس بشرط في الأمر. وفيه نظر لأنهم قالوا لمن دونه والأعلى ليس كذلك سواء كان العلو شرطا أو لم يكن. ومنها قول بعضهم الأمر صيغة افعل بتجردها عن القرائن الصارفة عن الأمر يعني إلى التهديد وغيره من الإباحة والتكوين.

وهو فاسد لأنه تعريف الأمر بالأمر. فإن أسقط عنه قيد القرائن الصارفة عن الأمر بقيت صيغة افعل مجردة وحينئذ يرد التهديد وغيره كما في الأول. ومنها قول بعضهم الأمر: صيغة افعل بشرط أن تكون معها إرادات ثلاث إرادة وجود اللفظ , وإرادة دلالة اللفظ على الأمر , وإرادة الامتثال. فالإرادة الأولى للاحتراز عن قول النائم. والثانية للاحتراز عن التهديد ونحوه. والثالثة للاحتراز عن قول المبلغ. قال المصنف: وفيه تهافت أي تساقط لأن المراد بالأمر المذكور في الحد إن كان اللفظ فسد التعريف لأن تقديره حد الأمر صيغة أريد دلالتها على الصيغة فإن اللفظ الذي في قوله وجود اللفظ هو عبارة عن الصيغة , وإن كان المراد به المعنى فسد - أيضا - لأنه جعل الأمر صيغة ثم ذكره ولم يرد به الصيغة فلا يكون الأمر صيغة. ورد بجواز أن يكون المراد بالأمر الذي هو المعرف الصيغة وبالذي في التعريف المعنى وهو الطلب ويكون تقدير الأمر: صيغة أريد بها الدلالة على الطلب. وأجيب بأن هذا التعريف على رأي نفاة الكلام النفسي وذلك لا يصح على رأيهم لأنهم هربوا من تعريفه بالاقتضاء كذلك. وفيه نظر لأن سلب الطلب عن الأمر لا يصح على كل حال. ورد هذا التعريف - أيضا - بأخذ الامتثال فيه , والامتثال فعل المأمور به فكان دوراً.

وفيه نظر لأن الإرادات الثلاث شروط والشرط لا يتوقف على المشروط فلا يدور. ومنها ما قال بعضهم الأمر: هو إرادة الفعل. ورد بأنه غير منعكس لصدقه بدونها , فإن السلطان إن أنكر ضرب رجل عبده وتواعد بإهلاك السيد وادعى مخالفة العبد فيما يأمر وطلب صدقه فإنه يأمر العبد بشيء ليشاهد السلطان مخالفة العبد ولا يريد الاتيان بالمأمور به قطعا لاستحالة إرادة الرجل هلاك نفسه. وأورد المعتزلة مثله على تعريف الأمر بالطلب فإن العاقل لا يطلب هلاك نفسه. قال المصنف: وهو لازم. والأولى أن يرد مذهب المعتزلة بأن الأمر لو كان إرادة الفعل لوقعت المأمورات كلها وليس كذلك بالضرورة وبيان الملازمة بأن الإرادة هي الصفة المخصصة لحدوث الفعل في وقت دون وقت فمعناها تخصيص الشيء بحال حدوثه ووقته فإذا لم يوجد الشيء لم يتخصص بحال حدوثه وإذا لم يتخصص بها لم تتعلق الإرادة به فيلزم من المقدمتين أنه إذا لم يوجد الشيء لم تتعلق الإرادة به ويلزم منه أنها إذا تعلقت بشيء وجد بحكم عكس النقيض فعلى تقدير أن يكون الأمر هي الإرادة يلزم أن يكون

- هل للأمر صيغة تخصه أو لا؟

المأمور به لكونه مرادا موجودا هذا حد كلام المصنف على الوجه الذي نحاه. ويمكن أن تقرر المسألة بأهون من هذا وهو أن يقال لو كان الأمر هو الإرادة وقعت المأمورات لأن الأوامر واقعة والفرض أنها إرادات ولا يتخلف المراد عن الإرادة. وفي كلامه نظر من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن الأمر إذا كان الإرادة كان معنى الإرادة تخصيص الشيء بحال حدوثه بل معناه المشيئة الحادثة. والثاني: أن هروبه من الوجه الأول في إبطال تعريف المعتزلة لا يجدي فإن الرد المذكور وارد على تعريف الأمر بالطلب سواء كان مذهب المعتزلة حقا أو باطلا. ص - / القائلون بالكلام النفسي اختلفوا في كون الأمر له صيغة تخصه. والخلاف عند المحققين في صيغة افعل. والجمهور حقيقة في الوجوب. وأبو هاشم في الندب. وقيل للطلب المشترك. وقيل مشترك. الأشعري والقاضي بالوقف فيهما. وقيل مشترك فيهما وفي الإباحة. وقيل للإذن المشترك في الثلاثة. الشيعة مشترك في الثلاثة والتهديد /. ش - اختلف القائلون بالكلام النفسي في أن الأمر له صيغة تخصه أو لا. فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا. وقال غيره: نعم.

قال " إمام " الحرمين والغزالي: والذي نراه أن هذه الترجمة عن الأشعري خطأ فإن قول القائل لغيره أمرتك وأنت مأمور , وأوجبت وندبت صيغ خاصة بالأمور من غير منازعة ولا خلاف في إمكان التعبير بها , وإنما الخلاف في أن صيغة افعل هل هي مختصة بالأمور أو لا؟ لكونها مترددة بين محامل كثيرة. وقال صاحب الإحكام: لا وجه لاستبعاد هذا الخلاف. وقول القائل

- صيغة الأمر حقيقة في الوجوب مجاز في غيره

أمرتك وأنت مأمور ونحوهما لا يرفع هذا الخلاف إذ الخلاف إنما هو في صيغة الأمر الموضوعة للإنشاء , وما مثل به من الصيغ أمكن أن يقال إنها إخبارات عن الأمر لا إنشاءات وإن كان الظاهر صحة استعمالها للإنشاء كما في بعت واشتريت. واختلفوا في صيغة " افعل " على ثمانية مذاهب: الجمهور على أنها حقيقة في الوجوب مجاز في غيره. وأبو هاشم إنها حقيقة في الندب مجاز في غيره. وقيل: إنها حقيقة في الطلب المشترك بين الوجوب والندب. وقيل: إنها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكاً لفظياً.

- ذكر أدلة الجمهور في كون صيغة الأمر حقيقة في الوجوب

وتوقف الشيخ والقاضي فيهما أي في الاشتراك والانفراد على معنى أن الصيغة تحتملها ولا جزم بواحد منهما. وقيل: إنها مشتركة في الثلاثة الوجوب والندب والإباحة. وقالت الشيعة: إنها مشتركة في الثلاثة والتهديد. ص - / لنا ثبوت الاستدلال بمطلقها على الوجوب شائعا متكررا من غير نكير كالعمل بالأخبار. واعترض بأنه ظن. وأجيب بالمنع. ولو سلم فيكفي الظهور في مدلول اللفظ وإلا لتعذر العمل بأكثر الظواهر. وأيضا: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) والمراد قوله: (اسجدوا). وأيضا: (وإذا قيل لهم اركعوا) ذم على مخالفة أمره. وأيضا: تارك المأمور بع عاص , بدليل: (أفعصيت أمري) وأيضا: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره). والتهديد دليل الوجوب. واعترض بأن المخالفة حملة على مخالفة من إيجاب وندب. وهو بعيد. قولهم: مطلق. قلنا: بل عام. وأيضا: نقطع بأن السيد إذا قال

لعبده خط هذا الثوب ولو بكتابة أو إشارة فلم يفعل عد عاصيا. واستدل بأن الاشتراك خلاف الأصل فثبت ظهوره في أحد الأربعة. والتهديد والإباحة بعيد. والقطع بالفرق بين ندبتك إلى أن تسقيني وبين اسقني ولا فرق إلا اللوم. وهو ضعيف , لأنهم إن سلموا الفرق فلأن ندبتك نص واسقني محتمل /. ش - احتج المصنف على مذهب الجمهور بالكتاب والإجماع والعرف. أما الإجماع فلأن الصحابة استدلوا بمطلق صيغة افعل بدون قرينة على

الوجوب , وشاع هذا الاستدلال ولم ينكره أحد فيكون إجماعا على أن مطلق صيغة افعل للوجوب كالعمل بالأخبار فإنه لما اشتهر بين الصحابة العمل بها كان إجماعا. وقد اعترض على هذا الدليل بأنه لا يفيد إلا ظنا والظن لا يعتد به في أمثال هذه المسائل. وأجاب بأنا لا نسلم أنه لا يفيد إلا ظنا بل يفيد القطع لأن الإجماع قطعي ولئن سلم أنه لا يفيد إلا ظنا ولكن لا نسلم أن الظن لا يكفي في مدلولات الألفاظ بل يكفي في مدلول اللفظ ظهور كونه مدلولا له وإلا لتعذر العمل بأكثر الظواهر من الآيات والأخبار. وأما الكتاب فمنه قوله تعالى لإبليس: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) يعني قوله للملائكة: (اسجدوا). أمر الله الملائكة وإبليس بالسجود لأدم ولم يمتثل إبليس فذمه , لأن قوله ما منعك ليس للاستفهام بالإجماع فكان للذم ولو لم يكن للوجوب لما ذم. ومنه قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) ذم على مخالفة أمره التي هي ترك الركوع فلو لم يكن الأمر للوجوب لما ذم عليها. ومنه قوله تعالى: (أفعصيت أمري) والعاصي يستحق النار لقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله فإن

له نار جهنم) فيكون الأمر للوجوب وإلا لما استحق تاركه النار. ومنه قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة) هدد على مخالفة الأمر فكان للوجوب. واعترض على هذا الدليل بأن المخالفة عبارة عن حملة على ما يخالفه من إيجاب وندب. يعني إن كان الأمر للوجوب فحمله على الندب مخالفة وبالعكس إلا أنها عبارة عن ترك المأمور به وأجاب بأنه بعيد والظاهر حملها على ترك المأمور به فيكون راجحا , وحمل اللفظ على المرجوح مع وجود الراجح بعيد. واعترض - أيضا - بأنا لا نسلم أنه يدل على أن جميع الأوامر للوجوب لأن الأمر في قوله تعالى: (عن أمره) مطلق لكونه مفردا , والمطلق لا يفيد العموم. ولقائل أن يقول في الآيات دلالة على أن ترك المأمور به يوجب الذم والتهديد وغير ذلك , وهو مسلم وذلك يدل على أن المأمور به فيها كان واجبا وهو - أيضا - مسلم. ولكن ليس الكلام في ذلك , وإنما الكلام في أن الصيغة للوجوب أو لغيره وليس فيها ما يدل على ذلك , لجواز أن يكون استعمل الصيغة فيه مجازا لقرينة ترتيب الذم وغيره عليه.

وفيها اعتراضات تفصيلية ذكرنا بعضها في التقرير. وأما العرف فلأنا نقطع أن السيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب ولو كان الأمر بالخياطة بكتابة أو إشارة فلم يمتثل العبد عد عاصيا ولو يكن الأمر للوجوب لما كان كذلك. واستدل على أن صيغة الأمر للوجوب بأن الأمر يستعمل في الوجوب والندب والإباحة والتهديد وليس مشتركا بين هذه الأربعة أو ثلاثة أو اثنين منها لأن الاشتراك خلاف الأصل فثبت ظهوره لواحد من هذه الأربعة والإباحة والتهديد لم يذهب إليه أحد. فيكون كل منهما بعيد أن يكون الأمر له. ولا يكون للندب - أيضا - للفرق قطعاً

- ذكر أدلة القائلين بأنها للندب

بين ندبتك أن تفعل كذا وبين افعل كذا باستحقاق اللوم في الثاني دون الأول , فكان الثاني للوجوب. وأجاب بأن الخصم لا يسلم الفرق بينهما وإن سلم الفرق فلا يسلم أن الفرق باللوم بل بأن الأول نص في الندب , والثاني محتمل. ص - / الندب. " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " , " مشيئتنا ". ورد بأنه رده إلى استطاعتنا وهو معنى الوجوب. مطلق الطلب يثبت الرجحان , ولا دليل مفيد. فوجب جعله للمشترك دفعا للاشتراك. قلنا بل يثبت التقييد. ثم فيه إثبات اللغة بلوازم الماهيات. الاشتراك يثبت الإطلاق. والأصل الحقيقة. القاضي لو ثبت لثبت بدليل إلى أخر. قلنا بالاستقراءات المتقدمة. الإذن المشترك كمطلق الطلب /. ش - القائل بالندب استدل بقوله - عليه السلام -: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " رد الإتيان بالمأمور به إلى مشيئتنا , والمندوب هو المفوض إلى مشيئتنا. وفيه نظر لأن دلالة الرد إلى مشيئتنا على الإباحة أظهر منها على الندب. وأجاب بأنا لا نسلم أنه رد إلى مشيئتنا بل رد إلى استطاعتنا وهو مقتضى الوجوب لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفس إلا وسعها).

- ذكر أدلة القائلين بكون الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب

وفيه نظر لعدم اختصاص الوجوب بالاستطاعة بل الندب أيضا يحتاج إليها. واحتج القائل بكون الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب بأن مطلق الطلب ظاهر من الأمر , ومطلق الطلبية يثبت رجحان الفعل على الترك وهو مشترك بين الوجوب والندب والأمر موجب لتقييده بالجزم أو عدمه فوجب جعله للقدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز. ولقائل أن يقول قياسه من الشكل الثالث ونتيجته

جزئية ومطلوب الخصم كلي فلا يكون الدليل مفيدا لمطلوبه. وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أنه لا موجب لتقييد الطلب بالجزم فإن دلائل الوجوب كلها توجبه. وفيه نظر لأن دلائل الوجوب في حيز التعارض " فلا تفيد " التقييد. قوله ثم فيه يعني سلمنا أنه لا موجب للتقييد لكن فيما ذكرتم إثبات اللغة بلوازم الماهيات فإن رجحان الفعل على الترك لازم لماهية الوجوب والندب لأنه كلما وجد أحدهما وجد رجحان الفعل على الترك. وقد استدل به على كون الأمر للقدر المشترك " فإنه " لا يجوز لأنه يفضي إلى رفع المشترك من كلام العرب إذ ما من مشترك إلا وتشترك مفهوماته في لازم فيجعل اللفظ له دفعا للاشتراك والمجاز. ولقائل أن يقول كما لا يجوز إثبات اللغة بلوازم الماهية لا يجوز بالدلائل

- ذكر أدلة القائلين بالوقف

العقلية , والسمع متعارض فلا يثبت مفهوم ما للأمر وهو تعطيل. واحتج القائل بالاشتراك بأن الإطلاق ثبت في كل من الأربعة والأصل فيه الحقيقة. ولم يتعرض المصنف لجوابه لوضوحه فإن الحقيقة إنما تكون أصلا إذا لم تستلزم الاشتراك. ولقائل أن يقول لا نسلم أن الاشتراك عند الخصم محذور ولا يقال إنه يخرج بالإخلال لأنه يلتزم الفهم الإجمالي. واحتج القاضي على التوقف بأنه " لو ثبت " كون الأمر لواحد من معانيه لكان ثبوته إما عن دليل أو لا عن دليل. والثاني باطل , لأن القول بلا دليل غير مفيد. والأول لا يخلو إما أن يكون الدليل عقليا وهو باطل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغة. أو نقليا متواترا وهو يوجب عدم الخلاف أو أحادا وهو لا يفيد العلم. وأجاب بأن الاستقراءات المتقدمة دليل على ثبوته. وفيه بحث من وجهين: أحدهما: أن لقائل أن يقول التوقف لا عن دليل ويختار أن لا دليل للنافي.

والثاني: أن يقال الاستقراءات إنما تثبت نقلا فإما أن يكون متواترا أو أحادا وعاد المحذور. واحتج على كونه حقيقة في الإذن الذي هو القدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة بدليل القائل بكونه لمطلق الطلب وجوابه كجوابه. ص - مسألة: صيغة الأمر لا تدل على تكرار ولا مرة. وهو مختار الإمام. الأستاذ: للتكرار مدة العمر مع الإمكان. وقال كثير: للمرة , ولا يحتمل التكرار. وقيل: بالوقف. لنا: أن المدلول طلب حقيقة الفعل , والمرة والتكرار خارجي , ولذلك يبرأ بالمرة. وأيضا: فإنا قاطعون بأن المرة والتكرار من صفات الفعل كالقليل والكثير. ولا دلالة للموصوف على الصفة. الأستاذ: تكرر الصوم والصلاة. رد بأن التكرار من غيره. وعورض بالحج. قالوا: ثبت في لا تصم فوجب في صم لأنها طلب. رد بأنه قياس. وبالفرق بأن النهي يقتضي النفي. وبأن التكرار في الأمر مانع من غيره بخلاف النهي. قالوا الأمر نهي عن ضده , والنهي يعم فيلزم التكرار. رد بالمنع. وبأن اقتضاء

- الأمر المطلق هل يقتضي التكرار؟

النهي للأضداد دائما " فرفع " على تكرار الأمر. المرة: القطع بأنه إذا قال ادخل فدخل مرة امتثل. قلنا: امتثل لفعل ما أمر به لأنها من ضرورته , لا أن الأمر ظاهر فيها , ولا في التكرار. الوقف لو ثبت إلى أخره. ش - صيغة الأمر المجردة عن قرائن المرة والتكرار لا تدل على شيء منهما. وهو مختار إمام الحرمين والمصنف. وقال الأستاذ أبو إسحق إنها تقتضي التكرار مدة العمر إن أمكن.

- الأقوال والأدلة والمناقشات

وقال كثير من الأصوليين: إنه للمرة , ولا يحتمل التكرار. وقيل بالوقف وفسر بكونه مشتركا بين المرة والتكرار من غير ترجيح , وبكونه غير معلوم في الواقع. واحتج المصنف على الإمام بوجهين: أحدهما: أن مدلول الأمر طلب حقيقة الفعل والمرة والتكرار خارجان عن مدلوله , لأنه لو دخل أحدهما في مدلوله وقرن الأمر به لزم التكرار , وبالأخر لزم النقض. والدليل على خروج التكرار عن مدلوله الخروج عن عهدة المأمور به بالمرة. والثاني: القطع بأن المرة والتكرار من صفات الفعل كالقليل والكثير ولا دلالة للموصوف على الصفة. وفيه نظر لجواز أن تكون الصفة لازمة فيدل الموصوف عليها بالإلتزام. واحتج الأستاذ بثلاثة أوجه:

الأول: أن الأمر ورد في الصلاة والصوم وحمل على التكرار فيهما بالاتفاق فلو لم يقتض التكرار لزم تكليف بلا دليل. وأجاب المصنف بأن تكرار الصلاة والصوم ليس بمستفاد من الأمر بل بفعله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه نظر لأن تكرارهما فرض والفعل لا تثبت به الفرضية.

وعورض بأن الأمر ورد في الحج وحمل على المرة بالاتفاق. وفيه نظر لأن حديث الأقرع بن حابس صرفه عن مقتضاه , ولأن الشرط الإمكان وهو من الأماكن البعيدة غير ممكن إلا بالجلاء عن الوطن وفيه حرج عظيم وهو مدفوع. الثاني: أن النهي مثل لا تصم يقتضي التكرار فوجب أن يكون الأمر كذلك بجامع الطلب. ورد بأنه قياس في اللغة وهو غير مفيد , وبالفرق بينهما من

وجهين: أحدهما: أن النهي نفي الفعل , ونفيه دائما ممكن. والأمر بالإتيان به وهو على الدوام غير ممكن. وفيه نظر لأن صوم الدهر ممكن. والأخر: أن التكرار في النهي لا يمنع عن نهي غيره بخلاف التكرار في الأمر فإنه يمنع عن الأمر بغيره. وفيه نظر فإن الأوامر المؤقتة بوقت لا تمنع الأمر بغيره. والثالث: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده , والنهي عن ضده يقتضي التكرار فالأمر بالشيء يقتضي التكرار. وأجاب بأنا لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده , وعلى تقدير التسليم لا نسلم أن النهي الضمني يقتضي التكرار , فإن اقتضاء النهي الضمني التكرار فرع اقتضاء الأمر التكرار فكان الاستدلال به موقوفا على المطلوب.

- الأمر المعلق على صفة ثبتت عليتها هل يتكرر بتكررها؟

واحتج من قال إنه يقتضي المرة: بأنا قاطعون بأن السيد إذا قال لعبده ادخل فدخل مرة عد ممتثلا ولو كان للتكرار لما عد لأنه لم يأت به. وأجاب بأنه إنما عد ممتثلا لإتيانه بفعل المأمور به فالمطلق وهو يتحقق فرد لا لكونه ظاهرا في المرة. واحتج الواقف بأنه لو ثبت المرة أو التكرار فإما أن تكون " فإما أن " بدليل أو لا إلى أخره. وتقريره وجوابه قد مر. ص - مسألة: الأمر إذا علق على علة ثابتة وجب تكرره بتكررها اتفاقا , للإجماع على اتباع العلة لا للأمر. فإن علق على غير علة فالمختار لا يقتضي. لنا: القطع بأنه إذا قال إن دخلت السوق فاشتر كذا عد ممتثلا بالمرة مقتصرا. قالوا: ثبت ذلك في أوامر الشرع: (إذا قمتم) (الزانية والزاني) (وإن كنتم جنبا). قلنا في غير العلة بدليل خاص. قالوا: تكرر للعلة , فالشرط أولى لانتفاء المشروط بانتفائه. قلنا العلة مقتضية معلولها. ش - هذه المسألة من فروع ما تقدم من اقتضاء الأمر التكرار إذا علق الأمر على صفة ثبتت عليتها. وجب تكرار المأمور به بتكررها لأن الإجماع منعقد على اتباع

العلة بمعنى تكرره بتكررها لا لأن الأمر يقتضي التكرار. وعلى صفة لم تثبت عليتها. اختلفوا في وجوب تكرار الفعل بتكررها. والمختار عدمه , لأنا قاطعون بأن الرجل إذا قال لعبده إن دخلت السوق فاشتر اللحم فاشتراه مرة امتثل , وإن كرر الشراء بتكرار الدخول استحق اللوم , واقتضاء التكرار يمنع استحقاقه. واحتج القائلون بأن تعليق الأمر بصفة مطلقا يقتضي التكرار بوجهين:

أحدهما: أنه ثبت في أوامر الشرع تكرره بتكرر ما علق عليها سواء كانت الصفات شروطا أو عللا كقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم) , وقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا) وكقوله: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) فإنها أفاد التكرار فيها. وأجاب المصنف بما معناه أن ما كان علة فلا كلام فيه وما كان غيرها فبدليل خاص اقتضى ذلك لا لأجل التعليق. ولقائل أن يقول لا بد من بيان الدليل لينظر في صحة الدلالة وعدمها. والثاني: أن تكرر الفعل بتكرر العلة بلا خلاف , وذلك يوجب تكرره بتكرر الشرط بالأولى لأنه أقوى منها " فإن المشروط ينتفي عند انتفاء العلة تقتضي معلولها " فإنها كلما وجدت وجد المعلول بخلاف الشرط فإنه لا يقتضي مشروطه. وحينئذ لا مدخل للشرط في الوجود أصلا وذلك واضح وكون المعلول النوعي لا ينتفي بعدم علة شخصية لا يبطل بمحل النزاع لأن كلامنا في أن وجود العلة يقتضي وجود المعلول , وذلك ثابت غير مدافع فيتكرر بتكرره قطعا. وأما أن عدمها يقتضي عدم المعلول فلم يتعرض له , ولم يحتج إليه بخلاف الشرط فإن وجوده لا يقتضي وجود المشروط وذلك أيضا ثابت غير مدافع فلا يتكرر بتكرره قطعا. ص - مسألة: القائلون بالتكرار قائلون بالفور. ومن قال: المرة تبرئ , قال

- القائلون بالتكرار قائلون بأنه يقتضى الفور

بعضهم للفور. وقال القاضي إما الفور أو العزم. وقال الإمام بالوقف لغة , فإن بادر امتثل. وقيل بالوقف , وإن بادر. وعن الشافعي ما اختير في التكرار. وهو الصحيح. لنا ما تقدم. الفور. لو قال: اسقني فأخر عد عاصيا. قلنا: للقرينة. قالوا: كل مخبر أو منشئ فقصده الحاضر مثل زيد قائم. وأنت طالق. رد بأنه قياس. وبالفرق بأن في هذا استقبالا قطعا. قالوا: طلب , كالنهي والأمر نهي عن ضده. وقد تقدما. قالوا: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) فذم على ترك البدار. قلنا لقوله: (فإذا سويته). قالوا: لو كان التأخير مشروعا لوجب أن يكون إلى وقت معين. ورد بأنه يلزم لو صرح بالجواز. وبأنه إنما يلزم أن لو كان التأخير معينا. وأما في الجواز فلا لأنه متمكن من الامتثال. قالوا: قال: (سارعوا) (فاستبقوا) قلنا محمول على الأفضلية , وإلا لم يكن مسارعا. القاضي ما تقدم في الموسع. الإمام الطلب متحقق والتأخير مشكوك فوجب البدار. وأجيب بأنه غير مشكوك. ش - القائلون بأن الأمر المطلق يقتضي التكرار يلزمهم القول بأنه يقتضي الفور لأن من ضرورة التكرار استغراق جميع الأوقات من وقت الأمر إلى أخر العمر. والذين قالوا بأن المرة تبرئ المكلف اختلفوا. فقال: بعضهم يقتضي الفور. وقال القاضي: يقتضي أحد الأمرين: إما الفور أو العزم على الفعل. وقال إمام الحرمين: بالوقف على معنى أنه لا يعلم لغة من غير قرينة أنه يقتضي الفور أو التراخي. فإن بادر المأمور وأتى بالمأمور به على الفور كان ممتثلاً.

- أدلة القائلين بالفورية ومناقشتها

وقيل بالوقف , وإن بادر المأمور وأتى بالمأمور به على الفور لم يقطع بكونه ممتثلا بل يتوقف فيه أيضا كما يتوقف على الفور. ونقل عن الشافعي ما اختير في التكرار. وهو أنه لا يقتضي الفور كما لا يقتضي التكرار. واختاره المصنف. والدليل عليه ما تقدم في التكرار. وتقريره أن مدلول الأمر تحصيل الفعل. والفور والتراخي خارجان عنه. والفور والتراخي من صفات الفعل , ولا دلالة للموصوف على الصفة. وفيه نظر قد تقدم. استدل القائلون بأنه يقتضي الفور بسبعة أوجه: الأول: العرف فإن الرجل إذا قال لعبده اسقني ماء فإنه يفيد الفور قطعا ولهذا يذم على التأخير.

وأجاب بأن الفور مستفاد من القرينة يعني الحالية , والكلام في المجرد عنها. الثاني: أن كل مخبر ومنشئ فإنما يقصد بإنشائه الزمان الحال كزيد قائم. وأنت طالق فكذا الأمر بأمره , لأنه قسم من الكلام. وأجاب بأنه قياس في اللغة. وبالفرق بأن في الأمر استقبالا قطعا لأن الأمر لتحصيل ما ليس بحاصل في الحال , ولأنه مشتق من الفعل المستقبل. وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه مبنى على الفرق وقد تقدم غير مرة. والثاني: أنه مشتق من الفعل المضارع وهو يصلح للحال والاستقبال لا أنه مستقبل ألبتة والأمر لأن يحصل في الحال ما ليس بحاصل. الثالث: أن الأمر طلب كالنهي يقتضي الوفر فكذلك الأمر. الرابع: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الضد يستلزم الفور فكذا ما يستلزم النهي عن الضد فإن ملزوم الملزوم ملزوم. وقد تقدم هذان الوجهان في المسألة المتقدمة مع الجواب عنهما. الخامس: أنه أمر الله - تعالى - الملائكة وإبليس بالسجود لأدم وترك إبليس السجود فذمه الله - تعالى - على ترك السجود على الفور بدليل قوله تعالى: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) لأنه ليس للاستفهام قطعا فيكون للذم. ولو لم يكن للفور لم

يتوجه الذم لمساغ أن يقول منعني كونه لم يجب على الفور. وأجاب بأنه اقتضى الفور بقرينة قوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له سجدين) فإنه دل على وجوب السجود عقيب التسوية ونفخ الروح ولا يلزم منه أن يكون الأمر المطلق مفيدا للفور. وفيه نظر فإنه ليس في الآية إلا دلالة وقوع السجود من الملائكة عقيبهما , والوقوع عقيبهما إما أن يكون قبل الأمر أو بعده , والأول ليس مما نحن فيه لكونه غير مأمور به , والثاني يفيد المطلوب. السادس: لو كان التأخير مشروعا لوجب أن يكون إلى وقت معين عند المكلف وإلا لزم تكليفه بعدم تأخير الواجب عن وقت لا يعلمه وهو تكليف بما لا يطاق لكن لا يجوز أن يكون التأخير إلى وقت معين لأن ذلك الوقت ليس إلا وقتا يغلب على ظن المكلف أنه لا يعيش بعده , لأن القائلين بالتراخي قائلون به لكن لا بد لغلبة ظنه من دليل وهو إما كبر السن أو مرض شديد لكن كثير من المكلفين يموتون دونهما. وأجاب أولا: بنقض إجمالي وهو أن هذا الدليل منقوض بما إذا صرح للمكلف بجواز التأخير مثل أن يقول صل متى شئت , فإنه يطرد هذا الدليل فيه مع أنه للتراخي بالاتفاق. وثانيا: بنقض تفصيلي منع الملازمة. وتقريره لا نسلم أنه إذا لم يجب التأخير إلى وقت معين عند المكلف لزم تكليف ما لا يطلق وإنما يلزم ذلك أن لو كان التأخير متعينا , وليس كذلك لجواز الاتيان بالمأمور به على الفور فإن المراد بالتراخي هو أن لا يكون الفور لازما لا أن لا يجوز. السابع: أن يقال فعل المأمور به من الخيرات وسبب للمغفرة ومثله يجب الإتبان به على الفور لقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) أمر بالمسارعة والأمر للوجوب.

- اختلف الأصوليون في أن الأمر بشيء معين هل هو بعينه نهي عن ضده أو لا؟

وأجاب بأن الأمر بذلك للندب على معنى أنها أفضل من التأخير وقرينته أنه لو لم يحمل على ذلك انتفى المسارعة لأنها عبارة عن مباشرة الفعل في وقت مع جواز الإتيان به بعد ذلك فلو وجب الفور تضيق ولا مسارعة فيه. وفيه نظر فإن للخصم أن يقول: المسارعة هي المسابقة إلى الشيء وأما جواز الإتيان به بعد ذلك فليس بداخل في مفهومه. واستدل القاضي بما مر في الواجب الموسع من وجوب العزم في أول الوقت أو الإتيان بالمأمور به وقد تقدم مع جوابه ثمة. واستدل إمام الحرمين بأن الطلب متحقق بورود الأمر والخروج عن العهدة بالتأخير مشكوك فيه فوجب ترك المشكوك فيه فتعين المبادرة. وأجاب بما معناه أن الطلب على الفور متحقق أو على التراخي أو مطلقا لا سبيل إلى الأول لكونه مصادرة ولا إلى الثاني لأنه بعيد خلاف المقصود فتعين الثالث. والمطلق يحتمل البدار والتأخير من غير ترجيح فكما يخرج عن العهد بالبدار يخرج بالتأخير وحينئذ لا يكون مشكوكا. ولكن كلامه في الدلالة على هذا البيان في حيز الإلغاز. ص - مسألة: اختار الإمام والغزالي أن الأمر بشيء معين ليس نهيا عن ضده , ولا يقتضيه عقلا. وقال القاضي ومتابعوه نهي عن ضده. ثم قال: يتضمنه. ثم اقتصر قوم. وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما. ثم منهم من خص الوجوب دون الندب. ش - اختلفوا في أن الأمر بشيء معين هل هو بعينه نهي عن ضده أو لا؟ فذهب إمام الحرمين والغزالي إلى أن الأمر بشيء معين لا يكون نهياً عن

ضده " ولا يقتضيه عقلا " أي لا يستلزمه والمراد بالضد ما يستلزم ترك المأمور به وقوله: معين - قيد اتفاقي. وقال القاضي أبو بكر أولا: الأمر بشيء بعينه نهي عن ضده. ثم قال ثانيا: إن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده أي يستلزمه بكونه نهيا عن ضده " عن أن يقول والنهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له. وقال القاضي النهي كذلك فيهما أي النهي عن الشيء أمر بضده أو يقتضيه عقلاً.

- الأقوال والأدلة والمناقشات

ثم من القائلين بكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده أو مستلزما له من قال إن الأمر الذي هو نهي عن ضده أو مستلزم له هو أمر الإيجاب لا الندب. ومنهم من لم يخصه به. ص - لنا لو كان الأمر نهيا عن الضد أو يتضمنه لم يحصل بدون تعقل الضد والكف عنه لأنه مطلوب النهي. ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما. واعترض بأن المراد الضد العام. وتعقله حاصل لأنه لو كان عليه لم يطلبه. وأجيب بأن طلبه في المستقبل. ولو سلم فالكف واضح. ش - احتج المصنف على أن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن ضده ولا يقتضيه عقلا فإنه لو كان كذلك لم يحصل الأمر بدون تعقل الضد , وتعقل الكف عنه لأن النهي طلب الكف عن الضد , والفرض أن الأمر عينه , والشيء لا يحصل بدون تعقله , لكنا نقطع بأن الأمر قد يطلب شيئا مع الذهول عن ضده , والكف عنه. واعترض بأنا لا نسلم تحقق الطلب مع الذهول عن ضده والكف عنه , لأن الضد قد يطلق على أمر خاص كالأكل والشرب بالنسبة إلى الصلاة. وعلى أمر عام وهو ترك المأمور به فإنه يتحقق بكل من الأمور الخاصة. والمراد بالضد هاهنا هو الثاني. وتحقق الطلب مع الذهول عنه ممتنع لأن الأمر عند الأمر يعقل ترك المأمور به إذ لو علم أن المأمور متلبس بالمأمور به لم يأمره لأنه تحصيل الحاصل. ولقائل أن يقول هذا تناقض ظاهر لأن مدعاهم أن الأمر بالشيء عين النهي عن

ضده ودليلهم بالتمحل الشديد يدل على أنه شيء يستلزم تعقل الأمر بعقله. وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن الأمر لو علم أن المأمور على الفعل لم يأمره. قوله: لامتناع تحصيل الحاصل - قلنا لا نسلم لزوم ذلك وإنما يلزم أن لو كان الأمر يطلب تحصيل " الحاصل " الفعل في الحال , وهو ممنوع فإن الأمر يطلب به الفعل في الزمان المستقبل. ولو سلم أن الضد العام معلوم للأمر , فالكف غير معلوم له وهو واضح. وفي كلامه نظر من وجهين: أحدهما: أنه يسلتزم أن يكون الأمر لطلب دوام المأمور به لا لطلب المأمور به إذ كان المأمور على المأمور به وقت الأمر وإلا فلا يفيد شيئا. والثاني: أن كون الكف غير معلوم يدفع كون الأمر بالشيء عين النهي عن ضده ولا يدفع كونه متضمنا له لأن كونه غير معلوم لا ينافي أن يكون لازما من لوازمه لأن معرفة الشيء يستلزم معرفة ما تتوقف عليه ماهيته. أما اللوازم الخارجية فإنما يتوقف عليها وجود الشيء لا العلم به فيجوز أن يتحقق الشيء لوجود لازمه وإن لم يكون العلم به حاصلا. ص - القاضي لو لم يكن إياه لكان ضدا أو مثلا أو خلافا. لأنهما إما أن يتساويا في صفات النفس أو لا. الثاني: إما أن يتنافيا بأنفسهما أو لا. فلو كانا مثلين أو ضدين لم يجتمعا ولو كانا خلافين لجاز أحدهما مع ضد الأخر وخلافه , لأنه حكم الخلافين. ويستحيل الأمر مع ضد النهي عن ضده , وهو الأمر بضده , لأنهما نقيضان. أو تكليف بغير الممكن. وأجيب: إن أراد بطلب ترك ضده , طلب الكف منع لازمها عنده , فقد تلازم الخلافان , فيستحيل ذلك وقد يكون كل منهما ضد الأخر كالظن والشك , فإنهما معا ضدا العلم وإن أراد بترك ضده عين الفعل المأمور به رجع النزاع لفظيا في تسميته تركا. ثم في تسمية طلبه نهياً.

القاضي: أيضاً السكون عين ترك الحركة , وطلب السكون طلب ترك الحركة. وأجيب بما تقدم. ش - احتج القاضي على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده بوجهين: الأول: لو لم يكن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده لكان إما ضدا له أو مثلا له أو خلافا له لانحصار الغير في ذلك فإنه إذا لم يكن عينه فإما أن يكون مساويا له في صفات النفس أي في تمام ذاتياته أو لا. والأول: هما المثلان كزيد وعمرو. والثاني: إما أن يتنافيا ذاتهما أو لا , والأول: هما الضدان ويندرج فيه

النقيضان والعدم والملكة , فالضدان كالسواد والبياض , والنقيضان كالإنسان واللاإنسان , والعدم والملكة كالعمى والبصر. والثاني: هما الخلافان كالحركة والسواد , لكن التالي باطل لأن الأمر بالشيء والنهي عن ضده لو كانا مثلين أو ضدين لم يجتمعا لكنهما يجتمعان. يقال صل ولا تتركها. ولقائل أن يقول: الضدان لا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد والأمر بالشيء والنهي عن ضده كذلك لأن زمان التلفظ بالأمر غير زمان التلفظ بالنهي عن ضده. ثم إن قوله إنهما يجتمعان يدل على التعدد , والمدعى أنهما واحد ولو كانا خلافين لجاز وجود أحدهما مع ضد الأخر ومع خلاف الأخر لأن حكم الخلافين

ذلك كالعلم والإرادة فإنه يجوز وجود العلم مع ضد الإرادة وهو الكراهة ومع خلافها وهو المحبة وعكسه وهو جواز الجهل مع الإرادة ومع السخاوة التي هي خلاف العلم. لكن يستحيل اجتماع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن الضد وهو الأمر بالضد لأنه يلزم الأمر بالشيء والأمر بضده وذلك أمر بالنقيضين إن كان الضدان نقيضين , أو الأمر بالمتنافيين إن لم يكونا كذلك وذلك تكليف ما لا يطاق. فلا يكون الأمر بالشيء والنهي عن ضده خلافين. وإذا بطل الأقسام الثلاثة بطل التالي. وأجاب المصنف عن هذا الوجه بأن القاضي إن أراد بطلب ترك الضد الذي هو المعنى بالنهي عن الضد طلب الكف عن الضد يختار أنهما خلافان حينئذ , ويمنع إذ ذاك ما يجعل القاضي لازم الخلافين , وهو اجتماع الخلاف مع ضد الخلاف , وخلاف الخلاف لأن الخلافين قد يكونان متلازمين كالعلة والمعلول المساوي فإنه يستحل اجتماع أحدهما مع ضد الأخر لأنه اجتماع الضدين لعدم انفكاك أحدهما عن الأخر فكلما يصدق أحدهما يصدق الأخر. وأيضا قد يكون ضد أحد الخلافين ضد الخلاف الأخر كالظن والشك فإنهما خلافان وكل منهما ضد العلم فيكون كل منهما ضد الأخر. قال شيخي العلامة: المثال غير صحيح لأن الظن والشك ضدان على الوجه الذي فسر المصنف الضدين. والمثال الصحيح هو الضاحك والكاتب فإنهما خلافان على الوجه الذي فسره , وكل منهما ضد للصاهل.

والفرق بين الوجهين المذكورين أن الأول سنده نقض تفصيلي. والثاني نقض إجمالي وإن أراد القاضي بطلب ترك ضده طلب غير الفعل المأمور به كان النهي عن الضد عين الأمر بالشيء وصار النزاع لفظيا في تسمية الفعل بترك الضد , ثم في تسمية طلب ذلك الفعل نهيا. والثاني: أن السكون عين ترك الحركة , فطلب السكون الذي هو الأمر بالسكون هو بعينه طلب ترك الحركة الذي هو النهي عن ضد السكون. وأجاب بما تقدم وهو أن النزاع حينئذ يكون لفظيا. ص - التضمين: أن أمر الإيجاب طلب فعل يذم على تركه اتفاقا , ولا يذم إلا على فعل وهو الكف أو الضد فيستلزم النهي. وأجيب بأنه مبني على أنه من معقوله لا بدليل خارجي. وإن سلم فالذم على أنه لم يفعل لا على فعل. وإن سلم فالنهي طلب كف عن فعل لا عن كف , وإلا أدى إلى وجوب تصور الكف عن الكف لكل أمر وهو باطل قطعا. قالوا: لا يتم الواجب إلا بترك ضده وهو الكف عن ضده أو نفيه فيكون مطلوبا. وهو معنى النهي. وقد تقدم. ش - احتج القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده بوجهين: أحدهما: أمر الإيجاب طلب فعل يذم تاركه. ولا يذم إلا على فعل , لأن العدم غير مقدور عليه , وغير المقدور عليه لا يذم تاركه. وذلك الفعل هو الكف أو فعل ضد المأمور به لأن عدم المأمور لا يحصل إلا بأحدهما فيكون الكف أو فعل الضد المأمور به منهيا عنه فيكون أمر الإيجاب مستلزما للنهي عن أحدهما. وفيه نظر لأنه يكون مستلزما للمنهي عنه وهو أحدهما لا النهي عن أحدهما وهو خلاف المطلوب.

وأجاب بأن هذا الدليل مبني على أن الذم على ترك فعل المأمور به من معقول الأمر لا بدليل خارجي وليس كذلك بل العلم بالذم على الترك مستفاد من دليل خارجي. ولقائل أن يقول الدليل الدال على ذلك إما أن يكون شرعيا ولا نسلم وروده على أن ذلك كان معلوما قبل الشرع. وإما أن يكون عقليا وهو ليس بحجة فلم يبق إلا أن يكون من معقوله. ثم قال: ولئن سلم أن الذم على الترك من معقول الأمر لكن لا نسلم أن الذم لا يكون إلا على فعل. يجوز أن يكون على أنه لم يفعل لا أنه فعل. لا يقال العدم غير مقدور لأن ذلك هو الممتنع وليس الكلام فيه ولئن سلم أن الذم على الفعل لكن لا يصح أن يكون الكف منهيا عنه لأن النهي هو طلب كف عن فعل لا طلب كف عن كف وإلا أدى إلى وجوب تصور الكف عن الكف لكل أمر لأن الأمر بالشيء يستلزم تصور النهي الذي هو طلب الكف عن الكف وهو باطل قطعا فإنا نجد أنفسنا تأمرنا بأشياء ولم نتصور شيئا من ذلك وإذا لم يكن النهي طلب كف عن كف لم يكن الكف منهيا عنه. وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن قوله النهي طلب كف عن فعل لا عن كف يوهم أن الفساد إنما هو باعتبار جعل الكف منهيا عنه وليس كذلك فإن الفساد باق. وإن كان المنهي عنه فعلا لا كفا فإنا نجد أنفسنا إذا أمرنا بشيء أن الذهن لا يتوجه إلى شيء من ذلك والمنازع مكابر. والثاني: أن هذا الجواب مخصوص بدفع كون الكف هو الفعل الذي يذم عليه لا الضد. الثاني: أن الأمر بالشيء يستلزم كون المأمور به واجبا والواجب لا يتم إلا بترك الضد , وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , فترك الضد واجب وترك الضد هو

- هل النهي عن الشيء هو بعينه أمر بضده؟

الكف عنه أو نفيه. فيكون أحدهما مطلوبا ويكون ضد المأمور به منهيا عنه , فيكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده. وأجاب بقوله: وقدم تقدم. وهو أنه ليس كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , بل ما لا يتم الواجب إلا به أذ كان شرطا شرعيا كان واجبا وترك الضد ليس كذلك. وفيه نظر لأن ذلك مختاره على خلاف أكثر الأصوليين فيكون رد المختلف على المختلف وقد تقدم هناك إبطال الوجوه المذكورة ثمة. ص - الطاردون: متمسكا القاضي المتقدمان. وأيضا - النهي: طلب ترك فعل والترك فعل الضد , فيكون أمرا بالضد. قلنا , فيكون الزنا واجبا من حيث هو ترك لواط وبالعكس. وهو باطل قطعا. وبأن لا مباح. وبأن النهي طلب الكف لا الضد المراد. فإن قلتم فالكف فعل فيكون أمرا رجع النزاع لفظيا , ولزم أن يكون النهي نوعا من " الأمور " ومن ثم قيل الأمر طلب فعل لا كف.

ش - القائلون بأن النهي عن الشيء هو بعينه أمر بضده , كما أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده , احتجوا بثلاثة أوجه: الأول والثاني: متمسكا القاضي , يعني الدليلين الدالين على عدم المغايرة لأنه لو لم يكن النهي عن الشيء أمرا بضده لكان إما مثله أو ضده أو خلافه إلى أخره. ولأن السكون عين ترك الحركة فيقال ترك الحركة عين السكون فالنهي عن الحركة هو عين الأمر بالسكون وقد مر جوابهما. والوجه الثالث: أن النهي طلب ترك فعل وترك الفعل هو بعينه فعل الضد فالنهي طلب فعل الضد. وكل ما هو طلب فعل فهو أمر. فالنهي عن الشيء هو بعينه أمر بضده. وأجاب عنه بثلاثة أوجه: الأول: لو كان ترك فعل هو بعينه فعل الضد لكان الزنا واجبا من حيث هو ترك اللواط , وبالعكس لأن ترك اللواط حينئذ يكون فعل الزنا الذي هو ضده , وترك اللواط واجب فالزنا واجب , وترك الزنا فعل اللواط الذي هو ضده وترك الزنا واجب فيكون اللواط واجبا ولا نزاع في بطلان ذلك. الثاني: أنه لو كان ترك فعل هو بعينه فعل ضده لزم أن لا يتحقق المباح في

الشرع لأن كل مباح ضده الحرام وضد الحرام بعينه ترك الحرام واجب فيكون المباح واجبا. ولقائل أن يقول: هذان الجوابان ليسا بشيء لأن المستدل جعل ترك الزنا مثلا فعلا خاصا هو فعل ضد الزنا أي عدمه فإنه قد تقدم أن عدم الشيء ضد فترك الزنا عنده فعل ضده الذي هو عدمه وليس للواط ولا لنفي المباح في ذلك مدخل. الثالث: أن النهي طلب الكف عن الفعل فيكون الكف عن الفعل مطلوبا لا فعل الضد المراد. فإن قيل لو سلم أن النهي طلب الكف عن الفعل فالكف فعل فيكون طلبه أمرا لأن طلب الفعل أمر. أجيب بأنه حينئذ رجع النزاع لفظيا لأنا لا نسمي طلب الكف أمرا وأنتم تسمونه أمرا. ويلزمكم أن يكون النهي نوعا من الأمر لأنه حينئذ يكون طلب الفعل سواء كان كفا أو غيره أمرا ثم إن كان ذلك الفعل كفا سمي نهيا أيضا. والقول بأن النهي نوع من الأمر باطل. ومن ثم أي ومن أجل أن القول بأن النهي نوع من الأمر باطل. قيل في تعريف الأمر إنه طلب فعل غير كف. ولقائل: " أن يقول بعد أن صار النزاع لفظا لا وجه لإيراد كون النهي نوعا من الأمر لجواز " أن يقول الأمر والنهي عندي عبارتان عن معبر واحد فإن كان بصيغة السلب قلنا نهي عن الشيء وهو أمر بضده وإن كان بصيغة الإيجاب قلنا أمر بشيء وهو نهي عن ضده. وقول من قال إنه طلب فعل غير كف , غير ناهض لأنه اصطلاح ولا مشاحة فيه. ص - الطاردون في التضمين لا يتم المطلوب بالنهي إلا بأحد أضداده كالأمر. وأجيب بالإلزام الفظيع , وبأن لا مباح.

ش - القائلون بأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده كما أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده احتجوا بأن المطلوب بالنهي وهو الترك - كفا كان أو أن لا يفعل - لا يتم إلا بفعل أحد أضداده. وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب فالنهي عن الشيء يستلزم طلب فعل الضد وطلب فعل الضد أمر. فيكون النهي مستلزما للأمر. وأجيب بالإلزام الفظيع وهو أنه يلزم أن يكون طلب ترك الزنا مستلزما لطلب فعل اللواط. وفيه نظر لأنه قال لا يتم إلا بأحد أضداده يعني لا على التعين وأحد الأمور لا على التعيين ليس بواحد منها بعينه فلا يرد عليه اللواط ولا الزنا غاية ما في الباب أن ينظر في أضداده فما دل " عليه دليل " صريح على حرمته يرجح على موجبه الذي يوجبه استلزاما لأن الصريح أقوي من المستلزم. قال وأيضا يلزم أن لا مباح في الشرع كما ذكر. وفيه نظر لأن كلامهم في أدلتهم وغيرها يدل على أن المراد بالضد شيء خاص وهو فعل المنهي عنه فإن الزنا لما كان منهيا عنه مثلا فضده الذي هو ترك فعله مطلوب وكل طلب فعل أمر عندهم فلا مدخل فيه للمباح. ص - الذين نفروا من الطرد إما لأن النهي طلب ضد نفي وإما للإلزام الفظيع وإما لأن أمر الإيجاب يستلزم الذم على الترك وهو فعل ما يستلزم كما تقدم. والنهي طلب كف عن فعل فلم يستلزم المر لأنه طلب فعل لا كف وإما لإبطال المباح. ش - الذين يفرون من الطرد ويقولون الأمر بالشيء هو بعينه نهي عن ضده أو

يستلزمه دون العكس إنما يفرون من الطرد لأحد أمور: إما لأن النهي طلب نفي فعل أي طلب أن لا يفعل وهو عدم والأمر طلب وجود فعل وطلب العدم لا يكون غير طلب الوجود ولا متضمنا له. وفيه نظر لأن الوجودي قد يستلزم العدمي فإن تصور كل سلب يتلزم تصور إيجابه. قيل وهذا الدليل يوجب أن لا يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده ولا مستلزما له لأن طلب الوجود لا يكون بعينه طلب العدم ولا متضمنا له. وأما الإلزام المذكور وهو لزوم كون الزنا واجبا" وهذا " الدليل أيضا باطل لأن الأمر بالشيء لو كان عين النهي عن ضده أو مستلزما له للزم أن يكون الأمر بالصلاة بعينه نهيا عن الحج أو مستلزما له فإن الصلاة ضد الحج. وفيه نظر لأن الحج وأمثاله إن كان ضدا فقد دل الدليل الصريح على وجوبه فترك الدليل الذي ينفيه بالاستلزام ترجيحا للصريح عليه. وإما لأن أمر الإيجاب يستلزم الذم على الترك والترك فعل لما تقدم أن الذم لا يكون إلا على الفعل فاستلزم الأمر النهي لأن الترك الذي هو فعل يذم عليه منهي عنه. وأما النهي عن الشيء فلا يستلزم الأمر بالضد. إما لأن النهي طلب كف فعل والأمر طلب فعل غير كف فلو كان النهي مستلزما للأمر لزم أن يكون طلب الكف مستلزما لطلب غير الكف , وهو مستحيل. وإما لأنه لو كان النهي مستلزما للأمر لزم نفي المباح لأنه يلزم من النهي الأمر بالمباح الذي هو ضد النهي عنه فانتفى المباح لكونه مأمورا به والمأمور به واجب. وهو أيضا باطل لأن الأمر بالشيء لو كان مستلزما للنهي عن الضد للزم أيضا نفي المباح لأنه ضد المأمور به فيكون منهيا عنه فلا يكون مباحا. ص - والمخصص: للأمرين الأخيرين.

- اختلاف الناس في معنى الإجزاء

ش - والذين خصصوا استلزام الأمر للنهي بأمر الإيجاب , احتجوا بالأمرين الأخيرين: أما الأمر الأول منهما فلأن الأمر إنما استلزم النهي بسبب الذم على الترك ولا ذم على الترك في الندب فلا يستلزم الأمر الذي للندب النهي عن ضده. ولقائل أن يقول لو كان علة الاستلزام ذلك لا ستلزم نهي الإيجاب الأمر بضده لأنه طلب كف فعل يذم فاعله , وكف فعل يذم فاعله مأمور به. وهذا النقض وارد على الفار من الطرد أيضا. وأما بالثاني فلأن استلزم الأمر للنهي يوجب نفي المباح وهو خلاف الأصل فخصص أمر الإيجاب باستلزام النهي دون أمر الندب تقليلا لما هو خلاف الأصل. ولقائل أن يقول هذا باطل قطعا لأن مقتضاه تسويغ انتفاء المباح في أمر الإيجاب. ص - مسألة: الإجزاء: الامتثال. فالإتيان بالمأمور به على وجهه يحققه اتفاقا. وقيل: الإجزاء: إسقاط القضاء فيستلزمه. وقال عبد الجبار: لا يستلزمه. لنا لو لم يستلزمه لم يعلم امتثال. وأيضا فإن القضاء استدراك لما فات من الأداء فيكون تحصيلا للحاصل. قالوا لو كان لكان المصلي بظن الطهارة أتما أو ساقطا عنه القضاء , إذا تبين الحدث. وأجيب بالسقوط للخلاف. وبأن الواجب مثله بأمر أخر عند التبين. وإتمام الحج الفاسد واضح. ش- اختلف الناس في معنى الإجزاء. فقيل: هو الامتثال. وعلى هذا إذا

أتى بالمأمور به على الوجه الذي أمر به فذهب بعضهم إلى أنه تحقق الإجزاء يعني سقط القضاء. وهو مختار المصنف. وقال عبد الجبار: لا يسقط القضاء به. واحتج المصنف على ما اختاره بوجهين:

الأول: أن الإتيان بالمأمور به لو لم يستلزم الإجزاء لم يعلم الامتثال لبقاء احتمال توجه التكليف , وإذا احتمل توجه احتمل عدم الامتثال لأن تحقق الامتثال مع توجه التكليف متنافيان. وإذا احتمل عدم الامتثال لم يعلم الامتثال لأن العلم بالشيء ينافي احتمال النقيض. وفيه نظر لأن الإجراء لما كان سقوط القضاء كان غير الامتثال قطعا فلا يلزم من عدم سقوط القضاء عدم العلم بالامتثال فإن الامتثال حينئذ عبارة عن إخراج المأمور به من القوة إلى الفعل وهو عين الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به فكيف يكون غير معلوم. ولأن قوله لبقاء احتمال توجه التكليف ليس بمستقيم لأنه إذا لم يحصل سقوط القضاء بالإتيان بالمأمور به فالخطاب متوجه لا محتمل لأن القضاء بالأمر السابق. والثاني: أن القضاء استدراك لما فات من الأداء فلو لم يكن الإتيان بالمأمور به على وجهه مسقطا للقضاء لكان تحصيلا للحاصل , فإن الحاصل من الإتيان بالمأمور به إذا عدم الإجزاء ولم يحصل بالقضاء شيء أخر غيره وهو تحصيل للحاصل. وأن يكون القضاء فكذلك أبدا وفيه تكليف ما لا يطيق. ولعبد الجبار أن يقول الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به امتثال للأمر لا محالة ولكن لا يعلم أن القضاء يسقط به أولا حيث لم يكن مستلزما له لما سيجئ. وعدم العلم بالسقوط لا يستلزم العدم في نفسه كما أنا لا نعلم أي عبادة وقعت معتدا بها عند الله - تعالى - وإنما تنكشف يوم القيامة. واستدل القاضي ومتابعوه بأن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به لو كان مستلزما لسقوط القضاء لأثم المصلي بظن الطهارة أو سقط عنه القضاء إذا ثبت حدثه بعده لأنه إما أن يكون مأمورا بها مع يقين الطهارة أو مع ظنها فإن كان الأول أثم

- مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر

لأنه لم يأت بالمأمور به على وجهه , وإن كان الثاني سقط عنه القضاء لأنه أتى به على وجهه لكنه لا يأثم ولا يسقط عنه القضاء بالاتفاق. وأجاب بأنا لا نسلم عدم سقوط القضاء فإنه مختلف فيه ونحن نختار سقوطه. وبأن ما يجب عليه الإتيان به ليس بقضاء لما أتى به أولا بل هو واجب أخر مثل ما أتى به , وجب عليه بسبب أخر عند تبين الحدث لا بالسبب الأول. وفيه نظر لأن ما يأتي به ثانيا إما يكون في الوقت أو بعده فإن كان الأول فهو إعادة وبطل قوله بسبب أخر لا بالسبب الأول. وإن كان الثاني فهو قضاء لا محالة فبطل قوله ليس قضاء لما أتى به. فإن قيل لو اسقط القضاء الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أممر به لما وجب قضاء الحج الفاسد بعد المضي عليه لأنه مأمور بإتمامه وقد أتى به على الوجه المأمور به. أجيب بأن المماثلة بين القضاء والأداء واجب وإتمام الحج الفاسد ليس مماثلا لما أتى به في السنة الآتية وهو واضح فلا يكون قضاء للحج الفاسد. هذا ما قيل في تفسير قوله وإتمام الحج الفاسد واضح. وليس في كلامه ما يلوح إليه أصلا. ولقائل أن يقول المراد بالمماثلة إن كان المصطلح وهو الاتحاد في الذاتيات فالحج الفاسد والمأتي به في العام القابل كذلك. وإن كان المشابهة من وجه فكذلك. وإن كان المشابهة في أخص الأوصاف لا يتحقق في صورة من الصور لأن ذلك هو كون المؤدى وقتيه والقضاء ليس كذلك فاختلفا فيه. وإن كان المشابهة من جميع الوجوه كما فسره بعض المتكلمين فكذلك لأنهما حينئذ متحدان لا متماثلان. ص - مسألة صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة على الأكثر. لنا غلبتها شرعا (وإذا حللتم) (فإذا قضيت الصلواة). قالوا: لو كان مانعا لمنع من التصريح.

وأجيب بأن التصريح قد يكون بخلاف الظاهر. ش - اختلف الناس في الأمر بعد الحظر فذهب الفقهاء إلى أنه للوجوب كما كان قبله إذا عري عن قرينه. ومنهم من ذهب إلى أنه للإباحة واختاره المصنف. واحتج بأن صيغة الأمر بعد الحظر إنما وردت في الشرع للإباحة غالبه كما في قوله - تعالى -: (وإذا حللتم فاصطادوا) (فإذا قضيت الصلوة فانتشروا) والحكم للغالب. ولقائل أن يقول ورودها للإباحة بعده إما أن يكون بقرينة أو لا والثاني: ممنوع والأول يفيد أنه حقيقة في الوجوب وتستعمل في الإباحة بقرينة " مجازا بعده كما كان قبله " وغلبة الاستعمال لا تستلزم أن تكون على جهة الحقيقة وهو المتنازع فيه ولو

- مسألة: القضاء بأمر جديد أو بالأول

كانت حقيقة لزم الاشتراك وهو باطل. واحتج الفقهاء بأن مطلق الأمر للوجوب ووردوده بعد الحظر ليس مانعا عن الوجوب وإلا يمنع التصريح به ولم يمنع لجواز التصريح من الشرع بعده كما لو قال بعد حظر القتال في الأشهر الحرم أوجبت عليكم القتال وإذا تحقق المقتضى وانتفى المانع لزم الوجوب. وفيه نظر لأنه إثبات اللغة بالدليل العقلي. وأجاب بأن وروده بعده إذا كان مانعا للوجوب لم يلزم أن يكون مانعا من التصريح بالوجوب لجواز أن يكون مانعا للوجوب بطريق الظهور ويجوز التصريح بالوجوب حينئذ لأن التصريح قد يكون بخلاف الظاهر. ولن ينتصر للفقهاء أن يبدل بالتالي. قولنا: لم يرد بعده للوجوب وحينئذ يبطل الجواب المذكور. ص - مسألة: القضاء بأمر جديد. وبعض الفقهاء بالأول. لنا: لو وجب به لاقتضاه. " وصوم " يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة. وأيضا لو اقتضاه لكان أداء ولكانا سواء. قالوا: الزمان ظرف فاختلاله لا يؤثر في السقوط. رد بأن الكلام في مقيد لو قدم لم يصح. قالوا: كأجل الدين. رد بالمنع , وبما تقدم. قالوا: فيكون أداء. قلنا سمي قضاء , لأنه يجب به استدراكا لما فات. ش - الأمر إما مطلق أو مؤقت بوقت معين. والأول: لا قضاء له عند من لم يقل بالأداء على الفور بل في أي وقت أتى به فهو أداء. والثاني: إذا فات عن وقته ذلك صار قضاء. واختلفوا في أنه واجب بالأمر

الأول المقتضي للأداء أو بأمر أخر. فقال الفقهاء بالأول. وهو المختار. وذهب غيرهم إلى أنه بأمر جديد واختاره المصنف. واحتج بأوجه. الأول: أنه لو وجب بالأمر الأول لاقتضاه الأمر الأول على معنى أن أمر الأداء يتناول وجوب القضاء لأنا لا نعني بالوجوب إلا تناوله إياه لكن ليس كذلك لأن قول القال " صوم " الخميس لا يتناول صوم يوم الجمعة لا بطريق المنطوق ولا بطريق المفهوم ولقائل أن يقول هذه مغالطة لأن الخصم لا يقول بتعيين يوم الجمعة لصوم القضاء وإنما يقول الأمر تناول يوم الخميس وهو أخص يستلزم الصوم المطلق ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم فيبقى الأعم متناول النص عند عدم الأخص وهو المعني بوجوبه بالأمر الأول. وتحقيقه أن المأمور بشيء لا يخلص من عهدته إلا بأحد أمور ثلاثة. إما بأداء من عليه أو بإسقاط من له أو بالعجز عن الإتيان به. والفرض انتفاء الأولين والعجز ثابت باعتبار شرف الوقت فقط فيثبت تقديره ويسقط إلى مأثم. وأما نفس الصوم فليس هو بعاجز عن الإتيان به فيجب عليه الإتيان مطلقا. وقد ذكرنا في التقرير بتمامه فليطلب ثمة. الثاني: لو اقتضى الأمر الأول وجوب القضاء كان القضاء أداء لأنه حينئذ يكون

وقوع المأمور به في الزمان الثاني كوقوعه في الزمان الأول لكونهما مقتضى الأمر. والواقع في الأول أداء فكذا في الثاني. لكنه ليس كذلك بالإجماع. ولقائل أن يقول الملازمة ممنوعة لجواز أن يكون الأداء مشروطا بشرط ككونه في الوقت والقضاء مشروطا بغيره ككونه في غيره وحينئذ لا يلزم من كونهما مقتضى الأمر أن يكون الثاني كالأول. وأن يقول لو كان بالأمر الجديد لكان أيضا كذلك لأن الأمر الثاني في الاقتضاء كالأول , وفي الأول أداء فكذا في الثاني. الثالث: لو وجب بالأول كان وقوع الفعل في الزمان الأول مساويا لوقوعه في الزمان الثاني لاتحاد المقتضى وليس كذلك لأن التأخر القصدي يوجب الإثم. وفيه نظر لجواز انتفاء المساواة بعدم الشرط الذي يتوقف عليه شرف الوقت كما تقدم. واحتج للمحققين بثلاثة أوجه: الأول: أن الزمان المقدر ظرف للمأمور به والظرف لا يكون مطلوبا بالأمر لأن المطلوب بالأمر لا بد وأن يكون مقدورا للمكلف والظرف لا يكون مقدورا له. وكل ما لا يكون مطلوبا بالأمر فالاخلال به لا يؤثر في سقوط التكليف. وأجاب بأن الكلام في أمر مقيد لو قدم الإتيان به على وقته لم يصح " وقوعه " في الوقت مطلوب ومقدور للمكلف فيكون إخلاله في وقته الأول مؤثرا في سقوط التكليف به. ولقائل أن يقول سلمنا أن وقوعه في الوقت مطلوب لكن لزيادة شرفت الوقت أو لجعل الفعل عبادة والثاني ممنوع فإن العبادة فعل يأتي به المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه وليس للوقت في ذلك جهة الركنية. والأول مسلم لكن الإخلال به إنما يؤثر في فوات إدراك الوقت لا غير. الثاني: أن الزمان المقدر للمأمور به الذي هو حق الله كأجل الدين الذي هو

- مسألة: الأمر بالأمر بالشيء

حق الآدمي فلا يسقط المأمور به بفوات الأجل. ورد بمنع أن زمان المأمور به كأجل الدين فإن مخرج المأمور به عن وقته يأثم دون مخرج الدين. وفيه نظر لأن المماطلة أيضا عند الخصم توجب الإثم. قال وأيضا يجوز أداء الدين قبل الأجل ولا يصح تقديم المأمور به على وقته المقدر. وفيه نظر لأنه باطل على قاعدة الخصم فإن تقديم الدين على الأجل إنما جاز لتحقق سببه وإن لم يكن مطلوبا بخلاف المأمور به فإن وقته سببه عنده ولا يجوز تقديم المسبب على السبب. الثالث: لو كان القضاء بأمر جديد لكان أداء كما في الأول لكنه ليس كذلك. وأجاب بأنه سمي قضاء لأنه وجب استدراكا لما فاته. وفيه نظر لأنه يشير إلى النزاع في التمسية وهو باطل لترتب الحكم عليه وهو المأثم. والحق أن كونه قضاء يقتضي بأن يكون نسبته إلى الأمر الأول أنسب. ولا يخفى على المتأمل المنصف. ص - مسألة: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بالشيء. لنا: لو كان لكان مر عبدك بكذا تعديا. ولكان يناقض قولك للعبد لا تفعل. قالوا: فهم ذلك من أمر الله - تعالى - ورسوله ومن قول الملك لوزيره قل لفلان افعل ونحوه قلنا: للعلم بأنه مبلغ. ش - اختلف في أن الشارع إذا أمر أحدا أن يأمر غيره بفعل مثل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لولي الصبي أن يأمر بالصلاة بعد استكمال سبع سنين هل يكون أمرا للصبي بذلك الفعل أو لا؟

- مسألة: إذا أمر بفعل مطلق فهل المطلوب الفعل الممكن المطابق للماهية أو الماهية؟

اختار المصنف عدمه واحتج بوجهين: أحدهما: لو كان أمرا لذلك الغير لكان قولك للسيد مر عبدك بكذا تعديا لأنه حينئذ يكون أمرا لعبد الغير بغير إذنه وهو تعد وليس كذلك. وفيه نظر لجواز أن تعتبر توسيط السيد استئذانا منه فلا يكون تعديا. الثاني: لو كان كذلك لكان قولك للسيد مر عبدك بكذا مناقضا لقولك للعبد لا تفعل كذا , لأن قولك للسيد مر عبدك بكذا بمنزلة قولك للعبد افعل كذا فكان مناقضا لقولك للعبد لا تفعل كذا لكنه ليس كذلك وفيه نظر لجواز أن يكون قوله للعبد لا تفعل كذا رجوعا عما أمر به فلا يلزم التناقض. واحتج القائلون بأن الأمر بالشيء أمر به بأن الله - تعالى - إذا أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بالشيء نفهم منه كوننا مأمورين بذلك قطعا. وكذا إذا أمر رسوله أحدا أن يأمر الناس بشيء. وكذا قول الملك لوزيره قل لفلان افعل كذا فإنه يفهم من ذلك كله كونه أمرا لذلك. وأجاب بأن في هذه الصورة إنما فهم ذلك للعلم بأن المأمور بالأمر مبلغ للأمر. ص - مسألة: إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب الفعل الممكن المطابق للماهية لا الماهية. لنا أن الماهية يستحيل وجودها في الأعيان لما يلزم من تعددها فيكون كليا جزئيا وهو محال.

قالوا: المطلوب مطلق والجزئي مقيد , فالمشترك هو المطلوب. قلنا يستحيل بما ذكرناه. ش - اختلفوا فيما إذا أمر أمرا مطلقا بفعل من الأفعال غير مقيد بقيد خاص. فقيل: المطلوب الفعل الممكن المطابق للماهية يعني واحدا من جزئياته. وقيل: نفس الماهية الكلية. واختار المصنف الأول. واحتج عليه بأن الماهية من حيث هي يستحيل وجودها في الأعيان لأن الماهية من حيث هي يلزمها التعدد أي الاشتراك بين كثيرين فيكون كليا والموجود في الخارج متشخص فلو كانت الماهية موجودة في الخارج كانت كلية جزئية معا في الخارج وهو محال. وكل ما يستحيل في الخارج لا يكون مطلوبا ورد بأنا لا نسلم أن الماهية من حيث هي تستلزم التعدد. فإنها لو استلزمته امتنع عروض الشخص لها , وليس كذلك. بل الماهية من حيث هي لا تقتضي الوحدة ولا التعدد. والقائلون بأن المطلوب ماهية الفعل من حيث هي قالوا: المطلوب فعل مطلق ولا شيء من الجزئي مطلق لتقيده بالمشخصات فلا شيء من المطلوب بجزئي. وينعكس أي لا شيء من الجزئي بمطلوب فيلزم أن يكون الفعل المشترك هو المطلوب وذلك كالأمر بالبيع لا يكون أمرا به بغبن فاحش ولا بثمن المثل بل بالقدر المشترك الذي هو مستلزم لخصوصية كل منهما فيكون المأمور ممتثلا بكل واحد منهما.

- مسألة: الأمران المتعاقبان بمتماثلين

وأجاب بأنه مستحيل وجود الفعل المشترك في الخارج لما ذكرنا يعني من لزوم كونه كليا جزئيا. ورد بأن الخصم لم يقل إن الماهية تفيد الاشتراك هي المطلوبة بل الماهية من حيث هي , وهي ما تكون لا بشرط شيء ومطلقا وذلك موجود في الخارج لأنه جزء الموجود في الخارج. وهذا معنى قول بعض أصحابنا إن المطلق نكرة يعني أن المطلوب هو المطلق وهو يتحقق في ضمن واحد لا بعينه فيكون مطلوبا بقصد ثان. ص - مسألة: الأمران المتعاقبان بمتماثلين , ولا مانع عادة من التكرار من تعريف أو غيره , والثاني غير معطوف مثل: " صل ركعتين ". قيل معمول بهما. وقيل تأكيد. وقيل بالوقف. الأول: فائدة التأسيس أظهر، فكان أولى. الثاني: كثر في التأكيد ويلزم من العمل مخالفة براءة الذمة وفي المعطوف العمل أرجح. فإن رجح التأكيد بعادي قدم الأرجح. وإلا فالوقف. ش - إذا ورد أمر عقب أمر فإما أن يختلف المأمور بهما أو يتماثلا فإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما مثل: صم هذا اليوم. وصل ركعتين عمل بكل منهما.

وإن لم يمكن مثل: صل وأد الزكاة. فمن منع التكليف بالمحال استحال ذلك. ومن جوزه جوزه. وإن تماثلا فإن منع مانع من التكرار لفظي أو حالي كتعريف الثاني بلام العهد نحو: أعط درهما , أعط الدرهم. وقوله لعبده: اسقني كان الثاني تأكيدا للأول. وإن لم يمنع فإن كان الثاني غير معطوف على الأول مثل: صل ركعتين صل ركعتين. فقد اختلفوا فيه. قيل: يعمل بهما. وقيل: الثاني تأكيد. وقيل: الوقف. احتج الأول بأن العمل بهما تأسيس أي جعله شرعا غير الأول وهو أكثر فائدة من التأكيد فكان أولى حملا لأمر الشارع على الأكثر فائدة. واحتج الثاني بأن براءة الذمة أصل وفي التأسيس إبطاله فلا يصح إلا بدليل قطعي أو ظاهر. والأمر الثاني ليس بشيء من ذلك لأنه لما احتمل التأكيد بطل القطع. ولكونه كثير الاستعمال في هذه الصورة تأكيدا لم يبق ظاهرا في التأسيس فتعين التأكيد.

* النهي

ولم يذكر المصنف دليل الواقف لأن دليل الفريقين يوجب الوقف فاكتفى بذكره. وإن كان الثاني معطوفا على الأول مثل: صل ركعتين وصل ركعتين فالعمل بهما أرجح من التأكيد إن لم يمنع مانع من التغاير بين الأمرين لأن العطف يقتضي التغاير ولا مانع عنه (1). فإن منع عادة مثل قوله لعبده: اسقني ماء واسقني ماء. عمل بالأرجح من المقتضي والمانع والعمل بهما فيه أرجح لأن العادة والعطف تعارضا فتبقى فائدة التأسيس سالمة عن المعارض فكان المقتضي أرجح (2). فإن لم يترجح على الأخر مثل: اسقني ماء واسقني الماء باللام فالوقف (3) بين حمل الثاني على التأكيد أو التأسيس لأن العادة والتعريف في مقابلة التأسيس والعطف فلا مرجح لأحدهما على الأخر. في النهي وحده ص - النهي: اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء. وما قيل في حد الأمر من مزيف وغيره فقد قيل مقابله في حد النهي. والكلام في صيغته , والخلاف في ظهور الحظر لا الكراهية , وبالعكس , أو مشتركة أو موقوفة، وحكمها التكرار والفور وفي تقدم الوجوب قرينة. نقل الأستاذ الإجماع. وتوقف الإمام. وله مسائل مختصة. ش - لما فرغ من مباحث الأمر شرع في النهي وعرفه بأنه اقتضاء كف عن

فعل على جهة الاستعلاء فقوله: - كف عن فعل - مخرج الأمر. وقوله على جهة الاستعلاء - يخرج الدعاء والالتماس. وكل ما قيل حد الأمر من مزيف ومختار " قيل " مقابله في حد النهي. والكلام في أن له صيغة خاصة أو لا كالكلام في الأمر. والخلاف في أنه للحظر لا للكراهة أو للكراهة دون الحظر أو مشترك بينهما أو موقوف كما تقدم في الأمر. وحكمه التكرار والفور بالاتفاق. وتقدم الوجوب ليس بمانع بل تقدمه عليه

- مسألة: النهي عن الشيء لعينه فيه ثلاثة مذاهب: يقتضي الفساد مطلقا، لا يقتضيه مطلقا، يقتضيه في العبادات دون المعاملات

قرينة على الحظر. نقل الأستاذ أبو اسحق الإجماع على أن تقدم الوجوب قرينة تفيد الحظر. وتوقف إمام الحرمين في إفادته الحظر إذا تقدم الوجوب عليه. وللنهي مسائل تخصه. ص - مسألة: النهي عن الشيء لعينه يدلل على الفساد شرعا , لا لغة. وقيل: لغة. وثالثها في الإجزاء لا السببية. لنا أن فساده سلب أحكامه وليس في اللفظ ما يدل عليه لغة قطعا. وأما كونه يدل شرعا فلأن العلماء لم تزل تستدل على الفساد بالنهي في الربويات والأنكحة وغيرها. وأيضا لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة للنهي , ومن ثبوته حكمة " للمصلحة " واللازم باطل , لأنها في التساوي. ومرجوحية النهي يمتنع النهي لخلوه عن الحكمة. وفي رجحان النهي تمتنع الصحة لذلك. اللغة , لم تزل العلماء. وأجيب لفهمهم شرعا ما تقدم. قالوا: الأمر يقتضي الصحة والنهي نقيضه فيقتضي نقيضها. وأجيب بأنه لا يقتضيها لغة ولو سلم فلا يلزم اختلاف أحكام المتقابلات. ولو سلم فإنما يلزم أن لا يكون للصحة لا أن يقتضي الفساد.

ش - النهي عن الشيء لعينه أي بالنظر إلى ذاته دون ما يقارنه فيه ثلاثة مذاهب: الأول: أنه يدل على الفساد مطلقا. وافترق هؤلاء فمنهم من ذهب إلى أنه يدل عليه شرعا لا لغة سواء كان في العبادات أو في المعاملات. وآخرون إلى أنه يدل عليه لغة فيهما. والثاني: أنه لا يدل على الفساد مطلقا. وافترقوا. فمنهم من قال إنه لا يدل على الصحة وأخرى إلى أنه يدل عليها. الثالث: أنه يدل على الفساد في الإجزاء أي العبادات دون السببية أي المعاملات.

- أدلة المذهب الأول

واختار المصنف المذهب الأول. واحتج على أنه لا يدل " على " فيهما لغة بأن الفساد المنهي عنه سواء كان عبادة أو معاملة هو سلب أحكامه , وليس في لفظ النهي ما يدل على سلبها فتكون الدلالة لغوية ولا في معناه لأن معناه لغة اقتضاء الامتناع عن الفعل وسلب الأحكام ليس عينه ولا جزؤه ولا لازما من لوازمه لغة. وهذا واضح لأن الأحكام الشرعية حادثة فلا تكون اللغة مستلزمة لها لانفكاكها عنها قبل الشرع. واحتج على دلالته على الفساد فيهما شرعا بوجهين: الأول: أن السلف والخلف لم يزالوا مستدلين على الفساد بالنهي في الربويات والأنكحة والعبادات ولم ينكر عليهم فحل محل الإجماع. والثاني: لو لم يدل عليه شرعا لزم أن يكون لنفي المنهي عنه حكمة تستدعي النهي. ولثبوت المنهي عنه أيضا حكمة تستدعي صحة المنهي واللازم باطل لأن الحكمتين إن تساوتا امتنع النهي لخلوه عن الحكمة وكذلك إن ترجح حكمة الصحة. وإن ترجح حكمة المنهي امتنعت الصحة لخلوه عن حكمة الصحة. ولقائل أن يقول اختار القسم الثالث وهو أن تكون حكمة النهي راجحة. قوله امتنعت الصحة لخلوه عن حكمة الصحة. قلنا إن أريد بالامتناع انتفاؤها بعد تعلق النهي فهو كذلك ولا استحالة في ذلك ولا استبعاد. وإن أريد بامتناعها انتفاؤها قبل التعلق فهو ممنوع فإنه لا بد من الصحة قبله , وإلا لكان ممتنعا لا منهيا عنه. والقائل بأن النهي يدل على فساده لغة احتج أيضاً بوجهين:

- أدلة المذهب الثاني

الأول: أن السلف والخلف لم يزالوا يستدلون بالنهي على الفساد لغة. وتقريره كما تقدم وأجاب بأنا لا نسلم أن استدلالهم بالنهي على الفساد كان لغة بل لدلالته على الفساد شرعا " كما " تقدم. وهو واضح إذا كان المراد فساد الأحكام الشرعية كما تقدم. والثاني: أن الأمر يقتضي الصحة لغة. ولئن سلم فلا نسلم أنه يلزم أن يكون مقتضى النهي الفساد. قوله: لوجوب تقابل أحكام المتقابلين. قلنا: لا نسلم وجوب ذلك لجواز اتحاد أحكامهما ولئن سلمنا لزوم اختلافهما فاللازم من ذلك أن لا يكون النهي مقتضيا للصحة لا أن يكون مقتضيا للفساد لأن عدم اقتضاء الصحة لا يستلزم اقتضاء عدم الصحة. ولقائل أن يقول جاز أن يكون المراد بالصحة حسن المأمور به ولا شك في اختلاف أحكامهما وأن النهي إذا لم يكن متقضيا للصحة لا بد أن يكون مقتضيا للفساد. وإلا لزم إهمال اللفظ لعدم الواسطة بينهما وذلك غير جائز. ص - النافي: لو دل لناقض تصريح الصحة. ونهيتك عن الربا لعينه , وتملك به يصح. وأجيب بالمنع بما سبق. القائل يدل على الصحة لو لم يدل لكان المنهي عنه غير شرعي , والشرعي الصحيح. كصوم يوم النحر , والصلاة في الأوقات المكروهة.

- أدلة المذهب الثالث

وأجيب بأن الشرعي ليس معناه المعتبر , لقوله: " دعي الصلاة " للزوم دخول الوضوء وغيره في مسمى الصلاة. قالوا: لو كان ممتنعا لم يمنع. وأجيب بأن المنع للنهي. وبالنقض بمثل (ولا تنكحوا) و " دعي الصلاة ". وقولهم نحمله على اللغوي , يوقعهم في مخالفة أن الممتنع لا يمنع ثم هو متعذر في الحائض. ش - احتج النافي مطلقا بأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعا لناقض التصريح بصحة المنهي عنه لغة أو شرعا وهو ظاهر ولكن لا مناقضة فإن الشارع لو قال نهيتك عن الربا لعينه وإن فعلت ثبت لك الملك صح من غير تناقض. وأجاب بما معناه أن التناقض اندفع باعتبار أن الصريح أقوى من الظاهر فدفع الفساد لا باعتبار أن النهي لا يقتضي الفساد. ولقائل أن يقول لا نسلم صحة التصريح بالصحة إذا كان النهي لعين المنهي عنه لعري النهي عن الفائدة ففرضه محال. ولجواز أن يستلزم محالا أخر وعلى هذا فالدليل والجواب فاسدان. الأول: أنه لو لم يدل على ذلك شرعا فيهما لكان المنهي عنه غير الشرعي. واللازم باطل اتفاقا فالملزوم كذلك وبيان الملازمة: أنه لو كان شرعيا لكان صحيحا إذ الشرعي هو الصحيح المعتبر في نظر الشرع فما لا يكون صحيحا معتبرا في الشرع لا يكون شرعيا. بعكس النقيض كصوم يوم النحر , والصلاة في الأوقات المكروهة , فإنهما لما لم يكونا صحيحين معتبرين في نظر الشرع لم يكونا شرعيين.

وأجاب بما معناه لا نسلم أن الشرعي هو المعتبر في نظر الشرع فإن الشرعي قد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا والدليل على أن الشرعي ليس هو الصحيح المعتبر في نظر الشرع فقط قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعي الصلاة أيام أقرائك " فإن الصلاة المأمور بتركها هي الصلاة الشرعية لأن اللغوية لا يؤمر بتركها. والصلاة المأمور بتركها فاسدة غير معتبره في نظر الشرع. ولقائل أن يقول المأمور به ترك الصلاة أيام الحيض وتركها معتبر في نظر الشرع وإلا لكان المأمور به فاسدا وهو فاسد. قال: وأيضا لو كان الشرعي هو الصحيح المعتبر في نظر الشرع لزم دخول الوضوء وغيره من شرائط الصلاة في مسمى الصلاة الشرعية لأن صحتها إنما تتحقق عند اجتماع شرائطها. ولقائل أن يقول ليس كلامنا في التسمية والاصطلاحات وإنما هو في أن ما يتصف بالشرعية يتصف بالصحة ألبتة لا أن كل ما سمى الشرع باسم ينبغي أن يسمى بالصحة أو يتصف بها. فالصلاة التي هي الأفعال المخصوصة مسماة بالشرعية لكن لا تتصف بها حتى تستجمع الشرائط وحينئذ تتصف بالصحة أيضا. الثاني: لو لم يكن المنهي عنه الشرعي صحيحا لكان ممتنعا والممتنع لا يمنع لكونه غير مقدور عليه ولا ينهى عنه لعدم الفائدة فيه لكن التالي باطل بالاتفاق. وأجاب بمنع بطلان التالي يعني سلمنا أنه يكون ممتنعا لكن الممتنع إنما لا يمنع إذا كان الامتناع بسبب المنع منه , وأما الامتناع لذات المنهي عنه فإنه يجوز أن يمنع. وأيضا قولكم الممتنع لا يمنع منقوض بقوله - تعالى -: (ولا تنكحوا المشركت) وقوله - عليه السلام - " دعي الصلاة " فإن النكاح المشركات وصلاة

- مسالة: ذكر خلاف العلماء في كون النهي عن الشيء لوصفه هل يدل على فساد المنهي عنه أو لا؟

الحائض ممتنعان وقد منعا. ولقائل أن يقول المراد بالصحة الجواز. ومعناه أن الفعل الذي نهي عنه قبل تعلق النهي به ينبغي أن يكون جائزا الوقوع في الشرع وإلا لكان ممتنعا والممتنع لا يمنع وحينئذ لا يكون الجواب مطابقا ولأن الممتنع لا يمنع سواء كان امتناعه لذات المنهي عنه أو لأجل النهي. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلئلا يلزم تحصيل الحاصل وإذا عرف ذلك سقط النقض لأن نكاح المشركات وصلاة الحائض كانا جائزي الوقوع لكن امتنعا بتعلق النهي بهما. وقوله: قولهم نحمله على اللغوي. جواب عما عسى أن يقول الخصم: النكاح والصلاة في الصورتين يحملان على اللغوي. وتقريره أن حملهما على اللغوي يوقعهم في مخالفة أن الممتنع لا يمنع. لأن النكاح اللغوي الذي هو الوطء ممتنع في الشرع فيكون الممتنع قد منع ثم لو حمل النكاح على اللغوي تعذر حمل الصلاة عليه في الحائض لأن مفهومها لغة الدعاء. ولم تمنع الحائض عنه. ولقائل أن يقول إذا حمل النكاح على اللغوي كان النهي مجازا عن النفي وكان إخبارا عن حرمته لا منعا عنه. وأما الصلاة فتركها مأمور به والكلام في النهي دون الأمر. ص - مسألة: النهي عن الشيء لوصفه كذلك. خلافا للأكثر. وقال الشافعي يضاد وجوب أصله يعني ظاهرا وإلا ورد نهي الكراهة. وقال أبو حنيفة يدل على فساد الوصف لا المنهي عنه. لنا استدلال العلماء على تحريم صوم العيد بنحوه. وبما تقدم من المعنى قالوا: لو دل لناقض تصريح الصحة. وطلاق الحائض. وذبح ملك الغير معتبر. وأجيب بأنه ظاهر فيه. وما خولف فبدليل صرف النهي عنه.

ش - اختلفوا في أن النهي عن الشيء لوصفه لا لعينه هل يدل على فساد المنهي عنه أو لا؟ فقيل النهي عن الشيء لوصفه كهو لعينه يدل على فساد المنهي عنه شرعا لا لغة. وهو مختار المصنف. وقال الأكثرون لا يدل على فساده شرعا. وقال الشافعي النهي عن الشيء لوصفه يضاد وجوب أصله. وقال المصنف يعني يضاده ظاهرا لا قطعا وإلا لورد عليه نهي الكراهة كالنهي عن الصلاة في الأماكن المكروهة. فإنه لو كان مضادا لوجوب الأصل لم يصح الأصل ولكنه صحيح بالاتفاق. وأما إذا قيد بذلك لم يلزم أن يكون النهي عن الصلاة في الأماكن المكروهة مضادا لوجوب الأصل لجواز ترك الظاهر لدليل راجح. وفيه نظر لأن قول الشافعي يستلزم أن لا يكون الأصل واجبا وانتفاء الوجوب لا يستلزم عدم صحتها , ولو بدل باللازم لم يجب الأصل لسقط. وقال أبو حنيفة النهي عن الشيء لوصفه يدل على فساد الوصف دون الأصل

المنهي عنه فإن النهي عن الربا يوجب فساد التفاضل وأصل البيع صحيح حتى لو تقابضا ملك كل من المتبايعين ما قبض ولكن لفساد وصفه لكل منهما أن يفسخ البيع. واستدل المصنف على ما اختاره باستدلال العلماء على تحريم صوم يوم العيد بنحوه أي بنحو النهي عن الشيء لوصفه من غير أن ينكر عليهم أحد وذلك إجماع على أن النهي عن الشيء لوصفه يدل على الفساد. وفيه نظر لأنه إن أراد بالفساد صحة الأصل دون الوصف فمسلم وإن أراد بالفساد عدم صحتها فهو ممنوع فإن " علماؤنا " هم من السابقين وأنكروا ذلك فلم يكن إجماعا. واستدل أيضا بما تقدم وهو الدليل المذكور في المنهي عنه لعينه وهو أنه لو لم يدل النهي على فساد المنهي عنه لزم أن يكون لنفيه حكمة ولثبوته حكمة. وتقريره كما مر. وفيه نظر لاستلزامه عدم التفرقة بين الذاتي وغيره وذلك في قوة الخطأ عند المحصلين. والقائلون بأن النهي عن الشيء لوصفه لا يدل على الفساد شرعا قالوا دل على ذلك لناقض تصريح الصحة وهو ظاهر واللازم باطل فإن الشارع لو قال لا تصل في مكان كذا وإن صليت فيه صحت صلاتك لم يكن تناقض. وقالوا أيضا لو كان كذلك لما صح طلاق الحائض وذبح شاة الغير بغير إذنه لأن النهي عنهما للوصف.

- مسألة: النهي يقتضي دوام الانتهاء عن المنهي عنه

لكن طلاق الحائض واقع وذبحها معتبر شرعا تؤكل. وأجاب عن الأول بأن الدليل على الفساد شرعا ظاهر ليس بقطعي , والتصريح بالصحة أقوى منه , وقد يترك الظاهر بما هو أقوى. وعن الثاني بقوله: وما خولف فبدليل يعني كلامنا في النهي لم يكن دليل على صرفه عن مقتضاه الظاهر , والصورتان المذكورتان إنما تخلفتا لدليل. ولقائل أن يقول قوله ظاهر ليس بقطعي إن أراد به أن دلالة الألفاظ ليست بقطعية فالتصريح بالصحة كذلك , وإن أراد غير ذلك فلا بد من بيانه أولا ليتصور أولا ثم يتكلم عليه. وأما الدليل الصارف فليس في كلامهم ما يرشد إليه. ومن أراد الاطلاع عليه فعليه بكتاب الإمام المحقق فخر الإسلام البزدوي. وتقريرنا له. ص - مسألة: النهي يقتضي الدوام ظاهرا. لنا استدلال العلماء مع اختلاف الأوقات. قالوا: نهيت الحائض عن الصلاة والصوم. قلنا: لأنه مقيد.

* العام والخاص

ش - اختلفوا في أن النهي هل يقتضي دوام الانتهاء عن المنهي عنه أو لا؟ فالأكثر على الأول. واختاره المصنف. واحتج بأن علماء الأمصار في الأمصار مع اختلاف الأوقات لم يزالوا يستدلون بالنهي على دوام الانتهاء من غير نكير فيكون إجماعا على أنه يقتضي الدوام ظاهرا. وذهب بعض الأصوليين إلى أنه لا يقتضيه. واحتج بأن الحائض نهيت عن الصوم والصلاة مع أن النهي عنهما لا يقتضي الدوام. وحينئذ يلزم أن لا يقتضيه في صورة أخرى لئلا يلزم الاشتراك أو المجاز. وفيه نظر لأن المراد بالاقتضاء إن كان الاستلزام فاستلزام الشيء للنقيضين لا يسمى اشتراكا ولا مجازا. وإن كان غير ذلك فليس بمعهود فلا بد من البيان. وأجاب المصنف بأن نهي الحائض عن الصوم والصلاة مقيد بوقت الحيض لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعي " الصلاة " أيام أقرائك " والكلام في النهي المطلق دون المقيد. العام والخاص ص - أبو الحسين: العام: اللفظ المستغرق لما يصلح له. وليس بمانع لأن نحو عشرة , ونحو: ضرب زيد عمرا , يدخل فيه. الغزالي: اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا. وليس بجامع لخروج المعدوم , والمستحيل , لأن مدلولهما ليس بشيء. والموصولات , لأنها ليست بلفظ واحد. ولا مانع , لأن كل مثنى يدخل فيه. ولأن كل معهود ونكرة يدخل فيه. وقد يلتزم هذين.

- تعريف العام

والأولى: ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة فقوله: " اشتركت فيه " ليخرج نحو عشرة. و "مطلقا". ليخرج المعهودون. و " ضربة " ليخرج نحو رجل. والخلاص بخلافه. ش - عرف البصري العام: بأنه اللفظ المستغرق لما يصلح له. فقوله: اللفظ كالجنس. وقوله: المستغرق لما يصلح له احتراز عن النكرات في سياق الإثبات. ونقضه المصنف بأنه ليس بمانع لدخول (كل نكرة) من أسماء الأعداد كعشرة ونحوه فيه فإن كلمة ما ليس لها خصوصية بإفراد عن جزئيات بل يتناولها

وللجزئيات والأجزاء أيضا. ودخول نحو ضرب زيد عمرا وأمثاله من كل فعل أحد ما يصلح له من الفاعل والمفاعيل فيه وليس بعام كالأول لأن المستغرق فيهما ليس أفرادا , والعموم بالأفراد. وعرفه الغزالي: بأنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا. وقال من جهة واحدة حذرا من مثل ضرب زيد عمرا. فإنه قد دل على شيئين لكن من جهتين وذكر الوحدة تأكيد في غير موضعه. وقال على شيئين فصاعدا احترازا عن مثل رجل وزيد. وزيفه المصنف بكونه غير جامع لخروج المعدوم والمستحيل عنه لأن الشيء لا يصدق عليهما عند الغزالي ولخروج الموصولات فإنها ليست بلفظ واحد لعدم "عامها " بدون الصلة. وغير مانع لدخول كل مثنى وكل معهود ونكرة كرجلين والرجال المعهودين ورجال فيه مع أنها ليست بعام. وقد يلتزم الغزالي دخول المعهود والنكرة فيه ويمنع أنهما ليسا بعامين. ثم قال المصنف الأولى أن يعرف العام بما دل على مسميات باعتبار أمر

تعريف الخاص

اشتركت فيه مطلقاً ضربة. وإنما قال مسميات ليتناول المعدوم والمستحيل فإن إطلاق المسمى على مدلولها صحيح وإن لم يكن شيئا وإنما جمع المسميات ليخرج المثنى والمفردين كرجلين وزيد. وقال اشتركت فيه ليخرج النكرة من أسماء الأعداد كعشرة ونحوهما فإن دلالتها على المسميات التي هي أجزاؤها ليست باعتبار أمر اشتركت فيه الأجزاء فإن معناها الكلي لا يصدق على الآحاد التي هي أجزاؤها وإنما قال مطلقا ليخرج عنه المعهودون كالرجال فإن دلالته مقيدة بكونها معهودة. وقال ضربة أي دفعة ليخرج عنه النكرة كرجل ورجال فإن دلالتها على المسميات ليست دفعة بل على سبيل البدل. قال: والخاص بخلافه وهو ما دل لا على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربه. وفيه نظر لأن المختار عنده أن الاستغراق شرط العموم على ما سيأتي ولفظ مسميات يصدق على أفراد ثلاثة. ص - مسألة: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة. وأما في المعاني مثالها الصحيح كذلك. لنا أن العموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد , وهو في المعاني كعموم المطر والخصب ونحوه ولذلك قيل عم المطر والخصب ونحوه وكذلك المعنى الكلي لشموله الجزئيات ومن ثم قيل: العام ما لا يمنع تصوره من الشركة. فإن قيل: المراد أمر واحد شامل وعموم المطر ونحوه ليس كذلك. قلنا: ليس العموم بهذا الشرط لغة. وأيضا: فإن ذاك ثابت في عموم الصوت والأمر والنهي والمعنى الكلي. ش - اتفق العلماء على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة. وأما عروضه

للمعاني ففيه ثلاثة مذاهب: الأول: أنه لا يكون من عوارضها لا حقيقة ولا مجازا. الثاني: أنه من عوارضها مجازا لا حقيقة. الثالث: وهو الصحيح عند المصنف أنه من عوارضها حقيقة. واستدل عليه بأن العموم في اللغة حقيقة هو شمول أمر لمتعدد وهذا المعنى كما يعرض للفظ يعرض للمعاني فكان حقيقة فيها كما في الألفاظ كعموم المطر والخصب ونحوه , وكذلك أي ويكون العموم حقيقة في المعاني. قيل عم المطر والخصب وكذلك المعنى الكلي يعرض له العموم حقيقة بشموله الجزئيات ولهذا أي ولأن العموم يعرض للمعنى الكلي فسر العام بما فسر به الكلي: وهو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. فإن قيل العموم الذي يعرض للمعاني ليس هو المتنازع فيه لأن المتنازع فيه شمول أمر واحد لأفراد متعددة كشمول الرجال الذي هو أمر واحد لمتعدد وعموم المطر والخصب ليس كذلك فإنه لا تعدد فيه بل التعدد في محاله فكان وصف المطر

- مسألة: للعموم صيغة

والخصب بالعموم باعتبار تعدد المحال فكان مجازا من باب ذكر الحال وإرادة المحل. أجيب بأن العموم بحسب اللغة ليس بمشروط لشمول أمر واحد لأفراد متعددة بل العموم بحسبها شرط شمول أمر متعددا سواء كان المتعدد أفراده أو لا. وهذا المعنى عوارض المعاني. ولئن سلم أعموم المطر لا يكون باعتبار أمر واحد يشمل المتعدد فعموم الصوت باعتبار أمر واحد شامل للأصوات المتعددة الحاصلة للسامعين. وكذلك عموم الأمر والنهي فإنه أمر واحد وهو الطلب الشامل لكل طلب تعلق بكل واحد من المأمورين وكذلك المعنى الكلي فإن عمومه باعتبار أمر واحد شامل لأفراده. ولقائل أن يقول الكلام في العام المصطلح وله عموم يناسبه والاستدلال بالعموم اللغوي لا يفيد. سلمناه لكن ليس فيه إثبات كونه حقيقة في المعاني بالقياس على الألفاظ والحقيقة لا تثبت إلا بالسماع ليس للقياس في ذلك مدخل. وأما عموم المطر والخصب والمعنى الكلي فإنه باعتبار تعدد المحال فكان مجازا ورجوعه إلى اللغة يلزمه أن يقول بعموم عشرة وقد أبطله , وعموم الصوت باعتبار المحال لا محالة إذ ماثمة أصوات وإنما هواء واحد يصل إلى صماخ السامعين وكذلك عموم الأمر والنهي. والله أعلم. ص - مسألة: الشافعي والمحققون: للعموم صيغة والخلاف في عمومها وخصوصها كما في الأمر. وقيل مشتركة. وقيل: بالوقف في الأخبار لا الأمر والنهي والوقف إما على معنى ما ندري , وإما نعلم أنه وضع ولا ندري أحقيقة أم مجاز؟ وهي أسماء الشروط والاستفهام والموصولات والجموع المعرفة تعريف جنس والمضافة واسم الجنس كذلك والنكرة في النفي. لنا القطع لا تضرب أحدا. وأيضا لم يزل العلماء تستدل بمثل (والسارق والسارقة) , (والزانية) ,

(يوصيكم الله في أولادكم) وكاحتجاج عمر في قتال أبي بكر مانعي الزكاة " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وكذلك " الأئمة من قريش " و " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وشاع وذاع ولم ينكره أحد. قولهم: فهم بالقرائن , يؤدي إلى أن لا يثبت للفظ مدلول ظاهر أبدا. والاتفاق في: من دخل داري فهو حر أو طالق أنه يعم. واستدل بأنه معنى ظاهر محتاج إلى التعبير عنه كغيره وأجيب: قد يستغنى بالمجاز وبالمشترك. ش - اختلف العلماء في أن العموم صيغة موضوعة له خاصة به تدل عليه بطريق الحقيقة أو أن الصيغ المستعملة فيه عامة له ولغيره أو مشتركة. كما اختلفوا في أن للأمر صيغة مخصوصة أو لا. فقال الشافعي والمحققون له صيغة موضوعة له في اللغة خاصة به بطريق الحقيقة وتستعمل في غيرها مجازا. وقيل: مشتركة وقيل: بالوقف في الأخبار لا في الأمر والنهي. ثم الوقف يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقال لا ندري أوضعت هذه الصيغ للعموم أو لم توضع. الثاني: أن يقال نعلم أنها وضعت له ولكن لا نعلم أنها حقيقة فيه أو مجاز.

والصيغ المستعملة في العموم هي أسماء الشرط كمن دخل داري فهو حر أو طالق. والاستفهام , نحو من يأتيك؟ والموصلات , كالذي , والتي , ومن , والجمع المعرف تعريف جنس سواء كان جمع مذكر أو مؤنث سالم أو مكسر قلة كثرة. والجموع المضافة (4) واسم الجنس المعرف تعريف الجنس. والنكرة في سياق النفي.

واحتج المصنف على أن النكرة في سياق النفي تعم حقيقة بأنا نقطع بأن قول السيد لعبده لا تضرب أحدا عام. والأصل الحقيقة. وفيه نظر لأن كون الشيء حقيقة لا يثبت بالدليل. واحتج على أن المفرد المعرف بلام الجنس والجمع المضاف عام حقيقة بأن العلماء لم يزالوا يستدلون على العموم بمثل (والسارق) , (والزاني) وبمثل (يوصيكم الله في أولدكم) وشاع استدلالهم بها على العموم وذاع ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعا على أن المفرد المعرف بلام الجنس عام حقيقة. . . بأن عمر - رضي الله عنه - احتج في قتال أبي بكر - رضي الله عنه - مانعي

الزكاة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " على عدم جواز القتال ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. " على " عدل أبو بكر إلى الاستثناء بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إلا بحقها " والزكاة من حقها. وبأن أبا بكر " يحتج " على الأنصار حين طلبوا الإمامة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأئمة من قريش " ولم ينكره أحد. واحتج على فاطمة حين طلبت ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله - عليه السلام -: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " ولك بنكر أحد وشاع كل ذلك وذاع

فكان إجماعاً على أن الجمع المعروف بلام الجنس والجمع المضاف عام. فإن قيل يجوز أن يكون فهم العموم في هذه الصور بوجود القرائن فلا يكون دليلا. أجيب بأن ذلك احتمال بعيد لم ينشأ من دليل فاعتباره يؤدي إلى أن لا يثبت للفظ مدلول ظاهر إذ ما من لفظ ظاهر إلا وهذا الاحتمال فيه قائم. واحتج على أن أسماء الشرط عامة بأن الإجماع منعقد على أن " من " في قول القائل: من دخل داري من عبيدي فهو حر. ومن دخلت داري من نسائي فهي طالق عام. واستدل بأن العموم معنى ظاهر يحتاج إلى التعبير عنه كسائر المعاني الظاهرة وذلك يقتضي وضع اللفظ له فيجب لوجود المقتضي وانتفاء المانع. وأجاب بأن الاحتياج إلى التعبير لا يستلزم وضع لفظ مفرد يستعمل فيه بطريق الحقيقة لجواز الاستغناء عنه بالمجاز والمشترك. وفيه نظر لأن الاشتراك والمجاز على خلاف الأصل. ولأن اختصاص العموم بذلك ترجيح بلا مرجح. واطراده في الجميع يستلزم أن يكون أكثر الألفاظ مشتركا أو مجازا وهو باطل. ص - الخصوص متيقن فجعله له حقيقة أولى. رد بأنه إثبات لغة بالترجيح. وبأن العموم أحوط فكان أولى. قالوا: لا عام إلا مخصص. فيظهر أنها للأغلب. رد بأن احتياج تخصيصها لدليل يشعر. بأنها للعموم. وأيضا فإنما يكون ذلك عند عدم الدليل. الاشتراك: أطلقت لهما , والأصل الحقيقة. أجيب بأنه على خلاف الأصل وقد تقدم مثله. الفارق: الإجماع على التكليف للعام وذلك بالأمر والنهي. وأجيب

بأن الإجماع على الإخبار للعام. ش - القائلون بأن هذه الصيغ حقيقة في الخصوص دون العموم. احتجوا بوجهين: أحدهما: أن تناول هذه الألفاظ لمرتبة الخصوص متيقن , لأنها إن كانت للخصوص فقد تناولته. وإن كانت للعموم فكذلك لأنه يتناول الخصوص. وأما لمرتبة العموم فغير متيقن لأنها إن كانت للخصوص لم تتناول العموم وإذا كان كذلك كان جعله حقيقة للمتيقن أولى. وأجاب بأنه إثبات اللغة بالترجيح وهو مردود لأنه ليس مما تثبت به اللغة. وفيه نظر لجواز أن يقول الخصم لا نسلم أنه ليس من ذلك. لم لا يجوز أن يكون كسبق الذهن والاطراد وعدم النفي وبأنه معارض بأن جعله حقيقة للعموم أحوط لأن الحمل عليه لا يهمل الخصوص لتناول العموم إياه وعكسه يهمل إذ الخصوص لا يتناوله والحمل على الأحوط أولى -. وفيه نظر لأن وصف التيقن أقوى من وصف الاحتياط فترجح به. الثاني: أنه لا عام إلا وهو مخصص فالخصوص أغلب , واللفظ إذا تردد بين

الأغلب وغيره كان حمله على الأغلب أظهر. وأجاب بأن تخصيص هذه الألفاظ يحتاج إلى دليل لا محالة واحتياجه إليه مشعر بأنها للعموم حقيقة , أو ليس احتياج التخصيص إلى الدليل إلا لتعارض مقتضى العموم ولا مقتضي له إلا هذه الألفاظ فيكون حقيقة له؟ ولقائل أن يقول هذه مغالطة لأنها تدل على أن هذه الألفاظ حقيقة في الأفراد لا في المعنى الذي هو العموم , وليس النزاع في ذلك. قال وأيضا فإنما يكون ذلك عند عدم الدليل يعني هذه الألفاظ إنما تكون حقيقة للخصوص إذا لم تكن محتاجة إلى قرينة , ودليل موجب للتخصيص لأن الحقيقة لا تحتاج إلى قرينة ودليل وهذه الألفاظ لا تكون للخصوص إلا بدليل وقرينة فلا تكون حقيقة له. وفيه نظر لأنها في دلالتها على المخصوص تحتاج إلى قرينة ودليل. وأما في الدلالة على الخصوص فهو ممنوع. والقائل بأنها مشتركة بين العموم والخصوص احتج بأن هذه الألفاظ أطلقت للعموم والخصوص والأصل في الإطلاق الحقيقة فكانت مشتركة. وأجاب بأن الاشتراك خلاف الأصل فيجعل حقيقة لأحدهما مجازا للأخر فإنه أولى من الاشتراك كما تقدم. ثم الكلام في أنها حقيقة في العموم أو الخصوص فقد عرفت أنفاً.

- مسألة: اختلف العلماء في أن الجمع المنكر عام أو لا

وقال الفارق وهو من قال بالوقف في الأخبار دون الأمر والنهي الإجماع منعقد على تكليف المكلفين لأجل العام ولا يتحقق التكليف إلا بالأمر والنهي فيجب أن يكون الأمر والنهي مفيدا للعموم إما حقيقة أو مجازا. وفيه نظر لأن المقصود يحصل بأن يكون للخصوص ويلحق به غيره بطريق الدلالة. وأجاب المصنف بأن الإجماع أيضا منعقد على أن الإخبار قد حصل لأجل العام كقوله - تعالى -: (والله بكل شيء عليم) فيجب أن يكون الإخبار مفيدا للعموم إما حقيقة أو مجاازا وحينئذ بطل الفرق بين الإخبار والأمر والنهي. ص - مسألة: الجمع المنكر ليس بعام. لنا: القطع بأن رجالا في الجموع كرجل في الواحدان.؟! ولو قال له عندي عبيد صح تفسيره بأقل الجمع. قالوا: صح إطلاقه على كل جمع فحمله على جميع حقائقه. ورد بنحو رجل. وأنه إنما صح على البدل. قالوا: لو لم يكن للعموم لكان مختصا بالبعض. رد برجل وأنه موضوع للجمع المشترك. ش - اختلف العلماء في أن الجمع المنكر كرجال ونحوه عام أو لا. والمختار عند المصنف أنه ليس بعام. واستدل بأنا نقطع بأن رجلا في الجموع كرجل

في الوحدان فكما أن رجلا في الوحدان ليس بعام فكذا رجال في الجمع. ووجه الشبه عدم الاستغراق فكما أن رجلا لا يستغرق جميع أفراده فكذا رجال لا يستغرق جميع مراتب الجمع. وفيه نظر فإن رجل ينطلق على أفراد هي زيد وعمرو وبكر على سبيل البدل وليس لرجال أفراد هي جموع ينطلق عليها على سبيل البدل بل أفراده رجل ورجل إلى ما لا يتناهى وتحتمل المتناهي فكان قوله لا يستغرق جميع مراتب الجمع باطلا إذ ليس أفراده مراتب الجمع. فإن قيل يحتمل أن تكون أفراده جموعا بعضها عشرة وبعضها عشرون إلى غير ذلك قلنا ذلك مراتب العدد لا مراتب الجمع وليس الكلام في مراتب العدد. قال: ولو قال عندي عبيد صح تفسيره بأقل الجمع وهو الثلاثة على الأصح فلو كان الجمع المنكر عاما لما صح تفسيره بأقل الجمع إذ لا يجوز تفسيره بواحد من مسمياته. وفيه نظر لأن كلامهم يستلزم أن لا يصح تفسير الجمع بثلاثة لأن أفراد الجمع المنكر جموع وأقل ذلك تسعة. وقال القائلون بعموم الجمع المنكر صح إطلاق الجمع المنكر على واحد من مراتب الجمع فيحمل على جميع مراتب الجمع لأن حمله على ذلك حمل على حقائقه والحمل عليها أولى لعدم ما يدل على بعض فكان عاما. وأجاب بأنا لا نسلم أن حمله على جميع حقائقه أولى لأن نحو رجل صح إطلاقه على كل واحد من أفراده التي هي حقائقه ولا يحمل على جميع أفراده وإنما صح إطلاقه على كل واحدة من أفراده على طريق البدل فكذلك الجمع المنكر إنما يصح إطلاقه على كل واحد من مراتب الجمع بطريق البدل فلا يكون عاما. ولقائل أن يقول كل من الدليل والجواب فاسد أما الدليل فإنه غير مطابق للمدعى فإن المدعى عموم الجمع المنكر والدليل يدل على اشتراكه فإنه جعل

المراتب حقائقه وهي مختلفة لا محالة والدال على الحقائق المختلفة مشترك. وأما الجواب فلأن أفراد الرجل ليست بحقائق له لأن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا والرجل موضوع لأمر كلي وكل واحد مما يصدق عليه ليس كذلك. ولو سلم لزم الاشتراك وهو خاص. وقالوا أيضا لو لم يكن عاما لاختص ببعض الجموع دون بعض دفعا للاشتراك لكنه ليس بمختص ببعض بالاتفاق. وبيان الملازمة بأن الجمع المنكر إما أن يكون موضوعا للجميع فيكون عاما أو ببعض دون بعض فيكون خاصا أو لبعض وبعض أخر فيكون مشتركا والاشتراك خلاف الأصل فإن لم يكن عاما كان مختصا ببعض لا محالة. وأجيب أولا: بمنع انتفاء التالي لكونه منقوضا بنحو رجل لأنه ليس للعموم بالاتفاق وجاز اختصاصه ببعض دون بعض فإن نفي انتفاء التالي في التنازع فيه مكابرة , لأنا قاطعون بأن الجمع المنكر ليس بموضوع لبعض معين أو غير معين. وثانيا: بمنع الملازمة فإنا لا نسلم أنه إذا لم يكن للعموم يلزم اختصاصه ببعض الجموع فإنه موضوع للجمع المطلق المشترك بين الجموع فيصح أن يكون لكل واحد من تلك الجموع على البدل من حيث أن مدلوله متحقق فيه فلا يلزم الاشتراك اللفظي. وفيه نظر لأنه يستلزم عدم التفرقة بين الجمع المنكر والمعرف فإن الجمع المعرف موضوع للمشترك بين الجموع ويصح أن يكون لكل واحد من تلك الجموع على البدل إذ لا يصح أن يكون " موضوعا لمرتبة " مستغرقة لجميع المراتب فإنها لا تتناهى فلو كان موضوعا لمرتبة واحدة مستغرقة لجميع المراتب الغير المتناهية لزم أن يكون غير المتناهي متناهيا وذلك باطل قطعا وإذا لم يثبت التفرقة والمعرف عام فالمنكر كذلك دفعا للمكابرة على أن الحق أن أفرادهما أحاد لا مراتب الجموع.

- مسألة: اختلف العلماء في أقل ما يطلق عليه أبنية الجمع على أربعة مذاهب

ص - مسألة: أبنية الجمع: لاثنين يصح. وثالثها مجاز الإمام: ولواحد. لنا: أنه يسبق الزائد , وهو دليل الحقيقة والصحة (فإن كان له إخوة) والمراد أخوان. واستدلال ابن عباس بها , ولم ينكر عليه , وعدل إلى التأويل. قالوا: (فإن كان له إخوة) والأصل الحقيقة. رد بقضية ابن عباس. قالوا: (إنا معكم مستمعون). ورد بأن فرعون مراد , قالوا: (الاثنان فما فوقهما جماعة). وأجيب في الفضيلة لأنه يعرف الشرع لا اللغة. النافون: قال ابن عباس: " ليس الأخوان إخوة ". وعورض بقول زيد: " الأخوان إخوة ". والتحقيق: أراد أحدهما حقيقة والأخر مجازا. قالوا: لا يقال: جاءني رجلان عاقلون ولا رجال عاقلان. وأجيب بأنهم يراعون صورة اللفظ. ش - اختلفوا في أقل ما يطلق عليه أبنية الجمع على أربعة مذاهب: الأول: اثنان بطريق الحقيقة. والثاني: الثلاثة كذلك ولا يصح الإطلاق على الاثنين مجازا. والثالث: الثلاثة كذلك ويصح إطلاقه على الاثنين مجازا. وهو المختار عند

المصنف. والرابع: الثلاثة بطريق الحقيقة ويصح إطلاقه على الاثنين والواحد مجازا وهو مذهب الإمام. واحتج على المختار أما على أنه حقيقة في الثلاثة فلأن عند الإطلاق يسبق إلى الذهن الزائد على الاثنين وذلك دليل الحقيقة كما تقدم. وأما على صحة إطلاقه على الاثنين مجازا فلقوله - تعالى -: (فإن كان له إخوة) فإنها تتناول الاثنين وإلا لكان رد الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين مخالفا للنص. واحتج أيضا باستدلال ابن عباس إذ قال لعثمان - رضي الله عنهم -

حين رد الأم إلى السدس بأخوين قال الله - تعالى -: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) وليس الأخوان إخوة في لسان قومك فقال عثمان - رضي الله عنه -: " لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي " فلو كان الأخوان إخوة بالحقيقة لما صح استدلال ابن عباس ولأنكر عليه عثمان. ولم يعدل إلى التأويل فدل على أن الأخوين ليسا بإخوة حقيقة فيكون أقل الجمع ثلاثة. واحتج القائل بأن أقل الجمع بطريق الحقيقة اثنان بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله - تعالى -: (فإن كان له إخوة) أطلق الإخوة وأريد الأخوان والأصل في الإطلاق الحقيقة. وأجاب بقضية ابن عباس يعني أنه نفى الأخوين أن يكونا إخوة وهو من أخل اللسان وصحة النفي من أمارات المجاز. وقوله - تعالى -: (إنا معكم مستمعون) الضمير الجمع والمراد موسى وهارون والأصل في الإطلاق الحقيقة. وأجاب بأن فرعون أيضا مراد فكان من باب تغليب الحاضر على الغائب. وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الاثنان فما فوقهما جماعة " أطلق الجماعة على

الاثنين والأصل في الإطلاق الحقيقة. وأجاب بأن المراد تحصيل فضيلة الجامعة بالاثنين يعني أن المراد السببية في إحراز الفضيلة بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث لأن يعرف الشرع لا اللغة. وفيه نظر لأن نفي تعريف اللغة عنه - عليه السلام - إما أن يكون مطلقا أو إذا لم يعلق به حكم من أحكام الشرع. والأول ممنوع والثاني لا يفيده لأن هذا قد تعلق به حكم من أحكام الشرع وهو حجب الأم من الثلث إلى السدس. النافون وهم الذين قالوا أقل الجمع ثلاثة ويصح الإطلاق على الاثنين لا حقيقة ولا مجازا. احتجوا بوجهين: الأول: قول ابن عباس: " ليس الأخوان إخوة في لسان قومك ". وفيه نظر لأن المراد بالقوم ليس العرب لبعد اختصاصهم بعثمان فكان المراد قريشا والخصم لم يلتزم ذلك على لسان قريش فجاز أن يكون على لسان غيرهم. وعورض بقول زيد بن ثابت - رضي الله عنه - " الأخوان إخوة " وإذا تعارضا حمل قول ابن عباس على السلب بطريق الحقيقة وقول زيد على الإثبات مجازا. والثاني: أنه لو صح ذلك لصح نعت التثنية بالجمع وبالعكس وهو ظاهر لكن لا يجوز أن يقال رجلان عاقلون , ولا رجال عاقلان. وأجاب بمنع الملازمة فإنهم يراعون صورة اللفظ فلا يجوزون نعت المثنى

- مسألة: اختلف العلماء في العام إذا خصص كان صدقه على الباقي بطريق الحقيقة أو المجاز على ثمانية أقوال

بالمجموع أو بالعكس. ص - مسألة: إذا خصص العام كان مجازا في الباقي. الحنابلة: حقيقة. الرازي: إن كان غير منحصر. أبو الحسين: إن خص بما لا يستقل من شرط أو صفة أو استثناء. القاضي: إن خص بشرط أو استثناء. عبد الجبار: إن خص بشرط أو صفة. وقيل: إن خص بدليل لفظي. الإمام: حقيقة في تناوله مجاز في الاقتصار عليه. لنا: لو كان حقيقة لكان مشتركا لأن الفرض أنه حقيقة في الاستغراق. وأيضا الخصوص بقرينة كسائر المجاز. الحنابلة: التناول باق , فكان حقيقة. وأجيب بأنه كان مع غيره. قالوا: يسبق , وهو دليل الحقيقة. قلنا: بقرينة وهو دليل المجاز. الرازي إذا بقي غير منحصر فهو معنى العموم. وأجيب بأنه كان للجميع. ش - اختلفوا في العام إذا خصص كان صدقه على الباقي بطريق الحقيقة أو المجاز على ثمانية أقوال: الأول: إنه مجاز في الباقي مطلقا وهو مختار المصنف. والثاني: إنه حقيقة في الباقي مطلقا. وهو مذهب الحنابلة. والثالث: أنه حقيقة في الباقي إن كان غير منحصر مجازا إن لم يكن كذلك

وهو مذهب أبي بكر الرازي. والرابع: أنه حقيقة في الباقي إن خص بما لا يستقل شرطا كان كأكرم بني تميم إن دخلوا. أو صفة: نحو من دخل داري عالما أكرمه. واستثناء نحو: من دخل داري إلا زيدا أكرمه. ومجازا إن خص بمستقل. وهو مذهب أبي الحسين. والخامس: أنه حقيقة في الباقي إن خص بشرط أو استثناء وإلا فهو مجاز. وهو مذهب القاضي. السادس: أنه حقيقة في الباقي إن خص بشرط أو صفة وإلا فهو مجاز وهو مذهب عبد الجبار. والسابع: أنه حقيقة في الباقي إن خص بدليل لفظي وإلا فهو مجاز. والثامن: أنه حقيقة في الباقي من حيث إن اللفظ العام يتناول الباقي مجازاً من

حيث إنه اقتصر على الباقي وهو مذهب الإمام. احتج على المذهب المختار بوجهين: أحدهما: أنه لو كان العام حقيقة في الباقي بعد التخصيص لزم الاشتراك لأن الفرض أنه حقيقة في الاستغراق والتالي باطل لأن الاشتراك خلاف الأصل. الثاني: أنه لو كان حقيقة في الباقي لما احتاج إلى قرينة لأن الحقيقة لا يحتاج إليها لكنه يحتاج إليها كسائر المجازات. وفيه نظر لأن دليل الخصوص لإخراج المخصص لا لدلالته على الباقي لأن ذلك مستمر قبله وبعده. واحتجت الحنابلة أيضا بوجهين: أحدهما: أن اللفظ تناول الباقي بعد التخصيص تناوله قبله فكان حقيقة بعده كما كان قبله. وأجاب بأن تناول اللفظ قبل التخصيص كان للباقي مع غيره ولم يبق الغير بعده فلم يكن مستعملا فيما وضع له فلا يكون حقيقة. والثاني: أن الباقي بعد التخصيص يسبق إلى الفهم سبقه قبله والسبق علامة الحقيقة. وأجاب بأن الباقي إنما سبق عند قرينة الخصوص والسبق عندها علامة المجاز.

وفيه نظر لعدم الاحتياج في السبق إليها فلو قطع النظر عنها سبق وصل ذلك غير معتبر بل المعتبر هو ما سبق به لا ما عنده. واحتج أبو بكر " الداني " بأنه كان الباقي بعد التخصيص غير منحصر كان العموم باقيا فكان عاما على الحقيقة بخلاف ما إذا لم يكن كذلك. وأجاب بأن المراد من العام قبل التخصيص جميع متناول اللفظ وبعده بعضه فلا يكون باقيا على الحقيقة. ولقائل أن يقول وليس بمجاز أيضا لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع ولا مغايرة بين الكل والجزء عند أهل الحق ولهذا سماه بعض المحققين الحقيقة القاصرة. ص - أبو الحسين لو كان ما لا يستقل , يوجب تجوزا في نحو: الرجال المسلمون وأكرم بني تميم إن دخلوا. لكان نحو: مسلمون للجماعة مجازا ولكان نحو: المسلم للجنس أو للعهد مجازا. ونحو: (ألف سنة إلا خمسين عاما) مجازا. وأجيب بأن الواو في مسلمون كألف ضارب , وواو مضروب والألف واللام في المسلم وإن كان كلمة حرفا أو اسما فالمجموع الدال والاستثناء سيأتي. القاضي مثله إلا أن الصيغة عنده كأنها مستقلة. عبد الجبار كذلك إلا أن الاستثناء عنده ليس بتخصيص. المخصص باللفظية: لو كانت القرائن اللفظية توجب تجوزا إلى أخره. وهو أضعف. الإمام: العام كتكرار الآحاد وإنما اختص فإذا خرج بعضها بقي الباقي حقيقة. وأجيب بالمنع فإن العام ظاهر في الجميع فإذا خص خرج قطعا. والتكرر نص. ش - احتج أبو الحسين بأن ما لا يستقل من القرائن المخصصة كالشرط

والصفة والاستثناء لو كان يوجب التجوز في العام المخصوص بها نحو الرجال المسلمون وأكرم بني تميم إن دخلوا. لكان نحو مسلمون للجماعة مجازا وكذا نحو المسلم بلام الجنس أو العهد وكذا نحو: (ألف سنة إلا خمسين) واللوازم باطلة بالاتفاق فالملزوم كذلك. وبيان الملازمة أن دخول ما لا يستقل من القرائن المفيدة لمعنى زائد لو كان مخرجا للفظ غير حقيقة لكان دخول الواو والنون في مسلمون والألف واللام في المسلم والاستثناء في نحو: (ألف سنة إلا خمسين عاما) مخرجا لتلك الألفاظ عن حقائقها لكونها قرائن زائدة غير مستقلة مفيدة لمعنى زائد. وفيه نظر لأنه إن أراد الإخراج عن حقيقة المفرد فهو الذي يفيد معنى الجمع فكيف يخرجه عما يفيد وكذا في المعرف وكذا في الاستثناء إن أراد إخراج الألف عما وضع له فهو كذلك وإن أراد إخراج المجموع فهو غير متصور. وأجاب المصنف بأن الواو والنون في مسلمون كالألف في ضارب والواو في مضروب فكما أن الألف في ضارب والواو في مضروب لا يكونان كلمتين حيث لم يوضعا للدلالة على معنى بل وضع مجموع الضارب ومجموع المضروب لمعنى كذلك الواو والنون في مسلمون بخلاف الرجال إذا قيد بصفة أو شرط أو استثناء فإن الرجال وحده وضع للعموم فيكون استعماله في ذلك المعنى حقيقة وإذا زيد عليه شرط أو صفة أو استثناء لم يبق العموم فلا يكون حقيقة في الباقي , والألف واللام في المسلم وإن كانت اسما أو حرفا على اختلاف المذهبين إلا أنه بعد التركيب قد بقى كل واحد من الجزئين أي الألف واللام ومسلم دالا على ما وضع له فيبقى حقيقة كما كانت نحو زيد قائم فإن كل واحد من الجزئين لما بقي بعد التركيب دالا على ما وضع له قبل التركيب كانت حقيقة بعده بخلاف كل واحد من الشرط والصفة فإنه إذا قيد العام بهما لم يبق العام دالا على ما وضع له قبل التقييد فلا يكون العام حقيقة بعد

تقييده به. وأما الاستثناء فسيأتي الكلام فيه. ولقائل أن يقول التمثيل بألف ضارب وواو مضروب مستدرك لأن للخصم أن يقبل الكلام فيقول كل منهما قرينة غير مستقلة مفيدة لمعنى زائد على المصدر فلو أخرج ما لا يستقل من القرائن اللفظ عن الحقيقة لكان ضارب ومضروب مجازين وليس كذلك. وبعد ذلك بقي جواب مفارقة بأن هذه الألفاظ غير موضوعة عل حالها والرجال موضوع للعموم قبل التقييد فكان التقييد مخرجا له عن الحقيقة وقد تقدم أمر الفرق غير ما مرة. واحتج القاضي بمثل ما احتج به أبو الحسين إلا أن الصفة عنده كأنها مستقلة لجواز استعمالها بدون الموصوف بخلاف الشرط والاستثناء. واحتج عبد الجبار أيضا بذلك إلا أن الاستثناء عنده ليس بتخصيص لأن المخصص لا ينافي المخصص والمستثنى ينافي المستثنى منه في الحكم. ولم يذكر جوابهما لأن جواب أبي الحسين جواب لهما. واحتج المخصص باللفظية وهو قول القائل بالفرق بين القرائن اللفظية والعقلية بأن القرائن اللفظية لو كانت موجبة لكون العام المخصوص مجازا في الباقي لكان نحو: مسلمون والمسلم ونحو: " ألف سنة " مجازا. وبيان الملازمة ونفي اللازم كما تقدم. وأجاب بأن هذا أضعف من دليل أبي الحسين. قال شيخي العلامة: لأن الجامع في دليل أبي الحسين كون القرائن اللفظية غير مستلزمة , وههنا هو كون القرائن اللفظية أعم من أن تكون مستقلة أو غير مستقلة فالجامع ثمة أخص من الجامع ههنا وكلما كان الجامع أعم كان القياس أضعف.

واحتج إمام الحرمين بأن تناول العام لأفراده بمنزلة تكرار الآحاد فإن قولك: جاء الرجال كقولك: جاء رجل ورجل ورجل إلا أنه اختصر عند إطلاق العام. فكما أن إخراج بعض الآحاد المكررة لا يوجب التجوز في الباقي كذلك إخراج بعض الآحاد عن العام لا يوجب تجوز العام بالنسبة إلى الباقي. وفيه نظر لأنه يدل على كونه حقيقة في الباقي فقط ومدعاه أنه حقيقة من حيث التناول مجازا من حيث الاقتصار فلا يكون الدليل مطابقا له. وأجاب بأنا لا نسلم أن تناول العام كتكرار الآحاد فإن تناول العام لجميع أفراده بطريق الظهور فيمكن إخراج البعض منه فإذا خصص خرج بعض الأفراد قطعا فيكون العام مجازا في الباقي بخلاف المتكرر فإنه نص في كل واحد من أفراده فلم يمكن إخراج بعض الأفراد فبقي حقيقة. ولقائل أن يقول العام إما أن يكون موضوعا لجميع أفراده أو لا فإن كان الأول كان كآحاد المتكرر في كونه نصا في كل واحد فلا يخرج شيء منه فكان حقيقة كما قلتم في المتكرر وإن كان الثاني فإن لم يكن موضوعا لشيء من أفراده كان مهملا وهو باطل وإن كان موضوعا لبعض أفراده كان بعض التخصيص حقيقة. ص - مسألة: العام بعد التخصيص بمبين حجة. وقال البلخي: إن خص بمتصل. وقال البصري: إن كان العموم منبئا عنه ك (اقتلوا المشركين) وإلا فليس بحجة. ك (السارق والسارقة) فإنه لا ينبئ عن النصاب والحرز. عبد الجبار: " إن كان غير إلى بيان " ك (اقتلوا المشركين) بخلاف (أقيموا الصلاة) فإنه مفتقر قبل إخراج الحائض. وقيل: حجة في أقل الجمع. وقال: أبو ثور ليس بحجة. لنا ما

- مسألة: العام الذي خص بمبين هل يبقى حجة في الباقي؟ فيه ستة مذاهب

سبق من استدلال الصحابة مع التخصيص. وأيضا: القطع بأنه إذا قال أكرم بني تميم ولا تكرم فلانا منهم فترك عد عاصيا. وأيضا: فإن الأصل بقاؤه. واستدل لو لم يكن حجة لكانت دلالته موقوفة على دلالته على الأخر. واللازم باطل , لأنه إن عكس فدور وإلا فتحكم. وأجيب بأن الدور إنما يلزم بتوقف التقدم. وأما بتوقف المعية فلا. قالزا: صار مجملا لتعدد مجازه فيما بقي وفي كل منه " لما بقي " بما تقدم. أقل الجمع هو المتحقق , وما بقي مشكوك. قلنا: لا شك مع ما تقدم. ش - العام لا يخلو إما أن يخصص بمبين أو مجمل فإن كان الثاني كما يقال: - اقتلوا المشركين إلا بعضهم - لا يبقى حجة خلافا للحنفية لأن أي بعض فرضته جاز أن يكون هو المستثنى. وإن كان الأول كقولك اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة فقد اختلف فيه على ستة مذاهب: الأول: أنه يبقى حجة في الباقي " وإلا

فلا " وهو مذهب البلخي. الثالث: إن كان العموم منبئا عن الباقي بعد التخصيص أي إن كان العام دالا على الباقي بعد التخصيص يبقى حجة في الباقي مثل: اقتلوا المشركين إذا خص بأهل الذمة وإن لم يدل العام على الباقي لا يبقى حجة ك (والسارق والسارقة) فإنه لا ينبئ عن أن يكون المسروق نصابا مخرجا من الحرز وهو مذهب أبي عبد الله البصري وهذا لأن المشركين ينبئ عن الباقي خص أو لم يخص وأما السارق إذا

خص فإنه لا يدل على الباقي لعدم دلالته على سارق مخرج من الحرز نصابا إلا بعد بيان النصاب والحرز. الرابع: غن كان العام غير محتاج إلى أن يبين الشارع معناه لكونه معلوما للمكلف كالمشركين كان حجة في الباقي وإن احتاج إليه ك (وأقيموا الصلوة) فإنه قبل إخراج الحائض كانت الصلاة مجملة مفتقرة إلى بيان الشارع معناها لا يبقى حجة فيه وهو مذهب عبد الجبار. الخامس: أنه بعده حجة في أقل الجموع لا فيما فوقه. السادس: أنه ليس بحجة بعده مطلقا وهو مذهب أبي ثور. واحتج المصنف على ما اختاره بأوجه: الأول: أن الصحابة - رضي الله عنهم - استدلوا بالعام المخصوص من غير فصل

بين مخصص متصل وغيره وشاع ذلك ولم ينكر عليهم أحد فكان إجماعا منهم على حجيته بعده فيه. وفيه نظر لجواز وقوع الإنكار ولم ينقل لأنه لم يكن من الحوادث العظيمة أو لعل ذلك كان مذهبا لبعضهم وما كان ينكر بعضهم على بعض في محل الاجتهاد. الثاني: أنا نقطع أن السيد إذا قال لعبده أكرم بني تميم ولا تكرم منهم فلانا عد عاصيا بترك إكرام غيره. وفيه نظر لأن الخصم يقول دعوى بلا دليل بل هو عين النزاع. الثالث: أن العام قبل التخصيص كان حجة في الباقي لأنه اقتضى الحكم قبله في كل واحد من أفراده والباقي من جملة أفراده والأصل بقاء الشيء على ما كان عليه فيكون حجة في الباقي بعد التخصيص. وفيه نظر لأن العام قبل التخصيص كان دالا على الأفراد حقيقة فاقتضى الحكم في كل منها فصار مجازا بعده عندكم فلم يبق الباقي من أفراده كما كان وإلا لزم أن يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره وهو باطل بالضرورة. ولأن بقاء الشيء على ما كان عليه أصل مطلقا أو إذا لم يمنع مانع والأول ممنوع والثاني مسلم لكن المانع موجود وهو دليل الخصوص. وقد استدل على المذهب المختار بأنه بعده لو لم يكن حجة فيه لتوقفت دلالته عليه على دلالته على البعض الأخر وهو المخرج وذلك لأن انتفاءه يثبت الحجية فإنه إن لم تتوقف دلالته عليه على دلالته على الأخر لكانت دلالته على الباقي غير متوقفة على شيء ولا نعني بالحجية إلا دلالته على الباقي دلالة تامة. وأما انتفاء التالي فلأنه لو توقفت دلالته على الباقي على دلالته على الأخر فإما أن تكون دلالته على الأخر متوقفة عل دلالته على الباقي أو لا فإن كان الثاني لزم التحكم لتساوي الأفراد في الدلالة. وإن كان الأول دار.

- مسألة: جواب السائل غير المستقل دونه تابع للسؤال في عمومه

وأجيب بما معناه أنا نختار التوقف من الجانبين ولا دور لأن التوقف توقف معية كتوقف المتضايفين والدور إنما يلزم في توقف التقدم كتوقف المعلول على العلة. وقال الذين لا يجعلونه بعد التخصيص حجة في الباقي إنه صار مجملا لتعدد مجازه فإنه حينئذ يكون مجازا بالنسبة إلى الباقي وفي كل بعض من الباقي لأنه كما يحتمل الباقي يحتمل كل بعض منه ولا ترجيح لأحد المجازات فكان مجملا في الباقي. والمجمل ليس بحجة قبل البيان بالاتفاق. وأجاب بما معناه يكون متعينا للباقي كما تقدم أن الباقي كان مرادا قبل التخصيص والأصل بقاء الشيء على ما كان عليه وإذا كان معينا للباقي لا يكون مجملا. والاعتراض المتقدم وارد ههنا أيضا. والذين جعلوه حجة في أقل الجمع قالوا أقل الجمع متحقق قطعا لأن بقاءه معلوم وما بقي بعد التخصيص مشكوك فيطرح المشكوك ويؤخذ المقطوع. وأجاب بأنا لا نسلم الشك في بقاء الباقي مع ما تقدم من الدليل الدال على كون الباقي مجازا مشهورا. ص - مسألة: جواب السائل غير المستقل دونه تابع للسؤال في عمومه اتفاقاً.

والعام على سبب خاص بسؤال مثل قوله لما سئل عن بئر بضاعة: " خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ". أو بغير سؤال كما روي أنه مر بشاة ميمونة فقال: " أيما إهاب دبغ فقد طهر ". معتبر عمومه على الأكثر. ونقل عن الشافعي خلافه. لنا استدلال الصحابة بمثله كأية السرقة وهي في سرقة المجن أو رداء صفوان وأية الظهار في سلمة بن صخر وأية اللعان في هلال بن أمية أو غيره. وأيضا فإن اللفظ عام , والتمسك به. قالوا: لو كان عاما لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد. أجيب بأنه اختص بالمنع للقطع بدخوله على أن أبا حنيفة أخرج الأمة المستفرشة من عموم " الولد للفراش " فلم يلحق ولدها مع وروده في ولد زمعة وقد قال عبد الله بن زمعة: " هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ". قالوا: لو عم لم يكن في نقل السبب فائدة. قلنا: فائدته منع تخصيصه. ومعرفة الأسباب. قالوا: لو قال تغد عندي. فقال: والله لا تغديت لا يعم. قلنا: العرف خاص. قالوا: لو عم لم يكن مطابقا. قلنا: طابق وزاد. قالوا: لو عم لكان حكما بأحد المجازات بالتحكم لفوات الظهور بالنصوصية. قلنا: النص خارجي بقرينة. ش - جواب السؤال إما أن يكون كافيا في فهم المقصود وإن قطع النظر عن السؤال أو لا. فإن كان سمي مستقلا وإن لم يكن سمي غير مستقل. مثال الأول: ما إذا سئل عن ماء البحر , فقيل: هو الطهور ماؤه. وليس الجواب

- مسألة: إذا ورد لفظ عام على سبب خاص فالمعتبر عند الجمهور عموم اللفظ دون خصوص السبب خلافا لبعض

فيه تابعاً للسؤال في العموم والخصوص بل حكمه حكم المستقل. ومثال الثاني: ما إذا سئل عن الإفطار بالمضمضة. فقيل: لا. والجواب فيه تابع للسؤال فيهما أما في العموم فبالاتفاق. وكما إذا سئل عن بيع الرطب بالتمر. فقال - عليه السلام -: " أينقص الرطب إذا جف " فقالوا: نعم. قال: " فلا إذن " فإن السؤال لما لم يكن مختصا بمكلف دون غيره كان الجواب كذلك. وأما في الخصوص فعند الجمهور. ونقل عن الشافعي خلافه. مثل ما إذا قال شخص: توضأت بماء البحر. فقال له: يجزئك. فإنه عنده عام لا يختص بالسائل. والعام إذا ورد على سبب خاص سواء كان بسؤال كقوله - صلى الله عليه وسلم - إذ سئل عن بئر بضاعة: " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه " أو بغيره

كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما مر بشاة ميمونة: " أيما إهاب دبغ فقد طهر " ففيه خلاف فذهب الأكثر إلى أن المعتبر عموم اللفظ دون خصوص السبب ونقل عن الشافعي خلافه.

- ذكر أدلة الجمهور

واستدل المصنف للأكثر بأن الصحابة - رضي الله عنهم - استدلوا بمثل ذلك على إطلاقه كأية السرقة فإنها نزلت في سرقة المجن أو في رجاء صفوان , ولم تختص به.

وآية الظهار نزلت في سلمة بن صخر.

وآية اللعان نزلت في هلال بن أمية أو عويمر العجلاني. وقد

- ذكر أدلة المخالفين

شاع وذاع عنهم عدم التخصيص فكان إجماعا منهم على أن العموم معتبر دون خصوص السبب. وفيه نظر لجواز أنهم عملوا في غير من نزلت بسببه بدلالة اللفظ لا بعبارته. وأيضا فإن اللفظ عام وهو مقتض للعموم وخصوص السبب لا يعارضه فإن التمسك باللفظ.

وفيه نظر فإن كلامه يشبه أن يكون مصادرة. ومن منع العموم احتج بخمسة أوجه: الأول: لو كان العام الوارد على سبب خاص عاما لجاز تخصيص السبب عن اللفظ العام الوارد فيه لأنه فرد من أفراد العام وكل فرد من أفراد العام يجوز تخصيصه بالاجتهاد لكن لا يجوز ذلك بالاتفاق. وأجاب أولا: بمنع الملازمة فإن دخول السبب الذي ورد لأجله العام تحته قطعي بخلاف الأفراد الباقية فإن دخولها تحته بحسب الظهور. وفيه نظر لأن للخصم أن يقول إخراج الأفراد عن العام ليس بمشروط أن لا يكون المخرج قطعي الدخول فلا بد من بيان. وثانيا: بمنع انتفاء التالي فإنا لا نسلم أنهم اتفقوا على عدم جواز إخراج السبب لأن أبا حنيفة - رحمه الله - أخرج ولد الأمة المستفرشة عن عموم قوله - عليه السلام -: " الولد للفراش " ولم يلحق ولد الأمة بمولاها المستفرش مع أن

الحديث ورد في ولد الأمة. وقصته ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام. فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن

أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه. انظر إلى شبهه. فقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه فرأى شبهه بينا بعتبة. فقال: " هو لك يا عبد. الولد للفراش. وللعاهر الحجر ". فإذا عرفت هذا فاعلم أن هذا الحديث ورد في ولد أم الولد لأن عبد بن زمعة قال: ولد على فراش أبي من وليدته. والوليدة هي أم الولد. وأبو حنيفة قائل بأن ولد أم الولد يثبت نسبه من غير دعوة فإذا لا يكون قائلا بتخصيص سبب ورود الحديث. الثاني: وأجاب أن العام الوارد بسبب خاص لو كان عاما لما كان لنقل السبب فائدة لأن ذكر السبب مع العام يختص العام به. والتالي باطل لأنه لو لم يكن لذكره فائدة كان لغوا. وأجاب بأن فائدته منع تخصيص السبب بالاجتهاد لصيرورته كالمنصوص الذي لا يجوز تخصيصه. وفيه نظر لما قال في جواب الوجه الأول إن دخول السبب الذي ورد لأجله العام تحته قطعي فلا يجوز تخصيصه بالاجتهاد فإن صح ذلك فتخصيصه ممنوع والممنوع لا يحتاج إلى مانع أخر. وبأن فائدته معرفة الأسباب مع الشيء. وفيه نظر لأن للخصم منع كون ذلك فائدة شرعية إذ لا يترتب عليه حكم شرعي.

الثالث: لو قال قائل: تغد عندي. فقال والله لا تغديت. لم يعم لأنه إذا تغدى في منزله لم يحنث. وفيه نظر لأن هذه المسألة من فروع هذا الأصل فلا يجوز أن يستدل به عليه. وأجاب: بأن خصوصه في هذه الصورة لأجل عرف خاص فإن مبنى الأيمان على العرف , والمعروف في ذلك أن ينصرف إلى الغداء المدعو إليه. وفيه نظر لأن للخصم أن يقول ذلك دعوى لابد من بيان. الرابع: لو علم لم يطابق الجواب السؤال فإنه خاص , والجواب عام إذ ذاك والمطابقة شرط صحة الجواب. وأجاب بما معناه أن الشرط منها ما كان الجواب مشتملا على غير بيان السؤال وحكمه وهو موجود مع زيادة لا تنفي البيان , وأما المطابقة بمعنى عدم اشتمال الجواب على غير بيان السؤال وحكمه فليست بشرط. بل هي باطلة لقوله تعالى: (قال هي عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مئارب أخرى) في جواب (وما تلك بيمينك يموسى) مع أن المطابق بذلك المعنى عصا. الخامس: لو عم ذلك كان العموم مستلزما للحكم بأحد المجازات بالتحكم. " واللازم ".

- مسألة: المشترك هل يصح إطلاقه على معنييه حقيقة؟

وبيان الملازمة: أنا نجزم حينئذ بأن صورة السبب مرادة من العام المذكور وصورة السبب أحد مجازات العام لأن كل بعض منه مجاز منه فيلزم الحكم بأحد المجازات بالتحكم لفوات الظهور بالنصوصية فإن سببية العموم بالنسبة إلى جميع الصور المندرجة تحته متساوية فالجزم بأحدها دون غيره تحكم. وأجاب بما معناه قول بالموجب أي سلمنا فوات الظهور لبعض بالنصوصية ولكنها أمر خارجي ثبت بقرينة هي ورود الخطاب بيانا لذلك البعض والخارجي لا معتبر به وإنما المعتبر هو العموم الحاصل باللفظ العام والأفراد بالنسبة إليه سواء. وفيه نظر لأن كون ورود الخطاب بيانا لذلك البعض في حيز النزاع وإنما كان ذلك أن لو اختص بالسبب. ص - مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه مجازا لا حقيقة وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز. وعن القاضي والمعتزلة يصح حقيقة إن صح الجمع. وعن الشافعي ظاهر فيهما عند تجرد القرائن كالعام. أبو الحسين والغزالي يصح أن يراد لا أنه " لغة ". وقيل: لا يصح أن يراد. وقيل يجوز في النفي لا الإثبات. والأكثر أن جمعه باعتبار معنييه مبني عليه. لنا في المشترك أنه يسبق أحدهما. فإذا أطلق عليهما كان مجازا. النافي للصحة: لو كان للمجموع حقيقة لكان مريدا أحدهما خاصة غير مريد وهو محال. وأجيب بأن المراد المدلولان معا , لا بقاؤه لكل مفرد. وأما الحقيقة والمجاز فاستعماله لهما استعمال في غير ما وضع له أولا وهو معنى المجاز. النافي للصحة: لو صح لهما لكان مريدا ما وضع له أولا غير مريد " وهو

محال ". وأجيب بأنه مريد ما وضع له أولا وثانيا بوضع مجازي. ش - اللفظ المشترك كالقرء للحيض والطهر يصح إطلاقه عليهما جميعا وكذلك يصح إطلاق اللفظ على مفهومه الحقيقي والمجازي معا , كإطلاق لفظ النكاح على الوطء والعقد معا. ونقل عن القاضي والمعتزلة أنه يصح إطلاق اللفظ المشترك على معنييه حقيقة إن صح الجمع بين معنييه كالعين بالنسبة إلى الجارية والباصرة وإن لم يصح كالقرء لا يصح. ونقل عن الشافعي أن اللفظ المشترك ظاهر في معنييه عند تجرده عن القرائن المخصصة بواحد من معنييه. وقال أبو الحسين والغزالي يصح ذلك بوضع جديد لا أنه يصح لغة حقيقة أو مجازا. وقيل: لا يصح ذلك لا لغة ولا وضعاً جديداً.

وقيل: يجوز ذلك في النفي دون الإثبات. وقيل: يجوز ذلك في الجمع. وذهب الأكثرون إلى أن صحة إطلاق الجمع المشترك على معنييه كالأقراء مبنية على صحة إطلاق المفرد على معنييه. واستدل المصنف على صحة ذلك في المشترك مجازا بأنه إذا أطلق سبق أحدهما إلى الذهن فلا يكون حقيقة في معنييه معا , فإذا أطلق عليهما كان مجازا , والعلاقة هي الكلية والجزئية. وفيه نظر لأن السبق علامة الحقيقة وسبق أحدهما إما أن يكون بعينه أو بغير عينه , والأول يستلزم أن يكون المشترك حقيقة في أحدهما وليس كذلك. والثاني

يستلزم أن يكون المشترك حقيقة في أحدهما لا بعينه وليس كذلك. على أن دعوى سبق أحدهما باطل فإن من علامات الاشتراك تردد الذهن. سلمناه , ولكن لا نسلم أن مثل هذه الجزئية والكلية تصلح علاقة. سلمناه , لكن إن أردتم أنه من باب ذكر الجزء وإرادة الكل فليس بصحيح لأن اللفظ موضوع لكل واحد , وإن أردتم عكس ذلك فليس ذلك مدعاكم. واحتج النافي لصحة إطلاق اللفظ المشترك على معنييه مطلقا بأنه لو صح ذلك كان لكونه حقيقة للمجموع لأنه موضوع لكل واحد من المجموع واستعمال اللفظ في ما وضع له حقيقة ولكن لا يصح أن يكون إطلاقه لكونه حقيقة للمجموع لاستلزام كون مستعمله مريدا لأحدهما بعينه خاصة لاستعماله فيه غير مريد لاستعماله في الأخر وهو محال. وأجاب بما معناه إنما لزم ذلك لو كان المراد باستعماله فيهما استعمالا مع بقائه لكل مفرد وليس ذلك بمراد وإنما المراد باستعماله فيهما إرادة المدلولين معا بطريق المجاز. ولقائل أن يقول المجاز لا يكون إلا بقرينة معاندة لإرادة الحقيقة وملزوم المعاند

معاند بالضرورة , فإرادة المدلولين تناقض ظاهر , لأن القرينة تنفي إرادة الحقيقة والمجاز الذي هو المدلولان إما أن يكون المراد به هيئة حاصلة بهما جميعا أو كل واحد ولا سبيل إلى الأول لأنه سقط أطلق القرء لا يراد به أمر ثالث حاصل من الحيض والطهر فتعين الثاني وهو عين الحقيقة المنفية على أن الجزئية والكلية ههنا لا تصلح مجوز للمجاز لأنه جزء اعتباري حصل بعد اعتبار المجاز والمجوز ينتفي أن يكون سابقا على المجاز لكونه علة له. واستدل على ذلك في المجاز بأن استعمال اللفظ لمدلوليه الحقيقي والمجازي استعمال في غير ما وضع له أولا لأنه لم يوضع أولا للمعنيين , واستعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا مجاز. قال الشارحون: والمجوز الجزئية والكلية. وفيه نظر لما بينا أنها لم تصلح ههنا مجوزة سلمناه لكن لا نسلم أن استعماله في المجموع استعمال في غير ما وضع له بل هو استعمال في ما وضع له وفي غير ما وضع له , وهو مركب منهما لا عين ما وضع له ولا غيره كالواحد من العشرة ولأن المجاز يستلزم القرينة المعاندة لإرادة الحقيقة كما تقدم. فإن قيل القرينة عندنا لإرادة المعنى المجازي لا لنفي المعنى الحقيقي فلا تنافي إرادة الحقيقة. قلنا خلاف علماء البلاغة فيما هو منها وهو ليس بمحمود سلمناه لكن لو

كان كذلك احتيج إلى القرينتين وهو باطل بالإجماع وذلك لأن اللفظ إذا استعمل في المعنى المجازي وحده يحتاج إلى قرينة فعند إرادة المعنيين جميعا يحتاج إلى قرينة أخرى لئلا يلتبس بما استعمل في المجازي وحده. واحتج النافي بأنه لو كان صح ذلك لزم أن يكون المستعمل مريدا ما وضع له اللفظ أولا لاستعماله فيه غير مريد لاستعماله في غير ما وضع له. وأجيب بأنا لا نسلم ذلك بل يكون مريدا لما وضع له أولا وثانيا بوضع مجازي يعني أنه يكون مريدا له ولغيره لا أن لا يكون له. وفيه نظر لأنه يستلزم أن يكون المعنى الحقيقي مرادا بالنسبة إلى الوضع الأول وداخلا في الإرادة بالنسبة إلى الوضع المجازي فصح أنه مريد له وغير مريد له فكان مرادا وغير مراد بل داخلا في الإرادة هذا غاية تدقيقهم في هذا البحث. ولعمري إنه فاسد لأن النزاع فيما إذا أريد الحقيقة من حيث هي حقيقة والمجاز من حيث هو مجاز فكان ثمة تصديقان والذهن لا يتوجه في حالة واحدة إلى تصديقين ولا إلى تصورين في التحقيق الوجداني. ص - الشافعي (ألم تر أن الله يسجد له) (إن الله وملائكته يصلون) وهي من الله رحمة ومن الملائكة استغفار. وأجيب بأن السجود الخضوع. والصلاة: الاعتناء بإظهار الشرف. أو بتقدير

- ذكر أدلة المجوزين

خبر أو فعل حذف لدلالة ما يقارنه. أو بأنه مجاز بما تقدم. ش - قال الشافعي - رحمه الله - استعمال المشترك حقيقة في معنييه جميعا واقع والوقوع دليل الجواز. أما الثانية فظاهرة. وأما الأولى فلقوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) , وقوله تعالى: (إن الله وملئكته يصلون على النبي) وذلك لأنه استعمل في الآية الأولى السجود وأريد معنياه وضع الجبهة على الأرض والخضوع لأنه نب إلى الناس وغيره وسجود الناس وضع الجبهة وسجود غيره الخضوع. وفي الثانية استعملت الصلاة في مدلوليه الرحمة والاستغفار لأنها

أسندت إلى الله والملائكة وهي بالنسبة إلى الله رحمة , ومن الملائكة استغفار , والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون المشترك مستعملا في معنييه بطريق الحقيقة. واجاب المصنف بثلاثة أوجه: الأول: أن السجود هو الخضوع لأنه ملزومه وذكر الملزوم وإرادة اللازم مجاز وهذا المجاز عام يتناول الناس وغيرهم , وأن الصلاة هي الاعتناء بإظهار الشرف لأن الرحمة والاستغفار يستلزمانه , وهو مشترك بين الله وملائكته فيكون بعموم المجاز. الثاني: أنه يجوز أن يقدر فعل في الأولى حتى كأنه قال: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ويسجد له من في الأرض ويسجد له الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ويسجد له كثير من الناس. وكل فعل بمعنى تعليق بالمسند إليه فلا يكون استعمال المشترك في معنييه. وأن يقدر في الثانية خبر حتى كأنه قال: (إن الله وملائكته يصلون) ويكون حذف الفعل في الآية الأولى والخبر في الثانية للقرينة وهي دلالة ما يقارنه عليه. الثالث: أن استعمال السجود في الأولى والصلاة في الثانية في المعنيين بطريقة المجاز لا بطريقة الحقيقة كما هو مختاره. وقد زيف بأنه يستلزم إسناد معنى السجود إلى كل واحد مما أسند إليه على (المعنيين جميعا) وهو باطل قطعا. ص - مسألة: نفي المساواة مثل (لا يستوي) يقتضي العموم كغيرها. أبو حنيفة لا يقتضيه. لنا: نفي على نكره كغيره. " قالوا ": المساواة مطلقا أعم من المساواة بوجه خاص والأعم لا يشعر

- مسألة: نفي المساواة مثل: "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " هل يقتضي العموم؟

بالأخص. وأجيب بأن ذلك في الإثبات وإلا لم يعم نفي أبدا. قالوا: لو عم لم يصدق , إذ لا بد من مساواة , ولو في نفي ما سواهما عنهما. قلنا: إنما ينفي مساواة يصح انتفاؤها. قالوا المساواة في الإثبات للعموم , وإلا لم يستقيم إخبار بمساواة , لعدم الاختصاص. ونقيض الكلي الموجب جزئي سالب. قلنا: المساواة في الإثبات للخصوص , وإلا لم يصدق أبدا إذ ما من شيئين إلا وبينهما نفي مساواة , ولو في تعينهما. ونقيض الجزئي الموجب كلي سالب. والتحقيق أن العموم من النفي. ش - نفي المساواة في مثل قوله تعالى: (لا يستوي أصحب النار وأصحب الجنة) يقتضي العموم أي بنفيها من كل وجه كما أن نفي غير المساواة يقتضي العموم وعلى هذا لا يقاد المسلم بكافر ولا تكون ديته كديته , ولا يملك

الكافر الحربي مال المسلم إذا أخذه بدار الحرب. وقال أبو حنيفة - رحمه الله - لا يقتضي العموم. واحتج المصنف بأن حرف النفي دخلت على النكرة لدخولها على الفعل المقتضي لنفي المصدر الذي تضمنه الفعل وهو نكرة , والنفي إذا دخل على النكرة أفاد العموم كالنفي الداخل على غير الفعل من بين النكرات. وفيه نظر لأن خصوصية المادة مانعة عن العموم لقيام المساواة من بعض الوجوه , والقياس مع وجود المانع فاسد , وقالت الحنفية: المساواة مطلقا أعم من المساواة بوجه خاص وهو المساواة من جميع الوجوه لأنها كما تكون من جميع الوجوه فقد تكون من بعض الوجوه. والأعم لا يشعر بالأخص أي لا يدل عليه أصلاً.

وأجيب بأن ذلك في جانب الإثبات , وأما في جانب النفي فإنه يشعر به لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص وإلا لم يمكن نفي العموم أصلا لأنه حينئذ يجوز أن لا ينتفي الخصوص على تقدير انتفاء العام فلا يتحقق في العموم لأن الخاص يستلزم العام فإذا لم ينتف الخصوص لم ينتف العموم. وفيه نظر لأن التالي امتناع نفي العموم وما ذكره في بيان الملازمة لا يفيده لأن الخصوص يجوز أن لا ينتفي لا أنه يجب أن لا ينتفي فإذا انتفى العموم بالنفي. وإذا لم ينتف لم لم ينتف العموم لأن عدم استلزام نفي العموم نفي الخصوص أعم من استلزام نفي العموم عدم انتفاء الخصوص وإنه لمظنة فضل تأمل منك فاحتط. وقالوا لو عم نفي المساواة لم يصدق قوله: (لا يستوي أصحب النار وأصحب الجنة) لأن صدقه يتوقف على نفي المساواة من كل وجه وهي موجودة من وجه وأقل ذلك المساواة بينهما في نفي ما سواهما عنهما لكنه صادق قطعا. وأجيب بمنع الملازمة لأن المدعي نفي مساواة يصح انتفاؤها لا المساواة من جميع الوجوه واللفظ وإن كان مقتضيا للعموم لكنه قد خص. ولقائل أن يقول هذا إقرار بعدم العموم لأن الاستغراق في العموم شرط عنده وإذا كانت الحقيقة متروكة يصار إلى مجاز تدل عليه قرينة وهي فحوى الكلام وهو نفي المساواة في الفوز بالجنة لقوله: (أصحب الجنة هم الفائزون) وكذا في غيره من المواضع كما في قوله تعالى: (وما يستوى العمى والبصير) يعني في البصر أو في البصيرة إن أريد بهما الكفر والإيمان وفيما عدا ذلك تكون كالمجمل. لا يقال إذا خص فيها البعض صار كالعام المخصوص فإنه يعمل به فيما بقي من

- مسألة: المقتضي

أفراده على العموم لأنا نقول هذا قياس فاسد لأن العام المخصوص انعقد أولا للعموم ثم خص بعضه بعارض لحقه فبقي فيما وراءه كما كان وهذا ليس كذلك لأن محل الكلام لا يقبل العموم. وقالوا أيضا المساواة في الإثبات للعموم وما كان في الإثبات للعموم لا يكون في النفي له فالمساواة في النفي لا تكون للعموم. أما الأولى فلأن قولنا زيد وعمرو يتساويان , يقتضي تساويهما من جميع الوجوه وإلا لكان اختصاصهما بها لغوا إذ ما من شيئين إلا وبينهما مساواة من وجه وأقلها ما تقدم لكن اتصاف شيئين بالمساواة شائع ذائع. وأما الثانية فلأن الإيجاب الكلي يناقضه السلب الجزئي. وأجاب بالمعارضة بأن المساواة بين الشيئين في الإثبات للخصوص لأنه لو لم تكن له لم يصدق بين شيئين مساواة أصلا إذ ما من شيئين إلا ويصدق بينهما نفي المساواة في شيء وأقله نفي المساواة في الشخص وإلا لكانا متحدين لا متساويين وإذا كانت في الإثبات للخصوص كانت في النفي للعموم لأن نقيض الجزئي الموجب السالب الكلي. وفيه نظر لأن كونهما في الإثبات للخصوص على الوجه المذكور مناف لمطلوبهم فإنهم جعلوه عاما في النفي باعتبار نفي مساواة ممكن لا من جميع الوجوه وذلك القدر هو المعتبر في خصوص الإثبات فكان النفي والإثبات إما خاصين وإما عامين ولا منافاة بينهما ولا تناقض. ثم قال بعد المعارضة. والتحقيق أن العموم مستفاد من النفي يعني لا من كونه نقيض قضية جزئية. وفيه نظر لما عرفت أن خصوصية المادة مانعة عن العموم فكانت " ما " تركت الحقيقة بدلالة محل الكلام. وقد قررناه في التقرير مستوفي فيطلب ثمة. ص - مسألة: المقتضى: وهو ما احتمل أحد تقديرات لاستقامة الكلام.

- تعريفه

لا عموم له في الجميع. أما إذا تعين " أحدهما " بدليل كان كظهوره. ويمثل بقوله: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " لنا: لو أضمر الجميع لأضمر مع الاستغناء. قالوا: أقرب مجاز إليهما باعتبار رفع المنسوب إليهما عموم أحكامهما. أجيب: بأن باب غير الإضمار في المجاز أكثر فكان أولى , فيتعارضان , فيسلم الدليل. قالوا: العرف في مثل ليس للبلد سلطان نفي الصفات. قلنا: قياس في العرف. قالوا: يتعين الجميع لبطلان التحكم إن عين ولزوم الإجمال إن أبهم. قلنا: ويلزم من التعميم زيادة الإضمار وتكثير مخالفة الدليل , فكان الإجمال أقرب. ش - عرف المقتضي - بكسر الضاد - بما احتمل أحد تقديرات لاستقامة الكلام. وظاهره فاسد لأنه يحتمل التقديرات لا أحدهما فلا بد من إضمار. أي ما

المقتضى هل له عموم؟

احتمل إضمار أحد التقديرات المحتملة. وحكم بأنه لا عموم له يعني قبل تعيين واحد وهو مذهب المحققين. أما إذا تعين إضمار أحدهما بدليل فكان المضمر في العموم والخصوص كالمظهر. ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " فإن ظاهرهما غير مراد

لوقوعهما فيهم , ويحتمل تقديرات كالحكم , والعقاب والذم , والضمان وما أشبهها فيضمر بعضها. وقيل: جميعها. واحتج للأول بأن الإضمار خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لضرورة وهي تندفع بإضمار واحد فلا حاجة إلى غيره. ومن قال بالعموم احتج بثلاثة أوجه: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " حقيقته رفع حقيقتهما وهو متعدد فيصار إلى أقرب مجاز إليهما وهو عموم رفع أحكامهما لأن عدم جميعها أقرب إلى عدمهما أنفسهما من عدم بعضهما. وأجاب بأن باب غير الإضمار في المجاز أكثر من باب الإضمار فكان الإضمار على خلاف الأصل , والتقليل فيه أولى فيتعارضان يعني كون إضمار الجميع أقرب إلى الحقيقة وكون البعض أولى. فيسلم الدليل الذي ذكرنا. وفيه نظر لأن الدليل المذكور هو أن الإضمار خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لحاجة وهي تندفع بالقليل فلا يضمر الكثير والذي عارض به ههنا هو أيضا أن الإضمار على خلاف الأصل فالتقليل أولى. فلم يبق الدليل سالما بل هو عين ما عارض به. الثاني: أن العرف اقتضى في قولنا: ليس للبلد سلطان عموم نفي الصفات التي

- مسألة: لا آكل وإن أكلت - هل هو عام في مفعولاته؟

ينبغي للسلطان ففي غيره أيضا تكون كذلك بالقياس عليه لاشتراكهما في الصرف عن الظاهر للاستقامة. وأجاب بأنه قياس في العرف وليس بجائز كما في اللغة لأن القياس تعدية الحكم الشرعي وكونه يقتضي عموم النفي أو خصوصه ليس به. الثالث: أنه يتعين الحمل على الجميع وإلا لزم التحكم أو الإجمال لأن كلا منهما مساو للأخر فإن حمل على بعض معين كان تحكما وإن حمل على مبهم لزم الإجمال والتالي تقسيمه باطل. وأجاب بأن الإجمال وإن كان مخالفا للأصل لكنه أولى من حمله على الجميع لأن حمله على الجميع يستلزم الإضمار وتكثر مخالفة الأصل فازداد على الإجمال بكثرة مخالفة الأصل فكان الإجمال أولى. وفيه نظر لأن الإجمال يخرجه عن الحجية بخلاف كثرة المخالفة والإعمال أولى. ص - مسألة: مثل لا أكل وإن أكلت. عام في مفعولاته. فيقبل تخصيصه. وقال أبو حنيفة لا يقبل تخصيصا. لنا: أن " الأصل " لنفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول وهو معنى العموم فيجب قبوله للتخصيص. قالوا لو كان عاما لعم في الزمان والمكان. وأجيب بالتزامه وبالفرق: بأن أكلت , لا يعقل إلا بمأكول. بخلاف ما ذكر. قالوا: إن أكلت: ولا أكل مطلق. فلا يصح تفسيره بمخصص لنه غيره. قلنا: المراد المقيد المطابق للمطلق لاستحالة وجود الكلي في الخارج. وإلا لم يحنث بالمقيد. ش - إذا وقع فعل متعد حذف مفعوله ولم يذكر معه مصدره نحو: والله لا

آكل. أو إن أكلت فعبدي حر كان عاما في مفعولاته عند الشافعي فإن مأكولا دون أخر صدق. وهو مختار المصنف. وقال أبو حنيفة ليس بعام فلا يقبل تخصيصا. واحتج المصنف بأن قولنا: لا أكل يدل على نفي حقيقة المصدر الذي تضمنه الفعل وكل ما يدل على نفي حقيقته يقتضي أن لا يوجد في جزئي وإلا لم تكن منتفية ولا نعني بعمومه إلا انتفاؤه عن المؤكولات الجزئية وإذا كان عاما قبل التخصيص. وفيه نظر لأن المفعول ثابت اقتضاء لتوقف تعقل صحة الفعل المتعدي كما يستلزم المفعول يستلزمهما لكنه ليس كذلك فإنه ليس قابلا للتخصيص بالنسبة إلى الزمان والمكان.

وأجيب أولاً: بالتزام كون الفعل عاما بالنسبة إلى الزمان والمكان وقابلا للتخصيص. وفيه نظر فإن نقل هذا الدليل عن الحنفية لا يكاد يصح لأنهم ذكروا عمومه باعتبار الزمان من صور النزاع بيننا فكيف يجعلونه دليلا إلا إذا جعل من باب رد المختلف على المختلف وهو لا يذكر في موضوع الاحتجاج. وثانيا: بالفرق بأن تعقل الفعل المتعدي موقوف على المفعول دون الزمان فكان تعلقه بالمفعول أقوى. ورد بأن الزمان كالمفعول في تعلق الفعل به وقد عرفت ما على الفرق غير ما مرة. وقالوا أيضا إن أكلت ولا أكل مطلق أي يدل على المصدر المطلق من غير تقييده بقيد فلا يصح تفسيره بمخصص أي بمقيد لأنه يخالف المطلق لصحة إطلاق المطلق على كل فرد من أفراده بخلاف المخصص ولا بد من المطابقة بين المفسر والمفسر. وأجاب بأن المراد بالأكل المدلول عليه بالفعل من أكل مقيد مطابق لمطلق لا الأكل لاستحالة وجود الكلي في الخارج , والأكل المقيد المطابق للمطلق يجوز تفسيره بمخصص ولهذا إذا حلف لا يأكل يحنث بأكل مقيد. وفيه نظر لأن المقيد المطابق للمطلق إما أن يكون عاما أو خاصا. والثاني خلاف المطلوب وفي الأول فساد الوضع لإسناد العموم إلى ما يقتضي ما يقابله، ولأن المراد بالمطابقة إما المطابقة في المفهوم أو فيما صدق عليه أو المطابقة بارتفاع المشخصات والأول والثاني ظاهر البطلان. والثالث لا يخلوا إما أن يكون التفسير بالمخصص قبل رفع المشخص أو بعده والأول غير مطابق لاختلافهما إطلاقا وتقييدا والثاني كذلك , لأنه عينه لا مطابقه , وإن كان المراد بالمطابقة غير ذلك فلا بد من

- مسألة: الفعل المثبت لا يكون عامافي أقسامه

البيان ليتصور أولا فيتكلم عليه. وأما الحنث بالمقيد فإنه لضرورة حصول المحلوف عليه لا للعموم فإنه لو لم يقيد بطل المحلوف عليه وليس بتفسير بل أمر ثابت بدليل خارجي. ص - مسألة: الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه مثل: " صلى داخل الكعبة " فلا يعم الفرض والنفل. ومثل: " صلى بعد غيبوبة الشفق " فلا يعم الشفقين إلا على رأي. وكان يجمع بين الصلاتين في السفر لا يعم وقتيهما. وأما تكرار الفعل فمستفاد من قول الراوي: " كان يجمع ". كقولهم: كان حاتم يكرم الضيف. وأما دخول أمته فبدليل خارجي , من قول مثل: " صلوا كما رأيتموني أصلي " و " خذو عني مناسككم " أو قرينة كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم أو بقوله: (لقد كان لكم) أو بالقياس. قالوا: قد عمم نحو: " سها فسجد " و " أما أنا فأفيض الماء " وغيره. قلنا: بما ذكرناه لا بالصيغة. ش - الفعل الذي له جهات وأقسام إذا وقع في الإثبات لا يكون عاماً

في جميع الجهات والأقسام. وذلك مثل ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: " صلى داخل الكعبة " والصلاة قد تكون فرضا ونفلا فإنه لا يقتضي العموم فيهما. ومثل ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: " صلى بعد غيبوبة الشفق ". فإن صلاته تحتمل أن تكون بعد غيبوبة الشفق الأحمر والشفق الأبيض لوقوعه عليهما بالاشتراك اللفظي فلا يكون عاما فيهما إلا على رأي من حمل على وقوعها بعد غيبوبتهما " الاحتياط ". ومثل ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: " كان يجمع بين الصلاتين في السفر " فإنه يحتمل أن يكون ذاك في وقت الصلاة الأولى أو الثانية فلا يعم وقتهما على أنه جمعهما في الوقتين والفرق بين المثال الأول والآخرين عموم الأول من حيث الأقسام وعمومهما من حيث الوقت. قوله: " وأما تكرر الفعل " إشارة إلى الجواب عما يقال: الفعل يفيد التكرار وذلك دليل العموم. وتقريره أن تكرره مستفاد من قول الراوي إنه - عليه السلام - كان يجمع فإنه

يفيد عرفا كقولهم كان حاتم يكرم الضيف فإنه يفيد تكرار إكرام الضيف. وفيه نظر لأنه قياس في العرف وقد مر بطلانه. وقوله: وأما دخول أمته - إشارة إلى جواب دخل أخر وهو أن الفعل يقتضي دخول الأمة فكما صح ذلك فليصح اقتضاء العموم. وفيه نظر لأنه قياس في اللغة. وتقرير الجواب أن الفعل لم يقتض الدخول وإنما هو بدليل خارجي هو قول مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقوله - عليه السلام -: " خدوا عني مناسككم " أو قرينة لوقوع فعله - صلى الله عليه وسلم - بعد جريان حكم فيه إجمال أو إطلاق أو عموم وعرف أنه - عليه السلام - قصد بيان ذلك أو بقوله - تعالى -: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). وفيه نظر لأنه يدل على المتابعة له - صلى الله عليه وسلم - لا غير ألا ترى أنه لا يجوز دخول

- مسألة: إذا أخبر صحابي عن حكم صدر عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- بلفظ عام مثل: (نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر: يجب الأخذ بالعموم عند بعض الأصوليين فيعم الغرر

الأمة في المختص به. وفيما كان من باب ترك الأولى المسمى زلة فليس فيها دليل على المطلوب أو بالقياس على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتج من قال بالدخول بالإجماع فإن العموم ثبت بالإجماع في مثل: " سها رسول الله فسجد " وفيما إذا سئل عن كيفية الاغتسال فقال: " أما أنا فأفيض الماء على رأسي ". وإذا سئل عن قبلة الصائم فقال: " أنا أفعل ذلك " وفي غيرها من الأخبار. وأجيب بأن العموم مستفاد من كلام الراوي فإن الراوي لما أدخل الفاء على سجد دل على التكرار فإن الفاء تقتضي السببية أو غيره من دليل خارجي قول أو قياس , كما ذكرنا. ص - مسألة: نحو قول الصحابي: " ينهى عن بيع الغرر " و " قضى بالشفعة للجار " يعم الغرر والجار. لنا: عدل عارف. فالظاهر الصدق. فوجب الاتباع قالوا يحتمل أن يكون خاصا أو سمع صيغة خاصة فتوهم والاحتجاج للمحكي. قلنا: ش - إذا أخبر صحابي عن حكم صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلفظ عام مثل قوله:

" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر " و " قضى بالشفعة للجار " يجب الأحد بالعموم عند بعض الأصوليين فيعم الغرر والجار. وهو المختار عند المصنف. وقال بعضهم لا يجب الأخذ بالعموم.

- مسألة: إذا علق الشرع حكما بعلة، هل يعم الحكم في جميع صور وجود العلة؟

واحتج بأنه عدل عارف بصيغة العموم وغيرها فالظاهر صدقه في الإخبار بصيغة العموم وقد أخبر بصيغة العموم التي هي الغرر والجار لكونهما معرفين باللام فوجب الاتباع. وقال الباقون احتمل أن يكون ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصا كما في المثالين فإن اللام إن كان للاستغرق كان عاما وإن كان للعهد كان خاصا وهما في الاحتمال سواء ومع الاحتمال لا يقتضي العموم واحتمل أن يكون قد سمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - صيغة خاصة فتوهم عمومها وحينئذ لا يكون حجة في العموم لأن الاحتجاج إنما يكون بالمحكي لا بالحكاية والحكاية إنما يحتج بها إذا كانت مطابقة للمحكي. وأجاب بأن هذين الاحتمالين خلاف الظاهر لأن الاستغراق غالب والصحابي عدل عارف بأحكام اللغة فاحتمال توهم العموم فيما ليس بعام خلاف الظاهر. ولقائل أن يقول لا نسلم أن العهد خلاف الظاهر لأن اللام موضوعة للعهد والاستغراق ناشئ من المقام. ص - مسألة: إذا علق حكما على علة عم بالقياس شرعاً لا بالصيغة.

وقال القاضي: لا يعم. وقيل بالصيغة كما لو قال: حرمت المسكر لكونه حلوا لنا ظاهر في استقلال العلة. فوجب الاتباع. ولو كان بالصيغة لكان قول القائل: أعتقت غانما لسواده يقتضي عتق سودان عبيده , ولا قائل به. القاضي: يحتمل الجزئية. قلنا: لا يترك الظاهر للاحتمال. الأخر: حرمت الخمر لإسكاره , مثل: حرمت المسكر " لإسكاره ". وأجيب بالمنع. ش - إذا علق الشرع حكما بعلة كما لو قال: حرمت المسكر لكونه حلوا , هل يعم الحكم في جميع صور وجود العلة أو لا؟ اختلفوا فيه فمنهم من يقول بالقياس الشرعي لا بالصيغة. وقيل: يعم بالصيغة. وقال القاضي لا يعم والمصنف اختار الأول. واحتج على الشق الأول بأن تعلق الحكم بالعلة ظاهر في استقلال العلة في اقتضاء

الحكم فكلما وجدت العلة وجد الحكم فيثبت في جميع صور وجود الحلاوة بالقياس , وعلى الثاني بقوله: لو كان بالصيغة لكان قول القائل أعتقت غانما لسواده يقتضي عتق سودان عبيده ولا قائل به. وبيان الملازمة أن الصيغة لو اقتضت العموم كانت دلالتها عليه بحسب الوضع فيكون القائل أعتقت غانما لسواده كقوله أعتقت سودان عبيدي. وللخصم أن يقول لو كان بالعلة لعتقت سودان عبيده لوجده العلة في المثال المذكور ولا قائل به. واحتج القاضي بأنه يحتمل أن تكون العلة حلوا خاصا فتكون الحلاوة جزء العلة ويحتمل أن يكون الحلو المطلق فتكون علة تامة فكان العموم محتملا. وأجاب بأن الخصوص وإن كان محتملا لكن العموم ظاهر والظاهر لا يترك للاحتمال. وتحقيقه أن الحكم وإن احتمل الإضافة إلى المختص فالظاهر إضافته إلى المشترك وإلا لا يتحقق قياس أصلا. واحتج من قال بعموم صيغته بأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " حرمت الخمر لإسكارها " مثل قوله: حرمت المسكر في المفهوم. والثاني يقتضي عموم حرمة المسكر صيغة فكذا الأول. وأجيب بأنا لا نسلم تساويهما في إفادة العموم بحسب الصيغة. ولقائل أن يقول لا شك أن الحكم معلق بالعلة في الصورتين جميعا أما الأولى فظاهرة وأما الثانية فلأن الحكم إذا رتب على مشتق كان المصدر علة بلا خلاف. فالحكم بأن الحكم المرتب عليه عام بصيغة دون المرتب على قوله لإسكارها تحكم صرف.

- مسألة: عموم المفهوم

ص - مسألة: الخلاف في أن المفهوم له عموم لا يتحقق لأن مفهومي الموافقة والمخالفة عام فيما سوى المنطوق به لا يختلفون فيه ومن نفى العموم كالغزالي , أراد أن العموم لم يثبت بالمنطوق به. ولا يختلفون فيه أيضا. ش - المفهوم إذا فرض حجة لم يخالف في عمومه لأن مفهوم الموافقة وهو: ما يكون حكم المسكوت عنه موافقا للمنطوق كحرمة الضرب من التأفيف. ومفهوم المخالفة: وهو ما يكون حكم المسكوت عنه مخالفا للمنطوق كعدم وجوب الزكاة على العلوفة من وجوبها على السائمة لم ينقل عن أحد ممن قال به عدم عمومها فيما عدا المنطوق. وفيه نظر فإن الحنفية يقولون بحجية مفهوم الموافقة وسموه دلالة النص ولم يقولوا بعمومه.

- مسألة: مثل قوله- عليه السلام-: " لا يقتل مسلم بكافر " يقتضي العموم عند الحنفية

قوله: والغزالي إشارة إلى الجواب عما يقال كيف ينفي الخلاف على العموم وقد خالف الغزالي نفي العموم: وتقريره إنما نفى عمومه لا لأن الحكم لا يعم في المفهوم بل معنى كلامه أن المنطوق لا يدل على عموم المفهوم بغير توسط المفهوم. ص - مسألة: قالت الحنفية مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ". معناه: بكافر. فيقتضي العموم إلا بدليل. وهو الصحيح. لنا: لو لم يقدر شيء لامتنع قتله مطلقا , وهو باطل. فيجب الأول للقرينة. قالوا: لو كان " كذلك لكان " " بكافر " الأول للحربي فقط فيفسد المعنى. ولكان (وبعولتهن) للرجعية والبائن , لأنه ضمير المطلقات. قلنا: خص الثاني بالدليل. قالوا: لو كان لكان نحو ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا , أي يوم الجمعة. وأجيب بالتزامه. وبالفرق بأن ضرب عمرو في غير يوم الجمعة لا يمتنع. ش - قالت الحنفية إذا عطف جملة على أخرى والمعطوفة لا يستقيم معناها إلا بتقدير وكان في الجملة المعطوفة عليها لفظ لو قدر في المعطوفة استقام وجب

تقديره فيها وحينئذ يكون حكم ذلك اللفظ في الجملتين من حيث العموم واحدا وكذا من حيث الخصوص إلا إذا دل دليل على خصوص الثانية وذلك مثل قوله - صلى اللع عليه وسلم -: " لا يقتل مسلم بكافر , ولا ذو عهد في عهده " فإنه لا بد من تقدير قوله: " بكافر " ويكون عاما فيه إلا بدليل. وهو الصحيح عند المصنف. واحتج عليه بأنه لو لك يقدر في الثانية " بكافر "لزم حرمة قتل ذي العهد مطلقا وهو باطل لأنه يقتل في الجملة اتفاقا وقرينة تخصيصه لكونه مذكورا في الأولى فإن قدر خلافه كان بلا قرينة وهو غير جائز. وأجابت الشافعية بأنا لا نسلم أنه لو لم يقدر شيء لزم حرمة قتله مطلقا لأنها متعلقة بوصف العهد فإذا انتفى وصف العهد انتفى الحرمة أو تقول لا نسلم أنه لو لم يقدر شيء لزم حرمة قتله مطلقا وإنما يلزم أن لو لم يتحقق المخصص وهو قوله - تعالى -: (كتب عليكم القصاص) ولئن سلم أنه يجب أن يقدر شيء فلا نسلم أنه يجب أن يقدر " بكافر " بل يجوز أن يقدر " ما دام في عهده " ويكون معناه: ولا يقتل ذو عهد ما دام في عهده. وهذا الجواب فاسد لأن المنع إما أن يكون لنفس القاعدة بأن مثل هذا لا يمكن أن يقع في الوجود أو للمثال , والأول باطل لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال فكان ممكنا والثاني ليس بدأب المناظرين إن لم يكن هذا المثال فليكن مثال أخر. على أن قولهم حرمة القتل متعلقة بوصف العهد فإذا انتفى وصف العهد انتفى الحرمة. فاسد لأن كلامنا في ذي العهد فإذا انتفى الوصف فلم يبق ذا عهد , ولا كلام فيه. وأما التخصيص بقوله - تعالى - (كتب عليكم القصاص) فلا يكاد يصح

لاستلزامه أن يكون قوله - عليه السلام - " لا يقتل مسلم بكافر " أيضا مخصوصا مثله دفعا للتحكم وهو خلاف مذهبهم. وأما تقدير " ما دام في عهده " ففاسد لأن معنى قوله في عهده هو معنى ما دام في عهده فكان لغوا على أن تقديره يقتضي أن لا يقتل ذو عهد ما دام في عهده مطلقا وهو أول المسألة. واحتجت الشافعية بوجهين: أحدهما: أنه لو كان حكم ذلك اللفظ في الجملتين من حيث العموم والخصوص واحدا لزم أن يكون بكافر في الأولى مقيدا بالحربي ضرورة كون الثاني مقيدا به ولكان الضمير في (بعولتهن) في قوله - تعالى -: (والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء) إلى قوله: (وبعولتهن أحق بردهن) للرجعية والبائن جميعا لأن ضمير (بعولتهن) يرجع إلى المطلقات وهي تعم الرجعية والبائن واللازمان باطلان فالملزم كذلك. أما الأول فلأن الكافر لو قتل في الأولى بالحربي لزم دلالة الحديث على وجوب قتل المسلم بالذمي لأنه يدل على تقييد عدم وجوب القصاص بكون الكافر حربيا فمتى انتفى كون الكافر حربيا انتفى عدم وجوب القصاص فيلزم وجوب القصاص ولا قائل بكون هذا الحديث دليلا على وجوب قتل المسلم بالذمي. وفيه نظر لأن عدم الاستدلال بمفهوم كلام لا يستلزم فساد ذلك الكلام في نفسه وهذا ظاهر جيدا على أن الحنفية لو كانوا قائلين بمفهوم المخالفة جاز لهم الاستدلال بذلك فإن مذهبهم جواز قتل المسلم بالذمي قصاصاً.

أما الثاني: فلاختصاص الضمير في (بعولتهن) بالرجعية بالاتفاق. وأجاب بأن الموجب للعموم في المذكور والمقدر متحقق والمخصص في الثاني موجود دون الأول فوجب القول بخصوص الثاني دون الأول. والثاني: أن التقدير لو كان واجبا في الحديث لكان ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا. تقديره وضربت عمرا يوم الجمعة لتساوي الصورتين لكنه ليس كذلك باتفاق النحاة. وأجاب أولا: بمنع انتفاء التالي وأشار إليه بقوله: وأجيب بالتزامه. وثانيا: بمنع الملازمة فإن ترك التقدير في الأول يخرج الكلام إلى ما يخالف الإجماع وهو حرمة قتل ذي العهد مطلقا , وهو باطل. وليس المثال كذلك إذ ضرب عمرو كما جاز يوم الجمعة جاز في غيره بلا مانع فلا حاجة إلى تقييده. ص - مسألة: مثل (يا أيها المزمل) (لئن أشركت) ليس بعام للأمة إلا بدليل من قياس أو غيره. وقال أبو حنيفة وأحمد عام إلا بدليل. لنا. القطع بأن خطاب المفرد لا يتناول غيره لغة. وأيضا: يجب أن يكون خروج غيره تخصيصا. قالوا: إذا قيل لمن له منصب الاقتداء: اركب لمناجزة العدو , ونحوه فهم لغة أنه أمر لأتباعه معه. " وكذلك: يقال " فتح وكسر. والمراد مع أتباعه. قلنا ممنوع. أو فهم لأن المقصود متوقف على المشاركة. بخلاف هذا. قالوا: (إذا طلقتم) يدل عليه. قلنا: ذكر النبي أولا للتشريف. ثم خوطب

- مسألة: إذا ورد خطاب خاص بالرسول- صلى الله عليه وسلم- مثل: " يا أيها المزمل " هل يكون عاما للأمة؟

الجميع. قالوا (فلما قضى) ولو كان خاصا , لم يتعد. قلنا: نقطع بأن الإلحاق للقياس قالوا: فمثل: (خالصة لك) و (ناقلة لك) لا يفيد. قلنا يفيد قطع الإلحاق. ش - إذا ورد خطاب خاص بالرسول - عليه السلام - مثل قوله - تعالى -: (يأيها المزمل قم اليل) (لئن أشركت ليحبطن عملك) لم يكن عاما للأمة إلا بدليل خارجي من قياس أو غيره. وقال أبو حنيفة وأحمد يعمهم إلا بدليل يخصه به. واختار المصنف الأول. واحتج بأنا نقطع بأن خطاب المفرد لا يتناول غيره

حصل ذلك بالاستقراء في كلام العرب. وأجيب بأنا لا ندعي أن خطاب المفرد يتناول الجميع في جميع الصور مطابقة بل ندعي ذلك في صورة يكون ذلك المفرد مقدم الجمع. والخطاب الوارد فيما يحتمل الموافقة يفهم منه العموم لغة من غير تقييده بالمطابقة وبأن الخطاب الخاص بواحد لو كان متناولا لغيره , لكان خروج غير ذلك الواحد عنه تخصيصا لكن التخصيص باطل لأنه على خلاف الأصل. وفيه نظر لأنه إن أراد من بطلان التالي لكون التخصيص على خلاف الأصل فذلك يستلزم أن يكون كثير من نصوص الشرع على خلاف الأصل. وإن أراد أن التخصيص يستلزم العام وليس بموجود فذلك عين النزاع. وإن أراد غير ذلك فلا بد من البيان فإنه غير معهود. وقالت الحنفية ومن وافقهم العرف جار على أن السلطان إذا قال لمن له منصب الاقتداء: اركب لمقابلة العدو. فهم لغة أنه مأمور باتباعه وكذلك إذا أخبر عمن له منصب الاقتداء بأنه فتح البلاد وكسر العدو فهم لغة أنه إخبار عنه وعن متابعته. وأجاب بأنا لا نسلم ذلك بل فهم لغة أنه وحده مأمور. ولو سلم ذلك لكن لا نسلم أن الفهم حصل بمجرد الأمر بل حصل بالقرينة وهي أن المأمور به الذي هو المقصود متوقف على مشاركة بخلاف أمر الرسول بشيء من العبادات فإنه لم يتوقف المقصود به على المشاركة فلم يتناول الأمة.

وفيه نظر لما تقدم أنه ليس المراد جميع الصور مطابقة بل في الصورة المذكورة وهو يفهم لغة ويعرف ذلك بالعرض على اللغوي فإن فهم ذلك فلا كلام وإن توقف فليس بصحيح لكن القطع حاصل بفهمه. قالوا أيضا: قوله - تعالى -: (يأيها النبي إذا طلقتم النساء) ووجهه أن الله - تعالى - خاطب النبي بالنداء ثم عمم بعد ذلك بقوله: (وإذا طلقتم) وذلك يدل على أنه خطاب النبي - عليه السلام - يتناول الأمة. وأجاب بأن الخطاب توجه نحو الجميع وإنما خص الرسول بالذكر تشريفا له. وفيه نظر لأنه دعوى مجردة بل المراد به ما ذكرنا بدليل منصب الاقتداء والإعراض عما له دليل إلى دعوى مجردة عناد غير مسموع. وقالوا أيضا: قوله - تعالى -: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجنكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم) فإنه يدل على أن خطاب الرسول - عليه السلام - بإباحة نكاح زوجة الدعي يتناول جميع الأمة لأنه أخبر أنه إنما أباح للرسول ليكون مباحا للمؤمنين فلو لم يكن الخطاب الخاص بالرسول عاما له وللأمة لم يتعد حكم الإباحة من الرسول إلى الأمة. وأجاب بأن إلحاق الأمة به في إباحة نكاح زوجة الأدعياء بالقياس لا بأن الخطاب يتناولهم. وفيه نظر لأن القياس يحتاج إلى جامع بين الرسول - عليه السلام - وبين غيره خاص بالنسبة إلى ذلك الحكم ووجوده ممنوع والاكتفاء بالجامع العام مثل كونه إنسانا أو مطلقا يفضي إلى محذور.

- مسألة: إذا خاطب- عليه السلام- أحدا من الأمة هل يعم غيره أو لا؟

وقالوا أيضا: قوله - تعالى -: (خالصة لك من دون المؤمنين) وقوله: (فتهجد به نافلة لك) يدل على ذلك لا محالة لئلا يضيع قيد (خالصة لك) و (نافلة لك) إذ الخطاب لم يتناول غيره حينئذ. وأجاب بأن فائدته قطع إلحاق غير الرسول به بطريق القياس. وفيه نظر لأن ذلك يعتمد سبق جواز القياس وقد مر بطلانه. ص - مسألة: خطابه لواحد ليس بعام خلافا للحنابلة. لنا: ما تقدم من القطع ولزوم التخصيص. ومن عدم فائدة " حكمي على الواحدة ". قالوا: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) بعثت إلى الأحمر والأسود يدل عليه. وأجيب بأن المعنى تعريف كل ما يختص به ولا يلزم اشتراك الجميع. قالوا: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " يأبى ذلك. قلنا: محمول على أنه على الجماعة بالقياس أو بهذا الدليل " لأن " خطاب الواحد للجميع. قالوا: نقطع بأن الصحابة حكمت على الأمة بذلك كحكمهم بحكم ماعز في الزنا وغيره. قلنا: إن كانوا حكموا للتساوي في المعنى فهو القياس , وإلا فخلاف الإجماع. قالوا: لو كان خاصا لكان " تجزئك ولا تجزئي أحدا بعدك ". وتخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده زيادة من غير فائدة. قلنا: فائدته قطع الإلحاق كما تقدم.

ش - إذا خاطب - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الأمة لا يعم غيره عند الأكثر خلافا للحنابلة. واحتج المصنف للأكثر بالوجهين المارين من القطع بأن خطاب الواحد لا يتناول غيره ومن لزوم التخصيص إذا خرج غيره على تقدير عمومه. ولقد عرفت ما ورد عليهما. وبوجه ثالث: هو أنه لو كان عاما لم يكن لقوله - عليه السلام -: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " فائدة لحصولها إذاك من كون الخطاب لواحد

خطاباً لغيره أيضاً. وفيه نظر فإن فائدته إذ ذاك قطع احتمال الخصوص بالمخاطب فإن العموم هو السابق مع احتمال الخصوص فذكره قطعا له. واحتجت الحنابلة بوجوه أربعة: الأول: قوله - تعالى -: (وما أرسلنك إلا كافة لناس) وقوله - عليه السلام -: " بعثت إلى الأسود والحمر " كتاب وسنة تدلان على أن حكمه - عليه السلام - لا يختص بواحد دون غيره. وأجاب بأن المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الإنس والجن والعرب والعجم ليعرف كلا منهم ما يختص به من الأحكام ولا يلزم من ذلك اشتراك الجميع. والثاني: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " يأبى التخصيص فيهم وهذا لأن تقديره كحكمي على جماعة المسلمين ثم حذف المضاف إليه للعلم به فصار على جماعة ثم لما كان المراد به المعرف عرف بلام التعريف. ثم إنه إما أن يكون تقديره حكمي على الواحد هو حكمي على الجماعة وهذا

يأبى التخصيص لا محالة والمنازع مكابر. وإما أن يكون تقديره حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة وهو كذلك لأن معناه إني إذا حكمت على جماعة بشيء لزمهم ذلك كذلك إذا حكمت على واحد منهم به لزمهم ذلك. وأجاب بأن هذا الحديث محمول على أن حكم الجماعة حكم الواحد بقياس الجماعة على الواحد أو نقول سلمنا أن حكم الواحد حكم الجماعة لكن بهذا الحديث لا لأن الخطاب يتناول الجميع ولا بد من ذلك جمعا بين الأدلة. وفيه نظر أما الأول فلما فيه من التمحل الظاهر وأما في الثاني فلأنا نقطع بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: " قم فصل فإنك لم تصل " عم غيره ولا يسند إفادة عمومه إلى قوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة إلا إذا علم تقدمه على الحديث الأعرابي وهو ممنوع. والثالث: أن الصحابة - رضي الله عنهم - حكموا على الأمة بحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على واحد كحكمهم بوجوب الرجم على كل زان محصن , وقطع كل سارق بحكم ما عز وسارق المجن وهو دليل واضح على المطلوب. وأجاب بأنهم كانوا حكموا للتساوي في المعنى ألا ترى أنه إذا لم تتساوى الصورتان في المعنى الموجب لا يجوز ذلك لكونه على خلاف الإجماع على وجوب التساوي بين المقيس والمقيس عليه في المعنى الموجب. وفيه نظر لأنه مصادرة فإنه إنما يلزم خلاف الإجماع على تقدير حكمهم مع عدم التساوي أن لو كان حكمهم بطريق القياس وهو المتنازع فيه. والرابع: أنه لو كان خاصا بالمخاطب لكان قوله - عليه السلام - لأبي بردة ابن نيار لما ضحى بعناق: " تجزئك ولا تجزئ أحدا "

بعدك " غير مقيد لأنه إذا لم يكن عاما لم يكن الحكم ثابتا لغيره فلم يحتج إلى نفيه. وكذلك تخصيصه - عليه السلام - خزيمة بقبول شهادته وحده يكون غير مفيد.

- مسألة: جمع المذكر السالم هل يدخل فيه النساء؟

وأجاب بأن فائدته قطع الإلحاق بالقياس عليه كما تقدم في المسألة السابقة. وفيه نظر لأن من شروط القياس أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص أخر. وفيما ذكرتم ليس كذلك فأنى يتصور القياس حتى يحتاج إلى دفعه. ص - مسألة: جمع المذكر السالم كالمسلمين ونحو: فعلوا مما يغلب فيه المذكر لا يدخل فيه المساء ظاهرا خلافا للحنابلة. لنا: (إن المسلمين والمسلمات) ولو كان داخلا لما حسن. فإن قدر مجيئه للنصوصية , ففائدة التأسيس أولى. وأيضا: قالت أم سلمى - رضي الله عنها - يا رسول الله إن النساء قلن: " ما نرى الله ذكر إلا الرجال " , فأنزل الله - تعالى -: (إن المسلمين والمسلمات) ولو كن داخلات لم يصح تقريره النفي. وأيضا: فإجماع العربية على أنه جمع المذكر. قالوا: المعروف تغليب الذكور. قلنا: صحيح إذا قصد الجميع , ويكون مجازا. فإن قيل: الأصل الحقيقة. قلنا: يلزم الاشتراك وقد تقدم مثله. قالوا: لو لم يدخلن لما شاركن المذكرين في الأحكام. قلنا بدليل من خارج وبذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة وغيرهما قالوا: لو أوصى لرجال ونساء بشيء ثم قال: وأوصيت لهم بكذا دخل النساء بغير قرينة , وهو معنى الحقيقة. قلنا بل القرينة الإيصاء الأول. ش - إذا ذكر جمع المذكر الذي يجري فيه التغليب مظهرا كان كالمسلمين أو مضمرا كواو فعلوا لا يتناول النساء خلافا للحنابلة وهو مذهب بعض

الحنفية. وإنما قال مما يغلب فيه المذكر احترازا عن مثل الناس فإنه يتناولهما بلا نزاع لأنه عند من يقول إنه جمع ليس مما يغلب فيه المذكر بل مما يتناول الذكر والأنثى وضعا. وعن مثل الرجال فإنه لا يتناولها بلا نزاع. واحتج المصنف للأول بثلاثة أوجه: الأول: قوله - تعالى -: (إن المسلمين والمسلمت) فإن المسلمين لو تناول المسلمات لم يكن في العطف فائدة. فإن قيل الفائدة التنصيص بذكرهن تشريفا. أجاب بأن ذلك تأكيد والتأسيس أولى. وفيه نظر لأنه إنما يكون تأكيدا إذا كان تعرضا لما دل عليه غيره والتنصيص ليس كذلك فكان تأسيساً.

والثاني: ما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله ذكر إلا الرجال. فأنزل الله - تعالى -: (إن المسلمين والمسلمات) ولو دخلت النساء في جميع المذكر لم يصح سؤالها ولا تقريره عليه السلام النفي. وفيه نظر لأنه قرر نفي الذكر لا نفي الدخول. والثالث: أن أهل العربية أجمعوا على أن مثل المسلمين , وفعلوا جمع المذكر فلا يتناول النساء وإجماعهم حجة في دلالة الألفاظ. ولقائل أن يقول اجمعوا على ذلك عند الانفراد أو الاختلاط والأول مسلم ولا كلام فيه. والثاني ممنوع. واحتجت الحنابلة أيضا بثلاثة أوجه: الأول: أن المعروف من عادة أهل اللغة تغليب الذكور على الإناث إذا اجتمعوا ولهذا يقال للرجال والنساء ادخلوا فدل على التناول.

وأجاب بأن تغليب المذكر على المؤنث صحيح إذا قصد الجميع أي المذكر والمؤنث جميعا وأريد أن يعبر عنهما بعبارة واحدة ويكون مجازا لكن لا يفيد المطلوب لأنه إذا لم يعلم أنه قصد الجميع لم يلزم منه التناول. فإن قيل إذا سلمتم تناول جمع المذكر والإناث وجب أن يكون بطريق الحقيقة لأن الأصل في الكلام الحقيقة. أجيب بأنه لو كان حقيقة فيهما لزم الاشتراك لكونه حقيقة في خصوص الذكر لكن المجاز أولى لما تقدم أن حمل اللفظ الدائر بين الحقيقة وبين المجاز على المجاز أولى. ولقائل أن يقول قد تقدم أيضا فساد ذلك الرأي هناك. والثاني: أنه لو لم يتناول الإناث لما شاركت الإناث الذكور في الأحكام لأن أكثرها بخطاب المذكرين واللازم باطل بالاتفاق. وأجاب بمنع الملازمة فإنه إنما يلزم ذلك لو لم تكن المشاركة بدليل خارجي وهو ممنوع وسنده أنهن لم يدخلن في الجهاد والجمعة مع أن الخطاب ورد بصيغة جمع المذكر كقوله - تعالى -: (وجهدوا) وقوله: (فاسعوا إلى ذكر الله). وفيه نظر لأن النص في الجهاد تناولهن لكنهن خرجن بقوله - تعالى -: (وقرن في بيوتكن) وأما الجمعة فقد صرفت القرينة عن التناول وهو قوله: (وذروا البيع) فإنه يشعر بأن المخاطبين مباشروا البيع وهن لا يباشرنه عادة , ولأن الجمعة شرطها الجماعة وحضورهن الجماعات منهي عنه.

- مسألة: من الشرطية تشمل المؤنث

والثالث: أنه لو أوصى أحد لرجال ونساء بشيء ثم قال: وأوصيت لهم بكذا دخلت النساء في قوله لهم بغير قرينة توجب الدخول ولو لم يتناولهن حقيقة لم يدخلن بغير قرينة. وأجاب بمنع عدم القرينة فإن الإيصاء الأول قرينة تشعر بالدخول. وهذا فاسد لأن هذه المسألة فرع الأصل الممهد فلا يجوز الاستدلال به عليه والجواب مبني على هذا الفاسد والبناء على الفاسد فاسد. ص - مسألة: من الشرطية تشمل المؤنث عند الأكثر. لنا: أنه لو قال: من دخل داري فهو حر , عتقن بالدخول. ش - الألفاظ التي لا تختص بالذكور ولا يتميز المذكر فيها عن المؤنث بعلامة مثل من الشرطية تشمل المؤنث فلو قال: من دخل هذه الدار أو داري فهو حر , فدخلت الإماء عتقت. ص - مسألة: الخطاب ب " الناس " والمؤمنين ونحوهما يشمل العبيد عند الأكثر. وقال الرازي: إن كان الحق لله. لنا: أن العبيد من الناس والمؤمنين قطعا. فوجب دخوله. قالوا: ثبت صرف منافعه إلى سيده فلو خوطب بصرفها إلى غيره لتناقض. رد بأنه في غير تضايق العبادات , فلا تناقض. قالوا ثبت خروجه من خطاب

الجهاد والحج والجمعة وغيرها. قلنا بدليل كخروج المريض والمسافر. ش - الخطاب وإذا ورد بلفظ عام كالناس والمؤمنين يتناول العبيد عند الأكثر , وذهب الأقلون إلى خلافه. وقال أبو بكر الرازي إن كان ذلك مما ثبت " حق الله " شمله وإلا فلا. واحتج المصنف للأكثر بأن العبيد من الناس والمؤمنين قطعا وليس ما يخرجهم بموجود فوجب الدخول. واحتج القائلون بعدم الشمول بوجهين: أحدهما: أنه ثبت صرف منافع العبد إلى مهمات سيده بالإجماع فلو خوطب بصرفها إلى غيره تناقض. وأجاب بأنه ثبت ذلك في غير تضايق العبادات المأمور بها فلا تناقض لاختلاف الزمان فإن منافعه مصروفة إلى سيده في غير وقت تضايق العبادات وفي وقته إلى غيره. وفيه نظر لأن هذا جواب الرازي في التفصيل ولا يصلح جوابا للأكثر لأن دعواهم أعم. والثاني: أنه لو كان شاملا لهم لوجب عليهم الحج والجهاد والجمعة لوجود الموجب وهو الخطاب العام المتناول لهم والتالي باطل الإجماع. وأجاب بأن خروجهم عن خطاب هذه الأشياء بدليل خارجي كخروج

- مسألة: الخطاب العام الوارد بطريق النداء مثل: يا أيها الناس، يا عبادي، هل يشمل النبي- صلى الله عليه وسلم-

المريض والمسافر. وفيه نظر لأن الأصل عدمه فلا بد من بيانه بخلاف دليل المريض والمسافر في الرخص وغيرها فإنه معلوم ظاهر الدلالة أو قطعيها. ص - مسألة: مثل يا أيها الناس , يا عبادي , يشمل الرسول عند الأكثر وقال الحليمي إلا أن يكون معه: قل. لنا: ما تقدم. وأيضا فهموه لأنه إذا كان لم يفعل سألوه فيذكر موجب التخصيص. قالوا: لا يكون أمرا مأمورا , ومبلغا مبلغا بخطاب واحد. ولأن الأمر للأعلى ممن دونه. قلنا: الأمر الله والمبلغ جبريل. قالوا خص بأحكام كوجوب ركعتي الفجر والضحى والأضحى وتحريم الزكاة وإباحة النكاح بغير ولي ولا شهود ولا مهر وغيرها. قلنا كالمريض والمسافر وغيرهما ولم يخرجوا بذلك من العمومات. ش - الخطاب العام الوارد بطريق النداء مثل: يا أيها الناس , يا أيها الذين أمنوا , يا عبادي , يشمل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الأكثر. وقيل: لا يشمله. وقال: أبو عبد الله الحليمي من أصحاب الشافعي إن كان مصدرا بقل لم

يشمله كقوله - تعالى -: (قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم) وإن لم يكن شمله كقوله: (يأيها الناس اعبدوا ربكم). واحتج المصنف للأكثر بما تقدم أن الرسول من الناس ومن المؤمنين قطعا فيجب الدخول في العمومات المذكورة. وبأن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا الدخول فإنه - عليه السلام - إذا لم يفعله سالوه وذكر عليه السلام موجب التخصيص فلو لم يدخل لما فهموا إذ هم من أهل اللسان ولما عدل - عليه السلام - إلى بيان المخصص. واستدل القائلون بعدم الدخول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - آمر للأمة ومبلغ للأمر إليهم فلو دخل كان آمرا مأمورا مبلغا مبلغا بخطاب واحد وهو لا يجوز. وبأن الأمر طلب الأعلى فعلا ممن دونه فلو دخل لزم أن يكون هو أعلى من نفسه. وأجاب عنها بجواب واحد وهو أن الآمر هو الله - تعالى - والمبلغ جبريل فلم يلزم شيء مما ذكر. وفيه نظر لأن جبريل - عليه السلام - مبلغ إلى النبي وليس الكلام فيه إنما الكلام في المبلغ إلى الأمة وهو النبي قال الله - تعالى -: (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك).

وبأنه - عليه السلام - لو دخل في ذلك لزم الاشتراك بينه وبين الأمة في مقتضاها وهو ظاهر وليس كذلك لاختصاصه بأحكام كوجوب ركعتي الفجر والضحى والأضحى وتحريم الزكاة وإباحة النكاح بغير ولي

وشهود ولا مهر. وأجاب بأن اختصاصه ببعض إنما هو بدليل خاص كالمريض والمسافر وقد

- مسألة: المخاطب الوارد بلفظ المشافهة هل هو خطاب لغير الموجودين عنده؟

تقدم الكلام على ذلك. ص - مسألة: مثل يا أيها الناس ليس خطايا لمن بعدهم وإنما ثبت الحكم بدليل آخر من إجماع أو نص أو قياس. خلافا للحنابلة. لنا: القطع بأنه لا يقال للمعدومين يا أيها الناس. وأيضا إذا امتنع في الصبي والمجنون فالمعدوم أجدر. قالوا: لو لم يكن مخاطبا له لم يكن مرسلا إليه , والثانية اتفاق. وأجيب بأنه لا يتعين الخطاب الشفاهي بل لبعض شفاها ولبعض بنصب الأدلة بأن حكمهم حكم من شافههم. قالوا: الاحتجاج به دليل التعميم. قلنا: لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر جمعا بين الأدلة. ش - الخطاب الوارد بلفظ المشافهة مثل: يا أيها الناس , يا أيها الذين آمنوا ليس خطابا لغير الموجودين عنده , وإنما ثبت الحكم فيهم بدليل آخر نص أو إجماع أو قياس خلافا للحنابلة. وللأكثرين وجهان: الأول: أن القطع حاصل بأن المعدوم لا ينادى. ب يا أيها الناس , يا أيها الذين آمنوا.

والثاني: أنهم لو كانوا مخاطبين لكان الصبي والمجنون لكونهم موجودين أولى لكنهم ليسوا بمخاطبين فكذلك المعدومون. وفيه نظر لأن الخطاب أزلي ليس بزمان فلا فرق بين المعدوم والموجود بالنسبة إليه. واحتجت الحنابلة بوجهين:

- مسألة: هل المخاطب داخل في عموم متعلق خطابه؟

أحدهما: أنه لو لم يكن الرسول مخاطبا له زمن الخطاب لم يكن مرسلا إليه لأن المراد بالإرسال أن يخاطب المرسل إليه بأحكام الشرع وإذا لم يكن مخاطبا له لم يكن مرسلا إليه ولكن باطل بالإجماع. وأجاب بأن الإرسال لا يقتضي الخطاب الشفاهي بل الخطاب المطلق وهو أعم من الشفاه وغيره فيكون للحاضرين شفاها ولغيرهم بنصب الأدلة بأن يبين أن حكمهم كحكمهم. والثاني: أن الصحابة والتابعين احتجوا بمثل هذا الخطاب على ثبوت الأحكام التي هي مقتضاه على من لم يكن موجودا وقت الخطاب واحتجاجهم به دليل تعميم ذلك الخطاب للموجودين والمعدومين. وأجاب بأنهم علموا أن حكم المشافهة ثابت على من يوجد بعده بدليل آخر وأجمعوا على ذلك. لم يكن احتجاجهم بمجرد خطاب المشافهة والحمل على هذا أولى جمعا بين الأدلة. ص - مسألة: " المخاطب في عموم " متعلق خطابه عند الأكثر أمرا أو نهيا أو خبرا مثل: (وهو بكل شيء عليم) من أحسن إليك فأكرمه , أو فلا تهنه. قالوا:

يلزم (الله خلق كل شيء). قلنا خص العقل. ش - المتكلم يدخل في عموم متعلق خطابه سواء كان الخطاب أمرا. مثل: قوله لعبده: من أحسن إليك فأكرمه , أو نهيا نحو: فلا تهنه. أو خبرا كقوله - تعالى -: (والله بكل شيء عليم) فإن السيد إذا أحسن إلى العبد استحق الإكرام وعدم الإهانة. وفي قوله: (بكل شيء عليم) يكون بنفسه أيضا عليما. فإن مقتضى الدخول موجود , والمانع منتف فيتحقق الدخول. وفيه نظر لأن استحقاق الإكرام وعدم الإهانة في مثل ذلك متسبب عن الأمر والنهي واستحقاق المولى لها ثابت قبلها فلم لا يجوز أن يكون ذلك مانعا من الدخول. والقائلون بعدم الدخول احتجوا بأن المخاطب لو دخل في العموم لزم أن يكون البارئ خالقا لنفسه لقوله - تعالى -: (الله خلق كل شيء). أجاب بأن التناول

- مسألة: مثل: "خذ من أموالهم صدقة" لا يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من المال عند الأكثر

لغة ليس بمنتف بل خص عنه بدليل عقلي وهو امتناع حدوثه. ص - مسألة: (خد من أمولهم صدقة) لا يقتضي أخد الصدقة " من كل نوع , خلافا " للأكثر. لنا: أنه بصدقة واحدة يصدق أنه أخد منه صدقة فيلزم الامتثال. وأيضا: فإن كل دينار مال " ولا يجب بالإجماع. قالوا المعنى من كل مال فيجب العموم. قلنا: كل " التفضيل " ولذلك فرق بين: للرجال عندي درهم , وبين: لكل رجل عندي درهم باتفاق. ش - ذهب الكرخي إلى أن مثل قوله - تعالى -: (خذ من أموالهم صدقة) لا يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من المال بل إنما هو لبيان " وجود " الأخذ وما عدا ذلك فبدليل غيره. وذهب أكثر الأصوليين إلى أنه يقتضي أخذها من كل نوع منه.

- مسألة: العام بمعنى المدح والذم هل هو عام؟

والمصنف اختار مذهب الكرخي واحتج عليه بوجهين: أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - يكون ممتثلا بأخذ صدقة واحدة من مال أي مال كان لأنها نكرة وقعت في الإثبات ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون من للتبعيض أو الابتداء ولا بين أن يكون متعلقا بخذ أو بصدقة. ولقائل أن يقول مقتضى الآية وجوب الاقتصار على نوع من المال لأنه لما جمع المال وقال: (من أموالهم) ونكر الصدقة مفردة كان معناه خذ من أنواع المال صدقة نوعا واحدا من الصدقة أو شيئا قليلا وهو يتحقق بصدقة واحدة وعلى هذا يكون أخص من المدعى فلا يصلح دليلا. والثاني: أنه لو اقتضى الآية الأخذ من كل نوع من أموالهم لوجب أخذ الصدقة من كل دينار من أموالهم وليس كذلك بالاتفاق. وفيه نظر لأنه على ذلك التقدير يلزم أخذها من نوع الدينار لا من كل فرد. سلمنا ولكنها في حق المقدار مجمل ثبتت بدليل عين النصاب. وقال الأكثرون معنى الآية خذ من كل مال لهم لأن الجمع المضاف من ألفاظ العموم فالامتثال إنما يحصل بأخذ صدقة من كل نوع من أموالهم. وأجاب بمنع أن يكون معناه معنى كل لأن معنى كل التفصيل دون الجمع المضاف ولذلك فرق بين قول الرجل: للرجال عندي درهم. وقوله: لكل رجل عندي درهم فإن الأول يقتضي اشتراكهم في درهم دون الثاني. والحق ما ذكرنا من الإجمال. ص - مسألة: العام بمعنى المدح والذم مثل: (إن الأبرار) و (إن الفجار) (والذين يكنزون). عام وعن الشافعي خلافه. لنا: عام , ولا منافي فعم كغيره.

قالوا: سيق لقصد المبالغة في الحث أو الزجر , فلا يلزم التعميم. قلنا: التعميم أبلغ. وأيضا لا تنافي بينهما. ش - العام إذا ورد في محل المدح أو الذم كقوله - تعالى -: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفى جحيم). وقوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) يفيد العموم. وقد نقل عن الشافعي - رحمه الله - خلافه. والدليل للأول أن المقتضي وهو العام موجود والمانع منتف إذ المدح والذم لا يمنعان العموم فكان عاما كغيره. وقالت الشافعية: إن مثل هذه الصيغة ليس لقصد التعميم بل لقصد المبالغة في الحث على ما يمدح والزجر عما يذم فلا يلزم التعميم وهذا يمكن أن يكون منعا للمقتضى لأن لإرادة المتكلم مدخلا في الدلالة فإذا لم يقصد العموم لم يحصل , وأن يكون تحقيقا للمانع فإن المقتضي هو اللفظ العام ولكن إرادة الحث والزجر تكون مانعا عن ترتيب المقتضى عليه. وأجاب بجوابين:

التخصيص

أحدهما: أن في التعميم الحث والزجر أبلغ منه بدونهما فقد يقوى المقتضى لا أنه انتفى. والثاني: أنه إنما يجوز أن يكون مانعا إذا كان بينهما منافاة ولا منافاة بين المبالغة في الحث والزجر وبين التعميم فلا يصلح أن يكون مانعا. ص - التخصيص: قصر العام على بعض مسمياته. أبو الحسين: إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه. وأراد ما يتناوله بتقدير عدم المخصص كقولهم: خصص العام. وقيل: تعريف أن العموم للخصوص. وأورد الدور. وأجيب بأن المراد في الحد التخصيص اللغوي. ويطلق التخصيص على قصر اللفظ , وإن لم يكن عاما كما يطلق عليه عام لتعدده كعشرة والمسلمين المعهودين , وضمائر الجمع. ولا يستقيم تخصيص إلا فيما يستقيم توكيده بكل. ش - لما فرغ من العام وأحكامه عرف التخصيص بأنه قصر العام على بعض مسمياته. أي بعض أجزائه فإن مسماه واحد وهو: جميع ما يصلح اللفظ له لكن له أجزاء. وفيه نظر لأنه استعمل في التعريف المجاز.

وعرفه أبو الحسين: بأنه إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه. أي عن الخطاب. وقال المصنف وأراد ما تناوله بتقدير عدم المخصص , وإنما قال ذلك لدفع ما يتوهم من عدم الاستقامة إذ الخطاب غير متناول لذلك البعض على تقدير وجود المخصص كقولهم خصص العام فإن معناه أخرج بعض ما يتناوله البعض على تقدير عدم المخصص. وفيه نظر فإنه يدل على أنه بعد التخصيص غير متناول , والواقع كذلك وإلا لكان ما فرضناه مخصصا لم يكن مخصصا إذ المراد بالتخصيص إخراجه عن التناول وذلك خلف باطل وإذا كان كذلك تعين أن يكون المراد بقوله: يتناوله العام قبل وجود المخصص ولا حاجة إلى التقدير. وقيل في تعرفه: إن العموم للخصوص أي تعريف السامع بأن العموم المفهوم من اللفظ العام ليس بمراد بل هو مسوق للخصوص. وفيه نظر لأنه مخل في تقديره ولأنه يفيد أن قصد المتكلم بالتخصيص أولا تعريف المخاطب , وليس كذلك بل بيان جزئية الحكم. وأورد عليه أيضا أنه دوري لأنه أخذ الخصوص في تعريف التخصيص وهما عبارتان عن معبر واحد , فتعريف أحدهما بالآخر دور. وأجيب بما هو المشهور في مثله أن المراد تعريف المصطلح " باللغوي ". وقوله: ويطلق التخصيص - كأنه إشارة إلى الجواب عما يرد على التعريف الأول بأن التخصيص موجود فيما لا عام فيه فلا يكون منعكسا وذلك كـ " عشرة "

- مسألة: اختلف الناس في جواز التخصيص

و " المسلمين " للمعهودين , وضمائر الجمع , وأشار إلى وجه الإطلاق بقوله: لتعدده فكأن إطلاقه على ذلك لمجوز فيكون مجازا. واعترض عليه بأن إيراد ضمائر الجمع من ذلك ليس بجيد لأن عمومها تابع لعموم مظهرها فيجوز أن يكون المظهر عاما فيتبعه المضمر فإن احتياج دلالته على معناه إلى تقدم الذكر لا ينفي عمومه إذا كان المتبوع عاما والتخصيص لا يستقيم إلا فيما يستقيم توكيده بكل. يعني ما يصح افتراقه حسا كالرجال أو حكما كقولك اشتريت الجارية لأنه لا بد من أفراد يصح قصر بعضها وهي إما أن تكون حسية أو حكمية. ص - مسألة: التخصيص جائز إلا عند شذوذ. ش - اختلف الناس في جواز التخصيص فذهب الأكثرون إلى جوازه. وطائفة شاذة إلى عدمه.

حجة المجوزين أنه واقع في قوله - تعالى -: (والله على كل شيء قدير) والوقوع دليل الجواز. وهو مبني على جوازه بالعقل وسيأتي الكلام فيه. وحجة المانعين أنه في الخبر يوجب الكذب , وفي الأمر والنهي البداء لأن الإخبار عن العام يوجب وقوع الحكم عن الجميع والتخصيص يكذبه في البعض. والأمر والنهي يرجحان امتثال مجموعهم وانتهاءهم؟ والتخصيص يوجبهما لبعضهم فكان بداء. ويجاب بأن التخصيص إن كان للإخراج لزم ذلك ولما كان لبيان أن المخصوص لم يدخل لم يكن كذبا ولا بداء. ص - مسألة: الأكثر: أنه لا بد في التخصيص من بقاء جمع يقرب من مدلوله. وقيل: يكفي ثلاثة. " وقيل: اثنان " وقيل: واحد. والمختار أنه بالاستثناء والبدل يجوز إلى واحد. وبالمتصل كالصفة يجوز إلى اثنين , وبالمنفصل في المحصور القليل يجوز إلى اثنين مثل: قتلت كل زنديق - وقد قتل اثنين وهم ثلاثة. وبالمنفصل غير المحصور أو العدد الكثير , المذهب الأول. لنا: أنه لو قال: قتلت كل من في المدينة. وقد قتل ثلاثة عد لاغيا وكذلك: أكلت كل رمانة. وكذلك لو قال: من دخل أو أكل. وفسره بثلاثة. القائل باثنين وثلاثة , ما قيل في الجمع. ورد بأن الجمع ليس بعام. القائل بالواحد , أكرم الناس إلا الجهال. وأجيب بأنه مخصوص بالاستثناء ونحوه قالوا: (وإنا له لحافظون) وليس محل النزاع قالوا: لو امتنع ذلك لكان لتخصيصه وذلك يمنع الجميع. وأجيب بأن الممتنع تخصيص خاص بما تقدم. قالوا: (الذين قال لهم الناس) وأريد نعيم بن مسعود , ولم يعد مستهجنا للقرينة. قلنا:

- مسألة: اختلف مجوزوه فيما ينتهي إليه الخصوص

الناس للمعهود فلا عموم. قالوا: صح أكلت الخبز وشربت الماء , " لأقل ". قلنا: ذلك للبعض المطابق للمعهود الذهني مثله في المعهود الوجودي فليس من العموم والخصوص في شيء. ش - اختلف مجوزوه فيما ينتهي إليه الخصوص فالأكثر أنه لا بد فيه من بقاء جمع يقرب من مدلول العام وأرادوا بالقريب ما هو أكثر من نصفه. وقيل: يكفي أن يكون الباقي ثلاثة. وقيل: اثنين. وقيل: واحداً.

ومختار المصنف أن التخصيص إن كان بمتصل كالاستثناء نحو: أكرم الناس إلا الجهال , أو البدل نحو أكرم الناس العالم. جاز إلى الواحد. وإن كان بمتصل كالصفة نحو: أكرم الناس العلماء , أو الشرط نحو: إن كانوا عالمين - يجوز إلى اثنين. وأن التخصيص إن كان بمنفصل في عام محصور قليل يجوز إلى اثنين مثل: قتلت كل زنديق , وكانوا ثلاثة , وقد قتل منهم اثنين. وإن كان في عام غير محصور مثل: قتلت كل من في المدينة أو محصور ولكنه عدد كثير مثل: أكلت كل رمانة , وكان ألفا. فالمذهب الأول يعني ما إذا كان الباقي قريبا من مدلول العام. واعلم أن عبارته غير مناسب لاختصار هذا المختصر. والمناسب أن يقول: وبالمتصل كالصفة وبالمنفصل كالقليل يجوز إلى اثنين لأن القليل محصور لا محالة. ويكفي فيها جميعا يجوز إلى اثنين من غير تكرار. فتأمل. واحتج على ما اختاره من أنه لا بد في العام المحصور القليل من بقاء عدد يقرب من مدلول العام سواء كان العام من أسماء الشرط نحو: من دخل داري فأكرمه أو من غيرها وكان غير محصور نحو: قتلت كل من في المدينة أو محصورا كثيرا مثل: أكلت كل رمانة , وكان ألفا. بقوله: لنا أنه لو قال: قتلت كل من في المدينة. وقد قتل ثلاثة. عد لاغيا. وكذا لو قال: من دخل داري أو أكل وفسره بثلاثة واللغو باطل بالاتفاق , فما أفضى إليه وهو التخصيص في الأمثلة المذكورة كذلك.

والذين قالوا بجواز التخصيص إلى اثنين وثلاثة استدلوا بما قيل في الجمع من أن ألقه اثنان ومن أن ألقه ثلاثة. وأجاب بأن الدلائل المذكورة لا تقتضي إلا أن الاثنين أو الثلاثة جمع وليس كل جمع عاما حتى يصح إطلاق العام على ما صح إطلاق الجمع عليه. وفيه نظر لأن بقاء العموم بعد التخصيص غير مشروط بالاتفاق وبالضرورة وإلا لما صح إطلاق التخصيص إذ الاستغراق شرط شرط فلم يبق بعد ذلك إلا اعتبار ما هو مناسب للعموم فاعتبر بقاء الاثنين أو الثلاثة لمناسبة التعدد وليس في الواحد ذلك فلم يعتبر ولأنه يجوز أن يكون مذهب هذا القائل أن شرط العموم الجمعية لا الاستغراق فيعود النزاع لفظيا. وأما القائلون بجوازه إلى الواحد فقد احتجوا بخمسة أوجه: الأول: جوازه لغة فيما لو قال لعبده: أكرم الناس إلا الجهال ولم يكن فيهم عالم سوى واحد فإنه لم يستقبح ولو لم يصح لاستقبح. وأجاب بأن هذا مخصص بالاستثناء. وليس النزاع فيه ولا يلزم منه صحته في غيره. الثاني: قوله - تعالى -: (إنا نزلنا الذكر وإنا له لحفظون) أطلق " إنا " وأراد نفسه فدل على صحة إطلاق الجمع على الواحد. وأجاب بأنه ليس " محل " فإن الكلام فيما بعد التخصيص.

الثالث: أنه لو كان ممتنعا لكان امتناعه لأجل التخصيص إذ لا مانع غيره فينتفي التخصيص مطلقا. وأجاب بأن الامتناع لمر خاص وهو التخصيص إلى الواحد فإن الممتنع هو ذلك الخاص. وفيه نظر لأنا نسلم أن المدعي ذلك لكن الكلام في علة امتناعه فإن كانت مطلق التخصيص جاء الإلزام وإن كانت التخصيص إلى الواحد فهو المعلول فلا يجوز أن يكون علة الامتناع. الرابع: قوله - تعالى -: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) أطلق الناس الذي هو من ألفاظ العموم وأراد واحدا وهو نعيم بن مسعود فكان إطلاق الجمع على الواحد جائزا. وفيه نظر لأن محل النزاع ما بعد الخصوص. وأجاب بأنا لا نسلم أن الناس عام بل المراد به المعهود ولا عموم فيه. الخامس: أنه صح أكلت الخبز وشربت الماء لا كل مأكول ومشروب والخبز والماء عامان للأم الاستغراق حيث لا معهود فذل على إطلاق العام على الواحد. وأجاب بأن اللام فيهما للمعهود الذهني وهو ماهية الخبز والماء من حيث هي إلا أنه لما تعذر تحقق الماهية في الخارج غير مخلوط حمل على المفرد لضرورة الوجود فالمراد البعض المطابق للمعهود الذهني مثل ما يكون في المعهود الوجودي

- المخصص متصل ومنفصل

لاشتراكهما في عدم الاستغراق. وإذا كان المراد المعهود الذهني لا يكون من العموم والخصوص في شيء. وفيه نظر لأن تمحله غير خاف على أن البعض إما أن يكون مطابقا بعد التجريد فهو عينها أو قبله فلا مطابقة. والأولى أن يقال ليس ذلك بعد التخصيص والكلام فيه. ولا غرو أن يكون قوله: من العموم والخصوص في شيء إشارة إلى ذلك وإلا لكان قوله: فليس من العموم في شيء كافيا في الجواب فتأمل. ص - المخصص متصل ومنفصل. المتصل: الاستثناء المتصل , والشرط والصفة والغاية , وبدل البعض. والاستثناء في المنقطع , قيل: حقيقة. وقيل: مجاز. وعلى الحقيقة قيل: متواطئ. وقيل: مشترك. ولا بد لصحته من مخالفة في نفي الحكم , أو في أن المستثنى حكم أخر , له مخالفة " توجبه ". مثل: ما زاد إلا ما نقص. ولأن المتصل أظهر , لم يحمله فقهاء الأمصار على المنقطع , إلا عند تعذره. ومن ثم قالوا في: له عندي مائة درهم إلا ثوبا , وشبهه: إلا قيمة ثوب. ش - المخصص في اللافظ حقيقة. وفي اللفظ الدال على إرادة اللافظ مجاز

متعارف. وهو على المعنى المجازي ينقسم إلى متصل ومنفصل. والمتصل أربعة أشياء الاستثناء المتصل , والشرط , والصفة , والغاية , وزاد المصنف قسما آخر وهو بدل البعض من الكل لأنه إخراج بعض أجزاء ما يتناوله اللفظ.

ورد بأن المبدل منه في حكم المنحى. وقد أقيم البدل مقامه فلا يكون مخصصا. والجواب: أن كونه في حكم المنحى هو كونه مخصوصا منه. واختلفوا في الاستثناء المنقطع. فقيل إطلاقة عليه: حقيق. وقيل: مجاز. واختلف القائلون بالحقيقة فقيل متواطئ موضوع للقدر المشترك بين المتصل والمنقطع. وقيل مشترك لفظي. احتج من قال بالمجاز بأن المتصل هو الذي يسبق إلى الفهم وذلك علامة الحقيقة. ومن قال بالتواطئ بأن الاستثناء ينقسم إليهما ومورد القسمة مشترك فكان متواطئا. ومن قال بالاشتراك اللفظي بأنه مستعمل فيهما وفي المتصل الإخراج وفي المنقطع المخالفة فلا مشترك بينهما من حيث المعنى. والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون مشتركا بينهما لفظا. وفيه نظر لأن المتصل يسبق إلى الفهم ولو كان لتردد الذهن. وفي ذلك رد للمذهبين جميعاً.

- حد الاستثناء

ولا بد في المنقطع من مخالفة المستثنى للمستثنى منه في نفي الحكم أو في أن للمستثنى حكما آخر له مخالفة مع المستثنى منه. مثال الأول - جاءني القوم إلا حمارا. ومثال الثاني - ما زاد إلا ما نقص. وما نفع إلا ما ضر. فإن ما الأولى نافية , والثانية مصدرية. وفاعل زاد ونقص مضمر ومفعولهما محذوف والتقدير ما زاد فلان إلا نقصا. وما نفع فلان إلا مضرة. فالمستثنى وهو النقصان والمضرة حكم مخالف للمستثنى منه. ولما كان إطلاق المستثنى على المتصل أظهر وأقوى لكونه حقيقة لم يحمل فقهاء الأمصار الاستثناء على المنقطع ما لم يتعذر حمله على المتصل ولأجل ذلك قالوا: لو كان له عندي مائة درهم إلا ثوبا وشبهه. معناه إلا قيمة ثوب احتيالا للاتصال. ص - وأما حده , فعلى التواطؤ: ما دل على مخالفة بإلا , غير الصفة وأخواتها وعلى الاشتراك أو المجاز لا يجتمعان في حد. فيقال في المنقطع: ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة وأخواتها من غير إخراج. وأما المتصل فقال الغزالي: قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول. وأورد على طرده التخصيص بالشرط والوصف بالذي والغاية ومثل: قام القوم ولم يقم زيد. ولا يرد الأولان.

وعلى عكسه: جاء القوم إلا زيدا. فإنه ليس بذي صيغ. وقيل: لفظ متصل بجملة , لا يستقل بنفسه , دال على أن مدلوله غير مراد بما اتصل به , ليس بشرط ولا صفة ولا غاية. وأورد على طرده: قام القوم ازيد. وعلى عكسه: ما جاء إلا زيد. فإنه لم يتصل بجملة وأن مدلول كل استثناء متصل مراد الأول. والاحتراز من الشرط والصفة وهم. والأولى: إخراج بإلا وأخواتها. ش - في كلامه تسامح. والصحيح أن يقول: وأما حده على التواطئ فما دل على مخالفة بإلا غير الصفة وأخواتها نحو: ليس , ولا يكون , وخلا , وعدا , وحاشا , وما خلا , وما عدا , وسوى , وغير. واحترز بقوله: - إلا وأخواتها - عما دل على مخالفة لا بها نحو: جاءني القوم ولم يجئ زيد , وقام زيد لا عمرو. وإنما قيد بأن يكون إلا غير الصفة احترازا عن إلا التي هي لمعنى الصفة: وهي ما كانت تابعة لجمع متكرر غير محصور نحو قوله - تعالى -: (لو كان فيهما ءالهة إلا الله) فإن المستثنى فيه يوصف ليس مما نحن فيه. وأما على قول من يقول بالاشتراك أو المجاز فلا يمكن الجمع بين المتصل

والمنقطع في حد واحد من حيث المعنى لاختلاف حقائقهما فيحد كل على حدة. فيقال في المنقطع: ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة من غير إخراج. وفائدة القيود ظاهرة. وقوله: " من غير إخراج " لإخراج المتصل. وأما المتصل فقد حده الغزالي: بأنه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول. وأراد بالقول الكلمات , دل على ذلك قوله: " ذو صيغ " فإن الصيغ لا تكون لكلمة واحدة. واحترز به عن التخصيص بالفعل والعقل وقرينة الحال. وقوله: " مخصوصة " احترز به عن كلمات لا يكون لها تلك الصيغ والمراد بالصيغ المخصوصة أدوات الاستثناء. والمحصورة هي المعدودة القليلة. وقوله: " دال " إشارة إلى غاية أدوات الاستثناء. هذا ما قيل في بيانه. وفيه نظر لأنه إما أن يكون هذا تعريف الاستثناء أو تعريف أدواته. لا سبيل إلى الثاني لكونه غير مراد في هذا الموضع ولا إلى الأول لأنه ليس كلمات بل هو معنى قائم بالمتكلم والكلمات أدواته. وقد أورد عليه بحسب الطرد التخصيص بالشرط كقولك: أكرم الناس إن كانوا عالمين , وبالوصف بالموصولات , وبالغاية، ومثل: قلم القوم ولم يقم زيد لأن هذه

الألفاظ صيغ مخصوصة محصورة دالة على أن ما يذكر بعدها غير مراد من الألفاظ السابقة. وإنما قيد الوصف بالذي لأن الوصف بغيره لا يدخل تحت الحد لأنه لم يذكر بعده شيء بخلاف الوصف بالذي فإنه يذكر بعده الصلة. والمصنف منع ورود الأولين أعني التخصيص بالشرط والوصف لأنهما لا يدلان على أن المذكور بهما لم يرد بالقول السابق , وإنما يدلان على أن المراد بالقول الأول هو المذكور بعدهما. وأورد على عكسه مثل: جاء القوم إلا زيدا. فإنه ليس بذي صيغ مع أنه استثناء. وقيل في تعريف المتصل: إنه لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه دال على أن مدلوله غير مراد بما اتصل به ليس بشرط , ولا صفة , ولا غاية. فقوله: " لفظ " احترز عن التخصيص بالفعل والعقل وقرينة الحال. وقوله: " متصل بجملة " لإخراج المخصصات المنفصلة. وقوله: " لا يستقل بنفسه " لإخراج مثل: قام القوم ولم يقم زيد. فإن قولنا ولم يقم لفظ متصل بجملة ولكن يستقل بنفسه. وفيه نظر فإن قوله: ولم يقم بحرف العطف ليس بمستقل بنفسه. وإن ترك العاطف فات الاتصال. وقوله: " دال " احتراز عن المهملات. وقوله: " على أن مدلوله غير مراد " يعني أن مدلول المستثنى غير مراد بما اتصل به الاستثناء لإخراج التأكيد في نحو: جاء القوم كلهم. وقوله: " ليس بشرط ولا صفة ولا غاية " احتراز عنها.

- مسألة: اختلف العلماء في تقدير الدلالة في الاستثناء على ما هو المقصود؟

وأورد على طرده. جاء القوم لا زيد. فإنه يصدق عليه التعريف فإنه لم يتصل بجملة. وأن مدلول كل استثناء متصل مراد بالأول. وأن الاحتراز عن الصفة والشرط وهم , لخروجهما بقوله: " غير مراد " فلم يحتج إلى ذكرهما. ثم قال المصنف: والأولى أن يقال في تعريفه: إنه إخراج بإلا أو إحدى أخواتها. وفيه نظر لأنه لبيان أنه لم يدخل لا للإخراج. ص - وقد اختلف في تقدير الدلالة في الاستثناء فالأكثر: المراد ب " عشرة " في قولك: عشرة إلا ثلاثة سبعة. و " إلا " قرينة لذلك , كالتخصيص بغيره. وقال القاضي: عشرة إلا ثلاثة بإزاء سبعة , كاسمين مركب ومفرد. وقيل: المراد: ب " عشرة ": عشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة. والإسناد بعد الإخراج , فلم يسند إلا إلى سبعة. وهو الصحيح. لنا: أن الأول غير مستقيم للقطع بأن من قال: اشتريت الجارية إلا نصفها ونحوه لم يرد استثناء نصفها من نصفها , لأنه كان يتسلسل " ولا " نقطع بأن الضمير " الجارية " بكمالها. ولإجماع العربية على أنه إخراج بعض من كل. ولإبطال النصوص. وللعلم بأنا نسقط الخارج. فيعلم أن المسند إليه ما بقي. والثاني كذلك للعلم بأنه خارج عن قانون اللغة إذ لا تركيب من ثلاثة ولا يعرب الأول وهو غير مضاف. ولامتناع إعادة الضمير على جزء الاسم في " إلا نصفها " ولإجماع العربية إلى أخره. ش - واختلف العلماء في تقدير الدلالة في الاستثناء على ما هو المقصود؟

فذهب الأكثر إلى أن الاستثناء بين أن مراد المتكلم بالمستثنى منه ما بقي. فالمراد ب " عشرة " , في قولك: عشرة إلا ثلاثة: سبعة , و " إلا " قرينة مبينة لذلك كالتخصيص بغير الاستثناء فإن المخصص فيه قرينة مبينة لمراد المتكلم بالعام. وقال القاضي أبو بكر المستثنى والمستثنى منه وآلة الاستثناء جميعا موضوع لمعنى واحد وهو ما يفهم أخرا كأن العرب وضعت بإزاء سبعة اسمين , مفردا ومركبا. فالمركب: عشرة إلا ثلاثة والمفرد , سبعة. وقيل: المراد بالمستثنى منه الجميع باعتبار الأفراد من غير حكم بالإسناد. ثم خرج منه المستثنى , وحكم بالإسناد بعد إخراج المستثنى من المستثنى منه. فلم يسند إلا إلى ما بقي بعد اللإخراج. فعلم أن المسند إليه سبعة. وهذا هو الصحيح عند المصنف. وفيه نظر: " لا " يلزم أن لا يكون جاءني القوم في جاءني القوم إلا زيداً.

جملة إلا بعد الاستثناء وليس كذلك. ولأن إخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الإسناد. ثم الإسناد بعد الإخراج إما أن يكون فعل المتكلم أو فعل غيره والثاني باطل لا محالة , والأول كذلك لأنا نعلم قطعا أن ذلك لم يخطر ببال أحد من النحوين والعلماء عند المتكلم بالاستثناء فضلا عن العوام فما ذلك إلا متعسفا بتعسف عظيم. احتج المصنف على سقم المذهب الأول بأوجه منها: أنه لو كان المراد بالمستثنى منه هو الباقي بعد الاستثناء لزم أن يكون المراد استثناء نصف الجارية من نصفها إذا قيل: اشتريت الجارية إلا نصفها. إذ المراد بالمستثنى منه هو الباقي بعد الاستثناء فكأن المراد بالجارية نصفها وقد استثنى عنه النصف فيلزم استثناء نصفها من نصفها لكنا نقطع بأن من قال ذلك لم يرد استثناء النصف من النصف. وفيه نظر لأن مراد الجمهور أن المراد بالمستثنى منه بعد الاستثناء ما بقي لا قبله وليس مرادهم أن ما بقي هو المستثنى منه وبهذه النكتة تندفع الأوجه التي اعترض بها المصنف عليهم فتأملها تصب. ومنها أنه لو كان مراد المتكلم بالمستثنى منها ما بقي بعد الاستثناء لزم التسلسل واللازم باطل. وبيان الملازمة أن المراد بالجارية مثلا إذا كان نصفها وقد أخرج الاستثناء من المستثنى منه نصفه فيكون نصف النصف مخرجا بالاستثناء فيكون المراد بالنصف الذي هو المستثنى منه نصف النصف لأنه الباقي بعد استثناء النصف وقد أخرج عن المستثنى منه الذي هو نصف النصف.

وفيه نظر آخر وهو أن التسلسل على تقدير وجوده ممتنع لأنه في الأمور الاعتبارية. ومنها أنه لو كان المراد بالمستثنى منه الباقي بعد الاستثناء لزم رجوع ضمير نصفها إلى النصف لأنه هو المراد , لكنه الجارية بلا خلاف. وفيه نظر لأن الضمير راجع إلى الجارية حالة الاستثناء والمراد بها النصف بعده وهذا يذكر للثلاثة المذكورة أولا. ومنها أنه لو كان كذلك لم يكن الاستثناء في قولنا: اشتريت الجارية إلا نصفها إخراج بعض من كل وهو ظاهر لكن أهل العربية أجمعوا على أنه إخراج بعض. والثلاثة جارية. ومنها أنه لو كان كذلك بطل النصوص لأن العشرة نص في مدلولها فلو أريد بها سبعة بطل النص لكن بطلانها باطل بالاتفاق. وفيه نظر لأن ذلك ليس ببطلان بل هو استعمال مطنب في موضوع موجب على ما ستعرف. سلمناه. لكن بطلانه لا يجوز مطلقا أو إذا لم يقع مستثنى منه. والأول ممنوع , والثاني يحصل به المطلوب. ومنها أنا نعلم قطعا أنا نسقط الخارج يعني المستثنى من المستثنى منه فيعلم بعد إسقاطه أن المسند إليه ما بقي بعد الاستثناء فلو كان المراد بالمستثنى منه هو الباقي لم يكن الإسقاط موجبا للعلم بكون الباقي مسندا إليه لأن إسقاط الخارج متوقف على حصوله وإذا كان المستثنى منه هو الباقي لم يحصل خارج. ولقائل أن يقول ذلك نهج متعسف لا يسلك كما تقدم على أن كل ذلك مغالطة إذا طبقت النكتة المذكورة عليها عرفت على أن عباراته كلها إيجاز مخل لا يفيد إلا بطريق الإلغاز. واحتج على سقم المذهب الثاني أيضا بأوجه الأول: بأنا نعلم قطعا أنه

خروج عن قانون اللغة إذ لم يعهد وضع مركب من كلمات أولها معرب وهو غير مضاف وهذا يفضي إلى ذلك. ولقائل أن يقول: المراد بالمركب المطنب وبالمفرد الموجز وإنكار وجود ذلك في كلام العرب لقصور الباع في علم البلاغة. الثاني: أنه لو كان كذلك كان الضمير في " نصفها " لجزء الاسم وهو باطل لا محالة. وفيه نظر فإنه يجوز أن يسمى شخص بضرب زيد غلامه , والمنازع مكابر. الثالث: أنه لو كان كذلك لما كان الاستثناء المتصل إخراجا وهو خلاف إجماع أهل العربية. وفيه نظر لأن مذهب الخصم أن الاستثناء لبيان أنه لم يدخل لا للإخراج والإجماع معارض بإجماع آخر لأهل العربية أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا. ص - قال الأولون: لا يستقيم أن يراد عشرة بكمالها , للعلم بأنه ما أقر إلا بسبعة فيتعين. وأجيب بأن الحكم بالإقرار باعتبار الإسناد ولم يسند إلا بعد الإخراج. قالوا: لو كان المراد عشرة امتنع من الصادق مثل قوله: (إلا خمسين عاما). وأجيب بما تقدم. القاضي: إذا بطل أن بكون عشرة وبطل أن يكون سبعة تعين أن يكون الجميع لسبعة. وأجيب بما تقدم فتبين أن الاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص. وعلى الأكثر تخصيص وعلى المختار محتمل.

ش - القائلون بالمذهب الأول احتجوا بوجهين: أحدهما: أنه لو قال: له علي عشرة إلا ثلاثة لم يستقم أن يراد بعشرة بكمالها للعلم القطعي بأنه ما أقر إلا بسبعة فتعين أن يكون المراد بها سبعة. وأجاب المصنف بأن الحكم بالإقرار باعتبار الاسناد لا باعتبار العشرة فكان المراد العشرة بكمالها وأخرج منها ثلاثة قبل الإسناد ثم أسند بعد الإخراج الحكم إلى الباقي. وفيه نظر لما عرفت ما فيها من التمحل الذي لا مزيد عليه ولكن الجواب أن يقال الإقرار يثبت لمجموع الكلام ويفيد سبعة كسبعة. الثاني: أنه لو كان كذلك لزم الكذب في كلام الصادق في مثل قوله - تعالى -: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) إذ المراد حينئذ تمام الألف فإذا نقص خمسون كان الأول كذبا. وأجاب بأن الصدق والكذب إنما يعتبر بالنسبة إلى الاسناد والاسناد بعد الإخراج فلم يلزم كذب. وفيه نظر لما عرفت أنه من باب بناء الفاسد على الفاسد. وإنما الجواب ما ذكرنا أن المجموع مستعمل موضع تسعمائة وخمسين عاما. واحتج القاضي بأنه إذا بطل أن تكون العشرة بكمالها مرادة , وبطل أن تكون

السبعة مرادة بها تعيين أن يكون الجميع لسبعة. وأجاب بأنا لا نسلم أبطال المذهب المختار لما تقدم من الدلائل على صحتها. وفيه نظر لما تبين فساد تلك الدلائل كلها فإذا علمت ما ذكر تبين لك أن الاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص إذ لا إخراج فإنه لبيان أنه لم يدخل كما مر , وعلى مذهب الأكثر تخصيص لأنه إخراج بعض ما تناوله اللفظ , وقصر اللفظ على بعض مسماه. وعلى ما اختاره يحتمل أن يكون تخصيصا نظرا إلى أنه بعد الإسناد قد قصر لفظ المستثنى منه على بعض مسماه. ويحتمل أن لا يكون نظرا إلى أنه أريد بالمستثنى منه تمام مسماه. ص - مسألة: شرط الاستثناء الاتصال لفظا أو ما في حكمه , كقطعه لتنفس أو سعال , ونحوه. وعن ابن عباس يصح وإن طال شهرا. وقيل: يجوز بالنية كغيره. وحمل عليه مذهب ابن عباس لقربه. وقيل: يصح

- مسألة: شرط صحة الاستثناء الاتصال

في القرآن خاصة. لنا: لو صح لم يقل - صلى الله عليه وسلم -: " فليكفر عن يمينه " معينا لأن الاستثناء أسهل. ولبطل جميع الإقرار والطلاق والعتق وأيضا فإنه يؤدي إلى أن لا يعلم صدق ولا كذب. قالوا: قال - صلى الله عليه وسلم -: " والله لأغزون قريشا ثم سكت وقال: بعده إن شاء الله ". قلنا يحمل على السكوت لعارض كما تقدم. قالوا: " مسألة اليهود عن لبث أهل الكهف فقال: " غدا أجيبكم. فتأخر الوحي بضعة عشرة يوما ثم نزل: (ولا تقولن لشيء) فقال: إن شاء الله ". قلنا: يحمل على أفعل إن شاء الله. وقول ابن عباس متأول بما تقدم أو بمعنى المأمور به. ش - شرط صحة الاستثناء الاتصال لفظا أو حكما عند عامة العلماء والمراد بالحكمي ما وجد فيه الفصل لضرورة لتنفس وسعال وعطاس ونحوها.

ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما جواز الفصل بشهر. وقيل: يجوز الفصل بالنية أي مع إضمار الاستثناء متصلا بالمستثنى منه كغير الاستثناء وهو التخصيص بالأدلة المنفصلة. وحمل ما نقل عن ابن عباس على هذا " القربة " من الصواب. وقيل: يصح ذلك في القرآن فقط بناء على أنه كلام أزلي والفصل الخطابي لا يحل بالأزلي. ورد بأن الكلام في العبارات التي وصلت إلينا لا الكلام الأزلي. واحتج المصنف بأمور: الأول: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها " فليكفر يمينه " ويأت الذي هو خير " يمين الكفارة للتخليص عن اليمين دون الاستثناء المنفصل. ولو جاز لعينه لرأفته على أمته.

الثاني: أنه لو جاز ذلك لما ثبت إقرار ولا طلاق ولا عتاق. الثالث: أنه لو جاز لم يعلم صدق خبر ولا كذبه أصلا والملازمات ظاهرة واللوازم باطلة. واحتج المجوزون أيضا بوجوه منها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " والله لأغزون قريشا. وسكت. ثم قال بعد زمان: إن شاء الله " وأجاب بأنه يحمل على السكوت لعارض وهو متصل حكماً.

ومنها أن اليهود سألوه عن مدة لبث أهل الكهف. فقال - عليه السلام -: " غدا أجيبكم " ولم يقل أن شاء الله. فانقطع الوحي بضعة عشرا يوما. ثم نزل قوله - تعالى -: (ولا تقولن لشأئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) فقال - عليه السلام -: إن شاء الله إلحاقا بخبره الأول وهو قوله: " أجيبكم غدا ". وفيه نظر لأن قوله: (ولا تقولن لشأئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) إن لم يدل مضافا إلى انقطاع الوحي على وجوب اتصاله فليس له دلالة على جواز الانفصال قطعا. وقوله - عليه السلام -: " إن شاء الله " لم يتعين أن يلحق بالخبر الأول لجواز أن يكون ذكره للتبرك أو متعلقا بقوله - تعالى -: (ولا تقولن لشأئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله). يعني إن شاء الله - تعالى - ذلك فعلت كما أشار إليه المصنف: بقوله نحمله على أفعل إن شاء الله. ومنها أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بصحته ولو لم يجز لما قال: لأنه من فصحاء أهل اللسان وترجمان القرآن. وأجاب بأن قوله يتأول بما تقدم يعني جواز الانفصال بالنية أو بمعنى المأمور به يعني يجوز الانفصال في الاستثناء المأمور به وهو الاستثناء بمشيئة الله - تعالى -. وفيه نظر لأنه يستلزم جواز أن تقول: أنت طالق. ثم تقول بعد زمان: إن

- مسألة: الاستئناء المستغرق باطل

شاء الله. ولا يقع الطلاق وكذلك العتاق. ص - مسألة: الاستثناء المستغرق باطل باتفاق والأكثر على جواز المساوي والأكثر. وقالت الحنابلة والقاضي: بمنعهما. وقال بعضهم والقاضي أيضا: بمنعه في الأكثر خاصة. وقيل: إن كان العدد صريحا. لنا: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) والغاوون أكثر , بدليل: (وما أكثر الناس) فالمساوي أولى وأيضا: " كلكم جائع إلا من أطعمته ". وأيضا: فإن فقهاء الأمصار على أنه لو قال: عشرة إلا تسعة. لم يلزمه إلا درهم. ولولا ظهوره لما اتفقوا عليه عادة. الأقل: مقتضى الدليل يمنعه إلى آخره. وأجيب بالمنع لأن الإسناد بعد الإخراج , ولو سلم فدليل متبع. قالوا: عشرة إلا تسعة ونصف وثلث درهم مستقبح ركيك. وأجيب بأن استقباحه لا يمنع صحته كعشرة إلا دانقا , ودانقا إلا عشرين. ش - الاستثناء إما أن يكون مستغرقا للمستثنى منه أو أكثر أو مساويا له أو أقل منه. والأول باطل. والرابع جائز بالاتفاق.

- مسألة: هل يجوز استثناء الأكثر

والثاني والثالث مختلف فيه فالأكثر على جوازهما. وذهبت الحنابلة والقاضي أولا إلى منعهما. وقال بعض الأصوليين والقاضي آخرا بعدم الجواز في الأكثر دون المساوي. وقيل: إن كان العدد صريحا كقولك: علي عشرة إلا تسعة. لم يجز الأكثر خاصة وإلا جاز مثل خذ هذه الدراهم إلا ما في الكيس الفلاني وكان ذلك أكثر من الباقي. واحتج المصنف للأول بوجوه: منها أنه واقع في القرآن لقوله - تعالى -:

(إن عبادي ليس لك عليهم سلطن إلا من اتبعك من الغاوين). والغاوون أكثر لقوله - تعالى -: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين). والوقوع دليل الجواز وإذا جاز الأكثر فالمساوي أولى. ورد بأنه ليس من الجنس لأن الغاوين لم يدخلوا تحت العباد. وأجيب بأن العباد أعم وهو صحيح لكنه ليس بحجة على من لم يمنع جوازه في غير العدد الصريح. ومنها مثل ذلك في الحديث كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - عن الله - تعالى -: " كلكم جائع إلا من أطعمته " ومن أطعمته أكثر. والوقوع دليل الجواز وليس بحجة على المجوز في غير العدد الصريح. ومنها اتفاق فقهاء الأمصار على أنه إذا قيل: له عشرة إلا تسعة لزمه درهم ولولا ظهور جوازه لما اتفقوا عادة. والقائلون بجوازه في الأقل خاصة احتجوا بوجهين: أحدهما: أن مقتضى الدليل منع الاستثناء مطلقا لأنه إنكار بعد الإقرار وذلك إدخال " للعبد " في ربقة الكذابين والعقل يمنع عن الإقدام عليه لكن خالفناه في الأقل بسبب لم يوجد في الأكثر والمساوي وهو كون الأقل في معرض النسيان وعدم

- مسألة: اختلف العلماء في استثناء واقع بعد جمل عطف بعضها على بعض بالواو

الالتفات إليه فيبقى في الأكثر والمساوي معمولا به. وأجاب بالمنع يعني لا نسلم أنه إنكار بعد الإقرار لأن الإقرار إنما يتقرر بعد الإسناد والإخراج قبله لو سلم ذلك ينبغي أن يتبع الدليل في الكل فلا يجوز الاستثناء أصلا. وفيه نظر لأنه مبني على الأصل الفاسد المار , لأنه قام الدليل على ترك ذلك الأصل في الأقل خاصة فلا يلزم اتباع الدليل في الكل وإلا لكان المقتضي مع المانع كالمقتضي السالم في لزوم العمل وذلك باطل لا محالة. والثاني: أنه لو جاز ذلك لم يستقبح: علي عشرة إلا تسعة ونصف درهم وثلث درهم. واللازم باطل. وأجاب بأن الاستقباح لا يمنع الصحة كقوله: علي عشرة إلا دانقا ودانقا إلى عشرين دانقا فإنه مستقبح , وصحيح بالاتفاق. ص - مسألة: الاستثناء بعد جمل بالواو , قال الشافعية: للجميع والحنفية إلى الأخيرة والغزالي والقاضي: بالوقف. الشريف بالاشتراك أبو الحسين. إن تبين الإضراب عن الأولى فالأخيرة مثل أن يختلفا نوعا أو اسما , وليس الثاني ضميره. أو حكما غير مشتركين في غرض. وإلا فللجميع. والمختار: إن ظهر الانقطاع فللأخيرة , والاتصال للجميع وإلا فالوقف. ش - اختلف العلماء في استثناء واقع بعد جمل عطف بعضها على بعض بالواو:

فقالت الشافعية: يعود إلى الجميع. وقالت الحنفية: يعود إلى الأخيرة.

ووقف الغزالي والقاضي. وقال الشريف من الشيعة: بالاشتراك بين كونه عائدا إلى الجميع وإلى الأخيرة. وقال أبو الحسين: إن تبين الإضراب عن الجملة الأولى فللأخيرة وذلك باختلافهما طلبا وخبرا مثل: جاء القوم , وأكرم بني تميم , وأهن بني كلاب إلا الطوال. أو باختلافهما اسما وليس الاسم في الجملة الثانية ضميرا للاسم في الجملة الأولى مثل: أكرم بني تميم وأهن بني كلاب إلا الطوال. أو باختلافهما حكما ولا

تكون الجملتان مشتركتين في غرض نحو: أكرم بني تميم واستأجر بني تميم إلا الضعفاء. وإن لم يتبين الإعراض عنها مثل: إن اتفقا طلبا وخبرا , ويكون الاسم الثاني ضمير الأول واشتركتا في غرض نحو: أطعم الفقراء وتصدق عليهم إلا الفاسقين فإنهما اشتركا في الجمل فهو للجميع. هذا ما يدل عليه ظاهر كلامه. وفي البديع زيادة اعتبارات لم تذكر ههنا فلتطلب فيه. والمختار عند المصنف " أنه أظهر " بقرينة أن الجملة الأخيرة منقطعة عما قبلها فللأخيرة وإن ظهر أنها متصلة بما قبلها فللجميع وإن لم يظهر شيء منها فالوقف. ص - الشافعية: العطف يصير المتعدد كالمفرد. وأجيب بأن ذلك في المفردات قالوا: لو قال " والله لا أكلت ولا شربت ولا ضربت إن شاء الله عاد إلى الجميع. وأجيب بأنه شرط فإن ألحق به فقياس. وإن سلم فالفرق أن الشرط مقدر تقديمه. وإن سلم فلقرينة الاتصال وهي اليمين على الجميع. قالوا: لو كرر لكان مستهجنا قلنا: عند قرينة الاتصال. وإن سلم فللطول مع إمكان إلا كذا من الجميع. قالوا: صالح فالبعض تحكم كالعام. قلنا , صلاحيته لا توجب ظهوره كالجمع المنكر. قالوا: لو قال: علي خمسة وخمسة إلا ستة كان للجميع. قلنا: مفردا وأيضا فللاستقامة. ش - احتجت الشافعية بخمسة أوجه:

الأول: إن العطف يصير المتعدد كالمفرد. يريد أن العطف ينافي عود الاستثناء إلى الأخيرة لأنه يوجب الاتحاد والعود التفرق وأحد المتنافين وهو العطف ثابت مشهور بين أخل اللسان فينتفي الأخير. وأجيب بأن ذلك في المفردات وليس النزاع في ذلك. وللخصم أن يقول ذلك دعوى لابد لها من دليل. الثاني: أنه لو قال: والله لا أكلت ولا شربت ولا ضربت إن شاء الله عاد إلى الجميع فكذا في غيره. وفيه نظر لأن ذلك إما أن يكون لغة أو عرفا والأول ممنوع والثاني مسلم ولكن الكلام في الأول. وأجاب بأنه شرط لا استثناء والكلام فيه فإن ألحق بالشرط بجامع كان قياسا في اللغة وهو باطل ولو سلم جواز القياس فيها فالفرق ثابت فإن الشرط وإن كان متأخرا لفظا فهو مقدم تقديرا بخلاف الاستثناء فيجوز عود الشرط إلى الجميع لتقدمه دون الاستثناء ولو سلم عدم الفرق فإنما عاد هنا إلى الجميع بقرينة تشير باتصال الأخيرة بما قبلها وهي اليمين. وللخصم أن يطالب بكون اليمين قرينة لذلك. الثالث: أن الجمل المعطوفة بالواو وإذا عقبت بالاستثناء استهجن تكراره. فإنه لو قيل: " إن سرق " زيد فاقطعه إلا أن يتوب , وإن شرب زيد فاجلده إلا أن يتوب , وإن زنى زيد فاجلده إلا أن يتوب. كان مستهجنا عند أهل اللغة. وفيه نظر لأنه دعوى. وأجاب بأن التكرار إنما يكون مستهجنا عند قرينة اتصال بعضها ببعض وبدونها ممنوع ولو سلم استهجانه مطلقا لطول الكلام. مع إمكان الاختصار بأن بقول بعد الجمل إلا كذا في الجميع.

وفيه نظر لأن إمكان الاختصار قد لا يكون موجبا للاستهجان بالتكرار إذا كان في مقام الاطناب. الرابع: أن الاستثناء المذكور صالح للعود إلى كل واحدة من الجمل لا محالة فالعود إلى البعض تحكم كالعام فإنه لما كان صالحا للجميع شمله دفعا للتحكم. وأجاب بأن صلاحيته للعود إلى الجميع لا توجب ظهوره في العود إلى الكل وهو المتنازع فيه كالجمع المنكر فإنه صالح لكل الأفراد وليس بظاهر فيه. الخامس: لو قيل: علي خمسة وخمسة إلا ستة عاد إلى الكل بالاتفاق فيطرد دفعا للاشتراك والمجاز. وأجاب أولا: بأنه غير محل النزاع لوقوعه بعد المفردات. وثانيا: بأنه عاد إلى الكل ههنا لأن عوده إلى الأخيرة يوجب الاستغراق فكان بدليل ولا كلام فيه. ص - المخصص: آية القذف لم ترجع إلى الجلد اتفاقا. قلنا: لدليل وهو حق الآدمي ولذلك عاد إلى غيره. قالوا: " عشرة " إلا أربعة إلا إثنين " للأخير. قلنا: أين العطف؟ وأيضا مفردات. وأيضا للتعذر فكان الأقرب الأولى. ولو تعذر تعين الأول مثل علي عشرة إلا اثنين إلا اثنين ". قالوا: الثانية حائلة , كالسكوت. قلنا: لو لم يكن الجميع بمثابة الجملة. قالوا: حكم الأولى يقين , والرفع مشكوك قلنا: لا يقين مع الجواز للجميع. وأيضا فالأخيرة كذلك للجواز بدليل. قالوا: إنما يرجع لعدم استقلاله , فيتقيد بالأقل وما يليه هو المتحقق. قلنا: يجوز أن يكون وضعه للجميع كما لو قام دليل. القائل بالاشتراك: حسن الاستفهام.

قلنا: للجهل بحقيقته أو لرفع الاحتمال. قالوا: صح الإطلاق , والأصل: الحقيقة. قلنا: والأصل عدم الاشتراك. ش - احتج المخصص بالأخيرة أيضا بخمسة أوجه: الأول: آية القذف وهو قوله - تعالى -: (والذين يرمون المحصنت ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمنين جلدة ولا تقبلوا لهم شهدة أبدا وأولئك هم الفسقون إلا الذين تابوا) فإنه راجع إلى الأخيرة فقط لعدم رجوعه إلى الجلد اتفاقا فيرد وإلا لزم الاشتراك أو المجاز. وفيه نظر لأن الاشتراك يتحقق في استعمال اللفظ في مدلوليه الحقيقيين والمجاز في المدلول الغير الحقيقي والاستثناء موضوع للإخراج وقد استعمل فيه , وأما أن يكون المخرج منه جملة أو جملا فلا مدخل له في مفهومه الوضعي حتى يلزم ذلك. وأجاب بأن عدم العود إلى الجلد لدليل وهو أن الجلد حق الآدمي والتوبة لا أثر لها في إسقاط الآدمي. وفيه نظر لأنه حد بالإجماع فكان حق الله ولا معتبر باشتماله على حق العبد لأنه مغلوب على ما عرف في موضعه. الثاني: لو قال قائل: علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين يعود إلى الأخير فقط فيجب أن يعود إلى الأخيرة في الجميع دفعا للحكم. وفي صحة هذا النقل نظر لنه لا شبهة في كونه غير متصل بمحل النزاع أصلاً.

وأجاب بأن النزاع في الجمل المعطوفة ولا عطف فيه ولا جملة. وأيضا إنما عاد إلى الأخيرة لتعذر عوده إلى الجميع لوقوع الاستثناء الثاني مستدركا فإن الاستثناء يخرج الإثنين حينئذ من الأربعة الواقعة مستثنى أولا واثنين من الجملة الأولى لتعلقه بها كتعلقه بالمستثنى فصار المخرج أربعة والاستثناء الأول يفيد فلا حاجة إلى الثاني ولما تعذر العود إلى الجميع وكأن الأخيرة أقرب حمل عليه. وفيه نظر لأنه لو كان كذلك لكان الحمل على الأولى لسبقها وقلة المخالفة فيه أولى ولو تعذر العود إلى الأخيرة تعين العود إلى الأولى كقوله: علي عشرة إلى اثنين إلا اثنين فإنه تعذر عود الاستثناء الأخير إلى الاستثناء الأول لكونه مستغرقا فتعين أن يعود إلى الأول. وفيه نظر لأن هذا يصح أن يكون تأكيدا للأول فلا يتعلق لا بالأول ولا بالثاني أصالة. الثالث: أن الجملة الثانية حائلة بين الأولى والاستثناء فتكون مانعة عن عوده إلى الأولى لتعلقه بها كالسكوت. وأجاب بأن الجميع بمنزلة جملة واحدة للعطف كما تقدم. وفيه نظر لأن جعل الجمل المتعددة بمثل جملة واحدة خارج عن قانون كلامهم. الرابع: حكم الجملة الأولى متيقن ورفعه بتعلق الاستثناء بها مشكوك للاختلاف فيه واليقين لا يزول بالشك. وأجاب بمنع التيقن مع احتمال رفع حكم الجميع بالاستثناء. وفيه نظر لأن الاحتمال إنما ينشأ بعد ذكر الاستثناء باعتبار عوده إلى الأخيرة أو الجميع فحكم الأولى متيقن في أول ما ذكره لأن الظاهر عدم إبطال الإقرار بالإنكار بعده. وأجاب أيضا بأن هذا لو كان مانعا من عوده إلى الأولى يمنع من عوده إلى الأخيرة لجواز عود الاستثناء إلى الأول بدليل دون الأخيرة فيكون رفع حكم الأخيرة

بالاستثناء مشكوكاً وثبوت حكمها متيقنا والمتيقن لا يزول بالمشكوك. وفيه نظر لأنه على ذلك التقدير لا ينصرف الاستثناء إلى الأخيرة قطعا فضلا عن الشك. الخامس: أن الاستثناء غير مستقل فالضرورة داعية إلى مرجع له فإما أن يرجع إلى الجميع وهو باطل لعدم الضرورة لاندفاعها بعوده إلى الخيرة فيتقيد بالأقل , والأخيرة أولى لقربها. وأجاب بجواز أن الواضع وضع في صورة تعدد الجمل الاستثناء الواقع بعدها للعود إلى الجميع وحينئذ لا يجوز العود إلى الأخيرة فقط كما إذا قام دليل على عوده إلى الجميع فإنه حينئذ لا يعود إلى الأخيرة فقط. وفيه نظر فإنه لا يجوز ذلك لأن المركبات موضوعة من حيث مفرداتها , ووضع الاستثناء في المفردات للإخراج , وأما أن يكون المخرج منه جملة أو جملا فلا مدخل له في ذلك. سلمناه ولكنه يلزم الاشتراك وهو خلاف الأصل. والقائل بالاشتراك احتج بوجهين: الأول: أنه يحسن الاستفهام من المتكلم بأنه أراد العود إلى الأخيرة أو إلى الجميع وليس ذلك إلا لتردد الذهن وهو دليل الاشتراك. وأجاب بأن حسن الاستفهام لا يدل على الاشتراك لجواز أن يكون الاستفهام للجهل بحقيقته أي لعدم العلم بمفهومه الحقيقي والمجازي. وفيه نظر لأن حقيقة الاستثناء معلومة والانصراف إلى الجميع أو إلى الأخيرة من العوارض فإن من لم يختلف في حقيقة الاستثناء اختلف في هذا وهو دليل التغاير.

- مسألة: هل الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس؟

وقال: أو لدفع الاحتمال يعني أنه وإن كان حقيقة في أحدهما لكنه يحتمل أن يكون الآخر مرادا بطريق المجاز. وفيه نظر لأن المجاز غير معتبر إلا بقرينة وقبلها لا معتبر لاحتماله. الثاني: أنه يصح إطلاق الاستثناء مع إرادة العود إلى الجميع وإلى الأخيرة والأصل في الإطلاق الحقيقة فكان مشتركا. وأجاب بأن الاشتراك خلاف الأصل فيحمل على كونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر وهو أولى من الاشتراك لما تقدم. وفيه نظر لما تقدم ثمة. ص - مسألة: الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس خلافا لأبي حنيفة. لنا: النقل. وأيضا: لو لم يكن , لم يكن " لا إله إلا الله " توحيدا. قالوا: لو كان للزم من لا علم إلا بحياة " , و " لا صلاة إلا بطهور ". ثبوت العلم والصلاة بمجردهما. قلنا: ليس مخرجا من العلم والصلاة فإن اختار تقدير" إلا صلاة بطهور " , اطرد فإن اختار لا صلاة تثبت بوجه إلا بذلك , فلا يلزم من الشرط المشروط. وإنما الإشكال في المنفي الأعم في مثله , وفي مثل ما زيد إلا قائم إذ لا يستقيم نفي جميع الصفات المعتبرة. وأجيب بأمرين: أحدهما: أن الغرض المبالغة بذلك والأخر: أنه أكدها. والقول بأنه منقطع بعيد لأنه مفرغ , وكل مفرغ متصل لأنه من تمامه. ش - قيل اتفق الجمهور على أن الاستثناء من الإثبات نفي , وأما الاستثناء

من النفي فقد اختلفوا فيه. فذهب الشافعي إلى أنه إثبات خلافا لأبي حنيفة. وفي صحة هذا النقل عن أبي حنيفة نظر فإن المنقول عنه أنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات لكنه بإشارته لا بعبارته. واختار المصنف مذهب الشافعي. واستدل عليه بوجهين: الأول: النقل فإن أهل النقل نقلوا عن أهل اللغة ذلك. والثاني: العقل أنه لو لم يكن كذلك لم يكن " لا إله إلا الله " توحيداً والثاني

باطل بالإجماع. وبيان الملازمة أن النفي الداخل على الإله نفى جميع الآلهة وعلى التقدير المذكور لم يثبت الاستثناء واحدا منها فلم يشعر هذا اللفظ بالتوحيد لعدم ثبوت الألوهية لله. وفيهما نظر أما الأول فلأنه معارض بما نقل عن أئمة اللغة أنهم قالوا: إن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وإذا صح النقلان تعارضا فوفقنا بأنا جعلنا الاستثناء تكلما بالباقي بعد الثنيا عبارة , ونفيا وإثباتا إشارة وقد ذكرنا ذلك في التقرير مستوفى فليطلب ثمة. فليس الغرض من هذه العجالة إلا الإلمام بأصول الأصحاب. وأما التقرير الشافي فهناك وفي الأنوار وغيرهما. وأما الثاني - فلأن هذا اللفظ يشعر بنفي الألوهية عن غير الله - تعالى - وذلك يكفي في التوحيد لأن ثبوت ألوهيته - تعالى - وتقدس لم ينازع فيه أحد قال الله

- تعالى -: (ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض ليقولن الله) وإنما يدعون الشركة لغيره معه في غير ذلك فإذا انتفى ذلك حصل التوحيد. - واحتج للحنفية بأن الاستثناء من النفي لو كان إثباتا لزم من " لا علم إلا بحياة " و " لا صلاة إلا بطهور " ثبوت العلم والصلاة بمجرد الحياة والطهور

لكونه استثناء من النفي واللازم باطل لأن الحياة حاصلة للبهائم ولا علم لها , والصلاة تنتفي بانتفاء شرط آخر غيره. وأجاب بأن هذا الاستثناء إن أجري على ظاهره من غير تقدير شيء فليس من الجنس لأن الحياة والطهور ليسا بمخرجين من العلم والصلاة فلا تكون محل النزاع إذ هو فيه وإن قدر شيء فإن قدر لا علما إلا علم بحياة. ولا صلاة إلا صلاة بطهور. لم يتوجه النقض لا طراد القول حينئذ بأن الاستثناء من النفي إثبات. وإن قدر لا علم يثبت بوجه إلا بحياة , ولا صلاة تصح بوجه إلا بطهور كان معناه أن العلم مشروط بالحياة , والصلاة بالطهارة ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط. ورد الأطراد في الأول لعدم ثبوت الصلاة بالطهارة عند انتفاء غيرها وكذا عدم ثبوت العلم. واندفاع إلزام الخصم على الثاني فإن دليله لم يقتض إلا عدم ثبوت المستثنى في هذه الصورة. والجواب قد قدره وهو حق. ثم قال المصنف: وإنما الإشكال في المنفي الأعم في مثل " لا صلاة إلا بطهور " وفي مثل: " ما زيد إلا قائم " لأنه إذا كان المراد المنفي الأعم يعني الذي ينفي جميع الصفات المعتبرة كان تقدير المثال الأول: لا صفة للصلاة من الصفات المعتبرة في وجودها من استقبال القبلة وستر العورة وغيرها إلا صفة الطهارة وتقدير الثاني لا صفة لزيد من الصفات " المعتبرة في " كونه زيدا إلا القيام وحينئذ لا شك في وجود الإشكال لأن معنى الأول حينئذ نفي جميع الصفات المعتبرة للصلاة وإثبات الطهورية من بينها ومعنى الثاني نفي جميع الصفات المعتبرة في زيدية

زيد وإثبات القيام من بينها , وذلك غير صحيح لا محالة. وأجاب بأمرين: أحدهما: أن المراد بتعميم النفي ههنا المبالغة في تحقق تلك الصفة للموصوف فكان قائلا قال: لا تعتبر صفة الطهورية للصلاة فقيل: لا صلاة إلا بطهور , ويكون قصر قلب بطريق الادعاء. الثاني: أن المراد أن هذا الوصف آكد الأوصاف. وفيه نظر أما في الأولى فلأنه خطابة واستعمالها في مقام الاستدلال غير مفيد. وأما في الثاني فلأن كونه آكد الأوصاف ممنوع لأنه ورد: " لا صلاة إلا بالقراءة " , " لا صلاة إلا بالفاتحة " , " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ". على أنه لا ينهض في مثل: ما زيد إلا قائم. فإن قيل الإشكال الذي أورده المصنف إنما يتأتى على تقدير كون الاستثناء متصلا وهو ممنوع لجواز أن يكون منقطعاً.

أجيب بأنه مفرغ وهو متصل لأنه من تمام الكلام المتقدم ولا شيء من المنقطع كذلك. ص - التخصيص بالشرط. الغزالي: الشرط: ما لا يوجد المشروط دونه , ولا يلزم أن يوجد عنده. وأورد: أنه دور. على طرده: جزء السبب. وقيل: ما يقف تأثير المؤثر عليه. وأورد على عكسه: الحياة في العلم القديم. والأولى: ما يستلزم نفيه نفي أمر على غير جهة السببية. وهو عقلي كالحياة للعلم وشرعي كالطهارة ولغوي مثل: أنت طالق إن دخلت الدار. وهو في السببية أغلب وإنما استعمل في الشرط الذي لم يبق للمسبب سواه فلذلك يخرج به ما لولاه لدخل لغة. مثل أكرم بني تميم إن دخلوا , فيقصره الشرط على الداخلين. وقد يتحد الشرط ويتعدد على الجمع , وعلى البدل فهذه ثلاثة كل منها مع الجزاء كذلك فتكون تسعة. والشرط كالاستثناء في الإتصال , وفي تعقبه الجمل. وعن أبي حنيفة للجميع. ففرق. وقولهم في مثل: " أكرمك إن دخلت " ما تقدم خبر , والجزاء محذوف مراعاة لتقدمة كالاستفهام والقسم. فإن عنوا ليس بجزاء في اللفظ فمسلم وإن عنوا ولا في المعنى فعناد. والحق أنه لما كان جملة روعيت الشائبتان.

- التخصيص بالشرط

ش - قال الغزالي: الشرط: ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد المشروط عنده. أي عند وجود الشرط. وأورد على هذا التعريف أنه دوري لأن معرفة المشروط موقوفة على معرفة الشرط. وقد أخذ في تعريفه. وأنه غير مطرد لأن جزء السبب لا يوجد مسبب دونه ولا يلزم أن يوجد المسبب عنده مع أن جزء السبب ليس بشرط. وفيه نظر لجواز أن يكون تعريفا لفظيا كما ذكر أبو علي في

أقسام الشرط

الإشارات في تعريف الإدراك قال: الإدراك أن تتمثل حقيقة المدرك عند المدرك يشاهدها بما به يدرك. ويلزم أن جزء السبب شرطه. وقيل في تعريف الشرط: هو ما يتوقف تأثير المؤثر عليه. وأورد عليه بأنه غير منعكس لأن الحياة القديمة شرط للعلم القديم ة العلم ليس من الصفات المؤثرة. ولقائل أن يقول لا نسلم أن الحياة القديمة شرط للعلم القديم , لم لا يجوز أن يحصل العلم لذات الله وإن كانت لا تنفك عن الحياة. ثم قال المصنف: والأولى أن يقال في حد الشرط: ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر على غير جهة السببية. أي على وجه لا يكون سببا لوجوده ولا داخلا فيه. فقوله: ما يستلزم نفيه نفي أمر كالجنس لاشتراكه بين الشرط والسبب وجزئه , والباقي كالفصل. وبه يخرج عنه السبب وجزؤه ويدخل تحت الحد شرط الحكم وشرط السبب. وفيه نظر لأن الملزومات تنتفي بانتفاء اللوازم وليس بأسباب ولا جزئها. والشرط ينقسم إلى عقلي وشرعي ولغوي لأنه إما أن يحكم العقل بشرطيته أولا والأول هو العقلي كالحياة للعلم فإن العقل يحكم بانتفاء العلم عند انتفائها ولا يحكم بوجوده عند وجودها.

والثاني إما أن يكون الشرع قد حكم بشرطيته أو لا والأول هو الشرعي كالطهارة للصلاة , والثاني اللغوي مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق. فإن العقل يحكم بانتفاء الطلاق عند انتفاء دخول الدار. ولا الشرع بل اللغة وضعت ألفاظا إذا استعملت في شيء " كان " ذلك شرطا وهي ألفاظ " معدودة معروفة ". والشرط اللغوي أغلب استعماله في السببية العقلية نحو: إذا طلعت الشمس فالعالم مضيء. والشرعية نحو قوله: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) فإن طلوع الشمس سبب لضوء العالم عقلا , والجناية سبب لوجوب التطهر شرعا عند البعض. وإنما استعمل الشرط اللغوي في الشرط الذي لم يبق للمسبب شرط آخر سواه يعني الشرط الأخير نحو: إن تأت أكرمك. فإن الإتيان شرط لم يبق للإكرام سواه فإنه إذا دخل عليه الشرط اللغوي علم أن أسباب الإكرام كلها حاصلة ولم يبق إلا حصول الإتيان. قوله: فلذلك , يجوز أن يكون معناه فلأجل أن الشرط مخصص يخرج به أي بالشرط من الكلام ما لولاه أي الشرط لدخل فيه لغة مثل قولنا: أكرم بني تميم إن دخلوا الدار. فإن الشرط يقصر الإكرام على الداخلين منهم ويخرج منه غير الداخلين. وفي عبارته تسامح والأولى أن يقول: فيقصره الشرط على دخولهم دون الداخلين. فتأمل. وإنما قال لغة ليدخل فيه نحو قولنا: أكرم بني تميم أبدا إن قدرت , لأن حالة عدم القدرة معلوم الخروج بدليل العقل من غير الشرط لكن خروجها عنه عقلا لا ينافي دخولها فيه لغة فيصدق في مثل هذه الصورة لولا الشرط لدخل فيه لغة.

والشرط قد يتحد نحو: إن دخلت الدار , وقد يتعدد إما على الجمع كإن دخلت الدار والسوق , أو على البدل نحو: أو السوق فذلك ثلاثة. وجزاء كل منها أيضا نحو: إن يقع , كذلك , فكان الأقسام تسعة حصلت من ضرب ثلاثة في ثلاثة. ثم الشرط كالاستثناء في الاتصال لفظا أو حكما. وفي تعقبه الجمل المتعاطفة بالواو يعود إلى الكل عند الشافعي. وعند المصنف على التفصيل المار اختياره. وعن أبي حنيفة أنه يعود إلى الجميع فرق بينه وبين الاستثناء ووجهه مذكور في التقرير. وقد قيل في ذلك إن الاستثناء متأخر والشرط متقدم معنى ثم تكلم على مثل قولهم: أكرمك إن دخلت. فإنهم أعني النحاة قالوا: ما تقدم خبره والجزاء محذوف مراعاة لتقدم الشرط كتقدم الاستفهام والقسم. ثم قال: إن عنوا أن المتقدم ليس بجزاء

التخصيص بالصفة والغاية

للشرط لفظاً فمسلم وإن عنوا أنه ليس بجزاء لا لفظا ولا معنى فعناد لتوقف الإكرام على الدخول فيكون متأخرا عنه معنى فيكون جزاء له معنى. قال: والحق أن المتقدم يعني: أكرمك , لما كان جملة مستقلة لفظا لا معنى روعيت الشائبتان فيه أي شائبة الاستقلال من حيث اللفظ , فحكم بأنه جزاء , وشائبة عدمه معنى فحكم بأن الجزاء محذوف لكونه مذكورا من حيث المعنى. ص - التخصيص بالصفة مثل: أكرم بني تميم الطوال. وهي كالاستثناء في العود على متعدد. الغاية مثل أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا. " فيقصره على الداخلين " كالصفة وقد تكون هي والمقيد بها متحدين ومتعددين كالشرط. وهي كالاستثناء في العود على المتعدد. ش - ولما كان من أقسام التخصيص بالمتصل الصفة والغاية تكلم عليهما. أما الصفة فنحو: أكرم بني الطوال. وحكمه حكم الاستثناء إذا وقعت بعد جمل متعاطفة بالواو في عوده إلى الجميع أو إلى الأخيرة.

وأما الغاية مثل: أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا أو حتى يدخلوا. فيقصر الإكرام على غير الداخلين. وفي عبارته النظر المتقدم. وقد تتحدد الغاية والمغيا: كأكرم بني تميم حتى يدخلوا. وقد يتعددان إما على سبيل الجمع , أو البدل , كأكرم بني تميم وأعطهم حتى يدخلوا أو يقوموا. وقد يتعدد أحدهما دون الآخر. والأقسام تسعة كما في الشرط. والغاية كالاستثناء في العود إلى الجميع أو إلى الأخيرة إذا وقعت بعد جمل متعاطفة بالواو كما فيما تقدم. ص - التخصيص بالمنفصل يجوز التخصيص بالعقل. لنا: (الله خالق كل شيء). وأيضا: (والله على الناس حج البيت) في خروج الأطفال بالعقل. قالوا: لو كان تخصيصا لصحت الإرادة لغة. قلنا: التخصيص للمفرد. وما نسب إليه مانع هنا وهو معنى التخصيص. قالوا: لو كان مخصصا لكان متأخرا لأنه بيان. قلنا لكان متأخرا بيانه لا ذاته. قالوا: لو جاز به لجاز النسخ. قلنا: النسخ على التفسيرين محجوب عن نظر العقل. قالوا: تعارضا.

التخصيص بالمنفصل

قلنا: يجب تأويل المحتمل. ش - لما فرغ من بيان أنواع التخصيص بالمتصل شرع في أقسام المنفصل وهو الدليل العقلي والحسي والنقلي. ذهب الجمهور إلى أن الدليل العقلي مخصص خلافا لبعض. والدليل للجمهور وجهان: أحدهما: أن قوله - تعالى -: (الله خلق كل شيء) يفيد العموم لغة لأن الشيء يتناول الواجب والممتنع والعقل يمنع أن يكون الواجب والممتنع مخلوقين فكان الدليل العقلي مخصصا. وفيه نظر أما أولا فلأنا لا نسلم أن الشيء يتناول الممتنع , وخلق الواجب ممتنع فلا يتناوله شيء. وأما ثانيا: فلأن العقل عند الأشاعرة مهجور في الدلالة فلا يكون مخصصاً.

والثاني: قوله - تعالى -: (ولله على الناس حج البيت) فإن اللام في الناس للاستغراق فيكون عاما والعقل يمنع وجوبه على الصبيان والمجانين لعدم تمكنهما من معرفة الوجوب فكان العقل مخصصا. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن العقل خصصه بل قوله: (من استطاع إليه سبيلا) فإن المجانين والصبيان غير مستطعين شرعا أو قوله - عليه السلام -: " رفع القلم عن ثلاثة " أو غير ذلك من الأدلة النقلية الدالة على اشتراط العقل والبلوغ في التكليف على أنا نمنع كون اللام للاستغراق لم لا تكون للعهد؟ فإن وجوب الحج متأخر عن وجوب الصلاة والصوم فكان من تكلف من الناس معلوما فيكون المعهود أولئك. واستدل المانعون بوجوه أربعة: الأول: لو صلح العقل مخصصا للواجب والممتنع عن عموم الآية الأولى وللصبيان والمجانين في الثانية لصحت إرادة الواجب والممتنع من الأولى لغة , وإرادة الصبيان والمجانين من الثانية لأن التخصيص إخراج ما تناوله اللفظ وما تناوله اللفظ يصح إرادته منه واللازم باطل لأن المتكلم لا يصح أن يريد دلالة لفظ على ما هو مخالف لصريح العقل. وأجاب بمنع انتفاء التالي فإن التخصيص للمفرد وهو (كل شيء) في الأولى و (الناس) في الثانية قبل التركيب فصحة الإرادة بالنسبة إليهما قبله متحققة , وما

نسب إلى المفردين في الآيتين مانع من إرادة الواجب والممتنع والصبيان. فحكم العقل بالتخصيص وهو المعنى بالتخصيص العقلي. وفيه نظر أما أولا فلما مر غير مرة أن العقل معزول عن الدلالة على أن الخصم إذا بدل بصحة الإرادة نفس الإرادة في التالي هكذا: لو صلح العقل مخصصا للواجب والممتنع عن عموم الآية الأولى وللصبيان والمجانين عن الثانية لأراد الواجب الواجب والممتنع من الأولى لغة , والصبيان والمجانين من الثانية لأن الأصل إرادة ما وضع اللفظ له وهو العموم امتنع منع انتفاء التالي فإنه لا يصح أن يقال لا نسلم أنه لم يرد من المفرد نفسه والصبيان والمجانين لأنه لو أراد ذلك ثم أخرج بالنسبة كان تناقضا. والمسلك الذي سلكه المصنف في الاستثناء من الإخراج ثم إيقاع النسبة لا يتحقق ههنا لأن النسبة هي التي يحصل بها الإخراج فتأمل. الثاني: أن دليل العقل لو خصص العام تأخر عنه لأن التخصيص بيان والبيان متأخر عن المبين واللازم باطل لأن العقل متقدم على الخطاب. وأجاب بأن العقل متأخر عن العام من حيث أنه بيان , ومتقدم عليه بالذات. ولقائل أن يقول دلالة العقل على ذلك إما أن يكون لذاته أو لأمر آخر معه فإن كان الأول فالذاتي لا يتخلف , وإن كان الثاني فإما أن يكون ذلك الأمر عقليا أو نقليا فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول وإن كان الثاني كان هو المخصص أو المركب منها فلا يكون محل النزاع. الثالث: أنه لو جاز التخصيص " العقل " جاز النسخ به لأن التخصيص بيان عدم الحكم في القدر المخصوص والنسخ كذلك. واللازم باطل بالاتفاق. وأجاب بمنع الملازمة بناء على أن العقل لا يهتدي إلى النسخ على التفسيرين جميعا وهو انتهاء الحكم الشرعي أو رفعه كما سيأتي بخلاف التخصيص فإن العقل

يقطع بأن الواجب غير مخلوق. وفيه نظر لأن الكلام ليس في هذه المادة خاصة ولأنه مبني على الفرق وقد تقدم , ولأن العقل إذا جاز أن يعتبر قاطعا في الإخراج عن عموم اللفظ لم لا يجوز أن يكون دليلا على التوحيد وبعثة الرسل وغير ذلك مما لا يدل اللفظ عليه إلا بالنسبة إلى من هو عاقل وهل هذا إلا تناقض ظاهر؟! الرابع: أن العام مقتض فلو كان العقل مخصصا تعارضا وهو باطل لاستلزامه الترك بأحد الدليلين وليس أحدهما أولى فيفضي إلى تركهما. وأجاب بأنه إذا كان كذلك وجب تأويله بالمحتمل وهو أن بعض ما تناوله اللفظ غير مراد لأن العقل لا يقبل التأويل. وفيه نظر لأن العام مقتض لإثبات الحكم بالاتفاق وأما كون العقل مخصصا ففي حيز النزاع فصرف المتفق عليه عن مقتضاه لما هو في حيز النزاع المرجوح خارج عن أوضاع العلوم قطعا. ص - مسألة: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب. أبو حنيفة والقاصي والإمام إن كان الخاص متأخرا وإلا فالعام ناسخ فإن جهل تساقطا. لنا: أن (وأولات) مخصص لقوله: (والذين يتوفون) وكذلك (والمحصنات من الذين) مخصص لقوله: (ولا تنكحوا المشركات) وأيضا لا يبطل القاطع بالمحتمل. قالوا: إذا قال: اقتل زيدا. ثم قال: لا تقتل المشركين. فكأنه قال لا تقتل زيدا. فالثاني ناسخ. قلنا: التخصيص أولى لأنه أغلب , ولا رفع فيه كما لو تأخر الخاص. قالوا: على خلاف قوله: (لتبين) قلنا: (تبيانا لك شيء). والحق أنه المبين بالكتاب والسنة. قالوا البيان يستدعي التأخير. قلنا: استبعاد. قالوا: قال ابن عباس: كنا نأخذ بالأحداث فالأحداث. قلنا يحمل على عير المخصص جمعا بين الأدلة.

- مسألة: تخصيص الكتاب بالكتاب

ش - اختلف الناس في جواز تخصيص الكتاب بالكتاب فمنهم من منعه. والجمهور على جوازه. واختلفوا في أن الجواز مطلق أو مقيد. فقال أبو حنيفة والقاضي أبو بكر وإمام الحرمين: يجوز ذلك إذا تأخر الخاص عن العام. وأما إذا تأخر العام فهو ناسخ للخاص المتقدم , وإن جهل التاريخ تساقطا. ومنهم من جوزه متقدما ومتأخرا واختاره المصنف.

واحتج عليه بوجهين: أحدهما: الوقوع فإنه دليل الجواز لا محالة وهو في قوله - تعالى -: (وأولت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) فإنه مخصص لقوله - تعالى -: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا). وقوله - تعالى -: (والمحصنت من المؤمنت والمحصنت من الذين أوتوا الكتب) فإنه مخصص لقوله - تعالى - (ولا تنكحوا المشركت) مع تأخر العام فيهما. وفيه نظر أما أولا فلأنا لا نسلم أنها متأخرة لما روي أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في سورة البقرة ".

والثاني: أن دلالة العام على ما يد عليه الخاص ليست مقطوعا بها لكونه غير نص فيه بخلاف دلالة الخاص فإنها مقطوع بها لكونه نصا والقاطع لا يبطل بالمحتمل. وفيه نظر لأن دلالة الألفاظ غير قطعية عندهم فكان تناقض. ولأن العام كالخاص في كونه قطعيا في الدلالة عند أبي حنيفة وهو الحق فلا يصح الاحتجاج به عليه. المانعون احتجوا بأربعة أوجه: الأول: أن العام المتأخر بمنزلة التنصيص على الأفراد فإذا قال: اقتل زيدا. ثم قال: لا تقتل المشركين. فكأنه قال: لا تقتل زيدا المشرك ولا خالدا المشرك. ولا عمرا المشرك ولا شك أن هذا ناسخ لقوله: اقتل زيدا المشرك. فكذا ما هو بمنزلته.

وأجاب بأن قوله: لا تقتل المشركين يحتمل التخصيص بخلاف صورة التنصيص على الآحاد وإذا احتمل النسخ والتخصيص فالحمل على التخصيص أولى لأنه أكثر وقوعا ولا رفع فيه للحكم كما لو تأخر الخاص. وفيه نظر لأن قوله: لا تقتل المشركين يحتمل التخصيص بالمتقدم أو غيره والأول ممنوع والثاني لا يفيد سوي الفرق بين الصورتين وذلك باطل كما تقدم غير مرة. ولأنا لا نسلم أن النسخ رفع بل لبيان انتهاء الحكم على ما سيأتي. الثاني: وهو دليل لمن ينفي تخصيص الكتاب بالكتاب مطلقا أن القول بذلك على خلاف قوله - تعالى -: (لتبين للناس) فإنه يدل على أن الرسول - عليه السلام - هو المبين لكل القرآن فلو جاز ذلك كان المبين غيره فلا يكون الرسول - عليه السلام - مبينا. وفيه نظر لأنه ليس في الآية ما يدل على أن الرسول مبين لكل القرآن فلا ينافي أن يكون غيره مبينا للبعض وفيه أعمال الدليلين فكان أولى. وأجاب عنه بالمعارضة فإن قوله - تعالى -: (ونزلنا عليك الكتاب تبينا لكل شيء) يدل على أن القرآن مبين لكل شيء والكتاب شيء فيكون مبينا له وإذا كان الكتاب مبينا للكتاب لا يكون الرسول مبينا للاستغناء أو لئلا يلزم تحصيل الحاصل. وفيه نظر لأن القدر المبين من الكتاب شيء فلا بد وأن يكون مبينا بالكتاب وقد يكون بينا لا يحتاج إلى بيان فكان متروك الظاهر لا يحتج به ولم يقتصر على المعارضة بل زاد بيانا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المبين لكن بيانه قد يكون بالكتاب وقد يكون بالسنة وكون الرسول مبينا لا ينافي كون الكتاب مبينا لأن البيان كما يجوز أن

ينسب إلى الكتاب الذي يبين به الرسول ان ينسب الى الرسول. وفيه نظر لأن هذا عين النزاع فإن الخصم يقول المبين هو الرسول لكن بكتاب الله الذي ينزل عليه أو بالحديث الذي ليس بمنزل والثاني عين النزاع والأول هو المطلوب. الثالث: لو جاز تخصيص الخاص عاما لزم ان يكون متأخرا عن العام لأنه بيان وهو يستدعي تأخير المبين عن المبين والملزوم حق بالاتفاق فاللازم كذلك. وأجاب بمنع استدعاء البيان تأخير المبين. قال: بل هو استبعاد وهو لا يوجب عدم الجواز. وفيه نظر لأن التخصيص لبيان أن بعض ما يصلح أن يتناوله العام ليس بمراد واقتضاء ذلك تقدم العام لا يمنعه إلا معاند. الرابع: أن العام المتأخر أحدث من الخاص المتقدم والأخذ بالأحدث واجب لقول ابن عباس: " كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث ". وأجاب بأنا نحمل العام الأحدث الذي يجب الأخذ به على غير المخصص جمعا بين الأدلة فإن الدليل المتقدم يقتضي تقديم الخاص المتقدم على العام المتأخر وهذا الدليل يقتضي عكس ذلك فيحمل على غير المخصص جمعا بينهما. ولقائل أن يقول هذا اعتراف منهم بأن دليلنا يجب العمل به. وأما نحن فنقول إن دليلهم مزيف لا يجوز العمل به فكان مدعانا ثابتا ومدعاهم في حيز النزاع وأن العام المتأخر إذا كان ناسخا فإنه يوجب ترك العمل بالخاص المتقدم واذا كان الخاص المتقدم مخصصا أوجب ذلك بقدره من العام فاستويا في ذلك والتخصيص بالمتقدم مختلف فيه والنسخ بالمتأخر جائز بلا خلاف فالأخذ به أولى.

- مسألة: تخصيص السنة بالسنة

ص- مسألة: يجوز تخصيص السنة بالسنة " لنا وفيما " دون خمسة أوسق صدقة ". مخصص لقوله: (فيما سقت السماء العشر) وهي كالتي قبلها. ش- إذا ورد سنة خاصة وسنة عامة وتعذر الجمع بينهما فعند العراقيين إن تأخر العام نسخ الخاص , وإن تأخر الخاص نسخ العام بقدره , وإن وردا معا خصص العام بالخاص وإن جهل التاريخ فالواقف. ويؤخر المحرم احتياطا. وقال الشافعي وأبو زيد وجمع من الحنفية الخاص مبين للعام. وبعضهم لا يجيز تخصيص السنة بالسنة. واستدل المصنف على الجواز بالوقوع فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " مخصص لقوله - عليه السلام -: " ما سقته السماء ففيه العشر " وهذا بناء على أنه لا فرق عنده في جواز تخصيص الخاص العام متقدما كان او متأخرا. وهذه المسالة كالتي قبلها في الخلاف وفي إقامة الدلائل وأجوبتها من الجانبين.

- مسألة: تخصيص السنة بالقرآن

ص - مسألة: يجوز تخصيص السنة بالقرآن. لنا: (تبيانا لكل شيء) وأيضا: لا يبطل القاطع بالمحتمل. قالو: (لتبين للناس) وقد تقدم. ش- يجوز تخصيص السنة بالقرآن خلافا لبعض والدليل على جوازه وجهان: أحدهما: قوله - تعالى -: (ونزلنا عليك الكتب تبينا لكل شيء). وسنة الرسول - عليه السلام - شيء فتدخل تحته. وفيه نظر فإنه متروك الظاهر كما تقدم. الثاني: أن القرآن الخاص قاطع متنا ودلالة والعام من السنة يحتمل من حيث الدلالة فيكون القرآن مخصصا وإلا لزم إبطال القاطع بالمحتمل إذ الفرض تعذر الجمع بينهما. وفيه نظر فإن نسخ الكتاب بالسنة جائز كما سنذكر. وقال المانعون: السنة مبينة لغيرها لقوله - تعالى -: (لتبين للناس) , فلو كان الكتاب مبينا لها لزم ان يكون مبينا لمبينه وهو باطل. وفيه نظر فإن السنة كلها ليست تحتاج إلى البيان بل بعضها والكتاب كذلك فلم لا يجوز أن يبين بعض كل منهما بعض الأخر بحسب الاحتياج فتسقط هذه المشاغبة. وأجاب بما تقدم من قوله إن المبين هو الرسول إما بالكتاب أو بالسنة إلى آخر ما ذكره ثمة.

- مسألة: تخصيص القرآن بخبر الواحد

وفيه النظر المذكور ثمة. ص- مسألة: يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد وقال به الأئمة الأربعة. وبالتواتر اتفاقا. ابن أبان: إن كان خص بقطعي. الكرخي: إن كان خص بمنفصل. القاضي: بالوقف. لنا أنهم خصوا (وأحل لكم) بقوله: " ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " و (يوصيكم الله) بقوله: " لا يرث القاتل ولا الكافر من المسلم ولا المسلم من الكافر " و " نحن معاشر الانبياء لا نورث ". وأورد إن كانوا أجمعوا فالمخصص الإجماع. وإلا فلا دليل. قلنا: أجمعوا على التخصيص بها. قالوا: رد عمر حديث فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله - تعالى - (أسكنوهن). ولذلك قال: كيف نترك كتاب ربنا لقول امراة. قلنا: لتردده في صدقها. ولذلك قال: لا ندري أصدقت أم كذبت. قالوا: العام قطعي , والخبر ظني. وزاد ابن أبان والكرخي: " لم يضعف بالتجوز " قلنا: التخصيص في الدلالة وهي ظنية فالجمع أولى. القاضي كلاهما قطعي من وجه فوجب التوقف. قلنا الجمع اولى. ش- تخصيص الكتاب بالخبر المتواتر جائز بلا خلاف. وأما الخبر الواحد فقد نقل المصنف عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك

والشافعي وأحمد جوازه. وفي صحة هذا النقل عن أبي حنيفة نظر , وإنما

المنقول عنه قول ابن أبان أنه إن خص الكتاب بدليل قطعي جاز ولا فلا. وقال الكرخي: إن خض بمنفصل جاز وإلا فلا. ومنعه بعض الأصوليين رأسا. وتوقف القاضي. واستدل للأئمة الأربعة بأنه لو لم يجز لم يقع لأن الوقوع يستلزم الجواز ونقيض الأعم أخص من نقيض الأخص لكنه وقع. فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها " خصص قوله - تعالى -: (وأحل لكم ما ورآء ذلكم). وفيه نظر لأن العمات والخالات يدخلن بدلالة قوله: (وأن تجمعوا بين الأختين) فإنه معلل بالإفضاء إلى قطيعة الرحم وهي موجودة في ذلك , أو لأن الحديث مشهور تلقته الصدر الأول بالقبول , والزيادة جائزة وهي نسخ عند الحنفية. وقوله - تعالى -: (يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين) خص بقوله - عليه السلام -: " لا يرث القاتل ولا الكافر من المسلم ولا المسلم من الكافر " " ونحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه

صدقة ". وفيه نظر لأن (يوصكم الله) مخصوص بكتاب قطعي متصل وهو قوله - تعالى -: (ءاباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) فإنه يدل على أن الآيات المعتبرة في الميراث باعتبار النفع والكافر لا نفع فيه فلا يكون داخلا وحينئذ " تكون " دليلا لعيسى ابن أبان بل لأبي حنيفة أو بدليل منفصل وهو قوله - تعالى -: (ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا) والتوارث سبيل فيكون منفيا وحينئذ يكون دليلا للكرخي دون الأئمة ويجوز أن يقال: " لا ميراث لقاتل " مشهور فتجوز الزيادة به وهو نسخ فلا يكون مما نحن فيه. وكذا " لا يرث الكافر من المسلم " وكذلك " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ". وأورد على الدليل بأنهم أجمعوا على تخصيص العام بخير الواحد فالمخصص هو الإجماع وليس الكلام فيه , وإن لم يجمعوا فلا دليل على جواز ذلك. وأجاب بقوله: أجمعوا على التخصيص بها. قيل: معناه أجمعوا على تخصيص الآيتين بالآحاد المذكورة فكان المخصص خبر الواحد لا الإجماع. وفيه نظر لأن دعوى الإجماع في ذلك غير صحيحة. أما في الآية الأولى فلأن

الإجماع غير منقول. سلمناه لكن على المشهور ولا كلام فيه أو بما ذكرنا من دلالة النص. وأما في الثانية فلأنه على تقدير النقل لم يكن إلا على الخبر المشهور في جميع ذلك كما ذكرنا أو بما ذكرنا من الآيتين. وتمام ذلك مذكور في شرحنا للفرائض السراجية فليطلب ثمة. وقال المانعون: رد عمر - رضي الله عنه - خبر فاطمة بنت قيس أنها كانت معتدة ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم -: لها النفقة ولا السكنى. لما كان حديثها مخصص لقوله - تعالى -: (أسكنوهن من حيث سكنتم) وقال كيف نترك كتاب ربنا بقول امرأة. وأجاب بأن عمر - رضي الله عنه - ما رد خبرها لكونه مخصصا للكتاب بل لتردده في صدقها ولذلك قال: لا ندري أصدقت أم كذبت. ولا يلزم من عدم تخصيص الكتاب بخبر واحد لم يظن صدقه عدم تخصيصه بخير ظن صدقه.

- مسألة: تخصيص القرآن والسنة بالإجماع

وقالوا أيضاً العام لكونه كتابا قطعي المتن والخاص لكونه خبر الواحد ظني وهو لا يقدم على القطعي. وزاد ابن أبان لإثبات مذهبه أن العام الذي لم يخص بدليل قاطع قطعي لم يضعف بالتجوز إذ لم يخص بقطعي وخبر الواحد ظني فلا يقدم على القطعي. وقال الكرخي العام الذي لم يخص بمنفصل قطعي لم يضعف قطعه بالتجوز حيث لم يخص بمنفصل فلا يقدم الظني عليه. وأجاب عن الجميع بأن التخصيص في دلالة العام لا في متنه. ودلالته على أفراده ظنية فحينئذ يجوز تخصيصه. وفيه نظر لأن للخصم أن لا يسلم أن دلالة العام على أفراده ظنية. وقال القاضي كل واحد من العام والخاص قطعي من وجه ظني من وجه أما الكتاب فقطعي المتن ظني الدلالة لكونه عاما وأما خبر الواحد فقطعي الدلالة لكونه خاصا ظني المتن ولا ترجيح لأحدهما على الآخر فيجب الوقف. وأجاب بأنه على تقدير التخصيص يلزم الجمع بين الدليلين , وعلى تقدير الوقف يلزم الترك بها , والجمع أولى. ص - مسألة: الإجماع يخصص القرآن والسنة كتنصيف آية القذف على العبد ولو عملوا بخلاف نص تضمن ناسخا. ش - الإجماع يخصص الكتاب والسنة فإن الإجماع

- مسألة: العام يخص بالمفهوم

خصص آية القذف بالأحرار فإن حد العبد في القذف نصف حد الأحرار. وفيه نظر فإن ذلك ثابت بقوله - تعالى -: (فعليهن نصف ما على المحصنت من العذاب). وذلك لأن التنصيف فيه معلل بنقصان النعمة في حق الأرقاء وهو موجود ههنا فنصف. فيحمل على أن معنى قولهم الإجماع يخصص الإجماع يتضمن وجود المخصص لأن الإجماع لا اعتبار له زمن الوحي. وهذا كما لو عمل أهل الإجماع على خلاف نص فإنه لا يكون إجماعهم ناسخا لذلك النص بل الناسخ هو الدليل الذي تضمنه الإجماع لأن النسخ لا يكون بغير خطاب الشرع والإجماع ليس خطابه وإن أمكن دليلا على ذلك. ص - مسألة: العام يخصص بالمفهوم إن قيل به. ومثل في الأنعام الزكاة ليس في الغنم السائمة زكاة للجمع بين الدليلين. فإن قيل: العام أقوى فلا معارضة. قلنا: الجمع أولى كغيره. ش - العام يخص بالمفهوم إن قيل به سواء كان مفهوم موافقة أو مخالفة أما

- مسألة: فعله- صلى الله عليه وسلم- هل يكون مخصصا للعموم؟

الأول فكما إذا قال لعبده اضرب كل من في الدار ثم قال: إن دخل زيد فلا تقل له أف. فإنه يخرج زيدا عن عموم كلمة من نظرا إلى المفهوم. وأما الثاني فكما لو قيل: في الأنعام زكاة. ثم قيل: في الغنم السائمة زكاة. فإنه يخص العموم بإخراج الغنم العلوفة نظرا إلى مفهوم المخالفة وإنما كان كذلك ليكون جمعا بين الدليلين. ص - مسألة: فعله - عليه السلام - يخصص العموم كما لو قال: الوصال أو الاستقبال للحاجة أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم. ثم فعل. فإن ثبت الاتباع بخاص فنسخ. وإن ثبت بعام فالمختار تخصيصه بالأول. وقيل: العمل بموافق الفعل. وقيل بالوقف. لنا التخصيص أولى للجمع. قالوا: الفعل أولى لخصوصه. قلنا: الكلام في العمومين. ش - إذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلا مخالفا لعام كان ذلك مخصصا له في حقه - عليه السلام - " كما إذا " الوصال حرام على كل مسلم أو استقبال القبلة لقضاء الحاجة حرام على كل مسلم أو كشف العورة حرام على كل مسلم. ثم وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - صوم يوم واستقبل القبلة في قضاء الحاجة وكسف العورة. فإن ثبت وجوب اتباع الأمة في ذلك الفعل بدليل خاص مثل أن: يقول: اتبعوني في الوصال أو الاستقبال لقضاء الحاجة أو في كشف العورة. كان ذلك ناسخا

للعام المتقدم لتأخره. وإن ثبت بعام مثل قوله - تعالى -: (واتبعوه) فيه ثلاثة مذاهب: الأول: تخصيص دليل الاتباع بالعام السابق فتبقى الحرمة على الأمة في ذلك الفعل. وهو مختار المصنف. والثاني: العمل بموافق الفعل يعني بآية الاتباع. والثالث: الوقف. واستدل على الأول بأن تخصيص دليل الاتباع أولى لكونه جمعا بين الدليلين فإن دليل الاتباع يتناول ذلك الفعل وغيره فإذا خص عنه الفعل ينفي معمولاته في الباقي. قالوا: الفعل أولى لأنه خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والعام المتقدم شامل له ولأمته فالخاص أقوى والعمل بالأقوى أولى. وأجيب بأن التعارض بين العام السابق والعام الذي هو دليل الاتباع لا التعارض بين الفعل الخاص والعام السابق.

- مسألة: إذا علم- صلى الله عليه وسلم- بفعل مخالف فلم ينكره كان تقريره- عليه السلام- مخصصا للعام بالنسبة إلى ذلك الفاعل

ولقائل أن يقول عام الاتباع أولى لتأيده بالفعل. ص - مسألة: الجمهور إذا علم - صلى الله عليه وسلم - بفعل مخالف ولم ينكره كان مخصصا للفاعل فإن تبين معنى حمل عليه موافقة بالقياس أو بـ " حكمي على الواحد ". لنا أن سكوته دليل الجواز. فإن لم يتبين , فالمختار: لا يتعدى لتعذر دليله. ش - إذا فعل واحد فعلا مخالفا لعام وعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولم ينكره كان تقريره - عليه السلام - مخصصا للعام بالنسبة إلى ذلك الفاعل لأن سكوته - عليه السلام - مع العلم به دليل الجواز. فإن تبين معنى يوجب جواز ذلك الفعل حمل على ذلك الفاعل موافقة أي من وجد فيه المعنى المجوز لذلك الفعل إما بالقياس أو بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ". وفيه نظر لأن العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ".

- مسألة: الجمهور على أن مذهب الصحابي المخالف لعام لا يخصصه

يقتضي الإطلاق تبين معنى يوجب جواز ذلك الفعل أو لا. وإن لم يتبين معنى يوجب جوازه فالمختار أنه لا يتعدى جوازه من الفاعل إلى غيره لتعذر دليل التعدي , أما القياس فلعدم المعنى الموجب للجواز , وأما الحديث فلأنه يوجب بطلان العام بالكلية فالأولى أن يجمع بين الأدلة بأن نخص العام فيحمل على غير الفاعل , ويحمل التقرير على الفاعل فقط والحديث يحمل على الصورة التي يتبين فيها المعنى الموجب للجواز. وفيه نظر لأن أمثال ذلك يسمى توفيقا وتأويلا لا تخصيصا. ص - مسألة: الجمهور إن مذهب الصحابي ليس بمخصص , ولو كان الراوي خلافا للحنفية والحنابلة. لنا: ليس بحجة. قالوا: يستلزم دليلا وإلا لكان فاسقا فيجب الجمع. قلنا: يستلزم دليلا في ظنه. فلا يجوز لغيره اتباعه. قالوا: لو كان ظنيا لبينه. قلنا: ولو كان قطعيا لبينه. وأيضا لم يخف عن غيره. وأيضا: لم يجز لصحابي آخر مخالفته , وهو اتفاق. ش - إذا كان مذهب الصحابي مخالفا لعام لا يكون مخصصا له وإن كان راويا للعام ,

كمذهب أبي هريرة في ولوغ الكلب فإنه يخالف الحديث العام الذي رواه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعا إحداهن بالتراب لأن مذهبه أن يغسله ثلاثا إحداهن بالتراب. وذهب الحنفية والحنابلة إلى أن مذهبه يخص العام الذي رواه.

وفي تصحيح هذا النقل عن الحنفية نظر فإن المشهور عندهم أن عمل الراوي بخلاف الرواية بعدها يعد طعنا في روايته فلا يعمل بها " لأن ذلك تخصيص ". واختار المصنف الأول. واحتج عليه بأن العام حجة ومذهب الصحابي ليس بحجة كما سنذكره فلا يكون مخصصا لما رواه. واحتج المخصصون بأن مذهب الصحابي يستلزم دليلا ظاهرا " لا " مخالفة العموم من غير دليل فسق فيكون الدليل مخصصا للعام. وأجاب بأن مذهبه يستلزم دليا في ظنه دفعا للفسق ولا يجوز لغيره متابعة ظنه. وفيه نظر لأن مظنونه إما أن يكون راجعا إلى وجوه اللغة أو لا , فإن كان الأول فمذهبه لا يكون حجة على غيره لاختصاصهم بمعرفة الدلائل بمشاهدة أحوال التنزيل وصدور الأحاديث. واحتجوا أيضا بأن مخالفته للعام لا بد وأن تكون لدليل قطعي لأنه لو كان ظنيا لبينه لينظر فيه والقطعي يخصص العام. وأجاب عنه بالمعارضة بثلاثة أوجه: الأول: لو كان الدليل قطعيا لبينه ليصير إليه غيره , ولو بينه لاشتهر كمذهبه. ولقائل أن يقول لا نسلم أنه لو كان قطعيا لبينه لجواز أن يظن عدم الخفاء على غيره لأنه قطعي فلا يبينه. سلمناه ولكن لا نسلم أن البيان يستلزم الاشتهار إذ هو ليس من الحوادث العظيمة وشهرة مذهبه يجوز أن تكون اتفاقية فلا يستلزم شهرة الدليل.

- مسألة: الجمهور على أن عادة المكلفين في تناول بعض خاص ليس بمخصص للعموم

والثاني: أنه لو كان قطعيا لم يخف على غيره لأن القطعي منحصر في الكتاب والسنة المتواترة والإجماع ولا يخفى شيء منها. وفيه نظر لأنه ينافي قوله - عليه السلام - لمعاذ " فإن لم تجد " إذ ليس ذلك مخصوصا بالظنيات لا محالة. والثالث: أنه لو كان قطعيا لم يجز لصحابي آخر مخالفته لكنه يجوز بالاتفاق وفيه نظر لجواز أن لا يطلع عليه. ص - الجمهور: إن العادة في تناول بعض خاص , ليس بمخصص خلافا للحنفية. مثل: حرمت الربا في الطعام , وعادتهم تناول البر.

لنا: أن اللفظ عام لغة وعرفا. ولا مخصص. قالوا: يتخصص به كتخصيص الدابة بالعرف والنقد بالغالب. قلنا: إن غلب الاسم عليه كالدابة اختص به بخلاف غلبة تناوله , والفرض فيه. قالوا: لو قال اشتر لي لحما , والعادة تناول الضأن لم يفهم سواه. قلنا: تلك قرينة في المطلق والكلام في العموم. ش - ذهب الجمهور إلى أن عادة المكلفين في تناول بعض خاص من الأطعمة ليس بمخصص للعام كما لو قال النبي - عليه السلام -: حرمت الربا في

الطعام وعادتهم تناول البر فإنه لا يتخصص الطعام بالبر. ونقل عن الحنفية أن العادة تخصص العموم. والظاهر سقمه لأن الحنفية يجعلون ذلك من باب ترك الحقيقة إلى المجاز بدلالة العادة لا من باب التخصيص.

واختار المصنف الأول. واحتج عليه بأن لفظ الطعام لغة وعرفا لأنه يطلق على البر وغيره من الطعوم فيهما ولا مخصص فيكون باقيا على عمومه عملا بالمقتضى السالم عن معارضة المانع. وفيه نظر " لأنه يخلو " إما أن يراد بالعرف عرف طائفة خاصة أو مطلقا , والثاني ممنوع لأن المخصص يقول هو خاص بالبر في عرف طائفة , والأول مسلم ولكن لا نسلم عدم المخصص بل العادة مخصصة. واحتج للحنفية بوجهين: الأول: أن الطعام يتخصص بالبر عادة كتخصيص الدابة بذات الحافر والنقد في البيع بغالب نقد البلد. وأجاب بأن لفظ الطعام إن غلب في البر استعماله يختص به كالدابة والنقد فإنهما لما غلب استعمالهما في ذوات الحافر وغالب نقد البلد اختصا بهما بخلاف غلبة تناول البر فإنها لا تأثير لها في الدلالة حتى يختص والكلام المفروض في غلبة التناول لا في غلبة الاستعمال. ولقائل أن يقول المراد بالتناول إن كان الاستعمال فخلله ظاهر لبطلان الفرق حينئذ. وإن كان غيره فلا بد من البيان فإن المعهود من تناول اللفظ لمعنى استعماله فيه. فإن قال المراد بالتناول الأكل قلنا ذلك عند الحنفية من باب ترك الحقيقة بدلالة العادة لا التخصيص. الثاني: أنه لو قال لوكيله اشتر لي لحما والعادة تناول لحم الضأن لم يفهم عرفا سوى لحم الضأن. فكانت العادة مخصصة. وأجاب بأن ما ذكرتم مطلق والعادة قرينة موجبة لحمل المطلق على المقيد وكلامنا في العموم. ولقائل أن يقول حمل المطلق على المقيد إنما يكون أن لو ذكر لفظان كاشتر لي

- مسألة: إذا وافق الخاص حكم العام لا يخصص العام عند الجمهور

لحماً اشتر لي لحم ضأن وليس المثال كذلك. ص - مسألة: الجمهور إذا وافق الخاص حكم العام فلا تخصيص خلافا لأبي ثور مثل: " أيما إهاب دبغ فقد طهر " وقوله في شاة ميمونة: " دباغها طهورها ". لنا: لا تعارض فلنعمل بهما. قالوا: المفهوم يخصص العموم. قلنا: مفهوم اللقب مردود. ش - إذا وافق الخاص حكم العام لا يخصص العام خلافا لأبي ثور وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما إهاب دبغ فقد طهر " وقوله - صلى الله عليه وسلم - في شاة ميمونة: " دباغها طهورها " فإن الأول عام في إهاب الشاة وغيره والثاني خاص بإهاب الشاة ولكن لا معارضة بينها فلا يكون مخصصا بل يعمل بهما فيقال بطهارة إهاب الشاة بالخاص وبطهارة إهاب البقر والجمل والأسد والثعلب والنمور وغيرها بالعام لأن الأصل في الدليل الإعمال.

- مسألة: إذا ورد عقيب العام ضمير يرجع إلى بعض أفراده لا يكون مخصصا لذلك العام

وقال أبو ثور المفهوم يخصص العموم وتخصيص جلد شاة ميمونة بالحكم يدل على نفي الحكم عن سائر الجلود بحسب المفهوم فيكون مفهوم الخاص مخصصا للعموم فلا يطهر بالدباغ إلا إهاب الشاة. وأجاب بأن حكم التطهير بالدباغ المضاف إلى ضمير شاة ميمونة ثابت بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة. ص - مسألة: رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص. الإمام وأبو الحسين تخصيص. وقيل: بالوقف. مثل: (والمطلقات) مع (وبعولتهن). لنا: لفظان فلا يلزم من مجاز أحدهما مجاز الآخر. قالوا: يلزم مخالفة الضمير. وأجيب بأنه كإعادة الظاهر. الوقف: لعدم الترجيح. وأجيب بظهور العموم فيهما. فلو خصصنا الأول خصصناهما. ولو سلم فالظاهر أقوى. ش - إذا ورد عقيب العام ضمير يرجع إلى بعض أفراده لا يكون مخصصا لذلك العام. وذهب إمام الحرمين وأبو الحسين البصري إلى التخصيص.

وقيل: بالوقف. وذلك كقوله - تعالى -: (وبعولتهن أحق بردهن) بعد قوله: (والمطلقت يتربصن بأنفسهن). فإنها عامة في البوائن والرجعيات والضمير في (بعولتهن) لبعض أفرادها وهي الرجعيات. واختار المصنف الأول. واحتج عليه بأن كل واحد من اللفظين أعني المطلقات وضمير (بعولتهن) له مقتضى. الأول: يقتضي الإجراء على ظاهره من عموم اللفظ. والثاني: يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم وقد منعه عن ذلك مانع فارتكب المجاز بعوده إلى البعض ولا يلزم من مجاز أحدهما مجاز الآخر فلا يجب تخصيص العام لعدم المانع عن إجرائه على العموم. والمخصصون قالوا: من تخصيص الضمير العام لئلا يلزم مخالفة الضمير لما يعود إليه فإن ذلك لا يجوز.

وأجاب بجواز مخالفة الضمير للظاهر لأن الضمير كناية عن الظاهر فيكون ذكر الضمير كإعادة الظاهر وإعادة الظاهر لتعلق حكم يختص ببعض الأفراد لا يوجب تخصيص الظاهر بالنسبة إلى حكم يجري في جميع الأفراد فكذلك الضمير. وتجوز تلك المخالفة بالنسبة إلى حكمين فكذلك مخالفة الضمير للظاهر. وفيه نظر لأن الظاهر مستقل بنفسه فيجوز أن يستعمل اللفظ في موضوعه بإطلاق فيكون حقيقة وأن يستعمل في غيره بإطلاق آخر فيكون مجازا ولا كذلك الضمير. ولا تمسك لهم بقوله - تعالى -: (وإن كانت واحدة) بعد ذكر النساء لأن الضمير ليس لها بل لمعتقل ذهني فسره قوله: " واحدة ". والواقف احتج بأن عدم التخصيص " يستلزم " مخالفة ظاهر الضمير لأنه يعود ظاهرا إلى كل أفراد المذكور والتخصيص يستلزم مخالفة ظاهر العام ولا ترجيح لأحدهما على الآخر فوجب الوقف. وفيه نظر لأنه إن صح " أسند " باب التخصيص رأسا فتأمل. وأجاب بأنا لا نسلم عدم الترجيح لأن العموم ظاهر في المظهر والمضمر فلو خصصنا العام الظاهر لزم تخصيصهما فيلزم مخالفة الظاهر فيهما ولو لم يخصص العام لزم مخالفة الظاهر في الضمير فقط بعوده إلى بعض المذكور فكان عدم تخصيص العام أرجح لعلة مخالفة الظاهر ولو سلم أنه لا يلزم من تخصيص الظاهر إلا مخالفة ظاهر فقط لكن مخالفة الظاهر في المظهر أقوى منها في المضمر لأن الظاهر أقوى دلالة منه لاستغنائه عن غيره بخلاف الضمير ومخالفة الظاهر فيما هو أقوى دلالة أشد من مخالفته فيما هو أضعف.

- مسألة: جواز تخصيص العموم بالقياس

ص - مسألة: الأئمة الأربعة والأشعري وأبو هاشم وأبو الحسين: جواز تخصيص العموم بالقياس. ابن سريج: إن كان جليا. ابن أبان: إن كان العام مخصصا وقيل: إن كان الأصل مخرجا. والجبائي: يقدم العام مطلقا. والقاضي والإمام: بالوقف. والمختار: إن ثبتت العلة بنص أو إجماع أو كان الأصل مخصصا خص به. وإلا فالمعتبر القرائن في الوقائع. فإن ظهر ترجيح خاص فالقياس وإلا فعموم الخبر. لنا: أنها كذلك كالنص الخاص فيخصص بها للجمع بين الدليلين. واستدل بأن المستنبطة إما راجحة أو مرجوحة أو مساوية المرجوح والمساوي لا يخصص ووقوع احتمال من اثنين أقرب من واحد معين. وأجيب بجريه في كل تخصيص وقد رجح بالجمع. الجبائي لو خص به لزم تقديم الأضعف بما تقدم في خبر الواحد من أن الخبر يجتهد فيه في أمرين إلى آخره. أجيب بما تقدم. وبأن ذلك عند إبطال أحدهما وهذا إعمال لهما وبإلزام تخصيص الكتاب بالسنة وبالمفهوم لهما. واستدل بتأخيره في حديث معاذ وتصويبه. وأجيب بأنه أخر السنة عن الكتاب ولم يمنع الجمع. واستدل بأن دليل القياس الإجماع ولا إجماع عند مخالفة العموم. وأجيب بأن المؤثرة ومحل التخصيص يرجعان إلى النص لقوله: " حكمي على الواحد " وما سواهما إن ترجح الخاص وجب اعتباره لأنه المعتبر كما ذكر في الإجماع الظني وهذه ونحوهما قطعية عند القاضي لما ثبت من القطع بالعمل بالراجح من الإمارات. ظنية عند قوم , لأن الدليل الخاص بها ظني. ش - نقل المصنف عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وعن الشيخ أبي الحسن الأشعري وأبي هاشم وأبي الحسين جواز تخصيص العام

بالقياس مطلقاً. وليس ذلك مذهب أبي حنيفة، بل المنقول عنه هو ما أخذ به عيسى بن أبان وهو جوازه وإن كان العام مخصصا قبله. وذهب ابن سريج إلى جوازه إن كان القياس جليا كقياس تحريم الضرب على حرمة التأفيف.

وقيل يجوز ذلك إذا كان الأصل أي المقيس عليه مخرجا من العام. وقال أبو علي الجبائي لا يخصص العام بالقياس بل يقدم العام مطلقا. وقال القاضي وإمام الحرمين بالوقف. والمختار عند المصنف جوازه إذا كانت العلة بنص أو إجماع أو كان أصل

القياس مخصصاً وإن لم يتحقق أحد هؤلاء الأمور المذكورة تعتبر القرائن الموجبة للتفاوت والتساوي في آحاد الوقائع فإن ظهر ترجيح خاص للقياس خص العام به وإلا عمل بعموم الخبر أي لا يخصص بالقياس. واحتج على مختاره بأن العلة إذا كانت ثابتة بنص أو إجماع أو كان الأصل مخصصا من العام كان القياس كالنص الخاص فخص العموم جمعا بين الدليلين بخلاف ما إذا لم يتحقق شيء منها فإن القياس وإن ترجح لكونه خاصا على العام دلالة لكن احتمل أن لا تكون العلة المستنبطة أو المختلف فيها علة مجاز إن ترجح العام عليه من هذا الوجه. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن رجحان القياس على العام دلالة لكونه خاصا لأن القياس يثبت به الظن كالعام. والخاص إنما يكون أقوى دلالة إذا كان نصا. قوله واستدل بأن المستنبطة يعني على الشق الثاني من مختاره وهو أن العلة إذا كانت مستنبطة لا تخصص العام وذلك لأن المستنبطة إما أن تكون راجحة على العام فيما أريد تخصيصه أو مرجوحة أو مساوية له فالمرجوحة والمساوية لا تخصص لئلا يلزم ترجيح المرجوح أو أحد المتساويين من غير مرجح والراجحة تخصص فيكون القياس حينئذ مخصصا على تقدير واحد وغير مخصص على التقديرين ووقوع احتمال واحد من اثنين أقرب من " وقوع " واحد معين. وأجاب بنقض إجمالي يعني لو صح ذلك لانسد باب التخصيص لجريانه في جميع صوره سواء كان بالقياس أو بغيره بأن يقال الخاص إما أن يكون راجحا على العام فيما أريد تخصيصه أو مساويا له أو مرجوحا إلى آخره. وقد رجح الخاص على العام في غير صور القياس جمعا بين الدليلين فكذا ههنا. ولقائل أن يقول الإشكال باق لأن الخاص إن كان راجحا فلا مرجح لأنه

تحصيل للحاصل. وإن كان أحد القسمين الآخرين فترجيح غير جائز أصلا , وترجيح المساوي بغير مرجح فالجمع بين الدليلين لا يصلح مرجحا لأن المرجح لا بد وأن يكون وصفا في المرجح عند المحققين لا أمرا خارجا ولهذا لا يصلح أن يرجح الشهود على شاهدين بل بالعدالة في أحجهما ولا يصح ترجيح حكم يدل عليه حديثان على ما يدل عليه حديث واحد. واحتج الجبائي على تقديم العام مطلقا بأنه لو خص العام بالقياس لزم تقديم الأضعف لما تقدم أن الخبر العام يجتهد فيه في أمرين والقياس يجتهد فيه في ستة أمور وفي الأمرين أيضا إن ثبت أصل القياس بالخبر. واللازم باطل بالاتفاق. والجواب عن هذا هو الجواب المذكور ثمة. وجوابان آخران: وأحدهما: منع بطلان تقديم الأضعف والاتفاق على بطلان تقديم الأضعف إنما هو عند بطلان الأقوى بالكلية وههنا ليس كذلك فقدم الأبين جمعا بين الأدلة. وفيه نظر لأن تقديم الأضعف مطلقا ترجيح المرجوح وهو باطل بإجماع العقلاء. والجمع بين الأدلة ليس بمرجح كما مر , ولئن سلم فإنما يطلب المرجح بعد وجود التعارض ولا تعارض بين غير المتساوين وهذا واضح جداً.

والثاني: أن الدليل المذكور يوجب عدم جواز تخصيص الكتاب بالسنة لكونها أضعف وعدم جواز تخصيص الكتاب والسنة بالمفهوم لكون المفهوم أضعف منهما والملتزم أن يلتزم ذلك فلا يجوزه في الكتاب إلا بتقدم قطعي كما نقلنا عن أبي حنيفة. والمصنف جعله مذهبا لعيسى بن أبان , ولا يجوزه في السنة إلا بترجيح وكذا في مفهوم الموافقة. واستدل أيضا الجبائي على عدم جواز تخصيص العام بالقياس مطلقا بقصة معاذ فإنه أخر القياس عن الكتاب والسنة وصوبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلو كان القياس مخصصا للعام لقدمه عليهما. وفيه نظر فإن الملازمة ممنوعة. وأجاب بأن معاذا أخر السنة عن الكتاب وصوبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيكون الكتاب مقدما على السنة ولم يمنع ذلك عن الجمع بين عموم الكتاب وتخصيصه بالسنة إذا كانت خاصة فكذا تقديم الكتاب والسنة على القياس لا يمنع الجمع بين عمومها وتخصيصه بالقياس إذا كان خاصا. ولقائل أن يقول إنما لم يمنع ذلك لإمكان أن تكون السنة قاطعة بخلاف القياس فإنه لا يكون قطعيا. واستدل أيضا بأن دليل القياس هو الإجماع ولا إجماع على جواز القياس فيما إذا خالف القياس العموم لمخالفة الواقفية في جوازه إذ ذاك انتفى الدليل لا يكون حجة فلا يخص به لئلا يلزم ترك الحجة وهو العام بما ليس بحجة. وأجاب بما تقريره أنا جوزنا التخصيص بالقياس على المختار إذا ثبت العلة بنص أو إجماع أو كان أصل القياس مخصصا بالنص وإذا كانت العلة مؤثرة أي ثابتة بنص أو إجماع ومحل التخصيص وهو أصل القياس مخصصا بالنص فهما يرجعان إلى النص , أما المؤثرة فإن العلة المنصوص عليها بمنزلة النص بلا خلاف , وأما أصل

- المطلق والمقيد

القياس فلأن النص الذي خصصه نص على ما يلحق به لقوله - عليه السلام -: " حكمي علي الواحد حكمي على الجماعة " وإذا كان كذلك أسند التخصيص إلى النص ولا مانع عنه بالاتفاق. وأما ما سواهما أي العلة المستنبطة وأصل القياس إذا لم يكن منصوصا فلا بد فيه من النظر فإن ترجح الخاص يعني القياس المخصص بقرينة موجبة في الواقعة التي هو فيها يعمل به لأن رجحان الظن هو المعتبر كما ذكر في الإجماع الظني من أنه إذا ثبت بخبر الواحد يفيد الظن فوجب العمل به , وإن ترجح العموم بالقرائن أو لم يترجح أحدهما لا يخصص العام بالقياس. فإن قيل هذه المسألة أي تخصيص العام بالقياس وتخصيص الكتاب بخير الواحد قطعية " لأن العمل " بالراجح والأمارات قطعي وما ثبت في ما سواهما إلا الظن فكيف تثبت هذه المسألة؟. أشار إلى الجواب بقوله وهذه المسألة قطعية يعني أنها قطعية عند القاضي والقطعي لا يثبت بالظن ولهذا توقف. وعند قوم ظنية لأن الدليل الخاص بها ظني والمأخوذ من الظني ظني فيجوز أن تثبت بالظن. ويحتمل أن يكون قوله: وهذه ونحوها كلاما مستأنفا لبيان أن هذه المسألة قطعية أو ظنية وهو بعيد وقد اختلف آراء الشارحين وعباراتهم في هذا المحل. ونقل ذلك كله وتصحيحه وتزييفه كان مما يمل فأعرضت عنه وذكرت ما ظهر لي ولا عليك أن تنظر فيما تجد منها وتأخذ ما يعجبك والله الموفق للصواب. ص - المطلق والمقيد. المطلق: ما دل على شائع في جنسه. فيخرج المعارف ونحو كل رجل ونحوه لاستغراقها.

والمقيد بخلافه. ويطلق المقيد على ما أخرج من شياع بوجه كرقبة مؤمنة. وما ذكر في التخصيص من متفق ومختلف ومختار ومزيف جار فيه ويزيد. ش - لما فرغ من مباحث العام والخاص أردفهما بذكر المطلق والمقيد لشبه بينهما. وعرق المطلق: " بأنه ما دل على شائع في جنسه. فقوله: ما بمنزلة الجنس. وخرج بقوله: دل - المهملات. وقوله: شائع , يعني أن لا يكون بحيث أن يمتنع صدقه على كثيرين خرج عنه المعارف لتعينها ولم يخرج عنه المحلى باللام إذا أريد به الماهية. وقوله: في جنسه يعني أن يكون له أشخاص يحصل من كل منها في العقل ما يحصل من الآخر. ويحتزر عن النكرة المستغرقة في سياق الإثبات نحو: كل رجل. ونحوه: يعني النكرة في سياق النفي لاستغراقها فإن المستغرق كل ولا فرد بعده وإلا لما كان كلا وهذا التعريف كما ترى يشتمل على النكرة التي لم تستغرق. والمقيد بخلاف المطلق: وهو لفظ دال على معنى غير شائع في جنسه. وهو

- مسألة: إذا ورد مطلق ومقيد فلهما أربع حالات

يتناول ما دل على معين وما دل على شائع لكن لا في جنسه فيكون العام مقيدا بهذا التعريف. وقد يطلق المقيد على ما أخرج من شائع كرقبة مؤمنة أي ما دل على مفهوم المطلق بوصف زائد. وهذا التفسير أعم من الأول لأن قوله: رقبة مؤمنة بالتفسير الأول غير مقيد لأنه دال على شائع في جنسه , ومقيد بالتفسير الثاني لأنه أخرج من شائع بوجه. قال: وكل ما ذكر في تخصيص العام من المتفق عليه والمختلف فيه والمختار والمزيف جار في تقييد المطلق ويزيد ههنا مسألة وهي حمل المطلق على المقيد. ص - مسألة: إذا ورد مطلق ومقيد واختلف حكمهما مثل: أكس وأطعم , فلا يحمل أحدهما على الآخر بوجه اتفاقا. ومثل: إن ظاهرت فأعتق رقبة , مع لا تملك رقبة كافرة واضح. فإن لم يختلف حكمهما فإن اتحد موجبهما مثبتين حمل المطلق على المقيد لا العكس , بيانا , لا نسخا. وقيل: نسخ إن تأخر المقيد. لنا أنه جمع بينهما , فإن العمل بالمقيد عمل بالمطلق. وأيضا: يخرج بتعيين. وليس بنسخ , لأنه لو كان التقييد نسخا لكان التخصيص. وأيضا: لكان تأخر المطلق نسخا. قالوا: لو كان تقييدا لوجب دلالة رقبة على مؤمنة مجازا. وأجيب بأنه لازم لهم إذا تقدم المقيد , وفي التقييد بالسلامة. والتحقيق أن المعنى رقبة من الرقاب فيرجع إلى نوع من التخصيص سمي تقييدا.

ش - إذا ورد مطلق ومقيد

واختلف حكمهما لا يحمل أحدهما على الآخر اتفاقا لعدم التنافي. وذلك مثل: أكس ثوبا مصريا , وأطعم. فإن الطعام لا يقيد بالمصري إلا في صورة واحدة وهي ما إذا كان المقيد منفيا. مثل أن نقول: إذا ظاهرت فأعتق رقبة ولا تملك رقبة كافرة.

فإن المطلق يتقيد بالقيد لأن الإعتاق يقتضي الملك فلو لم يقيد المأمور به امتنع الجمع بين الإتيان بالمأمور به والاجتناب عن المنهي عنه. ولذلك قال: " واضح ". " وإن اختلف حكهما واتحد موجبهما " وكانا مثبتين كما إذا قيل في الظهار أعتق رقبة مؤمنة ففيه ثلاثة مذاهب: أحدهما: الحمل بيانا لا ناسخا سواء تقدم المطلق أو تأخر. وهو المختار عند المصنف. والثاني: الحمل نسخا إن تأخر المقيد. والثالث: حمل المقيد على المطلق. واحتج على حمل المطلق على المقيد لا العكس بوجهين: أحدهما: أن ذلك جمع بينهما إذ العمل بالمقيد عمل بالمطلق وزيادة والجمع أولى. وفيه نظر أما أولا فلأن العمل بالمقيد إنما يكون عملا بالمطلق أن لو كان المطلق حدا للمقيد وليس كذلك فإنهما متقابلان.

وأما ثانيا: فلأن ذلك يدل على الأولوية وليس مطابقا للمدعى لأنه وجوب الحمل دون الأولوية. والثاني: أن الخروج عن عهدة التكليف يحصل بالحمل " متعين " لأن التكليف إن كان بالمقيد فظاهر وإن كان بالمطلق فكذلك لأنه أتى به وزيادة وأما بالعمل بالمطلق فليس كذلك لجواز أن يكون التكليف بالمقيد ولم يأت به لأن الإتيان بالمطلق لا يستلزمه. واحتج على أنه بيان لا نسخ أيضا بوجهين: أحدهما: أن ذلك لو كان نسخا لكان تخصيص العام نسخا لأن التقييد رفع الإطلاق والتخصيص رفع العموم لكن التخصيص ليس بنسخ بالاتفاق. وفيه نظر لأنه مشاحة في الاصطلاح لأنهم اصطلحوا على رفع العموم بالخصوص وعلى رفع المطلق بالتقييد ولا نزاع في ذلك أو نقول التخيص لأنه لبيان أنه لم يدخل والنسخ رفع فأنى يكون أحدهما هو الآخر. الثاني: إن تأخير المقيد لو كان نسخا كان تأخير المطلق نسخا للمقيد لأن في كل واحد منهما رفع الآخر. وفيه نظر لأن الإطلاق عدم وهو لا يؤثر في شيء. والقائلون بأن تأخر المقيد عن المطلق نسخ لا بيان احتجوا بأنه لو كان بيانا لا نسخا لوجب دلالة رقبة على مؤمنة مجازا لأن المراد بالمطلق حينئذ هو المقيد وإذا أطلق المطلق وأريد المقيد كان مجازا والمجاز على خلاف الأصل. وأجاب بأن هذا لازم إذا تقدم المقيد على المطلق فإنهم جوزوا حينئذ أن يكون بيانا للمطلق. وفيه نظر لأنه غير مسلم. وبأنه لازم أيضا في تقييدهم الرقبة بالسلامة عن العيوب في كفارة الظهار لأن

الرقبة مطلقة فدلالتها على السليمة مجاز. وفيه نظر لأن الرقبة عبارة عن الذات والمطلق ينصرف إلى الكامل وهو السالم وأما الإيمان فإنما هو من العوارض وهي لا تدخل في الذاتيات. ثم قال والتحقيق أن المعنى رقبة من الرقبات. وقيل في بيانه: إن قول الشارع أعتق رقبة معناه أعتق رقبة من الرقبات فلما قال: أعتق رقبة مؤمنة معناه بين بهذا القيد أن المراد بالقدر العام هو الخاص فيكون المقدر الرقبات المؤمنة فيرجع إلى نوع من التخصيص سمي تقييدا والتخصيص بيان قطعا. ولقائل إن كان هذا هو معنى التحقيق فهو بعيد عن التحقيق لأنه نقل الكلام إلى الخصوص وليس الكلام فيه ولأنه جعل تقديره رقبة من الرقبات وذلك مقيد وليس الكلام فيه. ثم قال إنه أراد بها المؤمنة إذ قيدها بالمؤمنة. وهو عين النزاع فإن الخصم يقول رقبة من الرقبات إن فرضت مطلقة فرقبة مؤمنة مقيدة ولا يحمل أحدهما على الآخر سلمنا أن المراد من الرقبات المقدرة هو المؤمنة لكن بطريق الحقيقة أو المجاز والأول ممنوع والثاني هو المطلوب. وقال شيخي العلامة: إن المعنى رقبة من الرقبات من المعينات فحينئذ لا يكون تقييده بقوله: " مؤمنة " مجازا لأن دلالة رقبة معينة من المعينة على أي معين يفرض من ذلك الجنس تكون حقيقة لأن معينا من المعينات مشترك بين جميع المعينات بالاشتراك المعنوي فعلى هذا تكون الملازمة ممنوعة. وفيه نظر لأنا نسلم أن معناه رقبة من الرقبات لأنه قيد لا محالة والمطلق لا دلالة له على شيء من ذلك. ص - فإن كانا منفيين عمل بهما مثل: لا تعتق مكاتبا لا تعتق مكاتبا كافرا.

فإن اختلف موجبهما ,كالظهار والقتل , فعن الشافعيي حمل المطلق على المقيد. فقيل: بجامع وهو المختار. فيصير كالتخصيص بالقياس على محل التخصيص. وشذ عنه بغير جامع. وأبو حنيفة لا يحمل. ش - هذا قسيم قوله وكانا مثبتين يعني إذا كان موجبهما متحدا وكانا " متفقين " عمل بهما إذ لا تعذر فيه مثل: لا تعتق مكاتبا لا تعتق مكاتبا كافرا فيعمل بهما بأن لا يعتق مكاتبا أصلا. فإن اختلف موجبهما ولم يختلف الحكمان فعن الشافعي حمل المطلق على المقيد واختلف أصحابه فقال بعضهم: أراد به بجامع موجب الإلحاق حتى يكون التقييد بدليل فيكون تقييد المطلق بالقياس على المقيد كتخصيص العام على محل

- المجمل

التخصيص وقال بعضهم أراد به الحمل بجامع وبغيره بناء على أن القرآن كله كالكلمة الواحدة " تعدد فيه ". والأول هو المختار عندهم. والثاني مردود نقله شاذ عن الشافعي. ونظير ذلك قوله - تعالى - في كفارة الظهار: (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) وقوله في كفارة القتل: (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة). وأبو حنيفة لا يحمل المطلق على المقيد أصلا لأن الحمل يبطل دليلا بحسب العمل كما عرف في موضعه. ص - المجمل المجموع. وفي الاصطلاح: ما لم تتضح دلالته على ذلك. وقيل: اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء. ولا يطرد للمهمل والمستحيل. ولا ينعكس لجواز فهم أحد المحامل , والفعل المجمل , كالقيام من الركعة لاحتمال الجواز والسهو. أبو الحسين: ما لا يمكن معرفة المراد منه. ويرد المشترك المبين والمجاز المراد , بين أو لم يبين. وقد يكون في مفرد بالإصالة وبالإعلان , كالمختار. وفي مركب , مثل: (أو يعفوا) وفي مرجع الضمير , وفي مرجع الصفة كطبيب

- تعريفه

ماهر , وفي تعدد المجاز بعد منع الحقيقة. ش - لما فرغ من المطلق والمقيد تكلم في المجمل والمبين حدا وأقساما وحكما. والمجمل في اللغة هو المجموع من أجمل الحساب إذا جمع. وفي الاصطلاح يعني اصطلاح الأصوليين: ما لم تتضح دلالته. فقوله: ما كالجنس تتناول القول والفعل فإنه قد يكون مجملا كالقول. وقوله: لم تتضح دلالته. احترازا عن المهمل فإنه لا دلالة له أصلا. وفيه نظر لأن السلب عن العدم صحيح يقال: زيد المعدوم ليس ببصير , وعن المبين لإيضاح دلالته. وقبل: إنه اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء. وزيفه بعدم اطراده لصدقه على المهمل وعلى المستحيل ومدلوله ليس بشيء. وبعدم انعكاسه فإن المجمل قد يفهم منه شيء عند الإطلاق لجواز فهم أحد محامله عند الإطلاق وهي شيء فيصدق المحدود دون الحد. وللمعرف بهذا التعريف أن يمنع كون ذلك مجملا. ويخرج عنه الفعل المجمل لأنه ليس بلفظ وهو موجود كما لو قام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الركعة الثانية بلا جلوس للتشهد فإنه فعل مجمل لاحتمال التعمد فيكون دليلا على جواز ترك الجلسة للتشهد واحتمال السهو فلا يكون دليلا.

وله أن يمنع وجود ذلك ويقول التصور ليس بكاف فلا يحتاج إلى الاحتراز. وقال أبو الحسين في تعريفه: إن المجمل ما لا يمكن معرفة المراد منه. يعني من نفسه. واحترز به عن المجمل المبين لإمكان معرفة المراد به بالبيان لا من نفسه مع أنه ليس بمجمل. وقيد المشترك بالمبين لأنه إذا لم يبين كان مجملا بخلاف المجاز فإنه لا يكون مجملا بين أو لم يبين. وقيل هذا أيضا غير وارد لأن اللفظ إذ أريد به المجاز لم يمكن معرفة المراد من نفسه وهو هذا الوجه مجمل ومن حيث إنه استعمل فيما لم يوضع له مجاز. والاحتمال قد يكون في مفرد إما بالأصالة كالقرء أو بالإعلال كالمختار فإنه يحتمل أن يكون فاعلا ومفعولا باعتبار كسر العين وفتحه. وقد يكون في مركب مثل قوله - تعالى -: (أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح) فإن الموصول مع صلته يحتمل أن يكون المراد به الزوج أو الولي والموصول مع صلته مركب من كلمتين.

- مسألة: لا إجمال في نحو: "حرمت عليكم الميتة"

وقد يكون في مرجع الضمير إذا تعدد احتماله من غير مرجح: كضرب زيد عمرا وأكرمني فإن الضمير الذي هو فاعل أكرمني يحتمل الرجوع إلى زيد وعمر. وقد لا يكون في مرجع الصفة مثل قوله: زيد طبيب ماهر. لاحتمال ماهر أن تكون صفة طبيب وأن تكون صفة مطلقة لزيد. وقد يكون في تعدد المجاز بعد منع حمل اللفظ على مفهومه الحقيقي إذا كانت المجازات متساوية. ص - مسألة: لا إجمال في نحو: (حرمت عليكم الميتة) (وأمهاتكم) خلافا للكرخي والبصري. لنا: القطع بالاستقراء أن العرف: الفعل المقصود منه. قالوا: ما وجب للضرورة يقدر بقدرها فلا يضمر الجميع. والبعض غير متضح أجيب متضح بما تقدم. ش - إذا أضيف التحريم إلى الأعيان كما في قوله - تعالى -: (حرمت عليكم الميتة) وقوله - تعالى -: (حرمت عليكم أمهتكم) فأكثر الأصوليين على أنه لا إجمال فيه خلافا للكرخي وأبي عبد الله البصري.

- مسألة: لا إجمال في نحو قوله- تعالى-: "وامسحوا برؤوسكم"

واحتج المصنف على المذهب الأول بأن القطع حاصل بالاستقراء أن التحريم المضاف إلى الأعيان يراد به تحريم الفعل المقصود منه عرفا كالأكل في الميتة والنكاح في الأمهات. وقال القائلون بالإجمال التحريم المضاف إلى الأعيان لا بد أن يكون فيه إضمار لأن التحريم إنما يتعلق بالأفعال المقدورة والأعيان ليست كذلك فوجب الإضمار ضرورة حذرا عن الأبطال بالكلية وما ثبت بالضرورة يقدر بقدرها وتندفع بتقدير بعض وهو غير معلوم لعدم المرجح فيتحقق الإجمال. وأجاب بأن البعض متضح بما تقدم من أن العرف يقتضي في مثله تحريم الفعل المقصود. ص - مسألة: لا إجمال في نحو: (وامسحوا برؤوسكم) لنا: إن لم يثبت عرف في مثله في بعض كمالك والقاضي وابن جني فلا إجمال فإن ثبت كالشافعي وعبد الجبار وأبي الحسين فلا إجمال. قالوا: العرف في نحو مسحت بالمنديل: البعض. قلنا: لأنه آلة بخلاف مسحت بوجهي. وأما الباء للتبعيض فأضعف. ش - ذهب علماؤنا إلى أن قوله - تعالى -: (وامسحوا برءوسكم) مجمل

في المقدار لتردده بين الكل والبعض وبينه - صلى الله عليه وسلم - بفعله مسح الربع لما روى المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه. وموضعه أصول أصحابنا. وذهب الباقون إلى أنه غير مجمل فعند الشافعي المراد به مطلق الرأس ويحصل بأدنى ما ينطلق عليه اسم المسح. وعند بعض أصحابه أنه يمسح بعض الرأس أي بعض كان وعند مالك والقاضي

وابن جني أنه للكل. واحتج المصنف على عدم الإجمال بأنه إن لم يثبت عرف في ظهور استعماله في بعض أي بعض كان بل بقي على الوضع الأول كما هو مذهب مالك والقاضي وابن جني كان مقتضاه مسح الكل فلا إجمال , وإن ثبت ذلك كالذي قال به الشافعي وأبو الحسين وعبد الجبار كان " مقتضاه " التبعيض فيحصل بمسح أي بعض كان فلا إجمال أيضا. وفيه نظر لأن الترديد يدل على أنه مجمل لأن ثبوت كل واحد من الشقين محتمل لوقوعه في خبر إن الشرطية فقبل ثبوت أحدهما لم تتضح دلالته وبعد ثبوته بدليله وقع التعارض بين الدليلين وبدون مرجح لم يزل الإجمال وبمرجح تبين. والفرق بين مذهب الشافعي وما نقل عن بعض أصحابه أن مذهبه ما ذكرنا أنه لمطلق مسح الرأس ويحصل بأقل ما ينطلق عليه الاسم وما نقل عن أصحابه أنه لمسح بعض الرأس لكن مآل مذهب الشافعي أيضا وجوب مسح بعض الرأس. واستدل للتبعيض بوجهين: أحدهما: عرف الاستعمال في مثل مسحت اليد بالمنديل فإنه يقتضي مسح بعض المنديل لا كله. وأجاب بأن العرف إنما يقتضي البعض حيث يكون المسح للآلة لأن العمل بالآلة إنما يكون ببعضها بخلاف مسحت بوجهي فإن العرف فيه لا يقتضي مسح بعض الوجه.

- مسألة: لا إجمال في نحو: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "

والثاني: أن الباء إذا وليت فعلا متعديا أفادت التبعيض في المجرور بها لغة. وأجاب بأن الاستدلال بكون الباء للتبعيض أضعف لأنه لم يثبت نقل عن أحد من أئمة اللغة. ص - مسألة: لا إجمال في نحو قوله - عليه السلام -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " خلافا لأبي الحسين والبصري. لنا: العرف في مثله قبل الشرع المؤاخذة والعقاب ولم يسقط الضمان إما لأنه ليس بعقاب أو تخصيصا لعموم الخبر فلا إجمال قالوا: لا بد من إضمار. وأجيب: بما تقدم في الميتة. ش - إسناد الرفع إلى الخطأ والنسيان ذاتهما غير مستقيم ظاهرا فلا بد من إضمار ويحصل به في المفهوم خفاء ولكن يبلغ إلى حد الإجمال أولا فيه خلاف. فذهب الجمهور إلى عدمه. وذهب أبو الحسين وأبو عبد الله البصري إلى وجوده. واحتج المصنف بأن عرف أهل اللغة استعماله قبل الشرع في رفع المؤاخذة والعقاب وهو المتبادر إلى الفهم عند سماع هذا التركيب فلا إجمال فيه لاتضاح الدلالة. قوله: ولم يسقط الضمان - إشارة إلى الجواب عما عسى أن يقال لو كان العرف

- مسألة: لا إجمال في نحو: " لا صلاة إلا بطهور "

كما ذكرتم لارتفع الضمان لكونه من المؤاخذة والعقاب والتالي باطل لأنه لا يسقط وذلك على وجهين: أحدهما: أن الضمان إنما لم يسقط لأنه ليس بعقاب إذ المراد به ما يتعلق بالنفس من المضار والضمان متعلق بالمال. الثاني: أن وجوبه وإن سلم أنه عقاب لكنه " تخصيصا " لعموم الخبر الدال على نفي كل عقاب والتخصيص أولى من الإجمال. ولقائل أن يقول الأولوية إما أن تكون قبل البيان أو بعده والثاني ممنوع لأن التخصيص يفضي إلى المجاز. والبيان قد لا يكون كذلك. والأول غير صحيح ههنا لأن الضمير ثابت مقتضى والمقتضى لا عموم له فلا يصح التخصيص. واحتج المجملون بما سبق في (حرمت عليكم الميتة) وتقريره رفع ذات الخطأ والنسيان لما لم يستقم وجب الإضمار ضرورة وفيما يضمر ازدحام والكل لا يراد إما لتعدده أو لأن الضرورة تندفع بالبعض وليس بمعين لعدم المرجح فلم تتضح دلالته فكان مجملا. وأجاب بما تقدم بمنع عدم مرجع لأن العرف يقتضي إضمار المؤاخذة والعقاب. ولا يخلو عن مناقشة لأنه دعوى لا بد من بيانها. ص - مسألة: لا إجمال في نحو: " لا صلاة إلا بطهور " خلافا للقاضي. لنا إن ثبت عرف شرعي في الصحيح فلا إجمال. وإلا فالعرف في مثله نفي الفائدة , مثل: لا علم إلا ما نفع. فلا إجمال. ولو قدر انتفاؤهما فالأولى نفي الصحة لأنه يصير كالعدم فكان أقرب إلى الحقيقة المتعذرة. فإن قيل: إثبات اللغة بالترجيح. قلنا: إثبات المجاز بالعرف في مثله. قالوا: والعرف شرعا مختلف في الكمال والصحة. قلنا: مختلف للاختلاف.

ولو سلم فلا استواء لترجحه بما ذكرناه. ش - النفي في " لا صلاة " ليس لنفي حقيقتها لتحققها حسا فلا بد من تقدير وبه لا تتضح دلالته إلا بخارج. فذهب القاضي إلى إجماله بناء على ذلك. وذهب الجمهور إلى عدمه محتجين بأنه إن ثبت عرف شرعي في الصحيح أي إن ثبت أن الشارع نقله من نفيها إلى نفي الصحة أي لا صلاة صحيحة فلا إجمال. وإن لم يثبت عرف شرعي فالعرف اللغوي في مثله إضمار الفائدة أي لا فائدة للصلاة إلا بطهور فكذلك لا إجمال كما في قولهم لا علم إلا ما نفع. أي لا فائدة لعلم إلا ما نفع. ولو فرض انتفاؤهما فنفي الصحة أولى بالتقدير من نفي الفضيلة لأن الشيء الغير صحيح كالمعدوم فهو أقرب إلى حقيقته المتعذرة التي هي نفي الوجود. فإن قيل هذا إثبات اللغة بالترجيح وهو باطل. أجاب بأنه إثبات المجاز بالعرف معناه أنه من باب ما تترك الحقيقة بالعرف وهو جائز بالاتفاق. ورد بأن الفرض عدم العرفين فلا يستدل به. والجواب أن المنفيين منه غير المثبت فإن المنفيين هو ما كان في تعيين معنى يخرج به عن الإجمال , والمثبت ما ترك به الحقيقة إلى المجاز.

- مسألة: لا إجمال في نحو: قوله- تعالى-: "والسارق والسارقة"

ولقائل أن يقول العرف الشرعي انتفاؤه في حيز الشرط فهو مجهول وذلك يدل على الإجمال. وقال المجملون إن عرف الشرع مختلف في الكمال والصحة في مثله كما في قوله - عليه السلام -: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " و " لا صلاة إلا بقراءة " وإذا كان كذلك لم تتضح دلالته فيكون مجملا. وأجاب بأنا لا نسلم اختلاف وروده في الشرع بل الاختلاف لاختلاف العلماء في تقديره فإن بعضهم يقدر الصحة وبعضهم يقدر الكمال. وفيه نظر لأن ما ذكرنا من المثالين لا يطرد فيه ذلك بل الاختلاف للمورد ألا ترى أن تقدير الكمال في الثاني والصحة في الأول لا يستقيم ولئن سلم أن وروده في الشرع مختلف فيه ولكن لا نسلم أن مثل ذلك اختلاف في عرف الشرع يوجب الاجمال وإنما يوجبه إذا تساوى عرف الشرع فيهما وهو ممنوع لأن نفي الصحة راجح بما ذكرنا فلا إجمال. وفيه نظر لأن الاختلاف إن أوجب عدم إيضاح الدلالة فهو مجمل لا محالة وإن لم يوجبه كان المانع عدم التساوي وهو بالنظر إلى ذات التركيب ممنوع وبالنظر إلى خارج ليس بمتنازع فيه غاية ما في الباب حينئذ أن يكون مجملا مبينا. ص - " مسألة الإجمال " في نحو: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما). لنا: أن اليد إلى المنكب حقيقة لصحة بعض اليد لما دونه. والقطع إبانة المتصل فلا إجمال. واستدل: لو كان مشتركا في الكوع والمرفق والمنكب لزم الإجمال. أجيب بأنه لو لم يكن لزم المجاز. واستدل: يحتمل الاشتراك والتواطؤ.

وحقيقة أحدهما ووقوع واحد من اثنين أقرب من واحد معين. وأجيب: إثبات اللغة بالترجيح. وبأنه لا يكون مجمل أبدا. قالوا: تطلق اليد على الثلاث , والقطع على الإبانة , وعلى الجرح فثبت الإجمال. قلنا: لا إجمال مع الظهور. ش - أية السرقة ونحوها ليست بمجمل لأن المذكور فيها اليد والقطع وهما واضحا الدلالة على مدلولهما أما اليد: فلأنها حقيقة لمجموع العضو من الأنامل إلى المنكب بدليل قوله: (إلى المرافق) سواء كانت الغاية لإسقاط ما وراء الغاية أو لمد الحكم إليها فإنها لو لم تذكر لانصرف من الأنامل إلى المنكب ولو كانت للكوع لم تصح الغاية وأما القطع فلأنه الإبانة يعلمها كل أحد فلا إجمال حينئذ. وفيه نظر لجواز أن يكون الإجمال في السارق فإنه الذي أخذ مال الغير على سبيل الخفية من حرز لا شبهة فيه في عرف الشرع ولا بد في ذلك من تقدير النصاب وليس في لفظه ما يدل على مقداره ولا على نفسه وهو في ذلك غير متضح الدلالة فلم لا يجوز أن يكون مجملا بذلك وقد بينه الشارع في محل القطع واشترط النصاب ومقدراه. وقد استدل أيضا على عدم الإجمال بأنها إنما تكون مجملا أن لو كان اليد

مشتركة في الكوع والمرفق والمنكب والاشتراك خلاف الأصل. وأجيب بأنه لو لم تكن مشتركة لكان مجازا في بعضها والمجاز خلاف الأصل. وضعف بأن المجاز أولى كما تقدم. وفيه ما فيه. واستدل أيضا بأن اليد تحتمل أن تكون مشتركة فتكون مجملا وأن تكون متواطئا وأن تكون حقيقة في أحدهما مجازا في غيره ولا إجمال على التقديرين الأخيرين ولا شك أن وقوع واحد من الاثنين أقرب من وقوع معين يعني التقدير الأول فكونه غير مجمل أقرب من كونه مجملا. وأجيب بأنه إثبات اللغة بالترجيح وهو باطل وبأنه لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يوجد مجمل أصلا وهو باطل وذلك لأن المجمل لا بد فيه من تعدد على ما عرف في بيانه فإن كان حقيقة كان مجملا وإن كان متواطئا أو مجازا في أحدهما لا يكون مجملا ووقوع واحد من التقديرين أقرب من وقوع معين فكان عدم الإجمال أقرب. وهو مردود لأن أقسام المجمل عود الضمير إلى أحد المرجعين وعود الصفة لأحد الموصوفين وهذه الثلاثة لا تتحقق فيهما. واحتج المجملون بأن اليد مطلق على الثلاث يعني على العضو إلى الكوع وإلى المرفق وإلى المنكب , والقطع يطلق على الإبانة والجرح. ولا ترجيح لواحد من ذلك على الآخر فكان مجملا. وأجاب بأن اليد والقطع وإن كانا يطلقان على المعاني المذكورة لكن لا إجمال فيهما لكونهما ظاهرين في بعض تلك المعاني إذ اليد ظاهرة في الكل والقطع في

- مسألة: إذا استعمل اللفظ فيما يفيد معنى تارة وفيما يفيد معنيين تارة أخرى وليس بظاهر بالنسبة إلى أحدهما قيل: مجمل. وقيل: غير مجمل

الإبانة ولا إجمال مع الظهور. ص - مسألة: المختار أن اللفظ لمعنى تارة ولمعنيين أخرى من غير ظهور مجمل. لنا: أنه معناه. قالوا: يظهر في المعنيين لتكثير الفائدة. قلنا: إثبات للغة بالترجيح. ولو سلم عورض بأن الحقائق لمعنى واحد أكثر. فكان أظهر. قالوا: يحتمل: الثلاثة كالسارق. ش - إذا استعمل اللفظ فيما يفيد معنى تارة وفيما يفيد معنيين تارة وليس بظاهر بالنسبة " إلى " أحدهما. فالمختار عند المصنف أنه مجمل. ونفاه بعض الأصوليين. واحتج على المختار بأنه إذا لم يكن ظهور لأحدهما بالنسبة إلى الآخر لم تتضح

- مسألة: ما له محمل لغوي ومحمل في حكم شرعي ليس بمجمل

دلالته فكان مجملا. واحتج النافي بوجهين: الأول: أن حمله على ما يفيد معنيين أظهر لأنه يوجب تكثير الفائدة , والحمل على ما هو أكثر فائدة أظهر. وأجاب بأنه إثبات اللغة بالترجيح وهو باطل , ولو سلم أن ليس إثبات اللغة بالترجيح ممنوعا لكنه معارض بأن الألفاظ الموضوعة لمعنى واحد بطريق الحقيقة أكثر منها موضوعة لمعنيين مجازا وما أكثر أظهر. والثاني: ما تكرر أن اللفظ يحتمل أن يكون مشتركا بينهما ويحتمل أن يكون متواطئا إلى آخره. وجوابه أيضا ما مر. ص - مسألة: ما له محمل لغوي ومحمل في حكم شرعي مثل: " الطواف بالبيت صلاة " ليس بمجمل. لنا: عرف الشارع تعريف الأحكام ولم يبعث لتعريف اللغة. قالوا: يصلح لهما , ولم يتضح. قلنا: متضح. بما ذكرنا. ش - إذا ورد لفظ من الشارع جائز الحمل على المفهوم اللغوي والمفهوم الشرعي كقوله -صلى الله عليه وسلم -: " الطواف بالبيت صلاة " فإنه يجوز أن يقال المراد به الافتقار

إلى الطهارة , وأن يقال المراد به أنه صلاة لغة وهي الدعاء لاشتماله على الدعاء ففيه اختلاف فمنهم من يقول إنه مجمل وهو مذهب الغزالي. وذهبت طائفة إلى خلافه. وهو مختار المصنف. واحتج عليه بأن عرف الشرع تعريف الأحكام الشرعية لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث لتعريف اللغة فحينئذ يجب حمل اللفظ على الحكم الشرعي لتوافقه لمقصود البعثة فلا يكون مجملا. وقال المجملون اللفظ يصلح للحكم الشرعي وللمعنى اللغوي فلم تتضح دلالته على شيء منهما فيكون مجملا. وأجاب بأنه تتضح دلالته على الحكم الشرعي لما ذكرنا. ص - مسألة: لا إجمال فيما له مسمى لغوي ومسمى شرعي. وثالثها الغزالي في الإثبات الشرعي وفي النهي مجمل. ورابعها في النهي اللغوي فالإثبات مثل إني إذا لصائم. لنا: أن عرفه يقضي بظهوره فيه. الإجمال: يصلح لهما. الغزالي: في النهي تعذر الشرعي للزوم صحته. وأجيب: ليس معنى الشرعي: الصحيح , وإلا لزم في " دعي الصلاة الإجمال ". الرابع: في النهي تعذر الشرعي للزوم صحته , كبيع الحر والخمر.

- مسألة: لا إجمال فيما له مسمى لغوي ومسمى شرعي

وأجيب بما تقدم. وبأن " دعي الصلاة " للغوي: وهو باطل. ش - الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة أن المجمل أعم من المسمى لجواز أن يكون الجمل حكما شرعيا. إذ ورد من الشارع لفظ له مسمى لغوي ومسمى شرعي من غير ظهور أحدهما. فقد اختلف فيه على أربعة مذاهب: الأول: لا إجمال فيه. وهو المختار عند المصنف. والثاني: أنه مجمل مطلقا. والثالث: أنه ورد في الإثبات حمل على الشرعي فلا يكون مجملا وإن ورد في النهي لم يحمل على واحد فيكون مجملا وهو مذهب الغزالي. والرابع: أنه إذا ورد في الإثبات حمل على الشرعي وإذا ورد في النهي حمل على اللغوي فلا يكون مجملا.

والفرق بين المذهب الأول والرابع أنه في الأول يحمل على الشرعي سواء كان في الإثبات أو النهي وفي الرابع يحمل على اللغوي في النهي. مثال الإثبات قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - حين سألها " هل من غذاء؟ " فقالت: لا " " إني إذا صائم " ومثال النهي: " لا تصوموا في هذه الأيام ". واحتج للمختار بأن عرف الشرع قاض بظهور في مسماه الشرعي كما تقدم فلا إجمال. وللمجملين مطلقا بأن اللفظ صالح لهما من غير ترجيح فيكون مجملا. والجواب ما تقدم من اتضاح دلالته بالنسبة إلى المفهوم الشرعي. وللغزالي بأنه إذا وقع في النهي مثل لا تصوموا يوم النحر تعذر حمله على الشرعي لأن الشرعي هو الصحيح فلو حمل عليه لزم صحته. وليس بصحيح. ولقائل أن يقول لم يثبت في الشرع عدم صحة صوم يوم النحر إما وصفا أو وصفا وأصلا إلا بهذا الحديث فكيف يستلزم الشيء صحة ما ورد لعدمها. وأجاب بأن الشرعي ليس معناه الصحيح لأنه لو كان معناه ذلك لزم الإجمال في قوله - عليه السلام -: " دعي الصلاة أيام أقرائك " لامتناع حملها على الشرعية لعدم صحتها , وإذا امتنع ذلك كان مجملا.

- البيان والمبين

وفيه نظر لأن دعي أمر فكان إثباتا وهو محمول على الشرعي عنده فلا إجمال. والقائل بالمذهب الرابع بأنه تعذر حمله في النهي على الشرعي للزوم صحته كبيع المضامين والملاقيح والحر فإن الحمل على الشرعي يستلزم صحتها واللازم باطل بالإجماع وبطلانه يستلزم بطلان ملزومه وهو الشرعي. وإذا تعذر الشرعي حمل على اللغوي لأنه أولى من الإجمال. وأجاب بما تقدم أن الشرعي ليس معناه الصحيح وبأن ما ذكرتم يستلزم أن تحمل الصلاة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعي الصلاة أيام أقرائك " على اللغوي هو باطل لأن اللغوية هي الدعاء وهو جائز حال الحيض بالإجماع. وفيه النظران. البيان والمبين ص - البيان والمبين. يطلق البيان على فعل المبين. وعلى الدليل وعلى المدلول فلذلك قال الصيرفي: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح. وأورد البيان ابتداء. والتجوز بالحيز وتكرير الوضوح. وقال القاضي والأكثر الدليل. وقال البصري: العلم عن الدليل. والمبين نقيض المجمل. ويكون في مفرد , وفي مركب , وفي فعل وإن لم يسبق إجمال. ش - لما فرغ من بيان المجمل شرع في بيان البيان والمبين. والبيان يطلق على معان ثلاثة: على فعل المبين وهو التبيين أي رفع

الإبهام. وعلى الدليل وهو ما يحصل به التبيين. وعلى المدلول أي الاعتقاد التابع للتبيين. وكذلك اختلفوا في تعريفه فالصيرفي اختار الأول. وعرفه بأنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح. وزيفه المصنف بأنه غير جامع لخروج البيان ابتداء وهو ما يدل على الحكم من غير تقدم إجمالي فإنه بيان بالاتفاق , وباشتماله على المجاز فإن الحيز للجواهر فاستعماله في الأعراض مجاز , وباشتماله على التكرار لأنه ذكر التجلي والوضوح وأحدهما كاف. وقال القاضي وأكثر الأصوليين إن البيان هو الدليل. واختار عبد الله البصري المدلول وعرفه بأنه العلم الحاصل عن الدليل. ثم عرف المصنف المبين بأنه نقيض

- مسألة: الجمهور على أن الفعل يجوز أن يقع بيانا

المجمل. يعني مقابله: وهو ما تتضح دلالته. ويدخل فيه الخطاب الذي ورد مبينا ابتداء ثم المبين إما قول مفرد أو مركب وإما فعل سبق إجماله أو لم يسبق. ص - مسألة: الجمهور: الفعل يكون بيانا. لنا: أنه - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاة والحج بالفعل. وقوله: " خذوا عني " و " صلو كما " يدل عليه. وأيضا فإن المشاهدة أدل. وليس الخبر كالمعاينة. قالوا: يطول فيتأخر البيان. قلنا: وقد يطول بالقول. ولو سلم فما تأخر للشروع فيه. ولو سلم فلسلوك أقوى البيانين. ولو سلم فما تأخر عن وقت الحاجة. ش - " ذهب الجمهور الأصوليين " إلى أن الفعل يجوز أن يقع بيانا " خلافا " لشرذمة. والدليل للجمهور أنه واقع والوقوع دليل الجواز فإن كل واحد من الصلاة والحج وقع مجملا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفعل. لا يقال كان البيان بقوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي " وبقوله: " خذوا عني مناسككم " لا بالفعل لأنا نقول قوله

- مسألة: إذا ورد بعد المجمل قول وفعل

يدل على أن الفعل بيان لا أن نفسه بيان إذ لم يشتمل على تعريف شيء من أفعال الصلاة والحج. وأيضا مشاهدة فعل الصلاة والحج أدل على معرفة تفاصيلهما من الأخبار فإن الخبر ليس كالمعاينة. وفيه نظر فإن الفعل لا يحصل به معرفة الفرض من غيره فكان القول أدل على ما يحصل به الامتثال والخروج عن عهدة التكليف. وقال المانعون يطول زمان الفعل فيلزم تأخر البيان وهو غير جائز. وأجاب بأن طول الزمان لا يمنع البيان لأن البيان بالقول أيضا قد يطول وأنه لا يمنع ولو سلم أن زمان القول لا يطول لكن لا نسلم تأخر البيان لأن بالشروع في الفعل عقيب الإجمال لا يوجد التأخر ولو سلم تأخره لكنه لتحصيل ما هو أقوى البيانين وهو الفعل وذلك حسن. وفيه النظر المتقدم ولو سلم أنه ليس بأقواهما لكن لا نسلم امتناع تأخر البيان مطلقا بل تأخره عن وقت الحاجة ولم يوجد هاهنا. ص - مسألة: إذ ورد بعد المجمل قول وفعل فإن اتفقا وعرف المتقدم فهو البيان والثاني تأكيد. فإن جهل فأحدهما. وقيل يتعين غير الأرجح بالتقديم لأن المرجوح لا يكون تأكيدا. وأجيب بأن المستقل لا يلزم فيه ذلك. فإن لم يتفقا كما لو طاف بعد آية الحج طوافين وأمر بطواف واحد فالمختار القول وفعله ندب أو واجب. متقدما أو متأخرا لأن الجمع أولى. أبو الحسين: المتقدم بيان. ويلزمه نسخ الفعل متقدما مع إمكان الجمع.

ش - إذا ورد بعد المجمل قول وفعل كل منهما صالح لبيان ذلك المجمل فإن اتفقا في البيان وعلم المتقدم منهما كان المتقدم بيانا والثاني تأكيدا له. وإن لم يعلم فالمختار عند المصنف أن البيان أحدهما لا بعينه والآخر تأكيد له. وقيل إن كانا متساويين فأحدهما لا بعينه والآخر تأكيد. وإن لم يتساويا فالمرجوح يقدم بيانا والراجح تأكيد لأن المرجوح إن تأخر يعني فإن البيان قد حصل بغيره والمرجوح لا يقع تأكيدا للراجح. وأجاب بأنا لا نسلم أن المرجوح مطلقا لا يكون تأكيدا بل المرجوح المستقل يجوز أن يكون تأكيدا. ولقائل أن يقول كل من الطرفين لا يخلو عن مطالبة بيان وفرق بين المستقل وغيره. وإن لم يتفقا في البيان كما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد آية الحج أمر في القران بطواف واحد وروي أنه طاف طوافين

قارنا , فقد اختلف فيه. والمختار عند المصنف أن البيان هو القول تقدم أو تأخر ويحمل فعله - عليه السلام - على أنه ندب أو مختص به فإن جعل القول بيانا جمع بين الدليلين وجعل الفعل بيانا يبطل القول والجمع أولى. وفيه نظر لأن في جعل الفعل بيانا خروجا عن عهدة التكليف بيقين لجواز أن يكون هو البيان في الواقع وجعل القول بيانا ليس كذلك فالأول أولى. وذهب أبو الحسين إلى أن ما تقدم منهما بيان فإن تقدم الفعل كان الطواف الثاني واجبا وإن تقدم القول كان نفلا. قال: ويلزم مذهب أبي الحسين نسخ الفعل إذا كان متقدما لوجوب الطوافين ورفع أحدهما بالقول المتأخر مع إمكان الجمع بينهما كما ذكرنا والجمع أولى من النسخ. ولقائل أن يقول النسخ غير متعين لجواز أن يكون من باب العمل بالراجح وترك المرجوح وذلك لأن إمكان الجمع مرجوح بالنسبة إلى الخروج عن عهدة التكليف

- مسألة: اختلفوا في وجوب أن يكون البيان أقوى فى الدلالة وعدمه

بيقين لأنه أحوط فيؤخذ بالفعل ويترك القول احتياطا. ص - مسألة: المختار أن البيان أقوى. والكرخي يلزم المساواة. أبو الحسين بجواز الأدنى. لنا: لو كان مرجوحا ألغي الأقوى في العام إذا خصص , والمطلق إذا قيد. وفي التساوي التحكم. ش - اختلفوا في وجوب أن يكون البيان أقوى في الدلالة وعدمه. واختار المصنف الأول. والتزم الكرخي المساواة بينهما فيها. وجوز أبو الحسين أن يكون البيان أدنى في الدلالة من المبين. واحتج المصنف على المذهب المختار بأنه لو كان البيان مرجوحا في الدلالة بالنسبة إلى المبين لزم إلغاء الأقوى بالأضعف في العام إذا خصص , وفي المطلق إذا قيد , لأن العام والمطلق إذا ورد عليهما تخصيص وتقييد وكان العام أقوى دلالة من الخاص , والمطلق من المقيد وجعلا بيانين للعام والمطلق الأقويين لزم ذلك ألبته لكن إلغاء الأقوى بالأضعف باطل هذا ما يتعلق بمذهب أبي الحسين. وفيه نظر لأن ذلك فرض لا صحة له بالإجماع المركب أما عندنا فلأن العام كالخاص في إفادة القطع وأما عند غيرنا فإن الخاص أولى لكونه نصا والعام ظاهر فكانت الملازمة باطلة. وقوله: " في التساوي التحكم " يتعلق بمذهب الكرخي ومعناه لو كان البيان

- مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة

مساوياً للمبين في الدلالة لزم التحكم لأن تقدم أحدهما على الآخر ترجيح من غير مرجح. وفيه نظر لأنه إذا ثبت عنده أن العام كالخاص في الدلالة ووجدا جميعا بالنسبة إلى حكم واحد فإنه يجعل الخاص بيان تغيير للعام ولا محظور في ذلك. ص - مسألة: تأخر البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا عند من يجوز تكليف ما لا يطاق. وإلى وقت الحاجة يجوز. والصيرفي والحنابلة ممتنع. والكرخي: ممتنع في غير المجمل. " وأبو الحسين مثله في الأجمالي لا التفصيلي " , مثل هذا العموم مخصوص والمطلق مقيد والحكم سينسخ. والجبائي ممتنع في غير النسخ. لنا: (فأن لله خمسه ...) إلى القربى , ثم بين أن السلب للقاتل إما عموما وإما برأي الإمام وأن ذوي القربى بنو هاشم دون بني أمية وبني نوفل. ولم ينقل اقتران إجمالي مع أن الأصل عدمه. وأيضا: (أقيمو الصلاة) ثم بين جبريل والرسول. وكذلك الزكاة. وكذلك السرقة. ثم بين أن على تدريج. وأيضا فإن جبريل قال: (اقرأ) قال ما " أقرأ " وكرر ثلاثا. ثم قال: (اقرأ باسم ربك). واعترض بأنه متروك الظاهر لأن الفور يمنع تأخيره والتراخي يفيد جوازه في الزمن الثاني فيمتنع تأخيره. وأجيب بأن الأمر قبل البيان لا يجب به شيء وذلك كثير. ش - تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا عند من يجوز تكليف ما لا يطاق.

وأما تأخير البيان من وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة فقد اختلف فيه. واختار المصنف الجواز مطلقا ومنعه الصيرفي والحنابلة مطلقا وفصل الكرخي بين المجمل وغيره فمنعه في غير المجمل وهو ما له ظاهر غيره مراد كالعام والمطلق والمنسوخ وجوزه في المجمل وهو ما ليس له ظاهر.

- مسألة: المانعون من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة اختلفوا في جواز تاخير إسماع المخصص الموجود

وقال أبو الحسين يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة في المجمل وأما في غيره فيمتنع تأخير البيان الإجمالي على الفور في غير المجمل مثل أن يقول وقت الخطاب هذا العموم مخصوص وهذا المطلق مقيد وهذا الحكم منسوخ. وذهب الجبائي إلى امتناعه في غير النسخ , وإلى جوازه فيه. واحتج المصنف على مختاره بأمور: الأول: قوله - تعالى -: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) أثبت خمس الغنيمة للمذكورين مطلقا وأثبت لذوي القربى عموما نصيبا وكل واحد منهما مما له ظاهر أريد خلافه من غير ذكر بيان إجمالي أو تفصيلي أما الغنيمة فإن ظاهرها الإطلاق ولكن أريد خلافه لأنه بين ذلك أن السلب

للقاتل إما بالعموم المستفاد من قوله - عليه السلام -: " من قتل قتيلا فله سلبه " وإما برأي الإمام كما هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - , وأما ذوي القربى فكذلك ظاهره الإطلاق ثم بين بعد ذلك أن ذوي القربى بنو هاشم دون بني أمية

وبني نوفل فدل على جواز تأخير البيان مطلقا. قوله: ولم ينقل - جواب عما يقال لم لا يجوز أن يكون البيان الإجمالي مقرونا به وما تأخر يكون البيان التفصيلي. وتقريره أنه لم ينقل اقترانه والأصل عدمه. الثاني: قوله - تعالى -: (وأقيموا الصلوة) كانت في ابتداء نزولها ظاهرة في مطلق الدعاء مع أن المراد بها ذات الأركان ولم يقترن بها بيان أنه أراد ذات الأركان لا إجمالا ولا تفصيلا ثم بين جبريل - عليه السلام - للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين الرسول لأمته وكذلك الزكاة فإنها في ابتداء النزول كانت ظاهرة في النماء مع أن المراد بها القدر المخرج من نصاب كامل حولي ولم يقترن به البيان الإجمالي والتفصيلي ثم بين بعد ذلك أن المراد بها المقدار المخرج من النصاب وكذلك السرقة فإن قوله - تعالى -: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ظاهر في وجوب قطع السارق مطلقا ولم يقترن به بيان أن المراد به المقيد ثم بين بعد ذلك الرسول - عليه السلام - الذي يجب به القطع.

الثالث: أن جبريل - عليه السلام - في ابتداء الوحي نزل إلى الرسول - عليه السلام - وقال: (اقرأ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أقرأ " وكرر جبريل - عليه السلام - ثم قال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ودلالته على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لا يخفي فإنه لو لم يجز لما أخره عن المرة الأولى. وفيه نظر لأنه إنما يتم أن لو كان ما للاستفهام لم لا يجوز أن تكون نافية ويكون معنى قول جبريل أوجد القراءة وهو لا يحتاج إلى بيان ولأنه يجوز أن يكون الأول والثاني قول جبريل خاطبه به تمرينا لسمعه والثالث يكون المرسل هو به ولا تأخير فيه ولأنه لو كان بيانا لدل على جواز تأخيره عن وقت الحاجة فإنه - عليه السلام - كان محتاجا إلى معرفة ما أمر به من القراءة. واعترض بأن الأوامر المذكورة متروكة الظاهر فلا يصح التمسك بها اتفاقا وذلك لعدم إمكان إجرائها على ظواهرها لأن إجراءها عليها يجوز تأخير بيانها وهو ممتنع لأن الأمر إما للفور أو للتراخي والأول يمتنع فيه تأخير البيان عم وقت الخطاب لأنه وقت الحاجة. والثاني يفيد جوازه في الوقت الثاني فيمتنع تأخيره عن ذلك الوقت ومعناه أن أمر التراخي يفيد جواز تأخيره إلى الوقت الثاني لا وجوب تأخيره فيجوز الفعل في أول وقت الخطاب وذلك وقت الحاجة إذ ذاك فلا يجوز تأخيره عنه. وأجاب بأن الأمر قبل البيان لا يجب به شيء فلا يفيد الفور والتراخي. قال: وذلك كثير أي الأمر الذي لم يجب به شيء كثير في العرف كقول الرجل لعبده: افعل مطلقا فإنه لا يجب بمجرد هذا القول على العبد قبل البيان شيء.

وفيه نظر لأن قوله والأمر لا يجب به قبل البيان شيء إما أن يريد به مطلق الأمر أو الأمر الذي ذكر في الصور المذكورة فإن كان الأول ناقضة قوله: وذلك كثير. فتأمل. وما ذكر أن الأمر المطلق يفيد الفور أو التراخي على الاختلاف المعروف وإن كان الثاني فهو تحكم. ص - واستدل بقوله تعالى: (أن تذبحوا بقرة) وكانت معينة بدليل تعينها بسؤالهم مؤخرا. وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد. وبدليل المطابقة لما ذبح. وأجيب بمنع التعيين فلم يتأخر بيان بدليل بقرة وهو ظاهر وبدليل قول ابن عباس لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم. وبدليل: (وما كادوا يفعلون). واستدل بقوله: (إنكم وما تعبدون) فقال ابن الزبعري: - فقد عبدت الملائكة والمسيح. فنزل: (إن الذين سبقت لهم). وأجيب بأن ما لما لا يعقل ونزول (إن الذين سبقت) زيادة بيان لجهل المعترض مع كونه خبرا. واستدل بأنه لو كان ممتنعا لكان لذاته أو لغيره بضرورة أو نظر وهما منتفيان. وعورض لو كان جائزا إلى آخره. المانع: بيان الظاهر لو جاز لكان إلى مدة معينة وهو تحكم ولم يقل به. أو إلى الأبد فيلزم المحذور. وأجيب إلى معينه عند الله وهو وقت التكليف. قالوا: لو جاز لكان مفهما لأنه مخاطب فيستلزمه وظاهره جهالة والباطن متعذر. وأجيب بجريه في النسخ لظهوره في الدوام. وبأنه يفهم الظاهر مع تجويزه التخصيص عند الحاجة فلا جهالة ولا إحالة. عبد الجبار تأخير بيان المجمل يخل بفعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها بخلاف النسخ.

وأجيب بأن وقتها وقت بيانها. قالوا: لو جاز تأخير بيان المجمل لجاز الخطاب بالمهمل ثم بين مراده. وأجيب بأنه يفيد أنه مخاطب بأحد مدلولاته فيطيع ويعصي بالعزم بخلاف الآخر. " وقال " تأخير بيان التخصيص يوجب الشك في كل شخص بخلاف النسخ. وأجيب بأن ذلك على البدل وفي النسخ يوجب الشك في الجميع فكان أجدر. ش - أي استدل بعض على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة بثلاثة أوجه: الأول: قوله - تعالى -: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) والبقرة غير متعينة بحسب الظاهر لكونها نكرة , والمراد بها بقرة معينة ولم يقترن بها بيان مطلقا. والدليل على كونها متعينة أوجه منها: أن الله - تعالى - عينها بعد سؤالهم عن البقرة التي أمروا بذبحها المتأخر عن وقت الخطاب بذبحها ولو لم تكن متعينة لم يكن للسؤال والجواب اللذين اشتملا على الضمائر التي لا تستعمل إلا للمعين كما قال: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة ... قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء ...) إلى غير ذلك معنى. ومنها أنه لو لم تكن معينة لكان المأمور بها في الآية الثانية متجددة لأنها فيها معينة وفي الأولى غير معينة والمعينة غير غير المعينة لكن الثاني باطل بالاتفاق ومنها أن المأمور بها لو كانت غير معينة لما طابقت المأمور بها لما ذبح لأن المذبوحة معينة لكنها كانت مطابقة بدلالة حصول المقصود.

وفيه نظر لجواز النسخ والمقصود حصل بالناسخ. وأجاب المصنف بمنع التعيين بأوجه: أحدهما: أن البقرة المأمور بها غير معينة لقوله - تعالى -: (أن تذبحوا بقرة) فإنها نكرة وهي غير معينة لا محالة. وثانيها: قول ابن عباس: " لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ولكنهم شددوا في السؤال فشدد الله عليهم " ولو كانت معينة لم تجز أي بقرة ذبحوا لجواز أن لا يحصل المأمور به. وثالتها: أنها لو كانت معينة لما عنفهم الله على طلب البيان لأنه يوجب استحقاق المدح والتالي باطل لقوله: (وما كادوا يفعلون). الثاني: قوله - تعالى -: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) , فإنه عام وعمومه غير مراد وقد أخر بيانه الذي هو المخصص وأنه لما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعري: لأخصمن محمدا. فلما جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أليس عبدت الملائكة والمسيح. فتوقف الرسول - عليه

السلام - في الجواب. ثم نزل قوله - تعالى -: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) فخصصت به الآية الأولى. وأجاب بأن الآية الأولى غير متناولة للملائكة والمسيح لأن ما لما لا يعقل فلا تحتاج إلى بيان. وقوله - تعالى -: - (إن الذين سبقت) نزلت لدفع تعنتهم. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن الزبعري: " ما أجهلك بلغة قومك. ما لما لا يعقل ". وفيه نظر لأنه يستلزم خروج فرعون ونمرود لأنهم عقلاء ولا يقال لما لم " يعلموا " بمقتضى العقل جعلا من غير العقلاء لأن ذلك خطابة , والمقام مقام استدلال والاعتماد على ما نقل من ابن الزبعري من الآحاد كما أشار إليه بقوله: مع كونه خبرا فلا يعول عليه في المسألة العلمية. الثالث: إن تأخير البيان لو امتنع كان امتناعه لذاته أو لغيره وعلى كل حال إما أن يعلم ذلك بضرورة أو بنظر والكل منتف.

أجاب عنه بالمعارضة بأنه لو جاز فجوازه إما أن يعلم الضرورة أو بالنظر وكل ذلك منتف. وفيه نظر لأن الترديد إن كان في الجواز فليس بصحيح لأنه لا يكون إلا لذاته وإن كان في النظر والضرورة فقوله وهما منتفيان يصيره لأنه لا يكون الجواز ثابتا فينتفي المدعى من الأصل. واحتج مانع تأخير البيان عن وقت الخطاب فيما له ظاهر أريد خلافه بوجهين: الأول: أنه لو جاز لكان إما إلى مدة معينة أو إلى الأبد والأول تحكم لأن الغرض من الخطاب الإفهام ونسبته إلى جميع الأزمان سواء فتعيين زمان تحكم ولم يقل به أحد. والثاني: باطل لأنه يستلزم جواز تأخيره أبدا أن لا يتمكن المكلف من معرفته فكان تكليف ما ليس في الوسع. وأجاب باختيار أنه جائز إلى مدة معينة عند الله وهو وقت التكليف ولا يلزم التحكم لأن نسبة البيان والإفهام إلى وقت التكليف أولى. وفي كلامه تسامح لأن التكليف بالخطاب , والكلام في جواز التأخير عن وقت الخطاب , وكان الواجب أن يقول وقت الحاجة. الثاني: أنه لو جاز لكان الشارع مفهما بخطابه لأن الخطاب يستلزم الإفهام تحاشيا عن وصمه اللاغية وليس كذلك لأنه إن كان مفهما للظاهر كان تجهيلا للمكلف لأنه غير مراد وإن كان مفهما لغير الظاهر فلا طريق إلى إفهامه لأنه لم يبين بعد وإفهام ما لا طريق إلي متعذر. وأجاب بالنقض الإجمالي والتفصيلي.

أما الإجمالي فلأن هذا الدليل يجري في النسخ لأن المنسوخ ظاهر في الدوام ولم يكن النسخ مذكورا معه وجواز تأخيره عن وقت الخطاب ثابت بالاتفاق. وأما التفصيلي فلأنا لا نسلم أنه إذا أريد إفهام الظاهر يلزم تجهيل المكلف وإنما لزم إذا أريد الظاهر على سبيل القطع وليس كذلك بل مع تجويز التخصيص عند الحاجة وحينئذ لا يلزم التجهيل لعدم القطع ولا الإحالة من جهة التعذر لأنه أريد إفهام الظاهر. ولقائل أن يقول تجويز التخصيص ليس من ظاهره فدخل في الإحالة من جهة التعذر. واحتج عبد الجبار على امتناع تأخير بيان المجمل دون النسخ بأن تأخيره يخل بفعل العبادة في وقتها لأن صفتها مجهولة بدون البيان والإتيان بها مع الجهل بصفتها غير ممكن بخلاف تأخير الناسخ فإنه لا يخل بذلك لأن صفتها مبينة. وأجاب بأن وقت العبادة هو وقت بيانها لا وقت الأمر بها , وصفة العبادة معلومة وقت البيان فلا يلزم الإخلال. واعلم أن مذهب عبد الجبار ليس بمذكور في تحرير المذاهب وإنما المذكور ثمة مذهب الجبائي لكن لما كان مذهبه موافقا لمذهبه ذكره تنبيها. وقال المانعون جواز تأخير بيان المجمل: لو جاز تأخير بيان المجمل لجاز الخطاب بالمهمل ثم يبين المخاطب مراده من المهم لأن المجمل لا يفهم منه شيء كالمهمل فجواز الخطاب به يوجب جواز الخطاب بالمهمل والثاني باطل بالاتفاق. وفيه نظر لأن ما له مراد تبين لا يكون مهملا ولو ترك ذلك بطل قياسه فتأمل. وأجاب بالفرق بأن المجمل يفيد لأنه يخاطب بأحد مدلولاته وإن لم يفد المراد

بعينه فحينئذ يطيع المكلف بالعزم ويعصي على الترك بخلاف المهمل فإنه لا يفيد شيئا أصلا. وفرق أيضا عبد الجبار بين امتناع تأخير بيان التخصيص وجواز تأخير بيان النسخ أن تأخير بيان التخصيص يوجب الشك في كل شخص من الأشخاص المندرجة تحت العام أنه مراد منه أو لا بخلاف تأخير بيان النسخ فإن العمل بالمنسوخ قبل ورود البيان لا يشك فيه. وأجاب بأن جواز تأخير بيان التخصيص يوجب الشك في كل واحد منهم على سبيل البدل لا على الجمع لأن التخصيص إخراج البعض , وجواز تأخير البيان في النسخ يوجب الشك في جميع الأشخاص فكان جواز تأخير بيان التخصيص أجدر. ولقائل أن يقول لا نسلم أن جواز تأخير النسخ يوجب ذلك إذ لا يلزم أن كل نسخ يكون بالنسبة إلى الكل بل قد يكون بعضا على البدل فكان الاحتجاج والجواب فاسدا. ص - مسألة: المختار على المنع جواز تأخير إسماع المخصص الموجود. لنا: أنه أقرب من تأخير العدم. وأيضا فإن فاطمة سمعت: (يوصيكم) ولم تسمع: " نحن معاشر الأنبياء " وسمعوا: (اقتلوا المشركين) ولم يسمع الأكثر " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " إلا بعد حين ش - المانعون من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة اختلفوا في جواز تأخير اسماع المخصص الموجود. والمختار جوازه لوجهين:

أحدهما: أن المخصص الموجود وقت الخطاب أقرب من مخصص لم يوجد فيه لإمكان سماعه قبل سماع العام بأن يسمع الشارع غير ذلك المكلف قبل اسماعه فيعرف منه أو بعد سماع العام بالاستكشاف بخلاف مخصص لم يوجد وإذا كان أقرب جاز تأخيره لأن جواز الأبعد يقتضي جواز الأقرب. الثاني: أنه واقع والوقوع دليل الجواز وذلك لأن فاطمة - رضي الله عنها - سمعت: (يوصيكم الله في أولدكم) ولم تسمع " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وهو مخصص للآية. وسمعت الصحابة - رضي الله عنهم - قوله - تعالى -: (فاقتلوا المشركين) ولم يسمع أكثرهم الحديث المخصص للمجوس وهو قوله - عليه السلام -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " إلا بعد زمان. ص - مسألة: المختار على المنع جواز تأخيره - صلى الله عليه وسلم - تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة , للقطع بأنه لا يلزم منه محال. ولعل فيه مصلحة قالوا: (بلغ ما أنزل إليك).

- مسألة: القائلون بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير بعض البيانات عنه دون بعض آخر

أجيب بعد كونه للوجوب والفور أنه للقرآن. ش - وكذلك المانعون من ذلك اختلفوا في جواز تأخير الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبليغ الحكم الذي أوحي إليه وقت الحاجة. والمختار جوازه واحتج عليه بأنا نقطع أن فرض ذلك لا يستلزم محالا لأنه ليس بمستحيل لذاته ولا لغيره لأن الأصل عدمه وكل ما كان كذلك فهو جائز. وأيضا يجوز أن يكون في التأخير مصلحة لا نعلمها ويؤخر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذلك. واحتج المانعون بقوله تعالى: (يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) وهو يقتضي وجوب التبليغ على الفور. وأجاب بأنا لا نسلم أن الأمر يقتضي الوجوب والفور. ولئن سلم ذلك فلا نسلم أن المراد به الأحكام بل القرآن. وفيه نظر لأن في تبليغ القرآن تبليغ الأحكام إلا إذا خص بما ليس فيه حكم ولا دليل عليه. واعلم أن الشارحين قالوا في هذه المسألة والتي قبلها إن المراد بقوله والمختار هو مختار المصنف. وفيه نظر لأنه لم يكن من مانعي جواز التأخير والمسألتان من فروع ذلك. ص - مسألة: المختار على التجويز جواز بعض دون بعض. لنا: أن المشركين بين فيه الذمي , ثم العبد , ثم المرأة بتدريج.

وآية الميراث " بين - صلى الله عليه وسلم - والقاتل والكافر " بتدرج. قالوا: يوهم الوجوب في الباقي وهو تجهيل. قلنا: إذا جاز إبهام الجميع فبعضه أولى. ش - القائلون بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير بعض البيانات عنه دون بعض آخر ومختار المصنف الجواز ودليله الوقوع فإن قوله - تعالى -: (فاقتلوا المشركين) عام فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج الذمي ثم العبد

ثم المرأة على التدريج. وإن آية الميراث وهو قوله - تعالى -: (يوصيكم الله) عامة ثم بين - صلى الله عليه وسلم - إخراج نفسه بقوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " الحديث ثم إخراج القاتل ثم الكافر بتدريج. وقال المانعون جواز ذلك يوهم وجوب استعمال اللفظ في الباقي وهو تجهيل للمكلف. وأجاب بأن العام بدون ذكر المخصص يوهم وجوب استعمال اللفظ في الجميع وهو جائز وإذا جاز إبهام الجميع فإبهام البعض أولى. وفيه نظر لأن صورة النزاع تشتمل على إبهام التجهيل بعد زوال إيهام التجهيل المشترك بينهما وبين الصورة التي استدل بها وبه تبطل الدلالة فتأمل. ص - مسألة: يمنع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص إجماعا. والأكثر: يكفي بحث يغلب انتفاؤه. القاضي: لا بد من القطع من انتفائه وكذلك كل دليل مع معارضه. لنا: لو اشترط لبطل العمل بالأكثر. قالوا: ما كثر البحث فيه , تفيد العادة القطع وإلا فبحث المجتهد يفيده لأنه لو أريد لا طلع عليه. ومنعا. وأسند بأنه قد يجد ما يرجع به.

- مسألة: هل يجوز العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص؟

ش - ادعي إجماع الأصوليين على امتناع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص لعدم حصول الظن بوجوب العمل قبله فإن اعتقاد إمكان وجود المخصص مانع عن حصوله.

واختلفوا في كيفية البحث فقال الأكثر يكفي البحث بحيث يغلب على الظن انتفاء المخصص وكذا البحث عن معارض كل دليل. وقال القاضي: لا بد من البحث الموجب للقطع بانتفاء المخصص والمعارض. واحتج للأكثر بأنه لو شرط القطع لبطل العمل بأكثر العمومات المعمول بها لأن الاستقراء دل على أن أكثرها ما لا يقطع العقل بانتفاء مخصصه بل غايته عدم الوجدان بعد البحث وذلك لا يفيد القطع بعدمه. وكذلك بحث المجتهد يفيد لأنه لو أريد بالعموم الخصوص لاطلع عليه حين البحث لاستحالة أن لا ينصب الله عليه دليلا وأن لا يبلغ إلى المكلف وإلا لكان نصب الدليل عبثا. ولقائل أن يقول سلمنا أن ذلك ممكن لكن لا يلزم أن يكون شرطا وإلا لزم المحذور المذكور. وأجاب بأنا لا نسلم أن كثرة بحث العلماء أو بحث المجتهد يفيد القطع وأشار إلى ذلك بقوله: ومنعا. وسند المنع أن المجتهد قد يجد من المخصصات ما يرجع به

- الظاهر والمؤول

عن الحكم ولو أفاد ذلك القطع لما رجع. الظاهر والمؤول ص - الظاهر والمؤول. الظاهر: الواضح. وفي الاصطلاح: ما دل دلالة ظنية إما بالوضع كالأسد أو بالعرف كالغائط. والتأويل من آل يؤول أي رجع. وفي الاصطلاح: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح. وإن أردت الصحيح زدت: بدليل يصيره راجحا. الغزالي: احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر. ويرد أن الاحتمال ليس بتأويل شرط. وعلى عكسه التأويل المقطوع به. وقد يكون قريبا فيترجح بأدنى مرجح وقد يكون بعيدا فيحتاج للأقوى وقد يكون متعذرا فيرد. ش - لما فرغ من بيان البيان والمبين شرع في مباحث الظاهر والمؤول. والظاهر في اللغة: الواضح. وفي اصطلاح الأصوليين: ما دل دلالة ظنية إما بالوضع كالأسد أو بالعرف كالغائط. فقوله: ما دل. كالجنس يشمل المحدود وغيره. وخرج بقوله: دلالة. النص لقطعية دلالته والمجمل لأن دلالته ليست بظنية فإن المراد بها الراجحة ودلالة المجمل ليست كذلك , والمؤول لأن دلالته كذلك بل هي موهومة. وقوله إما بالوضع أو العرف. احتراز عن اللفظ الدال على المفهوم المجازي عند وجود القرينة لأن

- تعريف التأويل

دلالته عليه وإن كانت أرجح بالنسبة إلى دلالته على المفهوم الحقيقي لكنه ليس بظاهر لأنها ليست بوضعية ولا عرفية. والتأويل في اللغة: هو الترجيح من آل يؤول إذا رجع. وفي اصطلاح الأصوليين: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح. وخرج بقوله الظاهر حمل النص على معناه وحمل المشترك عل ذلك تأويل. وقوله المحتمل احتراز عن حمل الظاهر على معناه الراجح. وهذا التعريف يشمل التأويل الصحيح والفاسد ومن أراد تعريف التأويل الصحيح زاد على ما ذكر لفظ: بدليل يصيره راجحا. فقوله: بدليل أعم من كونه قطعيا أو غيره احترازا عن التأويل بغير ذلك فإنه لا يسمى صحيحا. وقوله: يصيره راجحا - أي يصير الطرف المرجوح راجحا على مدلوله الظاهر احتراز عما لا يصيره راجحا فإنه لا يسمى صحيحا. وعرفه الغزالي: بأنه احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر. وأورد عليه أن الاحتمال شرط التأويل لا نفسه. ويرد أيضا على عكسه التأويل المقطوع به لأنه لم يصر بالدليل أغلب على الظن من الظاهر بل كان قطعيا. ولما كان الظاهر أكثر استعمالا من الظهور والتأويل من المؤول تعرض المصنف لتفسير الظاهر دون الظهور وفي التأويل بالعكس. والتأويل على ثلاثة أقسام: قريب: وهو ما يترجح فيه الطرف المرجوح بالأدنى دلالة كقوله - تعالى -: (إذا قمتم) أي أردتم القيام إلى " الصلاة ".

- أمثلة للتأويلات البعيدة

وبعيد: وهو ما يحتاج إلى دليل قوي. ومتعذر لبعده فيرد. وهذه قسمة يعسر التمييز بين أقسامها لأن القريب والبعيد إضافيان والأذهان متفاوتة والتعصب فيها جاز. ص - فمن البعيدة تأويل " الحنفية " قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لابن غيلان " وقد أسلم على عشر أمسك أربعا وفارق سائر هن أي ابتدئ النكاح أو أمسك الأوائل فإنه يبعد أن يخاطب بمثله متجدد في الإسلام من غير بيان. ومع أنه لم ينقل تجديد قط. وأما تأويلهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين " أمسك أيتهما شئت " فأبعد , لقوله: "أيتهما ". ش - أورد المصنف للبعيد أمثلة بعضها قريب وبعضها أقرب والمصنف استبعدها عصبية على الحنفية ولوقوف ذهنه قال: فمن البعيدة تأويل الحنفية إلى آخره. وصورة المسألة أن الكافر إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أسلمن معه أولا وهن كتابيات سواء كان العقد عليهن جملة أو مرتبا فإن له أن يختار من غير تجديد نكاحهن وتندفع الباقيات عند مالك والشافعي - رحمهما الله - لقوله - عليه السلام -: " لابن غيلان " وقد أسلم على عشرة نسوة: " أمسك " أربعا "

وفارق سائرهن " فإنه أمر بالإمساك وهو ظاهر في استدامة النكاح. وقوله أربعا غير متعين فلهذا للزواج أن يختار أي أربع شاء. وقال أبو حنيفة إن وقع نكاحهن معا بطل الجميع وإن وقع مرتبا بطل ما بعد الأربع قياسا على المسلم , وأول الحديث بالنسبة إلى الضرورة الأولى بأن المراد بالإمساك ابتداء نكاحهن فكان معنى قوله: " أمسك أربعا " ابتدئ نكاحهن. وقوله: " وفارق سائر هن " أي لا تنكحهن. وبالنسبة إلى الضرورة الثانية فإنه أمر الزوج باختيار الأوائل أي أربعا من أوائلهن. وذكر المصنف لبعد هذا التأويل وجهين: أحدهما: أنه تبعد عادة أن يخاطب متجدد في الإسلام بمثل هذا الخطاب من غير بيان شرائط النكاح مع مساس الحاجة إلى معرفتها لقرب عهده بالإسلام. الثاني: أنه لم ينقل أنه جدد النكاح ولو كان معناه تجديد النكاح لكان الظاهر من حال المأمور امتثال ما أمره به - صلى الله عليه وسلم -. ولقائل أن يقول الأخذ بالظاهر متروك بالإجماع لأنه لو كان بعضهن من المحارم لا يجوز أن يختارهن بالإجماع فلا بد من تأويل وحمله على حال المسلم أقرب التأويلات بالقياس والجامع بينهما التزام أحكام الإسلام , وعدم نقل التجديد ممنوع لكنه لم يشتهر لأنه ليس تعم به البلوى وكذا تجدد عهده بالإسلام غير مفيد لجواز أن تكون الحادثة بعد اشتهار شرائط النكاح وأحوالها بينهم. ومثل هذا ما قال الحنفية فيمن أسلم على أختين في إبطال نكاحهما إن كانا معاً

وبطلان الثاني إن ترتبا. وأولوا حديث فيروز الديلمي وهو قوله - عليه السلام - له حين أسلم على أختين " أمسك أيتهما شئت " بالتأويلين المذكورين. قال المصنف فأبعد لقوله: " أيتهما " وإنما كان هذا أبعد لأن المنافي للتأويل المذكور في الأول هو الأمر الخارج عن اللفظ وهو شهادة الحال قد انضم إلى ذلك مانع آخر لفظا وهو قوله - عليه السلام -: " أيتهما شئت " فإنه بتقدير وقوع النكاح مرتبا تعين الأول للاختيار ولفظ أيتهما شئت يأباه. ولقائل أن يقول: متروك الظاهر لأنه لو كانت إحداهما أختا نسبية أو رضاعية أو مجوسية بطل الخيار بالإجماع فيجعل حاله كحال المسلمين وأن العمل بواحدة لا بعينها غير ممكن فلا بد من التعيين وتعيين الأولى دافع وتعيين الثانية رافع والدفع أسهل فكان أولى. ص - ومنها قولهم في (فإطعام ستين مسكينا) أي: فإطعام طعام ستين مسكينا لأن المقصود دفع الحاجة , وحاجة ستين كحاجة واحد في ستين يوما فجعل المعدوم مذكورا والمذكور عدما مع إمكان قصده لفضل الجماعة وبركتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن.

ش - قال علماؤنا الحنفية رحمهم الله لا فرق في الكفارة بين إطعام ستين مسكينا وبين إطعام مسكين واحد ستين يوما لأن المقصود دفع حاجة المسكين ودفع حاجة مسكين واحد في ستين يوما كدفع حاجة ستين مكسنا يوما , وأولوا قوله - تعالى -: (فإطعام ستين مسكينا) بإطعام طعام ستين مسكنيا واستبعد المصنف هذا أيضا بأنهم جعلوا المعدوم الذي هو طعام مذكورا ليكون مفعولا لإطعام وجعلوا المذكور الذي هو ستين مسكينا عدما حيث لم يجعلوه مفعولا مع إمكان قصد الشارع العدد لفضل الجماعة وتزكيتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن وهو لا يحصل بالواحد. ولقائل أن يقول إنه من باب حذف مضاف وهو غير عزيز في الكلام فحمله على البعد بعد عن الإنصاف. وقوله: مع إمكان قصده ليس بشيء لأن شرعته لستر الذنب والجماعة لا مدخل لها في ذلك. فإن اعتبرت كثرة الخلة صح المدعى. وكذلك تزكيتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء لا مدخل لهما في كفار الذنب والكفارة ما شرعت إلا لذلك فذكر ذلك في هذا المقام مجرد " وغلط " في غير محله على أن الحنفية لا يحتاجون إلى هذا التأويل فإن الحذاق المتفننين عملوا في ذلك بدلالة النص كما عرف في موضعه. ص - ومنها قولهم: " في أربعين شاة شاة " أي: قيمة شاة بما تقدم وهو أبعد إذ يلزم أن لا تجب الشاة. وكل معنى إذا استنبط من حكمه أبطله باطل. ش - وقالوا أيضا إن المقصود من وجوب الشاة دفع حاجة الفقير وهي كما

تندفع بالشاة تندفع بقيمتها فقوله - عليه السلام -: " في أربعين شاة شاة " معناه شاة. وأشارة إلى بعده بما تقدم أنه جعل المعدوم موجودا وجعله أبعد بما تقدم لأن تقدير المضاف هناك لا يبطل ما دل عليه الظاهر إذ لا منافاة بين إيجاب إطعام طعام ستين مسكينا وبين إيجاب إطعام ستين مسكينا بخلاف تقدير قيمة شاة فإنه إذا كان الواجب قيمة شاة كانت الشاة غير واجبة وذكر قاعدة بأن كل معنى مستنبط من حكم يعني كل فرع إذا استنبط من أصل ذلك الحكم أي الأصل كان باطلا لأن بطلان الأصل يوجب بطلان الفرع. ولقائل أن يقول لا حاجة للحنفية إلى هذا التأويل لأنهم يجوزون القيمة بنص آخر وهو قوله - تعالى -: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) , وبدلالة هذا الحديث أيضا على أنه لا يمكن الإجراء على ظاهره لأن أربعين لا يمكن أن تكون ظرفا لشاة فلا بد من تأويل وقيمتها أقرب إليها لأن القيمة تقوم مقام العين. وقوله: إذ يلزم أن لا تجب الشاة - فاسد لأنه تخصيص باللقب وهو لا يدل على النفي.

ص - ومنها حمل: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " على الصغيرة والأمة والمكاتبة. وباطل أي يؤول غالبا لاعتراض الولي , لأنها مالكة لبعضها فكان كبيع سلعة. واعتراض الأولياء لدفع نقيصة " إن كانت ": فأبطل ظهور قصد التعميم بتمهيد أصل مع ظهور " أي " مؤكدة بـ " ما " وتكرير لفظ البطلان. وحمله على نادر بعيد كاللغز مع إمكان قصده لمنع استقلالها فيما يليق بمحاسن العادات. ش - عبارات الحرائر البالغة معتبرة في النكاح عندنا خلافا للجماعة قالوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " بظاهره يدل على أنها غير معتبرة فيه أصلا. قال وأوله الحنفية بتأويلين: أحدهما: حمل المرأة على الأمة والمكاتبة والصغيرة مع إجراء قوله: باطل

على ظاهره. والثاني: حمل قوله باطل على أنه يؤول إلى البطلان غالبا لاعتراض وليها إذا تزوجت بغير كفو أو نقصت مهر مثلها مع إجراء قوله: " أيما امرأة " على ظاهر عمومه وذلك لأن المرأة مالكة لبعضها حتى كان المعتبر رضاها فكان نكاحها بغير إذن وليها كبيع سلعة لها. قوله: واعترض الأولياء: جواب عما يقال لو ملكت بضعها لم يكن للولي عليها بالاعتراض سبيل. وتقريره الاعتراض إنما هو لدفع نقيصة تتعلق بالأولياء إن وقعت من حيث التزوج بغير كفو أو بنقصان مهر مثلها فإنهم يتعيرون بذلك. وقوله: فأبطل - بيان وجه بعد التأويل فإنه أبطل ما هو الظاهر من اللفظ وهو قصد التعميم المستفاد من تمهيد أصل وهو وضع الألفاظ العامة مع ظهور كلمة أي مؤكدة بما للمبالغة في العموم فإن كلمة " ما " زيدت لتأكيد الاستغراق. وأيضا تكرير الباطل دليل على أن المراد هو الباطل لا ما يؤول إلى البطلان. وقوله: وحمله - معطوف على قوله: فأبطل - أي أبطل. وحمل هذا المؤول الحديث على نادر بعيد كاللغز لخفائه مع إمكان قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - منع استقلال المرأة بالغة حرة أو غيرها فيما يليق بمحاسن العادات. ولقائل أن يقول: الحنفية لا يحتاجون إلى تأويل هذا الحديث لأن الراوي إذا عمل بخلاف روايته بعدها كان ذلك أمارة زيفه. وهذا الحديث روته عائشة - رضي الله عنها - ثم إنها زوجت بنت أخيها

عبد الرحمن وهو غائب بالشام فدل ذلك على ظهور مانع عن العمل به إذ لا يظن بها المخالفة للحديث بدونه لا يقال غيرها أيضا رواه فيعمل بروايته لأن ظهور المانع في حقها مانع مطلقا لعدم اختصاص الموانع براو دون غيره. غاية ما في الباب أن غيرها لم يطلع عليه فإن عمل به كان مقصرا في الطلب. ولم أر في كتب الحنفية شيئا من هذه التأويلات فإن اتفق ذلك مع بعضهم يحمل على أنه أراد بها فسخ مجلس المناظرة. ثم لا نسلم أن منع استقلال الحرة البالغة بأمر نكاحها أمر مقصود لأن النكاح ما يثبت بالشبهات فكيف يجوز عدم استقلالها فيه مع جواز استقلالها في المعاوضات المالية المشتملة على أبواب الربا مع تدارك ما يتوهم في النكاح من تضييع حق الأولياء لجواز الاعتراض. ص - ومنها حملهم: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من اليلي " على القضاء والنذر لما ثبت عندهم من صحة الصيام بنية النهار فجعلوه كاللغز. فإن صح المانع من الظهور فليطلب أقرب تأويل. ش - ذهب أبو حنيفة إلى أن صوم رمضان يجوز بنية نهارية إلى أن ينتصف

النهار وخالفه غيره مستدلا بقوله: " لا صيام " لمن يبت " فإن عمومه يتناول جميع أنواعه. ونقل عن الحنفية أنهم حملوه على القضاء لأنه ثبت عندهم صحة الصوم بنية من النهار إذا لم يكن قضاء ونذرا. وحكم ببعد هذا التأويل لأن قوله - عليه السلام -: " لا صيام " نكرة في سياق النفي فيكون ظاهرا " في " العموم , وصوم النذر والقضاء نادر بالنسبة إلى الصوم الأصلي المكلف فيه في أصل الشرع فيكون حمل اللفظ على القضاء والنذر كاللغز لبعده عن الفهم. قوله: وإن صح - جواب عما يقال المانع من حمل اللفظ على الظاهر متحقق فكان التأويل المذكور صحيحا , وتقريره إن صح ذلك فليطلب أقرب تأويل لا ما هو كاللغز. ولقائل أن يقول دل الاستقراء على أن هذا أقرب تأويل لأن الصوم إما واجب أو غيره والأول إما بإيجاب الشرع كصوم الفرض وقضائه وقضاء المنذور المعين أو بإيجاب العبد كالمنذور. وقوله - تعالى -: (ثم أتموا الصيام إلى اليل) دل على تأخير النية في الفرض.

وقوله - صلى الله عليه وسلم - بعدما سأل الغداء ولم يوجد " إني إذا لصائم " دل على تأخيرها في النفل فلم يبق إلا القضاء والنذر والدلالة المذكورة تصير المرجوح راجحا في تركه إبطالها بالكلية فكان ترجيحا قريبا. وقوله: كاللغز لبعده عن الفهم إما يريد به الفهم في الجهلة أو فهم الفقهاء والأول مسلم ولكن ليس بملتزم في التأويلات فهم العوام والجهال , والثاني ممنوع فإنه قد وقع في استنباطات المجتهدين ما هو أدق من ذلك. ص - ومنها: حملهم (ولذي القربى) على الفقراء منهم لأن المقصود سد الخلة ولا خلة مع الغنى فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة سبب الاستحقاق مع الغنى. وعد بعضهم حمل مالك: (إنما الصدقات) إلى آخرها على بيان المصرف من ذلك وليس منه لأن سياق الآية قبلها من الرد على لمزهم في المعطين ورضاهم في إعطائهم وسخطهم في منعهم يدل عليه. ش - أي ومن التأويلات البعيدة للحنفية حمل قوله - تعالى -: (ولذي القربى) في قوله: (واعلموا أنا غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى ...) على الفقراء منهم لأن المقصود من دفع الخمس إليهم سد خلتهم

ولا خلة مع الغنى فحكموا بحرمان الأغنياء منهم. وأما بعده فلأنهم عطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة سبب لاستحقاقهم وإن كان مع الغنى لأن الإضافة باللام تشعر بغلبة القرابة للاستحقاق. ولقائل أن يقول الطعن بتعطيل العموم هاهنا طعن باطل لما ثبت أن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - أدخلوا يتامى ذوي القربى في يتامى المسلمين وأدخلوا مساكينهم في مساكينهم وأبناء السبيل منهم في أبناء السبيل للمسلمين ولم يعطوا أغنياءهم شيئا فالطعن به طعن على الصحابة نعوذ بالله من ذلك. وقوله: مع ظهور أن القرابة سبب - ليس بشيء لأن بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد به قرابة النصرة بقوله: " إنهم لن يزالوا معي في الجاهلية والإسلام " دليل تصييره راجحا على الظاهر فالطعن به باطل. وقد حمل مالك قوله - تعالى -: (إنما الصدقت للفقراء والمسكين ...) إلى آخرها على بيان المصرف لا المستحقين وجوز إعطاء الزكاة من الأصناف. فعد بعضهم ذلك من التأويلات البعيدة لأن إضافة الصدقات إلى الأصناف المذكورة وعطف بعضها على بعض بواو التشريك يوجب الاستيعاب فالحمل على بيان المصرف عدول عن ظاهر اللفظ بلا قرينة صارفة فيكون بعيدا. قال المصنف: وليس سياق الآية التي قبلها تدل على ما ذكره مالك لأن قبل هذه الآية قوله - تعالى -: (ومنهم من يلمزك في الصدقت فإن أعطوا منها رضوا وإن لم.

يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله رغبون). وذلك يشتمل على الرد على لمزهم الرسول في الصدقات وعلى رضاهم في إعطائهم وسخطهم في منعهم , ولما رد عليهم ذكر مصارف الصدقات ليبين أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصل الحق إلى مستحقيه. والحق ما قاله علماؤنا إنه حمل على بيان المصرف لأن الصدقات عبادة ولا يستحقها غير الله. ص - المفهوم: الدلالة منطوق , وهو: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم بخلافه , أي لا في محل النطق. والأول صريح , وهو ما وضع اللفظ له. وغير الصريح , بخلافه , وهو: مما يلزم عنه. فإن قصد وتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه فدلالة اقتضاء. مثل: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " (واسأل القرية) وأعتق عبدك عني على ألف , لاستدعاه تقدم الملك لتوقف العتق عليه. وإن لم يتوقف واقترن بحكم لو لم يكن لتعليله كان بعيدا فتنبيه وإيماء كما سيأتي. وإن لم يقصد فدلالة إشارة مثل: " النساء ناقصات عقل ودين. قيل وما نقصان دينهن؟ قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي " فليس المقصود بيان أكثر الحيض وأقل الطهر , ولكنه لزم من أن المبالغة تقتضي ذكر ذلك. وكذلك: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) مع: (وفصاله في عامين) وكذلك: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى ..) يلزم منه جواز الإصباح جنبا. ومثله: (فالآن

- المنطوق والمفهوم

باشروهن) إلى (حتى يتبين لكم ...). ش - لما فرغ من بيان التأويل شرع في بيان أقسام الدلالة. فقال الدلالة منطوق أي المدلول منطوق بدليل تذكير الخبر. وقوله: وهو ما دل عليه اللفظ لأن ما يدل عليه اللفظ مدلول لا دلالة ومن هذا يعلم أن المراد بقوله المفهوم لا مقابل المنطوق. وقسمها إلى منطوق ومفهوم وعرف المنطوق بقوله: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم بخلافه أي لا في محل النطق. ومعنى محل النطق أن يدل عليه اللفظ فيما نطق به لا في غير ما نطق به. وفي كلامه تعسف سنشير إليه. مثال المنطوق: تحريم التأفيف من قوله: (فلا تقل لهما أف). ومقال المفهوم: تحريم الضرب منه فإنه يدل عليه لكن لا في محل النطق بل في غير ما نطق به. وقسم المنطوق إلى صريح وهو: ما وضع اللفظ له. وأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: اقتضاء , وتنبيه , وإشارة , وذلك لأنه أي غير

الصريح لا يخلو إما أن يقصده المتكلم أو لا فإن قصده فإما أن يتوقف عليه صدق المتكلم أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه أو لا. فإن توقف يسمى دلالة اللفظ عليه اقتضاء وإن لم يتوقف أحد هذه الثلاثة عليه أي على ما يلزم عما وضع اللفظ له واقترن الملفوظ به بحكم لو لم يكن ذلك الحكم لتعليل الملفوظ به كان الاتيان به بعيدا من الشارع فتنبه وإيماء على ما سيأتي وإن لم يقصده المتكلم لكن يحصل بالتبعية فدلالة اللفظ عليه إشارة. وفي كلامه نظر لعدم استقامة الأقسام فإنه لم يذكر ما إذا لم يقترن الملفوظ به بحكم إلى آخره. مثال ما توقف صدق المتكلم عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " فإن المعنى الذي وضع له لفظ الخطأ لازمه حكم الخطأ مقصود منه وتوقف صدقه عليه. ومثال ما توقف عليه الصحة العقلية قوله - تعالى -: (وسئل القرية) فإن المعنى الذي وضع له لفظ القرية لازمه وهو الأهل مقصود وصحته العقلية موقوفة

عليه لأن السؤال عن القرية وهي الحيطان ونحوها غير صحيح عقلا. ومثال ما توقف عليه الصحة الشرعية: أعتق عبدك عني بألف درهم. فإن المعنى الذي وضع له لفظ أعتق عني لازمه وهو التمليك مقصود وتوقف عليه الصحة الشرعية. وأما مثال التنبيه والإيماء فسيأتي في القياس. وأما مثال الإشارة فكقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ناقصات عقل ودين " قيل: وما نقصان دينهن؟ قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي ... " فليس المقصود من هذا القول بيان أكثر الحيض وأقل الطهر ولكنه لزم منه أن يكون أكثر الحيض خمسة عشر يوما , وأقل الطهر كذلك لأن ذكر شطر الدهر مبالغة في بيان نقصان دينهن ولو كان

- حل إشكال استشكله بعض العلماء في عبارة ابن الحاجب

الحيض يزيد على خمسة عشرة " يوما ذكره ". وكذلك قوله - تعالى -: (وحمله وفصله ثلثون شهرا) مع قوله: (وفصله في عامين) يدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر , وإن لم يكن مقصودا من اللفظ ظاهرا. وكذلك قوله - تعالى -: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) يلزم منه جواز الإصباح جنبا. وكذلك قوله - تعالى -: (فالئن بشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) يدل على جواز الإصباح جنبا لأنه يدل على جواز امتداد المباشرة إلى طلوع الفجر وحينئذ يلزم ما ذكرناه. واعلم أني أذكر لك هاهنا حكاية ينبني عليها حل هذا الموضوع ويظهر سوء تركيب المصنف الذي حاز قصبات السبق في مضمار فرسان علماء النحو وهي أن الشيخ الإمام شيخ شيوخ الإسلام بالديار المصرية الشيخ علاء الدين القونوي - رحمه الله - كان يستشكل أن يكون غير الصريح قسما من المنطوق ومنشأ وهمه سوء تركيب المصنف فإنه قال: والأول صريح: وهو ما وضع اللفظ له. وغير الصريح بخلافه. فإن مراده لو كان بيان أنه قسم لقال: والأول صريح وهو ما وضع اللفظ له وغير صريح وهو بخلافه. فلما قال: وغير الصريح بخلافه دل على أنه قسم آخر غير منطوق وعلى هذا تنقسم دلالة اللفظ إلى ثلاثة أقسام: منطوق: وهو الصريح. ومفهوم: وهو خلاف المنطوق. وغير صريح وهو أيضا خلاف كل واحد منهما , ولا تفرقة بين أقسام غير الصريح وهو الاقتضاء والتنبيه والإشارة وبين المفهوم وهو الضرب من التأفيف في أن دلالة اللفظ على ذلك دلالة على خارج عما وضع له فجعل

الأقسام الثلاثة قسماً للمنطوق والمفهوم قسما تحكم صرف. فلما قدم الديار شيخنا وإمامنا العلامة النحرير البحر الزاخر بأمواج التقرير والتحرير شمس الدين الأصبهاني الذي لن تضئ الشمس شمسا مثله استكتبه شيخ الشيوخ المشار إليه رسالة في كشف غامض هذا الموضع فكتب شيخنا رسالة أشار فيها إلى مواضع زلله. منها أن قوله: والأول صريح منكر يشير إلى أن له قسما آخر إذ لو أراد حصر المنطوق في الصريح لكان التركيب الصحيح: والأول الصريح وذلك ظاهر لا يخفى على أحد وإنما جاء بغير الصريح معرفا وإن كان معطوفا على صريح لمعنيين: أحدهما: الاختصار بترك المبتدأ فإنه كان يحتاج أن يقول: وغير صريح وهو بخلافه. فاقتصر على لفظ واحد. والثاني: أن قوله: صريح في قوة الصريح معرفا بواسطة تعرفه وهو قوله: ما وضع اللفظ له. فإنه إذا عرف صار في المعنى معرفة فكأنه قال: والأول الصريح وغير الصريح ويكون قوله: - بخلافه - حالا. وذلك كله سوء تركيب وإيجاز مخل. ولما كان في الرسالة بعض تطويل وكان شيخ الشيوخ رجلا متضلعا بعلوم تمكن من المنع في بعض مقدماتها , فكتب شيخنا وإمامنا رسالة أخرى لم يتمكن " أحدا " أن يتكلم فيها يثبت سبقه. وهي هذه: قال صاحب المختصر: الدلالة منطوق إلى آخره. كلام صاحب المختصر يدل على أنه جعل الاقتضاء والتنبيه والإشارة من قبيل المنطوق وذلك لأنه قال: الدلالة منطوق: وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم بخلافه. وقد حصر الدلالة في المنطوق والمفهوم ولا واسطة بينهما

" لأن " المفهوم جعله خلاف المنطوق ولا واسطة بين الشيء وخلافه فلا واسطة بين المنطوق والمفهوم ز الأقسام الثلاثة ليست من قبيل المفهوم عند صاحب المختصر قطعا فتعين أن تكون من قبيل المنطوق. وأيضا قال: المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق. ولا واسطة بين ما دل عليه اللفظ في محل النطق وبين ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق وحينئذ يلزم قطعا أن تكون الأقسام الثلاثة من قبيل المنطوق. وذلك لأن الأقسام الثلاثة لا تخلوا إما أن تكون مما دل عليه اللفظ في محل النطق أو تكون مما يدل عليه اللفظ لا في محل النطق لضرورة الحصر. ولا يجوز أن تكون ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق وإلا لكان مفهوما لأن كل ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق فهو مفهوم. لكن الأقسام الثلاثة ليست بمفهوم قطعا عنده. فلا تكون الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ لا في محل النطق فتعين أن تكون مما دل عليه اللفظ في محل النطق إذ لا واسطة بينهما وإذا كانت الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق تكون من قبيل المنطوق لأنا نركب قياسا هكذا: الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق , وكل ما دل عليه اللفظ في محل النطق فهو منطوق فالأقسام الثلاثة منطوق. أما الصغرى فلما بينا وأما الكبرى فلأن ما دل عليه اللفظ في محل النطق جعله صاحب المختصر معرفا للمنطوق والمعرف مساو للمعرف في الصدق. فيكون ما دل عليه اللفظ في محل النطق مساويا للمنطوق وأحد المتساويين صادق على كل ما صدق عليه الآخر فإذن ثبت أن الأقسام الثلاثة من قبيل المنطوق عنده وحينئذ يلزم أن يكون المنطوق أعم من الصريح لأن كل صريح منطوق , فهو ظاهر , وليس كل منطوق بصريح. فإن الأقسام الثلاثة منطوق وليست بصريح ضرورة كونها من أقسام غير الصريح.

وإذا كان المنطوق أعم من الصريح يكون منقسما إلى صريح وغير الصريح وكل واحد منهما قسما له وقسيما للآخر , ضرورة كونهما أخصين تحت أعم. والمنطوق إما مدلول مطابقي أو مدلول تضمني أو مدلول التزامي عنده وذلك لأنه جعل المنطوق على قسمين صريح وغير صريح ز جعل الصريح ما وضع له اللفظ وكل ما وضع له اللفظ مدلول مطابقي وجعل غير الصريح ما لزم عا وضع اللفظ له , وما لزم عما وضع اللفظ له مدلول تضمني أو مدلول التزامي لأنه إما داخل فيما وضع اللفظ له أو خارج عنه. والأول مدلول تضمني والثاني التزامي. فغير الصريحح إما مدلول تضمني وإما مدلول التزامي فالمنطوق إما مدلول مطابقي وإما مدلول تضمني وإما مدلول التزامي ولا يستبعد جعل الأقسام الثلاثة من قبيل المنطوق وجعل المفهوم بخلافه وذلك لأن الأقسام فهمها من اللفظ أقرب من المفهوم والذي يدل على ذلك دليل إني ودليل لمي أما الدليل الأني فلأنهم جعلوا الأقسام الثلاثة متقدمة على المفهوم عند التعارض. وأما الدليل اللمي فلأن الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ولا شك أن ما دل عليه اللفظ في محل النطق أقرب فهما من اللفظ مما دل عليه اللفظ لا في محل النطق وهذا هو المقتضي لتقديم الأقسام الثلاثة على المفهوم. فإن قيل: ما معنى قولهم الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.

أجيب بأن معنى قولهم ما دل عليه اللفظ في محل النطق أن المدلول يدل عليه اللفظ فيما نطق به لا في غير ما نطق به. فالمفهوم دل عليه اللفظ لا فيما نطق به بل فيما سكت عنه. مثلا قول القائل: أعتق عبدك عني على ألف. يدل على ملكية العبد الذي نطق به. وقوله: " في سائمة الغنم زكاة " يدل على عدم وجوب الزكاة لكن لا فيما نطق به وهو سائمة الغنم بل في غير ما نطق به وهو العلوفة المسكوت عنها. وقوله - تعالى -: (فلا تقل لهما أف) يدل على حرمة الضرب فالحرمة المفهومة بطريق الموافقة ليست في محل النطق الذي هو الأف بل في محل مسكوت عنه وهو الضرب وعلى هذا تقريره في سائر الأقسام انتهت. وقد نقلتها بعينها تبركا بميامن ألفاظه المباركة برد الله مضجعه. ص - ثم المفهوم مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فالأول أن يكون المسكوت موافقا في الحكم ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب. كتحريم الضرب من قوله: (فلا تقل لهما أف) وكالجزاء بما فوق المثقال من قوله: (فمن يعمل) وكتأدية ما دون القنطار من: (يؤده إليك) وعدم الآخر من: (لا يؤده إليك). وهو تنبيه بالأدنى فلذلك كان في غيره أولى. ويعرف بمعرفة المعنى وأنه أشد مناسبة في المسكوت ومن ثم قال قوم هو قياس جلي. لنا: القطع بذلك لغة قبل شرع القياس. وأيضا فأصل هذا قد يندرج في الفرع مثل: لا تعطه ذرة. قالوا: لولا المعنى لما حكم. وأجيب بأنه شرطه لغة. ومن ثم قال به النافي للقياس.

- المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة

ويكون قطعياً كالأمثلة. وظنيا كقوله الشافعي في كفارة العمد واليمين الغموس. ش - المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة وإلى مفهوم مخالفة فالأول أي: مفهوم الموافقة: أن يكون المسكوت عنه موافقا للمنطوق به في الحكم ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب أي: معنى الخطاب وذلك كتحريم الضرب من قوله - تعالى -: (فلا تقل لهما أف) فإن حكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق لحكم المفهوم منه في محل النطق وكفهم الجزاء بما فوق المثقال من قوله - تعالى -: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وكفهم تأدية ما دون القنطار من قوله - تعالى -: (ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) والقنطار ألف ومائتا أوقية , عن معاذ بن جبل: " وقيل مائة وعشرون رطلا " وقيل: ملء مسك الثور ذهبا. وكفهم عدم تأدية ما فوق الدينار من قوله - تعالى -: (ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك). والمثال الثالث من قبيل التنبيه بالأعلى على الأدنى. وباقي الأمثلة من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى فكذلك أي: فلأجل أن دلالة الملفوظ على المفهوم هو

التنبيه بالأدنى على الأعلى أو بالعكس كان الحكم في غير الملفوظ أولى منه فيه. ويعرف الحكم في غير محل النطق بمعرفة المقصود من الحكم في محل النطق وأن ذلك المعنى أشد مناسبة للحكم في محل السكوت ومن ثم أي: ومن أجل توقف معرفة الحكم في محل السكوت على معرفة المعنى في محل النطق وكونه أشد مناسبة للحكم في محل السكوت قال قوم هو قياس جلي وليس كذلك. والمصنف احتج على أنه ليس بقياس بوجهين: أحدهما: أنا نقطع بفهم المعنى في محل السكوت لغة قبل شرع القياس فلا يكون قياسا. الثاني: أنه لو كان قياسا لم يندرج أصل هذا تحت الفرع لأن في القياس عكسه ولكنه مندرج أحيانا كما إذا قلت: لا تعطه ذرة فإنه يفهم منه منع إعطاء ما فوقها وهي مندرجة فيه. وقال القائلون بكونه قياسا: لولا المعنى المشترك بين المفهوم والمنطوق لما ثبت حكم المفهوم وهو المعنى بالقياس. وأجاب المصنف بأن وجوده شرط لدلالة الملفوظ على حكم المفهوم لغة والقياس ليس كذلك لأنه دال على حكم الفرع عقلا ومن أجل أنه ليس بقياس قال به

- وهو منقسم إلى قطعي وظني

النافي للقياس. ثم إنه ينقسم إلى قطعي وظني. والقطعي: هو ما لا ينكر كالأمثلة المذكورة. والظني بخلافه , كقول الشافعي في كفارة قتل العمد فإن الله - تعالى - أوجب الكفارة في قتل الخطأ بقوله: (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة) وذلك يدل على وجوبها في " العمد " لأنه أولى بالمؤاخذة لكنه يجوز أن لا يكون المعنى المقصود في محل النطق المؤاخذة بل يكون تكفير ذنبه وحينئذ لا تجب لأن العمد فوق الخطأ ولا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدنى أن تكون رافعة للإثم الأعلى. وكذلك قوله في كفارة يمين الغموس وهي الحلف على أمر ماض على خلاف ما يعلمه فإن الكفارة وجبت في اليمين المنعقدة وهو ألحق العمد بها نظرا إلى أنه أولى بالكفارة من غيره. ولقائل أن يقول إن الكفارة دائرة بين معنى العبادة والعقوبة لتأديها بالصوم ووقوعها زاجرة وكل ما هو كذلك يجب أن يكون سببه أمرا دائرا بين الحظر والإباحة لئلا يلزم إضافة العبادة إلى المحظور أو العقوبة إلى المباح والقتل العمد واليمين الغموس ليس فيهما جهة إباحة فلا يصلحان سببا للكفارة فكان إيجابها فيهما وهما

- تعريف مفهوم المخالفة وأقسامه

لا ظناً. ص - مفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفا ويسمى دليل الخطاب وهو أقسام. مفهوم الصفة , ومفهوم الشرط , مثل: (وإن كن أولات) والغاية مثل: (حتى تنكح ..) والعدد الخاص مثل: (ثمانين جلدة). وشرطه أن لا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت فيكون موافقة. ولا خرج مخرج الأغلب مثل: (اللاتي في حجوركم) (فإن خفتم ...) " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها. ولا لسؤال , ولا حادثة , ولا تقدير جهالة أو خوف أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر. ش - مفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم ويسمى دليل الخطاب وهو عشرة أقسام ذكر المصنف أقواها وهي أربعة: مفهوم الصفة ويكون باقتران اللفظ العام بصفة خاصة , كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: " ... " و " سائمة الغنم زكاة ".

- تعريف مفهوم الشرط

ومفهوم الشرط: وهو يكون عند تقييد الحكم بشرط كما في قوله - تعالى -: (وإن كن أولت حمل فأنفقوا عليهن). ومفهوم الغاية وهو يكون عندما يكون الحكم مؤقتا بما يدل على الانتهاء كما في قوله - تعالى -: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره). ومفهوم العدد الخاص وهو يكون عند تعلق الحكم بمقدار بلفظ الأعداد كما في قوله - تعالى -: (فاجلدوهم ثمنين جلدة). ثم إن له شروطا: أن لا تظهر أولوية ولا مساواة لغير محل النطق لأنه لو ظهر بالنسبة إلى محله كان مفهوم موافقة.

وأن لا يكون المنطوق خرج مخرج الأغلب كما في قوله - تعالى -: (وربئبكم التي في حجوركم) فإن الغالب من حال الربائب كونها في حجور أزواج الأمهات. فذكر المصنف لغلبته " لا لنفي التحريم غيرها ". وكما في قوله - تعالى -: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) فإن تقييد جواز الخلع بالشقاق لكون الخلع عنده غالبا. وكقوله - عليه الصلاة والسلام -: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها ... " الحديث فإن الأغلب أن المرأة لا تنكح نفسها إلا عند عدم إذن وليها بالنكاح ومنعها عنه فلا يدل على نفي البطلان عند إذن الولي. وأن لا يكون واردا لحادثة حديث كما إذا مر بشاة ميمونة فقال: " دباغها طهورها ". وأن لا يكون لتقدير جهالة المخاطب بأن لا يعلم وجوب زكاة السائمة ويعلم وجوب زكاة العلوفة فيقول فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " في سائمة الغنم زكاة " فإن التخصيص حينئذ لا يكون لنفي الحكم عما عداها.

- خلاف العلماء في حجية مفهوم الصفة وأدلة كل قول

وأن لا يكون لدفع خوف مثل " ماذا " قيل لخائف عن ترك الصلاة المفروضة في أول الوقت جاز ترك الصلاة في أول الوقت. أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر فإنه إذا تحقق الباعث عليه لا يكون مفهوم المخالفة حجة. ولقائل أن يقول: مآله الرد إلى الجهالة لعدم ضابطة وعلى تقدير ثبوتها يكون حجيته مغمورة عبر حجيتها ولا يزال النزاع في كل صورة أن فيها ما يقتضي التخصيص بالذكر فإن الطلبة المستعدين قلما يعجزون عن شيء من ذلك فكيف يجعل مثل حجة. ص - فأما مفهوم الصفة فقال به الشافعي وأحمد والأشعري والإمام وكثير. ونفاه أبو حنيفة والقاضي والغزالي والمعتزلة. والبصري إن كان للبيان كالسائمة أو للتعليم كالتحالف أو كان ما عدا الصفة داخلا تحتها كالحكم بالشاهدين. المثبتون: قال أبو عبيد في " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " يدل على أن لي من ليس بواجد لا يحل عقوبته وعرضه. وفي " مطل الغني ظلم " مثله. وقيل له في قوله: " خير له من أن يمتلئ شعرا " المراد الهجاء أو هجاء الرسول فقال لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليله كذلك. فالزم من تقدير الصفة المفهوم وقال به الشافعي وهما عالمان بلغة العرب فالظاهر فهمهما ذلك لغة. قالوا: بنيا على اجتهادهما. أجيب بأن اللغة تثبت بقول الأئمة من أهل اللغة ولا يقدح فيها التجويز , عورض بمذهب الأخفش. وأجيب بأنه لم يثبت كذلك. ولو

سلم فمن ذكرناه أرجح. ولو سلم فالمثبت أولى. ش - فأما مفهوم الصفة فقد اختلف فيه الأئمة فذهب الشافعي وأحمد وأبو الحسن الأشعري وإمام الحرمين وكثير من المتكلمين إلى أن تعليق الحكم بإحدى صفتي الذات يدل على نفي ذلك الحكم عما عداها. كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " في سائمة الغنم زكاة " فإن تعليق وجوبها بصفة " الصوم " يدل على نفي وجوبها عما ليست فيه. وذهب أبو حنيفة وحجة الإسلام الغزالي والقاضي أبو بكر إلى أنه لا يدل على ذلك. وفصل أبو عبد الله البصري. قال إن ورد الخطاب للبيان كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " في سائمة الغنم زكاة " أو للتعليم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا ... " أو كان ما عدا الصفة داخلا تحت الصفة كالحكم بالشاهدين فإن الشاهد الواحد داخل تحت الشاهدين فإنه يدل على نفي ما عداه. احتج المثبتون بأن بعض أهل اللغة كأبي عبيد فهم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لي

الواجد يحل عقوبته وعرضه ". وقال إنه يدل على أن لي غير الواجد لا يحل ذلك. واللي هو المطل , والواجد الغني , والعقوبة الحبس , وإحلال العرض المطالبة. وكذلك فهم من قوله - عليه السلام -: " مطل الغني ظلم ". وقال فيه مثل ما قال في الحديث المتقدم. وقيل له في قوله - عليه السلام -: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا " أن المراد بالشعر الهجاء أو هجاء الرسول - عليه السلام -. فقال أبو عبيد: لو كان المراد بالشعر الهجاء لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليل الهجاء كذلك فألزم أبو عبيد من تقدير الصفة نفي الحكم عما عداها. وإنما قال المصنف من تقدير الصفة لأنه لم يوجد هاهنا اسم عام مقيد بصفة ظاهرا كما في الغنم. لكن لما قيل لأبي عبيد إن المراد بالشعر الهجاء قدر الامتلاء صفة للهجاء حتى كأنه قيل الهجاء الذي يمتلئ به الجوف. والشافعي أيضا قال مفهوم. وهما عالمان بلغة العرب. والظاهر أنهما فهما المفهوم لغة لا اجتهادا فيكون حجة. وقال النافون بنى الشافعي وأبو عبيد المفهوم على اجتهادهما لأنهما كانا من أهله وإن كانا من أئمة اللغة فجاز أن يكون قولهما بذلك مستندا إلى الاجتهاد فلا يكون حجة.

وأجاب بأن اللغة تثبت بقول أئمة اللغة وكون الناقل من أهل الاجتهاد لا يقدح في ذلك لأن احتمال الاجتهاد مرجوح ونقل اللغة راجح والمرجوح لا يقدح في الراجح. وفيه نظر لأن جهة النقل إنما تكون راجحة إذا كانت جهة كون الناقل لغويا أقوى من جهة كونه مجتهدا وهو ممنوع. سلمناه لكن إنما يكون حجة أن لو كان ذلك لغة العرب كلهم وهو ممنوع فإن لغة بعض العرب ليست بحجة على غيره. وعورض بمذهب الأخفش فإنه نقل عنه أن تعليق الحكم على إحدى صفتي الذات لا يدل على نفي ما عداها. وأجاب بأن هذا لا يصلح أن يكون معارضا لما ذكرنا لأن هذا المذهب لم يثبت عن الأخفش كما ثبت خلافه عن الشافعي وأبي عبيد ولو سلم ثبوت هذا المذهب عن الأخفش كثبوت مذهبهما لكن من ذكرناه وهو الشافعي وأبو عبيد أرجح لأنهما أفضل. وفيه نظر لأن الأفضلية إن كانت من حيث النقل ممنوع وإن كان من حيث العلم والاجتهاد فلا يفيد. ولو سلم عدم رجحانهما فالدليل الذي ذكرناه راجح على الذي ذكرتم لأن دليلنا مثبت ودليلكم ناف والمثبت أولى. وفيه نظر لأن الصحيح من مذهبنا أن المثبت والنافي يتعارضان. ص - وأيضا لو لم يدل على المخالفة لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة وتخصيص آحاد البلغاء لغير فائدة ممتنع. فالشارع أجدر واعترض: لا يثبت الوضع بما فيه من الفائدة.

وأجيب بأنه يعلم بالاستقراء إذا لم تكن للفظ فائدة سوى واحدة تعينت. وأيضا: ثبتت دلالة التنبيه بالاستبعاد اتفاقا فهذا أولى واعترض بمفهوم اللقب. وأجيب بأنه لو سقط لاختل الكلام. فلا مقتضى للمفهوم فيه. واعترض بأن فائدته تقوية الدلالة حتى لا يتوهم تخصيص. وأجيب بأن ذلك فرع العموم ولا قائل به. وإن سلم في بعضها خرج فإن الفرض أن لا شيء يقتضي تخصيصه سوى المخالفة. واعترض بأن فائدته ثواب الاجتهاد بالقياس فيه. وأجيب بأنه بتقدير المساواة يخرج وإلا اندرج. ش - واحتج المثبتون بحجة أخرى تقريرها لو لم يدل مفهوم الصفة على نفي ما عداها لم يكن لتخصيص نحل النطق بالذكر فائدة. وبين الملازمة بأن الفرض أن ما يوجب التخصيص من الأمور المتقدمة مدوم؟ والأصل عدم غيره. وفيه نظر أما أولا: فلأنا لا نسلم ذلك لجواز أن يكون فائدته بيان محل الحكم لا النفي عما عداه فإنه باق على عدمه الأصلي. وأما ثانيا: فلأنه لو كان الأصل عدم غيره لزم انتفاء نفي ما عداه على تقدير فرض وجوده وهو باطل لا محالة وذلك لأن ذلك الغير هو بيان محل الحكم ولو فرضناه معدوما لانتفى ما دل عليه اللفظ في محل النطق وهو يستلزم انتفاء نفي ما عداه لتفرعه عليه. وبين المصنف بطلان التالي بقوله: " وتخصيص آحاد البلغاء لغير فائدة ممتنع فالشارع أجدر. واعترض بأربعة أوجه:

الأول: إن هذا الدليل يرجع إلى إثبات الوضع بالفائدة وليس بصحيح لأنه دور بل طريقه النقل. وأجاب أولا: بأنا لا نسلم أن ذلك إثبات الوضع بالفائدة وإنما هو إثباته بالاستقراء فإنا نعلم به أن اللفظ إذا لم يكن له سوى فائدة واحدة تتعين مرادة من اللفظ. وفيه نظر لأنه إن سلم بما فيه ففيما نحن فيه فائدة أخرى وهي بيان محل الحكم لا النفي عما عداه فإنه باق على عدمه الأصلي. وثانيا: بأن دلالة المثبت ثبتت بالاستبعاد اتفاقا فإنا قد بينا في أقسام الصريح أنه إذا اقترن بالحكم معنى لو لم يكن لتعليله استبعد ذكره معه يكون ذلك المعنى علته فإثبات دلالة المفهوم حذرا عن لزوم الامتناع في كلام الشارع أولى. وفيه نظر لأنه إثبات " اللفظ " الوضع بالدلالة وهو فاسد , ولأن الامتناع في كلامه إنما يلزم لو خلا عن الفائدة وبيان محل الحكم فائدة. ولأنه معارض بأن مفهوم المخالفة لو كان حجة لزم تحصيل الحاصل لأن العدم في غير الموصوف بها ثابت قبله فلو جعلناه للنفي لزم ذلك وهو محال. الثاني: أن الدليل المذكور منتقض بمفهوم اللقب فإنه بعينه فيه قائم وهو مردود بالاتفاق. وأجاب بالفرق بين مفهوم اللقب ومفهوم الصفة فإن فائدة تخصيص اللقب بالذكر حصول الكلام , لأنه لو سقط لاختل الكلام فلا يتحقق مقتضى المفهوم فيه لأن مقتضاه تعين الفائدة ولم تتعين لتحقق فائدة أخرى وهو حصول الكلام بخلاف مفهوم الصفة فإن حصول الكلام ليس فائدة تخصيصها بالذكر فإنها لو أسقطت لم يختل الكلام فلم يحق له فائدة غير النفي عما عداه. وفيه نظر لأنه مبني على الفرق وقد تقدم الكلام عليه. ولأن عدم الاختلال عند

إسقاط الصفة إما أن يكون قبل التكلم وليس الكلام فيه أو بعده فممنوع أو حالة التكلم وهو مخل بمقصود المتكلم لأن مقصودنا ثبات الحكم في ذلك النوع وإسقاطه مخل بذلك. الثالث: أن يقال لا نسلم أنه لو لم يدل على النفي خلا عن الفائدة لم لا يجوز أن يكون فائدة ذكرها تقوية دلالة ما جعل الوصف وصفا له على أفراده المتصفة بتلك الصفة حتى لا يتوهم تخصيصها عما وصف بها. وأجاب بأن هذه الفائدة فرع العموم , يعني أنها إنما تحصل إذا كان الاسم المقيد بالصفة عاما ولا قائل به أي بعمومه ثمة مثل هذا الاسم. وفيه نظر لأنه مناقض لما ذكر في بيان مفهوم الصفة هو أن يكون اللفظ عاما اقترن به صفة خاصة. قوله: ولئن سلم أي لو سلم العموم في بعض الصور خرج عن محل النزاع لأنه حينئذ يكون للتخصيص فائدة غير المخالفة والنزاع فيما لا شيء فيه يقتضي تخصيصه سوى المخالفة في الحكم وفيه نظر مثل ذلك منتف لكون بيان المحل غير مفارق لما تقدم وهو فائدة التخصيص. الرابع: أنا لا نسلم أنه لا فائدة للتخصيص سوى المخالفة في الحكم لم لا يجوز أن تكون الفائدة ثواب الاجتهاد بالقياس فيه فإن تخصيص الوصف يشعر بعليته فيجتهد المجتهد ويعدي الحكم إلى صورة أخرى فيحصل ثواب الاجتهاد مثل أن يرى أن الوصف في الغنم السائمة هو السوم فيجعله جامعا بينه وبين غيره من السوائم أو يعدي الحكم إليه بشروطه. وأجاب بأنه إن ثبتت المساواة بين الفرع والأصل في الوصف يخرج عن محل النزاع إذ هو ما لا يكون غير المنطوق مساويا لمنطوق في علة الحكم. وإن لم تثبت المساواة بينهما فيه اندرج فيما لا فائدة له سوى المخالفة في الحكم لامتناع القياس. ولقائل أن يقول هذا غلط فاحش لأن الاجتهاد ليس في حمل ما يخالفه في

المفهوم " عليه بالقياس " حتى يكون موافقة وإنما هو في حمل ما يوافقه في تلك الصفة عليه فيكون بالنسبة إليه إما مفهوم موافقة أو مقيسا ولا بعد في أن يكون الشيء الواحد موافقا لشيء ومخالفا لآخر واعتبر ذلك في قوله في الغنم السائمة زكاة مثلا فإنه يجوز أن تكون فائدة الوصف حمل ما كان من السوائل عليه كالخيل مثلا فيكون بالنسبة إليه مفهوم موافقة وبالنسبة إلى الغنم المعلوفة مفهوم مخالفة وهذا واضح جدا. ص - واستدل لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك إذ لا واسطة وليس للاشتراك باتفاق. وأجيب إن عنى السائمة فليس محل النزاع وإن عنى إيجاب الزكاة فيها فلا دلالة له على واحد منهما. الإمام: لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص به دون غيره لأنه بمعناه. والثانية معلومة. وهو مثل ما تقدم فإنه إن عنى لفظ السائمة فليس محل النزاع وإن عنى الحكم المتعلق بها فلا دلالة له على الحصر. ويجريان معا في اللقب , وهو باطل. واستدل بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء نفرت الشافعية ولولا ذلك ما نفرت. وأجيب بأن النفرة من تركهم على الاحتمال من التقديم أو لتوهم المعتقدين ذلك. ش - واستدل بأن ذلك الوصف إن لم يفد الحصر لزم إفراد المنطوق وهي السائمة وإفراد المفهوم وهي المعلوفة في الحكم لأنه لا واسطة بين الحصر والاشتراك فإذا انتفى الأول ثبت الثاني واللازم باطل بالاتفاق. وأجاب بأنه إن عنى السائمة يعني إن أراد أن السائمة مختصة بهذا الوصف وهو

ما يكتفي بالرعي في أكثر الحول ولا يتناول العلوفة وهي التي تحتاج إلى أن تعلف عليها في نصف السنة أو أكثرها فليس ذلك محل النزاع وإن عنى إيجاب الزكاة أي حصر إيجابها في السائمة ونفيه عن المعلوفة فالملازمة ممنوعة. قوله: إذ لا واسطة بين الحصر والاشتراك. قلنا: ممنوع إذ النزاع في دلالة اللفظ على نفي ما عدا المذكور ولا يلزم من عدم الدلالة على النفي دلالته على الاشتراك لجواز أن لا يدل على شيء من ذلك. ولقائل أن يقول هذا المنع إن كان من جهة المانعين فصحيح وإن كان من جهة المثبتين فغير صحيح لأنه إذا لم يدل على الحصر والاشتراك فإما أن لا يدل على شيء أصلا وهو باطل للزوم الإهمال , أو يدل عليه فتثبت فائدة غير الحصر والاشتراك وهو مذهب المانع وحجة على المثبت. واستدل إمام الحرمين على أن تخصيص الوصف بالذكر يفيد الحصر بأنه لو لم يفده لم يفد اختصاص الحكم بالصنف المذكور دون غيره لأن معنى الاختصاص به دون غيره هو الحصر. وفيه نظر لأنه لو كان كذلك لزم أن يكون المقدم والتالي شيئا واحدا ومعناه لو لم يفد الاختصاص لم يفد الاختصاص وهو باطل. وأما بيان بطلان التالي فقد أشار إليه المصنف بقوله: والثانية معلومة يعني أن فائدة اختصاص الحكم بالصنف المذكور دون غيره معلومة. وفيه نظر لأنه مصادر. وأجاب بأن هذا مثل ما تقدم يعني إن عنى حصر لفظ السائمة بهذا الصنف وعدم تناوله للمعلوفة فليس محل النزاع وإن عنى حصر الحكم المعلق بالسائمة أي اختصاصه بها ونفيه عما عداها فالملازمة ممنوعة. وما قيل في بيانها إن معنى الاختصاص به دون غيره هو الحصر فاسد لما مر من اتحاد المقدم والتالي إذ ذاك.

ونقض هذان الاستدلالان بمفهوم اللقب فإنهما يجريان معا فيه وهو باطل. واستدل للمثبتين بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء نفرت الشافعية ولو لم يكن ذكر الوصف دالا على نفي الحكم عما عداه لما نفرت. وأجاب بأن نفرتهم ليست من ذلك بل من تركهم على الاحتمال فإن تخصيص الحنفية بالذكر يوجب القطع بفضلهم وترك الشافعية يوجب الاحتمال وذلك يوجب النفرة , كما أن تقديم الشافعية يوجب النفرة إذ نفرة الشافعية لتوهم أن المعتقدين مفهوم الصفة يعتقدون أنهم ليسوا أئمة فضلاء. وفيه نظر لأن نفي الفضيلة عنهم لا يجوز أن يكون لتخصيص الحنفية بالذكر وإلا لزم تحصيل الحاصل كما مر وإنما هو بناء على العدم الأصلي. ص - واستدل أيضا بقوله - تعالى -: (إن تستغفر لهم سبعين مرة). ش - وبيانه أنه لما نزل في أقارب الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " والله لأزيدن على سبعين ". ففهم - صلى الله عليه وسلم - أن ما زاد على السبعين بخلافه ولو لم يكن في ذكر الوصف دالاً على

ذلك لما فهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وفيه نظر لأن هذا مفهوم العدد وليس الكلام فيه. وأجاب بمنع أنه - عليه السلام - فهم ذلك لأن هذه الآية للمبالغة في عدم الغفران وإن كثر الاستغفار فتساوي السبعون وما فوقه , وإنما قال ذلك استمالة لقلوب الأحياء منهم لا غير أو لعل وقوع المغفرة بالزيادة على سبعين باق على أصله في الجواز فإن جواز وقوعها بالزيادة على سبعين قبل نزول الآية ثابت فلم يفهم الرسول - عليه السلام - جواز وقوع المغفرة بما زاد على السبعين من التخصيص بالذكر. ولقائل أن يقول فعلى هذا يجوز للمانعين أن يقولوا بالعدم في المعلوفة قبل ورود قوله - عليه السلام -: " في السائمة زكاة " كان ثابتا فلعله باق. وهذا يهدم بناء كل ما تقدم من جانب المثبتين. ص - واستدل بقول يعلى بن أمية لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا وقد قال - تعالى -: (فليس عليكم جناح) فقال عمر: تعجبت " ما " تعجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إنما هي صدقة تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته ". " منها " نفي القصر حال عدم الخوف وأقر - صلى الله عليه وسلم -. وأجيب: لجواز أنهما استصحبا وجوب الاتمام , فلا يتعين. واستدل بأن فائدته أكثر فكان أولى تكثيرا للفائدة. وإنما يلزم من جعل تكثير الفائدة يدل على الوضع. وما قيل إنه دور لأن لازمه يتوقف على تكثير الفائدة وبالعكس فلزمهم في كل موضع. وجوابه أن لازمه يتوقف على تعقل تكثير الفائدة عندها لا على حصول الفائدة.

واستدل لو لم يكن مخالفا لم تكن السبع في قوله: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا " فطهره لأن تحصيل الحاصل محال. وكذلك: " خمس رضعات يحرمن ". ش - واستدل أيضا على ذلك بقول يعلى بن أمية لعمر - رضي الله عنهما -: " ما لنا نقصر وقد أمنا ". وقد قال - تعالى -: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم) فقال عمر - رضي الله عنه -: تعجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إنما هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ففهم عمر ويعلى التخصيص بحال الخوف والنفي عما عداه وهما من أهل اللسان وتقرير النبي - عليه السلام - على ذلك دليل على المطلوب. وأجاب بأن " فهمهم ذلك وتعجبهم " يجوز أن يكون لأجل استصحابهما وجوب الإتمام حالة الأمن فلا يتعين أن يكون فهم وجوب الإتمام حال الأمن من التخصيص بالذكر.

وفيه نظر لأن هذا من باب مفهوم الشرط وليس الكلام فيه. ولأن فيه تقوية للمانعين. واستدل أيضا على ذلك بأن فائدته أكثر الدلالة الكلام حينئذ على الإثبات في محل النطق والنفي في غيره وما كان فائدته أكثر فهو أولى تكثيرا للفائدة. وفيه نظر لأن فيه مصادرة. قال المصنف: وهذا الدليل يلزم إن جعل تكثير الفائدة دالا على الوضع وهو ضعيف لأنه استدلال في اللغة وطريقها السماع. وقيل: في هذا الدليل دور لأن دلالة اللفظ على المفهوم تتوقف على تكثير الفائدة لكونه علتها حينئذ وتكثير الدلالة تتوقف على دلالة اللفظ على المفهوم. وأجاب بأنه لو صح لزمهم في كل موضع بأن يقال دلالة اللفظ على مدلوله تتوقف على الوضع والوضع يتوقف على الفائدة لأنه إنما وضع لها. وفيه نظر لأن الفائدة تتوقف على تحقق الوضع والوضع يتوقف على تصورها غاية فاختلفت الجهة. وبأن دلالته على تعقل تكثير الفائدة. وتقريره باختلاف بأن يقال دلالة اللفظ على المفهوم تتوقف على تعقل تكثير الفائدة عند الدلالة على حصوله وحصوله يتوقف على وجود الدلالة. ويجوز أن يدفع الدور بأن التوقف توقف معية فلا دور. واستدل أيضا بأن الحكم في غير محل النطق لو لم يكن مخالفا الحكم في محله لم تكن السبع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا مطهرة. ولم تكن الخمس في قوله - عليه السلام -: " خمس رضعات

يحرمن" محرمة. والتالي باطل. وبيان الملازمة أن التخصيص إذا لم يدل على نفي الحكم عما عداه لحصل الطهارة بما دون السبع لعدم المخالفة , ولحصل التحريم بما دون الخمس كذلك وإذا حصل ذلك بما دون العددين لا يحصل بهما وإلا لزم تحصيل الحاصل ولم يجب المصنف عنه. وأجاب بعض الشارحين بأنه لا يلزم من عدم المخالفة أن يكون ما دون العددين مطهرا ومحرما لجواز عدم دليل بدليل آخر. وفيه نظر لأن الأصل عدم الدليل فلا بد من بيانه ولأنه من باب مفهوم العدد وليس الكلام فيه , ولأنه استدلال بالجزئيات المرتبة على القاعدة الكلية وإثبات القاعدة بالجزئيات الثانية منها دور. وللمانعين قول كلي يظهر به بطلان قول المثبتين وهو أن التخصيص بالوصف يدل على إثبات الحكم في محل النطق بالاتفاق وإنما النزاع في النفي عما عداه وهما مفهومان متقابلان بالضرورة فدلالة الوصف عليهما إما أن يكون بطريق الحقيقة وهو باطل للاشتراك أو بطريق الحقيقة والمجاز وهو أيضا كذلك لما تقدم من بطلان الجمع بينهما بما لا مرد له. ص - النافي: لو ثبت لثبت بدليل وهو عقلي ونقلي إلى آخره. وأجيب بمنع اشتراط التواتر , والقطع بقبول الآحاد الأصمعي أو الخليل أو أبي عبيدة أو سيبويه. قالوا: لو ثبت لثبت في الخبر. وهو باطل لأن من قال في الشام الغنم السائمة لم يدل على خلافه قطعاً.

وأجيب بالتزامه. وبأنه قياس. ولا يستقيمان. والحق: الفرق بأن الخبر وإن دل على أن المسكوت عنه غير مخبر به فلا يلزم أن لا يكون حاصلا بخلاف الحكم إذ لا خارجي له. فيجري فيه ذلك. قالوا: لو صح لما صح أد زكاة المعلوفة والسائمة كما لا يصح لا تقل له أف واضربه للتناقض ولعدم الفائدة. وأجيب بأن الفائدة عدم تخصيصه ولا تناقض في الظواهر. قالوا: لو كان لما ثبت خلافه للتعارض والأصل عدمه وقد ثبت في نحو: " لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ". وأجيب بأن القاطع عارض الظاهر فلم يقو. وتجب مخالفة الأصل بالدليل. ش - النافون تمسكوا بأربعة أوجه: الأول: أنه لو ثبت ذلك فإما أن يثبت بدليل أو لا , والتالي باطل. والأول إما أن يكون بعقلي وهو معزول عن الإفادة " وفي " الدلالات الوضعية أو بنقلي وشرطه التواتر لأن اآحاد يفيد الظن وهو غير معتبر في إثبات اللغات , والتواتر غير متحقق وإلا لما وقع الخلاف. وأجاب المصنف بمنع اشتراط التواتر فإن الآحاد مقبولة في اللغة كنقل الخليل والأصمعي.

وأبي عبيدة وسيبويه. وفيه نظر لأنه إنما يكون نقل الآحاد معتبرا إذا نقلوا أنه لغة كل العرب ولم يتفق ذلك وحينئذ يجوز أن يكون ذلك لغة بعضهم فلا يكون حجة إلا على من التزمه. الثاني: أنه لو ثبت ذلك في الحكم لثبت في الخبر وهو باطل أما الملازمة فلتقيد كل من الكلامين بالوصف , والفرق تحكم وأما انتفاء التالي فلأن من قال في الشام الغنم السائمة لم يدل على خلافه لجواز أن تكون ثمة غنم معلوفة أيضا. وأجيب بالتزام ذلك فلا يكون التالي ممنوعا وبمنع الملازمة فإنها تثبت بالقياس وهو غير معتبر في إثبات اللغة. وزيف المصنف الجوابين: أما الأول: فبأنه لم ينقل عن أحد من المثبتين الإلزام المذكور. وأما الثاني: فبأنه ليس بقياس في اللغة لأن القياس كما تقدم عبارة عن إلحاق

مسمى باسم لم يسمع الأول من أهل اللغة وسمي به الثاني لمعنى يستلزم الاسم وجودا وعدما ووجد في الأول ومعلوم أنه هنا ليس كذلك. ثم قال والحق الفرق بين الحكم والخبر فإن الخبر وإن دل على أن المسكوت عنه لجواز حصوله بدون الخبر لأنه له خارج فيجوز أن يحصل ذلك الخارجي للمسكوت عنه بخلاف الحكم فإنه إذا دل على أن المسكوت عنه غير محكوم به لزم أن لا يكون حاصلا للمسكوت عنه إذ لا خارج للحكم فيجري فيه ما جرى في الخبر. ولقائل أن يقول الجواب بالفرق غير مستقيم. ومنها أن بعض المانعين مذهبهم بطلان الفرق فلا يلزمه. ومنها أن المسكوت عنه إذا جاز أن يحصل له ما تضمنه الخبر من الخارج كان أولى بالنفي لأن السبب يستلزم تصور الإيجاب أما إذا لم يجز أن يحصل للمسكوت عنه بعدم الخارج فهو معدوم فيه , والمعدوم لا ينفى. ومنها أن المسكوت عنه إذا جاز أن يحصل له ما تضمنه الخبر من الخارج فالمنطوق به كذلك فتخصيصه بالوصف تحصيل للحاصل. الثالث: لو صح ذلك لما صح أد زكاة السائمة والمعلوفة. كما لا يصح لا تقل له أف , واضربه , لوجهين: أحدهما: عدم الفائدة لذكر الوصفين فإن ذكر الغنم مغن عن ذكرهما. والثاني: لأن التخصيص إن دل على النفي توارد على المعلوفة نفي وجوب الزكاة المفهوم وإيجابه المصرح به فكان في قوة تجب الزكاة في المعلوفة ولا تجب فيها وهو تناقض. وفيه نظر فإن الصريح أقوى يترك به المفهوم. وأجاب بأن الفائدة عدم تخصيص المعلوفة بالاجتهاد عن العموم ولا تناقض في الظاهر فإن دلالة التخصيص بالذكر على النفي ظاهر لا قطعي فيجوز أن يترك بقطعي. وفيه نظر لجواز أن يكون المصرح به لفظا عاما وهو أيضا ظاهر عنده لا نص فلا يندفع على أن التناقض في الظاهر متحقق والمذكور دفع بحسب الحقيقة , ولو أبرز

- خلاف العلماء في حجية مفهوم الشرط

الكلام بلفظ الصريح كما ذكرنا اندفع الأول. الرابع: لو كان كذلك لما ثبت خلافه أي لما ثبت الحكم فيما عداه لئلا يلزم التعارض الذي هو على خلاف الأصل ولكنه ثبت في قوله - تعالى -: (لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة) لأن أكل الربا حرام وإن لم يكن أضعافا مضاعفة. وفيه نظر لأنه هو الوجه الثالث خلا أنه سماه تناقضا وها هنا تعارضا. ويجوز أن يقال وحدة الزمان شرط في التناقض فإذا قال: أد زكاة السائمة والمعلوفة اتحد. فسماه تناقضا. بخلاف التعارض فإنه يقع باعتبار جهالة التاريخ وقد وجد ذلك بين الآيتين فسماه تعارضا. وأجاب بأن قوله - تعالى -: (لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة) يقتضي إباحة الربا إذا لم يكن كذلك بحسب الظاهر لكن القاطع الذي هو قوله - تعالى -: (وحرم الربوا) عارضه فاندفع الظاهر فلم يقو المفهوم , والتعارض وإن كان خلاف الأصل يجب القول به إذا دل عليه دليل لوجوب مخالفته بالدليل. وفيه نظر فإن التعارض هو تقابل الحجتين على السواء وإذا كان أحدهما قطعيا يتحقق التعارض بينهما فكان التزام وجوده فيما نحن فيه. وما بنى عليه من التزام جواز مخالفة الأصل لدليل قائم في علم المناظرة. ولأن دلالة القطعي ليس بمنحصر فيما وراء المخصوص بل هو عام فيه وفي غيره فيقع (أضعافا مضاعفة) غير مقيد وهو غير جائز. ص - وأما مفهوم الشرط - فقال به بعض من لا يقول بالصفة. القاضي وعبد الجبار والبصري على المنع. القائل به ما تقدم. وأيضا يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط.

وأجيب قد يكون سبباً. قلنا: أجدر إن قيل بالاتحاد. والأصل عدمه , إن قيل بالتعدد. وورد: (إن أردن تحصنا). وأجيب بالأغلب وبمعارضة الإجماع. مفهوم الغاية: قال به بعض من لا يقول بالشرط كالقاضي وعبد الجبار. القائل به ما تقدم. وبأن معنى صوموا إلى أن تغيب الشمس آخره غيبوية الشمس فلو قدر وجوب بعده لم يكن آخرا. ش - اختلفوا في أن الحكم إذا علق على شرط هل ينتفي بانتفائه أو لا؟ القائلون بمفهوم الصفة وبعض منكريه قالوا: لانتفاء الحكم لانتفاء الشرط. ومنعه القاضي عبد الجبار وأبو عبد الله " المصري ". واحتج القائلون به بوجهين: أحدهما: ما تقدم وهو أن أئمة اللغة فهموا ذلك ونقلوه واللغة تثبت بذلك. وفيه نظر لأنه لم يتواتر والآحاد لا يفيد كونه لغة الجميع ولغة بعض غير ملزم كما تقدم.

وأجيب عن هذا الدليل بأن ما وقع شرطا قد يكون سببا ولا يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب. وأجاب المصنف عن هذا الجواب بأنه إن قيل باتحاد السبب فهو أجدر بأن ينتفي المسبب بانتفائه لأنه يكون موجبا لوجود المسبب إذ ذاك فيلزم من انتفائه انتفاءء المسبب قطعا. وإن قيل: " بتعد " السبب يمتنع التعدد لأن الأصل عدمه. فيلزم من انتفائه انتفاء المسبب ظاهرا. ولقائل أن يقول تعدد السبب واقع كالبيع والهبة والصدقة والإرث للمالك فلا يصح منعه. وأورد على مفهوم الشرط قوله - تعالى -: (ولا تكرهوا فتيتكم على البغاء إن أردن تحصنا) فإن الإكراه على البغاء منتف وإن لم يردن تحصنا. وأجاب عنه بوجهين: أحدهما: أن وقوع الإكراه بحسب الأغلب عند إرادة التحصن فحينئذ يكون الموجب للتخصيص وقوعه بحسب الأغلب والكلام فيما إذا لم يوجد مخصص سوى المخالفة كما تقدم في مفهوم الصفة. وفيه نظر لما تقدم أنه يفضي إلى الجهالة والجدال , ولأنه قول بوجود اللغو وهو لغو. والثاني: أن الآية دلت بحسب الظاهر على انتفاء حرمة الإكراه عند عدم إرادة التحصن والإجماع القاطع عارض الظاهر فاندفع لأن الظاهر يندفع بالقاطع فلم يتحقق بمفهوم الشرط. ولقائل أن يقول الإجماع لم يكن حجة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون الإكراه على البغاء إذا لم يردن تحصنا حلالا بمقتضى الظاهر السالم عن المعارض القطعي

- خلاف العلماء في حجية مفهوم اللقب

وهو باطل قطعاً. وكذلك اختلفوا في حكم قيد بغاية كقوله - تعالى -: (ثم أتموا الصيام إلى اليل) فذهب كل من قال بمفهوم الصفة إلى أنه يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وبعض من لا يقول به أيضا كالقاضي وعبد الجبار. واحتجوا بما تقدم أن أئمة اللغة فهموا ذلك ونقلوه إلى آخره. وفيه نظر تقدم غير مرة. وبأن قول القائل: صوموا إلى أن تغيب الشمس. معناه صوموا صوما آخره غيبوبة الشمس. فلو قدر وجوب بعد غيبوبة الشمس لم تكن الغيبوبة آخرا بل وسطا. وفيه نظر لأن النافي " يقدر بعد " غيبوبة الشمس وجوبا بل يقول هو ساكت والساكت لا ينسب إليه قول فالنفي والإثبات يكون بخارج. ولأنه يرد عليه قوله - تعالى -: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) فإنها داخلة. فإن أحيل على دليل خارجي عورض في الصوم بالعكس. ص - وأما مفهوم اللقب , فقال به الدقاق وبعض الحنابلة. وقد تقدم. وأيضا فإنه كان يلزم من محمد رسول , وزيد موجود , وأشباهه ظهور الكفر. واستدل بأنه يلزم منه إبطال القياس لظهور الأصل في المخالفة. وأجيب بأن القياس يستلزم التساوي في المتفق عليه فلا مفهوم فكيف به هنا.

قالوا: لو قال لمن يخاصمه: ليست أمي بزانية ولا أختي - تبادر نسبة الزنا إلى أم خصمه وأخته ووجب الحد عند مالك وأحمد. قلنا: من القرائن لا مما نحن فيه. ش - وقد اختلفوا في مفهوم اللقب. فذهب الجمهور إلى أنه إذا علق حكم على اسم لا يدل على نفيه عما عداه وذلك كقوله - عليه السلام -: " الماء من الماء " أي الغسل من المني. وذهب الدقاق وبعض الحنابلة إلى النفي عما عداه. قال المصنف: وقد تقدم قبل يعني به الفرق المذكور بين مفهوم الصفة ومفهوم اللقب بأن فائدة تخصيص الاسم حصول الكلام فإنه لو أسقط الاسم لاختلال الكلام فلا يتحقق المقتضى للمفهوم فيه فإن المقتضي له هو انتفاء فائدة التخصيص بخلاف مفهوم الصفة فإنه لو أسقط الصفة لم يختل الكلام فيتحقق المقتضى للمفهوم وهو انتفاء فائدة التخصيص. وفيه نظر لأن هذا لا يصح أن يكون دليلا للجمهور وهو ظاهر ولا جواباً

لخصمهم لأنه لم يذكر لهم قياسا جامعا بين البابين ليدفعه بإبداء الفارق. واحتج أيضا بأنه لو دل على النفي عما عداه لزم من قول القائل محمد رسول الله , وزيد موجود , ظهور الكفر والتالي باطل بالإجماع وذلك لأنه على ذلك التقدير لا يكون موسى وعيسى وغيرهما أنبياء وأن لا يكون الإله موجودا وهو يوجب الكفر بطريق الظهور لا القطع لأن دلالة المفهوم ليست بقطعية. ولقائل أن يقول انتفاء الكفر بالدلائل القطعية على وجود الإله ونبوة الأنبياء والظاهر يترك بالقطعي. واستدل بأنه لو دل على النفي عما عداه بطل القياس لأنه حينئذ يكون الأصل ظاهرا في مخالفة الفرع له في الحكم إذ النص أو الإجماع الدال على الحكم في الأصل دال على نفي الحكم عن الفرع بحسب الظاهر فلو عمل بالقياس لزم مخالفة ظاهر النص أو الإجماع وهو غير جائز لكن بطلان القياس باطل بالدلائل القاطعة فكذلك ما أفضى إلى بطلانه. وفيه نظر لأنه إنما ينهض أن لو كان الأصل المقيس عليه في كل قياس اسما علما حتى يجري فيه مفهوم اللقب وليس كذلك. ولأنه يجوز أن يقول الخصم دلالة اللقب ظاهر يجوز أن يترك بالأدلة القاطعة الدالة على ثبوت " القياس ". وأجاب بأن القياس يستلزم التساوي في المقيس عليه فلا مفهوم فكيف به هاهنا؟ وقيل في تقريره بأن القياس في المتفق الذي هو مفهوم الصفة يستلزم التساوي بين الأصل والفرع في المعنى الموجب للحكم. وشرط مفهوم المخالفة عدم مساواة المنطوق للمسكوت عنه في المعنى الموجب للحكم فلا مفهوم مع التساوي في المتفق عليه بل يحمل المسكوت عنه على

المنطوق بالقياس فكيف بالقياس هاهنا أي في مفهوم اللقب الذي هو المختلف فيه لا يحمل المسكوت عنه على المنطوق إذا " وجد المنطوق المعنى " الموجب للحكم. وهو في الحقيقة منع الملازمة أي لا نسلم أن مفهوم اللقب لو كان ثابتا بطل القياس لأنه يستدعي اجتماع اللقب معه وهو لا يجتمع مع القياس لأن شرط القياس المساواة بين الأصل والفرع , وشرط مفهوم اللقب عدم المساواة بين المثبت والمنفي فهما متنافيان " لا يجتمعان " حتى يبطل القياس به ولكن إدخال مفهوم الصفة في البين وهو الذي سماه المتفق عليه على ما مر من تقريره ليس على ما ينبغي لجواز أن تقع المناظرة مع من لا يقول بمفهوم الصفة فيبقى ضائعا. ولقائل أن يقول هذا الجواب في التحقيق مغالطة لا تجدي لأن غايته الدلالة على التنافي وعدم الاجتماع فجاز للخصم أن يقول لما كان كذلك فلو تحقق أحد المتنافيين وهو مفهوم اللقب لانتفى الآخر وهو القياس لأن تحقق أحد المتنافيين يستلزم انتفاء الآخر بالضرورة واللازم باطل لثبوت القياس بما مر فينتفي مفهوم اللقب. وأما إلغاز المصنف في كلامه وإيجازه المخل فلا يخفى على أحد. والمثبتون قالوا: لو قال رجل لمن يخاصمه ليست أمي بزانية ولا أختي تبادر الفهم إلى نسبة الزنا إلى أم خصمه وأخته ولهذا يجب الحد عليه عند مالك وأحمد فكان حقيقة في النفي وهاهنا نفي النفي.

- اختلف العلماء في إفادة إنما الحصر

وأجاب بأن التبادر إلى الفهم إنما هو من القرائن وليس الكلام فيه. ص - وأما الحصر ب " إنما ". فقيل: لا يفيد. وقيل: منطوق. وقيل: مفهوم. الأول: إنما زيد قائم بمثل إن زيدا والزائد كالعدم. الثاني: (إنما إلهكم) بمعنى ما إلهكم إلا الله وهو المدعى. وأما مثل: (إنما الأعمال بالنيات) و (إنما الولاء لمن أعتق) فضعيف لأن العموم فيه لغيره. فلا يستقيم لغير المعتق ولاء ظاهرا. ش - اختلف الناس في إفادة إنما الحصر. فنفاه بعض. وأثبته آخرون منطوقا وآخرون مفهوما. واحتج أهل المذهب الأول بأن قولنا: إنما زيد قائم. في قوة إن زيدا قائم , وما زائدة , والزائد كالعدم. وكما أن قولنا: إن زيدا قائم لا يفيد الحصر لا منطوقا ولا مفهوما كذلك إنما زيد قائم. ورد بأن الدليل عين الدعوى. وفيه نظر لأن الدعوى عدم إفادة الحصر والدليل زيادة ما وعدم الاعتداد بالزائد.

- خلاف العلماء في حجية مفهوم الحصر

واحتج الثاني بأن قوله - تعالى -: (إنما إلهكم الله) بمعنى ما إلهكم إلا الله , وكما أن ذلك يفيد الحصر بالمنطوق فكذلك هذا. قال: وهو المدعى أي كون (إنما إلهكم الله) بمعنى ما إلهكم إلا الله هو المدعى لأن الحصر عبارة عنه. وفيه نظر لأنا لا نسلم معنى (إنما إلهكم الله) ما إلهكم إلا الله بل معناه إن إلهكم الله , والحصر أفاده قوله: (الذي لا إله إلا هو). قوله: وأما مثل: " إنما الأعمال بالنيات " إشارة إلى الجواب عما قيل لو كان لفظ إنما مفيدا للحصر لما صح عمل بلا نية ولا ثبت ولاء لغير المعتق لقوله - عليه السلام -: " إنما الأعمال بالنيات " و " إنما الولاء لمن أعتق " ولكن العمل قد يصح بدونها والولاء قد يكون لغير المعتق كوارثة العصبة وذلك بأن قال: فضعيف , لأن عموم صحة العمل بالنسبة وغيرها وكذا عموم الولاء للمعتق وغيره , إنما ثبت بغير هذا الحديث كالإجماع. والحديث بحسب الظاهر يدل على أنه لا يستقيم العمل بغيرها , ولا الولاء لغيره , لكن يجوز أن يعدل عن الظاهر بالقطعي. وفيه نظر لأن دعوى الإجماع تحتاج إلى بينة , ولو ثبت فهو سكوتي للقطع بعدم تكلم الجميع فليس بقاطع ليترك به الظاهر. ولم يتعرض للمذهب الثالث اعتمادا على ما ذكر من الأدلة والأجوبة فيما تقدم من المفهومات. ويجوز أن ينزل قوله: وأما مثل " إنما الأعمال بالنيات " على ذلك. ص - وأما مفهوم الحصر فمثل صديقي زيد , والعالم زيد , ولا قرينة عهد. فقيل: لا يفيد. وقيل: منطوق. وقيل: مفهوم. الأول: لو أفاده لأفاد العكس لأنه فيهما لا يصلح للجنس ولا لمعهود معين لعدم القرينة , وهو دليلهم.

وأيضاً لو كان لكان التقديم يغير مدلول الكلمة. القائل به لو لم يفده لأخبر عن الأعم بالأخص , لتعذر الجنس والعهد فوجب جعله لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي. قلنا: صحيح , واللام للمبالغة فأين الحصر. ويلزمه زيد العالم بعين ما ذكر. فإن زعم أنه يخبر بالأعم فغلط لأن شرطه التنكير. فإن زعم أن اللام لزيد فغلط لوجوب استقلاله بالتعريف منقطعا عن زيد , كالموصول. ش - اللفظ الكلي إذا عرف بالإضافة أو اللام وصدر مخبرا عنه وأخبر عنه بما يجوز أن يكون أحد جزئياته كقولنا: صديقي زيد , والعالم عمرو بغير قرينة تفيد العهد هل يفيد حصر ذلك الكلي في ذلك الجزئي أو لا؟ فيه خلاف. قيل: لا يفيده. وقيل: يفيده منطوقا , وقيل: مفهوما. احتج الأول بوجهين: أحدهما: أنه لو أفد ذلك لأفاد عكسه وهو زيد صديقي , وعمرو العالم واللازم باطل بالاتفاق وبيان الملازمة بأن الدليل المفيد له فيه موجود في عكسه وهو أن

المخبر عنه في قولنا صديقي زيد , والعالم عمرو لا يصلح أن يكون للجنس لعدم صدق كل صديقي زيد , وكل عالم عمرو , والفرض أنه لا عهد فتعين أن يكون المعهود ذهني مقيد بما يصيره مطابقا للمخبر به مساويا له. ويفيد الحصر وهو بعينه قائم في عكسه. ولقائل أن يقول ليس معنى الحصر كون المخبر عنه الذهني مطابقا للمخبر به وإنما معناه إثبات الخبر للمخبر عنه ونفيه عما عداه في قصر الصفة على الموصوف وعكسه في قصر الموصوف على الصفة وذلك يفهم بالتقديم لأن تقديم الشيء بإزالته عن حيزه الطبيعي يقتضي الحصر والحاكم على ذلك الذوق السليم والطبع المستقيم وذلك أمر خطابي فطلب إثباته بوجه جدلي خلط في الكلام وخبط في المرام. الثاني: أنه لو أفاد الحصر ولم يفده العكس لكان التقديم يغير مدلول الكلمة لأنه لم يكن بين الأصل والعكس فرق إلا بالتقديم , والتالي باطل لأن التقديم لا يغير مدلول الكلمة. وفيه نظر لأن التقديم لا يغير مدلول الكلمة وإنما يغير خاصية التركيب والتراكيب لها خواص لازمة أو جارية مجرى اللازمة يعرفها علماء علم المعاني

وإنكار ذلك جهل بعلم البلاغة نعم يجوز أن يقال إنها ليس من أبحاث هذا العلم لأنه جدل. واحتج القائل بأن مثل العالم زيد يفيد الحصر بأنه لو لم يفده لزم الإخبار عن الأعم بالأخص وهو باطل وبيان الملازمة بتعذر كون اللام للجنس لعدم الصدق كل عالم زيد أو للعهد لعدم القرينة فتعين أن تكون للماهية وهي أعم من جزئياتها فيلزم الإخبار عن الأعم بالأخص وهو باطل فوجب جعله لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي في العلم ليندفع المحذور. وأجاب بأن قولكم وجب لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي صحيح ولكن اللام حينئذ تكون للمبالغة فلم يلزم منه الحصر. وفيه نظر لأن الحصر على نوعين حقيقي وادعائي وإذا كان اللام للمبالغة كان الحصر ادعائيا. ثم قال المصنف ويلزم الخصم أن يكون زيد العالم مفيد للحصر بعين ما ذكر وكون اللام للمبالغة نص عليه سيبويه فإنه قال: اللام في زيد الرجل للمبالغة. وبيان أنه كامل في الرجولية.

ولقائل أن يقول لا فرق بين الصورتين في إفادة الحصر الادعائي عند علماء المعاني والفرق بينهما تحكم. ثم قال: وإن زعم الخصم أنه لا يتعذر أن تكون اللام للماهية في قولنا: زيد العالم إذ قد يخبر بالأعم عن الأخص بخلاف قولنا: العالم زيد فإنه ممتنع أن يخبر عن الأعم بالأخص فهو غلط لأن شرط الإخبار عن الأخص بالأعم تنكير الأعم فحينئذ يتعذر أن تكون اللام في قولنا: زيد العالم للماهية. وفيه نظر لأن ذلك إما أن يكون مطلقا أو إذا لم يكن المراد المبالغة والأول ممنوع والثاني هو المطلوب. ثم قال: فإن زعم أنه لا يتعذر أن تكون اللام في قولنا زيد العالم للعهد فإنه يجوز أن تكون لزيد بقرينة التقدم بخلاف قولنا: العالم زيد فإنه لا يجوز أن لا تكون اللام لزيد إذ لا قرينة فهو غلط أيضا لوجوب استقلال الخبر بالتعريف منقطعا عن زيد كالموصول فإنه يستقل بالتعريف وهذا الاستقلال يمنع كون اللام لزيد لتوقف تعريفه حينئذ على تقدم قرينة زيد. ولقائل أن يقول اللام موضوعة للعهد لا بد لها في الإفادة من معهود فإن تقدمت في أول الكلام فمعهودها ذهني وإن تأخرت فمعهودها ما تقدم وهذا المعنى ينافي الاستقلال وفي هذا الموضع تحقيق لا بأس بتعرضه وهو أن معنى قولهم اللام موضوعة للعهد أنها موضوعة لتذكير السامع ما حضر في ذهنه من الحقيقة المجردة أو المخلوطة تمهيدا لما يرومه المتكلم من الحكم عليه وأعني " بالحقيقة " المجردة الماهية المخلوط معها تعين لا التي يصحبها التعين , والفرق بينهما بين. فإن الأولى: هي التي عهد المخاطب تعينها في ذهنه. والثانية: هي التي لا تنفك عن تعينات من غير أن يكون شيء منها ملحوظا معها

* النسخ

كما أشار إليه العلامة صاحب المفتاح حيث قال: ثم إن الحقيقة لكونها من حيث هي هي لا متعدد لتحققها مع التعدد ولا متعددة لتحققها مع الوحدة وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما صالحة للتوحد والتكثير. وأعني بالحقيقة المخلوطة ما يكون التعين معها مع شيء آخر يخرجها عن الكلية والأولى تسمى معهودا ذهنيا , والثانية خارجيا , وتحقيق ذلك أن الحقائق هي المحكوم عليها لا محالة ولا بد للحكم من معرفة المحكوم عليه لئلا يكون الحكم عبثا وقد وضع الحكيم لها عدة طرق , المضمر والعلم والإشارة والموصول والتعريف باللام والإضافة المعنوية إلى أحدهما , ومآل الكل العهد لأنك إذا قلت هو أو أنا أو غيرهما ولم يعلم السامع المرجع لعدم حضوره في ذهنه في الأول وكذلك وفقد بصره في الثاني وفي الإشارة وكذا إذا لم يعلم المسمى بالعلم والمشار إليه في الموصول واللام لم يحصل له فائدة أصلا وهو واضح جدا فلا بد من العهد فكل ما وضع للتعريف ليس إلا تذكيرا للسامع ما حضر في ذهنه من الحقيقة المجردة إن كان الحكم على الطبيعة أو المخلوطة إن كان على محتملاتها والأولى لا تحتاج إلى ضميمة , والثانية: لا تستغني عنها وهي كونها مذكورة فيما سبق حقيقة أو حكما وقد يكون الدال على المجردة علما دالا عليها وهو الذي سمي علم الجنس كما أن الدال على المخلوطة قد يكون كذلك وهو الذي يسمى العلم الخاص وأما بقية الطرق فكاللازم في المخلوطة لا تستغني عن ضميمة والمضاف إلى أحدهما حكمه حكم المضاف إليه. فتأمل هذا واحفظه فإنه داخل في التحقيق بمداخل. ص - النسخ: الإزالة: نسخت الشمس الظل. والنقل: نسخت الكتاب ونسخت النحل. ومنه المناسخات. فقيل: مشترك. وقيل: للأول. وقيل: الثاني. وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.

فيخرج المباح بحكم الأصل. والرفع بالنوم والغفلة. وبنحو صل إلى آخر الشهر. ونعني بالحكم: ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن , فإن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن عند انتفائه قطعا. فلا يرد: الحكم قديما فلا يرتفع لأنا لم نعينه. والقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب وهو المعني بالرفع ". ش - لما فرغ من المباحث المشتركة بين الأدلة ذكر ما يتعلق بالكتاب والسنة وهو النسخ. وقد استعمل في اللغة للإزالة يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته. وللنقل يقال: نسخت الكتاب أي نقلته. ونسخت النحل أي نقلته. ومنه المناسخات لانتقال الميراث من وارث إلى وارث. ولما تعدد الاستعمال اختلف الناس فيه. فقيل: إنه مشترك لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة. وقيل: مجاز في الأول. وقيل: في الثاني. وهما أولى من الاشتراك لما تقدم أن المجاز خير. واختلفت عباراتهم في مفهومه الشرعي.

فقيل: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فرفع الحكم كالجنس , والشرعي أخرج المباح الأصلي لأنه ليس بحكم شرعي. وبدليل شرعي أخرج ما يرتفع بالنوم والغفلة فإن رفع وجوب الصلاة عن النائم والغافل بالنوم والغفلة لا بقوله - عليه السلام -: " رفع القلم عن ثلاث " الحديث يبين أن النوم رافع لا أن نفسه رافع. وقوله: متأخر - احتراز عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متصل كالتخصيص المتصل والاستثناء والغاية والشرط نحو: " اقتلوا المشركين " لا تقتلوا أهل الذمة. وصوموا هذا الشهر لا العاشر. وصل إلى آخر اليوم. وصل إن كنت صحيحا. ولما كان تعريف النسخ بالرفع يوهم الفساد لأن الحكم قديم والتعلق قديم. قال: ويعني بالحكم ما يحصل على المكلف. وبيانه ما حققه شيخي العلامة: أن الحكم يطلق تارة على الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير تعلقا علميا وحينئذ يكون قديما وأخرى على الخطاب المتعلق بذلك تعلقا خارجيا والحكم بهذا المعنى يحصل على الملكف بعد

أن لم يكن لأن الحكم بهذا المعنى مشروط بالتعليق لم يكن عند انتفاء العقل قطعا وحينئذ لا يرد قولهم الحكم قديم والقديم لا يرفع فلا ينعكس الحد لصدق المحدود بدون الحد لأنا لم نعن بالحكم الحكم القديم الذي لا يرتفع بل نعني به الحكم الحادث الذي يمكن رفعه لأنا نقطع أنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى وجوبه لأنه ينتفي التعلق الخارجي الذي هو من مفهوم الوجوب وهي المعني بالرفع. وقيل: وهذا التعريف غير منعكس لأنه دخل فيه البيان بالتخصيص المتأخر عن وقت الخطاب لأن التخصيص رفع عند المصنف. ص - الإمام: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول فيرد أن اللفظ دليل النسخ. ولا يطرد فإن لفظ العدل نسخ حكم كذا ليس بنسخ. ولا ينعكس , لأنه قد يكون بفعله - صلى الله عليه وسلم -. ثم حاصله: اللفظ الدال على النسخ لأنه فسر الشرط بانتفاء النسخ وانتفاء انتفائه حصوله. وقال الغزالي: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه. وأورد الثلاثة الأول. وأن قوله على وجه إلى آخر زيادة. وقالت الفقهاء: النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده. وأورده الثلاثة. فإن فروا من الرفع لكون الحكم قديما والتعلق قديما فانتهاء أمر الوجوب ينافي بقاءه عليه وهو معنى الرفع , وإن فروا لأنه لا يرتفع تعلق بمستقبل لزمهم منع النسخ قبل الفعل كالمعتزلة. وإن كان لأنه أمد التعلق بالمستقبل المظنون استمراره فلا بد من زواله. المعتزلة: اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه

لولاه لكان ثابتاً. فيرد ما على الغزالي. والمقيد بالمرة بفعل. ش- عرف إمام الحرمين النسخ بأنه اللفظ الدال على ظهور انتقاء شرط دوام حكم الأول. ويرد عليه أن اللفظ دليل النسخ لا نفسه، وأنه غير مطرد لأن العدل إذا قال نسخ حكم كذا يصدق عليه هذا الحد لأنه لفظ دال على ظهور انتفاء الحكم الأول لعدالته، وظهوره دال على انتفاء شرائط دوام الحكم الأول مع أن لفظ العدل ليس بنسخ بالاتفاق، وأنه غير منعكس لأن النسخ قد يكون بالفعل فيوجد المحدود بدون الحد وإن حاصل كلامه النسخ هو اللفظ الدال على النسخ، وهو تعريف الشيء بنفسه وذلك لأن الإمام فسر شرط دوام الحكم الأول بانتفاء النسخ فانتفاء شرط الدوام انتفاء انتفاء النسخ، وانتفاء انتفاء النسخ حصول النسخ. وعرفه الغزالي: بأنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه. فالخطاب الدال كالجنس، وإنما لم يقل النص ليشمل اللفظ والفحوى والمفهوم لجواز النسخ بجميع ذلك. وبقوله: على ارتفاع الحكم الثابت خرج الخطاب المقرر. وبقوله: الثابت بالخطاب المتقدم خرج الثبت بالأصل كالإباحة الأصلية. وقوله ك على وجه لولاه لكان ثابتا - احتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم الذي له وقت محدد مثل: لا تصوموا بعد غروب الشمس، بعد ما إذا قال: أتموا الصيام إلى الليل. فإنه ليس بنسخ وإن كان دالا على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم لكن لا على وجه لولاه لكان ثابتا. وقوله: مع تراخيه - احتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم إذا كان متصلا به كالاستثناء والصفة والغاية والشرط فإنها بيان لا نسخ. قال: ويرد عليه الثلاثة الأول.

فإن الخطاب دليل النسخ لا نفسه، وأن لفظ العدل ليس بنسخ وأن النسخ قد يكون بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويرد أيضا أن قوله على وجه لولاه إلى آخره - مستدرك لا حاجة إليه. وعرفه الفقهاء: بأنه النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده. أي زمان وروده، والمراد بالنص ما يقابل الإجماع والقياس. قال وأورده عليه الثلاثة الواردة على الحدين الأولين يعني كون النص دليل النسخ لا نفسه، وعدم الاطراد بنص العدل، وعدم الانعكاس بالفعل. قيل: والحق الاطراد لأن النص لا يطلق على لفظ العدل، وكذا الانعكاس لأن النص يتناول فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وزيف المصنف فرارهم عن إطلاق الرفع في تعريفه بالسبر والتقسيم فقال: إن فروا من الرفع لأن الحكم قديم والتعلق المعنوي كذالك والقديم لا يرفع فانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاءه عليه وهو معنى الرفع يعني أن ذلك لم يجدهم لأنه راجع إلى معنى الرفع لأنا لا نعني من الرفع إلا عدم بقاء الحكم على المكلف وانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاء الوجوب عليه فلا يبقى معه. وإن فروا لأن النسخ ليس إلا لقطع تعلق الحكم بالمستقبل وذلك التعلق لا يرفع لأنه لم يوجد في المستقبل لزمهم منع نسخ الحكم قبل الفعل كما هو مذهب المعتزلة. وإن فروا لأن تعلق الحكم بالمستقبل بظن دوامه واستمراره، والنسخ بيان أمد ذلك فهو أيضا راجع إلى الرفع لأنه لابد من زوال ذلك التعلق فإن بعد بيان الأمد لا يبقى ظن الاستمرار فهو بمعنى الرفع.

- ذكر الأدلة على جوازه ووقوعه ومناقشة المخالفين

ولقائل أن يقول: " القسمة حاصرة " ... لجواز أن يكون فرارهم لأن الرفع في الجواهر حقيقة وفي الأعراض مجاز والتعريف يحترز فيه عن المجاز أو لأنه يوهم البداء وهو جهل بخلاف البيان. وعرفه المعتزلة: بأنه اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثبت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثبتا. وهو قريب من الغزالي. فيرد عليه ما يرد على تعريفه، ويرد أيضا لخصومه الأمر المقيد بمرة إذا أورد بعده نص دال على زوال حكمه فإنه نسخ مع أنه لم يدل على زوال مثل الحكم الثابت بل على زوال ذلك. ولهم أن يمنعوا أن ذلك نسخ. ص - والإجماع على الجواز والوقوع. وخالفت اليهود في الجواز. وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع. لنا: القطع بالجواز وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات. وفي التوراة: أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه. وقد حرم ذلك باتفاق. واستدل بإباحة السبت ثم تحريمه. وبجواز الختان، ثم إيجابه يوم الولادة عندهم. وبجواز الأختين ثم التحريم. وأجيب بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ. ش - أجمع المسلمون على جواز النسخ ووقوعه، وخالفت

اليهود في الجواز وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع. واعترض على إطلاق إجماع المسلمين مع مخالفة أبي مسلم. وأجيب بأن المراد إجماع من قبله. أو بناء على أن مخالفة الواحد لا يخل بالإجماع. وأقول: وقوع النسخ في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - من ضروريات دينه فمنكره كافر فلم يتناوله لفظ المسلمين. واحتج بالقطع بالجواز فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم من ذلك محال فكان جائزا. وإن اعتبرت المصالح كما هو مذهب المعتزلة فأوضح لأنا نعلم بيقين المصالح تختلف باختلاف الأوقات وحينئذ لا نزاع في القطع بالجواز. واستدل بإباحة السبت فإنها كانت ثابتة ثم نسخت بحرمة العمل فيه. وبأن

الختان كان جائزا ثم صار واجبا يوم الولادة عندهم. وبأن الجمع بين الأختين كان جائزا ثم ثبت التحريم فكان النسخ واقعا. وأجيب بأن هذه الصور يعني التي ذكرت فيه هذا الاستدلال كانت مباحة بدليل ورفع مباح الأصل ليس بنسخ. ص - قالوا: لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر هذه شريعة مؤبدة. قلنا: مختلق. قيل من ابن الرواندي. والقطع أنه لو كان عندهم صحيحا لقضت العادة بقوله له - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: إن نسخ لحكمة ظهرت له لم تكن ظاهرة له فهو البداء وإلا فعبث. وأجيب بعد اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في وقت أو حال وضرره في آخره. فلم يتجدد ظهور ما لم يكن. قالوا: إن كان مقيدا فليس بنسخ وإن دل على التأبيد لم يقبل للتناقض بأنه " مريد ليس بوريد " ولأنه يؤدي إلى تعذر الإخبار بتأبيد. وإلى نفي " الموثوق " بتأبيد حكم ما. وإلى جواز نسخ شريعتكم. وأجيب بأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ كما لو كان معينا مثل: صم رمضان ثم ينسخ قبله. فهذا أجدر. وقوله: صم رمضان أبدا بالنص يوجب أن الجميع متعلق الوجوب ولا يلزم الاستمرار فلا تناقض كالموت وإنما الممتنع أن يخبر بأن الوجوب باق أبدا ثم ينسخ. قالوا: لو جاز لكان قبل " وجوبه " أو بعده أو معه وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل، ومعه أجدر لاستحالة النفي والإثبات. قلنا: المراد أن التكليف الذي كان زال كالموت لا أن الفعل يرتفع.

قالوا: إما أن يكون الباري - تعالى - علم استمراره أبدا فلا نسخ أو إلى وقت معين فليس بنسخ. قلنا: إلى الوقت المعين الذي علم أنه ينسخه فيه وعلمه بارتفاعه بالنسخ لا يمنع النسخ. وعلى الأصفهاني الإجماع على أن شريعتنا ناسخة لما يخالفها، ونسخ التوجه والوصية للأقربين بالمواريث وذلك كثير. ش - تمسكت اليهود على عدم جواز النسخ بشبه خمس: الأولى: لو نسخت شريعة موسى لبطل قوله المتواتر: هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض " والملازمة وبطلان التالي ظاهران. وأجاب بأن هذا مختلق أي مفترى. قيل: اختلقه ابن الرواندي ليعارض به دعوى رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو كان موجودا لذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كانوا متقولين في الدفع فكيف سكتوا عن موجود مع شدة احتياجهم إليه. الثانية: لو جاز لكان بداء أو عبثا وهما على الله محال قطعا وذلك لأنه إن كان

لحكمة لم تكن ظاهرة لله - تعالى - فظهرت لزم البداء لأنا نعني به ظهور ما لم يكن ظاهرا وإن لم يكن كذلك لزم العبث وأجاب بأن هذه الشبهة مبناها أن أفعال الله - تعالى - تابعة للحكمة والمصلحة وهو قضية الحسن والقبح العقليين وقد تقدم بطلانه. سلمنا صحة ذلك لكن لاشك في أن المصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في وقت وضرره في آخر فيجوز أن يعلم الله استلزام الأمر بالفعل في وقت لمصلحة واستلزام نسخة في وقت آخر لمصلحة أخرى. فلم يتجدد ظهور ما لم يكن. ولقائل أن الزمان متجدد لا محالة والمصالح تختلف بتجدده والحكم يتغير من حرمة إلى حل أو بالعكس بحسبها فما وجه قوله لم يتجدد ظهور ما لم يكن؟ ويجاب بأن المراد تجدد الظهور بالنسبة إلى علم الله ولم يكن إذ ذاك. الثالثة: أن المفروض جواز نسخه إما أن يكون مقيدا بوقت معين أو دالا على التأبيد فإن كان الأول فإنه ينتهي بانتهاء ذلك الوقت ومثله لا يسمى منسوخا فلا نسخ. وإن كان الثاني فلا يقبل النسخ لأربعة أوجه: الأول: التناقض فإن النسخ يدل لى أن الحكم غير مؤبد ونسخ التأبيد المفروض يدل على أنه مؤبد فكان مؤبدا غير مؤبد. والثاني: تعذر الإخبار بالتأبيد لأن الخبر الذي يدل عليه تأبيد إن جاز نسخه لم يبق طريق إلى الإخبار عن التأبيد فإن كل فرضته مؤبدا جاز طريان النسخ عليه. والثالث: إن المؤبد لو قبله أدى إلى نفي الوثوق بتأبيد حكم ما لجواز طريان النسخ عليه. ولقائل أن يقول هذا الوجه مستدرك لأن ما قبله يدل على أنه لا يتحقق الإخبار بالتأبيد والوثوق عليه بعد تحققه. والرابع: أنه لو قبله أدى إلى جواز نسخ شريعتكم لأنكم تزعمون أنها منصوص عليها بالتأبيد والفرض أن التأبيد لا يمنع جواز النسخ.

وأجيب بما تقريره نختار أن يكون دالا على التأبيد ونمنع عدم قبوله النسخ وأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ كما أن تقييده بوقت معين مثل أن تقول: صم رمضان، لا يمنع النسخ قبله بل المقيد بالتأبيد أجدر لأنه إذا جاز إبطال المعين المنصوص عليه فلأن يجوز غير المعين أولى ولا يلزم التناقض لأن صم رمضان أبدا بالنص. " أي بالتنصيص عليه " يوجب أن تكون الرمضانات كلها متعلق الوجوب على معنى أن وقت الصوم هو هذا الشهر أبدا لا شوال ولا شعبان ولكن لا يدل على استمرار الوجوب لأن الأبد تعلق بالوقت لا بالوجوب فإذا نسخ بعد ما قيل: صم رمضان أبدا، لا يلزم التناقض كما لو مات بعد الخطاب إذ كان الأبد لتعيين الوقت لا للوجوب وعلى هذا فلا يخفى عدم التناقض. نعم إذا قيل صم رمضانا , وصومه باق أبدا لا يقبل النسخ فلو نسخ بعده تناقض. هذا ما سنح لي في حل هذا المقام. ولبعض الشارحين ترتيب لهذا المكان ولست بصدد بيانه. وعلى هذا يكون كل تأبيد متعلق للوجوب مانعا للنسخ. وأما ما يمكن أن يكون متعلقا بوقت الواجب فلا يكون مانعا فتندفع الأوجه النافية بأنا إنما نجوز النسخ في المؤبد إذا كان التأبيد متعلقا بالوقت والتأبيد المعلق بالإخبار عن دوام شريعتنا متعلق بها لا بوقتها. ولو أجاب عن هذه الشبه بأن القسمة غير حاصرة فإن ثمة قسما آخر وهو ما لا يكون مقيدا بوقت ظاهرا ولا يكون مؤبدا وهو محل النسخ كان أسلم وأسهل. الرابعة: أنه لو جاز لجاز إما قبل وجود الفعل أو بعده أو معه والأولان معدومان والمعدوم لا يرفع فكان باطلا , والثالث أجدر بالبطلان لاستحالة توارد النفي والإثبات على محل واحد في حالة واحدة.

وأجاب بأن المراد بنسخ الحكم هو أن التكليف الذي كان على المكلف زال وذلك غير ممتنع كزوال التكليف بالموت لا أن الفعل يرتفع. ولقائل أن يقول زوال ذلك التكليف إما أن يكون قبل الفعل أو بعده أو معه والكل محال لما مر. الخامسة: أن الله - تعالى - إن علم استمرار الفعل أبدا استحال النسخ لئلا يلزم الجهل - تعالى - الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن علم استمراره إلى وقت معين فلا نسخ لانتهاء الحكم بانتهائه والمنتهي بنفسه ليس بمنسوخ. وأجاب باختيار الشق الثاني وهو أنه علم استمراره إلى وقت معين هو الوقت الذي علم أنه ينسخ ذلك الحكم فيه , وعلم الله - تعالى - بارتفاع الحكم بالنسخ لا يمنع النخ لأنه حينئذ يكون انتهاؤها بالنسخ لا بنفسه. وقوله: وعلى الأصفهاني , أي الحجة على الأصفهاني الاجماع على أن شريعتنا ناسخة لكل شريعة تخالفها , وعلى أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس نسخ بوجوب التوجه إلى الكعبة , وعلى أن وصية الوالدين والأقربين منسوخة بآية الموارث. وذلك كثير كنسخ تقديم الصدقة بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مناجاته.

- مسألة: الجمهور على أنه يجوز النسخ قبل وقت الفعل

وكنسخ صوم عاشوراء والقنوت في الفجر وغير ذلك. ص - مسألة: المختار جواز النسخ قبل وقت الفعل مثل: حجوا هذه السنة , ثم يقول قبله: لا تحجوا. ومنع المعتزلة والصيرفي. لنا: ثبت التكليف قبل وقت الفعل فوجب جواز رفعه كالموت وأيضا فكل نسخ كذلك , لأن الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه. واستدل بأن إبراهيم أمر بالذبح بدليل: (افعل ما تؤمر) وبالإقدام وبترويع

الولد " و " نسخ قبل التمكن. واعترض بجواز أن يكون موسعا. وأجيب بأن ذلك لا يمنع رفع تعلق الوجوب بالمستقبل لأن الأمر باق عليه وهو المانع عندهم , وبأنه لو كان موسعا لقضت العادة بتأخيره رجاء نسخه أو موته لعظمه. وأما دفعهم بمثل لم يؤمر وإنما توهم أو أمر بمقدمات الذبح فليس بشيء , أو ذبح وكان يلتحم عقيبه , أو جعل صفيحة نحاس أو حديد. فلا يسمع. ويكون نسخا قبل التمكن. قالوا: إن كان مأمورا به ذلك الوقت توارد النفي والإثبات وإن لم يكن فلا نسخ. وأجيب لم يكن بل قبله وانقطع التكليف عنده كالموت. ش - إذا ورد حجوا في هذه السنة ثم قيل قبل الحج لا تحجوا. منعه الصيرفي والمعتزلة. وجوزه الجمهور بوجهين: أحدهما: أنه ثبت في مبادئ الأحكام أن التكليف يتوجه قبل وقت مباشرة الفعل فوجب جواز رفعه بالناسخ كما جاز رفعه بالموت اعتبارا للانتهاء بالابتداء بجامع أن كلا منهما خطاب تكليف إلى مكلف.

الثاني: أن كل نسخ كذلك أي قبل وقت الفعل لأن النسخ رفع التكليف ورفع التكليف بعد وقت الفعل ومعه ممتنع أما بعده فلأنه إن أتى المكلف بالفعل فقد انقطع التكليف عنه بنفسه فلا نسخ وإن تركه عصى فلا نسخ وأما معه فلا متناع توارد الإثبات والنفي على شيء واحد في حالة واحدة. واستدل على جواز النسخ قبل الوقت بقصة إبراهيم - عليه السلام - فإنه أمر بذبح ولده إسماعيل ونسخ عنه قبل التمكن من الذبح أما أنه أمر بذلك فبقوله: (قال يأبت افعل ما تؤمر). وكان الذبح. وبإقدام إبراهيم - عليه السلام - على الذبح. وبترويعه أي بتخويفه ولده إسماعيل فإنه لو لم يؤمر به ما جاز شيء من ذلك. وأما أنه نسخ فلقوله: (وفدينه بذبح عظيم). وأما أنه كان قبل الوقت فلأنه لو تمكن ولم يذبح عصى بتأخيره. واعترض عليه بجواز أن يكون الذبح موسعا ونسخ بعد مضي وقت يسع الذبح فيه فلا يكون النسخ قبل الوقت. وأجاب بجوابين: أحدهما: أن ذلك أي كون الواجب موسعا لا يمنع رفع تعلق الوجوب بالمستقبل لأن الأمر باق عليه أي على المكلف ما لم يأت بالفعل في أول الوقت الموسع وهو أي بقاء الأمر عليه هو المانع عندهم حذرا من توارد النفي والإثبات على محل واحد في حالة واحدة فيمتنع النسخ في باقي الوقت الموسع وبعد انقضائه لانقطاع التكليف بنفسه وفي أول الوقت لتحقق الوجوب فيه فتعين أن يكون قبل الوقت الموسع. والثاني: أنه لو كان موسعا لأخره لأن العادة تقضي بتأخير مثل ذلك الفعل الهائل رجاء نسخه أو موت أحدهما لعظم الأمر.

واعلم أن المصنف صدر المسألة بجواز النسخ قبل وقت الفعل ثم إنه قال في قصة إبراهيم ونسخ قبل التمكن وهما متغايران لأن المراد بالتمكن هو أن يمضي بعد وصول الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به وقد يكون ذلك بعد دخول الوقت لكنه فعل ذلك إشارة إلى أنهما سواء فإن النسخ قبل التمكن يتصور على وجهين: أحدهما: أن يرد الناسخ بعد التمكن من الاعتقاد قبل دخول وقت الواجب كما إذا قيل: صوموا غدا. ثم قيل قبل الصبح لا تصوموا غدا. والثاني: أن يرد الناسخ بعد دخول الوقت قبل انقضاء زمان يسع الواجب كما إذا قيل: صم غدا. ثم شرع في الصوم فقبل انقضاء اليوم الذي شرع في صومه قيل: لا تصم. وأشار إلى الوجهين باختلاف العبارة. وقد دفع بعض الأصوليين هذا الاستدلال بأن إبراهيم لم يؤمر بالذبح وإنما توهم الأمر به أو أمر بمقدمات الذبح لا بنفسه. وأجاب المصنف بأن هذا الدفع ليس بشيء لأنه لو لم يؤمر بالذبح لما احتاج إلى الفداء. ودفعوا أيضا بأنه يجوز أنه ذبح والتحم عقيبه أي صار صحيحا بعد الذبح , وبأنه يجوز أن الله - تعالى - جعل صفيحة حديد أو نحاس على حلقه فيمتنع النسخ. وأجاب بأنه لا يسمع هذا الدفع لأنه لو ذبح والتحم لم يحتج إلى الفداء ولأنه يكون تكليفا بما لا يطاق وهو محال عند المعتزلة ومع ذلك يلزم أن يكون نسخا قبل التمكن لأنه لم يتمكن من الذبح عند وجود الصفيحة. والحق أنه لا نسخ لأمور منها: أنه كان في المنام إذ قال: (إني أرى في المنام أني أذبحك) ومع ذلك فليس في كلامه ما يدل على أنه كان مأمورا بذلك في المنام.

فإن قيل رؤيا الأنبياء وحي. قلنا: سلمناه ولكنه يحتمل التأويل كرؤيا يوسف - عليه السلام -: (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي سجدين) وكان تأويله ما كان وكرؤيا نبينا - صلى الله عليه وسلم - حيث أعطي سوارين وأولهما بمسيلمة والأسود العنسي وغير ذلك مما فيه كثرة. ومنها تفويضه إلى رأي إسماعيل إذ قال: (فانظر ماذا ترى) ولو كان مأمورا لما فعل ذلك.

- مسألة: الجمهور على أنه يجوز نسخ مثل: صوموا أبدا

ومنها قول إسماعيل: (افعل ما تؤمر) ولم يقل ما أمرت. ومنها لفظ الفداء فإنه إنما يكون مع تصور الأصل لا انتساخه. وقوله: لو لم يؤمر بالذبح لما احتاج إلى الفداء - ممنوع لجواز أن يكون هو تأويل رؤياه فلا بد منه لدليل قوله عند الملابسة بالذبح (قد صدقت الرؤيا) دون قد حققتها لأن تحقيقها كان ذبح الكبش دون الولد وإنما سماه فداء بناء على ظاهر ما حمل إبراهيم - عليه السلام - رؤياه والله أعلم. واحتج المانعون بأن المكلف إن كان مأمورا بالفعل في ذلك الوقت توارد النفي والإثبات فكان مأمورا به غير مأمور به وإن لم يكن فلا نسخ. وأجاب بأنه لم يكن مأمورا به في ذلك الوقت بل كان قبله وانقطع التكليف عنه عند دخوله بالناسخ كما ينقطع بالموت. ولقائل أن يقول: حال ورود الناسخ هو مأمور به أو لا فإن كان الثاني فلا نسخ بالضرورة وإن كان الأول فإما أن يكون انقطاعه بنفسه فلا نسخ أو بالناسخ فورد " التواتر " ولا محيص إلا بالذي ذكره علماؤنا المحققون ومن طالع التقرير اطلع على ذلك. والاستشهاد بالانقطاع الموتي فاسد لأنه ينقطع التكليف به فلا توارد للنفي والإثبات فيه. ص - مسألة: الجمهور: جواز نسخ مثل: صوموا أبدا , بخلاف الصوم واجب مستمر أبدا. لنا: لا يزيد على صم غدا , ثم ينسخ قبله.

قالوا متناقض. قلنا: لا منافاة بين إيجاب صوم غد وانقطاع التكليف قبله كالموت. ش - المقيد بالتأبيد إن كان مأمورا به مثل: صوموا أبدا. جاز نسخه عند الجمهور خلافا لبعض الأصوليين. وإن كان خبرا مثل: الصوم واجب مستمر أبدا. فالأكثر على أنه لا يجوز نسخه للزوم التناقض وقد تقدم وجهه. واحتج المصنف على الأول للجمهور بأن قوله صوموا أبدا لا يزيد على صم غدا في الدلالة على تعيين الوقت والتنصيص عليه ثم جاز نسخ صم غدا قبل دخول غد كما ذكرنا فكذلك صوموا أبدا. وقال المانعون: نسخ الأمر المقيد بالتأبيد يوجب التناقض لأن صيغة التأبيد تقتضي الإيجاب أبدا ونسخه يقتضي عدمه في بعض الأوقات.

- مسألة: هل يجوز النسخ إلى غير بدل؟

وأجاب بأنه لا منافاة بين إيجاب صوم غد وبين انقطاع التكليف قبل غد بالناسخ كانقطاعه بالموت. وفيه نظر قد مر في آخر المسألة المتقدمة. ص - مسألة: الجمهور: جواز النسخ من غير بدل. لنا: أن مصلحة المكلف قد تكون في ذلك. وأيضا فإنه وقع كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر , وتحريم ادخار لحوم الأضاحي. قالوا: (نأت بخير منها أو مثلها). وأجيب بأن الخلاف في الحكم لا في اللفظ. سلمنا لكن خصص. سلمنا: ويكون نسخه بغير بدل خيرا لمصلحة علمت. ولو سلم أنه لم يقع فمن أين: لم يجز؟. ش - مذهب جمهور العلماء الأصوليين جواز النسخ من غير بدل خلافا لبعضهم ودليل الجواز وجهان: أحدهما: بناء على متابعة المصلحة فإن مصلحة المكلف قد تكون في رفع التكليف عنه من غير بدل. والثاني: أنه واقع كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر بلا بدل.

- مسألة: هل يجوز النسخ بأثقل؟

ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي كذلك. واستدل المانعون بقوله - تعالى -: (ما ننسخ من ءاته أو ننسها نأت بخير منها) فإنه يدل على أنه لا بد من بدل. وفيه نظر لأنه شرطية وهي تدل على وجود النسخ فضلا عن الدلالة على البدل. وأجاب بأنه ليس محل الخلاف فإنه في جواز نسخ الحكم بلا بدل لا في اللفظ , والآية على تقدير الدلالة فإنما تدل على الإتيان به في نسخ اللفظ لأن الضمير يرجع إلى الآية وهي لفظ. سلمنا أن هذا الآية تتناول نسخ الحكم أيضا لكن الحكم بما ذكرنا من الصور. سلمنا بقاءها على العموم لكنها تدل على عدم النسخ بدون الإتيان بما هو خير والنسخ بلا بدل خير من إبقاء الحكم لمصلحة يعلمها ولو سلم أنها تدل على أنه لا يقع بدونه لا يلزم عدم الجواز لأن عدم الوقوع لا يستلزمه. ص - مسألة: الجمهور: جواز النسخ بأثقل. لنا ما تقدم. وبأنه نسخ التخيير في الصوم والفدية وصوم عاشوراء برمضان والحبس في البيوت بالحد. قالوا: أبعد في المصلحة. قلنا: يلزمكم في ابتداء التكليف وأيضا فقد يكون علم الأصلح في الأثقل كما يسقمهم بعد الصحة ويضعفهم بعد القوة. قالوا: (يريد الله أن يخفف عنكم) (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

قلنا: إن سلم عموم فسياقها للمآل في تخفيف الحساب وتكثير الثواب أو تسمية الشيء بعاقبته مثل: لدوا للموت وابنوا للخراب. وإن سلم الفوز فمخصص بما ذكرناه. كما خصت ثقال التكاليف والابتلاء باتفاق. قالوا: (نأت بخير منها أو مثلها) والأشق ليس بخير للمكلف. وأجيب بأنه خير باعتبار الثواب. ش - النسخ ببدل أخف كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليلة رمضان بحله وببدل مساو كنسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بوجوب التوجه إلى الكعبة لا يمنعه مجوز النسخ. وأما ببدل أثقل فالجمهور على جوازه خلافا لبعض الشافعية. وللجواز وجهان: الأول: ما تقدم أن الحكم إن تبع المصلحة جاز أن تكون المصلحة في ذلك وإلا فالأظهر الجواز لأن الفاعل المختار يفعل ما يشاء بإرادته. والثاني: الوقوع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بوجوب الصوم على التعيين. وكنسخ وجوب صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان. وكنسخ الحبس في

البيوت للزناة إلى وجوب الجلد أو الرجم. وللمانعين ثلاثة أوجه: الأول: أن النسخ ببدل أثقل أبعد عن مصلحة المكلفين لأنهم إن التزموا زيادة مشقة وإن تركوا يعاقبون. وأجاب بأن لو صح لزمكم في ابتداء التكليف لأن النا كانوا في سعة الإباحة والنقل إلى التكليف كان بعيدا عن المصلحة لما ذكرتم ولزمكم أيضا في تضعيفهم بعد القوة. والثاني: أنه لو جاز النسخ ببدل أثقل لزم كذب قوله - تعالى - (يريد الله أن

- مسألة: نسخ التلاوة والحكم

يخفف عنكم) وقوله - تعالى -: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) والتالي باطل لا محالة وذلك لأن الآيتين تدلان على إرادة التخفيف واليسر دون العسر والنسخ ببدل أثقل يدل على خلاف ذلك فلزم الكذب. وأجاب بأنا لا نسلم عمومها في إرادة التخفيف واليسر في كل شيء. سلمناه ولكن سياقها يدل على أن التخفيف واليسر للمآل في تخفيف الحساب وتكثير الثواب أو يكون من باب تسمية الشيء باسم عاقبته فيكون سمى التثقيل والعسر بالتخفيف واليسر بسبب نيل الثواب ودفع العقاب مثل: لدوا للموت وابنوا للخراب. فإنه لما عاقبة الولادة الموت. وعاقبة البناء الخراب جعلهما غاية الولادة والبناء تسمية للشيء بعاقبته. ولئن سلم إرادة التخفيف واليسر مطلقا على الفور لكنه مخصوص بما ذكرنا من الصور كما خصت التكاليف والابتلاء بالاتفاق. والثالث: أن قوله - تعالى -: (ما ننسخ من ءاية) الآية تدل على أن البدل يكون خيرا أو مثلا والأثقل ليس بخير ولا مثل. وأجاب بأنه خير باعتبار عظم الثواب. ص - مسألة: الجمهور على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعك ونسخهما معا. وخالف بعض المعتزلة. لنا: القطع بالجواز. وأيضا: الوقوع. عن عمر - رضي الله عنه - كان فيما أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) ونسخ الاعتداد بالحول. وعن عائشة - رضي الله عنها -: " كان فيما أنزل عشرة رضعات محرمات " والأشبه جواز مس المحدث لمنسوخ لفظه

قالوا: التلاوة مع حكمها , كالعلم مع العالمية , والمنطوق مع المفهوم فلا ينفكان. وأجيب بمنع العالمية والمفهوم. ولو سلم فالتلاوة أمارة الحكم ابتداء لا دواما. فإذا نسخ لم ينتف المدلول. وكذلك العكس. قالوا: بقاء التلاوة يوهم بقاء الحكم , فيوقع في الجهل , وتزول فائدة القرآن. قلنا: مبني على التحسين. ولو سلم فلا جهل مع الدليل لأن المجتهد يعلم والمقلد يرجع إليه. وفائدته كونه معجزا وقرآنا يتلى. ش - نسخ التلاوة أو الحكم أو كليهما جائز عند الجمهور خلافا لبعض المعتزلة وللجواز وجهان: أحدهما: متابعة المصلحة وقد تقدم وجه ذلك. والثاني: الوقوع , أما التلاوة فقط لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: " كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " وقد نسخ تلاوته ولم

ينسخ حكمه. وأما الحكم فقط فلأن حكم آية الاعتداد بالحول وهو قوله - تعالى -: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لأزوجهم متعا إلى الحول) قد نسخ دون تلاوته. وأما وقوعهما فلما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: " كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس " فقد نسخت التلاوة أيضا. واختلفوا في جواز مس منسوخ اللفظ للمحدث. قال والأشبه الجواز. واحتج المانعون عن جواز نسخ أحدهما بدون الآخر بأن التلاوة مع الحكم كالعالمية مع العلم , والمنطوق مع المفهوم فكما لا ينفكان لا تنفك التلاوة عن الحكم. وأجاب بمنع العالمية يعني أنها ليست بزائدة عليه أو مغايرة له بل هي هو. ولا نسلم ثبوت المفهوم ولو سلم منع عدم انفكاكه عن المنطوق. ولو سلم مغايرة العالمية للعلم وأن المفهوم لا ينفك عن المنطوق لم نسلم أن التلاوة لا تنفك الحكم لأنها أمارته ابتداء لا دواما فإذا نسخت لم ينتف الحكم إذ لا يلزم من اتفاء الأمارة انتفاؤه وكذا العكس أي لا يلزم من انتفائه انتفاؤها. وقالوا أيضا لا يجوز نسخ الحكم بدون التلاوة لأن بقاءها يوهم بقاءه لكونها أمارة له فيوقع المكلف في الجهل وتزول فائدة القرآن وهي بيان الأحكام التي تدل عليها ألفاظ القرآن فإذا انتفت الأحكام زالت الفائدة.

- مسألة: هل يجوز نسخ التكليف بالإخبار عن شيء بنقيضه؟

وأجاب بأن هذا الدليل مبني على التحسين العقلي وهو مردود ولو سلم فلا نسلم الوقوع في الجهل لقيام الدليل فأن المكلف إن كان مجتهدا يعلم الدليل الناسخ فلا جهل وإن كان مقلدا يرجع إلى المجتهد ويقبل منه. ولا نسلم أن تزول فائدة القرآن فإن فائدة التلاوة ليست تنحصر في الحكم بل من فائدتها بيان الإعجاز واستحقاق الثواب بتلاوته وجواز الصلاة. ص - مسألة: المختار جواز نسخ التكليف بالإخبار بنقيضه خلافا للمعتزلة. وأما نسخ مدلول خبر لا يتغير فباطل. والمتغير كإيمان زيد وكفره " مثلا " خلافا لبعض المعتزلة. واستدلالهم بمثل: أنتم مأمورن بصوم كذا. ثم ينسخ يرفع الخلاف. ش - المختار جواز نسخ تكليفنا بالإخبار عن شيء بتكليفنا بالإخبار بنقيضه

مثل أن نكلف بالإخبار عن وجود زيد ثم نكلف الإخبار عن عدمه. وأما مدلول الخبر فإن كان مما لا يتغير بأن يكون واجبا كقولنا الله موجود. والعالم حادث وشريك الباري ممتنع فنسخه باطل. وإن كان " مما لا يتغير " كإيمان زيد وكفره مثل أن يقال: زيد مؤمن أو كافر فكذلك على المختار. خلافا للمعتزلة. قالوا: مدلول الخبر إذا كان حكما مثل أنتم مأمورون بصوم كذا يجوز أن ينسخ بلا نزاع. قال المصنف: استدلالهم بذلك يرفع الخلاف بينهم وبين المانعين لأن ذلك خبر بمعنى الأمر كما في قوله - تعالى -: (والولدت يرضعن أولدهن) فيكون إذ ذاك نسخا لمدلول الأمر دون الخبر وارتفع النزاع. وفيه نظر لأن ذلك إنما يلزم أن لو اقتصروا في الاستدلال على تلك الصورة خاصة. أما لو قالوا ذلك جائز فكذا غيره بجامع كونهما خبرين فالمانع يحتاج إلى الفرق وقد لا يقول به المجوزون. ص - مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن كالعدتين , والمتواتر بالمتواتر والآحاد بالآحاد , والآحاد بالمتواتر. وأما نسخ المتواتر بالآحاد فنفاه الأكثرون بخلاف

- مسألة: نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة ونسخ المتواتر بالآحاد يتعين الناسخ بأمور

تخصيص العام كما تقدم. لنا: قاطع فلا يقابله المظنون. قالوا: وقع فإن أهل قباء سمعوا مناديه - صلى الله عليه وسلم - ألا إن القبلة قد حولت فاستداروا ولم ينكر عليهم. أجيب: علموا بالقرائن لما ذكرناه. قالوا كان يرسل الآحاد بتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة. أجيب: إلا أن يكون مما ذكرناه فيعلم بالقرائن لما ذكرناه. قالوا: (قل لا أجد) نسخ بنهيه عن " أكل ذي ناب " من السباع فالخبر أجدر. أجيب: إما بمنعه وإما بأن المعنى لا أجد الآن وتحريم حلال الأصل ليس بنسخ. ويتعين الناسخ بعلم تأخره , أو بقوله - صلى الله عليه وسلم - هذا ناسخ أو ما في معناه مثل: " كنت نهيتكم " , أو بالإجماع. ولا يثبت بتعيين الصحابي إذ قد يكون عن اجتهاد. وفي تعيين أحد المتواترين نظر. ولا يثبت بقبليته في المصحف , ولا بحداثة الصحابي , ولا بتأخر إسلامه , ولا بموافقه الأصل. وإذا لم يعلم ذلك فالوجه: الوقف لا التخيير. ش - يجوز نسخ الكتاب بالكتاب كنسخ العدة بالحول بالعدة بأربعة أشهر وعشر.

ويجوز نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة. والآحاد بالآحاد , والآحاد بالمتواتر. وأما نسخ المتواتر بالآحاد فنفاه الأكثرون بخلاف تخصيص العام المتواتر بالآحاد كما تقدم. والفرق أن النسخ يرفع ما ثبت بالمنسوخ بخلاف التخصيص فإنه لا يرفع ما ثبت بالعام. واحتج المصنف على عدم جواز نسخ الخبر المتواتر بالآحاد بأن المتواتر مقطوع به والآحاد مظنون والمظنون لا يقابل بالمقطوع بل يترك به ويعمل بالمقطوع.

واحتج المجوزون بثلاثة أوجه: الأول: الوقوع فإن أهل قباء سمعوا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي ألا إن القبلة قد حولت عن بيت المقدس إلى الكعبة فاستداروا إلى الكعبة كهيئتهم ولم ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس ثبت بالخبر المتواتر وخبر المنادي من الآحاد فلو لم يجز نسخ المتواتر بالآحاد لما جاز لهم التحول بمجرد قول قول المنادي ولأنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وفيه نظر لأن علمهم بالتوجه إلى بيت المقدس لم يكن بالخبر المتواتر بل بمشاهدتهم توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فلا يكون مما نحن فيه. وأجاب بأنا لا نسلم أنهم تحولوا بمجرد قول المنادي بل تحولوا لأنهم علموا بالقرائن المنضمة إلى خبر المنادي كإعلان الناس بذلك , وقربهم من مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما حملنا على هذا لما ذكرنا من الدليل على عدم جواز ذلك. ولقائل أن يقول الخبر بتلك القرائن إما إن بلغت إلى قوة المتواتر في القطع أو لا والأول ممنوع والثاني غير واقع. والثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل آحاد الصحابة إلى الأقطار بتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة من غير فرق بينهما فلو لم نقبل الآحاد في جواز نسخ المتواتر لما وجب القبول ولما جاز للرسول - عليه السلام - أن لا يفرق. وأجاب بما معناه أن الإرال ووجوب القبول صحيح إلا أن يكون خبر الواحد

- مسألة: هل يجوز نسخ السنة بالكتاب؟

مما ذكرنا وهو أن يكون ناسخا للمتواتر فإنه إن كان من ذلك حمل على القرائن لما ذكرنا. وفيه نظر تقدم آنفا. والثالث: أن قوله - تعالى -: (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم) نسخ بنهيه - عليه السلام - عن كل ذي ناب من السباع والنهي عن كل ذي ناب من باب الآحاد. وإذا جاز نسخ القرآن بالآحاد فنسخ الخبر المتواتر به أجدر. وأجاب بجوابين: أحدهما: منع أن هذه الآية منسوخة فإنها لا تدل على إباحة الجميع حتى يكون تحريم كال ذي ناب ناسخا له لأنه يدل على عدم الوجدان وعدم وجدان المحرم لا يدل على إباحة الجميع. وفيه نظر فإن عدم وجدان المحرم للشارع يدل على الإباحة لا محالة. والثاني: أن معنى الآية لا أجد الآن محرما فيكون مؤقتا فلا يكون منسوخا فيكون حل كل ناب باقيا على أصل الإباحة ونهيه - عليه السلام - رافع للحل الأصلي وهو أيضا ليس بنسخ. وإذا وقع حكمان متنافيان فيتعين الناسخ بأمور: منها علم تأخر أحدهما عن الآخر.

ومنها أن يقول الرسول - عليه السلام - هذا ناسخ. وإنما أخر هذا القسم وإن كان أصرح في الدلالة لأن الأول عام في حياته - عليه السلام - ومماته , والثاني خاص بحياته. ومنها أن يقول ما في معناه مثل: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " فإن هذا دال على نسخ النهي عن زيارة القبور , ومنها الإجماع بأن تجمع الأمة على أن هذا ناسخ. ولا يتعين بتعيين الصحابي إذ قد يكون تعيينه عن اجتهاد. وفي تعيين الصحابي تأخير أحد المتواترين نظر لأن دليل قبول قوله يعارض دليل منعه.

أما دليل القبول فهو أن النسخ لا يكون بخير الواحد بل بالمتواتر وخبر الواحد معين للناسخ لا ناسخ لأنه علم أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ بدون خبر الواحد. وأما دليل المنع فهو أنه يتضمن نسخ المتواتر بقول الواحد وهو غير جائز. ولا يثبت كون الحكم منسوخا بقبليته في المصحف لجواز أن يكون المتقدم في المصحف متأخرا في النزول إذ ترتيبه ليس على ترتيب النزول. ولا يثبت الناسخ بحداثة سن الصحابي الراوي لجواز أن تكون رواية من تأخر صحبته متقدمة أو أن يروى عن غيره. ولا يثبت أيضا بتأخر إسلام الصحابي الراوي لأن تأخره لا يستلزم تأخرها لما ذكرنا. ولا بكونه موافقا للأصل فإنه لا يدل على النسخ أصلا. وإذا لم يعلم الناسخ والمنسوخ فالوجه الوقف لا التخيير. ص - مسألة: الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن وللشافعي قولان.

لنا: لو امتنع لكان لغيره. والأصل عدمه. وأيضا التوجه إلى بيت المقدس بالنسبة ونسخ بالقرآن والمباشرة بالليل كذلك , ويوم عاشوراء. وأجيب بجواز نسخه بالسنة ووافق القرآن. وأجيب بأن ذلك يمنع تعيين ناسخ أبدا. قالوا: (لتبين) والنسخ رفع لا بيان. قلنا: المعنى لتبلغ , ولو سلم فالنسخ أيضا بيان , ولو سلم فأين نفي النسخ؟ قالوا: منفر. قلنا: إذا علم أنه مبلغ فلا نفرة. ش - نسخ السنة بالكتاب جائز عند الجمهور وعن الشافعي فيه قولان للجمهور وجهان: أحدهما: أنه لو امتنع لامتنع لغيره للقطع بأنه لا يمتنع لذاته والأصل عدم الغير. والثاني: أنه واقع فإن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة ونسخ بقوله - تعالى -: (فول وجهك شطر المسجد الحرام). وتحريم مباشرة الصائم بالليل ثبت بالسنة ونسخ بقوله: (فالئن بشروهن). وصوم يوم عاشوراء ثبت

بالسنة " نحن أحق بسنة موسى " ونسخ بآية الصيام. واعترض بأنه يجوز أن يكون النسخ في هذه الصور بالسنة ووافق القرآن فاستغنى بالقرآن عن نقل السنة الناسخة. وأجيب بأن تجويز ذلك يمنع تعيين ناسخ ما أبدا فإن أي ناسخ فرض أمكن أن يدفع بذلك. وفيه نظر لأن ذلك يحتاج إليه إذا ثبت مناف كمحل النزاع فإن الدليل يدل على منعه فإذا وقع على خلاف الدليل يحمل على ما ذكر جمعا بين الأدلة , وأما إذا لم يكن مناف كما في نسخ السنة بالسنة والكتاب بالكتاب فلا يحتاج إلى ذلك. واحتج المانعون بوجهين: أحدهما: أن القرآن بيان للسنة والناسخ ليس بيانا بل رافع. أما الثانية: فظاهرة , وأما الأولى فلقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فإن الذكر هو القرآن فكان معناه والله أعلم وأنزلنا إليك القرآن لتبين به ولا تبيين في النسخ. وأجاب بأن المراد بالتبيين هو التبليغ لعمومه في القرآن كله ولو سلم أنه ليس بمعنى التبليغ بل هو بمعنى التبيين ولكن لا نسلم أن النسخ ليس بيانا ولو سلم أنه ليس ببيان فمن أين يثبت نفي نسخ السنة؟ لأن غايتها أن تدل على أنها مبينه للقرآن لأن مفعول " لتبين " هو ما نزل إليهم وما نزل هو القرآن فيكون معناها لتبين بالقرآن القرآن ولا شك في أن القرآن بعضه يبين بعضآ ولا تعرض للسنة فيه أصلا. والثاني: أن نسخ السنة بالقرآن منفر للناس عن النبي وعن طاعته لأنه يوهم

- مسألة: هل يجوز نسخ القرآن بالخبر المتواتر؟

أن الله لم يرض بما يبينه الرسول. وفيه نظر لأن أمره وطاعته - صلى الله عليه وسلم - ليس بمنحصر في سنته - عليه السلام - فلا يكون منفرا عنه وعن طاعته بل عن سنته نسخا. وأجاب بأنه إذا علم أن الرسول - عليه السلام - مبلغ للأحكام لا واضع لها فلا نفرة. ولقائل أن يقول هو مبلغ لما أنزل عليه من القرآن وليس الكلام فيه وإنما الكلام فيما كان من سنته - صلى الله عليه وسلم - لا مطلقا بل من جهة كونه منسوخا بالكتاب وإذا لم يجوز ذلك اندفعت فوجب المصير إليه. ص - مسألة: الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر. ومنع الشافعي. لنا ما تقدم. واستدل: بأن " لا وصية لوارث " نسخ (الوصية للوالدين والأقربين) والرجم للمحصن نسخ الجلد. وأجيب بأنه يلزم نسخ المعلوم بالمظنون وهو خلاف الفرض قالوا: (نأت بخير منها أو مثلها) والسنة ليست كذلك ولأنه قال: (نأت) والضمير لله. وأجيب بأن المراد الحكم لأن القرآن لا تفاضل فيه فيكون أصلح للمكلف أو مساويا. وصح (نأت) لأن الجميع من عنده. قالوا: (قل ما يكون لي أن أبدله). قلنا: ظاهر في الوحي. ولو سلم فالسنة بالوحي. ش - نسخ القرآن بالخبر المتواتر جائز عند الجمهور خلافاً للشافعي.

للجمهور ما تقدم أنه لو امتنع لم يمتنع لذاته فكان للغير والأصل عدمه. واستدل أيضا بالوقوع فإن قوله: " لا وصية لوارث " نسخ قوله - تعالى -: (الوصية للولدين والأقربين) ورجم المحصن ثابت بالسنة ونسخ الجلد الثابن بقوله - تعالى -: (الزانية والزاني فاجلدوا كل وحد منهما مائة جلدة). وأجيب بأنه لو كان كذلك لزم نسخ المعلوم بالمظنون لأن السنة في الصورتين من الآحاد ونسخ المعلوم بالمظنون خلاف الفرض لأن الفرض أن خبر الواحد الذي هو المظنون لا ينسخ القرآن وهذا الفرض ليس بمصرح به ولكنه لزم " من " المدعي بطريق المفهوم لأن تقييد الخبر بالمتواتر في المدعي يدل على أنه لا يجوز نسخ القرآن بخير الواحد. وفي عبارته تسامح ولو قال: ونمنع التواتر كفى. واستدل الشافعي ومن تابعه بأن الناسخ لا بد وأن يكون خيرا من المنسوخ أو مثله لقوله - تعالى -: (ما ننسخ من ءاية) الآية والسنة ليست بخير من القرآن ولا

مثلا له ولأن نسخ الآية لا بد وأن يكون من الله لقوله - تعالى -: (نأت بخير) والضمير لله والخبر المتواتر ليس كذلك. وفيه نظر لأنها شرطية وقد تقدم. وجوابه ما ذكرناه في التقرير ولأن الضمير اسم ذات فكان من مفهوم اللقب وهو ليس بحجة. وأجاب بأن المراد بالنسخ في الآية نسخ الحكم لأن الخيرية تتصور فيه لا في ألفاظ القرآن لأنها في ذلك سواسية أما الحكم فقد يكون بعضه أقرب إلى المصلحة أو أكثر ثوابا فكان خيرا. وفيه نظر لأن القرآن أفصح وفصيح ويجوز أن يكون الأفصح خيرا. وبأن ما أتى به الرسول صح إطلاق " نأت " عليه لأنه أيضا من عند الله لقوله - تعالى -: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى). وفيه نظر لأن الإطلاق إما أن يكون بطريق الحقيقة أو المجاز والأول ممنوع والثاني خلاف الأصل. واستدل أيضا بأن قوله - تعالى -: (قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآى نفسى) يدل على أن الرسول لا يجوز له أن يبدل القرآن من تلقاء نفسه وفي نسخه بالسنة المتواترة ذلك. وأجاب بأنه ظاهر في الوحي يعني قرينة الحال تشعر بأن المراد به تبديل الوحي أي ليس لي أن أبدل ما يوحى إلي بعضه ببعض. وفيه نظر لأنه يلوح إلى أن السنة ليست بوحي وهو مناف لما تقدم في الجواب الأول. قال: ولو سلم أن المراد به منع التبديل مطلقا فالسنة بالوحي أيضا فالنسخ بها

- مسألة: هل يكون الإجماع منسوخا؟

لا يكون تبديلا من تلقاء نفسه بل بالوحي. وفيه نظر لأنه حينئذ لا يبقى لقوله: (من تلقاء نفسي) فائدة إذ لا وجود له على ذلك التقدير. ص - الجمهور: إن الإجماع لا ينسخ. لنا: لو نسخ بنص قاطع أو بإجماع قاطع كان الأول خطأ وهو باطل. ولو نسخ بغيرهما فأبعد للعلم بتقديم القاطع. قالوا: لو أجمعت الأمة على قولين فإجماع على أنها اجتهادية فلو اتفق على أحدهما كان نسخا. قلنا: لا نسخ بعد تسليم جوازه وقد تقدمت. ش - الإجماع القطعي لا ينسخ عند الجمهور خلافا لبعض الأصوليين. حجة الجمهور أن الإجماع القطعي لو نسخ لنسخ بنص قاطع أو إجماع قاطع أو بغيرهما والأول يستلزم خطأ المنسوخ لمعارضته القاطع وهو باطل. وفيه نظر لأن بالإجماع الثاني لا يلزم أن يكون الأول خطأ إذ ليس الثاني ثابتا بطريق التبين بل كان الأول صحيحا في وقت لما رأى أهله في حكمه من المصلحة ثم تغيرت في وقت آخر فأجمعوا على خلافه وليس في ذلك ما يدل على خطأ الأول. والثاني أعني نسخه بغيرهما فأبعد لأن غير النص القاطع والإجماع القاطع ظني وقد علم أن القاطع يقدم على غيره. قال شيخي العلامة: وإنما قيدنا الإجماع بالقطعي لأن قوله للعلم بتقديم القاطع يدل على أن المراد ذلك.

- مسألة: هل يكون الإجماع ناسخا؟

واحتج المجوزون بأن الأمة لو أجمعت على قولين فهو إجماع على كون المسألة اجتهادية يجوز الأخذ بأيها كان فلو أجمعوا بعد ذلك على أحدهما كان نسخا للأول ولا يجوز الأخذ إلا بما اتفقوا عليه. وأجاب بما معناه لا نسلم وقوع انعقاد الإجماع الثاني على أحد القولين لما تقدم من الخلاف , ولو سلم فلا نسخ للإجماع الأول لأنه مشروط بعدم الثاني وإذا وقع انتفى شرط الأول فانتفى الأول لانتفاء شرطه لا لكونه منسوخا. ولو قيل في الجواب الإجماع الثاني ظني لكونه مختلفا فيه فلا ينسخ الأول إن كان قطعيا وإن لم يكن خرج من محل النزاع لأن الكلام فيه لما ذكرنا من التقييد صح أيضا. ص - مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ به لأنه إن كان عن نص فالنص الناسخ وإن كان عن غير نص والأول قطعي فالإجماع خطأ أو ظني فقد زال شرط العمل به وهو رجحانه. قالوا: قال ابن عباس لعثمان: كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال الله - تعالى -: (فإن كان له إخوة) والأخوان ليسا إخوة. فقال: حجبها قومك يا غلام. قلنا: إنما يكون نسخا بثبوت المفهوم قطعا وأن الأخوين ليسا إخوة قطعا فيجب تقدير النص وإلا كان الإجماع خطأ. ش - الإجماع لا يكون ناسخا عند الجمهور خلافا لعيسى بن أبان وبع المعتزلة. واحتج الجمهور بأن الإجماع إن كان عن نص كان هو الناسخ لا الإجماع وإن

- مسألة: هل يكون القياس ناسخا ومنسوخا؟

كان عن غيره فعن قياس بالضرورة وحينئذ لا يخلو من أن يكون الحكم المنسوخ به قطعيا أو ظنيا فإن كان الأول كان الإجماع خطأ لأنه لا ينعقد على خلاف القطعي والخطأ لا يكون ناسخا وإن كان الثاني فلا يكون منسوخا بل يكون منفيا بانتفاء شرط العمل به وهو الرجحان على معارضه الذي هو سند الإجماع فإنه ليس براجح عليه وإلا لزم أن يكون الإجماع خطأ وما يكون منفيا بانتفاء شرطه لا بالناسخ لا يكون منسوخا. واحتج المجوزون بأن عثمان - رضي الله عنه - لما حجب الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين وقال له ابن عباس كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال الله - تعالى -: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) والأخوان ليسا بإخوة. قال حجبها قومك يا غلام. وذلك دليل على أن الإجماع يكون ناسخا. وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون معنى قوله: حجبها قومك - أنهم يطلقون التثنية على الجمع. وأجاب بأن حجب " الإمام " عن الثلث إنما يكون ناسخا إذا ثبت قطعا أن المفهوم حجة حتى يلزم بطريق المفهوم أنه إذا لم يكن له إخوة فلا يكون لأمه السدس , وثبت أن الأخوين ليسا بإخوة قطعا. وليس كذلك فإن كل واحد منهما مختلف فيه ولو سلم بثبوتهما قطعا وجب تقدير نص دال على حجب الأم عن الثلث وإلا لكان الإجماع خطأ لكونه مخالفا للقطعي وحينئذ يكون الناسخ ذلك النص لا الإجماع. ص - مسألة: المختار أن القياس المظنون لا يكون ناسخا ولا منسوخا. أما الأول فلأن ما قبله إن كان قطعيا لم ينسخ بالمظنون وإن كان ظنياً تبين زوال

شرط العمل به وهو رجحانه لأنه ثبت مقيدا , كان المصيب واحدا أو لا. وأما الثاني فلأن ما بعده قطعيا أو ظنيا تبين زوال شرط العمل به. وأما المقطوع فينسخ بالمقطوع في حياته , وأما بعده فتبين أنه كان منسوخا. قالوا صح التخصيص فيصح. قلنا منقوض بالإجماع والعقل وخبر الواحد. ش - القياس المقطوع ما يكون حكم أصله والعلة ووجودها في الفرع قطعيا والمظنون ما لا يكون كذلك بأن يكون بعض ذلك أو كله ظنيا. ومختار المصنف أن القياس المظنون لا يكون ناسخاً ولا منسوخاً.

- مسألة: هل يجوز نسخ أصل الفحوى بدونها؟

أما الأول: وهو أن القياس المظنون لا يكون ناسخا فلأن ما قبله أي الذي يفرض كونه منسوخا به إن كان قطعيا لا ينسخ بالمظنون وهو ظاهر. وإن كان ظنيا تبين بالقياس المظنون زوال شرط العمل به وهو رجحانه على معارضه سواء كان المصيب واحدا أو لا وإذا زال العمل به لم يثبت العمل وما لم يثبت لا ينسخ. وأما الثاني: وهو أنه لا يكون منسوخا فلأن ما بعد القياس المظنون قطعيا كان أو ظنيا تبين زوال شرط العمل بالقياس المظنون إلى آخره ما ذكرنا في الأول. وأما القياس المقطوع فينسخ بدليل قطعي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن حكم هذا القياس كحكم النص القاطع فكما جاز نسخ القاطع بالقاطع جاز نسخ القياس القطعي بالقاطع. وفيه تشكيك فإن شرط العمل بالقاطع وهو رجحانه إذ ذاك منتف فلا يكون نسخا كالمظنون. وأما بعد الرسول - عليه السلام - فلو عمل مجتهد بالقياس القطعي لعدم اطلاعه على ناسخه ثم اطلع على الناسخ تبين أنه كان منسوخا في عهد الرسول. ومن قال بأن القياس المظنون يجوز أن يكون ناسخا فاشبه على التخصيص بالقياس المظنون لأن النسخ بيان كالتخصيص. وأجاب بأن هذا الدليل منقوض بالإجماع والعقل وخبر الواحد فإن التخصيص بكل منها جائز دون النسخ. ص - مسألة: المختار: يجوز نسخ أصل الفحوى دونه. وامتناع نسخ الفحوى دون أصله. ومنهم من جوزهما. ومنهم من منعهما. لنا: أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب. وبقاء تحريمه يستلزم تحريم الضرب. وإلا لم يكن معلوما منه. المجوز: دلالتان فجاز رفع كل منهما. قلنا: إذا لم يكن استلزام.

المانع: الفحوى تابع فيرتفع بارتفاع متبوعه. قلنا: تابع للدلالة لا للحكم , والدلالة باقية. ش - اختلفوا في جواز نسخ الأصل كالتأفيف مثلا والفحوى على ثلاثة مذاهب: الأول: وهو المختار أنه يجوز نسخ أصل الفحوى بدون الفحوى ويمتنع نسخ الفحوى بدون أصله. والثاني: أنه يجوز نسخ كل منهما بدون الآخر. والثالث: أنه يمتنع نسخ كل منهما بدون الآخر. حجة المختار أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب فيجوز نسخ تحريم التأفيف الذي هو الأصل مع بقاء تحريم الضرب الذي هو الفحوى وأما بقاء تحريم التأفيف فإنه يستلزم تحريم الضرب لأن بقاء تحريم التأفيف لو لم يكن مستلزما لتحريم الضرب لم يعلم تحريمه من تحريم التأفيف وليس كذلك وإذا كان بقاء تحريم التأفيف مستلزما لتحريم الضرب امتنع نسخ تحريمه الذي هو الفحوى بدون نسخ تحريم التأفيف الذي هو الأصل. وقال من جوز نسخ كل منهما بدون الآخر إنهما دلالتان يعني أن دلالة اللفظ

- مسألة: إذا نسخ حكم أصل القياس نسخ حكم الفرع

على تحريم التأفيف غير دلالته على تحريم الضرب فإن أولهما بالمنطوق والثانية بالمفهوم وحينئذ جاز رفع كل واحد منهما بدون الآخر. وأجاب بوجود المانع وهو الاستلزام فإن رفع حكم هو لازم بدون رفع حكم هو ملزوم لا يجوز لامتناع بقاء الملزوم بدون اللازم. واحتج القائل بامتناع نسخ كل من الأصل والفحوى بدون الآخر بأن الفحوى تابع للأصل والتابع لا يوجد بدون المتبوع فإذا ارتفع الأصل ارتفع التابع. ولم يتعرض للجانب الآخر بظهور الاستلزام على مر. وأجاب بأن الفحوى تابع لدلالة اللفظ لا للحكم وهي باقية إلا أنه لا يجوز العمل بمقتضاها بدليل خاص بالأصل فتبقى الفحوى لبقاء متبوعه الذي هو الدلالة. ص - مسألة: المختار أن نسخ حكم أصل القياس لا يبقى معه حكم الفرع. لنا: خرجت العلة عن الاعتبار فلا فرع. قالوا: الفرع تابع للدلالة لا للحكم كالفحوى. قلنا: يلزم من زوال الحكم زوال الحكمة المعتبرة فيزول الحكم مطلقا لانتفاء الحكمة. قالوا: حكمتم بالقياس على انتفاء الحكم بغير علة. قلنا: حكمنا بانتفاء الحكم لانتفاء علته. ش - إذا نسخ حكم أصل القياس نسخ حكم الفرع أيضا هو المختار عند المصنف. خلافا للحنفية.

حجة المختار أن حكم الأصل هو الموجب لاعتبار العلة فيه فإذا ارتفع خرجت العلة عن الاعتبار فلا يتحقق الفرع لئلا يلزم وجود المعلول بدون العلة. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن حكم الأصل هو الموجب لاعتبار العلة بل العلة هي الموجبة لحكم الأصل ولا يلزم من انتفائه انتفاؤها لجواز أن تبقى لحكم الفرع. واحتج للحنفية بوجهين: أحدهما: أن حكم الفرع تابع لدلالة حكم الأصل على علة الأصل لا لحكم الأصل كالفحوى فإنه تابع لدلالة المنطوق لا لحكمه ولا يلزم من انتفاء حكم الأصل انتفاء دلالته على علة الأصل فلا يلزم من انتفاء حكم الأصل انتفاء حكم الفرع. وأجاب بأنه يلزم من زوال الحكم زوال الحكمة المعتبرة فيزول الحكم مطلقا لانتفاء الحكمة. وفيه نظر لأن المراد بالحكمة إن كان العلة فلا نسلم أن زوال الحكم يستلزم زوالها. سلمناه لكن لا نسلم زوال دلالته عليها وبها يتم المطلوب وإن كان غيرها فلا نسلم زوال الحكم مطلقا فإنه يلزم بقاء العلة بلا معلول وهو غير جائز. الثاني: أنكم حكمتم بانتفاء حكم الفرع بالقياس على انتفاء حكم الأصل بغير علة والقياس بدونها غير معتبر. وأجاب بأنا ما حكمنا بانتفاء حكم الفرع قياسا على انتفاء حكم الأصل بل حكمنا بانتفاء حكم الفرع لانتفاء علته. وفيه نظر لأنه ينافي ما ذكر في الجواب الأول أن زوال الحكم يستلزم زوال الحكمة المعتبرة فيزول الحكم مطلقا لانتفاء حكمته فإن أراد بالحكمة العلة فزيفه قد تقدم. ص - مسألة: المختار أن الناسخ قبل تبليغه - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت حكمه. لنا: لو ثبت لأدى إلى وجوب وتحريم للقطع بأنه لو ترك الأول أثم.

- مسألة: الناسخ قبل أن يبلغ المكلف لا يثبت حكمه

وأيضا فإنه لو عمل بالثاني عصى اتفاقا. وأيضا يلزم قبل تبليغ جبريل وهو اتفاق. قالوا: حكم فلا يعتبر علم المكلف. قلنا: لا بد من اعتبار التمكن. وهو منتف. ش - الناسخ قبل أن يبلغ المكلف لا يثبت حكمه كما إذا ورد الأمر باستقبال بيت المقدس ثم ورد الناسخ وهو الأمر باستقبال الكعبة في المدينة لا يثبت الحكم في حق أهل اليمن حتى يبلغهم هو المختار عند المصنف. واحتج بأنه لو ثبت حكمه قبل تبليغه كان الشيء الواحد واجبا حراما في حالة واحدة وهو محال وذلك لأنا نقطع بأن المكلف لو ترك الواجب الأول قبل تبليغ الناسخ أثم لكونه واجبا والفرض ثبوت حكم الناسخ فكان حراما في حال كونه واجباً.

ولأنه لو عمل المكلف قبل تبليغ الناسخ إليه بالثاني عصى بالاتفاق ولو كان حكم الناسخ ثابتا قبل تبليغه لم يكن كذلك. وفيه نظر لأنا لا نسلم أنه إذا ترك أثم فإن الإثم إنما يكون بترك ما أمر الشرع به وذلك لم يبق أمر الشارع به في الواقع. ولا نسلم أنه إذا عمل بالثاني عصى لأنه إنما يكون عاصيا إذا فعل " غير شرعيته الشرع " والفرض عدم علمه بذلك فكان فعله غير محظور فأنى يعصي. واحتج أيضا بأنه لو ثبت حكمه قبل ذلك لثبت قبل تبليغ جبريل - عليه السلام - إلى الرسول - عليه السلام - إذ لا فرق بين الصورتين وليس كذلك بالاتفاق. ولقائل أن يقول الفرق بين فإن الحكم ما لم ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزمه ولا أمته ولا يسمى شرع محمد إلا باعتبار المآل بخلاف ما إذا نزل فإنه إذا لزمه ولم يختص به لزم الأمة لأنه - عليه السلام - أصلهم هذا هو التحقيق المعتبر وإلا لزم أن يكون المكلف ممتمثلا عاصيا مثابا معاقبا بالنسبة إلى خطاب يرد بعد زمان وينسخ ولم يعلم به ونزل الأول أو أتى بالثاني. واحتج القائلون بثبوت حكمه قبل التبليغ بأن الناسخ حكم متجدد وكل ما هو كذلك لا يتوقف ثبوته على علم المكلف كسائر الأحكام المتجددة. وأجاب بأن التمكن من الامتثال لا بد منه وهو منتف لأنه لا يكون إلا بالعلم والفرض عدمه. ص - مسألة: العبادات المستقلة ليست نسخا وعن بعضهم صلاة سادسة نسخ وأما زيادة جزء مشترط أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة. فالشافعية والحنابلة ليس بنسخ. والحنفية نسخ. وقيل: الثالث نسخ.

- مسألة: الزيادة على النص هل هي نسخ أو لا؟

عبد الجبار: إن غيرته حتى صار وجوده كالعدم شرعا كزيادة ركعة في الفجر وكعشرين على القذف , وكتخيير في ثالث بعد اثنين فنسخ. وقال الغزالي: إن اتحدت كركعة في الفجر فنسخ بخلاف عشرين في القذف. والمختار: إن رفعت حكما شرعيا بعد ثبوته بدليل شرعي فنسخ لأنه حقيقته وما خالفه ليس بنسخ. فلو قال: " في السائمة الزكاة " ثم قال في " المعلوفة الزكاة " فلا نسخ فإن تحقق أن المفهوم مراد فنسخ وإلا فلا. ولو زيد ركعة في الصبح فنسخ لتحريم الزيادة ثم وجوبها والتغريب على الحد كذلك. فإن قيل: منفي بحكم الأصل قلنا: " هنا " لو لم يثبت تحريمه. فلو خير في المسح بعد وجوب الغسل فنسخ للتخيير بعد الوجوب ولو قال: (واستشهدوا شهيدين) ثم ثبت الحكم بالنص بشاهد ويمين فليس بنسخ إذ لا رفع لشيء. ولو ثبت مفهومه ومفهوم (فإن لم يكونا رجلين) إذ ليس فيه منع الحكم بغيره. ولو زيد في الوضوء اشتراط غسل عضو فليس بنسخ لأنه إنما حصل وجوب مباح الأصل. قالوا: كانت مجزئة ثم صارت غير مجزئة. قلنا: معنى مجزئة امتثال الأمر بفعلها ولم يرتفع وارتفع عدم توقفها على شرط آخر وذلك مستند إلى حكم الأصل. وكذلك لو زيد في الصلاة ما لم يكن محرما. ش - الجمهور على أن زيادة عبادة مستقلة ليس بنسخ وعن بعض الأصوليين

أن زيادة صلاة سادسة أي زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخ. والمنسوخ قوله - تعالى -: (حفظوا على الصلوت والصلوة الوسطى) لأنها تجعل ما كان وسطى غيرها. وهو باطل لأن النسخ إنما يكون في الأحكام الشرعية وكون الشيء وسطى ليس كذلك. وأما زيادة جزء مشترط كزيادة ركعة في صلاة أو زيادة شرط كصفة الإيمان في رقبة الكفارة أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة كما إذا قيل: " في السائمة زكاة " ثم قال: " في المعلوفة زكاة ". فذهبت الشافعية والحنابلة إلى أنها ليست بنسخ. وذهبت الحنفية إلى أنه نسخ.

وقيل: الثالث يعني الزيادة التي ترفع مفهوم المخالفة نسخ فقط. وقال عبد الجبار: إن غيرت الزيادة المزيد عليه تغييرا شديدا بحيث لو فعل به بعدها على حد ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه فإنه يكون نسخا نحو زيادة ركعة على ركعتي الفجر وكزيادة عشرين على الثمانين في حد القذف. ورد بأنه بعد زيادة عشرين لو أتى بالثمانين لم يكن وجودها كالعدم وإنما يلزم أن يضم إليه عشرون. وكزيادة تخيير في ثالث بعد التخيير في اثنين كما لو خير أولا بين الإعتاق والصيام ثم خير بينهما وبين الإطعام. وإن لم تغير الزيادة المزيد عليه تغييرا شديدا إلى ذلك الحد لم تكن الزيادة نسخا كزيادة التغريب على الحد. وقال الغزالي إن اتحدت الزيادة مع المزيد عليه بحيث يرتفع التعدد بينهما كزيادة ركعة في الفجر فنسخ وإلا فلا كزيادة عشرين في القذف. واختار المصنف أن الزيادة إن رفعت بدليل شرعي حكما شرعيا بعد ثبوته فنسخ لأن النسخ حقيقة في رفع حكم شرعي بدليل شرعي وما خالفه بأن لا تكون الزيادة حكما شرعيا أو تكون ولكن ترفع لا بدليل شرعي لا تكون نسخا. وفرع على هذا فروعا منها: أن الشارع لو قال: في السائمة زكاة ثم قال: في العلوفة. وكان المفهوم من الأول مرادا كان نسخا لأن الثاني دليل شرعي وقد رفع حكما شرعيا وهو عدم وجوب الزكاة المفهوم من قوله في السائمة الزكاة. وإن لم يكن المفهوم مرادا لا يكون نسخا لأن المنطوق وإن كان دليلا شرعيا إلا أنه لم يرفع حكما شرعيا لأن عدم وجوب الزكاة في العلوفة إذا لم يكن مراد الشارع بطريق المفهوم كان ثابتا بالأصل وذلك لا يكون نسخاً.

ومنها لو زيدت ركعة في الصبح " كان نسخا كتحريم " الزيادة لأن الزيادة على الركعتين قبلها كانت حراما والحرمة حكم شرعي رفعت بدليل شرعي. ومنها زيادة التغريب على الحد فإنها ناسخة لأنه قبل وجوبه كان حراما ووجوبه رفع حرمته. فإن قيل: رفع تحريم الزيادة ليس لنسخ لأن تحريمها ثابت بالأصل فهو مبقي عليه وهو ليس بنسخ. أجيب بأن الثابت به عدم وجوب الزيادة فأما تحريمها فشرعي لأنه لما كان مبطلا للإتيان بالمأمور به كان حراما. ومنها لو خير المكلف في المسح على الخفين وغسل الرجلين بعد وجوب غسلهما على التعيين كان نسخا لأن التخيير حكم شرعي وقد رفع وجوب الغسل وهو أيضا حكم شرعي. ومنها لو قال الشارع: (واستشهدوا شهيدين). ثم ثبت الحكم بشاهد ويمين لم يكن نسخا لأن مقتضى الآية أن شهادة الشاهدين حجة وثبوت الحكم بشاهد ويمين لم يرفع من ذلك شيئا ولو ثبت مفهوم قوله: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ومفهوم قوله: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) لا يكون الحكم بشاهد ويمين نسخا لأن مفهوم القولين انحصار الاستشهاد في المذكور لا انحصار الحكم في المذكورين فمفهوم الإثنين لم يمنع الحكم بغير شاهدين وبغير رجل

- مسألة: إذا نقص جزء العبادة أو شرطها فنسخ لجزء الشرط لا للعبادة

وامرأتين فلا يكون نسخا. ومنها لو زيد في الوضوء اشتراط غسل عضو لم يكن نسخا لأنه إنما حصل بالزيادة وجوب فعل مباح الأصل ومثل ذلك لا يكون نسخا. القائلون بأن زيادة اشتراط غسل عضو يكون نسخا قالوا قبل الزيادة كانت الطهارة بدونها مجزئة وبعد الزيادة لم تكن مجزئة فارتفع بالزيادة الإجزاء وهو حكم شرعي فيكون نسخا. وأجاب بأن معنى كون الطهارة مجزئة امتثال الأمر بفعلها ولم يرتفع ذلك بالزيادة وإنما ارتفع بالزيادة عدم توقف الطهارة على شرط آخر وهو ليس بحكم شرعي لاستناده إلى حكم الأصل فلا يكون نسخا. وكذلك لو زيد في الصلاة ما ليس بمحرم فيها لم يكن نسخا لأن رفعه يكون رفعا لما ثبت بالأصل ولكن يجب حمل قوله ما ليس بمحرم على ما يجوز فيها من غير أن يرد سمع وإلا لزم أن لا يكون وجوب ما هو مستحب في الصلاة أو مكروه فيها نسخا وليس كذلك لأن وجوب ما هو مستحب فيها يكون رافعا لحكم شرعي وهو الاستحباب فيكون نسخا. ص - مسألة: إذا نقص جزء العبادة أو شرطها فنسخ " لجزء الشرط " لا للعبادة وقيل: نسخ للعبادة. عبد الجبار: إن كان جزءا لا شرطا. قالوا: ثبت تحريمها بغير طهارة وبغير الركعتين ثم ثبت جوازها أو وجوبها بغيرهما. قلنا: الفرض لم يتجدد وجوب. ش - إذا نقص من العبادة ما تتوقف صحتها عليه من جزء أو شرط كما إذا نقصت ركعة من الأربع أو وجوب الطهارة فإنهما قد نسخا بالاتفاق.

وأما نسخ تلك العبادة فقد اختلفوا فيه. والمختار عند المصنف أن ذلك لا يكون نسخا للعبادة. وقيل: هو نسخ. وقال عبد الجبار: نقصان الجزء نسخ دون نقص الشرط. واحتج للمختار بأن نقصانهما لو كان نسخا لوجوب العبادة لافتقرت في وجوبها بعد النقصان إلى دليل ثان وليس كذلك بالاتفاق وذلك لأن وجوب العبادة الذي كان ثابتا قبل نقصانهما قد ارتفع بنقصانهما لأن الفرض أن النقصان نسخ للوجوب فوجوبها بعده لا بد له من دليل آخر. واحتج من قال: إن نقصانهما نسخ لها بأن تحريم العبادة بغير جزء أو شرط كان ثابتا قبل نقصانهما شرعا ثم ثبت بعده جوازها أو وجوبها بدونهما فارتفع التحريم المذكور بالنقصان فكان نسخاً للتحريم.

- مسألة: هل يجوز نسخ وجوب معرفة الله وتحريم الكفر؟

وفيه نظر لأن تحريم الشيء بانتفاء جزئه أو عند انتفاء شرطه عقلي فرفعه لا يكون نسخا. وأجاب بأنه لا كلام في نسخ التحريم المذكور بل النزاع في نسخ وجوب العبادة بعد النقصان ولم يتحقق لأن تحققه يوجب تجدد الوجوب والفرض عدمه لعدم احتياجها إليه بالإجماع. ولقائل أن يقول الصلاة الثلاثية غير الرباعية والصلاة بغير طهارة غيرها بطهارة فلم لا يجوز أن يكون الدليل الذي نسخ الجزء أو الشرط دليلا على وجوب الصلاة الثلاثية والصلاة بغير طهارة. ص - مسألة: المختار جواز نسخ وجوب معرفته وتحريم الكفر وغيره خلافا للمعتزلة وهي فرع التحسين والتقبيح. والمختار جواز نسخ جميع التكاليف خلافا للغزالي. لنا: أحكام كغيرها. قالوا: لا ينفك عن وجوب معرفة النسخ والناسخ. وأجيب: بأنه يعلمها وينقطع التكليف بهما وبغيرهما. ش - ذهبت الأشاعرة إلى جواز نسخ وجوب معرفة الله وتحريم الكفر وغيره من الظلم والقبائح العقلية. ونفاه المعتزلة. وهذه المسألة فرع مسألة التحسين والتقبيح العقليين فمن قال بهما منع نسخ

هذه الأمور لأنها عقلية وهي لا تنسخ. ومن لم يقل بهما جوزه لقوله - تعالى -: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت) وقوله: (ويفعل الله ما يشاء). وفيه نظر للقطع بأن لا يشاء الله نسخ وجوب معرفته كما أنا نقطع أنه لا يشاء محو ذاته وصفاته. ولأن الاتفاق على أن الأمور الغير شرعية لا يجوز نسخها. واختلفوا أيضا في نسخ جميع التكاليف فقال الغزالي: لا يجوز. واختار المصنف جوازه.

* القياس

واحتج بأن جميع التكاليف أحكام فكما جاز نسخ بعضها جاز نسخ جميعها. وفيه نظر لما تقرر في العقل أن زوال الحكمة يستلزم عبث ما هي حكمته وحكمة اتخاذ الجن والإنس العبادة لقوله - تعالى -: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فلو جاز نسخ العبادات كان الاتخاذ عبثا وهو محال , قال الله - تعالى -: (أفحسبتم أنما خلقنكم عبثا) الآية. واحتج الغزالي بأن المنسوخ لا ينفك عن وجوب معرفة النسخ والناسخ وهو الله - تعالى - وذلك تكليف فلا يكون جميع التكاليف منسوخا. وأجاب المصنف بأن المكلف يعلم النسخ والناسخ وينقطع التكليف بهما وبغيرهما بعد معرفتهما. وهذا غلط لأن المكلف يعلمهما قبل النسخ أو بعده لا سبيل إلى الأول لأنه لا نسخ ولا ناسخ قبل النسخ فتعين الثاني وهو تكليف لا ينتسخ بالناسخ قبله وهو واضح ولا بعده وإلا تسلسل وهو محال وما كفى المصنف اعتقاده حتى سعى في إبطال صريح الحق. والله أعلم. القياس ص - القياس: التقدير والمساواة. وفي الاصطلاح: مساواة فرع لأصل في علة حكمه. ويلزم المصوبة زيادة: في نظر المجتهد , لأنه صحيح , وإن تبين الغلط والرجوع. بخلاف المخطئة. وإن أريد الفاسد معه - قيل: تشبيه. وأورد قياس الدلالة فإنه لا يذكر فيه علة. وأجيب بإما بأنه غير مراد , وإما بأنه يتضمن المساواة لها وأورد قياس العكس مثل: لما وجب الصيام في الاعتكاف بالنذر وجب بغير نذر. عكسه: الصلاة لما لم تجب فيه بالنذر لم تجب بغير نذر.

- تعريفه لغة واصطلاحا

وأجيب بالأول. أو بأن المقصود مساواة الاعتكاف بغير نذر في اشتراط الصوم له بالنذر بمعنى لا فارق أو بالسبر وذكرت الصلاة لبيان الإلغاء. أو قياس الصوم بالنذر على الصلاة بالنذر. ش - لما فرغ من المباحث المتعلقة بالكتاب والسنة والإجماع شرع في القياس فعرفه: وهو في اللغة التقدير والمساواة. يقال: قس النعل بالنعل. واستعمل في الشرع بعلى تلويحا إلى معنى البناء. وفي اصطلاح الأصوليين: هو مساواة فرع لأصل في علة الحكم. والمراد بالفرع صورة أريد إلحاقها بمثلها في حكم " الاتحاد " العلة نوعا وبالأصل الصورة الملحق بها فتسميتها بذلك باعتبار ما يؤول إليه فإنهما يصيران

أصلا وفرعا بعد القياس فلا يلزم دور. وهذا تعريف للقياس الصحيح في نفس الأمر ولم يتناول ما هو صحيح في نظر المجتهد وليس بمطابق للواقع فيلزم المصوبة أن يزيدوا: في نظر المجتهد , ليتناوله لأنه صحيح عندهم وإن تبين الغلط بتوهم ما ليس بعلة في نفس الأمر علة والرجوع عن الحكم بخلاف المخطئة فإنه لا تلزمهم هذه الزيادة لأن هذا التعريف تعريف للقياس الصحيح. والقسم الثاني عندهم غير صحيح. ولو أريد تعريف القياس على وجه يشمل الفاسد أيضا قيل: تشبيه فرع بأصل في علة الحكم. وأورد عليه قياس الدلالة: وهو مساواة فرع لأصل في وصف جامع لا يكون علة للحكم في نفس الأمر ولا في نظر المجتهد بل يكون مساويا لها دالا عليها مثل الجمع بين الخمر والنبيذ بالرائحة الدالة على الشدة المطربة لأن الرائحة ليست بعلة بل العلة الشدة المطربة والرائحة دالة عليها فإنه خارج عن التعريف المذكور للقياس لأنه لم يذكر فيه علة الحكم مع أنه قياس فلا ينعكس الحد. وفيه نظر لأنا لا نسلم دلالتها عليها لأن الرائحة قد توجد بدونها كما قال:

يقولون لي انكه شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت سفرجلان ويعلم ذلك في الفقه في باب حد الخمر. وأجاب بوجهين: أحدهما: أن المراد غير قياس الدلالة فكأنه يقول القياس في هذا الاصطلاح غير قياس الدلالة. والثاني: إنه قياس وليس بخارج عن التعريف لأن المساواة في الوصف الجامع الدال على العلة يتضمن المساواة في العلة. وأورد أيضا على عكسه قياس العكس: وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لتحقق نقيض علة حكم الأصل في الفرع. كقول الحنفية لما وجب الصيام في الاعتكاف بالنذر وجب أيضا بغيره كالصلاة فإنها لما لم تجب في الاعتكاف بالنذر لم تجب بغيره. فالفرع هو الصيام والأصل هو الصلاة والحكم في الأصل عدم الوجوب في الواقع وفي الفرع الوجوب فيه والعلة في الفرع الوجوب بالنذر لأنه علة العلم بالوجوب في الواقع وفي الأصل عدم الوجوب بالنذر فإنه قياس ولا يصدق عليه الحد إذ لا مساواة بين الأصل والفرع في العلة ولا في الحكم. وأجاب بثلاثة أوجه: الأول: هو أن قياس العكس غير مراد من هذا التعريف وهو المذكور أولا في جواب الإيراد الأول. والثاني: أن المقصود ههنا مساواة الاعتكاف بغير نذر في اشتراط الصوم للاعتكاف المنذور في ذلك إما بمعنى أنه لا فارق بين الاعتكاف المنذور وغير

المنذور في اشتراط الصوم فإن الاختلاف بالنذر وعدمه لا مدخل له في اشتراط الصوم وعدمه كما في الصلاة وإما بالسبر بأن يقال الموجب لاشتراط الصوم إما الاعتكاف أو الاعتكاف بالنذر ولا سبيل إلى الثاني لأن النذر لو كان له أثر في الاشتراط لأثر في اشتراط الصلاة لكن لا أثر له في ذلك بالاتفاق فتعين أن يكون الموجب لاشتراط الصوم هو الاعتكاف فقط فيكون ذكر الصلاة لبيان كون النذر لا مدخل له في ذلك وعلى هذا يكون الاعتكاف المنذور أصلا وغير المنذور فرعا والحكم وجوب الاشتراط فيهما والعلة الاعتكاف فيصدق حد القياس عليه وينعكس. الثالث: أن المقصود قياس الصوم بالنذر على الصلاة بالنذر بأن يقال على تقدير أن لا يشترط الصوم في الاعتكاف لم يشترط فيه بالنذر كالصلاة فإنها لما لم تكن شرطا في الاعتكاف لم تصر شرطا فيه بالنذر أي بنذر الاعتكاف فالصلاة أصل والصوم فرع والحكم عدم الصيرورة شرطا بالنذر والعلة كونهما عبادتين فيصدق حد القياس عليه وينعكس. ص - وقولهم: بذل الجهد في استخراج الحق. وقولهم: الدليل الموصل إلى الحق. وقولهم العلم عن نظر. مردود بالنص والإجماع. وبأن البذل حال " القياس " , والعلم ثمرة القياس. وأبو هاشم: حمل الشيء على غيره بإجراء حكمه عليه , ويحتاج بجامع. وقول القاضي: حمل معلوم على معلوم في إثبات " حكم " لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما. حسن إلا أن حمل ثمرته. وإثبات الحكم فيهما معا ليس به. وبجامع كاف. وقولهم: ثبوت حكم الرفع , فرع القياس , فتعريفه به دور. أجيب بأن المحدود القياس الذهني وثبوت حكم الفرع الذهني والخارجي ليس فرعا له.

- تعريفات مزيفة للقياس

ش - لما ذكر ما هو عنده مرضي من حد القياس ذكر حدودا ذكرها المتقدمون وزيفها. الأول: قولهم: القياس بذل الجهد في استخراج الحق. وزيفه بأن البذل حال القائس والقياس هو المساواة المذكورة فلا يصدق أحدهما على الآخر فيصدق الحد بدون المحدود فلا يطرد. وفيه نظر لأنه على هذا التقدير لا نسلم أن القياس هو المساواة بل هو مصدر ولا شك حينئذ في كونه حالا قائمة بالقائس فيصدق أحدهما على الآخر. والثاني: قولهم هو الدليل الموصل إلى الحق. وزيفه بأنه مردود لصدقه على النص والإجماع لأن كل واحد منهما دليل موصل إلى الحق فلا يطرد. والثالث: قولهم: العلم عن نظر. وزيفه بأن العلم ثمرة القياس والقياس سببه وهو غير المسبب فيصدق الحد بدون المحدود فلا يطرد. والرابع: ما قاله أبو هاشم: بأنه حمل الشيء على غيره بإجراء حكمه عليه. وزيفه بأنه يحتاج إلى ذكر الجامع لأن حمل الشيء على غيره بإجراء حكمه عليه بغير جامع لا يكون قياسا. والخامس: ما قال القاضي: وهو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما. واستحسنه: وهو منقوض بزيد قائم مثلا فإنه يصدق عليه حمل معلوم على

معلوم في إثبات حكم وهو كونهما جزئي جملة أو صفة حكم وهي كونهما مسندا ومسندا إليه بجامع بينهما وهو الإسناد. وزيفه المصنف: بقوله: إن الحمل ثمرة القياس وهو كما تقدم. وبأن قوله: في إثبات حكم لهما يشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس وهو باطل لأن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل فلو ثبت الحكم في الأصل بالقياس لزم الدور. وبأن قوله بجامع كاف فلا يحتاج إلى قوله: من إثبات حكم أو صفة نفيهما - لأنها أقسام الجامع والمعتبر في التعريف نفس الجامع لا أقسامه. وقد أورد بعض المتأخرين بأنه أخذ في تعريف القياس القياس ثبوت حكم الفرع وثبوت حكم الفرع فرع القياس فيتوقف معرفته على معرفة القياس فتعريف القياس به دور. وأجاب عنه بأن هذا تعريف للقياس الذهني ولا يتوقف معرفة ثبوت حكم الفرع الذهني والخارجي على القياس الذهني لأن ثبوت حكم الفرع الذهني والخارجي لا يكون فرعا للقياس الذهني بل هما متضايفان ص - وأركانه: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع. الأصل: الأكثر: محل الحكم المشبه به. وقيل: دليله. وقيل: حكمه. والفرع: المحل المشبه. وقيل: حكمه. والأصل: ما ينبني عليه غيره. فلا بعد في الجميع ولذلك كان الجامع فرعا للأصل , أصلا للفرع. ومن شرط حكم الأصل أن يكون حكما شرعيا. وأن لا يكون منسوخا لزوال اعتبار الجامع. وأن يكون غير فرع خلافا للحنابلة والبصري.

لنا: إن اتحدت فذكر الوسط ضائع. كالشافعية في السفرجل مطعوم فيكون ربويا كالتفاح , ثم يقيس التفاح على البر. وإن لم تتحد فسد , لأن الأولى لم يثبت اعتبارها , والثانية ليست في الفرع كقوله في الجذام عيب يفسح به البيع فيفسخ به النكاح كالقرن والرتق. ثم يقيس القرن على الجب بفوات الاستمتاع. فإن كان فرعا خالفه المستدل: كقول الحنفي في الصوم بنية النفل: أتى بما أمر به كفريضة الحج. ففاسد , لأنه متضمن اعترافه بالخطأ في الأصل. ومنها أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس كشهادة خزيمة , وأعداد الركعات , ومقادير الحدود والكفارات. ومنها ما لا نظير له كان له معنى ظاهر كترخص المسافر , أو غير ظاهر كالقسامة. ومنها أن لا يكون ذا قياس مركب وهو أن يستغني بموافقة الخصم في الأصل أو منعه وجودها في الأصل. فالأول مركب الأصل. ومثل: عبد , فلا يقتل به الحر , كالمكاتب. فيقول الحنفي: العلة جهالة المستحق من السيد والورثة فإن صحت بطل الإلحاق. وإن بطلت منع حكم الأصل. فما ينفك عن عدم العلة في الرفع أو " منع الأصل. فلو سلم أنها العلة " وأنها موجودة أو أثبت أنها موجودة انتهض الدليل عليه لاعترافه كما لو كان مجتهدا. وكذلك لو أثبت الأصل بنص ثم أثبت العلة بطريقها على الأصح لأنه لو لم

- أركان القياس: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع

يقبل لم يقبل مقدمة تقبل المنع. ومنها أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع. ش - هذا شروع في بيان أركانه وهي أربعة: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع , لأن ركن الشيء ما يقوم بد ذلك الشيء وقيام القياس بهذه الأمور. وأكثر الفقهاء على أن الأصل هو الحكم المشبه به. مثلا إذا قيس الذرة على البر في حرمة التفاضل فالبر هو الأصل. وقيل: هو دليل حكم فالنص أو الإجماع الدال على حرمة التفاضل في البر هو الأصل وهو مذهب المتكلمين. وقيل: هو حكم المحل المشبه به فحرمة التفاضل هو الأصل ذكره فخر الدين الرازي في المحصول. والفرع هو المحل المشبه وهو الذرة في مثالنا. وقيل: الفرع حكم المحل المشبه. والأصل: ما يبتنى عليه غيره. ولا بعد في الجميع لأن الأصل يصدق على كل منهما ولذلك أي ولأجل أن الأصل ما يبتنى عليه غيره كان الجامع فرعا للأصل لأنه يبتنى على الأصل لأنه عرف به. ويكون أصلا للفرع لأن الفرع ينبني عليه. ومن شروط حكم الأصل أن يكون حكم الأصل شرعيا لأن المقصود من

- أن لا يكون حكم الأصل منسوخا

القياس الشرعي هو إثبات الحكم الشرعي فلو لم يكن حكم الأصل شرعيا لم يكن الحكم المتعدي إلى الفرع شرعيا فلا يحصل المقصود من القياس الشرعي. وأن لا يكون حكم الأصل منسوخا لأن الحكم إنما يتعدى من الأصل إلى الفرع بناء على اعتبار الجامع فإذا كان حكم الأصل منسوخا زال اعتبار الجامع فلم يتعد الحكم إلى الفرع. وأن لا يكون حكم الأصل فرعا على حكم آخر خلافا للحنابلة وأبي عبد الله البصري. واحتج المصنف على ذلك بأنه إن اتحدت العلتان أعني العلة الجامعة بين الفرع الأخير والمقيس عليه والعلة الجامعة بين المقيس عليه وأصله فذكر الوسط ضائع لأنه حينئذ يقاس الفرع الأخير على الأصل الأول وذلك كما تقول الشافعية في السفرجل

إنه مطعوم فيكون ربويا كالتفاح ثم يقيس التفاح على البر لأنه مطعوم فإن ذكر التفاح الذي هو الوسط ضائع لإمكان أن يقاس السفرجل على البر ابتداء , وإن لم تتحد العلتان فسد القياس لأن الأولى يعني العلة الجامعة بين الفرع الأخير والمقيس عليه لم يثبت اعتبارها لأنها ليست بموجودة في أصل المقيس عليه " مع أن " الحكم ثابت فيه. والثانية أي العلة الجامعة بين المقيس عليه وأصله ليست بموجودة في الفرع الأخير كقول الشافعي: الجدام عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح كالرتق والقرن فإن كل واحد منهما عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح. ثم يقيس القرن على الجب بجامع فوات الاستمتاع والعلة الأولى التي هي كونه عيبا يفسخ به البيع لم يثبت اعتبارها لأنها ليست بثابتة في الجب الذي هو أصل المقيس عليه والعلة الثانية التي هي فوات الاستمتاع غير موجودة في الفرع الأخير

- أن لا يكون معدولا به عن القياس

الذي هو الجذام هذا إذا كان حكم الأصل فرعا يوافقه المستدل أما إذا لم يكن ففاسد لتضمنه اعتراف المستدل بخطئه في الأصل لأن القياس إنما يتحقق إذا ثبت الحكم في الأصل فالمستدل إن لم يعرف بثبوت الحكم فيه لم يتمكن من القياس وإن اعترف يلزم الاعتراف بالخطأ في الأصل لأن المستدل يخالفه. مثال ذلك: قول الحنفي في وقوع الصوم بنية النفل عن الفرع إنه أتى بما أمر به فيصح قياسا على فريضة الحج بنية النفل من لم يحج يقع عن فريضة الحج فإن الحنفي لا يقول بوقوع الحج عن فريضة الحج إذا أتى به بنية النفل. واعلم أن مثل هذا يصير إليه بعض أصحابنا ويسميه قياسا إلزاميا لأن الخصم يقول بأن الحج يتأتى بنية النفل فيقول الحنفي أنت تقول بذلك فإن كان ذلك صحيحا وجب عليك أن تقول بصحة هذا أيضا للجامع وهو الإتيان بالمأمور به لكنك تقول بصحة ذلك فيكون هذا صحيحا لكنك لا تقول بهذا فلم يكن ذلك صحيحا. والحق أن مثل هذا إن كان في حيز الاستدلال لم يعتبر لعدم اعتراف المستدل به وإن كان في حيز الدفع فربما يكون مغتفرا في الجدل. وأن لا يكون معدولا به عن القياس أي لا يكون على خلاف قاعدة مستقرة في الشرع.

- أن لا يكون حكم الأصل عديم النظير

ولا يكون مما لا تعقل حكمته كقبول شهادة خزيمة وحده والحكم به فإنه على خلاف ما استقر في الشرع من أمر الشهادة ولم تعقل حكمته. وكأعداد الركعات ومقادير الحدود والكفارات فإنه وإن لم تكن على خلاف قاعدة مستقرة في الشرع لكنها لا تعقل حكمتها. وأن لا يكون حكم الأصل عديم النظير وهو ما لم يوجد ما يساويه في العلة سواء كان له معنى ظاهر كالرخص التي للمسافر فإن لها معنى ظاهرا وهو دفع المشقة أو لم يكن له معنى ظاهر كخمسين يميناً في القسامة.

- أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب

وأن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب وهو أن يستغني المستدل عن إثبات الحكم في الأصل بدليل بسبب موافقة خصمه في حكم الأصل مع منع ما جعله علة له وإبداء علة أخرى له أو مع منع الخصم وجود العلة في الأصل والأول يسمى مركب الأصل لأن الأصل أي الجامع وصفان يصلح كل منهما أن يكون علة وذلك مثل قول الشافعي - رحمه الله - فيما إذا قتل الحر عبدا: المقتول عبد فلا يقتل الحر به قياسا على ما إذا قتل الحر مكاتبا لكونهما رقيقين. فإن الشافعي يستغني عن إثبات عدم وجوب القصاص على الحر في صورة المكاتب بدليل لأن أبا حنيفة يوافقه لكن يمنع ما جعل الشافعي علة لعدم وجوب القصاص لأن العلة عند أبي حنيفة ليست الرق بل جهالة المستحق من السيد والورثة إذ لم يعلم أيهما هو المستحق فإذا قال الحنفي العلة عندي في صورة المكاتب جهالة المستحق فإن صحت علتها بطل القياس لأن العلة في الفرع غير موجودة وإن بطلت منع حكم الأصل فيقول لا نسلم أنه لا يقتل بالمكاتب لأن حكم الأصل لم يثبت بنص أو إجماع بل ثبت بناء على علية الجهالة فإذا بطل الموجب للحكم لم يثبت الحكم فيبطل القياس فلا ينفك القياس عن عدم العلة في الفرع أو منع حكم الأصل.

- أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع

والثاني: يسمى مركب الوصف مثل قول الشافعي في تعليق الطلاق بالنكاح مثل إن تزوجت زينب فهي طالق , هذا تعليق الطلاق فلا يصح قبل النكاح قياسا على ما إذا قال: زينب التي أتزوجها طالق فإنه لا يقع الطلاق بالاتفاق , لكن أبا حنيفة يقول علة الوقوع هو التعليق وهو ليس بموجود في الأصل فإن صح ذلك بطل إلحاق الفرع به لعدم وجود العلة فيه وإن لم يصح منع حكم الأصل فإنه حينئذ يكون الطلاق واقعا في الأصل لوجود العلة فما ينفك هذا القياس عن عدم العلة في الأصل أو منع حكم الأصل. ثم لا فرق في هذا بين أن يكون الخصم مقلدا أو مجتهدا فإنه إن كان مقلدا وسلم علية ما جعل المستدل علة في مركب الأصل وسلم وجود العلة في الأصل مركب الوصف أو أثبت المستدل أن العلة موجودة في الأصل انتهض دليل المستدل لاعتراف الخصم بعلية وصف المستدل في الأول " وبوجود " العلة في أصل الثاني كما لو كان الخصم مجتهدا. وأما إن كان مجتهدا وأثبت المستدل حكم الأصل بنص ثم أثبت العلة بما هو طريق إثباتها فينتهض دليله على الخصم على الأصح لأنه لو لم يقبل الخصم الدليل بعد إثبات حكم الأصل بنص وإثبات العلة بطريقها لزم أن لا يقبل الخصم مقدمة تقبل المنع. وإن أثبتها المستدل بالدليل بعد منع الخصم إياها فيلزم أن لا يقبل إلا البديهات وإنما قيدنا الخصم بكونه مجتهدا لأن ذلك لا يجري بالنسبة إلى المقلد لجواز أن يكون اعتتقاده أن إمامه يدفع ما تمسك به المستدل. وأن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع فإن جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا ليس أولى من العكس حينئذ وذلك أن تقول: الأرز ربوي كالبر ثم يستدل على إثبات جريان الربا في البر بقوله - عليه السلام -: " لا تبيعوا الطعام

- شروط علة الأصل

بالطعام " فإن هذا الدليل شامل لحكم الأرز. شروط علة الأصل ص - ومن شروط على الأصل أن تكون بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم. لأنها إذا كانت مجردة أمارة هي مستنبطة من حكم الأصل كان دورا. ومنها أن تكون وصفا ضابطا لحكمه لا حكمة مجردة لخفائها أو لعدم انضباطها ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح. ومنها أن لا تكون عدما في الحكم الثبوتي. لنا: لو كان عدما لكان مناسبا أو مظنته. وتقرير الثانية أن العدم المطلق باطل والمخصص بأمر إن كان وجوده منشأ مصلحة فباطل , وإن كان منشأ مفسدة فمانع. وعدم المانع ليس علة. وإن كان وجوده ينافي وجود المناسب لم يصلح عدمه مظنة لنقيضه لأنه إن كان ظاهرا تعين بنفسه وإن كان خفيا فنقيضه خفي ولا يصلح الخفي مظنة الخفي وإن لم يكن فوجوده كعدمه. وأيضا لم يسمع أحد يقول: العلة كذا أو عدم كذا. واستدل بأن لا علة عدم. فنقيضه وجود. وفيه مصادرة. وقد تقدم مثله. قالوا: صح تعليل الضرب بانتفاء الامتثال. قلنا: بالكف. وأن لا يكون العدم جزءا منها. قالوا: انتفاء معارضة المعجزة جزء من المعرف لها وكذلك الدوران وجزؤه عدم.

قلنا: شرط لا جزء. وأن لا تكوم المتعدية المحل ولا جزءا منه لامتناع الإلحاق بخلاف القاصرة. ش - لما فرغ من شروط الحكم في الأصل شرع في شروط علة الأصل وهي متعددة: الأول: أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث بأن تكون مشتملة على حكمة تصلح أن تكون مقصودة للشارع من شرع حكم الأصل كالاسكار في حرمة الخمر فإنه مشتمل على حفظ العقل لأن الحرمة تؤدي إليه وهو مقصود الشارع. كذا قيل: وفيه نظر لأن الإسكار مشتمل على إزالة العقل لا على حفظه وكون الحرمة مؤدية إليه غير معتبر لأن تصور الباعث على الشيء سابق وكون الشيء مؤديا

إلى شيء يستلزم تقدمه في التصور وما ذاك إلا دور. وإنما شرط ذلك لأنها إذا كانت مجرد أمارة لزم الدور لأن العلة فرع حكم الأصل لكونها مستنبطة منه وإذا كانت مجرد أمارة لا يكون لها فائدة سوى تعريف الحكم فيكون الحكم متفرعا عليها ويدور. وفيه نظر لأن بعض الأصوليين ذهبوا إلى أن الحكم في الأصل والفرع ثابت بالعلة وحينئذ لا تكون العلة مستنبطة من حكم الأصل ولأن جهة التوقف مختلفة فإن توقف العلة على حكم الأصل لمي وتوقف الحكم على العلة إذا لم تكن باعثة أني ولا دور مع الاختلاف. والثاني: أن تكون علة الأصل وصفا ضابطا لحكمة قيل: وهي الغاية

- وأن تكون وصفا ضابطا لحكمة

للحكم كالقدر مع الجنس في الربويات لأن ذلك وصف ضابط لحكمة هي دفع التفاضل بين المتجانسين مراعاة للتعادل فيما ليس فيه جهة التفاضل. وأما الحكمة المجردة فلا تقع علة لخفائها وعدم انضباطها حتى لو أمكن اعتبارها لانضباطها وعدم خفائها جاز التعليل بها على الأصح لأنها هي العلة الغائية فتعليل الحكمة بها أولى من التعليل بالوصف , " والفرق بين الشرطين غير محقق يـ ". والثالث: أنه لا تكون علة الأصل عدما في الحكم الثبوتي خلافا لبعض الأصوليين. واحتج عليه بوجهين: أحدهما: أنه لو كان الوصف الجامع في الحكم الثبوتي عدما لكان مناسباً أو

- وأن لا تكون علة الأصل عدما في الحكم الثبوتي

مظنة مناسب لأن الوصف الجامع لا بد وأن يكون باعثا لما تقدم والباعث منحصر في المناسب والمظنة على ما سيجيء. والمناسب هو الوصف الظاهر المنضبط الذي يحصل عقلا من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة أو دفع مفسدة. ومظنة المناسب هو ما يلازم الوصف المذكور إذا لم يكن ظاهرا والتالي باطل وإليه أشار بقوله: وتقرير الثانية - لأن العدم إما أن يكون مطلقا أو مضافا إلى أمر والأول باطل لأن العدم المطلق لا يختص ببعض الأحكام الثبوتية دون بعض , والثاني كذلك لأن وجود الأمر الذي اختص العدم به إما أن يكون منشأ مصلحة لذلك الحكم الثبوتي أو لا والثاني إما أن يكون منشأ مفسدة له أو لا والثاني إما أن يكون منافيا لوجود المناسب لذلك الحكم الثبوتي أو لا فهذه أربعة أقسام لا سبيل إلى واحد منها. أما الأول: فلأن عدمه حينئذ لا يكون مناسبا للحكم الثبوتي ولا مظنة مناسب لاستلزام عدمه فوات تلك المصلحة. وأما الثاني: فلأنه حينئذ يكون وجود ذلك الأمر مانعا من تحقق الحكم فعدمه عدم المانع وهو ليس بعلة بالاتفاق. وأما الثالث: فلأن عدم ذلك الأمر المنافي للمناسب لا يصلح أن يكون مظنة للمناسب الذي هو نقيض ذلك الأمر المنافي لأن نقيضه وهو المناسب إن كان ظاهرا تعين أن يكون علة بنفسه من غير احتياج إلى المظنة وإن كان خفيا فنقيضه أي الأمر المنافي له أيضا خفي فعدم ذلك الأمر المنافي للمناسب أيضا خفي والخفي لا يصلح أن يكون مظنة للخفي. وأما الرابع: فوجوده كعدمه وإذا تساويا لا يكون عدمه مناسبا ولا مظنة. الثاني: أنه لم يسمع عن أحد من المجتهدين يقول: العلة كذا أو عدم كذا والعادة تقضي بأنه لو جاز ذلك لقاله أحد. واستدل على هذا المطلوب بأن العلية موجودة لأن نقيضها وهو ألا علية عدمي

- وأن لا يكون العدم جزءا من علة الأصل

وإذا كان أحد النقيضين عدميا كان الآخر وجوديا وإذا كانت العلية موجودة لم يكن العدم علة وإلا لا تصف المعدوم بالوجودي وهو محال. قال المصنف: وفيه مصادرة وذلك لأن عدمية اللاعلية متوقفة على وجودية العلية لأن عدمية صورة السلب تتوقف على وجودية ما دخل عليه السلب فلو توقف وجودية العلية على عدمية اللاعلية لزم الدور. وقد تقدم مثل ذلك في مسألة الحسن والقبح حيث قيل الحسن وجودي لأنه نقيض اللاحسن. وقال القائلون بأن العدم يجوز أن يكون علة للثبوتي: صح تعليل الضرب الذي هو وجودي بانتفاء الامتثال الذي هو عدمي فإذا أمر عبده بفعل ولم يمتثل فضربه السيد صح أن يقال إنما ضربه لأنه لم يمتثل أمره. وأجاب المصنف بأن الضرب معلل بكف النفس عن الامتثال لا بانتفاء الامتثال والكف أمر ثبوتي. وهذا الجواب من قبيل الاستغناء بالمناسب عن المظنة. والرابع: أن لا يكون العدم جزءا من علة الأصل لما تقدم من الدليل وجوزه بعض الأصوليين. واحتج بأن انتفاء معارضة المعجزة بمثلها جزء من معزف المعجزة لأن الفعل الخارق للعادة يتوقف في كونها معجزة على انتفاء المعارضة وهو عدمي وكون الفعل

- وأن لا تكون العلة المتعدية محل الحكم ولا جزءا منه

معجزة ثبوتي فقد صار العدم جزء علة الثبوتي. وبأن الدوران علة لعلية المدار للدائر وعليه المدار أمر ثبوتي وجزء الدوران وهو العكس عدم فيجوز أن يكون جزء علة الثبوتي عدما. وأجاب عن الصورتين بأن العدم فيهما شرط لا جزء. ولقائل أن يقول المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة فدعوى أن عدم المعارضة شرط دعوى مجردة. والدوران هو ترتب الشيء على ما له صلوح العلية وجودا وعدما فكون العدم شرطا كذلك. وإن زعم بأن التعريف يتم بقوله: مقرون بالتحدي وبقوله ما له صلوح العلية وجودا وما عدا ذلك شرط فهو مع ضعفه للالتباس نزاع لفظي ولا جدوى له. والخامس: أن لا تكون العلة المتعدية محل الحكم ولا جزءا منه لأنها يمتنع أن تتحقق في الفرع وهي محل الأصل أو جزؤه فيمتنع إلحاق الفرع بالأصل بخلاف العلة القاصرة فإنها تجوز أن تكون المحل أو جزأه الخاص , مثل حرمت البر لكونه بر حب لم يكن الإلحاق مقصودا , والمراد بالجزء الخاص لأن التعليل بالجزء المشترك جائز لإمكان وجوده في الفرع.

- هل يصح التعليل بالعلة القاصرة؟

ص - والقاصرة بنص أو إجماع صحيحة باتفاق. والأكثر على صحتها بغيرهما كتعليل الربا في النقدين بجوهريتهما خلافا لأبي حنيفة. لنا: أن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها , وهو المعني بالصحة بدليل صحة المنصوص عليها. واستدل لو كانت صحتها موقوفة على تعديتها لم تنعكس للدور. والثانية: باتفاق. وأجيب بأنه وقف معية. قالوا: لو كانت صحيحة لكانت مفيدة والحكم في الأصل بغيرها. ولا فرع. ورد بجريانه في القاصرة بنص , وبأن النص دليل الدليل , وبأن الفائدة معرفة الباعث المناسب فيكون أدعى إلى القبول أو إذا قدر وصف آخر متعد لم يتعد إلا بدليل على استقلال. ش - العلة القاصرة هي المختصة بالأصل وهي قد تكون ثابتة بنص أو إجماع وقد تكون بغيرهما والتعليل بالأول صحيح , وبالثاني عند الأكثر كتعليل الربا في

النقدين بجوهريتهما. ومنعه أبو حنيفة - رحمه الله -. واحتج للأكثر بما تقريره أن المجتهد في طلب العلة إذا أدى اجتهاده إلى أن القاصرة علة حصل الظن بأن الحكم لأجلها ولا يعني بصحة التعليل بالقاصرة إلا حصول الظن بذلك بدليل صحة المنصوص عليها فإنه إذا حصل الظن بأن الحكم لأجلها صح التعليل. وفيه نظر لأن المجتهد إما أن يطلب العلة للإلحاق أو لغيره والقاصرة لا تقبل الأول والثاني غير مطلوب لأن بالنص عنها مندوحة في إفادة الحكم في الأصل. واستدل بأنه لو توقفت صحة التعليل على التعدية لم ينعكس أي لم تتوقف التعدية على صحة العلة لئلا يدور فإن التعدية لو توقفت على صحة العلة والفرض أن صحتها موقوفة على التعدية دار والتالي باطل بالاتفاق. وأجاب بأن توقف أحديهما على الأخرى توقف معية فلا دور. واحتج المانعون بأنه إذا صح التعليل بالقاصرة ما صح إلا لفائدة فإن ما ليس له فائدة شرعية ليس له صحة شرعية ولا فائدة لأنها إثبات الحكم إما في الأصل أو الفرع وهو في الأصل ثابت بالنص أو الإجماع ولا فرع في القاصرة. وأجاب أولا: بالنقض الإجمالي فإن هذا الدليل بعينه جار في القاصرة الثابتة بنص أو إجماع كقوله - عليه السلام -: " فإنها دم عرق انفجر "

والإجماع على جوازه. وفيه نظر لأن المنصوصة لبيان الحكمة لا أنها علة ولا كلام فيها. وثانيا: بمنع عدم الفائدة فإن فائدته إثبات حكم الأصل والنص أو الإجماع دليل الدليل أي دليل هذه العلة. وفيه نظر لأنه يلزم قطع الحكم عن الأقوى إلى الأضعف وذلك إبطال ولأنه حينئذ تكون العلة منصوصا عليها والفرض خلافة. وثالثا: بعدم انحصار فائدة العلة في إثبات الحكم فإن فائدته معرفة الباعث المناسب لتكون أدعى إلى القبول لكونه معقول المعنى. وفيه نظر لأن التعليل الشرعي وضع لإفادة الحكم الشرعي وما ذكرتم ليس كذلك. وفائدتها أيضا أنه إذا ثبت كونها علة لو قدر وصف آخر متعد لم يفد العلية إلا إذا دل دليل على استقلاله بالعلية. وفيه نظر لأن التعليل بالعلة القاصرة لا يمنع التعليل بالمتعدية ولأن هذه الفائدة غير متعلقة بالقاصرة فإن المتعدية دائما لا تعمل في الفرع إلا إذ دل الدليل على الاستقلال بالعلية وكان وجود القاصرة وعدمها سواء. ص - وفي النقض: وهو وجود المدعى علة مع تخلف الحكم. ثالثها: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة. ورابعها: عكسه. وخامسها: يجوز في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا عدم شرط والمختار إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع أو عدم شرط لأنها لا ثبت عليتها إلا ببيان أحدهما لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لذلك يكون لعدم المقتضي وإن كانت منصوصة فبظاهر عام فيجب تخصيصه كعام وخاص ويجب

- هل النقض قادح في العلية؟

تقدير المانع. لنا: لو بطلت لبطل المخصص. وأيضا جمع بين الدليلين. ولبطلت القاطعة , كعلل القصاص والجلد وغيرهما. ش - اختلف الأصوليون في جواز النقض: وهو وجود المدعى علة مع تخلف الحكم عنه. على ستة مذاهب:

الأول: الجواز مطلقا على أنه ليس بقادح في العلية. والثاني: عدمه مطلقا. والثالث: جوازه في المنصوصة دون المستنبطة. والرابع: عكسه إذا وجد المانع أو عدم الشرط. والخامس: جوازه في المستنبطة دون المنصوصة وإن لم يكن التخلف بوجود مانع أو عدم شرط. والسادس: وهو المختار عند المصنف أن العلة إن كانت مستنبطة لا يجوز تخلف الحكم عنها إلا بمانع أو عدم الشرط لأن عليتها لا تثبت عند التخلف إلا ببيان أحدهما لأن انتفاء الحكم إذا لم يوجد المانع أو عدم الشرط لانتفاء المقتضي لأنه لو كان موجودا والشرط موجود والمانع منتف تحققت العلة التامة والتخلف عنها ممتنع وإن كانت منصوصة فبظاهر عام أي إنما يجوز التخلف عنها إذا كان التنصيص بنص ظاهر عام فيجب تخصيصه بالنافي للحكم في صورة التخلف والعمل بالعلة في غيرها كعام وخاص إذا اختلفا فإنه يخص به العام ويعمل به في غير صورة التخصيص ويجب تقدير المانع في صورة التخلف إن لم يظهر مانع للضرورة. واحتج المصنف على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة بظاهر عام لا يبطل عليتها بثلاثة أوجه: الأول: أن العلة المنصوصة بظاهر عام لو بطلت بالنقض لبطل العام المخصص

بظهور الخاص. واللازم باطل لأن العام المخصوص حجة كما تقدم. وبيان الملازمة بأن نسبة العلة المنصوصة بظاهر عام إلى موارد الحكم كنسبة العام إلى أفراده فكما أن التخصيص لا يبطل العام بالكلية كذلك النقض لا يبطل العلية بالكلية. ولقائل أن يقول العلة المذكورة إما أن تكون تامة أو لا فإن كانت تامة لم يجز التخلف لأنه تكون الشروط موجودة والموانع منتفية فلو تخلف دل على عدم المقتضي كما تقدم , وإن كانت غير تامة لم تقتض شيئا حتى توجد الشروط وترتفع الموانع فلم يكن حينئذ فرق بين المنصوصة والمستنبطة. الثاني: أن العام الظاهر دل على العلية , والنقض دل على عدمها فيعمل بالظاهر العام في غير صورة النقض ويعمل بالنقض في صورته ليكون جمعا بين الدليلين لأن الجمع بينهما أولى من إهمال أحدهما. وفيه نظر لأن العلية إذا ثبتت بالنص لا يجوز قصرها وإلا لكان ما فرضناه علة غير علة وهو خلف باطل. الثالث: أن العلة بنص ظاهر لو بطلت بالنقض لبطلت العلة القاطعة أي المتفق عليها كعلل القصاص والجلد وغيرهما بالنقض لأن العلة المنصوصة بنص ظاهر لا تتقاعد عن العلة المتفق عليها. لكن القاطعة لم تبطل عليتها بالتخلف في بعض الصور كما إذا قتل ابنه. وفيه نظر لأن العلل القاطعة لم تعتبر للتعدية لأن الحكم يثبت فيما يثبت بالنص ويتخلف فيما بالنص فالتخلف غير ملتفت إليه لوجود ما يثبت به الحكم ويتخلف. ص - أبو الحسين: النقض يلزم فيه مانع أو انتفاء شرط. فيتبين أن نقيضه من الأولي. قلنا: ليس ذلك من الباعث. ويرجع النزاع لفظيا. قالوا: لو صحت للزم الحكم. وأجيب: بأن صحتها كونها باعثة لا لزوم الحكم فإنه مشروط.

قالوا: تعارض دليل الاعتبار ودليل الإهدار. قلنا: الانتفاء للمعارض لا ينافي الشهادة. قالوا: تفسد كالعقلية. وأجيب: بأن العقلية بالذات وهذه بالوضع. ش - القائلون بقدح النقص في العلية احتجوا بأربع أوجه: الأول: ما ذكره أبو الحسين وهو أن النقض لا بد له من وجود مانع أو انتفاء شرط لأن تخلف الحكم بدونهما يشعر بانتفاء العلة كما تقدم فبين النقض أن نقيض وجود المانع ونقيض انتفاء الشرط من أجزاء العلة المفروضة علة لأن الحكم لا يثبت بدون نقيض أحدهما فتنتفي العلة عند انتفاء نقيض أحدهما ضرورة انتفاء الكل بانتفاء جزئه. وأجاب بأن المراد من العلة الباعث ونقيض أحدهما ليس جزءا من الباعث ويرجع النزاع لفظيا , لأنه إن أريد بالعلة الباعث لا يكون نقيض أحدهما جزءا منها ولا يقدح النقض في العلية وإن أريد بالعلة ما يثبت الحكم كان نقيض أحدهما جزءا منها ويقدح النقض في العلية. ولقائل أن يقول فسر الباعث فيما تقدم بما يشتمل على حكمة تصلح أن تكون مقصودة للشارع من شرع حكم الأصل فتلك الحكمة إما أن تكون عند النقض كما كانت بدونه أو لا فإن كانت تساوي النقض وعدمه ويلزم الحكم في صورة النقض والفرض عدمه وإن لم يكن بطلت في الأصل كما بطلت في النقض. الثاني: أنه لو صحت العلة مع النقض لزم الحكم في صورة النقض لاستلزام العلة معلولها لكن الحكم قد " يختلف " فيها.

وأجاب بأن صحة العلة لكونها باعثة على شرعية الحكم " لأن يكون " لازما لها والعلة بمعنى الباعث لا تكون ملزومة للحكم فإن لزوم الحكم مشروط بوجود الشرط وعدم المانع. وفيه نظر لأن العلة بمعنى الباعث إما أن تكون دليلا على الحكم أو لا فإن كانت لزمها الحكم لأن الدليل هو ما يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول وإن لم تكن لم يكن القياس من أدلة الشرع لأنه منها بالعلة والتالي باطل بالاتفاق. الثالث: أن العلة لا تصح مع النقض لأن دليل الاعتبار وهو ما دل على علية الوصف عارض دليل إهدار علية الوصف أي إبطالها وهو انتفاء الحكم في صورة النفض وكل ما تعارضا تساقطا إلا المرجع ولم يوجد. وأجاب بأن انتفاء الحكم بوجود المعارض وهو تحقق المانع أو انتفاء الشرط لا ينافي الشهادة. يعني الدليل الدال على اعتبار علية الوصف لأن عند وجود الشهادة جاز أن ينتفي الحكم لمعارض وإذا لم يكن بين انتفاء الحكم لمعارض وبين الشهادة منافاة لا يقع التعارض بينهما. ولقائل أن يقول لا نسلم جواز انتفاء الحكم لمعارض عند وجود الشهادة بل هو عين النزاع. الرابع: أن العلة الشرعية تفسد بالنقض قياسا على العلة العقلية. وأجاب عنه بالفرق وهو أن العلة العقلية تقتضي المعلول بالذات فلا يجوز أن يتخلف المعلول عنها , وهذه أي العلة الشرعية تقتضي الحكم بالوضع فيجوز أن يتخلف الحكم عنها. وفيه نظر لأنه مبني على الفرق وقد تقدم. ولأن الشرع إما أنه وضع الشرعية على وجه لا يتخلف الحكم عنها أو لا والثاني ممنوع والأول يوجب التسوية بينها وبين العقلية فصح القياس.

ص - المجوز في المنصوصة: لو صحت مع النقض لكان لتحقق المانع ولا يتحقق إلا بعد صحتها فكان دورا. وأجيب بأنه دور معية. والصواب أن استمرار الظن بصحتها عند التخلف يتوقف على المانع. وتحقق المانع يتوقف على ظهور الصحة فلا دور كإعطاء الفقير يظن أنه لفقره فإن لم يعط آخر توقف الظن. فإن تبين مانع عاد وإلا زالت. قالوا: أدلتها اقتران فقد تساقطا. وقد تقدم. ش - مجوز تخلف الحكم في المنصوصة دون المستنبطة احتج بوجهين: الأول: لو صحت المستنبطة مع النقض لكانت صحتها لتحقق المانع وإلا لم يتخلف الحكم عنها فتتوقف صحة العلة على تحقق المانع , والمانع يتوقف على صحة العلة لأن المانع إنما يكون مانعا إذا تحقق المقتضي فيتوقف كل واحد من المانع والصحة على الآخر فيدور. وفيه نظر لأن الملازمة الثانية وهي قوله: وإلا لم يتخلف الحكم عنها - غير واضحة ولا مثبتة والصواب أن يقال: وإلا لا تبقى العلة لأنه إذا تحقق " النقض " والمانع غير متحقق والشروط موجودة لم يكن تخلفا بل كانت انتفاء الحكم لانتفاء العلة للحصر الاستقرائي. وأجاب بأن التوقف توقف معية فإن الصحة والمانع لا يتقدم أحدهما على الآخر وتوقف المعية غير محذور لعدم تقدم الشيء على نفسه. ثم قال المصنف: والصواب أن الصحة لا تتوقف على المانع بل استمرار الظن بصحة العلة عند تخلف الحكم يتوقف على المانع لأن صحة العلة جاز أن تتحقق بدون المانع فيما إذا لم يتخلف الحكم عن العلة وتحقق المانع لا يتوقف على استمرار

الظن بصحة العلة عند تخلف الحكم بل يتوقف على ظهور الصحة فلا دور. وفيه نظر لأن قوله: لأن صحة العلة جاز أن تتحقق بدون المانع فيما إذا لم يتخلف الحكم عن العلة - غير صحيح لأن الكلام في صحتها عند التخلف. ومثل لذلك بقوله: كإعطاء الفقير شيئا فإنه يظن أن الإعطاء للفقر فإن لم يعط فقيرا آخر توقف الظن في علية الفقير فإن تبين مانع عن إعطائه عاد ظن عليته أي استمر وإن لم يتبين مانع زال ظن عليته فظهر أن استمرار ظن صحة العلة عند تخلف الحكم يتوقف على المانع. الثاني: أن دليل العلة المستنبطة اقتران الحكم بها في بعض الصور فكما أن اقتران الحكم بالوصف في بعضها يدل على العلية فكذلك عدم اقتران الحكم به في بعض آخر يدل على عدمها فتعارضا وتساقطا. وقد تقدم الجواب في دليل الاعتبار ودليل الإهدار فيذكر ويذكر الجواب المذكور ثمة. والوجهان لعدم الجواز في المستنبطة ولم يذكر دليل الجواز في المنصوصة , والعدم في الأول لا يستلزم الجواز في الثاني لاحتمال شمول العدم. ص - المجوز في المستنبطة دون المنصوصة دليلها نص عام فلا يقبل. وأجيب: إن كان قطعيا فمسلم. وإن كان ظاهرا وجب قبوله. الخامس: المستنبطة علة بدليل ظاهر. وتخلف الحكم مشكك " فلا يعارض ". وأجيب: تخلف الحكم ظاهر أنه ليس بعلة. والمناسبة والاستنباط مشكك. والتحقيق أن الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر. قالوا: لو توقف كونها أمارة على ثبوت الحكم في محل آخر لانعكس فكان دورا أو تحكما. وأجيب بأنه دور معية.

والحق أن استمرار الظن بكونها أمارة يتوقف على المانع " أو " ثبوت الحكم وهما على ظهور كونها أمارة. ش - المجوز في المستنبطة دون المنصوصة وهو القائل بالمذهب الرابع , احتج على أن المنصوصة لا يجوز النقض فيها بأن المنصوصة دليلها نص عام وهو يقتضي ثبوت علية الوصف في جميع موارده فلا يقبل النقض. وأجاب بأن النص العام إن كان قطعي الدلالة على العلة فمسلم وإن كانت بطريق الظهور وجب قبوله للنقض كالعام للتخصيص. وفيه نظر لأن العام لا يكون قطعي الدلالة لما تقدم. والقائلون بجواز النقض في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا عدم شرط وهو المذهب الخامس , احتجوا على ذلك بوجهين: أحدهما: أن المستنبطة على بدليل ظاهر فإن دليلها المناسبة وهي تدل على علية الوصف ظاهرا لا قطعا , وتخلف الحكم عن الوصف مشكك أي موضع للشك , وعليه الوصف يعني أن دلالته على عدمها ليست بظاهرة لتساوي الاحتمالين احتمال تخلف الحكم لعدم العلة واحتمال تخلفه لوجود المعارض وغير الظاهر لا يعارض الظاهر فلا يقدح النقض في العلة. وأجاب بأن تخلف الحكم بلا وجود مانع وانتفاء شرط يدل على أن الوصف ليس بعلة ظاهرا ودلالة المناسبة واستنباط العلة على العلية مشكك فلا يكون ظاهرا , وغير الظاهر لا يعارض الظاهر. والتحقيق أن الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر فإذا أوجب

- تعريف الكسر

تخلف الحكم عن الوصف الشك في عدم العلية وجب أن يقع الشك فيها فلا يكون دلالة الدليل على العلية ظاهرة فيقع التعارض. والثاني: أنه لو قدح النقض في العلة المستنبطة لتوقف كونها أمارة للحكم على ثبوته في محل آخر وهو محل النقض ولو توقف فإما أن يتوقف في محل آخر على كون العلة المستنبطة أمار للحكم أو لا فإن كان الأول وهو العكس دار وإن كان الثاني فهو تحكم. وأجاب بأنه دور معية فلا يكون باطلا. ثم قال: والحق أن استمرار الظن بكون الوصف أمارة للحكم يتوقف على وجود المانع في محل النقض أو ثبوت الحكم فيه , ووجود المانع وثبوت الحكم فيه يتوقف على ظهور كون الوصف أمارة لا على استمرار الظن بكونه أمارة فلا يلزم الدور. الكسر والنقض المكسور ص - وفي الكسر , وهو وجود الحكمة المقصودة مع تخلف الحكم. المختار: لا يبطل. كقول الحنفي في العاصي بسفره: مسافر فيترخص كغير العاصي ثم يبين المناسبة بالمشقة. فيعترض بصنعة شاقة في الحضر. لنا: أن العلة السفر " لغير " انضباط المشقة ولم يرد النقض عليه. قالوا: الحكمة هي المعتبرة قطعا. فالنقض وارد. قنا: قدر الحكمة المساوية في محل النقض مظنون ولعله لمعارض. " والعلة في الأصل موجودة قطعا ". فلا يعارض الظن القطع حتى لو قدرنا وجود قدر الحكمة أو أكثر قطعا. وإن بعد أبطل إلا أن يثبت حكم آخر أليق بها. كما لو علل القطع بحكمة الزجر. فيعترض بالقتل العمد العدوان فإن الحكمة

أزيد لو قطع. فنقول ثبت حكم أليق بها تحصل به وزيادة وهو القتل. وفي النقض المكسور: وهو نقض بعض الأوصاف. المختار: لا يبطل كقول الشافعي في بيع الغائب مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح مثل بعتك عبدا. فيعترض بما لو تزوج امرأة لم يرها. لنا: أن العلة المجموع فلا نقض. فإن بين عدم تأثير كونه " معيبا " كان كالعدم فيصح النقض ولا يفيد مجرد ذكره دفع النقض. ش - اختلف الأصوليون في الكسر: وهو وجود الحكمة المقصودة من شرع الحكم مع تختلف الحكم عنه. ومختار المصنف أنه لا يبطل العلة. مثاله قول الحنفي في العاصي بالسفر

- هل الكسر قادح في العلية؟

وهو الذي يكون سفره معصية كالعبد الآبق وقطاع الطريق: مسافر فيترخص برخص السفر كالعبد ثم يبين المناسبة بين السفر والرخص باشتمال السفر على المشقة. فيعترض الشافعي بصنعة شاقة في الحضر كالحدادة فإن المشقة ثمة متحققة مع تخلف رخص المسافر عنها. واحتج على المختار بأن العلة هي الوصف الضابط للحكمة لا نفس الحكمة لعسر انضباطها لاختلاف المشقة باختلاف الأشخاص والأزمان والشارع لم يجعل ما يعسر انضباطها علة للحكم فلا يرد النقض على ما هو علة. والقائلون بإبطال لكسر العلة , احتجوا بأن الحكمة هي المعتبرة في العلية قطعا لا الوصف الضابط للحكمة لأن المقصود من شرع الحكم هو الحكمة والوصف عنوان الحكمة وضابطها فحينئذ يرد النقض لوجود الحكمة في صورة النقض مع تخلف الحكم عنها. وأجاب بما معناه أن الحكمة إنما تنقض إذا تساوت لحكمه الأصل والتساوي بين الحكمتين مظنون لجواز أن يكون قدر ما في النقض من الحكمة أقل منها في الأصل وعلى تقدير التساوي يجوز أن يكون التخلف لمعارض وإذا كان قدرها في النقض مظنونا والعلة في الأصل موجودة قطعا لا يعارض الظن القطع حتى لو قدر أن تكون الحكمة في محل النقض قدر الحكمة في الأصل أو أكثر منها على سبيل القطع - وإن بعد هذا التقدير لعسر الاطلاع على مقادير الحكم - أبطل الكسر الحكمة لوقوع التعارض بينهما حينئذ إلا أن يثبت حكم آخر في محل النقض أليق بالحكمة من الحكم المتخلف فإنه حينئذ لا يبطل الكسر العلة كما لو علل وجوب قطع اليد قصاصا بحكمة الزجر. فيعترض الخصم بالقتل العمد العدوان فإن حكمته أزيد ثمة لو قطع , ولم يقطع.

- تعريف النقض المكسور

فيقول المعلل ثبت فيه حكم أليق بحكمة الزجر تحصل حكمة الزجر بذلك الحكم وهو الزيادة وهو القتل. وأما النقض المكسور: وهو نقض بعض أوصاف العلة. أي تخلف الحكم عن بعض أوصافها. فقد اختلفوا فيه أيضا. ومختار المصنف أنه لا يبطل العلة وذلك كقول الشافعي في بيع الغائب: مبيع مجهول الصفة عند العاقد فلا يصح العقد قياسا على ما إذا قال: بعت عبدا من عبيدي والجامع كون المبيع مجهول الصفة عند العاقد. فيعترض الحنفي بما لو تزوج امرأة لم يرها , فإنها مجهولة الصفة عند العاقد والعقد صحيح فتخلف الحكم عن بعض أوصاف العلة. واحتج على المختار بأن العلة مجموع الأوصاف وهو كونه مبيعا مجهول الصفة عند العاقد لا بعضه وهو كونه مجهول الصفة عند العاقد وحينئذ لا يلزم تخلف الحكم عن العلة فإن بين الحنفي عدم تأثير كونه مبيعا كان وصف كونه مبيعا كالعدم لانتفاء تأثيره فتكون العلة حينئذ كونه مجهول الصفة عند العاقد فيصح النقض لتخلف الحكم عن العلة. ومجرد ذكر كونه مبيعا لا يفيد دفع النقض ما لم يبين له تأثير في العلة. وفيه نظر لأن الحنفي سائل والسائل لا يجوز له بيان ذلك لكونه غصبا.

ص - وأما العكس: وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة. فاشتراطه مبني على منع تعليل الحكم بعلتين لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله. ونعني انتفاء العلم أو الظن لأنه لا يلزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاؤه. ش - واختلفوا في أن العلة هل هي مشروطة بالعكس: - وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة - أو لا؟ واشتراطه مبني على منع تعليل الحكم الواحد بعلتين فمن منع ذلك اشترطه لأنه حينئذ لا يكون إلا علة واحدة فيلزم من انتفائها انتفاؤه , ونعني بانتفاء الحكم انتفاء العلم أو الظن به لأنه لا يلزم من انتفاء الدليل على الصانع

- اختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة كل منها مستقلة بالعلية على خمسة أقوال

انتفاء العلم به. وفيه نظر لأنه لم يفرق بين العلة والدليل والفرق بين حيث لا يصح إطلاق العلة في هذا المثال لفظا ولا معنى والكلام فيها. ومن جوز ذلك لم يشترطه إذ لا يلزم من انتفاء دليل انتفاء العلم أو الظن بالمدلول لجواز تحقق دليل آخر موجب للعلم أو الظن به. وفيه نظر لأنا ننقل الكلام فيما إذا انتفى جميع ما يصلح أن يكون دليلا عل ينتفي العلم أو الظن بالحكم بانتفاء ذلك؟ عند من جوز تعدد الدليل أولا لا يعلم مما ذكر ويفسد بناء هذه المسألة على تلك المسألة. ص - وفي تعليل الحكم بعلتين أو علل كل مستقل. ثالثها للقاضي: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة. رابعها: عكسه. ومختار الإمام: يجوز ولكن لم يقع. لنا لو لم يجز لم يقع وقد وقع , فإن اللمس والبول والغائط والمذي يثبت بكل واحد منها الحدث. والقصاص والردة يثبت بكل منها القتل. قولهم: الأحكام متعددة. ولذلك ينتفي قتل القصاص ويبقى الآخر. والعكس. قلنا: إضافة الشيء إلى أحد دليليه لا يوجب " دليلا " وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط. وأيضا لو امتنع لامتنع تعدد الأدلة لأنها أدلة. المانع: لو جاز لكانت كل واحدة مستقلة غير مستقلة لأن معنى استقلالها ثبوت الحكم بها فإذا تعددت تناقضت. وأجيب بأن معنى استقلالها أنها إذا انفردت استقلت فلا تناقض في التعدد.

قالوا: لو جاز لاجتمع المثلان فيستلزم النقيضين لأن المحل يكون مستغنيا " عن " مستغن. وفي الترتيب تحصيل الحاصل. قلنا: في العلل العقلية فأما مدلول الدليلين فلا. قالوا: لو جاز لما تعلق الأئمة في علة الربا بالترجيح لأن من ضرورته صحة الاستقلال. وأجيب بأنهم تعرضوا للإبطال لا للترجيح , ولو سلم فالإجماع على اتحاد العلة هاهنا , وإلا لزم جعلها أجزاء. ش - اختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة كل منها مستقلة بالعلية على خمسة أقوال: الأول: الجواز مطلقا. وهو المختار عند المصنف. والثاني: عدمه مطلقاً.

والثالث: الجواز في المنصوصة فقط وهو مذهب القاضي. والرابع: عكس ذلك. والخامس: أنه يجوز ولكن لم يقع. وهو مختار إمام الحرمين. واحتج المصنف على المختار بوجهين: أحدهما: أنه واقع والوقوع دليل الجواز وذلك لأن البول والغائط والمذي كل منها علة مستقلة للحدث وكذلك كل واحد من القتل العمد والردة علة مستقلة للقتل. فإن قيل النزاع في الحكم الواحد والأحكام في الصورتين متعددة لأن القتل بالردة غير القتل قصاصا فإنهما يفترقان فيما ارتد القاتل بعد القتل ثم أسلم فإنه ينتفي القتل بالردة دون القصاص وإذا لم يسلم لكن عفى الأولياء ينتفي القصاص ويبقى الآخر. أجيب بأن الحكم واحد والتعدد في إضافته إلى العلل وإضافة الشيء إلى أحد دلائله وعدم إضافته إلى دليل آخر لا يوجب التعدد في الشيء وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط لتعدد إضافته إلى علله. وللخصم أن يلتزم ذلك أيضا لاختلاف اللوازم الدال على اختلاف الملزومات. والثاني: أنه لو امتنع تعدد العلة لامتنع تعدد الأدلة لأن العلل أيضا أدلة لكونها معرفة للأحكام. والتالي باطل بالاتفاق إذ يجوز أن يكون لمدلول واحد أدلة. ولقائل أن يقول العلة باعثة دون الدليل فاعتبارها به باطل. والمانعون من جواز تعليل الحكم الواحد بعلل مستقلة احتجوا بثلاثة أوجه: الأول: لو جاز تعليل الحكم الواحد بعلل مستقلة لكانت كل واحدة منها مستقلة غير مستقلة واللازم باطل فالملزوم مثله. وبيان الملازمة بأن معنى استقلالها هو أن يثبت الحكم بها بانفرادها فإذا تعددت العلل المستقلة ثبت الحكم بكل واحدة منها لأنها علة مستقلة ولم يثبت بكل منها لأنه ثبت بالجميع فيلزم التناقض.

وأجاب بأن معنى استقلالها أنها إذا انفردت استقلت في العلية فيجوز أن تكون كل واحدة منها حالة الانفراد مستقلة وحالة الاجتماع غير مستقلة بل يكون المجموع علة ولا تناقض في ذلك. وفيه نظر لأن الظاهر من هذا الجواب عدم تحرير المبحث فإنه لا علل حالة الانفراد فليس من المبحث ولا استقلال حالة الاجتماع فليس أيضا منه. الثاني: لو جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستقلتين لزم اجتماع المثلين أو تحصيل الحاصل واللازم " بقسيمه " باطل. أما تحصيل الحاصل فظاهر , وأما اجتماع المثلين فللتناقض لأن محل التعليل وهو الحكم حصوله بكل منها يوجب الاستغناء عن الأخرى فكان مستغنيا عن كل منهما غير مستغن. وأما الملازمة فلأن العلتين إن كانتا معا اجتمع المثلان لأن وجود العلة المستقلة يستلزم معلولها فيلزم من كل منهما ما لزم من الأخرى وقد اجتمع المثلان. وإن كانت على الترتيب لزم تحصيل الحاصل. واعترض بأن اجتماع المثلين لا اختصاص له بالمعية , وبأن التوسط بالجمع بين المثلين في بيان كون المحل مستغنيا غير مستغن مستدرك. وأجاب المصنف بأن اجتماع المثلين أو تحصيل الحاصل إنما يلزم من العلتين المستقلتين في العلل العقلية المفيدة لوجود المعلول وأما في العلل الشرعية التي هي دلائل الأحكام فلا لجواز تعدد الأدلة لمدلول واحد. الثالث: لو جاز تعليل الحكم الواحد بذلك لما تعلقت الأئمة في علة الربا بترجيح العلل

من الطعم والقوت والكيل بعضها على بعض لأن من ضرورة صحة تعليل الحكم بذلك صحة استقلال كل منها بالعلية , والمطلوب يحصل بكل واحد فلا وجه للترجيح لكنهم تعلقوا بالترجيح. وأجاب بأن تعرضهم للعلل إنما هو لإبطال علية الغير لا للترجيح ولو سلم أنه للترجيح لكن لا لامتناع التعليل بعلتين مستقلتين بل للإجماع على اتحاد العلة في باب الربا , وإذا أجمعوا على ذلك ولم يمكنهم المصير إلى واحد منها بلا مرجح لزمهم إما الترجيح أو جعل كل من علل الربا جزء علته والتالي باطل بالإجماع فتعين الأول. وفيه نظر لأن الإجماع يحتاج إلى داع وناقل وكلاهما ممنوع. ص - القاضي: لا بعد في المنصوصة. وأما المستنبطة فتستلزم الجزئية لدفع التحكم. فإن عينت بالنص رجعت منصوصة. وأجيب: بأنه يثبت الحكم في محال أفرادها , فتستنبط. العاكس: المنصوصة قطعية , والمستنبطة وهمية. فقد تساوى الإمكان. وجوابه واضح. "

الإمام وقالت ": إنه القصوى وفلق الصبح لو لم يكن ممتنعا شرعا لوقع عادة ولو نادرا لأن إمكانه واضح ولو وقع لعلم. ثم ادعى تعدد الأحكام فيما تقدم. ش - قال القاضي: لا بعد في تعدد العلل المنصوصة لأنه إذا نص الشرع على أن كل واحد منها علة مستقلة فقد جعل كل واحدة علامة للحكم وأما المستنبطة إذا تعددت فإنه يلزم أن يكون كل واحد جزءا للعلة لأن المستنبط في الأصل وصفين كل منهما صالح للعلية فإن عين بالنص علية كل منهما رجعت العلة منصوصة والتقدير بخلافه وإن لم يتعين بالنص علية كل منهما فإن أسند الحكم إلى أحدهما لزم التحكم وإلى كل منهما الاستغناء عن كل منهما بالأخرى فكان المحل مستغنيا غير مستغن فتعين الإسناد إليهما معا ويلزم الجزئية وهو المطلوب. وأجاب بما معناه اختيار الإسناد إلى كل منهما ولا يلزم محال وذلك لأنه ثبت الحكم في محال أفرادها أي في محال كل واحد على سبيل الانفراد فيستنبط من ذلك أن كلا منهما عند الانفراد علة مستقلة ولا يلزم أن يكون كل واحد منهما عند الاجتماع علة مستقلة فلا يلزم استغناؤه عن كل واحد منها وعدم الاستغناء عند الاجتماع. قال شيخي العلامة: والحاصل أنه يجوز أن يكون كل واحدة من العلل المستنبطة علة مستقلة عند الانفراد ولا يكون علة مستقلة عند الاجتماع وحينئذ لا يخلو من أن يكون المراد من قوله المستنبطة إن كانت متعددة يلزم الجزئية أنه يلزم الجزئية عند الاجتماع أو عند الانفراد والأول مسلم والثاني ممنوع إذ يجوز أن يكون كل واحد منها علة مستقلة عند الانفراد لما ذكرنا وأيضا يجوز أن يكون كل واحد

منهما حالة الاجتماع علة مستقلة لأن العلل الشرعية أدلة ويجوز اجتماع الأدلة على معلول واحد. والعاكس أي القائل بجواز التعليل بعلتين مستقلتين في المستنبطة دون المنصوصة احتج: بأن المنصوصة قطعية فلو كانت كل منهما علة مستقلة لزم ما مر من المحال اجتماع المثلين أو تحصيل الحاصل وأما المستنبطة فعليتها وهمية لتساوي إمكان التعليل بالنسبة إلى كل واحدة وفيه تحكم أو الجميع وهو غير مستقيم لثبوت الاستقلال في محال افرادها. فتعين أن يكون كل واحد علة مستقلة قال: وجوابه واضح لأنا لا نسلم أن المنصوصة قطعية , سلمناه. ولكن لا نسلم أن اجتماع العلل الشرعية القطعية محال لأنها دلائل ولا مانع عن اجتماع الأدلة القطعية على مدلول واحد. وقال الإمام: إنه النهاية القصوى يعني أن إمكان تعليل الحكم بعلتين مستقلتين عقلا وامتناعه شرعا هو النهاية القصوى وفلق الصبح في الوضوح لأنه لو لم يمتنع شرعا لوقع عادة ولو. نادرا لوضوح إمكانه العقلي ولو وقع لعلم لكنه لم يعلم فلم يقع فيكون ممتنعا شرعا. وفيه نظرا لأن تعليل الحكم بعلتين مستقلتين يستلزم التناقض وهو محال فمن أين الإمكان العقلي وليس يلزم وقوع ما لم يمتنع لا نادرا ولا غيره وكذلك العلم لا يلزم بكل ما وقع وغاية ما ذكره خطابة وهو لا يفيد في محل الاستدلال. ثم ادعى الإمام تعددالأحكام في الصور السابقة الدالة على وقوع ذلك. ولم يجب المصنف لوضوح الجواب وهو ما تقدم أنه واقع في الصور السابقة

والتعدد في الإضافة لا في الأحكام كما ذكرنا. ص - القائلون بالوقوع: إذا اجتمعت. فالمختار: كل واحدة علة وقيل: جزء علة. وقيل: العلة واحدة لا بعينها. لنا: لو لم تكن ‹‹ كل علة ›› لكانت جزء أو كانت العلة واحدة. والأول: باطل لثبوت الاستقلال. والثاني: للتحكم. وأيضا: لامتناع اجتماع الأدلة. القائل بالجزء: لو كانت كل مستقلة لاجتمع المثلان. وقد تقدم. وأيضا لزم التحكم لأنه إن ثبت بالجميع فهو المدعى وإلا لزم التحكم. وأجيب ثبت بالجميع كالأدلة العقلية والسمعية. القائل: لا بعينها: لو لم تكن كذلك لزم التحكم أو الجزئية فتتعين. ش - القائلون بوقوع تعليل الحكم الواحد بعلل مستقلة اختلفوا فيما إذا اجتمعت على معلول واحد كاجتماع اللمس والمس والبول على نقض الوضوء. فقيل: كل واحدة جزء علة. وقيل: العلة واحدة لا بعينها. واختار المصنف أن كل واحدة علة. واحتج بوجهين: الأول: أن كل واحد لو لم يكن علة لكانت إما جزء علة أو كانت العلة واحدة لعدم الغير واللازم ‹‹ بقسيمة ›› باطل أما الأول فلأنها لو كانت جزءا لم تكن مستقلة

وقد ثبت الاستقلال. وفيه نظر لأن الاستقلال إنما ثبت عند الانفراد والكلام فيه وقد تقدم أنها عند الاجتماع جزؤ , ثم لا يلزم من انتفاء بقاء علية كل واحدة لاحتمال واحدة لا بعينها وهو سائر في أكثر ما ذكر من التقسيمات أما الثاني فللزوم التحكم لعدم أولوية شيء منها. والثاني: أنه لو لم يكن كل واحدة منها علة عند الاجتماع امتنع اجتماع الأدلة على مدلول واحد لأن واحد لأن العلة الشرعية أدلة. وفيه نظرا لأن العلة الشرعية باعثة والدليل ليس كذلك فبطل الاعتبار. والقائل بأن كل واحدة منها عند الاجتماع جزءا احتج بوجهين: الأول: لو كانت كل واحدة علة مستقلة عند الاجتماع لزم اجتماع المثلين وقد تقدم بيان الملازمة وانتفاء التالي. وفيه نظرا لأنه جعله دليلا مستقلا وليس كذلك لأنه لا يلزم من أن لا يكون كل واحدة علة أن يكون جزء علة لجواز أن تكون العلة واحدة. والثاني: أن كل واحدة لو كانت علة مستقلة لزم التحكم وهو باطل وذلك لأن الحكم إن ثبت بالجميع ثبت المدعى وهو كون كل واحدة جزاء وإن لم يثبت بالجميع لزم التحكم لثبوته بواحدة حينئذ. وأجاب بأنه ثبت بالجميع يعني بكل واحدة كالدلائل العقلية والسمعية فإن المدلول يثبت بكل واحد منها فلا يلزم للتحكم. وفيه نظرا لاستلزامه التناقض كما تقدم والاعتبار بالدليل غير صحيح لما مر آنفا. والقائل بأن العلة عند الاجتماع أحدها لا بعينها احتج بأنه لو لم تكن العلة واحدة لا بعينها لزم التحكم أو الجزئية لما مر من الدليل على الملازمة فتعين أن تكون واحدة لا بعينها.

- اختلفوا في جواز تعليل حكمين بعلة واحدة

وفيه نظر لأن واحدا لا بعينه غير موجود في الخارج والعلة لأمر خارجي لا يكون إل خارجيا ولم يتعرض المصنف لجوابه بناء على أنه يعلم ما سبق. ص - والمختار: جواز تعليل حكمين بعلة بمعنى الباعثة وأما الأمارة فاتفاق لنا: لا بعد في مناسبة وصف واحد لحكمين مختلفين. قالوا: يلزم تحصيل الحاصل لأن أحدهما حصلها. وأجيب بأنه إما يحصل أخرى أو لا تحصل إلا بها. ش - واختلفوا في جواز تعليل حكمين بعلة واحدة بمعنى الباعث ومختار المصنف جوازه. وأما تعليل الحكمين بأمارة واحدة وهي ما تكون معرفة للحكمة لا باعثة فجائز بلا خلاف إذ لا امتناع في نصب أمارة واحدة لحكمين كغروب الشمس لجواز الإفطار ووجوب صلاة المغرب. واحتج على المختار بأنه لا بعد في مناسبة وصف واحد لحكمين مختلفين كالإسكار المناسب لحرمة الخمر ووجوب الحد. والمانعون قالوا: لو جاز تعليل الحكمين بعلة واحدة بمعنى الباعث يلزم تحصيل الحاصل وهو محال وذلك لأن أحد الحكمين حصل الحكمة التي تضمها العلة فالثاني إن لم يحصلها لم تكن علة له وعن حصلها ‹‹ يلزم الحاصل ››.

- ومن شروط علة الأصل

وأجاب بأن الحكم الثاني إما تحصل حكمة أخرى أو لا تحصل الحكمة إلا بالحكمين والتي تحصل من الواحد جزء الحكمة. وفيه نظر لأن الأول إنما يتم على تقدير كون الوصف الواحد ذا حكمين والثاني على تقدير تحري الحكمة وكلاهما ممنوع. ص - ومنها ان لا تتأخر عن حكم الأصل. لنا: لو تأخرت لثبت الحكم بغير باعث وإن قدرت أمارة فتعريف المعرف. ومنها إن لا ترجع على الاصل بالإبطال. وأن لا تكون المستنبطة بمعارض في الأصل. وقيل: ولا في الفراغ. وقيل: ‹‹ مع الترجيح ››. وأن لا تخالف نصا أو إجماعا. وأن لا تتضمن المستنبطة زيادة على النص. وقيل: إن نافت مقتضاه. وأن لا يكون دليلها شرعيا. وان لا يكون دليلها متناولا حكم ‹‹ الاصل ›› بعمومه أو بخصوصه مثل: ‹‹ لا تبيعوا الطعام بالطعام ›› أو ‹‹ من قاء أو رعف ››. لنا: تطويل بلا فائدة , ورجوع. قالوا: مناقشة جدلية. ش - أي ومن شروط علة الأصل ان يتأخر وجودها عن حكم الأصل لئلا

- لا أن لا يتأخر وجودها عن حكم الأصل

يلزم ثبوت الحكم بغير ثابت. وفيه نظر لما تقدم أن العلة مستنبطة من حكم الأصل فهي متأخرة عنه لا محالة. فإن قيل: فقدر المتأخر أمارة فيجوز تأخير أمارة فيجوز تأخيرها عن حكم الأصل. أجيب بأنه لو قدرت العلية أمارة استلزم تأخيره تعريف ‹‹ لأن فائدتها تعريف الحكم ›› وقد عرف بالنص فيكون تعريفه بالأمارة تعريف المعرف. ورد بجواز أن تكون الامارة معرفة لحكم الفرع فلا يكون تعريف المعرف. ومثل لذلك بتعليل ولاية الأب على الصغير الذي عرض له الجنون فإنه قيل: عروض الجنون يثبت الولاية فتأخر الجنون الذي هو العلة عن الولاية التي هي الحكم. وفيه نظر لأن الولاية المتقدمة على الجنون معلولة بالصغر ولم يكن متأخرا. ومنها أي ومن شروط علة الأصل أن لا تكون مبطلة لحكم الأصل لأن في إبطاله بطلانها لكونها مستنبطة من حكم الأصل كما إذا علل وجوب تعيين الشاة في الزكاة بدفع حاجة الفقير فإن هذه العلة تقتضي بطلان حكم الأصل وهو تعيين الشاة فإن دفع حاجته كما يمكن بذلك يمكن بوجوب قيمتها فبطل تعيين الشاة. ومن شروطها ان لا تكون العلة المستنبطة معارضة بوصف آخر صالح للعلية يوجد في الأصل دون الفرع لجواز ان يكون الوصف المعارض هو العلة أو العلة مجموعهما فلا يلزم ثبوت الحكم في الفرع.

- وقيل: ومن شروطها أن لا يكون له وصف معارض لا في الأصل ولا في الفرع

قيل: ومن شروطها ان لا يكون له وصف معارض لا في الأصل ولا في الفرع , أما في الأصل فلما ذكر , وأما في الفرع فلأن المقصود من علة الأصل ثبوت الحكم في الفرع ومع وجود المعارض في الفرع لا يثبت الحكم فيه. وقيل: انتقاء المعارض في الأصل إنما يكون شرطا إذا كان المعارض راجحا. ومنع بأن المعارض المساوي أيضا يمنع العلة. ومن شروطها أن لا تخالف نصا أو إجماعا لأنهما أولى من القياس. ومن شروطها أن لا تتضمن المستنبطة زيادة على النص يعني أن النص إذا دل على علية وصف والاستنباط زاد قيدا على ذلك الوصف لم يجز التعليل به وقيل: إنما يشترط أن لا تتضمن المستنبطة زيادة على النص إن كانت الزيادة منافية لمقتضى النص , لأنها إذا كانت وصفا مساويا للمنصوصة لا تكون المستنبطة مخالفة للمنصوصة فلا يلزم محذور. ومن شروطها: ان يكون دليلها شرعيا لأن دليلها لو كان غير شرعي لزم أن لا يكون القياس شرعياً.

- وأن لا يكون دليل عليتها متناولا لحكم الفرع

ومن شروطها: أن لا يكون دليل عليتها مساويا حكم الفرع إما بالعموم بأن يكون الدليل شاملا لحكم الفرع ولغيره كما إذا قيل: الفواكه مطعومة فيجري فيه الربا قياسا على البر. ثم يثبت علية الطعم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ‹‹ لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء ›› فإنه كما يدل على الطعم بالإيماء يدل على حكم الفواكه بطريق العموم لتناوله حكم غير الفواكه. وإما بالخصوص ‹‹ فإن ›› يكون مخصوصا بصورة الفرع فقط. كما إذا قيل في مسألة الخارج من غير السبيلين خارج نجس من بدن الانسان فينتقض به الوضوء قياسا على الخارج من السبيلين. ثم علية الخارج النجس بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ‹‹ من قاء أو رعف فليتوضأ ›› فإنه كما يدل على علية الخارج النجس يدل على حكم الفرع بخصوصه حيث لا يدل على حكم غيره.

- اختلف العلماء في جواز كون العلة حكما شرعيا

واستدل بأنه إذا كان كذلك كان القياس تطويلا بغير فائدة لأن إثبات حكم الفرع بالقياس يتوقف على إثبات العلة إما بدليل عام أو خاص والفرض تناولهما إياه بلا وسط , والقياس يدل عليه بتوسط الدليل فكان القياس تطويلا بلا فائدة ومع ذلك يلزم الرجوع عن القياس لأن الحكم يثبت حينئذ بذلك الدليل فيكون رجوعا عن القياس. والمانعون لاشتراطه قالوا: منع القياس في مثل هذه الصورة مناقشة جدلية لأن دلالة القياس على ثبوت حكم الفرع يغاير دلالة ذلك الدليل لأن دلالة القياس عليه تتوقف على مقدمات لم تتوقف عليها دلالة ذلك الدليل عليها فمنع القياس لتوقف مقدمة من مقدماته على ذلك الدليل مناقشة جدلية. ولقائل أن يقول بل منع ذلك بطريق برهاني لأن الدليل إذا دل عليه حصل الحكم الشرعي بدلالته فبعد ذلك إثباته بالقياس تحصيل الحاصل. ص - والمختار جواز كونه حكما شرعيا إن كان باعثا على حكم الأصل لتحصيل مصلحة لا لدفع مفسدة كالنجاسة في علة بطلان البيع. والمختار جواز تعدد الوصف ووقوعه كالقتل العمد العدوان. لنا: أن الوجه الذي يثبت به الواحد يثبت به المتعدد من نص أو مناسبة أو شبه أو سبر أو استنباط. قالوا: لو صح تركيبها لكانت العلية صفة زائدة لأنا نعقل المجموع ونجهل كونها علة. والمجهول غير المعلوم. وتقرير الثانية أنها إن قامت بكل جزء فكل جزء علة وإن قامت بجزء فهو العلة. وأجيب بجريانه في المتعدد بأنه خبر أو استخبار. والتحقيق أن معنى العلة ما قضى الشارع بالحكم عنده للحكمة لا أنها صفة زائدة. ولو سلم فليست وجودية لاستحالة قيام المعنى بالمعنى. قالوا: يلزم أن يكون عدم كل جزء علة لعدم صفة العلية لانتفائها بعدمه. ويلزم نقضها بعدم ثان بعد أول لاستحالة تجدد عدم العدم.

- اختلف العلماء في جواز تعليل الحكم بعلة مركبة من أوصاف متعددة على مذهبين

وأجيب بأن عدم الجزء عدم شرط للعلة. ولو سلم فهو كالبول " بعد المس " وعكسه. ووجهه أنها علامات فلا بعد في اجتماعها ضربة ومرتبة فيجب ذلك. ش - واختلفوا في جواز كون العلة حكما شرعيا على ثلاثة مذاهب: الأول: أنه يجوز مطلقا. والثاني: أنه لا يجوز مطلقا. الثالث: وهو المختار عند المصنف التفصيل وهو أن الحكم الشرعي المجعول علة إن كان باعثا على حكم لتحصيل مصلحة جاز إذ لا استبعاد في استلزام ترتيب أحد الحكمين على الآخر حصول مصلحة لا يستقل بها أحدهما كالنجاسة في علة بطلان بيع الخمر فإنه تترتب حرمته على النجاسة التي هي أيضا حكم شرعي يحصل التنزه عنه. وإن لم يكن باعثا أو كان لكن لا تحصل مصلحة بل لدفع مفسدة لازمة عن حكم الأصل لم يجز. أما إذا لم يكن باعثا فلعدم أولوية أحدهما بالتعليل. وفيه نظر لجواز اشتمال أحدهما على ما يناسب العلية دون الآخر. وأما إذا

كان باعثاً لدفع مفسدة فلأن حكم الأصل لو كان مشتملا على المفسدة لما شرعه الشارع. واختلفوا في جواز تعليل الحكم بعلة مركبة من أوصاف متعددة على مذهبين: والمختار جوازه ووقوعه كالقتل العمد العدوان فإنه علة القصاص. واحتج المصنف عليه بأن الوجه الذي يثبت به كون الوصف الواحد علة يثبت به كون المركب علة فكما صح ذلك صح هذا. وقوله: من نص أو مناسبة أو تنبيه أو سبر أو استنباط - بيان الوجوه التي تثبت بها العلية. وقال المانعون: إن صح ذلك كانت العلة صفة زائدة على مجموع تلك الأوصاف واللازم باطل فالملزوم مثله. أما الملازمة فلأنا نعقل مجموعها ونجهل كونها علة والمجهول غير المعلوم فتكون العلة زائدة. وأما بطلان اللازم وإليه أشار بقوله: وتقدير الثانية فلأن العلية إن قامت بكل من تلك الأوصاف كانت كل واحدة علة وإن قامت بواحد فهو العلة والفرض خلافهما. ورد بأن القسمة غير حاصرة لجواز أن تقوم بالمجموع من حيث هو مجموع فلا يلزم شيء مما ذكر.

والجواب إما نعقل المجموع من حيث وهو كذلك ونجهل انه علة والمعلوم غير المجهول. واجاب المصنف بنقص اجمالي - بأن هذا الدليل بعينه جار في كون الكلام خبرا أو استخبارا فإنه مركب من ألفاظ متعددة وكونه خبرا أو استخبارا صفة زائدة فان قام بكل واحد من الألفاظ لزم أن يكون كل واحد خبرا , وإن قام بجزء واحد كان هو خبرا ثم بين التحقيق فيه وهو أن المعنى العلية قضاء الشارع بالحكم " عنده " وجود الوصف للحكمة لا لأنها صفة زائدة فإن قضاء الشارع بالحكم عند وجود الوصف ليس صفة للوصف فضلا عن أن تكون صفة زائدة وإذا لم تكن العلية صفة زائدة لم يلزم شيء " ما " ذكر. ولو سلم أن العلية صفة زائدة فليست بوجودية وإلا لزم قيام العرض بالعرض لأنها عرض ومجموع الاوصاف كذلك وذلك لا يجوز باتفاق المتكلمين. وقالوا أيضا: لو كان المركب من الأوصاف علة لزم أن يكون عدم كل جزء منه علة لعدم صفة العلية لانتفائها بانتفاء كل جزء من المركب لأنها تنتفي بانتفاء المركب والمركب ينتفي بانتفاء كل جزء منه واللازم باطل لأنه يلزم نقض علية عدم كل جزء لعدم صفة العلية لتحقق عدم الجزء بدون عدمها لأنه لو عدم جزء ثان بعد انعدام جزء أول لزم عدم العلية بانعدام الجزء الأول ولا تنعدم العلية بعدم الجزء الثاني لاستحالة تجدد عدم المعدوم لأن المعدوم لا يعدم. وأجاب بما معناه: لا نسلم أنه لو كان المركب علة لزم أن يكون عدم كل جزء منه علة لعدم صفة العلية. قوله: لانتفاء صفة العلية بانتفاء كل جزء من المركب. قلنا: مسلم , ولكن يجوز أن يكون شرطا فإن الشيء ينتفي بانتفاء شرطه. ولقائل أن يقول الجزء ركن والركن لا يكون شرطاً.

- هل يشترط في علة الأصل كون حكم الأصل مقطوعا به؟

قال: وإن سلم انه علة لعدم العلية فهو كوقوع البول بعد اللمس وبالعكس - أي وقوع اللمس بعد البول في كون كل واحد منهما علة لوجوب الوضوء. ووجهه بأنها علامات للأحكام الشرعية ولا بعد في اجتماع العلامات دفعة أو على الترتيب فلا يلزم النقض. قوله: فيجب ذلك - معناه حتى يجب النقض فهو منصوب لجواب النفي. وفيه نظر لأن العلة باعثة كما تقدم فالجواب بكونها علامات غير صحيح. قيل: هو في موضع المنع فلا يقدح. وللخصم أن يقول: منع هذه المقدمة لا يضر لأن العلة إن كانت باعثة ثبت المدعى وإن لم تكن انتفى التعليل على مذهبكم. ص - ولا يشترط القطع بالأصل. ولا انتفاء مخالفة مذهب صحابي. ولا القطع بها في الفرع على المختار في الثلاثة. ولا نفي المعارض في الأصل والفرع. وإذا " كانت " وجود مانع أو انتفاء شرط لم يلزم وجود المقتضى. لنا: أنه إذا انتفى الحكم مع المقتضى كان مع عدمه أجدر. قالو: أن لم يكن فانتفاء الحكم لانتفائه. قلنا: أدلة متعددة. ش - ولا يشترط في علة الأصل كون حكم الأصل مقطوعا به لجواز القياس على أصل ثبت حكمه بدليل ظني لأنه يفيد ظن الحكم في الفرع والعمل بالظن واجب.

- هل يشترط في علة الأصل انتفاء مخالفة مذهب صحابي؟

ولا يشترط أيضا في علة الأصل انتفاء مخالفة مذهب صحابي لجواز أن يكون مذهبه مستندا إلى علة مستنبطة فلا يدفع ظن العلية فيما جعل الأصل. وقيل: فيه نظر لأن الظن المعارض قادح في الظن الذي جعل علة. ولا يشترط أيضا في علة الأصل القطع بوجودها في الفرع لأن الظن كاف. وعدم اشتراط هذه الشروط الثلاثة في علة الأصل على المذهب المختار. وقد شرطها قوم. ولا يشترط أيضا في علة الأصل نفي معارض العلة في الأصل والفرع. واعترض بأنه يخالف ما تقدم أن نفي المعارض شرط. وأجيب بأن ما تقدم كان في العلة المستنبطة فإنه نفى ثمة المعارض في الأصل فقط , وأما هاهنا فلم يشترط نفي المعارض في الأصل والفرع معا في علة الأصل مطلقا فلا يكون مخالفا. واختلفوا فيما إذا كانت العلة لانتفاء الحكم بوجود مانع كعدم وجوب القصاص على الأب , أو عدم شرط كعدم وجوب الرجم لعدم الإحصان الذي هو شرط

وجوده , هل يجب فيه وجود المقتضي أو لا؟ والمختار عند المصنف أنه لا يجب. واحتج بأن الحكم إذا انتفى مع وجود المقتضي لوجود مانع أو انتفاء شرط كان انتفاؤه مع عدم المقتضي لأحدهما أجدر. ولقائل أن يقول هذا كلام غير محصل أما على قول من عرف المانع بأنه ما ينتفي به الحكم مع قيام المقتضي فظاهر , وأما على تعريف آخر فلأن الأب مثلا إذا لم يقتل ابنه فالأبوة تمنع فإذا لا بد وأن يتصور ترتيب حكم على المقتضي لولا المانع. وقال القائلون بلزوم وجود المقتضي إن لم يكن المقتضي فانتفاء الحكم لانتفائه لا لوجود المانع إذ لا مانع ثمة حينئذ. فيجوز أن يقال انتفاء الشرط مانع وهو حق. وأجاب بأن عدم المقتضي ووجود المانع وانتفاء الشرط أدلة متعددة ولا بعد أن يكون لمدلول واحد أدلة متعددة. وفيه نظر لأن وجود المانع دليل على عدم الحكم عند وجود المقتضي أو عند

- مسألة: هل حكم الأصل ثابت بالعلة أو بالنص

عدمه والأول: لا يفيده والثاني: ممنوع , ولئن ذهب إلى أن الأب لم يقتل ابنه فقال: إنه لا يجب عليه القصاص لأنه أب فهو كلام غير مفيد بعيد عن مكان التحصيل. ص - مسألة: الشافعية: حكم الأصل ثابت بالعلة. والمعنى أنها الباعثة على حكم الأصل. والحنفية: بالنص. والمعنى أن النص عرف الحكم فلا خوف في المعنى. ش - ذهبت الشافعية إلى أن حكم الأصل ثابت بالعلة على معنى أن العلة هي الباعثة على حكم الأصل. وذهبت الحنفية إلى أنه ثابت بالنص على معنى أن النص معرف لحكم الأصل. قال المصنف: فلا خلاف بينهما في المعنى لأن كون العلة باعثة على حكم الأصل لا ينافي كون النص معرفا لحكم الأصل. ص- شروط الفرع: منها: أن يساوي في العلة علة الأصل فيما يقصد من عين أو جنس كالشدة في النبيذ , وكالجناية في قصاص الاطراف على النفس. وأن يساوي حكمه حكم الأصل فيما يقصد به من عين أو جنس كالقصاص في النفس في المثقل على المحدد , وكالولاية في النكاح في الصغيرة على المولى عليها في المال.

وأن لا يكون منصوصاً عليه ولا متقدما على حكم الأصل. كقياس الوضوء على التيمم في النية لما يلزم من حكم الفرع قبل ثبوت العلة , لتأخر الأصل. نعم يكون إلزاما. وقيل: وأن يكون الفرع ثابتا بالنص في الجملة لا التفصيل. ورد بأنهم قاسوا: " أنت حرام " وعلى الطلاق واليمين والظهار. ش - لما فرغ من بيان شروط علة الأصل شرع في شروط الفرع وهي أربعة: الأول: أن يساوي الفرع أي تكون علة حكم الفرع مساوية لعلة الأصل في الوصف المقصود في العلة سواء كان عين العلة كالشدة المطربة في تحريم الخمر فإن علة تحريم النبيذ التي هي الشدة المطربة مساوية لعلة تحريم الخمر التي هي الشدة المطربة وعين الشدة المطربة مقصودة. أو جنسها كالجناية في قصاص الأطراف على قصاص النفس فان علة قصاص الأطراف مساوية لعلة قصاص النفس في الجناية التي هي مقصودة والجناية جنس علة قصاص النفس. وإنما اشترط ذلك لأن علة الفرع إذا لم تكن مساوية " لعلة الاصل " في المقصود لم يتحقق ما هو العلة في الفرع فلا يتعدى الحكم من الأصل إلى الفرع. والثاني: أن يساوي حكم الفرع حكم الأصل فيما يقصد كونه وسيلة للحكمة

- وأن لا يكون حكم الفرع متقدما على حكم الأصل

من عين الحكم كقياس وجوب القصاص في النفس بالمثقل على وجوب القصاص في النفس بالمحدد فإن وجوب القصاص بالمثقل بعينه يساوي وجوب القصاص بالمحدد. أو من جنسه كقياس الولاية في نكاح الصغيرة على الولاية في مالها فإن ولاية النكاح مساوية لولاية المال في جنس الولاية. والثالث: أن لا يكون حكم الفرع منصوصا عليه لإفضائه إلى بطلان القياس لوجود الأقوى وهو النص. والرابع: أن لا يكون حكم الفرع متقدما على حكم الأصل كقياس الوضوء على التيمم في النية لئلا يلزم تقدم الحكم على علته لأن علية الفرع متأخرة عن حكم الأصل وحكم الأصل متأخر عن حكم الفرع فعلة الفرع متأخرة عن حكمه أما الصغرى فلأن علة الفرع مستنبطة من حكم الأصل والمستنبط من شيء متأخر عنه , وأما الكبرى فلأنه المفروض فيما نحن فيه. قال: نعم يكون إلزاما يعني يصح أن يذكر ذلك القياس إلزاما للخصم. ولقائل أن يقول إن أراد بإلزام الخصم المغالطة لنسخ مجلس المناظرة فذالك يكون عند العجز عن إبداء رأي صحيح وإن أراد إقامة الحجة عليه فليس بصحيح لعدم

* مسالك العلة

صحته في نفسه وإنما يلتزمه الجاهل بأوضاع النظر. ومن الناس من شرط أن يكون حكم الفرع ثابتا بالنص على الإجمال لا التفصيل ليكون القياس لبيانه مفصلا. قال: وهو مردود لأن الأئمة قاسوا: أنت حرام على الطلاق واليمين والظهار ولم يثبت الفرع بنص لا جملة ولا تفصيلا. وفيه نظر لجواز أن يكون نص تناوله إجمالا وعدم العلم به لا يستلزم عدمه في نفس الأمر. ص - مسالك العلة: الأول: الإجماع. الثاني: النص. وهو مراتب: صريح , مثل لعلة كذا , أو لسبب , أو لأجل , أو من أجل أو كي , أو إذا. أو مثل: لكذا , أو إن كذا , أو بكذا أو مثل: فإنهم يحشرون , فاقطعوا أيديهما ومثل قول الراوي: سها فسجد. وزنا ماعز فرجم سواء الفقيه وغيره لأن الظاهر أنه لو لم يفهمه لم يقله. وتنبيه وإيماء وهو الاقتران بحكم لو لم يكن أو نظيره للتعليل كان بعيدا. مثل: واقعت أهلي في نهار رمضان. فقال: أعتق رقبة. كأنه قيل: إذا واقعت فكفر. فإن حذف بعض الاوصاف فتنقيح. ش - مسالك العلة: هي الطرق الدالة على كون الوصف المعين علة للحكم.

- الأول: الإجماع

وهي متعددة. المسلك الأول - الإجماع: فإنه إذا دل على علية وصف قطعيا كان أو ظنيا يثبت العلية كإجماعهم على أن الصغر علة للولاية على الصغيرة في قياس ولاية النكاح على ولاية المال. المسلك الثاني - النص: فإنه إذا دل الكتاب أو السنة على علية

- والنص على مراتب

الوصف ثبتت به. وقدم الإجماع لزيادة مناسبته فإن الإجماع اجتماع الآراء والقياس رأي. والنص على مراتب: الأولى - الصريح: وهو ما يدل بالوضع على العلية. وهو ينقسم إلى ما لا يحتمل غيرها وإلى ما يحتمله احتمالا مرجوحا.

والأول: هو أن " يتمكن بلفظ لا يستعمل في غيرها مثل: لعلة كذا , أو بسبب كذا , أو لأجل كذا , أو من أجل كذا , أو كي , أو إذا. والثاني: أن يذكر بلفظ يستعمل في غيرها أيضا. مثل لكذا. أو أن , أو بكذا فإنها ظاهرة فيها وقد يقصد بها غيرها. أما اللام فكما في قوله: لدوا للموت وابنوا للخراب. وأما أن فكالمصرية: أردت أن أضرب. وأما الباء فكالتي للتعدية.

المرتبة الثانية: التنبيه والإيماء

أو تذكر بتعليق الحكم على الوصف بالفاء سواء دخلت على العلة والحكم متقدم كقوله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أحد: " زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما " الحديث. أو في الحكم وتكون العلة متقدمة سواء دخلت على كلام الشارع كما في قوله - تعالى -: (فاقطعوا أيديهما) أو على كلام الراوي نحو: " سهى رسول الله فسجد " و " زنى ماعز فرجم ". لا فرق بين أن يكون الراوي فقيها أو غيره لأن الظاهر من حاله وهو عدل أنه لو لم يفهم كون الوصف علة لم يأت بالفاء. المرتبة الثانية: - التنبيه والإيماء ولعلهما

- أنواع التنبيه والإيماء أربعة

مترادفان - وهو اقتران الوصف بحكم لو لم يكن ذلك الوصف أو نظيره علة للحكم كان ذلك الاقتران بعيدا من الشارع. وهو على أربعة أوجه: الأول: أن يذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حادثة تشتمل على وصف ليبين الرسول - عليه السلام - حكمها فيذكره عقيب الذكر. مثل واقعة الأعرابي فإن الأعرابي لما رفع الحادثة إلى الرسول بقوله: واقعت أهلي في نهار رمضان. قال - عليه السلام -:" ... أعتق رقبة " فإن اقتران ايجاب الإعتاق بوصف الوقاع لو لم يكن للتعليل لكان بعيداً من

- الثاني

الرسول ذلك الاقتران لأن كل واحد من أهل اللغة سبق فهمه إلى أن ذلك الحكم لأجل الوقاع في نهار رمضان وإذا كان كذلك صار كأنه قال: إذا واقعت فكفر. فإن حذف من الوصف المقترن بالحكم بعض الأوصاف الذي لا مدخل له في العلية كورود ذلك الحكم في ذلك اليوم المعين وبكون ذلك الشخص يسمى الإيماء: بتنقيح المناط أي تنقيح ما ناط به حكم الشرع عن الزوائد. ص - ومثل: أينقص الرطب إذا جف. قالوا: نعم. فقال: فلا إذن. ومثال النظير كما سألته الخثعمية: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أفينفعه إن حججت. " فقال: " أرأيت " لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه " فقالت نعم. فنظيره في السؤال كذلك. وفيه تنبيه على الأصل والفرع والعلة. وقيل: إن قوله: لما سأله عمر عن قبلة الصائم: " أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك مفسدا " فقال: لا. من ذلك. وقيل: إنما هو نقض لما توهمه عمر من إفساد مقدمة الإفساد لا تعليل لمنع الإفساد إذ ليس فيه ما يتخيل مانعا بل غايته أن لا يفسد. ش - الثاني من وجوه الإيماء أن يقدر الشارع وصفا لو لم يكن تقديره للتعليل لكان تقديره من الشارع بعيدا سواء كان التقدير في محل السؤال مثل ما روي انه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال - عليه السلام - " أينقض الرطب إذا جف؟

فقالوا: نعم. فقال: فلا إذن " فإنه لو لم يكن تقدير نقصان الرطب بالجفاف لأجل التعليل لم يكن مفيدا إذ الجواب يتم بلا أو نعم. ومثله عن الشارع بعيد. أو في نظير محل السؤال كقوله - صلى الله عليه وسلم - للخثعمية إذ قالت: " إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أينفعه إن حججت. " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ فقالت: نعم ". وذلك لأن تقدير قضاء الدين عن الميت لو لم يكن لتعليل النفع به كان بعيدا. وإذا كان تقدير الوصف في غير المسؤول علة للحكم وجب أن يكون نظير ذلك الوصف في المسؤول علة له لئلا يلزم البعد فكان في كلامه - عليه السلام - تنبيه على الأصل الذي هو دين الآدمي على الميت وعلى الفرع وهو حجة الاسلام وعلى العلة وهي قضاء الدين على الميت. واختلف الأصوليون في قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عمر عن قبلة الصائم. " أرأيت لو تمضمضت بماء أكان ذلك مفسدا؟ " فقال عمر: لا ".

- الثالث

فقال بعض الأصوليون هم من مثال النظير فإنه - صلى الله عليه وسلم - قدر الوصف في نظير المسؤول , ورتب الحكم عليه ونبه على الأصل والفرع والعلة. وقال بعضهم إنما هو نقض لما توهم عمر من إفساد مقدمة الإفساد كأن عمر - رضي الله عنه - توهم أن القبلة التي هي مقدمة الوقاع المفسد مفسدة فنقض ذلك - عليه السلام - بالمضمضة فإنها مقدمة الشرب المفسد وهي غير مفسدة لا تعليل لمنع الإفساد إذ ليس في المضمضة ما يتخيل أن يكون مانعا من الإفساد بل غاية التمضمض أن لا يكون مفسدا فإن غاية مقدمة الشيء أن لا تقام مقام ما يكون مقدمة له , وأما أن تكون مانعة ما تقتضيه فلا. ولعل نظر الأولين إلى أن حد الإيماء صادق عليه وهو من مسالك العلة فتجعل تعليلا , ونظر الآخرين إلى أن العلة في الفرع يجب أن تكون مساوية للعلة في الأصل والتي في الأصل هاهنا أدنى لأنه لم يتخيل من المضمضة منع الإفساد فيجعل دفعا لما توهمه عمر - رضي الله عنه -. ص - ومنها مثل أن يفرق بين حكمين بصفة مع ذكرهما. مثل: " للراجل سهم وللفارس سهمان " أو مع ذكر أحدهما مثل " القاتل لا يرث " أو بغاية أو استثناء مثل: (حتى يطهرن) و (إلا أن يعفون). ومثل ذكر وصف مناسب مع الحكم. مثل: " لا يقضي القاضي وهو غضبان ". ش - الثالث من وجوه الإيماء أن يفرق الشارع بين حكمين إما بصفة مع ذكر

- الرابع

الحكمين كقوله - عليه السلام - " للراجل سهم وللفارس سهمان " وإما بصفة مع ذكر أحدهما كقوله - عليه السلام -: " القاتل لا يرث " خصص القاتل بعدم الميراث بعد سابقة إرث من يرث. وإما بغاية كما في قوله - تعالى -: (ولا تقربوهن حتى يطهرن). وإما بالاستثناء كقوله: (فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون) فإن في هذه الصور كلها دل الإيماء على علية الأوصاف المذكورة. قوله: ومثل ذكر وصف مناسب مع الحكم - هو الرابع من وجوه الإيماء وهو أن يقيد الشارع الحكم بوصف مناسب للحكم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يقضي القاضي وهو غضبان " فإن تقييد النهي عن القضاء بالغضب يشعر بكون الغضب علة مانعة

- ذكر صور محتملة للإيماء وغيره

من القضاء لما فيه من تشويش النظر واضطراب الحال إذ لو لم يكن كذلك لكان بعيدا من الشارع. وكذا إذا قال: أكرم العالم يشعر بأن العلم علة الإكرام. ص - فإن ذكر الوصف صريحا والحكم مستنبط مثل: (وأحل الله البيع) أو بالعكس. فثالثهما: الأول إيماء لا الثاني. فالأول على أن الإيماء اقتران الوصف بالحكم , وإن قدر أحدهما. والثاني: على أنه لا بد من ذكرهما. والثالث: على أن ذكر المستلزم له كذكره. والحل يستلزم الصحة. وفي اشتراط المناسبة في صحة علل الإيماء. ثالثها: المختار: إن كان التعليل فهم من المناسبة اشترط. ش - لما فرغ من بيان الإيماء ذكر صورا محتملة له ولغيره. فإن ذكر الشارع الوصف صريحا ولم يذكر الحكم بل كان مستنبطا كقوله - تعالى -: (وأحل الله البيع) فإن الوصف وهو حل البيع مذكور صريحا والحكم وهو صحة البيع مستنبط من الحل. أو بالعكس بأن يذكر الحكم صريحا ولم يذكر الوصف بل كان مستنبطا من الحكم كقوله - عليه السلام -: " حرمت الخمر لعينها " فإنه يدل على الحكم وهو التحريم صريحا واستنبط منه أن العلة الشدة المطربة فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب:

الأول: أن الأول والثاني إيماء. والثاني: أنه ليس واحد منهما إيماء. والثالث: أن الأول إيماء دون الثاني. وجه الأول: أن الإيماء اقتران الحكم بالوصف هو حاصل سواء كان الحكم والوصف مذكورين صريحا أو أحدهما يكون مذكورا صريحا والآخر مقدرا. ووجه الثاني: أنه لا بد من ذكر الحكم والوصف صريحا. ووجه الثالث: أن ذكر المستلزم للشيء كذكره فيكون الأول إيماء لا الثاني لأن الحل يستلزم الصحة فذكر الحل كذكر الصحة فيكونان مذكورين. فيكون إيماء بخلاف الثاني فإن الحكم لا يكون مستلزما لتعليله بالوصف المستنبط فإن حرمة الخمر ليست مستلزمة لتعليلها بالشدة المطربة. واختلفوا في اشتراط المناسبة في صحة التعليل بطريق الإيماء على ثلاثة مذاهب: الأول: عدمه مطلقا. والثاني: اشتراطه مطلقا. والثالث: التفصيل وهو المختار عند المصنف أنه يشترط المناسبة إن فهم التعليل بطريق الإيماء من المناسبة كما في الوجه الرابع من وجوه الإيماء وإن لم يكن كذلك لا يشترط لأنه لو فهم التعليل منها امتنع فهمه بدونها فيكون شرطاً بخلاف ما

- الثالث: السبر والتقسيم

إذا لم يفهم التعليل منها فانه حينئذ يكون مستقلا في افادة التعليل فلم يحتج إلى اشتراط المناسبة. ص - الثالث: السبر والتقسيم. وهو حصر الأوصاف في الأصل وإبطال بعضها بدليله فيتعين. ويكفي: بحثت فلم أجد. والأصل عدم ما سواها. فإن بين المعترض وصفا آخر لزم إبطاله لا انقطاعه والمجتهد يرجع إلى ظنه. ومتى كان الحصر والإبطال قطعيا فقطعي وإلا فظني. ش - المسلك الثالث - السبر والتقسيم: وهو حصر الأوصاف في الأصل المقيس عليه وإبطال بعضها ما لا يصلح للتعليل فيتعين الباقي للعلية. وصورة السبر والتقسيم أن تقول الحكم الثابت في الأصل لا يجوز أن يكون بلا علة والموجود فيه وصفان أو ثلاثة فاني بحثت عن الأوصاف فلم أجد غير ما ذكر

طرق الحذف

والأصل عدم ما سواها إلا بدليل ولا دليل فانه إذا قال ذلك يغلب على الظن الحصر فيما عينه إذا كان أهلا للنظر بأن كانت مدارك المعرفة بذلك لديه متحققة من الحس والعقل وكان عدلا ثم يحذف بعد ذلك ما لا يصلح للتعليل بدليل فيلزم من مجموع الامرين انحصار التعليل في الباقي. فان بين المعترض وصفا آخر لزم المستدل إبطال ذلك الوصف ليتم استدلاله ولا ينقطع المستدل بذلك. وإن لم يذكره أولا لأنه أبطله. هذا إذا كان مستدلا على غيره أما إذا كان مجتهدا فيرجع إلى ظنه فمهما غلب على ظنه حصر الأوصاف وبطلان البعض كفاه. وكلما كان الحصر واإابطال قطعيين كان التعليل قطعيا. وإن لم يكونا قطعيين أو يكون أحدهما قطعيا والآخر كان ظنيا. ص - وطرق الحذف منها: الإلغاء: وهو بيان إثبات الحكم للمستبقى فقط. ويشبه مثل العكس الذي لا يفيد وليس به , لأنه لم يقصد لو كان المحذوف علة لانتفى عند انتفائه. وإنما قصد: لو كان المستبقى جزء علة لما استقل ولكن يقال لا بد من أصل لذلك فيستغنى عن الأول. ومنها طرده مطلقا , كالطول والقصر. أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورية في أحكام العتق. ومنها أن لا تظهر مناسبته. ويكفي المناظر: بحثت فإن ادعى أن المستبقى كذلك يرجح سبر المستدل بموافقته للتعدية. ش - لما كان التعليل لا يتم إلا بالحصر والحذف أي إبطال بعض الأوصاف وذكر الحصر أتمه بذكر الحذف. وله طرق منها: الإلغاء: وهو بيان إثبات الحكم

بالوصف المستبقى دون الوصف المحذوف في صورة. كما يقال علة حرمة الربا في البر إما الطعم أو القوت والتالي باطل لتحقق حرمة الربا في الملح بدون القوت فلو كان القوت معتبرا في العلية لما تحقق الحكم بدونه فيتحقق أن حرمة الربا ليست إلا بالطعم. ورد بأن تحقق الحكم في صورة بدون الوصف المحذوف لا يدل على أن الوصف المحذوف غير معتبر في العلية لجواز أن تكون العلة أخص من المعلول فلا يلزم من انتفائها انتفاؤه. ثم قال: والإلغاء يشبه نفي العكس وليس عينه , أما أنه يشبهه فلأن العكس انتفاء الحكم لانتفاء الوصف فنفي العكس إثبات الحكم بدون الوصف وفي الإلغاء أيضا تحقق الحكم بدون الوصف المحذوف. وأما أنه ليس عينه فلأن المستدل قصد في نفي العكس أن الوصف ليس " بعلة " للحكم لأنه لو كان علة لانتفى الحكم عند انتفائه وفي الإلغاء لم يقصد أن الوصف المحذوف ليس بعلة بل قصد أن الوصف المستبقى علة مستقلة للحكم لأنه لو كان جزء علة لما استقل بدون المحذوف. ثم قال لكن بمجرد إثبات الحكم بالوصف المستبقى بدون الوصف المحذوف في صورة لا يلزم كون الوصف المستبقى علة مستقلة إذ غاية الإلغاء إفادة أن الوصف المحذوف ليس علة للحكم على تقدير تحقق الحكم بدونه ولا يلزم من عدم علية الوصف المحذوف كون المستبقى علة مستقلة بل لا بد لذلك أي لبيان كون الوصف المستبقى علة مستقلة " واصل " آخر يفيد استقلال الوصف المستبقى في العلية وحينئذ يلزم الاستغناء عن الإلغاء. وكأن هذا هو الذي حمل الحنفية على أنهم لم يجعلوا السبر والتقسيم

حجة لأن أقصى ما أجيب عن ذلك أن الحكم لما دار على الوصف المستبقى وجودا وعدما غلب على الظن عليته ولا حاجة إلى أصل آخر لأن القطع ليس بشرط. وليس بشيء لأنه لا يزيد على الدوران والدوران ليس بحجة عندهم." ومن طرق طرد المحذوف " وهو أن يكون المحذوف من الأوصاف التي

دليل العمل بالسبر وتخريج المناط

علم عدم اعتبارها في الشرط إما مطلقا كالطول والقصر وإما بالنسبة إلى الحكم المطلوب وإن كان مناسبا كالذكورة في سراية العتق كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أعتق شقصا له من عبد قوم عليه نصيب شريكه " فإن بيان المناسبة بين الذكورة وسراية العتق وإن كان ممكنا لكن ليس بمعهود من الشرع إلا عدم اعتبار الذكورة في أحكام العتق فألغيت في السراية. ومنها أن لا تظهر مناسبة الوصف للحكم فيسقط عن درجة الاعتبار ولا يجب على المناظر أن يبين عدم مناسبة المحذوف بإجماع أو غيره بل يكفيه أن يقول بحثت عن الوصف المحذوف فما وجدت بينه الحكم مناسبة فان عارضه الخصم بان الوصف المستبقى كذلك. يعني بحثت ولم أجده مناسبا للحكم احتاج المستدل إلى ما يرجح سبره على سبر المعترض بأن يبين أن سبره موافق للتعدية وسبر المعترض قاصر. وليس له أن يبين المناسبة بين المستبقى والحكم لأنه انتقال من السبر إلى المناسبة وذلك يعد انقطاعا في المناظرة. ص - ودليل العمل بالسبر وتخريج المناط وغيرهما أنه لا بد من علة لإجماع الفقهاء على ذلك. ولقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والظاهر التعميم. ولو سلمنا فهو الغالب لأن التعقل أقرب إلى الانقياد فليحمل عليه. وقد ثبت

ظهورها وفي المناسبة. ولو سلم فقد ثبت ظهورها بالمناسبة فيجب اعتبارها في الجميع للإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام. ش - لما فرغ من السبر والتقسيم ذكر دليل وجوب العمل بالطرق الدالة على العلية من السبر وتخريج المناط والشبه. ولقائل أن يقول كان المناسبة أن يذكره بعد استيفائها. وتقرير ذلك أن حكم الشرع لا بد له من علة للإجماع على أن حكام الله - تعالى - مقترنة بالعلة وإن اختلفوا في أن اقترانها بالعلة بطريق الوجوب كما هو مذهب المعتزلة لو بطريق التفضل كما هو مذهب غيرهم. ولقوله - تعالى -: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فإنه يدل على أن الأحكام لا تخلو عن علة لأنه ظاهر في التعميم يعني أن جميع ما جاء به رحمة للناس فلو خلت الأحكام أو بعضها عن العلة ما كانت الأحكام رحمة لأن التكليف بالأحكام من غير أن تكون فيها حكمة وفائدة للمكلف تكون مشقة وعذابا له. وفيه نظر لان الكلام في ان احكام الشرع لا بد لها من علة والحكمة والفائدة غيرها. ولو سلمنا عدم الإجماع على ذلك وعدم دلالة الأية عليه فثبوت الحكم بالعلة هو الغالب في الشرع لأن تعقل العلة في الحكم أقرب إلى الانقياد والقبول من التعبد المحض فيلحق الفرد بالأغلب. وفيه نظر لأن الغلبة طريق معرفتهما الاستقراء إلا ما ذكره من الدليل فثبت أنه لا بد للحكم من علة.

الرابع: المناسبة والإخالة

وقد ثبت ظهور العلية في الطرق الدالة عليها وفي المناسبة أيضا على تقدير ثبوت المقدمة المذكورة وهي أن الحكم لا بد له من علة. ولو سلم أي سلم ثبوت تلك المقدمة فقد ثبت ظهورها بالمناسبة بدون احتياج إلى المقدمة المذكورة لأن مناسبة الوصف للحكم يفيد ظن كونه علة وإذا ثبت ظهور العلية في جميع الطرق الدالة عليها على تقدير ثبوت تلك المقدمة , وفي المناسبة على تقدير عدم ثبوتها أيضا وجب اعتبارها في جميع الطرق لأنه يحصل ظن عليتها والعمل به واجب في تلك الأحكام بالإجماع. وإنما خص المناسبة بالذكر لئلا يتوهم أن ظهور العلية في المناسبة إنما هو على تقدير ثبوت تلك المقدمة فقط كغيرها. والحاصل أنها في المناسبة ظاهرة تثبت المقدمة أولا. وأما في غيرها فإن ثبتت ظهرت وإلا فلا. ص - الرابع: المناسبة والإخالة وتسمى تخريج المناط وهو تعيين العلة لمجرد إبداء المناسبة من ذاته لا بنص ولا غيره كالإسكار في التحريم والقتل العمد العدوان في القصاص. والمناسب: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة أو دفع مفسدة فإن كان خفيا أو غير منضبط اعتبر ملازمه , وهو المظنة لأن الغيب لا يعرف الغيب. كالسفر للمشقة , والفعل المقضي عليه عرفا بالعمد في العمدية. وقال أبو زيد المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول. ش - المسلك الرابع - المناسبة: ويرادفها الإخالة , و " ترجيح " المناط.

وفسرها بأنها: تعيين العلة بمجرد " ابتداء " المناسبة من ذاته أي ذات الوصف لا بنص وغيره كالإجماع وذلك كتعيين الإسكار لتحريم الخمر بمجرد إبداء المناسبة من ذات الإسكار. وكتعيين القتل العمد العدوان لوجوب القصاص بمجرد إبداء المناسبة في ذاته. ومثل بمثالين: أحدهما: للعلة البسيطة. والثاني: للعلة المركبة. لا يقال عرف المناسبة بالمناسبة وذلك تعريف الشيء بنفسه لأن المراد بما في التعريف المناسبة اللغوية. وعرف المناسب: بأنه وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم

عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة أو دفع مفسدة. فقوله ظاهر - احتراز عن الخفي , وقوله: منضبط - احتراز عن غيره. وقوله: ما يصلح أن يكون مقصودا - احتراز عن الوصف المستبقى في السبر وعن الوصف المدار في الدوران. وقوله من حصول مصلحة أو دفع مفسدة - بيان لقوله ما يصلح فإن كان الوصف خفيا أو غير منضبط اعتبر ملازمه وهو المظنة لأن الخفي وغير المنضبط غيب عن العقل للخفاء وعدم الضبط والغيب عن العقل لا يعرف الغيب عنه يعني الحكم وذلك كالسفر للمشقة فإنها غير منضبطة فتعتبر مظنتها وهو السفر. والفعل الذي قضى عليه في العرف بالعمدية في الجناية العمد فإن العمد خفي فتعتبر مظنته وهو الفعل المذكور. وقال ابو زيد القاضي صاحب الأسرار من أصحابنا: المناسب ما لو عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول. يعني لو عرض على العقول السليمة أن هذا الحكم

المقصود من شرع الحكم قد يحصل يقينا وقد يحصل ظنا

لأجل هذا الوصف تلقته بالقبول وهو حسن لكونه أقرب إلى اللغة يقال هذا الشيء مناسب لهذا الشيء أي ملائم له لكن إثباته على الخصم متعذر في مقام النظر لجواز أن عقل الخصم لا يتلقاه بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة إلى الخصم وتلقي عقل غيره لا يكون حجة عليه. وفيه نظر لجواز أن يكون التعذر في العقول القابلة شرطا فإنه لو قال: ما لو عرض على العقول فإذا قبله عقول ولم يتلق عقل الخصم حمل على قصور عقله أو عناده لكونه متهما. ص - وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقينا وظنا كالبيع والقصاص وقد يكون الحصول ونفيه متساويين كحد الخمر. وقد " يكون ارجح " كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد. وقد " يناسب " الثاني والثالث. أن البيع مظنة الحاجة إلى التعاوض وقد اعترض , وإن انتفى الظن في بعض الصور. والسفر مظنة المشقة. وقد اعتبر , وإن انتفى الظن في الملك المترفه. أما لو كان فائتا قطعا كلحوق نسب المشرقي بتزوج مغربية وكاستبراء جارية يشتريها بائعها في المجلس فلا يعتبر خلافا للحنفية. ش - المقصود من شرع الحكم قد يحصل يقينا وقد يحصل ظنا وقد يتساوى حصوله ونفيه وقد يكون نفي حصوله راجحا. والأول: كالبيع فإنه يحصل بالصحيح منه الملك الذي هو المقصود يقيناً.

والثاني: كالقصاص فإن المقصود وهو صيانة النفس المعصومة عن التلف يحصل به ظنا لأن الغالب أن من علم أنه إذا قتل اقتص منه ارتدع لكن بعض المكلفين مع علمه قد يقتل فلا يحصل يقينا. والثالث: قل ما يقع له على التحقيق في الشرع بل على سبيل التصور وذلك مثل حد الشرب فإن حصول المقصود وهو حفظ العقل ونفيه منه متساويان فإن استيلاء ميل الطباع إلى شرب الخمر يقاوم خوف عقاب الحد فلهذا يقاوم كثرة الممتنعين عند كثرة المقدمين عليه. والرابع: كنكاح الآيسة فإن المقصود الذي هو التوالد قد يمكن أن يحصل من نكاحها لكن عدم التوالد راجح. وجعل المصنف الأول والثاني قسما واحدا فيكون القسمان الآخران ثانيا وثالثا وجوز التعليل بجميع الأقسام وقد أنكر بعض التعليل بالثاني والثالث أي القسمين الأخيرين بناء على المساواة بين حصول المقصود ونفيه في الثاني ومرجوحيته في الثالث. واحتج المصنف على صحة التعليل بها بما حاصله أن احتمال حصول المقصود من شرع الحكم يكفي في صحة التعليل به وذلك لأن بيع مظنة الحاجة إلى التعاوض وقد ينتفي ظنها في بعض الصور كما إذا كان العوض المطلوب حاصلا عنده.

المقاصد ضربان: ضروري وغير ضروري

وفيه نظر لأن البيع مظنة الحاجة إلى التعاوض لا إلى العوض وحصول العوض لا ينافي الحاجة إلى التعاوض. وكذلك السفر مظنة المشقة وقد لا توجد المشقة كما في حق المترفه ومع ذلك فانه يفيد جواز الترخص. قيل: هذا غير صحيح لأن المقصود في الصورتين مرتب في الغالب وعدم الترتيب إنما هو في بعض الصور. بخلاف صورة النزاع فإن الترتب وعدمه سواء أو عدم الترتب راجح وهو وراد. قال: وأما لو كان يعني المقصود فائتا قطعا أي بالكلية بحيث لا يكون متساويا ولا مرجوحا كلحوق نسب المشرقي يتزوج مغربية , والاستبراء في شراء جارية يشتريها البائع في المجلس فغير معتبر أي لا يجوز التعليل به لأن من عادة الشرع رعاية الحكم المقصودة فحيث يكون المقصود فائتا بالكلية لم يجز إضافة الحكم إليه لئلا يلزم خلاف عادة الشرع خلافا للحنفية فإنهم يعتبرون ذلك. ولهم أن يجيبوا عن الأولى بأن الاعتبار في ذلك لاحتمال الحصول. وإنكاره في المتنازع فيه إنكار لكرامة الأولياء وهو عن الحق بمعزل. وعن الثاني بأن ذلك إنما يرد أن لو كان الحكم فيه مضافا إلى الحكمة وليس كذلك لتأخرها عن الحكم أو إلى العلة الحقيقية وهو إرادة الوطء وليس كذلك لأنها أمر خفي لا يطلع عليه فإن من يستحدث الملك قد لا يريده فمدار الحكم على دليلها وهو التمكن من الوطء فإن صحيح المزاج إذا تمكن منه أراده والتمكن إنما يثبت بالملك واليد فانتصب سببا وأدير الحكم عليه وجودا وعدما تيسيرا. وذلك إنما يكون على المشتري والبائع أجنبي فلا معتبر بفعله حيث لم ينظر إلى الحكمة وهي براءة الرحم. ص - والمقاصد ضربان: ضروري في أصله , وهي أعلى المراتب كالخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين , والنفس , والعقل , والنسل , والمال. كقتل الكفار , والقصاص , وحد المسكر , وحد الزنا وحد السارق والمحارب. ومكمل

للضروري. كحد قليل المسكر وغير ضروري , حاجي , كالبيع والإجارة والقراض والمساقاة. وبعضها آكد من بعض. وقد يكون ضروريا كالإجارة على تربية الطفل وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره. ومكمل له , كرعاية الكفاءة ومهر المثل في الصغيرة. فإنه أفضى إلى دوام النكاح. وغير حاجي , ولكنه تحسيني كسلب العبد أهلية الشهادة لنقصه عن المناصب " الشريفة " جريا على ما ألف من محاسن العادات. ش - المقاصد من شرع الأحكام ضروري وغير ضروري. والضروري إما أن يكون ضروريا في أصله أو مكملا لما هو ضروري في أصله. والمقاصد الضرورية في أصلها هي أعلى المراتب كالخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والحصر فيها عادي.

أما الدين فهو محفوظ بقتل الكافر لقوله - تعالى -: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله). وأما النفس فهي محفوظة بالقصاص لقوله - تعالى -: (ولكم في القصاص حياة). وأما العقل فمحفوظ بحد الشرب لقوله - تعالى -: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة) اللآية. وأما النسل فمحفوظ بحد الزنا لقوله - تعالى -: (الزانية والزاني فاجلدوا) فإن المزاحمة على الأبضاع تؤدي إلى اختلاط الأنساب المفضي إلى هلاك الولد بانقطاع التعهد من الاولاد. وأما المال فمحفوظ بقطع السارق لقوله - تعالى -: (فاقطعوا أيديهما) وعقوبة المحارب لقوله - تعالى -: (إنما جزاؤا الذين يحاربون الله) الآية. والمكمل له كالمبالغة في تحريم قليل الخمر وإيجاب الحد عليه فإن أصل المقصود من حفظ العقل حاصل بتحريم شربها لا بتحريم قليله وإنما تحريم القليل للتكميل والتتميم له. وأما غير الضروري فإما حاجي أو غيره , والحاجي إما في أصله أو مكمل له.

أما الحاجي فكالبيع والإجارة والقراض والمساقاة وغيرها من المعاملات. وبعضها آكد من بعض وقد يكون في رتبة الضروري كالإجارة على تربية الطفل وشراء المطعوم والملبوس للطفل ولغيره للهلاك بدونها. وهذا في الحقيقة داخل في الضروري وأما المكمل للحاجي فكرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة لأن ذلك أفضى أي أكثر إفضاء وأشده - استعمل أفعل التفضيل من الرباعي وهو شاذ - إلى دوام النكاح الذي هو في محل الحاجة. وأما غير الحاجي فلا بد وأن يكون في حيز التحسين والتزيين وإلا لم يكن مقصودا ويسمى تحسينيا كسلب أهلية الشهادة عن

مسألة انخرام المناسبة بمفسدة

العبد لنقصه في لنقصه في كرامات البشر المناصب الشريفة جريا على ما هو المألوف والمعهود من محاسن العادات. ص - مسألة المختار انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية. لنا: أن العقل قاض بأن لا مصلحة مع مفسدة مثلها. قالوا: الصلاة في الدار المغصوبة تلزم مصلحة ومفسدة تساويها أو تزيد وقد صحت. قلنا: مفسدة الغصب ليست عن الصلاة , وبالعكس. ولو نشاء معا عن الصلاة - لم تصح. والترجيح يختلف باختلاف المسائل. ويرجح بطريق إجمالي وهو أنه إن لم يقدر رجحان المصلحة لزم التعبد بالحكم. ش - الوصف المشتمل على مصلحة خالصة أو راجحة على المفسدة مناسب بلا خلاف. والمشتمل على مفسدة راجحة أو مساوية للمصلحة فيه خلاف.

" ومختار " أنه تنخرم مناسبته للحكم لأن المصلحة لا تكون مطلوبة عند التساوي ألا ترى أن من أخذ يسقي رجلا ليسقيه نسب إلى السفه. ولما ثبت انخرامها في المفسدة المساوية كانت الراجحة أجدر ولهذا لم يذكرها. واستدل المانعون من انخرامها بالصلاة في الدار المغصوبة فإنها صحيحة مع أنها تلزم مصلحة ومفسدة تساويها إن غلب الحرام على غير الواجب أو تزيد عليها إن غلب على الحلال مطلقا كما هو مذهب بعض. وأجاب بأن مفسدة الغصب ليست بناشئة عن الصلاة وبالعكس أي مصلحة

الصلاة ليست بناشئة عن الغصب لأن الصلاة مصلحة خالصة. ولو فرضنا " أنها " نشأتا معا من الصلاة لم تصح الصلاة بل تكون فاسدة. وإذا ثبت أنه لا بد للوصف من ترجيح المصلحة فعلى المستدل أن يرجح الوصف والترجيح يختلف باختلاف المسائل فإنه في بعضها يكون ظاهرا وفي آخر يحتاج إلى أدنى تأمل وفي آخر إلى نظر واستدلال. وله ترجيح إجمالي مطرد وهو أن يقول لو لم تكن المصلحة راجحة على ما عارضها من المفسدة لزم أن يكون الحكم تعبديا محضا لأنا بحثنا ولم نجد مصلحة أخرى تصلح للعلية والأصل عدم الغير. وثبوت التعبدي الصرف على خلاف الأصل. ص - والمناسب: مؤثر وملائم وغريب ومرسل لأنه إما معتبر أولا والمعتبر بنص أو إجماع هو المؤثر والمعتبر بترتيب الحكم على وفقه فقط إن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو بالعكس أو جنسه في جنس الحكم فهو الملائم وإلا فهو الغريب. وغير المعتبر هو المرسل. فإن كان غريبا أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقا وإن كان ملائما فقد صرح الإمام والغزالي بقبوله وذكر عن مالك والشافعي. والمختار رده. وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية. فالأول - كالتعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في الولاية. فإن عين الصغر معتبر في جنس حكم الولاية بالإجماع. والثاني: كالتعليل بعذر الحرج في حمل الحضر بالمطر على السفر في الجمع فإن جنس الحرج معتبر في عين رخصة الجمع. والثالث: كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان في حمل المثقل على المحدد في القصاص فإن جنس الجناية معتبر في جنس القصاص كالأطراف وغيرها.

أقسام المناسب

والغريب كالتعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في حمل البات في المرض على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض المقصود حتى صار توريث المبتوتة كحرمان القاتل. وكالتعليل بالاسكار في حمل النبيذ على الخمر على تقدير عدم النص بالتعليل به. والمرسل الذي ثبت إلغاؤه كإيجاب شهرين ابتداء في الظهار. ش - الوصف المناسب ينقسم بالقسمة الأولية إلى قسمين: معتبر ومرسل لأنه إما إن اعتبر الشارع عينه في عين الحكم أو لا والأول هو المعتبر والثاني هو المرسل. والمعتبر ينقسم إلى مؤثر وغيره لأنه إما أن يعتبر عينه في عين الحكم بنص أو إجماع أو بمجرد ترتب الحكم على الوصف. والأول: هو المؤثر بظهور أثره في الحكم بأحدهما.

والثاني: إن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف في جنس الحكم أو بالعكس أو اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم أو بالعكس أو اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم يسمى ملائما لموافقته لاعتبار الشارع. وإن لم يثبت بأحدهما شيء من ذلك بل اعتبر الشارع عين الوصف في عين الحكم بترتيبه عليه فقط ويسمى غريبا. والمرسل ينقسم أيضا إلى مرسل ملائم وإلى مرسل غريب لأنه إن اعتبر الشارع جنسه البعيد في جنس الحكم فهو المرسل الملائم وإلا فهو المرسل الغريب.

الملائم

وينقسم المرسل باعتبار آخر إلى معلوم الإلغاء من الشرع وإلى غير معلومه. مثال المؤثر بالنص تعليل الحدث بالقيء فإنه اعتبر عينه في عين الحدث بالنص وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضا ". وبالإجماع تعليل الولاية في المال بالصغر. فإنه اعتبر عين الصغر في عين الولاية في المال بالإجماع. ومثال القسم الأول من الملائم التعليل بالصغر في قياس النكاح على المال في الولاية فإن الشرع اعتبر عين الصغر في عين ولاية المال بترتبها على الصغر. وثبت اعتبار عين الصغر في جنس حكم الولاية بالإجماع. ومثال القسم الثاني منه التعليل بعذر الحرج في قياس الحضر بعذر المطر على السفر في رخصته الجمع بين الصلاتين فإن الشرع اعتبر عذر حرج السفر في عين رخصة الجمع بترتيب رخصة الجمع عليه. وثبا أيضا بالإجماع اعتبار جنس الحرج في عين رخصة الجمع. ومثال القسم الثالث منه التعليل بجناية القتل العمد العدوان في قياس المثقل على المحدد في قصاص النفس فإن الشرع اعتبر عين القتل العمد العدوان في عين قصاص النفس وثبت بالإجماع اعتبار الجناية التي هي جنس القتل العمد العدوان في القصاص الذي هو جنس قصاص النفس لاشتماله على قصاص النفس وغيرها كالأطراف والسمع والبصر واللسان. ومثال الغريب التعليل بالإسكار في حمل النبيذ على الخمر على تقدير عدم النص على علية الإسكار فإن الشرع اعتبر عين الإسكار في عين التحريم بترتيب التحريم على الإسكار فقط لأن التقدير عدم النص على عليته. ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الإسكار في جنس تحريم الخمر ولا عكسه ولا جنسه في جنسه. ومثال المرسل الملائم تعليل تحريم قليل الخمر بأنه يدعو إلى كثيرها وهذا مناسب لم يعتبر الشرع عين الوصف في عين الحكم " لأنه

يرتب " الحكم عليه ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو بالعكس او جنسه في جنسه لكن اعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم. فان الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع بتحريم الزنا. وهذا ملائم لتصرف الشارع من هذه الجهة. ومثال المرسل الغريب التعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في قياس البات في المرض يعني المطلقة بطلقات ثلاثة على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض مقصوده بأن لا تحرم المبتوتة كما أن قاتل مورثه لأجل ماله عورض بنقيض مقصوده بحرمانه عن الإرث والجامع كون الفعل محرما لأجل غرض فاسد وإنما كان هذا غريبا مرسلا لأن الشرع لم يعتبر عين الفعل المحرم لغرض فاسد في عين المعارضة بنقيض المقصود بترتيب الحكم عليه ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس المعارضة بنقيض المقصود ولا جنسه في عينها ولا جنسه في جنسها لا قريبا ولا بعيدا. وفي عبارته تسامح لأنه قدم مثال الغريب المرسل على الغريب والعكس واجب. ومثال المرسل الذي ثبت إلغاؤه إيجاب صوم شهرين ابتداء في كفارة الظهار على من سهل عليه الإعتاق كما روي أن بعض العلماء أفتى ملكا أفطر في رمضان عمدا بإيجاب صوم شهرين متتابعين مع اتساع ممالكه وتمكنه من الإعتاق نظرا إلى أن صوم شهرين متتابعين أزجر له من إيجاب إعتاق رقبة لعسر الأول ويسر الثاني فإنه ثبت إلغاؤه شرعا لأنه أوجب الإعتاق أولا ولم يعتبر إيجاب الصوم أولا على من يسهل عليه الإعتاق. فأما المرسل الغريب والذي علم إلغاؤه فمردود لا يجوز التعليل به بالاتفاق.

وأما المرسل الملائم فقد صرح إمام

الحرمين والغزالي بقبوله وقد نقل ذلك عن مالك والشافعي - رحمهما الله -. والمختار عند المصنف رده مطلقا بناء على أن الشرع لم يعتبر نوعه في نوعه بترتيب الحكم عليه ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم ولا جنسه في عينه ولا جنسه في جنسه فلا يصلح الظن بعليته. وشرط الغزالي لقبوله أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية. والمراد بالضرورية كونها أحد الخمسة التي هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال ,

تثبت عليه الشبه بجميع المسالك

وبالقطعية أن يكون وجود المصلحة مجزوم الحصول , وبالكلية أن لا تكون مخصوصة ببعض المسلمين دون بعض كتترس الكفار الصائلين بأسعار المسلمين مع الجزم بأنا لو كففنا عن الترس استولى الكفار على بلاد المسلمين بالقتل حتى الترس فإن قتل الترس حينئذ يكون مصلحة ضرورية قطعية كلية. وإنما يجب القبول إذا وجدت هذه الشروط لأنه لو لم تقبل لزم عدم اعتبار ما هو مقصود ضروري من الشرع وهو حفظ الدين والنفس وعدم اعتبار ذلك يفضي إلى إبطال الدين وهلاك المسلمين وإنما اشترط القطع ليحصل الجزم بالإخلال المذكور. وإنما اشترط الكلية لئلا يلزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر فإن حفظ نفس غير الأسارى ليس بأولى من حفظ نفوس الأسارى في الدين. ص - وتثبت علية الشبه بجميع المسالك. وفي إثباته بتخريج المناط نظر. ومن ثم قيل: هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل. ومنهم من قال: ما يوهم المناسبة. ويتميز عن الطردي بأن وجوده كالعدم. وعن المناسب الذاتي بأن مناسبته عقلية , وإن لم يرد شرع كالإسكار في التحريم. مثال: طهارة تراد للصلاة. فيتعين لها الماء كطهارة الحدث. فالمناسبة غير ظاهرة. واعتبارها في مس المصحف والصلاة يوهم. وقول الراد له: إما أن يكون مناسبا أو لا , والأول: مجمع عليه فليس به. والثاني: طرد فيلغى .. أجيب: مناسب والمجمع عليه المناسب لذاته أو لا واحد منهما. ش - ومن مسالك العلية الشبه: وهو لا يفيد العلية بذاته.

وتثبت عليته بجميع المسالك من النص والإجماع والسبر والتقسيم سوى تخريج المناط يعني المناسبة. فإن في إثبات عليته بها نظرا. وبهذا التقرير يظهر التسامح الذي في عبارته. ولم يتعرض لوجه النظر وإنما فرع عليه فهو مجهول. ووجهه بعض الشارحين بأن إثبات علية الشبه بتخريج المناط مبني على تعريف

الشبه فمن عرفه بأنه الذي يوهم المناسبة لا يجوز إثباته بتخريج المناط لأنه يوجب المناسبة , وما يوهمها لا يكون موجبا له فبينهما تناف. ومن عرفه بالمناسب الذي ليس له مناسبة لذاته جوز إثبات عليته فإنه لا منافاة حينئذ بين الشبه وتخريج المناط إذ من الجائز أن يكون الوصف الشبهي مناسبا يتبع المناسب بالذات لاشتماله عليه. ورد بأنه إذا وجد المناسب بالذات لا يعلل بالمناسب بالتبع. وبأن توجيه قوله: ومن ثم على الوجه الذي قرره لا يكون صحيحا. وقال بعضهم في وجه النظر إذ يخرجه إلى المناسب. وقال في توجيه قوله: ومن ثم - أي ومن أجل أنه لا يثبت بمجرد المناسبة والظاهر أن إخراجه إلى المناسبة بأن يقال: تخريج المناط إنما يتحقق بثبوت وصف مناسب لذاته فذلك الوصف إما أن يكون هو الوصف الشبهي أو غيره والأول خلاف الفرض لأن الفرض أن الشبهي ليس بمناسب لذاته فتعين الثاني وهو أن لا يكون الشبهي مناسبا بالذات فيكون بالتبع ومع وجود المناسب بالذات لا يعلل بالمناسب بالتبع وعلى هذا كان إثبات الشبه بالمناسبة مغنيا عن الشبه فلهذا كان محل النظر. وأما توجيه قوله: ومن ثم بما فسره هذا الشارح فليس بصحيح يظهر بالتأمل. ولعله أن يقال: معناه إثباته بتخريج المناط يبطله لإفضائه إلى نفي ما أريد إثباته بما ذكرنا لزوم الاستغناء ومن ثمة أي من أجل أن إثباته باطل قيل: هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل , إشارة إلى عدم جواز إثباته بتخريج المناط فإنه بالمناسبة الذاتية لا بمنفصل. ومن الأصوليين من عرف الشبه بأنه ما يوهم المناسبة. ويتميز الشبه عن الوصف الطردي بأن وجود الطرد كالعدم إذ لا مناسبة له أصلا بخلاف الشبه فإن له مناسبة وإن كان بدليل منفصل. ويتميز الشبه عن المناسب الذاتي بأن المناسب الذاتي مناسبته عقلية تعلم بالنظر في ذاته عقلا وإن لم يرد الشرع كالإسكار في التحريم فإن مناسبة الإسكار للتحريم

تعلم بالنظر في ذات الإسكار وإن لم يرد الشرع بخلاف الشبه فإن مناسبته لا تعلم بالنظر في ذاته بل تحتاج إلى دليل منفصل وإلى ورود الشرع. مثاله قول الشافعي في إزالة الخبث بالماء: طهارة الخبث طهارة تراد للصلاة. فيتعين فيها الماء كطهارة الحدث. فإن مناسبة الطهارة لتعيين الماء غير ظاهرة. ولكن لما اعتبر الطهارة بالماء في مس المصحف والصلاة يوهم مناسبة الطهارة لتعين الماء وهذا التمثيل على التعريف الثاني ولا شك أن الوهم طرف مرجوح ولا يتصور إلا مضافا إلى راجح وترك الراجح إلى المرجوح خطأ وعن هذا لم يعتبره الحنفية. واحتج الراد إلى القائل بأن الشبه غير معتبر في العلية بأن الوصف الذي يعلل به في الشبه إما أن يكون مناسبا أو لا والأول مجمع عليه في كونه معتبرا فليس شبه لأنه مختلف فيه والثاني طرد وهو ملغى بالاتفاق. وأجاب بأنه مناسب ولا يلزم أن يكون مجمعا عليه فإن المجمع عليه هو المناسب لذاته والشبه ليس كذلك. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن المناسب بدليل منفصل يجوز التعليل به فهو عين النزاع. أو بأنه لا واحد منهما أي من المناسب بالذات ومن المناسب بالغير مجمع عليه فحينئذ يبطل قوله: والأول مجمع عليه. وفيه نظر لجواز أن يكون مرادهم بالإجماع هاهنا اتفاق الخصمين وذلك ثابت لا محالة. ص - الطرد والعكس. ثالثها: لا يفيد بمجرد قطعا ولا ظنا. لنا: أن الوصف المتصف بذلك إذا خلا عن السبر , أو عن أن الأصل عدم غيره أو غير ذلك جاز أن يكون ملازما للعلة كرائحة المسكر فلا قطع ولا ظن.

الطرد والعكس (الدوران)

واستدل الغزالي بأن الاطراد: سلامته من النقض وسلامته من مفسد واحد , لا توجب انتفاء كل مفسد. ولو سلم - فلا صحة إلا بمصحح , والعكس ليس شرطا فيها فلا يؤثر. وأجيب: قد يكون للاجتماع تأثير كأجزاء العلة. واستدل بأن الدوران في المتضايفين , ولا علة. وأجيب: انتفت بدليل خاص مانع. قالوا: إذا حصل الدوران ولا مانع من العلة حصل العلم أو الظن عادة. كما لو " ادعي إنسان فغضب ثم ترك فلم يغضب " وتكرر ذلك - علم أنه سبب الغضب حتى أن الأطفال يعلمون ذلك. قلنا: لولا ظهور انتفاء غير ذلك ببحث أو بأنه الأصل - " لم " وهو طريق مستقل , ويقوى بذلك. ش - ومن المسالك الدالة على العلية الطرد والعكس وهو الدوران: والمراد به ترتب الحكم على الوصف وجودا وعدما - يلزم من وجود

الوصف وجود الحكم وهو الطرد , ومن عدمه عدمه وهو العكس. واختلفوا في عليته على ثلاثة مذاهب: أولها: أنه يفيد العلية قطعا. وثانيها: أنه يفيدها ظنا. وثالثها: أن مجرده لا يفيدها لا قطعا ولا ظنا بل إذا انضم إليه أحد المسالك الدالة على العلية كالسبر والتقسيم وغير ذلك وهو مختار المصنف. واحتج بأن الوصف المتصف بالطرد والعكس إذا خلا عن غيره من المسالك أو عن أن الأصل عدم غيره جاز أن لا يكون علة بل ملازما لها كرائحة المسكر فإنها وصف متصف بالدوران وأنه يلزم وجودها وجود الحرمة ومن عدمها عدمها ومع ذلك ليس علة للحرمة بل هي ملازمة للمسكر الذي هو علة وإذا كان كذلك فلا يحصل بمجرده قطع العلية ولا ظنها.

واستدل الغزالي على أن الدوران بمجرد لا يفيد العلية بأن الاطراد: عبارة عن سلامة الوصف من المقض فإنه يكون بتحقق الحكم عند تحقق الوصف دائما وذلك ينافي النقض والنقض مفسد للعلية لا محالة وسلامة الوصف عن مفسد واحد لا يوجب انتفاء كل مفسد فلا يفيد الاطراد بمجرده العلية ولو سلم أن السلامة عن مفسد واحد يوجب انتفاء كل مفسد لم تصح عليته إلا بمصحح لأن صحة الشيء إنما تتحقق بوجود مصححه. والعكس ليس بمصحح لأنه ليس شرطا في العلة فلا يؤثر الوصف المتصف بالطرد والعكس في العلية لأن الاطراد لا يفيد العلية والعكس فير معتبر. ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون الدوران علة صحيحة لذاتها لا تحتاج إلى علة خارجية تصححه. وأجاب بأنه لا يلزم من عدم إفادة كل من الطرد والعكس العلية على سبيل الانفراد أن لا يكون المجموع علة فإن للهيئة الاجتماعية تأثيرا ليس للأفراد كأجزاء العلة. ولقائل أن يقول الكلام إن كان في الاطراد والانعكاس وهو الدوران وجودا وعدما فلا نسلم أن العكس ليس بشرط فيه ولكن لا يكون الجواب صحيحا إذ ليس فيه الهيئة الاجتماعية على ذلك التقدير. وأيضا الجواب إنما يصح على تقدير التنزيل في الاستدلال ويمكن أن يجعل كل واحد منهما دليلا على حدة فلا يكون الدليل الأول مزيفا. واستدل أيضا بأن الدوران لا يفيد العلية لوجوده في المتضايفين كالأبوة والبنوة فإنه كلما وجد أحدهما وجد الآخر وكلما انتفى انتفى وليس أحدهما علة للآخر. وأجاب بأن الدوران إنما يفيدها إذا لم ينف العلية مانع ونفاها في المتضايفين وهو كون كل منهما مع الآخر والعلية تقتضي العلة. واحتج القائلون بأنه يفيد العلية قطعا أو ظنا بأنه إذا حصل ولم يمنع مانع من علية الوصف كما منع في المتضايفين حصل العلم بالعلية أو الظن بها عادة كما لو دعي إنسان بلقب مغضب فغضب ثم ترك دعاؤه بذلك فلم يغضب وتكر ذلك مراراً

القياس جلي وخفي

علم أن الدعاء باللقب المغضب سبب الغضب حتى أن الأطفال يعلمون ذلك. وأجاب بأنه لولا ظهور انتفاء غير ذلك الوصف المتصف بالطرد والعكس ببحث أو بأن الأصل عدم الغير لم يحصل الظن بالعلية. وإذا وجد البحث أو السبر كفى في إثباتها لأنه طريق مستقل والدوران مقو له. ولقائل أن يقول إسناد العلية إلى ظهور الانتفاء ليس بصحيح لأن الانتفاء يصلح أن يكون علة للانتفاء لا للوجود. ص - والقياس جلي وخفي. فالجلي: ما قطع بنفي الفارق فيه كالأمة والعبد في العتق. وينقسم إلى قياس علة , وقياس دلالة , وقياس في معنى الأصل. فالأول: ما صرح فيه بالعلة. والثاني: ما يجمع فيه بما يلازمها كما لو جمع بأحد موجبي العلة في الأصل لملازمة الآخر. كقياس قطع الجماعة بالواحد على قتلها بالواحد , بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم. والثالث: الجمع بنفي الفارق. ش - القياس ينقسم باعتبارين باعتبار القوة وباعتبار العلة. فبالأول ينقسم إلى جلي وخفي. والجلي: ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع في العلية كقياس الأمة

على العبد في سراية العتق فإن القطع ثابت بنفي الفارق بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ولا فارق غير ذلك والخفي بخلافه كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد. فإن نفي " الفارق بينهما " مظنون ولذلك اختلف فيه. وبالثاني ينقسم إلى قياس علة , وإلى قياس دلالة , وإلى قياس في معنى الأصل. فالأول: أي قياس العلة: هو ما صرح فيه بالعلة. كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة إذا صرح بالإسكار فيقال: النبيذ مسكر فيحرم كالخمر. والثاني: هو ما يجمع بين الأصل والفرع لا بالعلة بل بما يلازمها. كما لو جمع بينهما بأحد موجبي العلة في الأصل لملازمته للموجب الآخر كما إذا قيل عندما قطع جماعة بيد واحد عمدا يقطع أيدي الجماعة قياسا على قتل الجماعة بواحد قصاصا بجامع وجوب الدية على الجماعة إذا وجبت وهو أحد موجبي العلة في الأصل وهي القتل العمد العدوان فإن له موجبين وجوب القصاص ووجوب الدية وقد جمع بين الأصل والفرع بأحد موجبيها وهو وجوب الدية الذي هو يلازم العلة لأجل إثبات موجبه الآخر وهو القصاص فكأنه يقول: يثبت هذا الحكم في الفرع لثبوت الآخر فيه وهو ملازم له ويرجع إلى الاستدلال بأحد الموجبين على العلة وبالعلة على الموجب الآخر لكن يكتفي بذكر موجبه عنها لكونه ملازمها.

مسألة: جواز التعبد بالقياس

والثالث: هو أن يجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق كقضية الأعرابي بنفي كونه أعرابيا فتلحق به بقية أصناف الإنسان وينفى لغير المحل حلا فتوجب الكفارة في الزنا وينفى كونه رمضان تلك السنة فيلحق به الرمضانات الأخر. ص - مسألة: يجوز التعبد بالقياس. خلافا للشيعة والنظام وبعض المعتزلة. وقال القفال وأبو الحسين يجب عقلا. لنا: القطع بالجواز وأنه لو لم - يجز لم يقع. وسيأتي. قالوا: العقل يمنع ما لا يؤمن فيه الخطأ. ورد بأن منعه هنا لي إحالة. ولو سلم فإذا ظن الصواب لا يمنع. قالوا: قد علم الأمر بمخالفة الظن كالشاهد الواحد والعبيد ورضيعة في أجنبيات. قلنا: بل علم خلافه كخبر الواحد وظاهر الكتاب والشهادات وغيرها وإنما منع لمانع خاص. النظام: إذا ثبت ورود الشرع بالفر بين المتماثلات كإيجاب الغسل وغيره بالمني دون البول وغسل بول الصبية ونضح بول الصبي وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير والجلد بنسبة الزنا دون نسبة الكفر والقتل بشاهدين دون الزنا وكعدتي الموت والطلاق. والجمع بين المختلفات كقتل الصيد عمدا وخطأ والردة والزنا والقاتل والواطئ في الصوم والمظاهر في الكفارات استحال تعبده بالقياس. ورد بأن ذلك لا يمنع الجواز لجواز انتفاء صلاحية ما توهم جامعا أو وجود المعارض في الأصل أو الفرع والاشتراك المختلفات في معنى جامع أو لاختصاص كل بعلة بحكم خلافه. ش - التعبد بالقياس إما أن يكون جائزا أو واجبا أو ممتنعا وبكل منها قال جماعة من العلماء.

أدلة المجوزين

فذهب الجمهور إلى جوازه على منعى أنه يجوز أن يقول الشارع إذا ثبت حكم في صورة ووجد صورة أخرى مشاركة للصورة الأولى في وصف وغلب على ظنكم أن هذا الحكم في الصورة الأولى معلل بذلك الوصف فقيسوا الصورة الثانية على الأولى. وقال الشيعة والنظام وبعض المعتزلة بامتناعه. وقال القفال وأبو الحسين يجب التعبد بالقياس عقلا. واحتج المصنف على مذهب الجمهور بأنا نقطع بجواز التعبد بأنا لو فرضنا أن

أدلة المانعين

يقول الشارع: حرمت الخمر للإسكار , فقيسوا كل مشارك لها في الإسكار عليها لم يمتنع لذاته ولا ولغيره. وفيه نظر لأنه لم يرد بذلك شرع والعقل بمعزل عن الإفادة على ما تقدم. وأيضا الوقوع دليل الجواز وقد وقع على ما سيأتي. واحتج المانعون بوجهين: الأول: أن القياس لا يؤمن من وقوع الخطأ فيه لكونه مظنونا وكل ما لا يؤمن وقوع الخطأ فيه يمنعه العقل لكونه محذورا فلا يجوز التعبد بالمحذور. وفيه نظر لأنه يستلزم " أن " لا يجوز العمل بالآية المأولة وخبر الواحد. وقد تقدم الكلام في وجوبه والفرق بين الظنين غير ملتزم لأنه غير مسموع. وأجاب بأن منع العقل في مثل ما لا يؤمن وقوع الخطأ فيه ليس منع إحالة بل منع احتياط ولو سلم أن منعه منع إحالة لكن إذا ظن الصواب لا يمنع لوقوع الأمن بع من وقوع الخطأ. وفيه نظر لأن ظن الصواب إما أن يكون رافعا لاحتمال وقوع الخطأ أو لا والأول ممنوع فإن القياس لا يفيد العلم إجماعا والثاني غير مفيد لبقاء المحذور. والثاني: أن الشارع قد أمر بمخالفة الظن لأنه منع الحكم بشاهد واحد وشهادة العبيد وإن أفادت الظن ومنع من نكاح الأجنبيات إذا اشتبهت برضيعة وإن ظن بواحدة منهم أنها أجنبية. والتعبد بالقياس هو الأمر بمتابعة الظن - فلو جاز لزم التناقض وهو محال. وأجاب بأنا لا نسلم أنه أمر بمخالفة الظن بل علم أنه أمر بمتابعة الظن كالأمر بمتابعة خبر الواحد وظاهر الكتاب والشهادة وغيرها من المظنونات وإنما منع الشارع في الصور التي ذكرتم العمل بالظن لمانع خاص لا لعدم جواز العمل بالظن جمعاً بين الدليلين.

أدلة النظام والرد عليها

واحتج النظام على امتناع التعبد بالقياس عقلا بأنه إذا ثبت ورود الشرع بالفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات استحال تعبده بالقياس والملزوم ثابت فاللازم كذلك أما الملازمة فلأن القياس إنما يكون بجامع شرعي وحيث لم يعتبر الشرع المثلية بين المتماثلات واعتبر الجمع بين المختلفات لزم عدم اعتبار الجامع لأنه لو جاز اعتباره اعتبر بين المتماثلات لوجوده فيها ضرورة ولم يعتبر بين المختلفات لعدمه كذلك. وإذا لم يكن الجامع معتبرا امتنع القياس والتعبد به عقلا. وأما وقوع الشق الأول من المقدم فكإيجاب الغسل وإبطال الصوم ودخول المسجد بالمني دون البول والمذيء وكإيجاب الغسل من بول الصبية ونضح الماء أي رشه من بول الصبي وكإيجاب قطع سارق القليل دون غاصب الكثير

وكإيجاب الجلد بنسبة الزنا دون نسبة الكفر والقتل. وكإيجاب القطع بشاهدين دون إيجاب حد الزنا وكعدة الموت أربعة أشهر وعشرا والطلاق ثلاثة قروء. وأما وقوع الشق الثاني منه كقتل الصيد عمدا وخطأ في استوائهما في وجوب الضمان عند الإحرام وكالردة والزنا في إيجاب القتل , وكالقاتل والواطئ في نهار رمضان عامدا والمظاهر عن امرأته في إيجاب الكفارة. وأجاب بأن ذلك لا يمنع جواز التعبد بالقياس لأن الفرق بين المتماثلات يجوز أن يكون لانتفاء صلاحية ما يوهم جامعا للعلية أو لوجود معارض في الأصل أو في الفرع له أثر في منع الحكم ولجواز اشتراك المختلفات في معنى جامع يوجب اشتراكها في الحكم. ولجواز اختصاص كل من المختلفات بعلة بحكم يقتضي حكم المخالف الآخر فإن العلل المختلفة يجوز إيجابها في المحال المختلفة حكما واحدا. ولقائل أن يقول في الصورة الأولى من المتماثلات بأن السبر من مسالك العلل لا محالة وسبرت فلم أجد وصفا يوجب الغسل عند خروج المني سوى خروج فضلة

مهضم المتناول من القبل والأصل عدم غيره وهو موجود في البول والمذي فيجب الغسل والالتجاء باحتمال وجود معارض في الأصل أو الفرع له أثر في منع الحكم يوجب رفع الخلاف لأنه ما من صورة من صور القيا إلا وذلك الاحتمال فيه موجود فلو اعتبر ذلك لما جاز التعبد بقياس ما عندكم أيضا وقد ارتفع الخلاف. وأن يقول في المختلفات احتمال الأمر المشترك ليس بكاف في جوازه بل لا بد من بيانه لينظر في صحته وسقمه. ص - قالوا: يفضي إلى الاختلاف , فيرد , لقوله - تعالى -: (ولو كان من عند غير الله). ورد بالعمل بالظواهر. وبأن المراد: التناقض , أو ما يخل بالبلاغة. فأما الأحكام فمقطوع بالاختلاف فيها. قالوا: إن كان كل مجتهد مصيبا. فكون الشيء ونقيضه حقا محال. وإن كان المصيب واحدا فتصويب أحد الظنين مع الاستواء محال. ورد بالظواهر. وبأن النقيضين شرطهما الاتحاد. وبأن تصويب أحد الظنين لا بعينه جائز. قالوا: إن كان القياس كالنفي الأصلي فمستغنى عنه وإن كان مخالفا فالظن لا يعارض اليقين. ورد بالظواهر وبجواز مخالفة النفي الأصلي بالظن. قالوا: حكم الله يستلزم خبره ويستحيل بغير التوقيف. قلنا: القياس نوع من التوقيف. قالوا: يتناقض عند تعارض علتين. ورد بالظواهر. وبأنه إن كان واحدا أرجح فإن تعذر وقف على قول. وتخير عند الشافعي وأحمد وإن تعدد فواضح. الموجب: النص لا يفي بالأحكام. فقضى العقل بالوجوب.

ورد بأن العمومات يجوز أن تفي مثل: " كل مسكر حرام ". ش - واحتج المانعون بوجوه خمسة: الأول: أن القياس يفضي إلى الاختلاف وما هو كذلك مردود. أما الصغرى فلأن الأمارات كثيرة فيجوز أن يستنبط كل من المجتهدين أمارة توجب إلحاق الفرع بأصل يخالف أصل الآخر , وأما الكبرى فلقوله - تعالى -: (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا كثيرا) فإنه يدل على أن ما كان من عند الله لا يكون فيه اختلاف والقياس فيه اختلاف لما ذكرنا فلا يكون من عند الله فلا يجوز التعبد به. وأجاب بأن هذا الدليل منقوض بالظاهر فإن فيه اختلافا وليس بمردود وبأن المراد بالاختلاف: التناقض أو الاختلاف الذي يخل بالبلاغة فيكون معناه والله أعلم: القرآن لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه تناقضا كثيرا أو وجدوا فيه اضطرابا يخل بالبلاغة والحمل على ذلك في قوة الواجب لوجود الاختلاف في الأحكام قطعا. ولقائل أن يقول الاختلاف الموجود في الأحكام قطعا إما أن يكون المراد به ما في الأحكام المتعددة التي بعضها واجب وبعضها حرام وغير ذلك أو الأحكام التي يستنبطها المجتهدون بالأمارات وألحقها بعضهم بأصل وآخرون بأصل آخر فإن أريد الأول فمسلم ولا كلام فيه وإن أريد الثاني فهو عين النزاع. الثاني: أنه إذا اختلف أقيسة المجتهدين فأما أن يكون كل مجتهد مصيبا أو لا والأول يستلزم حقيقة الشيء ونقيضه وهو محال والثاني يستلزم تصويب أحد الظنين المستويين دون الآخر وهو ترجيح بلا مرجح. وأجاب بأنه منقوض بالظاهر مع جواز التعبد به بالاتفاق وبأنا نمنع الملازمة عند تصويب كل مجتهد لعدم التناقض بين مقتضى الاجتهادين بانتفاء شرطه وهو الاتحاد

فيما عدا السبب والإيجاب باختلاف المحل والزمان فإنه يجوز أن تكون الحرمة حكم الله في حق أحد المجتهدين والإباحة في حق الآخر أو الحرمة في زمان والإباحة في آخر فلا يتحقق الاتحاد وبأنا نمنع لزوم الترجيح من غير مرجح عند " تصوب " أحد المجتهدين لأن المرجح واحد لا بعينه ولا امتناع في ذلك. وفيه نظر لأنه يستلزم عدم العمل بشيء من الأحكام لأن العمل لا يتحقق إلا بمعين وواحد لا بعينه غير معين. الثالث: أن مقتضى القياس إما أن يكون موافقا للنفي الأصلي أو مخالفا والأول مستغنى عنه لأنه ثابت بالبراءة الأصلية والثاني باطل لأن النفي الأصلي متيقن والقياس مظنون وهو لا يعارض اليقين. وأجاب بأنه منقوض بالعمل بالظاهر وبأنه يجوز ترك النفي الأصلي للعمل بالظن. وفيه نظر لأنه إن أراد الظن القياسي فهو عين النزاع , وإن أراد غيره فليس الكلام فيه. الرابع: أن حكم الله يستلزم أن يخبر الله عنه لأن مفسر بخطاب الله وخبره عنه بلا توقيف محال والقياس ليس بتوقيف. وأجاب بأن القياس نوع من التوقيف لأنه ثابت بالكتاب والسنة. وفيه نظر فإن القياس توقيف من حيث السببية وليس الكلام فيه وإنما الكلام في التوقيف المتعلق بحكم الله المخبر عنه. الخامس: أنه لو جاز العمل بالقياس لزم التناقض عند تعارض العلتين لأنهما إذا تعارضنا في نظر المجتهد فإما أن يعمل بهما فيلزم التناقض أو إحداهما دون الأخرى فيلزم الترجيح بلا مرجح. وفيه نظر لأنه قال يلزم التناقض ولم يذكر الشق الآخر وهو ليس ثابتاً.

مسألة: القائلون بالجواز قائلون بالوقوع إلا داود وابنه

وأجاب بأنه منقوض بالعمل بالظاهر. وللخصم ان يجيب عن النقوض بالظاهر بان الظاهر الغير القياسي لا مدخل له فيما نحن فيه لانه اقوى من القياس يشهد به ترجيحه على القياس عند التعارض. وبانه ان كان المجتهد واحدا عند تعارضها يرجح احديهما على الاخرى فيعمل بالراجح وان تعذر الرجحان يتوقف على قول ويخير بايهما شاء عند الشافعي واحمد. وان تعدد المجتهدون فكل يعمل بما هو علة عنده ولا يلزم التناقض لما مر في الجواب عن الوجه الثاني. واحتج القائل بوجوب التعبد بالقياس عقلا بأن النص لا يفي بالأحكام لعدم تناهيها وتناهي النصوص فالعقل يقضي بأنه يجب التعبد بالقياس لئلا يلزم خلو كثير من الوقائع عن الحكم " وهو " خلاف المقصود من بعثة الرسل. وأجاب بأن النصوص وإن كانت متناهية يجوز أن تفي العمومات بالأحكام الغير المتناهية بأن يشمل عام واحد جزئيات غير متناهية مثل: " كل مسكر " عام , و " كل كيلي ربوي ". وفيه نظر لأن جواز الوفاء لا يعني لا بد من بيان أنها وافية بها ليقع الاستغناء عن القياس. ص - مسألة: القائلون بالجواز قائلون بالوقوع إلا داود وابنه والقاشاني والنهرواني. والأكثر بدليل السمع. والأكثر قطعي خلافا لأبي الحسين. لنا: ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة العمل به عند عدم النص وإن كانت التفاصيل آحادا والعادة تقضي بأن مثل ذلك لا يكون إلا بقاطع. وأيضا تكرر وشاع ولم ينكر والعادة تقضي بأن السكوت في مثله وفاق.

فمن ذلك رجوعهم إلى أبي بكر في قتال بني حنيفة على الزكاة. ومن ذلك قول بعض الأنصار في أم الأب تركت التي لو كانت هي الميتة ورث الجميع فشرك بينهما , وتوريث عمر المبتوتة بالرأي وقول علي لعمر لما شك في قتل الجماعة بالواحد أرأيت لو اشترك نفر في سرقة. ومن ذلك إلحاق بعضهم الجد بالأخ وبعضهم بالأب وذلك كثير. فإن قيل أخبار آحاد في قطعي. سلمنا لكن يجوز أن يكون عملهم بغيرها. سلمنا لكنهم بعض الصحابة. سلمنا أن ذلك من غير نكير ولا نسلم نفي الإنكار. سلمنا لكنه لا يدل على الموافقة , سلمنا لكنها أقيسة مخصوصة. والجواب عن الأول أنها متواترة في المعنى كشجاعة علي. وعن الثاني القطع من سياقها بأن العمل بها. وعن الثالث: شياعه وتكريره قاطع عادة بالموافقة. وعن الرابع أن العادة تقضي بنقل مثله. وعن الخامس ما سبق في الثالث. وعن السادس: القطع بأن العمل بظهورها لا بخصوصها كالظواهر ش - القائلون بجواز التعبد بالقياس عقلا قائلون بوقوعه إلا داود الأصبهاني وابنه

والقاشاني والنهرواني. ثم القائلون بوقوعه اختلفوا في أن وقوعه بدليل السمع أو العقل. فذهب الأكثر إلى الأول. واختلف هؤلاء في وجوب قطعية هذا الدليل السمعي فذهب الأكثر إليه وخالفهم أبو الحسين. واحتج المصنف على وقوع التعبد به بدليل سمعي قطعي بوجهين: الأول: أنه ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة العمل بالقياس عند عدم النص وتفاصيل المنقول وإن كانت آحادا لكن لا يمنع تواتر القدر المشترك بينهما وهو

العمل به عند عدم النص والعادة تقتضي بأن اجتماع جمع كثير من الصحابة على العمل بما هو أصل لا يكون إلا بقاطع دال على العمل به. والثاني: أنه تكرر عمل أكثر الصحابة بالقياس عند عدم النص وشاع من غير نكير والعادة تقتضي بأن سكوت الباقين من الصحابة في مثل ذلك لا يكون إلا للموافقة فيكون الإجماع حاصلا على اعتداد القياس. والفرق بين الوجهين الأول تواتر والثاني إجماع. وقد تقدم البحث في كل واحد منهما. ثم ذكر وقائع عمل الصحابة فيها فمنها: رجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم عليه. لقياسهم خليفة رسول الله على رسول الله في أخذها للفقراء. ومنها قول بعض الأنصار لأبي بكر لما ورث أم الأم ولم يورث أم الأب لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت. فرجع أبو بكر عن ما حكم. وشرك في السدس بين الجدتين. ومنها: أن عمر ورث المبتوتة أي المطلقة الثلاثة في المرض بالرأي

ومنها قول علي لعمر - رضي الله عنهما - لما شك عمر في قتل الجماعة بالواحد أرأيت لو اشترك نفر في سرقة أكنت تقطعهم. فقال عمر: نعم. فقال علي لعمر - رضي الله عنهما - فهذا كذلك. ومنها: إلحاق بعض الصحابة الجد بالأخ , وبعضهم بالأب في اسقاط الإخوة. وغير ذلك ما فيه كثرة. ثم ذكر أسئلة وأجاب عنها. وتقرير الاسئلة: التعبد بالقياس قطعي لكونه أصلا من أصول الشرع فلا يثبت إلا بمثله والوقائع المذكورة آحاد لا تفيد القطع. سلمنا أنها متواترة لكنهم لم يعملوا فيها بالأقيسة بل بظواهر النصوص. سلمنا أنهم عملوا فيها بالقياس لكنهم بعض الصحابة فلا يكون عملهم حجة. سلمنا أن عملهم من غير نكير الباقين دليل لكن لا نسلم عدم الإنكار فإنه روي

عنهم إنكار الرأي تارة وإنكار القياس أخرى. فإنه روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي. وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. وعن علي: لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره. وعن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: تذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم. وعن ابن مسعود أنه قال: إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما أحل الله. وأمثال ذلك كثيرة فكان الإنكار واقعا. سلمنا أن بعضهم عمل بالقياس ولم يقع الإنكار من غيرهم لكن عدم إنكارهم

لا يدل على الموافقة لجواز أن يكون تقية أو غيرها من الاحتمالات. سلمنا أن سكوتهم يدل على الموافقة لكنها أقيسة مخصوصة ولا يلزم منه الإجماع على العمل بكل قياس. وأجاب عن الأول: بأن هذه الأخبار وإن كانت آحادا لكنها متواترة في المعنى إذ القدر المشترك متواتر كشجاعة علي وجود حاتم. وعن الثاني: أن سياق تلك الأخبار وقرائن الأحوال تدل قطعا على أن عملهم بالقياس في تلك الوقائع لا بالنص. وعن الثالث: أن شياع العمل بالقياس وتكريره قاطع عادة بأن عدم إنكارهم بسبب الموافقة. وعن الرابع: أن العادة تقضي بأنه لو أنكر بعضهم لنقل ولما لم ينقل دل على أنهم لم ينكروا. والإنكار في الصور المذكورة إنما كان بالنسبة إلى من ليس له مرتبة الاجتهاد وفي قياس لم يراع شروط صحته جمعا بين النقلين أي الذين نقل عنهم المنع من القياس هم الذين دل عملهم على تجويز القياس فلا بد من التوفيق. وعن الخامس: ما سبق في الثالث. وعن السادس: بأن العمل بالأقيسة المخصوصة ليس لأجل خصوصها كالظواهر فإن العمل بها لا لأجل خصوصها بل لأجل أنها من الأدلة الظاهرة. ص - واستدل بما تواتر معناه من ذكر العلل ليبنى عليها. مثل: " أرأيت لو كان على أبيك دين " " أينقض الرطب " وليس بالبين. واستدل بإلحاق كل زان بماعز. ورد بان ذلك لقوله: " حكمي على الواحد " أو للإجماع.

واستدل بمثل: (فاعتبروا). وهو ظاهر في الاتعاظ أو في الأمور العقلية مع أن صيغة افعل محتملة. واستدل بحديث معاذ وغايته الظن. ش - ذكر أربع استدلالات مع الجواب عنها. الأول: أنه ثبت بما تواتر معناه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر العلل ليبني عليها الأحكام فإنه سئل عن صور كثيرة. فأجاب عن كل منها مشيرا إلى العلة إرشادا منه إلى القياس وذلك مثل ما قال - عليه السلام - للخثعمية: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته , أكان ينفعه؟ فقالت: نعم. قال - صلى الله عليه وسلم -: فدين الله أحق ". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أينقص الرطب إذا جف ". وأمثاله كثيرة. وذلك دليل على أن العمل بالقياس جائز. وأجاب بأن هذا الاستدلال غير بين لأن غايته التصريح بالعلة الموجبة للحكم وذلك لا يدل على وجوب العمل بالقياس لجواز أن يكون ذكر العلة لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الانقياد لا لأجل إلحاق الغير به. وفيه نظر " لأن فيه " إشارة إلى الثواني في الصحابة في انقيادهم لأحكام الشرع. ولئن سلم أن سياق الكلام وقرينة الحال تدل ظاهرا على أن الغرض من ذكر العلة هو إلحاق الغير لكن لا يدل على العمل بالقياس من حيث القطع بل يدل عليه ظنا وكلامنا في القطعي.

الثاني: أن رجم غير ماعز ملحق بماعز قياسا لأن رجمه ثبت بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ليس بعام. وأجاب بأن رجم غير ماعز ثبت بالنص قوله - عليه السلام -: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ". أو ثبت بالإجماع ولم ينقل السند للاستغناء عنه بالإجماع. الثالث: أن القياس اعتبار والاعتبار واجب لقوله - تعالى -: (فاعتبروا) الآية. وأجاب بأن الاعتبار ظاهر في الاتعاظ أو في الأمور العقلية لا في الأقيسة الشرعية مع أن صيغة افعل تحتمل الوجوب والندب وغيرهما فلا تكون دلالته على وجوب العمل بالقياس قطعية. ولقائل أن يقول أن الله - تعالى - ذكر قوما أصابهم مثلات بأسباب نقلت عنهم ثم أمرنا بالاعتبار فإن كان المراد بالاتعاظ أن ننظر إلى أسباب باشروها لنكف عما أصابهم بها من المثلات فكون الاعتبار ظاهرا في الاتعاظ مسلم لكنه هو القياس وهو المطلوب وإن كان غيره فلا نسلم ظهوره فيه. وأن نقول الأمر حقيقة في الوجوب والأصل في الكلام هو الحقيقة. الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صوب قول معاذ أجتهد برأيي. وحمد على ذلك ولو لم يكن العمل به جائزا لم يجز ذلك. وأجاب بأنه من الآحاد وغايته إفادة الظن. وفيه نظر لأنه مشهور ثقلته العلماء في الصدر الأول ومثله يفيد الوجوب. ص- مسألة: النص على العلة لا يكفي في التعدي دون التعبد بالقياس.

مسألة: النص على العلة هل يكفي في التعدي دون القياس؟

وقال أحمد والقاشاني وأبو بكر الرازي والكرخي يكفي. وقال البصري يكفي في علة التحريم لا غيرها. لنا: القطع بأن من قال أعتقت غانما لحسن خلقه لا يقتضي عتق غيره من حسني الخلق. قالوا: حرمت الخمر لإسكاره مثل: حرمت كل مسكر. ورد بأنه لو كان مثله عتق عن تقدم. قالوا: لم يعتق لأنه غير صريح. والحق لآدمي. قلنا: يعتق بالصريح وبالظاهر. قالوا: لو قال الأب لا تأكل هذا لأنه مسموم فهم عرفا المنه من كل مسموم. قلنا: لقرينة شفقة الأب. بخلاف الأحكام لأنه قد يخص لأمر لا يدرك. قالوا: لو لم يكن للتعميم لعري عن الفائدة. وأجيب بتعقل المعنى فيه ولا يكون التعميم إلا بدليل. قالوا: لو قال الإسكار علة التحريم لعمم فكذلك هنا قلنا: حكم بالعلة على كل إسكار فالخمر والنبيذ سواء. البصري: من ترك أكل شيء لأذاه دل على تركه كل مؤذ بخلاف من تصدق على فقير. قلنا: إن سلم فلقرينة التأذي بخلاف الأحكام. ش - اختلفوا فيما إذا نص الشارع على علة الحكم هل يكفي في تعدي الحكم من المنصوص عليه إلى غيره دون ورود التعبد بالقياس أو لا؟ واختار المصنف عدمه.

وذهب أحمد وأبو بكر الرازي والكرخي والقاشاني إلى أنه يكفي. وقال البصري يكفي في علة التحريم دون غيره من الوجوب والندب والإباحة والكراهية. واحتج المصنف بأنا نقطع أن من قال: أعتقت غانما لحسن خلقه - كلامه لا يقتضي عتق غير غانم من عبيده لكونهم حسني الأخلاق. والقائلون بأن التنصيص يكفي احتجوا بوجوه: الأول: أن قول القائل: حرمت الخمر لإسكارها - مثل قوله: حرمت كل مسكر. وهو يقتضي العموم فكذلك الأول. وأجاب بأنا لا نسلم أن القول الأول مثل الثاني لأنه لو كان مثله عتق غير غانم ممن حسن خلقه فيما تقدم لأنه حينئذ يكون قوله أعتقت غانما لحسن خلقه مثل قوله: أعتقت كل عبد لي حسن خلقه فوجب تساويهما في الحكم. وأجابوا بأنه إنما لم يعتق كل عبد له حسن خلقه لأنه غير مصرح بعتق كل عبد حسن خلقه والحق للآدمي فلا بد فيه من الصريح حذرا من إبقاء حقوقهم وأجاب المصنف بأن العتق كما يحصل بالصريح يحصل بالظاهر وإذا كان التنصيص بالعلة مثل إضافة الحكم إلى العلة يكون قوله أعتقت غانما لحسن خلقه ظاهرا في عتق كل عبد له حسن خلقه.

ولقائل أن يقول الكلام في تنصيص الشارع على العلة والمثال المذكور ليس كذلك حتى لو فرضنا أن الشارع قال: أعتق غانما لحسن خلقه ألزمنا بأن كل عبد حسن خلقه وجب على المولى إعتاقه. والثاني: لو قال الأب لولده لا تأكل هذا الطعام لأنه مسموم فهم عرفا المنع من كل مسموم فلولا هو مثل قوله: لا تأكل مسموما أصلا لما فهم. وأجاب بأنا لا نسلم أنه فهم ذلك عرفا من اللفظ بل فهم بقرينة هي شفقة الأب فإنها تقتضي المنع عموما بخلاف الأحكام فإنها قد تكون لأمر لا يدرك وهذا الوجه غير صحيح لأن الكلام في نص الشارع. الثالث: لو لم يكن التنصيص عليها كافيا للتعدي لعري التنصيص عن الفائدة لحصول الحكم في المنصوص عليه بمجرد النص بدون التنصيص على العلة. وأجاب بأن فائدة التنصيص تعقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم وتعميم الحكم لا يكون إلا بدليل آخر. وفيه نظر لأن الشارع مطاع وطاعته لا تحتاج إلى كون ما حكم به معقولا بالإجماع فلو لم يكن التنصيص للتعدي لعري عن الفائدة وكون التعميم لا يكون إلا بدليل مسلم ولكن لم لا يجوز أن يكون هو التنصيص. الرابع: لو قال الشارع: الإسكار علة التحريم لعمم كل مسكر فكذلك: حرمت الخمر لإسكارها لأنه مثله. وأجاب بنفي المماثلة لأن قوله: الإسكار علة التحريم حكم بالعلة على كل إسكار فيستوي فيه الخمر والنبيذ بخلاف قوله: حرمت الخمر لإسكارها فإنه حكم بعلية إسكار الخمر لحرمتها ولا تعرض فيه للنبيذ. واحتج البصري بأن من ترك أكل شيء لأنه مؤذ دل ذلك على تركه كل مؤذ بخلاف من ارتكب أمرا لمصلحة كالتصدق على فقير فإنه لا يدل على تصدقه على كل فقير. وأجاب بأنا لا نسلم أنه يدل على تركه كل مؤذ ولو سلم دلالته على كل مؤذ

مسألة: جريان القياس في الحدود واللغات

فلقرينة التأذي لا لمجرد النص على العلة بخلاف الأحكام فإنها لا قرينة فيها تدل على أن العلة مطلق ما نص عليه لجواز أن تكون لخصوصية المحل مدخل في العلية. ولقائل أن يقول اعتبار هذا الجواز يسد باب القياس أصلا فتأمل. ص - مسألة القياس يجري في الحدود والكفارات خلافا للحنفية. لنا: أن الدليل غير مختص وقد حد في الخمر بالقياس. وأيضا الحكم للظن وهو حاصل كغيره. قالوا: فيه تقدير لا يعقل كأعداد الركعات. قلنا: إذا فهمت العلة وجب. كالقتل بالمثقل وقطع النباش قالوا: " ادرؤا الحدود بالشبهات ". ورد: بخبر الواحد والشهادة. ش - القياس يجري في الحدود والكفارات عند العامة خلافا للحنفية. واحتج المصنف بأن الدليل الدال على حجيته لا يختص ببعض الصور دون بعض فيشمل الحدود والكفارات وغيرها. وفيه نظر لأنه منقوض بالأسباب والشروط فإنها لا تثبت بالقياس مع شمول الأدلة إياها كما سيأتي. وأيضا فإنه واقع والوقوع دليل الجواز. أما الوقوع فلما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: " إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه

حد القذف ". قاس شارب الخمر على القاذف بجامع الافتراء ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فحل محل الإجماع. وفيه نظر لأن ذلك بطريق إقامة السبب مقام المسبب لا بطريق القياس على أنه يجوز أن يكون مذهبا له. وأيضا الحكم إنما هو لأجل الظن وهو حاصل في الحد كما هو حاصل في غيره فيفيد الحكم فيه. والقياس مفيد للظن فيكون مفيدا في الحد. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن كل ظن معتبر في إفادة الحكم , لم لا يجوز أن يكون المعتبر ظنا وقع في طريق الحجة كخبر الواحد لا ظنا يكون في أصله. واحتجت الحنفية بوجهين: الأول: أن في الحدود والكفارات تقديرا لا يعقل المعنى الموجب له كأعداد الركعات ومقادير الزكوات فلا يكون للقياس فيها مدخل. وأجاب بأنه إذا فهمت العلة الموجبة للحكم وجب القياس وقد فهمت العلة كما في قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد وكقياس النباش على قطع السارق. وفيه نظر لعدم القصاص في القتل بالمثقل عندهم ومثله باطل كما تقدم. ولعدم القطع في النباش عند الحنفية فلا يكون الجواب ناهضا. والثاني: أن القياس يحتمل الشبهة والحدود لا تثبت بها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرأوا الحدود بالشبهات ".

وأجاب بأنه منقوض بخبر الواحد والشهادة فإن كل واحد منهما يحتمل الشبهة والحد ثبت به. وفيه نظر لأن الشبهة في القياس ليس كهي في الخبر فإنها في القياس في أصل الدليل وفي الخبر في طريقه والأولى أقوى ولا يلزم من منع الأقوى منع الأضعف والشهادات ثبتت بها الحدود بالنص على خلاف القياس. ص - مسألة: لا يصح القياس في الأسباب. لنا: أنه مرسل لأن الفرض تغاير الوصفين فلا أصل لوصف الفرع. وأيضا علة الأصل منتفية عن الفرع فلا جمع. وأيضا إن كان الجامع بين الوصفين حكمة على القول بصحتها أو ضابطا لها اتحد السبب والحكم وإن لم يكن بجامع ففاسد. قالوا: ثبت المثقل على المحدد , واللواط على الزنا. قلنا: ليس محل النزاع لأنه سبب واحد ثبت لهما بعلة واحدة وهو القتل العمد العدوان وإيلاج فرج في فرج. ش - اختلف الناس في الأسباب فذهب بعض الشافعية إلى صحته وذهب العامة إلى خلاف ذلك. واختاره المصنف.

وصوروه باللواط إن جعل سببا للحد قياسا على الزنا. واحتج المصنف بوجوه: الأول: أنه مرسل لأن الفرض تغاير الوصفين فلا أصل لوصف الفرع. وفهمه مشكل لأنه ملغز يجرب به قوي القرائح. وعن هذا اختلف الشارحون في بيانه فقال شيخي العلامة - رحمه الله - لو صح القياس في الأسباب لصح القياس بالوصف المرسل باطل بالاتفاق. بيان الملازمة أن وصف الفرع كاللواط مثلا مرسل لأن الفرض تغاير الوصفين أعني وصف الفرع الذي هو اللواط ووصف الأصل الذي هو الزنا وقد شهد أصل باعتبار وصف الزنا ولم يشهد أصل باعتبار وصف اللواط فيكون مرسلا. وهذا كما ترى جعل وصف الفرع اللواط ووصف الأصل الزنا وليس بمطابق لأن الزنا هو الأصل لا وصف الأصل واللواط هو الفرع لا وصف الفرع. وكأنه ظن أن قوله: فلا أصل لوصف الفرع من باب خاتم فضة ليكون معناه لوصف هو الفرع وهو اللواط وليس كذلك لكونه غير مطابق للمقصود. ومن الناس من جعل وصف الأصل سببيته الزنا ووصف الفرع سببيته اللواط " الفرع ". وليس بصحيح لأن السببية هي المطلوبة من القياس لا أنها وصف الأصل والفرع. ومنهم من لم يتعرض لبيان الوصفين بل تكلم كلاما مجملا لم يفصح عن المراد. والاشتغال بتزييف ذلك تضييع للوقت والفطن إذا تأمل ذاكرا لما تقدم من تفسير المرسل ومثاله يظهر له ما فيه.

والذي يظهر لي أن وصف الأصل هو حفظ النسب فإنه هو الذي به يصير الزنا سببا للحد ولا بد وأن يكون وصف الفرع أمرا آخر لأن الفرض تغاير الوصفين فإن الوصف إذا كان واحدا لا يمتنع القياس على ما يذكر عقيب هذا في جواب المجوزين السؤال فيحصل ذلك سفح الماء في محل مستقذر وهو مرسل غريب لأن الشرع لم يعتبر عين هذا الفعل في جنس هذا الحكم وهو سببية اللواط للحد ولا جنسه في عينها ولا جنسه في جنسها القريب أو البعيد فكان وصف الفرع بلا أصل حيث لم يعتبره الشارع فلا يكون القياس صحيحا لما مر أن المرسل الغريب غير مقبول بالاتفاق. الثاني: أن علة الأصل وهي حفظ النسب منتفية عن الفرع إذ لا نسب في اللواط يحفظ بالحد وإذا انتفى علة الأصل في الفرع امتنع القياس لعدم الجامع. الثالث: الوصفان إما أن يكون بينهما جامع أو لا فإن كان فإما أن يكون لحكمة على تقدير صحة القول بكون الحكمة جامعا أو ضابطا للحكمة وعلى كلا التقديرين يتحد السبب والحكم في كونهما معلول العلة لأن الحكمة التي بها يكون الوصف مناسبا هي الحكمة التي لأجلها يكون الحكم المرتب على الوصف ثابتا فتكون الحكمة أو الضابط لها مستقلا بإثبات الحكم ولا حاجة إلى الوصف الذي جعل سببا للحكم. وإن لم يكن بينهما جامع فالقياس فاسد. وقال المجوزون: القياس في الأسباب واقع والوقوع دليل الجواز وذلك لأنه قيس سببية القتل بالمثقل على سببية القتل بالمحدد وقيس سببية اللواط على سببية الزنا وأجاب بأنه ليس محل النزاع لأنه سبب واحد وهو القتل العمد العدوان وإيلاج فرج في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا فكان الأصل والفرع ثابتين بعلة واحدة وهي حفظ النفس وحفظ النسب وإنما النزاع فيما إذا ثبت سببية أحدهما بالنص أو الإجماع وسببية الآخر بالقياس عليه. ص - مسألة: لا يجري القياس في جميع الأحكام.

مسألة: جريان القياس في الجميع الأحكام

لنا: ثبت ما لا يعقل معناه كالدية والقياس فرع المعنى. وأيضا: قد تبين امتناعه في الأسباب والشروط. قالوا: متماثلة فيجب تساويهما في الجائز. قلنا: قد يمتنع أو يجوز في بعض النوع أمر لأمر بخلاف المشترك. ش - ذهب الجمهور إلى أن القياس لا تثبت به جميع الأحكام خلافا لبعض. واحتج المصنف للجمهور بوجهين: الأول: أنه ثبتت من الأحكام ما ليس بمعقول المعنى وما ليس بمعقول المعنى " يجري القياس " فيه كالمقادير الشرعية. والثاني: أنه قد تقدم أن القياس في الأسباب ممتنع والأسباب والشروط من جملة الأحكام لما بينا في تعريف الحكم. وقال المخالف: الأحكام متماثلة لاندراجها تحت أمر واحد وهو الحكم الشرعي والمتماثلة يجب تساويها فيما جاز على بعضها وقد صح جواز القياس في البعض فيصح في الجميع. وأجاب بأنه قد يمتنع أو يجوز في بعض أفراد النوع أمر لأمر اختص بذلك البعض بخلاف الأمر المشترك بينهما فإنه لا يجوز الاختلاف بينهما بالنسبة إلى ما أسند إليه. ص - الاعتراضات راجعة إلى منع أو معارضة وإلا لم تسمع. وهي خمسة وعشرون:

1 - الاستفسار

الاستفسار: وهو طلب معنى اللفظ لأجمال أو غرابة. وبيانه على المعترض بصحته على متعدد. ولا يكلف بيان التساوي لعسره. ولو قال: التفاوت يستدعي ترجيحا بأمر والأصل عدمه لكان جيدا. وجوابه بظهوره في مقصوده بالنقل أو بالعرف أو بقرائن معه أو بتفسيره. وإذا قال يلزم ظهوره فيما قصدت لأنه غير ظاهر في الآخر اتفاقا فقد صوبه بعضهم. وأما تفسيره بما لا يحتمله لغة فمن جنس اللعب. ش - لما فرغ من بيان القياس وأركانه وشرائطه وأقسامه وكونه حجة ذكر الاعتراضات الواردة عليه وهي بجملتها راجعة إلى المنع والمعارضة. والمنع إما لمقدمة من مقدماته أو لجمعيها. والمعارضة إما في المقدمة أو في نفس القياس وأقسامها خمسة وعشرون. الأول: الاستفسار - وهو طلب معنى اللفظ الذي استعمله المستدل. وذلك إنما يصح إذا كان في اللفظ إجمال بسبب تردده بين محملين أو غرابة بسبب ندورة الاستعمال فإنها توجب الغرابة. ولا بد للاستفسار من ذلك لئلا يكون تعنتا مفوتا لفائدة المناظرة إذ لا يتعسر على السائل أن يستفسر عن كل لفظ جليا كان أو خفيا فيستوعب مجلس المناظرة.

ويجب على المعترض بيان الإجمال والغرابة لأن الأصل عدمها فمن ادعاهما فعليه البيان. وبيان الإجمال بيان بصحة إطلاق اللفظ على متعدد. وأما بيان تساوي المحملين بالنظر إلى اللفظ وإن كان الإجمال: لا يحصل إلا به فهو ليس بواجب لعسره إذ ما من وجه يتبين به التساوي إلا وللمستدل أن يقول لم لا يجوز أن يكون بينهما تفاوت من وجه آخر. ولو قال المعترض في بيان تساوي المحملين على طريق الإجمال: التفاوت بين المحملين يستدعي ترجيح أحدهما على الآخر بمرجح والأصل عدمه. لكان جيدا تحقيقا للإجمال الموجب للاستفسار. وجواب المستدل بعد بيان وجود الإجمال قد يكون تفصيليا وقد يكون إجماليا. أما الأول: فبأن يبين ظهور اللفظ في مقصوده بالنقل عن أئمة اللغة أو بعرف الشرع أو الاصطلاح أو بقرائن لفظية تشعر بذلك أو بتفسيره اللفظ بما هو مقصوده وهو أقل المراتب. وأما الثاني: فبأن قول: اللفظ ظاهر فيما هو المقصود لأنه يلزم ظهوره في أحد المحملين حذرا من الإجمال المخل بالتفاهم فلا يكون ظاهرا في غيره بالإجماع المركب. أما عند المعترض فلأنه قائل بالإجمال. وأما المستدل فلدعوى ظهوره في المقصود. فيعين ظهوره في المقصود. أو يقول اللفظ ظاهر في المقصود لأنه غير ظاهر في غيره بالإجماع المركب. والأصل عدم الإجمال. وقد صوب بعض الأصوليين في بيان دفع الإجمال هذا الطريق بناء على أن

2 - فساد الاعتبار

الفرض بيان الظهور وهو يحصل به. ورده بعضهم لأنه رجوع إلى أن الأصل عدم الإجمال بعد ما أقام المعترض الدليل على أنه مجمل. وأما إذا فسر المستدل اللفظ بما لا تحتمله لغة بأن يعرض على أهل اللسان فلم يفهمه حقيقة ولا مجازا فهو خبط ولعب لا يعتد به لافضائه إلى إثبات المدعى بما ليس بدليل. وفيه نظر لأنه قال في الجواب: وجوابه بظهوره في مقصوده بالنقل يعني عن أئمة اللغة فيكون حقيقة لغوية أو بالعرف فيكون عرفية أو بقرائن معه أي مع اللفظ تدل على المعنى المقصودة فيكون مجازا أو بتفسيره. وهو قسيم لما تقدم من الأقسام وذلك لا يكون إلا بما يحتمله اللفظ لغة فكان كلامه متناقضا. ولم يذكر المصنف بيان الغرابة من جهة المعترض ولا جوابه من جهة المستدل. ومثل لها بعض الشارحين بما إذا قال في قبلة الصائم: مبدأ مجرد عن الغاية فلا يفسد الصوم كالمضمضة. فيقول المعترض: ما المبدأ وما الغاية فإنه ليس من موضوعات اللغة ولا من اصطلاح الفقهاء وإنما هو من اصطلاح الفلاسفة فإنه يسمى السبب مبدأ والمقصود غاية عندهم. فالفقيه إذا ادعى علمه صدق. وجوابه ما ذكر في جواب الإجمال من ظهوره فيما هو المقصود بما ذكر من الطرق بأن يدعي أنه مستعمل في اللغة أو في العرف أو بأن يفسره بما هو مقصوده. ولما كان جوابها جواب الإجمال اكتفى بذكره عنه. ص - فساد الاعتبار: وهو مخالفة القياس للنص. وجوابه الطعن أو منع الظهور أو التأويل أو القول بالموجب أو المعارضة بمثله فيسلم القياس أو يبين ترجيحه على

النص بما تقدم. مثل: ذبح من أهله في محله كذبح ناسي التسمية. فيورد: (ولا تأكلوا). فيقول: مؤول بذبح عبدة الأوثان بدليل: " ذكر الله على قلب المؤمن سمى أو لم يسم " أو بترجيحه لكونه مقيسا على الناسي المخصص باتفاق. فإن أبدى فارق فهو من المعارضة. ش - الاعتراض الثاني: فساد الاعتبار أي اعتبار القياس لا مقدماته بأن تكون مقدماته صحيحة واعتباره فاسدا لمخالفته النص. ووجهه أن يقال هذا القياس غير صحيح لكونه مخالفا للنص. وجوابه الطعن في النص بما يمكن فإن لم يكن كتابا أو سنة متواترة فبالطعن في الراوي أو في المتن. وإن كان منهما فيمنع ظهور النص في نقيض مقتضى القياس إن أمكن وإن لم يمكن لظهوره فيه فيتأول النص على وجه لا يكون مخالفا للقياس إن أمكن وإن لم يمكن فالجواب بالقول بالموجب وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع كما سيأتي إن أمكن وإن لم يمكن فهو بالمعارضة بنص آخر مثله ليسلم القياس عن

المعارض ولا تفاوت بين أن يكون النص المعارض الذي للمستدل يعارض بنص آخر أو لا لأن النص الواحد يعارض النصين بخلاف النص والقياس فإن النص الواحد لا يعارضها لأن الصحابة - رضي الله عنهم - رجعوا إلى القياس إذا تعارض النصان ولم يجعلوا أحد النصين معارضا للنص الآخر مع القياس وإن لم تكن المعارضة بنص آخر فجوابه أن يرجع المستدل القياس على النص إما بأنه أخص من النص فيقدم كما في تخصيص النص بالقياس وإما لأنه مما ثبت أصله بنص أقوى مع القطع بوجود العلة في الفرع ومثله يقدم على النص لما مر. مثال ذلك قول الشافعي في متروك التسمية عامدا: ذبح صدر من أهله مضافا إلى محله فيكون حلالا كالمتروك ناسيا. ويقول المعترض هذا قياس فاسد في الاعتبار لمخالفته النص وهو قوله - تعالى -: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) الآية. وحيث لا يمكن للمستدل أن يطعن في الراوي أو في كونه مرسلا أو

موقوفاً أو غيره يحتاج أن يقول هذا النص مأول بذبح عبدة الأوثان لوجهين: أحدهما: أن المؤمن ذاكر لقوله - عليه السلام -: " ذكر الله على قلب المؤمن سمى أو لم يسمى ". وفي مثله يجوز للمعترض أن يطعن في الحديث بما يمكن أن يطعن به. والثاني: أن المقيس راجح على المقيس عليه فإن التارك عمدا بصدد التسمية بخلاف الناسي وذبح الناسي مخصوص بالاتفاق فذبح العامد أولى لرجحانه. وللخصم أن يقول لا نسلم أن ذبح الناسي مخصوص لأن الآية غير قابلة للتخصيص فإن قوله: (مما لم يذكر اسم الله عليه) يبين ببيان التقرير وهو ينافي

3 - فساد الوضع

احتمال التخصيص بل هو ذاكر حكما. سلمناه ولكن الناسي معذور من جهة صاحب الحق " والعامل " ليس كذلك فاستويا. فإن أبدى المعترض فارقا بين المقيس والمقيس عليه لإبطال قياس المستدل ولم يتعرض لمخالفته للنص كان ذلك من قبيل المعارضة في الأصل وفي الفرع لا من قبيل فساد الاعتبار فيكون سؤالا آخر. ص - فساد الوضع وهو كون الجامع ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم. مثل: مسح فيسن فيه التكرار كالاستطابة فيرد أن المسح معتبر في كراهية التكرار على الخف. وجوابه ببيان المانع لتعرضه للتلف. وهو نقض إلا أنه يثبت النقيض. فإن ذكره بأصله فهو القلب. فإن بين مناسبته للنقيض من غير أصل من الوجه المدعى فهو القدح في المناسبة. ومن غير لا يقدح , إذ قد يكون للوصف جهتان ككون المحل مشتهى يناسب الإباحة لإراحة الخاطر والتحريم " للقطع " أطماع النفس. ش - الاعتراض الثالث: - فساد الوضع - وهو أن يكون الجامع قد ثبت

اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم. كقول الشافعي في كون التكرار في مسح الرأس سنة: مسح فيسن فيه التكرار قياسا على الاستطابة أي الاستنجاء فإن التكرار فيها سنة. فيقول المعترض هذا فاسد في الوضع لأن المسح الذي هو الجامع اعتبر في كراهية التكرار بالإجماع في مسح الخف وكراهية التكرار نقيض الحكم الذي هو استحباب التكرار. فيجب المستدل ببيان وجود المانع من التكرار في مسح الخف فإن الخف لتعرضه للتلف كره فيه تكرار المسح لإفضائه إليه. ولما كان فساد الوضع يشتبه بأمور تخالفه بوجوه أراد أن يشير إلى ذلك ويرفع اللبس. فمنها: النقض فإن فساد الوضع في الحقيقة راجع إليه لأنه إثبات للوصف الجامع الذي هو المسح بدون الحكم الذي هو استحباب تكراره. ويمتاز عنه بأن الوصف هو الذي يثبت النقيض وفي النقض لا يتعرض لذلك بل يكتفى فيه بثبوت نقيض الحكم مع الوضع. ومنها القلب: - فإن المعترض إذا ذكر نقيض الحكم مع أصله مثل أن يقول: لا يسن تكرار مسح الرأس قياسا على تكرار مسح الخف بجامع كون كل منها مسحاً فهو القلب.

4 - منع حكم الأصل

ويمتاز عنه بأن في القلب لا بد وأن يثبت نقيض الحكم بأصل المستدل وفي فساد الوضع يثبت بأصل آخر. ومنها القدح في المناسبة فإن المعترض إذا بين مناسبة الوصف الجامع لنقيض الحكم ولم يذكر أصله وكان بيان المناسبة من الوجه الذي ادعى المستدل مناسبته للحكم كان ذلك قدحا في المناسبة لأن الوصف الواحد لا يناسب الحكم ونقيضه من جهة واحدة. ويمتاز عنه بأنه إذا بينها من غير ذلك الوجه لا يكون قدحا في مناسبة الوصف للحكم لجواز أن يكون لوصف واحد جهتان يناسب بأحديهما الحكم وبالأخرى نقيضه. " كون " المحل مشتهى فإنه يناسب الإباحة لإراحة الخاطر ويناسب التحريم لقطع أطماع النفس. وتلخيص ذلك أن ثبوت نقيض الحكم مع الوصف نقض فإن زيد ثبوته به ففساد الوضع فإن زيد ثبوته به بأصل المستدل فقلب وبدون ثبوته معه من جهة واحدة قدح في المناسبة دون جهتين. ص - منع حكم الأصل. والصحيح ليس قطعا للمستدل بمجرده لأنه كمنع مقدمة , كمنع العلة في العلية ووجودها - فيثبتها باتفاق. وقيل: ينقطع لانتقاله. واختار الغزالي: اتباع عرف المكان. وقال الشيرازي: لا يسمع فلا يلزمه دلالة عليه. وهو بعيد , إذا لا تقوم الحجة على خصمه مع منع أصله. والمختار: لا ينقطع المعترض بمجرد الدلالة بل له أن يعترض إذ لا يلزم من صورة دليل صحته.

قالوا: خارج عن المقصود الأصلي. قلنا: ليس بخارج. ش - الاعتراض الرابع: - منع حكم الأصل - كقول الشافعي - رحمه الله -: الخل مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث قياسا على الدهن. فيمنع المعترض أن الدهن لا يزيل الخبث. فإذا منع ذلك هل ينقطع المستدل بمجرد هذا المنع أو لا؟ اختلفوا فيه. والصحيح أنه لا ينقطع. وهو مختار المصنف لأنه منع مقدمة من مقدمات القياس كمنع العلية ومنع وجود العلة في الفرع والمستدل لا ينقطع بمنع غيرها بل له أن يثبتها بعد المنع بالدليل بالاتفاق فكذا هذه. وقيل إنه ينقطع أما إنه إن سكت فالانقطاع ظاهر. وأما أنه إن شرع في إثبات حكم الأصل بدليل فقد حصل الانتقال من مسألة إثبات حكم الفرع إلى أخرى غيرها وهي مسألة حكم الأصل وذلك انقطاع لحصول مقصود المعترض فإن غرضه الحيلولة

بين المستدل ومطلوبه وقد وجدت بالاستعمال بإثبات حكم الأصل. وقال الغزالي يعتبر عرف المكان الذي وقع فيه البحث فإن اصطلح أهله على أن الاستعمال بحكم الأصل بعد المنع انقطاع كان كذلك وإلا فلا لأنه أمر وضعي ليس للشرع والعقل فيه مدخل. وقال أبو إسحاق الشيرازي هذا المنع غير مسموع من المعترض. ولا يلزم المستدل الدلالة على إثباته لأنه خارج عن المطلوب وهو إثبات الحكم في الفرع. واستبعده المصنف لأن الغرض إقامة الحجة ولا تقوم مع وجود المنع في مقدمة من مقدمات الدليل. فإذا أقام المستدل الدليل على ذلك - هل ينقطع المعترض بذلك أو لا؟ اختلفوا فيه والمختار عدمه بل له أن يعترض على مقدمات الدليل فإنه لا يلزم من مجرد صورة دليل صحته

5 - التقسيم

وقيل ينقطع به لإفضائه إلى التطويل فيما هو خارج عن المقصود الأصلي وهو إثبات الحكم في الفرع. وأجاب عنه بأنه ليس بخارج لأنه كلام في مقدمات الدليل الذي يثبت به الحكم في الفرع فكان مما يفضي إلى المقصود وما يفضي إلى المقصود مقصود. ص - التقسيم وهو كون اللفظ مترددا بين أمرين أحدهما ممنوع. والمختار وروده. مثاله في الصحيح الحاضر: وجد السبب بتعذر الماء فساغ التيمم. فيقول: السبب تعذر الماء أو تعذر الماء في السفر أو المرض. الأول ممنوع. وحاصله منع يأتي , ولكنه بعد تقسيم. وأما نحو قولهم في الملتجئ: وجد سبب استيفاء القصاص فيجب متى منع مانع الالتجاء إلى الحرم أو عدمه , فحاصله طلب نفي المانع ولا يلزم. ش - الاعتراض الخامس: التقسيم. وهو أن يكون اللفظ الدال على الوصف الجامع مرددا بين أمرين أحدهما ممنوع والآخر مسلم. وهو على نوعين لأن المسلم إما أن يكون مما يجب إثباته على المستدل بسببية الوصف أو لا فإن كان الثاني فهو غير وارد بالاتفاق. وإن كان الأول فقد اختلف فيه. والمختار وروده بعد بيان المعترض الاحتمالين.

6 - منع وجود المدعى علة في الأصل

مثال الأول: قول الفقهاء في جواز التيمم للصحيح المقيم عند عدم القدرة على استعمال الماء لبرد أو لغيره: وجد سبب التيمم وهو تعذر الماء فجاز قياسا على المسافر والمريض. فيقول المعترض السبب تعذر الماء أو تعذره في السفر أو المرض والأول ممنوع والثاني مسلم لكنه غير موجود لأن الفرض عدمها فكان حاصله المنع لكنه بعد تقسيم. ومثال الثاني: قول الفقهاء فيمن وجب عليه القصاص والتجأ إلى الحرم: وجد فيه السبب وهو القتل العمد العدوان فيجب القصاص. فيقول المعترض: متى يجب مع مانع الالتجاء أي المانع الذي هو الالتجاء إلى الحرم أو مع عدمه. والأول ممنوع , والثاني مسلم ولكن وجد المانع هاهنا. وهذا غير وارد لأنه يمنع بعد التقسيم ما لا يلزم المستدل إثباته لأنه لا يلزم إثبات المانع بل يلزم المعترض بيان وجوده. ص - منع وجود المدعى علة في الأصل. مثل: حيوان يغسل من ولوغه سبعا فلا يطهر بالدباغ كالخنزير , فيمنع. وجوابه بإثباته بدليله من عقل أو حس أو شرع. ش - الاعتراض السادس: منع وجود ما ادعى " المستدل " علة في الأصل فضلاً عن عليته.

7 - منع كون الوصف علة

كقول الشافعي في دباغ جلد الكلب. جلد حيوان: يغسل الإناء من ولوغه سبعا فلا يطهر بالدباغ كالخنزير. فيقول المعترض لا نسلم وجوب غسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعا. وجواب المستدل عن هذا الاعتراض يكون بإثبات وجودها في الأصل بدليل عقلي أو شرعي أو حسي على حسب طريق ثبوت مثله فإن الوصف قد يكون عقليا وقد يكون شرعيا وقد يكون حسيا. نظيره ما إذا قال في القتل بالمثقل: قتل عمد عدوان فلو قال لا نسلم أنه عدوان يقال: إنه محسوس لا ينكر. ولو قال لا نسلم أنه عند. يقال: معلوم عقلا بأمارته. ولو قال: لا نسلم أنه عدوان يقال: الشرع حرمه. ص - منع كونه علة. وهو من أعظم الأسئلة لعمومه وتشعب مسالكه. والمختار قبوله. وإلا أدى إلى اللعب في التمسك بكل طرد قالوا: القياس رد فرع إلى أصل بجامع وقد حصل. قلنا: بجامع يظن صحته. قالوا: عجز المعارض دليل صحته , فلا يسمع المنع. قلنا: يلزم أن يصح كل صورة دليل لعجز المعترض. وجوابه بإثباته بأحد مسالكه. فيرد على كل منها ما هو شرط فعلى ظاهر الكتاب: الإجمال والتأويل والمعارضة والقول بالموجب. وعلى السنة: ذلك. والطعن بأنه مرسل أو موقوف وفي رواية بضعفه أو قول شيخه: لم يروه عني. وعلى تخريج المناط ما يأتي وما تقدم. ش - الاعتراض السابع: منع كون الوصف علة. وهو من أعظم الأسئلة على

القياس لعموم وروده على كل وصف جعل علة ولتشعب مسالك إثبات عليته. واختلفوا في قبوله. والمختار قبوله لأنه لو لم يقبل لأدى القياس إلى اللعب لجواز التمسك حينئذ بكل وصف. واحتج المانعون بوجهين: أحدهما: أن القياس رد فرع إلى أصل بجامع والمستدل قد أتى به فلا يرد عليه شيء. وأجاب المصنف بأن القياس رد فرع إلى أصل بجامع يظن صحته. وفيه نظر لأنه يعود النزاع لفظيا فمن عرف القياس بالأول لا يجوز هذا الاعتراض ومن عرفه بالثاني جوزه. والثاني: أن عجز المعارض عن بيان فساد علية الوصف دليل صحة كون الوصف علة فلا يسمع المنع. ولقائل أن يقول بيان فساد علية الوصف إما أن يكون بالاستدلال أو بالمنع والأول غصبه غير مسموع عند المحققين على أنه اعتراض بعد حصول ما يجب على المستدل الإتيان به من رد فرع إلى أصل بجامع كالمنع فتجويزه دون المنع تحكم والثاني هو المطلوب. وأجاب بأنه يلزم من ذلك أن يصح: كل صورة دليل بعجز المعترض عن بيان فساده. وهو باطل. ولا يصح دليل النقيضين إذا تعارضا وعجز كل عن بيان فساد دليل الآخر. وفيه نظر لجواز أن يلتزمه ملتزم فيقول يجب العمل بمثله ما لم يظهر مبطله.

8 - عدم التاثير

والتعارض بين دليل النقيضين مبطل وإذا كان هذا الاعتراض واردا يستحق المعترض به الجواب. وجوابه بإثبات كون الوصف علة بأحد مسالك إثبات العلة فيرد على كلل مسلك. ومها ما هو شرط في التمسك به فيرد على ظاهر الكتاب أنه مجمل أو مؤول أو أنه معارض بظاهر آية أخرى من الكتاب والقول بالموجب كما تقدم بيانها ويرد على السنة ما ورد على الكتاب مع زيادة أن الخبر مرسل أو موقوف والضعيف في رواية والطعن بأن شيخه لم يروه عني. ويرد على تخريج المناط ما تقدم في مسالك العلة من أنه مرسل أو غريب أو غير ذلك. وما يأتي في الاعتراض التاسع. ص - عدم التأثير. وقسم أربعة أقسام: عدم التأثير في الوصف. مثاله: صلاة لا تقصر فلا تقدم كالمغرب لأن عدم القصر في نفي التقديم طردي. فرجع إلى سؤال المطالبة. الثاني: عدم التأثير في الأصل. مثاله في بيع الغائب: مبيع غير مرئي فلا يصح , كالطير في الهواء. فإن العجز عن التسليم مستقل. وحاصله معارضة في الأصل. الثالث: عدم التأثير في الحكم. مثاله في المرتدين: مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب , فلا ضمان , كالحربي. ودار الحرب عندهم طردي. فيرجع إلى الأول. الرابع: عدم التأثير في الفرع. مثاله: زوجت نفسها فلا يصح كما لو زوجت من غير كفء. وحاصله كالثاني. وكل فرض جعل وصفا في العلة مع اعترافه بطرده مردود بخلاف غيره على المختار فيهما.

ش - الاعتراض الثامن: عدم التأثير. وهو إبداء وصف لا أثر له. وقسمه الجدليون أربعة أقسام. وسموا كلا باسم للتميز. الأول: عدم التأثير في الوصف بأن يكون طرديا لا مناسبة فيه ولا شبه. كما يقال: صلاة الصبح صلاة لا تقصر فلا يقدم أذانها على وقتها كصلاة المغرب لأن عدم القصر الذي جعل علة لنفي تقديم الأذان طردي لا مناسبة فيه ولا شبه. ولهذا يستوي المغرب وغيره مما يقصر في ذلك. وهو يرجع إلى المطالبة عن علية الوصف وجوابه قد مر. الثاني: عدم التأثير في الأصل وهو الذي استغني عنه بوصف آخر كما يقال في بيع الغائب: مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء. فإن وصف كونه غير مرئي مستغنى عنه لأن العجز عن التسليم مستقل في عدم صحة بيع الطير في الهواء. وهذا راجع إلى معارضة في الأصل. الثالث: هو أن لا يكون للوصف المدعى علة تأثير في الحكم ويسمى عدم التأثير في الحكم. مثاله في إتلاف المرتدين أموالنا: - المرتدون مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب فلا يجب عليهم الضمان كالحربي.

فيقول المعترض: - دار الحرب لا تأثير له عندكم ضرورة استواء الإتلاف في دار الحرب ودار الإسلام في عدم إيجاب الضمان. ومرجعه إلى القسم الأول. أي المطالبة عن كون الوصف علة. الرابع: أن يكون الوصف المذكور لا يطرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسبا ويسمى عدم التأثير في الفرع. ومثاله في تزويج المرأة نفسها: - زوجت نفسها فلا يصح نكاحها كما إذا زوجتها من غير كفء. فيقول المعترض كونه غير كفء لا أثر له فإن النزاع واقع فيما إذا زوجت من غير كفء وحكمهما سواء فلا أثر له كذا في بعض الشروح. وقال شيخي العلامة لأن تزويجها نفسها مطلقا لا يكون مؤثرا في عدم صحة النكاح بل تزويجها نفسها من غير كفوء فتأمل فيهما. ومرجعه إلى القسم الثاني وهو المعارضة في الأصل وهو التزويج فقط. على قول بعض الشروح. وعكسه أي التزويج من غير كفوء على قول شيخي - رحمه الله -. قوله: وكل فرض جعل وصفا في العلة - اختلف الشارحون في معناه. فقال شيخي اختلفوا في الفرض المنضم إلى العلة كغير الكفوء الذي فرض منضما إلى العلة التي هي تزويج المرأة نفسها. فقال قوم إنه يكون مقبولا مطلقا. وقال آخرون لا يكون مقبولا مطلقا. وقال المصنف: إن كل فرض جعله المستدل في العلة وصفاً فإن اعترف

المستدل بطرده فهو مردود على المختار وإن لم يعترف بطرده فهو مقبول على المختار. هذا ما فهمته من كلام المصنف , ولم يتبين لي حقيقة الكلام وما جزمت بأن مراد المصنف هذا. وقال بعض الشارحين: لما كان حاصل القسم الرابع وجود قيد طردي في الوصف المعلل به وهو كونه غير كفوء ذكر لذلك قاعدة تتعلق به وهي أن كل ما فرض جعله وصفا في العلة من طردي هل هو مردود عند المناظرين فلا يجوزونه أم إذا كان المستدل معترفا بأنه طردي؟ والمختار أنه مردود لأنه في كونه جزء العلة كاذب باعترافه. وقيل ليس بمردود لأن الفرض استلزام الحكم فالجزء إذا كان استلزم فالكل مستلزم قطعا. وأما إذا لم يكن معترفا بأنه طردي , فالمختار أنه غير مردود لجواز أن يكون فيه غرض صحيح كدفع النقض الصريح إلى النقض المكسور وهو أصعب بخلاف الأول فإنه معترف بأنه غير مؤثر وأن العلة هو الباقي فيرد النقض كما لو لم يذكره والتفوه به لا يجدي نفعا في دفع النقض. وقيل مردود لأنه لغو وإن لم يعترف به. ولقائل أن يقول على المختار يجوز أن يكون المستدل من أصحاب الطرد فلا يكون باعترافه بالطرد كاذبا. وعلى غير المختار بأن الجزء على ذلك التقدير في المثال هو قوله: من غير كفوء - وذلك بانفراده لا يستلزم شيئا. والحق أن الاحتجاج بمثله غير صحيح مطلقا لأن المقيس عليه إما أن يكون كما إذا زوجت نفسها أو هو مضافا إلى قوله: من غير كفوء - فإن كان الأول كان قياس

9 - القدح في مناسبة الوصف المعلل به

الشيء على نفسه , وإن كان الثاني لم يكن الفرع نظير الأصل وذلك يفسد القياس. وأصحابنا سموا هذا النوع: الاحتجاج بما لا يستقل إلا بوصف يقع الفرق به بين المقيس والمقيس عليه. ونظيره أيضا قول بعض أصحاب الشافعي في مس الذكر إنه حدث لأنه مس الفرج فكان حدثا كما إذا مسه وهو يبول. ص - القدح في المناسبة بما يلزم من مفسدة راجحة أو مساوية. وجوابه بالترجيح تفصيلا وإجمالا كما سبق. ش - الاعتراض التاسع: القدح في مناسبة الوصف المعلل به بأن يبين المعترض اشتمال الوصف المدعى مناسبته للحكم على مفسدة راجحة على المصلحة التي تضمنها أو على مفسدة مساوية للمصلحة. كما مر أن المناسبة تنخرم بالمعارضة. وجوابه بترجيح المصلحة على المفسدة تفصيلا بأن هذا ضروري وذاك حاجي أو بأن إفضاء هذا قطعي أو أكثري وذاك ظني أو أقلي. أو إجمالا بلزوم التعبد لولا اعتبار المصلحة وقد أبطلناه. مثاله: أن يقول في الفسخ في المجلس: وجد سبب الفسخ فيفسخ وذلك دفع ضرر المحتاج إليه من المتعاقدين. فيقال: معارض بضرر الآخر. فيقول الآخر: يجلب نفعا وهذا يدفع ضررا ودفع الضرر أهم للعقلاء ولذلك يدفع كل ضر ولا يجلب كل نفع. ص - القدح في إفضاء الحكم إلى المقصود. كما لو علل حرمة المصاهرة على

التأبيد بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المؤدي الى الفجور. فإذا تأبد " انسد " باب الطمع المفضي إلى مقدما " ت " الهم والنظر المفضية الى ذلك فيقول المعترض: بل سد باب النكاح افضى الى الفجور والنفس مائلة الى الممنوع. وجوابه " التأبيد " يمنع عادة بما ذكرناه فيصير كالطبيعي كالأمهات. ش - الاعتراض العاشر القدح في افضاء الحكم الى ما هو المقصود من شرع الحكم. كما لو علل حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المؤدي إلى الفجور. وبيان ذلك أن ارتفاع الحجاب وملاقات الرجال والنساء يفضي إلى الفجور وأنه يندفع بالتحريم المؤبد إذ به ينسد باب " طمع " النكاح المفضي إلى مقدمات الهم بها والنظر إليها المفضية إلى الفجور فكان انفتاح باب طمع النكاح مفضيا إلى مقدمات الهم بها والنظر إليها وهي مفضية إلى الفجور وبتأبيد التحريم ينسد باب طمع النكاح فتنفي المقدمات الحاصلة منها المفضية الى الفجور. فيقدح المعترض بأن الأمر بالعكس فإن سد باب طمع النكاح بتأبيد التحريم أفضى إلى التحريم لأنه يتحقق المنع من الشارع بسبب حرمة النكاح على التأبيد فإن لنفس الإنسان زيادة ميل إلى ما منع وقوة داعية الشهوة مع اليأس عن الحل مظنة الوقوع في الفجور.

11 - كون العلة وصفا خفيا

وجواب المستدل إنما يكون ببيان الإفضاء فيقول: تأبيد حرمة النكاح يمنع النفس عادة عن مقدمات الهم بها والنظر إليها المفضية إلى الفجور بسبب انسداد باب الطمع فيصير المنع العادي كالمنع الطبيعي كما في الأمهات. ص - كون الوصف خفيا كالرضا والقصد. والخفي لا يعرف الخفي. وجوابه: ضبطه بما يدل عليه من الصيغ والأفعال. ش - الاعتراض الحادي عشر: كون العلة وصفا خفيا لكونه من الأمور الباطنة كتعليل صحة النكاح بالرضا والقصاص بالقصد. فيقول المعترض هذا الوصف خفي لا يطلع عليه وما لا يغرف لا يعرف غيره. والجواب ضبط الوصف بما يقوم مقامه من الأمور الظاهرة كالصيغ الدالة على المقصود في العقود والأفعال الدالة على القصد من استعمال الحديد في المثقل في وجوب القصاص. ص - كونه غير منضبط كالتعليل بالحكم والمقاصد كالحرج والمشقة والزجر فإنها تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال. وجوابه: إما أنه منضبط بنفسه أو بضابط , كضبط الحرج بالسفر ونحوه. ش - الاعتراض الثاني عشر: كون الوصف غير منضبط , كالتعليل بالحكم والمصالح كتعليل رخص السفر بالمشقة فإنها تختلف بحسب الأشخاص والأزمان

13 - النقض

والأحوال وقطع السارق بالزجر فإن من الناس من ينزجر به ومنهم من لا ينزجر فكان تعيين مقدار الزجر مجهولا. وجواب المستدل إما ببيان أن الوصف منضبط بنفسه كما يقول في المشقة والمضرة إنهما منضبطان عرفا وإما بضبطه بوصف كضبط المشقة بالسفر والزجر بالحدود. ص - النقض. كما تقدم. وفي تمكين المعترض من الدلالة على وجود العلة إذا منع. ثالثها: يمكن ما لم يكن حكما شرعيا. ورابعها: ما لم يكن طريق أولى بالقدح. قالوا: لو دل المستدل على وجود العلة بدليل موجود في محل النفض فنقض المعترض فمنع وجودها. فقال المعترض: ينتقض دليلك لم يسمع لأنه انتقل من نقض العلة إلى نقض دليلها. وفيه نظر. أما لو قال يلزمك إما انتقاض علتك أو انتقاض دليلها كان متجها. ولو منع المستدل تخلف الحكم ففي تمكين المعترض من الدلالة. ثالثها يمكن ما لم يكن طريق أولى. والمختار لا يجب الاحتراز من النقض. وثالثها إلا في المستثنيات. لنا: أنه سئل عن الدليل وانتفاء المعارض ليس منه. وأيضا فإنه وارد , وإن احترز اتفاقا. وجوابه ببيان معارض اقتضى نقيض الحكم أو خلافه لمصلحة كالعرايا وضرب الدية أو لدفع مفسدة آكد محل الميتة للمضطر. فإن كان التعليل بظاهر عام حكم بتخصيصه وتقدير المانع كما تقدم.

ش - الاعتراض الثالث عشر: النقض. وهو وجود العلة في صورة مع تخلف الحكم فيها. مثاله ما قال الشافعي في زكاة الحلي: الحلي مال غير نام فلا تجب فيه الزكاة كما في ثياب البذلة. فيقول المعترض هذا منقوض بالحلي الغير المباح فإنه مال غير نام مع وجوب الزكاة فيه. وجوابه إما بمنع وجود العلة في صورة " النقض " وإما بمنع تخلف الحكم فيها. فإذا منع المستدل وجود العلة في صورة النقض فقد اختلفوا في أن المعترض يمكن من الدلالة على وجودها فيها أو لا على أربعة مذاهب: الأول: التمكن مطلقا لأن المنع إنما يتقرر بالدلالة. الثاني: عدمه مطلقا لأنه غصب. الثالث: تمكنه في الحكم العقلي لأنه يقدح فيه دون الفرعي لأنه غير مقيد. فإن المعترض بعد بيان وجود العلة في صورة النقض يقول له المستدل يجوز أن يكون

تخلف الحكم لوجود مانع أو انتفاء شرط فيجب الحمل عليه جمعا بين دليل الاستنباط ودليل التخلف فلا يبطل العلة بخلاف الحكم العقلي فإنه لا يجوز ذلك فيه وهذا بناء على جواز تخصيص العلة الشرعية وعدمه. الرابع: تمكنه إن لم يكن للمعترض طريق آخر أولى بالقدح من النقض تحقيقا لفائدة المناظرة وأن كان له ذلك فلا يتمكن. وقال أهل النظر إذ استدل على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في صورة النقض فنقض المعترض العلة ومنع المستدل وجودها فيها. فقال المعترض ينتقض دليلك حينئذ لأنه موجود في محل النقض والعلة فيه غير موجودة لم يسمع لأنه انتقال من نقض العلة إلى نقض الدليل. وذلك كقول الحنفي في صوم لم ينو من الليل إنه يجوز لأنه أتى بمسمى الصوم فيصح كما في محل الوفاق وهو ما إذا بيتها. واستدل على وجود العلة بأن الصوم إمساك عن المفطرات مع النية نهارا وقد وجد في محل النزاع. فيقول المعترض تنتقض العلة بما إذا نوى بعد الزوال فيقول المستدل لا نسلم وجود العلة في تلك الصورة. فيقول المعترض ينتقض دليلك الذي ذكرته على وجودها في محل التعليل. قيل في بيانه: لأن المعترض في معرض القدح في العلة فتارة يقدح فيها وتارة يقدح في دليلها والانتقال من القدح في العلة إلى القدح في دليلها جائز للاستلزام بينهما. هذا إذا ادعى انتفاض دليل العلية معينا وأما ادعى أحد الأمرين فقال: يلزم إما انتقاض العلة أو انتفاء دليلها وأيا ما كان لا تثبت به العلية فإنه مسموع بالاتفاق لأنه إن اعتقد وجود العلة في صورة النقض انتقضت العلة وإن اعتقد عدم العلة فيها انتقض الدليل فكان كلاما متجها. وأما إذا منع المستدل تخلف الحكم في صورة النقض فقد اختلفوا أيضا في

تمكن المعترض من الدلالة على تخلف الحكم في صورة النقض على ثلاثة مذاهب: التمكن مطلقا وعدمه كذلك , والتفصيل بأنه إن لم يكن له طريق أولى من النقض يمكن وإلا فلا. ودلائلها ما مر. ومثاله ما قال الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة: ثيب فلا تجبر كالثيب الكبيرة. فيقول المعترض ينتقض بالثيب المجنونة. فيقول المستدل لا نسلم إجبارها. وقد اختلفوا أيضا في وجوب احتراز المستدل في دليله عن النقض بذكر قيد صورة النقض على ثلاثة مذاهب: الأول: وهو المختار عدم وجوبه. والثاني: وجوبه لقربه من الضبط.

والثالث: وجوبه إلا إذا كان النقض " ما " ورد بطريق الاستثناء. واحتج على المختار بوجهين: الأول: أن المطلوب من المعلل الدليل وانتفاء المعارض ليس إياه ولا جزءا منه فلا يكون مطلوبا. والثاني: ما توجهه أن يقال: إما أن يكون حاصلا في نفس الأمر أو لا فإن كان الثاني تم الدليل وإن لم يكن يتعرض لانتفاء المعارض , وإن كان الأول فالنقض وارد , وإن احترز عنه لفظا بالاتفاق. هذا كله إذا أمكن دفع النقض بمنع وجود العلة في محل النقض أو بمنع تخلف الحكم عنه. وأما إذا لم يمكن فجوابه ببيان التعارض: اقتضى في صورة النقض نقيض الحكم كعدم الوجوب للوجوب أو خلافه كالحرمة للوجوب لمصلحة أولى لولا الاستثناء لغائب كالعرايا إذا نقض بها علية الطعم في الربويات فإن وجود المعارض وهو الدليل الخاص اقتضى نقيض حكم الربويات فيها لأجل مصلحة هي وصول من لا يملك إلا التمر إلى قضاء شهوته من الرطب في وقت الحاجة وعمومها. وكإيجاب الدية على العاقلة إذا نقض به عليه البراءة الموجبة لعدم المؤاخذة فإن المصلحة الخاصة لأولياء القتيل بضرب الدية على العاقلة تقتضي خلاف حكم الجنايات فيها. أو لدفع مفسدة آكد كحل الميتة للمضطر إن نقض به علية أن النجاسة محرمة فإن مفسدة الهلاك أعظم من مفسدة تناول النجاسة. هذا إذا كانت العلة مستنبطة. أما إذا كان التعليل بنص ظاهر عام حكم بتخصيصه إذا انتقضت العلة وفقد مانع

14 - الكسر

في صورة النقض إن لم يتحقق المانع كما تقدم. ص - الكسر وهو نقض المعنى والكلام فيه كالنقض. ش - الاعتراض الرابع عشر: الكسر وهو نقض المعنى أي الحكمة المقصودة والكلام فيه كالكلام في النقض وحاصله وجود المعنى في صورة مع عدم الحكم فيه وقد علمت أنه يسمع أو لا. ومتى يسمع فحيث يسمع كان كالنقض في الأجوبة المذكورة والكلام عليها سؤالا وجوابا , اختلافا واختيارا. ومثاله ما هو من الرخص للسفر لحكمة المشقة فيكسر بالحال. ص - المعارضة في الأصل بمعنى آخر , إما مستقل كمعارضة الطعم بالكيل أو القوت. أو غير مستقل كمعارضة القتل العمد العدوان بالجارح. والمختار. قبولها. لنا: لو لم تكن مقبولة لم يمنع التحكم لأن المدعى علة ليس بأولى بالجزئية أو بالاستقلال من وصف المعارضة. فإن رجح بالتوسعة منع الدلالة. ولو سلم عورض بأن الأصل انتفاء الأحكام. وباعتبارهما معا. وأيضا فلما ثبت أن مباحث الصحابة كانت جمعا وفرقا. قالوا: استقلالهما بالمناسبة يستلزم التعدد. قلنا: تحكم باطل كما لو أعطى قريباً عالماً.

ش - الاعتراض الخامس عشر: المعارضة في الأصل بمعنى آخر غير ما علل به المستدل إما مستقل بالتعليل كما إذا علل المستدل الحكم بمعنى وأثبته بطريق وأبدى المعارض وصفا آخر في الأصل وأثبت عليته بطريقه. كمن علل حرمة الربا في البر بالطعم فعارضه آخر بالقوت أو بالكيل. وإما غير مستقل بالتعليل كما إذا علل المستدل بوصف وأثبته بطريق وأبدى المعارض وصفا آخر في الأصل وأثبت كونه جزءا من العلة في الأصل. كمعارضة من علل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل على أن يكون وصف الجرح جزءا من العلة في الأصل.

واختلف في قبول هذا القسم. واختار المصنف قبوله محتجا عليه بوجهين: أحدهما: أنه لو لم يكن مقبولا لم يكن التحكم باطلا لكنه باطل بالاتفاق وذلك لأن دليل المستدل يدل على علية الوصف المدعى علة بالاستقلال ودليل المعترض على أنه جزء العلة ففي قبولهما جمع بين المتنافيين وفي عدمه إهمال الدليلين وفي قبول أحدهما دون الآخر تحكم. وهذا التقرير واضح لبيان المسألة ولكنه غير مطابق لكلام المصنف ظاهرا لأنه قال: لأن المدعى علة ليس بأولى بالجزئية أو بالاستقلال من وصف المعارضة وذكر في بعض الشروح في بيان الملازمة أن الوصف المبدى في الصورة الأولى يصلح للاستقلال والجزئية كالوصف المدعى علة والمبدى في الصورة الثانية يصلح جزءا للعلة كما يصلح الوصف المدعى علة وكان الحكم باستقلال المدعى أو جزئه دون المبدى تحكما وعلى هذا يكون قوله: من وصف المعارضة يخدم الجزئية والاستقلال فإن رجح المستدل استقلال وصفه على جزئيه بالتوسعة في الأحكام بناء على أنه إذا استقل ووجد في الفرع ثبت الحكم فيه واتسع في الأصل والفرع جمعيا كالقتل العمد العدوان فإنه إذا استقل علة وجد في الأصل وهو القتل بالجارح وفي الفرع وهو القتل بالمثقل فثبت الحكم فيهما فكان أكثر فائدة فكان أرجح بخلاف ما إذا كان جزء علة ويتم بوصف الجارح فإنه لا يوجد في القتل بالمثقل فلا يثبت الحكم فيه.

فللمعترض أن يمنع دلالة الاستقلال على التوسعة ويستند بأن الاستدلال على الاستقلال بالتوسعة يستلزم الدور ولو سلم دلالة الاستقلال على التوسعة عورض برجحان الجزئية بوجهين: أحدهما: أن الجزئية توافق الأصل لأن الأصل عدم الأحكام وبالجزئية يعدم الحكم في الفرع وما يوافق الأصل أرجح. وثانيهما: أن الجزئية توجب اعتبار وصف المستدل واعتبار وصف المعارض واعتبار الوصفين أولى من إهمال أحدهما. والثاني: ما ثبت أن مباحث الصحابة - رضي الله عنهم - كانت جمعا وفرقا ثبت ذلك عنهم بالنقل وذلك دليل على قبول المعارضة بكون المدعى علة غير مستقلة بالعلية لأن الفرق إنما يتحقق بكون ما جعل المستدل علة جزء علة. وقالوا يعني المانعين من قبول هذه المعارضة لو قبل هذه المعارضة للزم استقلال كل من وصفي المستدل والمعارض بالعلية. وذلك يستلزم تعدد العلة المستقلة وهو باطل. وأجاب بأنه لو لم تقبل لزم إسناد الحكم إلى أحد الوصفين دون الآخر مع قيام الدليل على علية كل وهو تحكم كما لو أعطى قريبا عالما فإن إسناده إلى القرب أو العلم تحكم يجب أن يسند إلى مجموعهما وعلى هذا لم يوجب القبول الاستقلال لجواز الإسناد إلى المجموع. ص - وفي لزوم بيان نفي الوصف عن الفرع , ثالثها إن صرح لزم. لنا: أنه إذا لم يصرح فقد أتى بما لا ينتهض معه الدليل. فإن صرح لزم الوفاء بما صرح. والمختار لا يحتاج إلى أصل لأن حاصله نفي الحكم لعدم العلة أو صد المستدل عن التعليل بذلك.

- إذا أبدى المعترض وصفا وادعى أنه هو العلة في الأصل هل يلزمه بيان انتفائه في الفرع أو لا؟

وأيضاً: فأصل المستدل أصله. ش - هذا بحث مرتب على قبول المعارضة وهو أن المعترض إذا أبدى وصفا وادعى أنه هو العلة في الأصل هل يلزمه بيان انتفائه في الفرع أو لا؟ فقيل: يلزمه مطلقا لتنفعه " دعوى عليته " فإنه لو لم ينتف في الفرع لثبت الحكم فيه وحصل مطلوب المستدل وهو ثبوت الحكم فيه. وقيل: لا يلزمه لأن غرضه هدم استقلال ما ادعى المستدل استقلاله وهو يحصل بمجرد ابدائه. وقيل: إن تعرض لانتفائه فيه صريحا لزمه وإلا فلا وهو المختار عند المصنف. أما الثاني فلأنه قد أتى بما لا يتم الدليل معه وهو غرضه لا بيان عدم الحكم في الفرع حتى لو ثبت بدليل آخر لم يكن إلزاما له وربما سلمه. وأما الأول فلأنه التزم أمرا وإن لم يجب عليه ابتداء من التزم سببا يجب الوفاء به. وفيه نظر لأنه غصب حيث يكون مستدلا بعدما كان معترضا. واختلفوا أيضا في أن المعارض هل يحتاج إلى أصل يشهد لوصفه بالاعتبار؟ والمختار عند المصنف عدمه لأن حاصل سؤال أحد الأمرين نفي حكم الفرع

- أجوبة المعارضة

لعدم العلة كنفي وجوب القصاص في القتل بالمثقل لعدم العلة التي هي القتل العمد العدوان بالجارح أو صد المستدل عن التعليل بما يجعله علة وهما لا يحتاجان إلى أصل. وأيضا فأصل المستدل أصله لأنه كما يشهد باعتبار وصف المستدل يشهد لاعتبار وصفه. ص - وجواب المعارضة إما بمنع وجود الوصف أو المطالبة بتأثيره إن كان مثبتا بالمناسبة أو الشبه لا بالسبر. أو بخفائه أو عدم انضباطه أو منع ظهور أو انضباطه أو بيان أنه عدم معارض في الفرع. مثل المكره على المختار بجامع القتل. فيعترض بالطواعية. فيجيب بأنه عدم الإكراه المناسب نقيض الحكم. وذلك طرد. أو يبين كونه ملغى. أو يبين استقلال ما عداه في صورة بظاهر أو إجماع. مثل: " لا تبيعوا الطعام بالطعام " في معارضة المطعوم بالكيل. ومثل: " من بدل دينه فاقتلوه " في معارضة التبديل بالكفر بعد الإيمان , غير متعرض للتعميم. ش - إذا ظهر أن المعارضة في الأصل " فالجواب عنها من وجوه " ومنها

أن يطالب المعترض بتأثير وصف المعارضة إن كان أثبته المعارض بالمناسبة أو الشبه لاحتياجه في المعارضة إلى المعارضة إلى بيان مناسبة أو شبه بخلاف ما إذا أثبته بالسبر فإن الوصف يدخل في السبر بدون ثبوت المناسبة بمجرد الاحتمال. نظير ذلك ما إذا عارض القوت بالكيل فيقول: لا نسلم أنه مكيل لأن العادة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - معتبرة وكان فيه موزونا. وأن يقول: سلمنا أنه مكيل لكن لا نسلم أن الكيل مؤثر. ومنها أن يبين خفاءه. ومنها أن يبين عدم انضباطه. ومنها منع ظهوره. ومنها منع انضباطه لما علمت أن الظهور والانضباط شرط في الوصف المعلل به فلا بد في دعوى العلية من بيانهما. وللمانع عهما أن يبين عدمهما ويطالب ببيان وجودها. ومنها بيان أن وصف المعارضة عدم معارض في الفرع وعدم المعارض فيه لا يكون علة ولا جزءها بل هو طرد لا يصلح للتعليل لأنه ليس من باب الباعث. مثاله: قياس المكره على المختار في وجوب القصاص بجامع القتل العمد العدوان. فيقول المعترض ليست العلة ذلك وحده بل هي ذلك مع الطواعية. فيجيب المستدل بأن الطواعية لا تصلح علة ولا جزءها لأنها عبارة عن عدم معارض في الفرع لأنها عدم الإكراه مناسب لعدم وجوب القصاص الذي هو نقيض وجوب القصاص فيكون الإكراه معارضا في الفرع الذي هو المكره لكونه مناسبا لعدم وجوب القصاص الذي هو نقيض الحكم فيكون عدم الإكراه الذي هو الطواعية عدم معارض في الفرع فلا يكون جزء علة. ومنها أن يبين كون وصف المعارضة لا مدخل له في العلية.

ومنها أن يبين استقلال الوصف المدعى علة في صورة بظاهر نص أو إجماع. مثل إذا علل المستدل حرمة الربا بالطعم. فيعترض المعترض بالكيل. فيبين المستدل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تبيعوا الطعام بالطعام " وهو ظاهر في كون الطعم مستقلا بالعلية. ومثل ما إذا تهود نصراني أو تنصر يهودي. فيقول المستدل بدل دينه فيقتل كالمرتد. فيعارض المعترض بأن الوصف في الأصل كفر بعد الإيمان لا مطلق التبديل. فيجيب المستدل بأن التبديل معتبر في صورة ما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من بدل دينه فاقتلوه ". وليس على المستدل عند بيان استقلال ما عدا وصف المعارضة التعرض للتعميم أي التعرض لثبوت الحكم في جميع صور وجود الوصف فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب كاف في الدلالة على العلية ولو في صورة ما. وقيل يجب أن لا يتعرض للتعميم فإن تعرض فقال: فثبت ربوية كل مطعوم , أو اعتبار كل تبديل للحديث. لا يسمع لأن ذلك إثبات الحكم بالنص لا بالقياس فكان القياس ضائعا ولا يضر عمومه إذا لم يتعرض للتعميم ولم يستدل به. فقوله: غير متعرض - حال عن المستدل , والعامل فيه: يبين. وتنطبق علية القتل المذكور. ص - ولا يكفي إثبات الحكم في صورة دونه لجواز علة أخرى وكذلك لو أبدى أمرا آخر يخلف ما ألغى - فسد الإلغاء ويسمى تعدد الوضع لتعدد أصلها. مثل: أمان من مسلم عاقل فيصح كالحر لأنهما مظنتان لإظهار مصالح الإيمان.

- لا يكفي إثبات الحكم في صورة بدون وصف المعارضة

فيعترض بالحرية. فإنها مظنة الفراغ للنظر فيكون أكمل. فيلغيها بالمأذون له في القتال. فيقول: خلف الإذن الحرية مظنة البذل لوسع أو لعلم السيد بصلاحيته. وجوابه الإلغاء إلى أن يقف أحدهما. ولا يقبل الإلغاء بضعف المعنى مع تسليم المظنة. كما لو اعترض في الردة بالرجولية. فإنها مظنة الإقدام على القتال فيلغيها بالمقطوع اليدين. ش - ولا يكفي في بيان استقلال وصف المستدل إثبات الحكم في صورة بدون وصف المعارضة لجواز وجود علة أخرى غير وصف المستدل يثبت بها الحكم فلا يلزم استقلالا. وكذلك لو أبدى المعترض أمرا تخلف ما ألغاه المستدل بثبوت الحكم دونه فسد إلغاؤه ويسمى أي فساد الإلغاء على الوجه المذكور تعدد الوضع لتعدد أصل العلة فإن المعترض أثبت علية وصف المعارضة أولا فلما ألغاه المستدل أثبت علية وصف آخر. نظيره أمان العبد المسلم لكافر.

يقول المستدل: أمان من مسلم عاقل فيصح قياسا على أمان الحر لأن الإسلام والعقل مظنتان لإظهار مصالح الإيمان فيصح تعليل صحة الأمان بهما. فيعترض بالحرية فإنها مظنة الفراغ للنظر في المالح فيكون الحر أكمل حالا من العبد في النظر في المصالح فيكون للحرية مدخل في صحة الأمان فيلغي المستدل الحرية بالعبد المأذون له بالقتال فإن أمانه صحيح والحرية منتفية. فيقول المعترض الإذن خلف الحرية أي قام مقامها , إما لأنه مظنة بذل الوسع في النظر أو مظنة علم السيد بصلاحية العبد لإعطاء الأمان. وجواب فساد الإلغاء الإلغاء إلى أن يقف المستدل بأن يثبت المعترض وصفا لم يتمكن المستدل من إلغائه أو المعترض بأن يلغي المستدل وصف المعترض بحيث لا يكون ثمة ما يقوم مقام " المغلي ". ولو سلم المستدل كون وصف المعارضة مظنة الحكم المختلف لم يفد بيان الإلغاء بضعف الحكمة في صورة لأن ضعفها في صورة لا يخل بالعلية كما إذا قيس المرتدة على المرتد في إباحة القتل بجامع الردة. فيعترض بالرجولية لكونها مظنة الإقدام على الحراب فيلغي المستدل الرجولية بمقطوع اليدين فإنها فيه ضعيفة مع جواز قتله. فإن هذا غير مسموع منه لأنه سلم أن الرجولية مظنة اعتبرها الشرع وذلك كترفه الملك في السفر لا يمنع رخصة السفر في حقه لعلة المشقة لأن المعتبر هو المظنة وقد وجدت لأن مقدار الحكمة لعدم انضباطها.

- لا يكفي رجحان المعين ولا كونه متعديا لاحتمال الجزئية

ص - ولا يكفي رجحان المعين ولا كونه متعديا لاحتمال الجزئية فيجئ التحكم والتصحيح جواز تعدد الأصول لقوة الظن به. وفي جواز اقتصار المعارضة على أصل واحد قولان. وعلى الجميع في جواز اقتصار المستدل على أصل واحد قولان. ش - إذا عارض المعترض الوصف المعلل به في الأصل فترجيح المستدل وصفه الذي عينه للعلية على وصف المعترض بجهة من جهات الترجيح أو بيان كون وصفه متعديا دون وصف المعترض ليس بكاف في بيان استقلال وصف. أما الأول: فلبقاء احتمال الجزئية فإن بعض الأجزاء يجوز أن يكون مرجحا على بعض كالقتل العمد العدوان بالجارح فإن الجارح في التأثير أرجح من غيره لأنه متفق عليه وقد يوجد العمد ولا يقتص ثم القتل أرجح من الباقيين. وأما الثاني: فلأن الوصف المتعدي إن ترجح من جهة الاتساع فالقاصر ترجح من جهة موافقة الأصل فإن الأصل عدم الأحكام. ولو سلم رجحان المتعدي لم يستلزم الاستقلال لاحتمال الجزئية كما مر. وإذا كان ذلك محتملا كان الحكم بكون وصف المستدل مستقلا دون المعترض تحكما باطلا. واختلف الجدليون في جواز تعدد أصول المستدل. فقيل لا يجوز لأن

16 - التركيب

مقصوده الظن وهو يحصل به فالزيادة لغو. والصحيح جوازه لأن الظن يقوى به وقوته مقصودة كأصله. وإذا جاز تعددها جاز أن يقتصر المعترض في المعارضة على أصل واحد ولا يتعرض لغيره في قول , وفي آخر لا يجوز. وجه الأول أن إبطال جزء من كلامه يبطل كلامه. ووجه الثاني أنه لو سلم له أصل كفاه في مقصوده فلا بد من إبطال الجميع. وعلى تقدير وجوب المعارضة في جميع الأصول فقد اختلفوا في جواز اقتصار المستدل على أصل واحد في جواب المعارضة فمنهم من جوز لحصول مقصود المستدل به ومنهم من منع لأن المستدل التزم صحة قياسه على جميع الأصول فإذا عورض في الجميع يجب الدفع عن الجميع. ص - التركيب: تقدم. ش - الاعتراض السادس عشر: سؤال التركيب. وقد تقدم فيما مر أن شرط حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس مركب. وأنه قسمان مركب الأصل ومركب الوصف وأن مرجع أحدهما منع حكم الأصل أو منع العلية ومرجع الآخر منع الحكم أو منع وجود العلة في الفرع فليس بالحقيقة سؤالا برأسه وقد تقدم الأمثلة أيضا فلا حاجة إلى الإعادة. ص - التعدية. وتمثيلها في إجبار البكر البالغة: بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة. فيعارض بالصغر وتعدية إلى الثيب الصغيرة يرجع به إلى المعارضة في الأصل.

17 - التعدية

ش - الاعتراض السابع عشر: التعدية. وهي معارضة المعترض وصف المستدل بوصف آخر متعد إلى فرع آخر مختلف فيه أيضا. مثالها قول الشافعي في إجبار البكر البالغة: البكر البالغة بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة. فيعارض المعترض بالصغر ويقول: البكارة وإن تعدت إلى البالغة فالصغر يتعدى إلى الثيب الصغيرة. فالمعترض يرجع بهذا الاعتراض إلى المعارضة في الأصل لوصف آخر غير البكارة وهو الصفر مع زيادة تعرض للتساوي في التعدية دفعا لترجيح الوصف المعين بالتعدية فلا يكون سؤالا آخر. ص - منع وجوده في الفرع. مثل: أمان صدر من أهله كالمأذون فيمنع الأهلية. ز جوابه ببيان وجود ما عناه بالأهلية كجواب منعه في الأصل. والصحيح منع السائل من تقريره لأن المستدل مدع فعليه إثباته لئلا ينتشر. ش - الاعتراض الثامن عشر: منع وجود الوصف الذي جعله المستدل علة في الفرع. وهو أن يقول لا نسلم وجود الوصف المعلل به في الفرع.

19 - المعارضة في الفرع

ومثاله: قول الفقهاء في أمان العبد الغير المأذون أمان صدر من أهله فيصح قياسا على أمان العبد المأذون فيمنع المعترض وجود الأهلية في الفرع وهو العبد الغير مأذون. وجواب هذا الاعتراض ببيان ما عناه المستدل بالأهلية كجواب منع وجود الوصف المدعى علة في الأصل فإنه أيضا ببيان وجود الوصف في الأصل. فإن تعرض المعترض لبيان الأهلية ليبين عدمها في الفرع فالصحيح أنه لا يمكن من ذلك لأن تفسيرها وظيفة من تلفظ لأنه أعلم بمراده فيتولاه لئلا ينتشر الجدال. ص - المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحكم على نحو إثبات العلة. طرق إثبات العلة. " والمختار " قبول الترجيح أيضا فيتعين العمل وهو المقصود. والمختار: لا يجب الإيماء إلى الترجيح في الدليل لأنه خارج عنه وتوقف العمل عليه من توابع ورود المعارضة لدفعها , لا أنه منه. ش - الاعتراض التاسع عشر: المعارضة في الفرع بوصف يقتضي نقيض المدعى على وجه يكون مستندا إلى طريق من طرق إثبات العلة التي يثبت المستدل علته فيصير مستدلا. واختلفوا في قبولها. والمختار قبولها لئلا تختل فائدة المناظرة فإنها من

جانب المستدل إثبات الحكم ولا يثبت ما لم يعلم عدم المعارض , ومن جانب السائل رد ما ذهب إليه المستدل فلو لم تقبل لاختلت. وفيه نظر لأنها قد تقوم بغيرها من الاعتراضات. قال المانعون: قبوله يفضي إلي قلب التناظر بأن يصير المستدل سائلا والسائل مستدلا وهو خروج عما قصداه من معرفة صحة نظر المستدل في دليله إلى أمر آخر وهو معرفة صحة نظر المعترض في دليله والمستدل لا تعلق له بذلك ولا عليه أن يتم نظره أو لا وأجاب المصنف بأن المقصود هدم ما بناه المستدل وهو حاصل ولا حجر على المعترض في سلوك طريق الهدم. والحق جوازه لكنه ضعيف لأنه التزام وصف الخصم والتصدي للجواب عما يتوجه على المستدل من أنواع الاعتراضات. فإن جواب هذا الاعتراض بما يعترض به على المستدل ابتداء لصيرورته مستدلا. واختلفوا في قبول ترجيح ما ذكره المستدل على ما ذكره المعترض. والمختار قبوله فإنه يتعين بالترجيح العمل بما ذكره المستدل وهو المقصود. وقد اختلف أيضا في وجوب الإيماء إلى الترجيح على المستدل عند الاستدلال. والمختار عدمه. وجه الوجوب أن الترجيح شرط العمل به فلا يثبت الحكم بدونه فكان كجزء العلة. ووجه المختار ما ذكره أن الترجيح خارج عن الدليل فلا يكون التعرض له واجباً.

20 - الفرق

فإن قيل لا نسلم خروجه عن الدليل لتوقف العمل به عليه والخارج لا يتوقف عليه العمل. أجاب بأن توقف العمل بالدليل على الترجيح من توابع ورود المعارضة لدفع المعارضة بالترجيح فيبقى الدليل معمولا به لأن الترجيح من أجزاء الدليل. قال شيخي العلامة: إن توقف العمل بالدليل على الترجيح إنما هو لأجل ورود المعارضة لا لأن الترجيح جزء منه. وأقول الظاهر أن السؤال ساقط لا يستحق الجواب لأن العمل بالدليل متوقف على الترجيح لا الدليل والعمل به ليس عينه ولا جزءه. ص - الفرق وهو راجع إلى إحدى المعارضتين وإليهما معا على قول. ش - الاعتراض العشرون: هو الفرق. وهو جعل أمر مخصوص بالأصل علة للحكم أو أمر مخصوص بالفرع مانعا عنه. والأول معارضة في الأصل , والثاني في الفرع. فلهذا قال راجع إلى إحدى المعارضتين.

وجواب كل منهما قد سبق. وقيل هو راجع إلى المعارضتين معا. وإليه أشار بقوله: وإليهما معا على قول. وقيل في بيانه: الفرق إبداء خصوصية في الأصل هو شرط. وله أن لا يتعرض لعدمها في الفرع فيكون معارضة في الأصل أو إبداء خصوصية " في الفرع " هو مانع. وله أن لا يتعرض لعدمها في الأصل فيكون معارضة في الفرع. وعلى قول لا بد من التعرض لعدم الشرط في الفرع وعدم المانع في الأصل فيكون مجموع المعارضتين. ص - اختلاف الضابط في الأصل والفرع مثل: تسببوا بالشهادة , فوجب القصاص كالمكره. فيقال: الضابط في الفرع الشهادة وفي الأصل الإكراه فلا يتحقق التساوي. وجوابه أن الجامع ما اشتركا فيه من التسبب المضبوط عرفا. أو بأن إفضاءه في الفرع مثله أو أرجح كما لو كان أصله المغري للحيوان فإن انبعاث الأولياء على "القتل " طلبا للتشفي أغلب من انبعاث الحيوان بالإغراء بسبب نفرته وعدم علمه فلا

21 - اختلاف الضابط في الأصل والفرع

يضر اختلاف أصلي التسبب فإنه اختلاف فرع وأصل. كما يقاس الإرث في طلاق المريض على القاتل في منع الإرث. ولا يفيد أن التفاوت فيهما ملغى لحفظ النفس كما ألغي التفاوت بين قطع الأنملة وقطع الرقبة. فإنه لم يلزم من إلغاء العالم إلغاء الحر. ش - الاعتراض الحادي والعشرون: اختلاف الضابط في الأصل والفرع إذا قال المستدل على قتل شهود الزور الذين قتل بشهادتهم المشهود عليه: تسببوا للقتل فيقتص منهم كالمكره. فيقول المعترض الضباط مختلف فيه إذ هو في الأصل الإكراه وفي الفرع الشهادة فلا تساوي بينهما في الضابط والتساوي بينهما من شروط القياس. وجوابه بوجهين: أحدهما: أن الجامع بينهما هو التسبب إلى القتل وهو مضبوط عرفا ومشترك بين الإكراه والشهادة. والثاني: ببيان أن اقتضاء الضابط في الفرع مثل اقتضائه في الأصل أو أرجح منه. كما لو كان أصل القياس المغري للحيوان على القتل بجامع تسببهما إلى القتل فإن اقتضاء الضابط في الفرع أرجح فإن انبعاث الأولياء على القتل بسبب الشهادة طلبا للتشفي أرجح من انبعاث الحيوان بالإغراء لنفرة فيه من الإنسان مانعة من الانبعاث. ولعدم علمه بجواز القتل وعدمه فإنه يمنعه عن الانبعاث.

22 - اختلاف جنس المصلحة

وفيه نظر لأن عدم العلم لا يمنعه ولا يزيده انبعاثا. وإذا كان التسبب في الفرع مثله في الأصل أو راجحا لم يضر اختلاف أصلي التسبب وهو كونه شهادة وإكراها فإن اختلاف أصلي التسبب اختلاف أصل وفرع فإنه قيس أصل التسبب في الفرع الذي هو الشهادة على أصل التسبب في الأصل الذي هو الإغراء والجامع كون كل منهما سببا للقتل. والاختلاف بين الأصل والفرع لا بد منه في القياس وذلك كما يقاس إرث المبتوتة في مرض الموت على حرمان القاتل عن الإرث بجامع ارتكاب أمر محرم. فكما جعل القتل موجبا لنقيض المقصود وجعل الطلاق أيضا موجبا لنقيض المقصود وإن كانا مختلفين , تجعل الشهادة والإغراء أيضا موجبين للقصاص فإن الاختلاف بين الشهادة والإكراه كالاختلاف بين الطلاق والقتل. فإن أجاب المستدل عن هذا الاختلاف بأن التفاوت بين ضابط الأصل وضابط الفرع ملغى مراعاة لحفظ النفس الضروري كالتفاوت بين قطع الأنملة إذا سرى إلى الموت وبين حز الرقبة الموجب للقصاص فإنه يلغى لم يمنع عن قياس الأول على الثاني. قال المصنف: لا يفيده لأن الإلغاء في صورة لا توجب الإلغاء في جميع الصور ألا ترى أن إلغاء التفاوت بين العبد والحر في وجوب القصاص. ص - اختلاف جنس المصلحة كقول الشافعي أولج فرجا في فرج مشتهي طبعا محرم شرعا فيحد كالزاني. فيقال: حكمة الفرع: الصيانة عن رذيلة اللواط , وفي الأصل: دفع المحذور اختلاط الأنساب. فقد يتفاوتان في نظر الشرع. وحاصله معارضة. وجوابه كجوابه بحذف خصوص الأصل.

23 - مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل

ش - الاعتراض الثاني والعشرون: اختلاف جنس المصلحة كقول الشافعي. أولج اللائط فرجا في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا فيحد كالزاني. فيقول المعترض: حكمة الفرع صيانة النفس عن رذيلة اللواط , وحكمة الأصل دفع محذور اختلاط الأنساب المفضي إلى هلاك الأولاد بعدم متعهدها. وهما مختلفان لا محالة. وجاز أن يعتبر الشارع الثاني دون الأول. وحاصلة معارضة في الأصل لأن المستدل جعل علة الحكم وصفا موجودا في الأصل والفرع جميعا والمعترض جعلها وصفا مشتملا على حكمة مخصوصة بالأصل. فجوابه جواب المعارضة بأن يحذف المخصوص بالأصل عن الاعتبار. ص - مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل كالبيع على النكاح وعكسه. وجوابه ببيان أن الاختلاف راجع إلى المحل الذي اختلافه شرط لا في الحكم. ش - الاعتراض الثالث والعشرون: مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل كقياس البيع على النكاح في الصحة وعكسه. مثل أن يقال في صحة بين الغائب: عقد على مال فيصح كالنكاح. فيقول المعترض: حكم الفرع ملك الرقبة , وحكم الأصل ملك المنفعة وهما متخالفان قطعا , فيجوز أن يجوز الثاني لأنه يثبت بالشبهات دون الأول , وعكسه في عدم الصحة نظير عكسه. وجوابه ببيان أن هذا الاختلاف راجع إلى المحل الذي اختلافه شرط في القياس

20 - القلب

فإن محل الحكم الأصل والفرع فلا بد من اختلافهما في القياس وليس الاختلاف في نفس الحكم وهو الصحة أو عدمها ولا في البيان الذي هو الجامع وهو العقد على مال. ص - القلب. قلب لتصحيح مذهبه. وقلب لإبطال مذهب المستدل صريحا. وقلب بالالتزام. الأول: لبث فلا يكون قربة بنفسه , كالوقوف بعرفة. فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم , كالوقوف بعرفة. الثاني: عضو وضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق , كغيره. فيقول الشافعي: فلا يتقدر بالربع. الثالث: عقد معارضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح. فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه خيار الرؤية لأن من قال بالصحة قال بخيار الرؤية. فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. والحق أنه " نوع معارضة " اشترك فيه الأصل والجامع فكان أولى بالقبول. ش - الاعتراض الرابع والعشرون: القلب. وهو تعليق نقيض الحكم

المذكور أو لازم نقيضه على العلة المذكورة إلحاقا بالأصل المذكور. وله أقسام. وقد ذكر المصنف أشهرها وهو ثلاثة: الأول: ما يذكره المعترض لتصحيح مذهبه. كقول الحنفي في أن الصوم شرط الاعتكاف: الاعتكاف لبث فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة فلا بد من انضمام عبادة أخرى إليه لتحصل به قربة. وفيه نظر لأن غايته الدلالة على ضم عبادة لا على الصوم وهو المطلوب. فيقول الشافعي: الاعتكاف لبث فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة. فقد صحح المعترض بهذا القلب مذهبه وهو أن الصوم ليس بشرط فيه.

وفيه نظر لأنه يخرج الاعتكاف عن كونه قربة مطلقا لأنه ليس بقربة بنفسه ولا بشيء ينضم إليه لكنه قربة بالإجماع وفيه تأمل. والثاني: ما يذكره لإبطال مذهب المستدل صريحا كقول الحنفي في مسح الرأس: عضو من أعضاء الوضوء فلا يكتفى فيه بأقل ما ينطلق اسم المسح كغيره من أعضاء الوضوء وإذا بطل الأقل ثبت الربع لأن ما عاداه باطل باتفاق الخصمين. فيقول الشافعي الرأس عضو من أعضاء الوضوء فلا يقدر بالربع كغيره من أعضاء الوضوء. أبطل به مذهب المستدل صريحا. وفيه نظر لأن حكم قياس المستدل عدم الاكتفاء بأقل ما ينطلق عليه اسم المسح وحكم القلب عدم التقدير بالربع وليس نقيضا للأول وهو ظاهر ولا لازم نقيضه لجواز أن يكون مسح الكل فرضا كما ذهب إليه مالك أو لأن الربع ثبت بدليل آخر بعد تمام القياس لدفع الأقل. والثالث: ما يذكره لإبطال مذهبه بالالتزام كقول الحنفي في صحة بيع الغائب عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح. فيقول الشافعي: بيع الغائب عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح. واشترط الخيار لازم لصحة بيع الغائب فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.

20 - القول بالموجب

أبطل به مذهب المستدل بالالتزام لا بالصريح. وفيه نظر لأن الحنفي يقول نعم القياس يقتضي ذلك لكن الخيار ثبت بالنص على خلاف القياس فكان استحسانا بالأثر. قال المصنف. والحق أن القلب نوع معارضة فإنه يوجب نقيض الحكم إلا أنه وجب فيه أن يكون الأصل والجامع والفرع ما جعله المستدل أصلا وفرعا وجامعا فكان أولى بالقبول من معارضة لا تكون كذلك لأن الاشتراك فيها أبلغ في المناقضة ما لم يكن كذلك لأنه يمنع المستدل من ترجيح أصله أو جامعه على أصل الغالب وجامعه للاتحاد بخلاف غيره. ص - القول بالموجب. وحقيقته تسليم الدليل مع بقاء النزاع. وهو ثلاثة: الأول: أن يستنتجه ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه. مثل: قتل بما يقتل

غالبا فلا ينافي وجوب القصاص كحرقه. فيرد. بأن عدم المنافاة ليس محل النزاع ولا يقتضيه. الثاني: أن يستنتجه إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم. مثل: التفاوت في الوسيلة لا ينافي وجوب القصاص كالمتوسل إليه فيرد , إذ لا يلزم من إبطال مانع انتفاء الموانع ووجود الشرائط والمقتضي. الصحيح أنه مصدق في مذهبه. وأكثر القول بالموجب كذلك لخفاء المأخذ بخلاف محل الخلاف. الثالث: أن يسكت عن الصغرى " عن " مشهور مثل: ما ثبت قربة فشرطه النية كالصلاة. ويسكت عن: الوضوء قربة. فيرد. ولو ذكرها لم يرد إلا المنع. وقولهم فيه انقطاع أحدهما بعيد في الثالث لاختلاف المرادين. وجواب الأول بأنه محل النزاع أو مستلزم. كما لو قال لا يجوز قتل المسلم بالذمي. فيقال بالموجب: لأنه يجب. فيقول المعني بـ " لا يجوز ": تحريمه , ويلزم نفي الوجوب. وعن الثاني أنه المأخذ. وعن الثالث بأن الحذف سائغ. ش - الاعتراض الخامس والعشرون: القول بالموجب. وهو تسليم الدليل

مع بقاء النزاع بدعوى نصب الدليل في غير محل النزاع. وهو ثلاثة: الأول: أن يستنتج المستدل من دليله ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه ولا يكون كذلك. كقول الشافعي في القتل بالمثقل: إنه قتل به غالبا فلا ينافي وجوب القصاص كالقتل بالحرق. فيرد القول بالموجب وهو أن يقال: سلمنا موجب هذا الدليل وهو أنه لا ينافي وجوبه لكن ليس محل النزاع عدم المنافاة بل وجوب القصاص به ولا يقتضيه محل النزاع إذ لا يلزم من عدم المنافاة بين الشيئين كون أحدهما علة للآخر. الثاني: أن يستنتج منه إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم , ولا يكون كذلك. كقول الشافعي " في المسألة " التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه من أنواع الجرحات القاتلة بناء على أن مأخذ الخصم تفاوت الوسيلة.

فيرد القول بالموجب: يقول المعترض: تفاوت الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص عندي أيضا ولكنه لا يستلزم وجوب القصاص إذ لا يلزم من إبطال مانع انتفاء الموانع ووجود الشرائط ووجود المقتضي ووجود القصاص يتوقف على كل ذلك. واختلفوا فيما إذا قال المعترض ليس هذا مأخذي هل يصدق أو لا؟ فقيل: لا يصدق حتى يظهر مأخذه لجواز أن يكون ما ذكره المستدل مأخذ المعترض إلا أنه يعانده ويكابره. والصحيح عند " المصدق " أنه مصدق لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه. وأكثر القول بالموجب كذلك أس من باب الغلط في المأخذ لخفاء المأخذ بخلاف الحكم ولهذا يشترك العوام مع الخواص في معرفة الأحكام دون المآخذ. الثالث: أن يذكر المستدل كبرى القياس دون الصغرى وهي غير مشهورة كقول الشافعي في اشتراط النية: ما ثبت قربه فشرطه النية كالصلاة. ويسكت عن الصغرى وهي: الوضوء ثبت قربة. فيقول المعترض: نعم ما ثبت قربة فشرطه النية ولكن الكبرى وحدها لا تنتج المطلوب. فإن ذكر الصغرى فالدفع حينئذ لا يكون بالقول بالموجب بل بمنع الصغرى. قال المصنف: وقولهم: أي قول الأصوليين أو قول الجدليين فإنهم قالوا:

القول بالموجب فيه انقطاع أحد المناظرين. لأن المستدل إن بين أن المثبت مدعاه أو ملزومه أو المبطل مأخذ الخصم أو أن الصغرى حق انقطع المعترض إذ لم يبق بعده إلا التسليم وإلا فقد انقطع المستدل لأنه ظهر عدم إفضاء دليله إلى مطلوبه. وقال: قولهم هذا بعيد في القسم الثالث لاختلاف مرادهما لأن مراد المستدل أن المتروك في حككم المذكور لظهوره. ومراد المعترض أن المذكور وحده لا يفيد فإذا منع مراده فله المنع ويستمر البحث. وأما في القسمين الأولين فهو صحيح لما ذكرنا. والجواب عن القسم الأول بأن ما لزم من الدليل هو محل النزاع أو مستلزم له. ويبين ذلك بالنقل المشهور. كما لو قال الشافعي: لا يجوز قتل المسلم بالذمي. فيقول الحنفي قتل المسلم بالذمي لا يجوز عندي " لأنه يجب ".

- تعدد الاعتراضات

فيقول المستدل: المعني بعدم الجواز التحريم , وتحريم قتل المسلم بالذمي يستلزم نفي الوجوب. وعن القسم الثاني بأن ما ذكرته هو المأخذ. وبيانه باشتهاره بين النظار وبالنقل عن أئمة مذهبهم. وعن القسم الثالث بأن حذف الصغرى جائز والدليل مجموعهما لا الكبرى وحدها. وفيه نظر لأن حذفها جائز إذا كان معلوما مشهورا أو مطلقا والأول مسلم وليس الكلام فيه لأه قال عن الصغرى غير مشهورة والثاني ممنوع. ص - والاعتراضات من جنس واحد " تتعد " اتفاقا , ومن أجناس كالمنع والمطالبة " والنقض " والمعارضة. منع أهل سمرقند التعدد للخبط. والمترتبة منع الأكثر لما فيه من التسليم للمتقدم , فيتعين الآخر والمختار جوازه لأن التسليم تقديري فليترتب وإلا كان منعا بعد تسليم فيقدم ما يتعلق بالأصل , ثم العلة , لاستنباطها منه. ثم الفرد لبنائه عليها. وقدم النقض على معارضة الأصل لأنه يورد لإبطال العلة والمعارضة لإبطال استقلالها. ش - الاعتراضات إما أن تكون من جنس واحد كالاستفسار أو النقض أو المعارضة في أحد ركني القياس , أو من أجناس مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة. فإن كانت من جنس واحد فقد اتفق المناظرون على جواز إيرادها معاً إذ لا

يلزم منها تناقض والانتقال من سؤال إلى آخر. وإن كانت أجناسا مختلفة فقد منع أهل سمرقند جواز تعددها مرتبة كانت أو غيرها لأنه يؤدي إلى الخبط فإنه خلط منع بمنع , ويزول من سؤال إلى آخر. وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط. وفصل أكثر أهل المناظرة بين المرتبة وغيرها فمنع التعدد في المرتبة دون غيرها لأن في تعدد المرتبة تسليما للمتقدم , فإن المعترض إذا طالبه بتأثير الوصف بعد أن منع وجود الوصف فقد نزل عن المنع , وتسليم وجود الوصف الذي هو المقدم لأن الإصرار على منع وجود الوصف يستلزم عدم المطالبة بتأثيره لأن تأثير المعدوم محال فلا يستحق المعترض غير جواب السؤال الأخير فيتعين الآخر للورود فقط. فالتعرض للمتقدم يكون ضائعا. ومختار المصنف جواز التعدد في المرتبة كجوازه في غيرها لأن تسليم المتقدم تسليم تقديري لأن معناه لو سلم وجود الوصف لم يسلم تأثيره والتسليم التقديري لا ينافي المنع. بخلاف التسليم تحقيقا " فإنه ينافي " المنع. فلو منع بعد التسليم تحقيقا لم يسمع.

- الاستدلال

وفيه نظر فإن التفرقة بين التسليم التقديري والتحقيقي منوعة لأنه إن كان صدق قولنا: لو سلم وجود الوصف لم يسلم تأثيره بوجود المقدم لا بانتفاء التالي. فقد لزم التنافي قطعا وإن كان بانتفاء التالي كان معناه لكن سلم " تأثيره فلم " يسلم وجوده وهو محال لأن المعدوم لا يؤثر. وإذا جاز التعدد في المرتبة فلترتب الاعتراضات وإلا كان منعا بعد التسليم كما لو طالب بالتأثير ثم منع وجوده. وإذا وجب الترتيب وجب أن يكون مناسبا للترتيب الطبيعي فيقدم منها ما يتعلق بالأصل ثم بالعلة لأنها مستنبطة منه ثم بالفرع لابنتائه عليها. ويقدم النقض على معارضة الأصل لأن النقض يورد لإبطال العلة والمعارضة لإبطال استقلالها. فالواجب أن يقول ليس بعلة , وإن سلم فليس بمستقل. والاستفسار مقدم على الكل لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه. ثم فساد الاعتبار لأنه نظر في فساد القياس من حيث الجملة وهو قبل النظر من حيث التفصيل. ثم فساد الوضع لأنه أخص من فساد الاعتبار والنظر في الأعم مقدم. ثم ما يتعلق بالأصل على الترتيب الذي ذكر آنفا. ص - الاستدلال يطلق على ذكر الدليل. ويطلق على نوع خاص وهو المقصود. فقيل: ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس.

وقيل: ولا قياس علة. فيدخل نفي الفارق والتلازم. وأما نحو: وجد السبب أو المانع أو فقد الشرط: فقيل: دعوى دليل. وقيل: دليل. وعلى أنه دليل: قيل: استدلال. وقيل: إن أثبت بغير الثلاثة. والمختار أنه ثلاثة تلازم بين حكمين من غير تعيين علة. واستصحاب. وشرع من قبلنا. ش - لما كان الاستدلال من جملة الطرق المفيدة للأحكام ذكره بعد الفراغ عن الأدلة الأربعة وهو في اللغة: طلب الدليل. وفي العرف يطلق على معنى عام: وهو ذكر الدليل نصا كان أو إجماعا أو غيرهما. وعلى معنى خاص وهو المقصود هاهنا. فقيل: هو ذكر ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس وقيل: ولا قياس علة بدل ولا قياس فيدخل فيه القياس بنفي الفارق وهو الذي سمي قياسا في معنى الأصل , وقياس التلازم وهو الذي سمي قياس الدلالة , ويعني به إثبات أحد موجبي العلة بالآخر لتلازمهما. وهما غير داخلين في الأول. ثم إن الفقهاء كثيرا ما يقولون: وجد السبب فيوجد الحكم , أو وجد المانع , أو فقد الشرط فيعدم الحكم. واختلف في أنه دليل أو لا.

فقيل ليس بدليل إنما هو دعوى دليل فهو بمثابة أن يقال وجد دليل الحكم فيوجد الحكم , ولا يكون دليلا ما لم يعين وإنما الدليل ما يستلزم الحكم وهو وجود السبب الخاص أو وجود المانع وفقد الشرط المخصوصين. وقيل هو دليل لأن الدليل هو ما يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول. وعلى تقدير أن يكون دليلا. اختلفوا أيضا. فقيل: هو استدلال مطلقا لأنه غير النص والإجماع والقياس. وقيل: استدلال إن ثبت وجود السبب أو المانع أو فقد الشرط بغير الثلاثة وإلا فهو من قبيل ما ثبت به نصا كان أو إجماعا أو قياسا. واختلفوا في أقسامه فقيل أربعة أنواع:

القول المؤلف الموجب لقول آخر حمليا كان أو شرطيا. وقد تقدم في أول الكتاب. ونفي الحكم لنفي المدارك. وقولهم: وجد السبب أو المانع أو فقد الشرط. والاستصحاب. ولم يعتد بشرع من قبلنا. والمختار عند المصنف: أن الاستدلال ثلاثة أقسام: تلازم بين حكمين من غير علة جامعة واستصحاب وشرع من قبلنا. ص - الأول: تلازم بين ثبوتين أو نفيين أو ثبوت ونفي أو نفي وثبوت. والمتلازمان إن كانا طردا " وعكسا وإن كان طردا كالجسم " والحدوث جرى فيهما الأول طردا والثاني عكسا. والمتنافيان إن كانا طردا وعكسا كالحدوث ووجوب البقاء جرى " فيهما طردا وعكسا ". فإن تنافيا إثباتا كالتأليف والقدم جرى فيهما الثالث طردا وعكسا فإن تنافيا نفيا كالأساس والخلل جرى فيهما الرابع طرداً وعكساً.

الأول من أقسام الاستدلال: التلازم

الأول في الأحكام: من صح طلاقه صح ظهاره. ويثبت بالطرد " ومنوي " بالعكس. ويقرر بثبوت أحد الأثرين فيلزم الآخر للزوم " الأثر " وبثبوت المؤثر ولا يعين المؤثر فيكون انتقالا إلى قياس العلة. الثاني: لو صح الوضوء بغير نية لصحح التيمم. ويثبت بالطرد كما تقدم. ويقرر بانتفاء أحد الأثرين فينتفي الآخر للزوم انتفاء المؤثر وبانتفاء المؤثر. الثالث: ما كان مباحا لا يكون حراما. الرابع: ما لا يكون جائزا يكون حراما. ويقرران بثبوت التنافي بينهما أو بين لوازمهما. ش - أي الأول من أقسام الاستدلال: التلازم. وهو أربعة أقسام لأن المتلازمين إما أن يكونا ثبوتيين " أو " نفيين أو الأول ثبوت والثاني نفي أو بالعكس.

والمتلازمان إن كانا طردا وعكسا يعني يكون التلازم بينهما من الجانبين كالجسم والتأليف فإن " وجوب " كل منهما يستلزم وجود الآخر جرى فيهما أي المتلازمين الأولان أي التلازم بين ثبوتين والتلازم بين نفيين طردا وعكسا أي يلزم من وجود كل منهما وجود الآخر ويلزم من نفي كل منهما نفي الآخر. وإن كان المتلازمان طردا فقط يعني يلزم من وجود الأول وجود الثاني من غير عكس كالجسم والحدوث فإن وجود الجسم يستلزم الحدوث من غير عكس

لوجود الجوهر الفرد والعرض جرى فيهما التلازم بين ثبوتين طردا فقط حيث يلزم من وجود الجسم الحدوث ولا عكس , والتلازم بين نفيين عكسا فقط أي يلزم من نفي الحدوث نفي الجسم من غير عكس. وأما المتنافيان طردا وعكسا بأن يكون بينهما منافاة وجودا وعدما وهي المنفصلة الحقيقية كالحدوث ووجوب البقاء فإن بينهما منافاة وجودا وعدما فإنه يجري فيهما الأخيران يعني التلازم بين ثبوت ونفي طردا وعكسا يعني يلزم من ثبوت كل منهما نفي الآخر وبالعكس. وإن كان المتنافيان تنافيا إثباتا فقط بأن يكون بينهما منع الجمع كالتأليف والقدم فإن بينهما منافاة وجودا لا عدما جرى فيهما الثالث أي التلازم بين ثبوت ونفي طردا وعكسا يعني أن ثبوت كل منهما يلزم نفي الآخر. وإن كان المتنافيان تنافيا نفيا فقط بأن يكون بينهما منع الخلو كالأساس والخلل فإن بينهما منافاة ثبوت الآخر عدما لا وجودا أجري فيهما الرابع أي التلازم بين نفي وثبوت طردا وعكسا يعني يلزم من نفي كل منهما فيصدق كل ما لم يكن له أساس فهو

مختل وكل ما لم يكن مختلا فله أساس. ولا يجري فيهما الثالث فلا يصدق كل ما كان له أساس فليس بمختل أو كل ما كان مختلا فليس له أساس. ثم إن المصنف مثل لكل من ذلك مثالا من الأحكام الشرعية: مثال الأول: من صح طلاقه صح ظهاره. ويثبت الملازمة بينهما بالطرد بأن يقال تتبعا فوجدنا " لكل " من صح طلاقه صح ظهاره , ويقوى بالعكس فإنه وإن لم يكن دليلا مستقلا لكن يصح مقويا فيقال تتبعا فوجدنا " لكل " من لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره. وقد يقرر إثبات التلازم بوجه آخر وهو أن يقال: ثبت أحد الأمرين وهو صحة الطلاق فيثبت الآخر وهو صحة الظهار لأن ثبوت المؤثر لازم لثبوت أحدهما وثبوت الآخر لازم لثبوت مؤثره. وبوجه آخر وهو أن يقال: المؤثر في صحة الطلاق ثابت لا محالة فيثبت صحة الظهار لأنهما أثراه والأثر لازم. وفيه نظر لأنه إنما يتم أن لو كانت الصحتان أثرية وهو ممنوع فإن الشيء الواحد لا يجوز أن يستلزم لأمرين مختلفين لئلا يلزم الانفكاك ولا ينبغي للمستدل أن يعين المؤثر في الوجهين جميعا لئلا يلزم الانتقال من الاستدلال إلى قياس العلة فإنه ليس باستدلال بالاتفاق. ومثال الثاني: لو صح الوضوء بلا نية لصح التيمم. ويثبت التلازم بالطرد ويقوى بالعكس كما تقرر. وفي عبارته تسامح لأنه مثل للنفيين بما ليس فيه نفي لكنه لما كان في قوة النفي لأن " لو " لانتفاء الشيء لانتفاء غيره تساهل فيه. فكأنه قيل " لما لم " يصح التيمم بلا نية لم يصح الوضوء. وكذلك في إثبات التلازم بالطرد نظر.

- يرد على جميع أقسام التلازم منع المقدمتين الشرطية والاستثنائية أو منع إحديهما

ويقرر بوجه آخر وهو أن يقال انتفى أحد الأثرين فينتفي الآخر للزوم انتفاء المؤثر فإنه يلزم من انتفاء أحد الأثرين انتفاء المؤثر ومن انتفائه انتفاء الآخر. وبوجه آخر وهو أن يقال المؤثر أحد الأثرين يعني صحة التيمم بلا نية منتف لا محالة فينتفي المؤثر فينتفي أثره الآخر. وفيه النظر المتقدم. ومثال الثالث: وهو ما يكون التلازم بين ثبوت ونفي: ما يكون مباحا لا يكون حراما. ومثال الرابع: هو عكس الثالث: ما لا يكون جائزا يكون حراما. ويقرر الثالث والرابع بثبوت التنافي بين الحرام والمباح أو بثبوت التنافي بين لوازمهما فإن التنافي بين اللوازم يستلزم التنافي بين الملزومات. ص - ويرد على الجميع منعهما " و " منع إحداهما. ويرد من الأسئلة ما عدا أسئلة نفس الوصف الجامع. ويختص بسؤال. مثل قولهم في قصاص الأيدي باليد أحد موجبي الأصل وهو النفس , فيجب بدليل الموجب الثاني , وهي الدية. وقرر بأن الدية أحد الموجبين فيستلزم الآخر لأن العلة إن كانت واحدة فواضح. وإن كانت متعددة فتلازم الحكمين دليل تلازم العلتين. فيعترض بجواز أن يكون في الفرع بأخرى لا تقتضي الآخر. ويرجحه باتساع المدارك فلا يلزم الآخر. وجوابه أن الأصل عدم أخرى ويرجحه بأولوية الاتحاد لما فيه من العكس. فإن قال: فالأصل عدم علة الأصل في الفرع قال: والمتعدية أولى.

ش - ويرد على جميع أقسام التلازم منع المقدمتين الشرطية والاستثنائية أو

منع إحديهما. ويرد عليه الأسئلة التي ذكرناها في القياس إلا ما كان واردا منها على نفس الوصف الجامع فإنه إذا لم يكن معينا لا يرد عليه شيء. ويختص التلازم بسؤال آخر غير ما ذكر في القياس وهو حيث يكون الوصف الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي علة الأصل وذلك كقولهم: تقتص الأيدي بيد واحدة كما تقتص الجماعة بواحد في النفس لوجود الوصف الجامع بينهما وهو أحد موجبي علة الأصل. وبيانه أن علة الأصل وهي تفويت النفس لها موجبان. أحدهما: القصاص على الجميع. والثاني: الدية على الجميع وهذا موجود في الفرع فإنه كما تجب الدية على الجميع في الأصل تجب عليهم في الفرع فيجب أن يكون الموجب الآخر وهو القصاص كذلك كما أنه في الأصل كذلك لأن علة موجبي الأصل إن كانت واحدة فواضح لأنه يلزم من أجل موجبها في الفرع وهو الدية على الجميع وجودها فيه ومن وجودها فيه وجود الموجب الآخر فيه وهو وجوب القصاص على الجميع. وإن كانت متعددة فتلازم الحكمين وجوب الدية على الجميع ووجوب القصاص عليهم في الأصل دليل على تلازم علتيهما. وحينئذ يلزم من وجود الدية على الجميع في الفرع وجود علته فيه , ومن وجود علته فيه وجود علة القصاص على الجميع لتلازم العلتين , ومن وجود علة القصاص عليهم فيه وجوبه عليهم فيه.

القسم الثاني من الاستدلال: الاستصحاب

فيقول المعترض يجوز أن تكون علة وجوب الدية على الجميع في الفرع " غير العلة في الأصل " وهي لا تقتضي الآخر أي وجوب القصاص على الجميع في الفرع لجواز " أن تقتضي علة الأصل تلازم الدية على الجميع ووجوب القصاص عليهم وعلة الفرع هي غير علة الأصل لا تقتضي تلازمها. ويرجح اعتراضه هذا باتساع المدارك فإن وجوب الدية على الجميع في الفرع بعلة أخرى توجب التعدد في مدرك حكم الأصل والفرع. وحينئذ لا يلزم من وجوب الدية على الجميع في الفرع وجود الآخر أي وجوب القصاص عليهم. وجواب هذا السؤال أن علة وجوب الدية على الجميع في الفرع هي علة وجوبها في الأصل لا علة أخرى لأن الأصل عدمها ويرجح هذا الجواب بأن اتحاد العلة أولى من تعددها لما في الاتحاد من الطرد والعكس بخلاف تعددها فإنه لا يوجب العكس. والتعليل بالمطرد المنعكس متفق عليه دون غير المنعكس فكان أولى. فإن قال المعترض إذا تمسكتم بأن الأصل هو العدم. نقول: الأصل عدم علة الأصل في الفرع وليس العمل بأحد الأصلين أولى. قال المستدل: العمل بالأصل الذي ذكرنا أولى لأن الأصل الذي ذكرنا يوجب كون علة الأصل متعدية والأصل الذي ذكرتم يوجب كون علته قاصرة والمتعدية لكونها متفقا عليها أولى. ص - الاستصحاب " الأكثر , كالمزني والغزالي والصيرفي - رحمهم الله - على صحته. وأكثر الحنفية على بطلانه كان بقاء أصليا أو حكما شرعيا. مثل قول الشافعية في الخارج: الإجماع على أنه قبله متطهر. والأصل البقاء حتى يثبت معارض والأصل عدمه. لنا: أن ما تحقق ولم يظن معارض يستلزم ظن البقاء. وأيضا لو لم يكن الظن حاصلا لكان الشك في الزوجية ابتداء كالشك في بقائها في التحريم أو الجواز وهو

باطل. وقد استصحب الأصل فيهما ". ش - القسم الثاني من الاستدلال: الاستصحاب: وهو الحكم بثبوت الشيء في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول. وقد اتفق أكثر الشافعية كالمزني والصيرفي والغزالي على صحة الاحتجاج به.

وذهب أكثر الحنفية إلى بطلانه سواء كان بقاء أصليا وهو استصحاب بقاء النفي الأصلي أو حكما شرعيا كقول الشافعية في الخارج من غير السبيلين: الإجماع منعقد على أن المحكوم عليه بالطهارة قبل خروج الخارج متطهر. والأصل: البقاء على الطهارة حتى يثبت لها معارض والأصل عدمه. ولقائل أن يقول سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون الخارج من غير السبيلين معارضاً.

- أدلة المحتجين به

واحتج المصنف على حجيته بوجهين: الأول: أن ما تحقق ولم يظن له معارض يستلزم ظن بقائه. فيكون الاستصحاب مفيدا لظن بقاء الشيء والعمل بالظن واجب. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن العمل بكل ظن واجب بل ظن دل الدليل على اعتباره كخبر الواحد والقياس ألا ترى أن المتحري إذا ظن القبلة في جهة لم يكن ظنه حجة مثبتة وإنما هي دافعة. الثاني: أنه لو حصل الشك في الزوجة ابتداء حرم الاستمتاع بها إجماعا ولو حصل في دوام الزوجية حل إجماعا ولا فارق إلا استصحاب عدم الزوجية في الأولى , والزوجية في الثانية فلو لم يكن الاستصحاب حجة لاستوى الحالان في التحريم والجواز وهو خلاف الإجماع. وفيه نظر لأنه تقدير محال فإن الكلام فيما إذا يظن معارض كانت الحرمة بائنة ابتداء والفرض أنه لم يظن له معارض كيف يقع الشك في الزوجية , والحال جاز أن يستلزم محالا آخر سلمناه ولكنه يدفع الحل العارض في الأولى والحرمة العارضة في الثانية. ونحن نقول بكونه حجة دافعة. ص - " قالوا: الحكم بالطهارة ونحوها حكم شرعي. والدليل عليه: نص أو إجماع أو قياس. وأجيب بأن الحكم: البقاء , ويكفي فيه ذلك. ولو سلم فالدليل: الاستصحاب. قالوا: لو كان الأصل: - البقاء - لكانت بينة النفي أولى. وهو باطل بالإجماع. وأجيب بأن المثبت يبعد غلطه فيحصل الظن. قالوا: لا ظن مع جواز الأقيسة. قلنا: الفرض بعد بحث العلم ".

- أدلة النافين لحجيته

ش - واحتجت الحنفية بوجوه ثلاثة: الأول: الحكم بالطهارة ونحوها حكم شرعي وكل أمر حكم شرعي فدليله نص أو إجماع أو قياس. والاستصحاب ليس منها فلا يكون دليلا شرعيا. وأجاب بأن الحكم فيما نحن فيه البقاء ويكفي فيه ذلك أي الاستصحاب. وفيه نظر لأن بقاء الحكم الشرعي إما أن يكون حكما شرعيا أو لا. والأول يستلزم أن يكون دليله مما ذكر والاستصحاب ليس منها. والثاني: يحصل به المطلوب لأن مطلوبنا أن الاستصحاب لا يصلح أن يكون دليلا لحكم شرعي. قال: ولو سلم يعني أن البقاء حكم شرعي فالاستصحاب دليل شرعي لما بينا أنه يفيد الظن. ولقائل أن يقول كونه دليلا شرعيا عين النزاع وليس كل ظن معتبرا كما بينا. الثاني: أن الأصل لو كان بقاء الشيء على ما كان عليه لكانت بينة النفي أولى من بينه الإثبات لتعاضدها بالأصل لكنه ليس كذلك بالإجماع. وأجاب بأن بينة الإثبات إنما كانت أولى من بينة النفي لأن المثبت يبعد غلطه لاطلاعه على سبب الثبوت فيحصل به بخلاف النفي " فإنه يكثر " فيه الغلط لإمكان حدوث أمر رافع للنفي في غيبة النافي. ولعل حاصله أن الأصل بقاء الشيء على ما كان ما لم يظن معارض وما ذكر من بعض الغلط معارض مظنون. وفيه نظر لأن غايته إفادة تساوي البينتين فإن ما ذكرتم يدل على أن الغلط منه بعيد دون النفي وما ذكرنا يدل على أن النفي معاضد بالأصل دون الإثبات فكان

القسم الثالث من الاستدلال: شرع من قبلنا

الواجب التساوي بينهما وهو خلاف الإجماع ولأن المستدل بنفي المعارض فيكثر فيه الغلط لإمكان حدوث أمر رافع للنفي فلا يحصل به الظن. الثالث: لا ظن في بقاء الشيء على ما كان مع جواز الأقيسة فإنه يجوز أن يقع قياس بنفي ما كان من الحكم. وأجاب بأن الفرض أن الاستصحاب إنما يفيد الظن بعد بحث العالم عن الأقيسة وعدم وجدان ما يعارض الأصل. وفيه نظر لأن عدم وجدان المستدل لا يكون حجة على غيره لجواز أن يكون غيره قد وجد فلا يكون حجة مثبتة والكلام في ذلك. ص - شرع من قبلنا. " المختار أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة متعبد شرع قيل: نوح , وقيل: إبراهيم , وقيل: موسى , وقيل: عيسى , - صلوات الله عليهم أجمعين -. وقيل: ما ثبت أنه شرع. ومنهم من منع. ووقف الغزالي. لنا الأحاديث متضافرة: كان يتعبد , كان يتحنث , كان يصلي , كان يطوف واستدل بأن من قبله لجميع المكلفين. وأجيب بالمنع. قالوا: لو كان لقضت العادة بالمخالطة أو لزمته. قلنا: التواتر لا يحتاج وغيره لا يفيد. وقد تمتنع المخالطة لموانع فيحمل عليها جمعا بين الأدلة ". ص - القسم الثالث من الاستدلال شرع من قبلنا. واختلف العلماء في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة كان متعبداً بشرع أو لا.

واختار المصنف ثبوته. ومنهم من منع. والغزالي توقف. واختلف المثبتون في الشرع المتعبد به على ما ذكر في المتن. واحتج المصنف بتضافر الأحاديث أي تعاونها على أنه - عليه السلام - كان يأتي غار حراء فيتحنث فيه أي يتعبد , وأنه كان يصلي ويطوف بالبيت.

والعقل لا يرشد إلى ذلك فتعين الشرع. وفيه نظر لأن العقول خلقت متفاوته فلم لا يجوز أن يكون عقله - عليه السلام - مرشدا إليه. واستدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قبل البعثة متعبدا بشرع: بأن شرع من قبله من الأنبياء كان عاما لجميع المكلفين والرسول واحد منهم. وأجاب بالمنع أي لا نسلم أن شرع من قبله كان عاما فإنه لن يثبت أن أحدا من الأنبياء كان له دعوة عامة بل الثابت غيره لقوله - عليه السلام -: " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث لقومه وبعثت إلى الناس كافة ". وقال المانعون: لو تعبد بشرع لقضت العادة بمخالطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أهله أو لزمته المخالطة للأخذ عنهم ولم يقع ذلك فإنه لم ينقل. وأجاب بأن ما تواتر من ذلك الشرع استغنى عن المخالطة وما لم يتواتر لا تفيد فيه المخالطة لأنه لا يحصل العلم بالآحاد ولأن المخالطة قد تمتنع لموانع فيحمل عدمها عليها جمعا بين الدليل الدال على تعبده بشرع والعادة القاضية بالمخالطة. ص - مسألة: المختار أنه - عليه السلام - " بعد البعث متعبد بما لم ينسخ. لنا: ما تقدم , والأصل بقاؤه. وأيضا: الاتفاق على الاستدلال بقوله: (النفس بالنفس) وأيضا: ثبت أنه قال: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " وتلا: (وأقم الصلاة لذكري). وهي لموسى وسياقه يدل على الاستدلال به قالوا: لم يذكر

في حديث معاذ وصوبه. وأجيب بأنه تركه , إما لأن الكتاب يشمله , أو لقلته. جمعا بين الأدلة. قالوا: لو كان لوجب تعلمها , والبحث عنها. قلنا: المعتبر: المتواتر , فلا يحتاج. قالوا: الإجماع على أن شريعته - عليه السلام - ناسخة. قلنا: لما خالفها , وإلا وجب نسخ وجوب الإيمان وتحريم الكفر ". ش - واختلفوا أيضا في أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة كان متعبدا بشرع من قبله أو لا.

فمنهم من نفاه. واختار المصنف وقوعه فيما لم ينسخ بشريعته. واحتج عليه بأوجه: الأول: ما تقدم أنه - عليه السلام - متعبد بذلك والأصل بقاؤه ما لم يظهر له معارض. الثاني: الإجماع على ما استدل بقوله - تعالى - (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وهو من أحكام التوراة ولولا أنه متعبد بذلك لم يصح الاستدلال. الثالث: أنه - صلى الله عليه السلام - قال: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ". وتلا قوله - تعالى -: (وأقم الصلوة لذكرى) وهذه الآية خطاب لموسى - عليه

السلام - وسياق كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلاوة ما أوجب على موسى بعد إيجابه مثله على الأمة. يدل على الاستدلال به ولولا التعبد لما صح الاستدلال. ولقائل أن يقول الأول استصحاب وليس بحجة , والآخران لبيان توافق الشريعتين لا لدلالة على التعبد. احتج المانعون بمثلها: الأولى: أن معاذا لم يذكر شيئا مما هو دليل على شرائع من قبلنا وصوبه الرسول - عليه السلام - فلو كان شرع من قبله مدركا للأحكام لوجب إظهاره لمعاذ. وأجاب بأن معاذا إنما تركه لأن الكتاب يشمله فإنه كما يطلق على القرآن يطلق على التوراة والإنجيل أو لأن مدرك الأحكام من كتبهم قليل فلم يذكره. ويجب الحمل على هذا جمعا بين الأدلة أي بين حديث معاذ وأدلة التعبد. الثاني: أنه - عليه السلام - لو كان متعبدا بذلك لوجب علينا تعلمه والبحث عنها " وجوب " تعلم القرآن والأخبار والبحث عنهما واللازم باطل بالاتفاق. وأجاب بأن المتواتر هو المعتبر وهو مستغن عن التعلم للعلم به. الثالث: أن الإجماع على أن شريعتنا ناسخة لما تقدم فلا يكون متعبدا بشيء منه. وأجاب بأنها ناسخة لما خالفها لا لجميعها وإلا لوجب نسخ وجوب الإيمان وتحريم الكفر لأنه من الشرائع المتقدمة. وفيه نظر لأن محل النسخ حكم يحتمل الوجود والعدم ووجوب الإيمان وتحريم الكفر ليسا كذلك. ص - مسألة: مذهب الصحابي ليس حجة على صحابي " اتفاقاً. والمختار:

- مذهب الصحابي

ولا على غيرهم. وللشافعي وأحمد قولان في أنه حجة متقدمة على القياس وقال قوم: إن خالف القياس. وقيل: الحجة قول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. لنا: لا دليل عليه , فوجب تركه. وأيضا: لو كان حجة على غيرهم لكان قول الأعلم الأفضل حجة على غيره , إذ لا يقدر فيهم أكثر واستدل: لو كان حجة لتناقضت الحجج. وأجيب بأن الترجيح أو الوقف أو التخيير يدفعه كغيره. واستدل: لو كان حجة لوجب التقليد مع إمكان الاجتهاد. وأجيب: إذا كان حجة فلا تقليد. قالوا: " أصحابي كالنجوم " " اقتدوا باللذين من بعدي. وأجيب بأن المراد: المقلدون , لأن خطابه للصحابة قالوا: ولى عبد الرحمن عليا - رضي الله عنهما - بشرط الاقتداء بالشيخين , فلم يقبل , وولى عثمان , فقبل , ولم ينكر عليه فدل على أنه إجماع. قلنا المراد متابعتهم في السيرة والسياسة. وإلا وجب على الصحابي التقليد. قالوا: إذا خالف القياس فلا بد من حجة نقلية. وأجيب بأن ذلك يلزم الصحابي , ويجري في التابعين مع غيرهم ". ش - مذهب الصحابي ليس بحجة على صحابي بلا خلاف. وأما على غيره ففيه خلاف. واختار المصنف عدمه. ونقل عن الشافعي وأحمد قولان:

أحدهما: أنه حجة متقدمة على القياس. والثاني: أنه ليس بحجة. وقال قوم: إن خالف القياس كان حجة وإلا فلا. وقيل: الحجة قول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. واحتج المصنف على أنه ليس بحجة مطلقا بوجهين: الأول: أن لا دليل على حجيته فيترك لئلا يلزم العمل بغير دليل. الثاني: أن قول الصحابي لو كان حجة على غيره لكان قول الأعلم الأفضل حجة على غيره , وإن كان غير صحابي لأن حجية قوله ليست لكثرة الصحابة إذ لا يقدر فيهم أكثر بل لكونه أعلم وأفضل لمشاهدة التنزيل وسماع التأويل. وإذا كان الحجية كذلك يكون قول من كان أعلم حجة وليس كذلك بالاتفاق. وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون قوله حجة باعتبار كونه أعلم بمشاهدة التنزيل وبيان التأويل ومعرفة أحوال النبي - عليه السلام - وليس بمشترك قطعاً.

واستدل بأنه لو كان حجة لتناقضت " الحجج " فإن بعضهم خالف بعضا وليس أحدهما أولى من الآخر فيكونان حجتين ويلزم التناقض وهو باطل. وأجاب بمنع الملازمة فإن المكلف قد رجح أحد القولين إذا أمكن , ويقف إذا لم يمكن أو يتخير كما في غيره من الأدلة المتعارضة. واستدل أيضا بأنه لو كان حجة وجب التقليد مع إمكان الاجتهاد لأنه إذا كان حجة وجب على المجتهد العمل به وهو تقليد مع إمكان الاجتهاد وهو باطل. وأجاب بأنه إذا كان حجة لا يكون عمل المجتهد به تقليدا لأن التقليد هو العمل بقول الغير بلا دليل , والفرض أنه دليل. والقائلون بحجيته على غيرهم احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". ومخصصو قول الشيخين - رضي الله عنهما - احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ". وبأن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا - رضي الله عنهما - بشرط الاقتداء

- الاستحسان

بالشيخين ولم يقبل علي وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وكان الإجماع على جواز الاقتداء بمذهبهما. وأجاب عن النصين للمذهبين بأن المراد بالمأمورين المقلدون لأن خطابه - عليه السلام - للصحابة ولا يجوز للمجتهد منهم اتباع غيره بالاتفاق. وعن التولية بأن المراد بالاقتداء بهما متابعتهما في السير والسياسة دون المسائل الاجتهادية لئلا يلزم مخالفة الإجماع بلزوم تقليد الصحابي غيره. ومخصصو الحجية بمخالفة القياس احتجوا بأن قول الصحابي إذا خالف القياس لم يكن بالرأي قطعا فلا بد من فعل لئلا يلزم منهم القول بلا دليل فكان ذلك النقل حجة. وأجاب بأن هذا الجواب يستلزم أن يكون حجة على الصحابي أيضا وأن يجري في التابعي مع غيره وليس كذلك بالاتفاق. ص - الاستحسان. " قال به الحنفية والحنابلة. وأنكره غيرهم. حتى قال الشافعي - رحمه الله - من استحسن فقد شرع. ولا يتحقق استحسان مختلف فيه. فقيل: دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه. قلنا: إن شك فيه فمردود وإن تحقق فمعمول به اتفاقا. وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى. ولا نزاع فيه. وقيل: تخصيص قياس بأقوى منه. ولا نزاع فيه. وقيل: العدول إلى خلاف النظير لدليل أقوى ولا نزاع فيه. وقيل: العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس كدخول الحمام ,

وشرب الماء من السقاء. قلنا: مستنده جريانه في زمانه أو زمانهم مع علمهم من غير إنكار أو غير ذلك. وإلا فهو مردود. فإن تحقق استحسان مختلف فيه - قلنا: لا دليل يدل عليه فوجب تركه قالوا: (واتبعوا أحسن). قلنا: أي الأظهر والأولى. " وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " يعني الإجماع وإلا لزم العوام ". ش - قالت الحنفية والحنابلة: إن الاستحسان حجة , وأنكره غيرهم. ونقل عن الشافعي أنه قال: من استحسن فقد شرع. قيل: معناه من أثبت حكما بأنه متحسن عنده بغير دليل من الشارع فهو الشارع لذلك الحكم. قال المصنف: ولا يتحقق استحسان مختلف فيه لأنه ذكر في تفسيره أمور لا

تصلح أن تكون محلا للخلاف لأن بعضها مقبولة اتفاقا وبعضها مترددة بين القبول والرد. فقيل: إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه. وهذا متردد بين القبول والرد لأن " معناه " ينقدح إن كان يتحقق ثبوته في نفسه وجب العمل به اتفاقا ولا أثر لعجزه عن التعبير وإن كان معناه أنه شاك فيه فهو مردود اتفاقا فإن الحكم لا يثبت بمجرد الشك. وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى. وهذا مما لا نزاع في قبوله. وقيل: تخصيص قياس بأقوى منه. وهذا أيضا مما لا نزاع في قبوله. وقيل: العدول إلى خلاف النظر لدليل أقوى منه. وهذا أيضا مما لا نزاع في قبوله. وقيل: العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس , كدخول الحمام بغير تعيين زمن المكث ومقدار الماء المسكوب والأجرة وكذلك شرب الماء من السقاية بغير تعيين مقدار الماء وبدله. وهذا متردد فإن مستند مثله إما العادة المعتبرة في زمان النبي - عليه السلام - فقد ثبت بالسنة , أو جريانه في زمان الصحابة مع عدم إنكارهم عليه فقد ثبت بالإجماع.

وإما غير ذلك فإن كان نصا أو قياسا مما تثبت حجيته فقد ثبت به. وإن كان مما لم تثبت حجيته فهو مردود. فقد ظهر أنه لا تحقق لاستحسان مختلف فيه. وفيه نظر لأن قول الشافعي: من استحسن فقد شرع لا يجوز أن يراد به " مما لهم ليس " بمختلف فيه فإن ذلك لا يكون شرعه بل هو شرع الشارع فتعين أن يكون المراد استحسانا مختلفا فيه. ثم قال: فإن تحقق استحسان مختلف فيه. قلنا: لا دليل يدل عليه فوجب تركه. قالوا: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم). والأمر للوجوب فكان اتباع الأحسن واجبا وهو العمل بالاستحسان. وأجاب بأن المراد بالأحسن الأظهر والأولى. ولقائل أن يقول ذلك مجاز والكلام للحقيقة والأولى أن ذلك من غير المختلف فيه. وقالوا أيضا قوله - عليه السلام -: " وما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ". وأجيب بأن المراد به جميع المؤمنين فكان دليل الإجماع دون الاستحسان وإلا

- المصالح المرسلة

لزم أن يكون ما رآه العوام حسنا حجة وليس كذلك إجماعا. وفيه نظر لأن الرؤية بمعنى العلم فيكون المراد أي العلماء بدلالة المادة فلا يلزم رأي العوام لأنهم ليسوا من أهل العلم. ص - المصالح المرسلة " تقدمت. لنا: لا دليل. فوجب الرد. قالوا: لو تعتبر لأدى إلى خلو وقائع. قلنا: بعد تسليم أنها لا تخلو العمومات والأقسية بأخذها ". ش - قيل المصالح المرسلة أحكام لا يشهد لها أصل من الشرع اعتبارا أو إلغاء. واختلف في حجيتها. فقيل: هي حجة. واختار المصنف عدمها لما تقدم أن ما لا دليل يدل على وجوب العمل به يجب تركه. وقالوا: لو لم يعتبر لأدى إلى خلو وقائع عن الحكم وهو غير جائز لقدرة صاحبها. وأجيب بمنع انتفاء التالي وإن سلم ذلك فيمنع الملازمة فإن العمومات من الكتاب والسنة والأقيسة بأخذها أي تفي بأحكامها. ص - الاجتهاد " في الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن

بحكم شرعي. والفقيه , تقدم. وقد علم المجتهد والمجتهد فيه ". ش - لما فرع من الأدلة السمعية شرع في بيان الاجتهاد وهو في اللغة افتعال من الجهد وهو المشقة. ففيه إشارة إلى تفريغ الطاقة ولذلك يقال اجتهد في حمل الرحى ولا يقال اجتهد في حمل تفاحة. وفي اصطلاح الأصوليين: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. والفقيه قد عرف فيما تقدم من تعريف الفقه , كما يعرف المجتهد والمجتهد فيه هاهنا من تعريف الاجتهاد. والاستفراغ كالجنس وبإضافته إلى الفقيه خرج استفراغ غيره. واستفراغ الفقيه قد يكون للوسع. وقد يكون لغيره ما له وجاهة فبالوسع خرج غيره واستفراغه الوسع قد يكون لتحصيل ظن ولغيره. وتحصيل الظن قد يكون لحكم شرعي أو غيره عقلي أو حسي فخرج بذكر كل من ذلك ما يقابله.

- مسألة الاختلاف في تجزئ الاجتهاد

وأورد على طرده المتكلم الفقيه إذا استفرغ الوسع في تحصيل ظن بتوحيده , والأصولي الفقيه إذا فعل ذلك في تحصيل ظن بكون الكتاب حجة , والفقيه إذا فعل ذلك في بعض الأحكام إن قلنا بعدم تجزئ الاجتهاد. ويجاب عن الأولين بأن المراد استفراغ الفقيه من حيث الفقه والمتكلم والأصولي إنما استفرغا من حيث الكلام والأصول وعن الثالث بأن عدم التجزئ شرط صحة الاجتهاد ليس بداخل في ماهيته , والتعريف لماهيته. وعلى العكس اجتهاد الرسول - عليه السلام - فإنه لا يسمى فقيها واجتهاد من لم يكن مجتهدا في الجميع إن قلنا بتجزئه لأنه لا يكون فقيها على ذلك التقدير. وأجاب عن الأول بأن المراد تحصيل ظن بالاستنباط من الأدلة واجتهاده لم يكن كذلك لأن الإجماع لم يكن حجة فلم يبق إلا الكتاب والسنة والاجتهاد إنما يجوز له فيما لم يوح إليه , فاجتهاده إذ ذاك كان سنة لا استنباطا من كتاب أو سنة. وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه لا يكون فقيها على ذلك التقدير فإن العارف ببعض الأحكام فقيه. ص - مسألة: اختلف في تجزئ الاجتهاد. " المثبت: لو لم يتجزأ لعلم الجميع وقد سئل مالك عن أربعين مسألة , فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. وأجيب بتعارض الأدلة. وبالعجز عن المبالغة في الحال. قالوا: إذا اطلع على أمارات مسألة فهو وغيره سواء. وأجيب بأنه قد يكون ما لم يعلمه متعلقا. النافي: كل ما يقدر جهله , يجوز تعلقه بالحكم المفروض. وأجيب: الفرض حصول الجميع في ظنه عن مجتهد , أو بعد تحرير الأئمة للأمارات ". ش - اختلف الأصوليون في جواز تجزئ الاجتهاد. وصورته أن المجتهد يحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد دون غيرها فهل له أن يجتهد فيها أو

ليس له ذلك حتى يحصل ما هو مناط لجميع ما يمكن أن يقع من المسائل؟ أثبته طائفة ونفاه أخرى. واحتج المثبت بوجهين: الأول: لو لم يتجزأ لزم أن يعلم المجتهد جميع المآخذ ويلزمه العلم بجميع الأحكام وهو ظاهر واللازم باطل لأن مالكا من كبار المجتهدين وسئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري. وأجاب بما معناه أن العلم بجميع المآخذ لا يوجب العلم بجميع الأحكام لجواز عدم العلم ببعض لتعارض الأدلة عنده , ولجواز أن يكون العلم بالمآخذ جميعها حاصلا ولا يعلم الحكم في المسألة للعجز عن المبالغة في استفراغ الوسع في الحال لمانع من تشويش أو اشتغال خاطر أو غير ذلك. والثاني: أن مستفرغ الوسع في مسألة إذا طلع على أماراتها فهو وغيره أي المجتهد المطلق من حيث التمكن من استخراج الحكم فيها سواء. وأجاب بمنع تساويهما فيها لجواز أن يتعلق بتلك المسألة ما لم يعلم به ويعلمه المجتهد المطلق. ورد بأنه إذا لم يعلم جميع متعلقاتها لم يكن عارفا بجميع أماراتها وهو خلاف المفروض.

- هل كان النبي- صلى الله عليه وسلم- متعبدا بالاجتهاد؟

واحتج النافي بأن كل يقدر جهله به يجوز أن يكون متعلقا بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع من مقتضى ما يعلمه من الدليل. وأجاب بأن المفروض حصول جميع ما هو أمارة في تلك المسألة في ظنه نفيا وإثباتا إما بأخذه عن مجتهد وإما بعد تقرير الأئمة الأمارات وضم كل منها إلى ما يجانسها فإذا حصل له ذلك على هذا الوجه عرف أن ما عداها لم يتعلق بها. ص - مسألة: المختار " أنه - عليه السلام - كان متعبدا بالاجتهاد. لنا مثل: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) و " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي " ولا يستقيم ذلك فيما كان بالوحي. واستدل أبو يوسف بقوله - تعالى -: (لتحكم بين الناس بما أراك الله). وقرره الفارسي. واستدل بأنه أكثر ثوابا للمشقة فيه , فكان أولى. وأجيب بأن سقوطه لدرجة أعلى. قالوا: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). وأجيب بأن الظاهر رد قولهم: (افتراه) ولو سلم فإذا تعبد بالاجتهاد بالوحي لم ينطق إلا عن وحي. قالوا: لو كان لجاز مخالفته , لأنها من أحكام الاجتهاد. وأجيب بالمنع , الإجماع عن اجتهاد. قالوا: لو كان لما تأخر في الجواب. قلنا: لجواز الوحي أو لاستفراغ الوسع قالوا القادر على اليقين يحرم عليه الظن. قلنا: لا يعلم إلا بعد الوحي فكان كالحكم بالشهادة ". ش - اختلف الناس في جوتز العمل للنبي - عليه السلام - بالاجتهاد فقال بعضهم: ليس له إلا الوحي الخالص. واختار المصنف جوازه.

واحتج بقوله - تعالى -: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) فإنه - تعالى - عاتب الرسول - عليه السلام - على الإذن فلو كان بالوحي لما عاتب وإذا لم يكن بالوحي تعين الاجتهاد لعدم التشهي إجماعا فلو لم يجز له الاجتهاد لما أقدم على الإذن. وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي " وذلك لأن سوق الهدي الذي وقع منه - عليه السلام - لا يجوز أن يكون بالوحي لعدم جواز تبديله الوحي من تلقاء نفسه فتعين الاجتهاد. واستدل أبو يوسف - رحمه الله - بقوله - تعالى -: (إنا أنزلنا إليك الكتب

بالحق لتحكم بين الناس بما أرىك الله). ووجهه ما قرره أبو علي الفارسي أن الإراءة إما من الرأي الذي هو الاجتهاد , أو من الرؤية بمعنى الإبصار , أو بمعنى العلم لا سبيل إلى الثاني لأن المراد بما في قوله - تعالى -: (بما أرىك الله) هي الأحكام وهي ليست بمبصرة , ولا إلى الثالث وإلا لوجب ذكر المفعول الثالث لوجود المفعول الثاني وهو الضمير الراجع إلى الموصول وهو في حكم الملفوظ فتعين الأول. ورد بأن ما " مصدرية " وحذف المفعول الثاني والثالث جائز. واستدل بأن العمل بالاجتهاد أكثر ثوابا لأنه أشق من العمل بالنص فكان أكثر ثوابا لقوله - عليه السلام -: " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها وما أكثر ثوابا فهو أولى.

وأجاب بأن درجة الوحي أعلى من الاجتهاد لعدم تطرق الخطر إليه فيسقط الاجتهاد في مقابلته. واحتج المانعون بأربعة أوجه: الأول: قوله - تعالى -: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) فإنه يقتضي أن يكون الحكم الصادر عن الرسول بالوحي , والاجتهاد ليس بوحي. وأجاب بأن الظاهر رد ما كان الكفار يقولون إنه: (افترى) وما هو قرآن فقال بل هو قرآن ولو سلم عمومه لم يضر لأنه إذا تعبد بالاجتهاد كان رأيه وحيا وهو وحي خفي فلم ينطق عن الهوى. الثاني: أنه لو جاز له الاجتهاد لجاز مخالفته في الحكم الثابت به لأن جوزها من لوازمه. وأجاب بأنا لا نسلم الملازمة فإن الحكم المجمع عليه بالسند الاجتهادي اجتهادي ولا تجوز مخالفته. الثالث: أنه لو جاز له ذلك لما تأخر في الجواب رعاية لحكم الحادثة وقد توقف في أحكام الوقائع كثيرا منتظرا للوحي. وأجاب بجوابين: أحدهما: أن جواز الاجتهاد إنما هو بعد انتظار مدة الوحي فالتأخير لانتظاره تحقيق لشرط جواز الاجتهاد. والثاني: أن التوقف إنما كان لاستفراغ الوسع فإنه لا بد منه في الاجتهاد. الرابع: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قادرا على تحصيل اليقين بالأحكام بواسطة الوحي , والقادر على اليقين لا يجوز له الظن.

- مسألة وقوع الاجتهاد ممن عاصر النبي- صلى الله عليه وسلم-

وأجاب بأنه قادر على اليقين بالوحي والفرض عدمه فكان كالحكم بالشهادة فإنه يجوز له ذلك وإن كانت تفيد الظن لأن اليقين بالوحي ولا وحي إذ ذاك. ص - مسألة: المختار وقوع الاجتهاد " ممن عاصره ظنا. وثالثها - الوقف ورابعها الوقف فيمن حضره. لنا: قول أبي بكر - رضي الله عنه -: لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد الله يقاتل عن الله ورسوله , فيعطيك سلبه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: صدق. وحكم سعد بن معاذ في بني قريظة. فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم. فقال - عليه السلام -: لقد حكمت بحكم الله من فرق سبعة أرقعة. قالوا: القدرة على العلم تمنع الاجتهاد. قلنا: ثبت الخيرة بالدليل. قالوا: كانوا يرجعون إليه. قلنا: صحيح , فأين منعهم؟ ". ش - واختلفوا في وقوع الاجتهاد ممن عاصره على أربعة مذاهب: الأول: وهو المختار عند المصنف وقوعه مطلقا لكن ظنا لا قطعا. والثاني: أنه لم يقع مطلقا. والثالث: الوقف مطلقاً.

والرابع: الوقف فيمن حضر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الغائب عنه. واحتج على المختار بقول أبي بكر - رضي الله عنه - في حق أبي قتادة إذ قتل رجلا من المشركين وغيره أخذ سلبه: لا ها الله ذا لا يعمد يعني الرسول - عليه السلام - إلى أسد من أسد الله قاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا بل صدق " ولم يكن قال ذلك أبو بكر إلا رأيا. وبما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم سعد بقتلهم وسبي ذراريهم. فقال - عليه السلام -: " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " جمع رقيع , وهو السماء وكان حكمه بالاجتهاد. واحتج النافون لوقوعه بأن معاصره - صلى الله عليه وسلم - يقدر على العلم في الحكم بالرجوع إليه - عليه السلام - في الواقعة والقدرة على العلم تمنع الاجتهاد. وأجاب بأنه ثبتت الخيرة لهم بين المراجعة إليه - عليه السلام - وبين الاجتهاد

- الإجماع على أن المصيب في العقليات واحد

بالدليل وهو تصديقه وتحكيمه وتصويبه في الحكم لأبي بكر وسعد بن معاذ. وبرجوعهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقائع وذلك دليل على عدم جواز الاجتهاد. وأجاب بأن رجوعهم إلى النبي - عليه السلام - في الوقائع صحيح ولكن لم يدل على منعهم من الاجتهاد لجواز أن يكون الرجوع فيما لم يظهر لهم وجه الاجتهاد أو لجواز الأمرين. ص - مسألة: الإجماع على أن المصيب في العقليات واحد " وأن النافي ملة الإسلام مخطئ , آثم , كافر , اجتهد أو لم يجتهد. وقال الجاحظ: لا إثم على المجتهد بخلاف المعاند. وزاد العنبري: كل مجتهد في العقليات مصيب. لنا: إجماع المسلمين على أنهم من أهل النار. ولو كانوا غير آثمين - لما ساغ ذلك. واستدل بالظواهر. وأجيب باحتمال التخصيص قالوا: تكليفهم بنقيض اجتهادهم , ممتنع عقلا وسمعا لأنه مما لا يطاق. وأجيب بأنه كلفهم الإسلام وهو من المتأتي المعتاد , فليس من المستحيل في شيء ". ش - أجمع المسلمون على أن المصيب في العقليات واحد لأن المصيب فيها هو ما وقع مجتهده مطابقا للواقع وذلك لا يكون إلا واحدا. وأجمعوا على أن النافي ملة الإسلام كافر اجتهد أو لم يجتهد.

وقال الجاحظ المجتهد في نفي ملة الإسلام مخطئ وفي غيره إن لم يطابق الواقع ولكن غير آثم بخلاف المعاند. وزاد العنبري على ما قال الجاحظ: إن كل مجتهد في العقليات مصيب. ولعله في عدم الإثم لا في وقوع المعتقد وإلا كان العالم قديما وحادثا وهو محال. واحتج المصنف على أن نافي ملة الإسلام كافر اجتهد أو لم يجتهد بإجماع المسلمين على أن نافيها من أهل النار ولو لم يكن آثما لم يصح لهم هذا الحكم. واستدل على أن نافي ملة الإسلام مخطئ كافر اجتهد أو لم يجتهد بظواهر الآيات كقوله - تعالى -: (فويل يومئذ للمكذبين) وقوله: (ذلك ظن الذين كفروا). وقوله: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أردىكم) وقوله: (ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون).

- مسألة: ذهب عامة العلماء إلى عدم تأثيم المجتهد المخطيء في الشرعيات

ووجه الاستدلال بها أن الله - تعالى - ذمهم على اعتقادهم وتواعدهم بالعقاب ولو كانوا معذورين لما كان كذلك. وأجاب عنه باحتمال التخصيص بأن يكون المراد به المعاند. واحتج من نفي الإثم عن المجتهد في نفي الإسلام بأن تكليف الكفار نقيض ما أدى إليه اجتهادهم ممتنع إذ لا قدرة لهم على نقيض ذلك فكان تكليف ما ليس في الوسع. وأجاب بأن التكليف بنقيض ما أدى إليه اجتهادهم ليس بممتنع لأن نقيض ما أدى إليه اجتهادهم ليس بمحال لذاته بل هو ممكن لكنه مناف لما تعودوه وهو معتاد والتكليف بالمنافي المعتاد واقع فإنهم كلفوا بالإسلام وهو مناف لما تعودوه وهو معتاد والتكليف بالمنافي المعتاد واقع فإنهم كلفوا بالإسلام وهو مناف لمعتادهم ومعتاد لحصوله من غيرهم ومثله لا يكون ممتنعا. ص - مسألة: القطع لا أثم على مجتهد في حكم شرعي " اجتهادي. وذهب بشر المريسي والأصم إلى تأثيم المخطئ. لنا: العلم بالتواتر باختلاف الصحابة المتكرر الشائع من غير نكير ولا تأثيم لمعين ولا مبهم. والقطع أنه لو كان إثم لقضت العادة بذكره. واعترض كالقياس ". ش - لما فرغ من بيان الاجتهاد في العقليات بين الاجتهاد في الشرعيات. ذهب عامة العلماء إلى عدم تأثيم المجتهد المخطئ فيها خلافا لبشر المريسي

- المسألة التي لا قاطع فيها هل كل مجتهد فيها مصيب أو لا؟

وأبي بكر الأصم. ودليل العامة أن العلم حصل بالتواتر فإن الصحابة اختلفوا اختلافا متكررا شائعا من غير نكير ولا تأثيم بعضهم بعضا لا بطريق التعيين بأن يقال فلان أخطأ ولا بطريق الإبهام بأن يقال أحدها مخطئ , والقطع حاصل بأنه لو أثم معين أو مبهم لقضت العادة بذكره لكونه من المهمات. واعترض على هذا بمثل ما اعترض على القياس من أنهم أثم بعضهم بعضا في العمل بالاجتهاد وأنكر عليه. ولئن سلم أنه لم ينقل فعدم النقل لا يدل على عدم الإنكار. والجواب هاهنا كالجواب هنالك. ص - مسألة: المسألة التي لا قاطع فيها. " قال القاضي والجبائي: كل مجتهد فيها مصيب وحكم الله فيها تابع لظن المجتهد. وقيل: المصيب واحد , ثم منهم من قال: لا دليل عليه , كدفين يصاب. وقال الأستاذ: إن دليله ظني , فمن ظفر به , فهو المصيب. وقال المريسي والأصم:

دليله قطعي. والمخطئ آثم. ونقل عن الأئمة الأربعة التخطئة والتصويب. فإن كان فيها قاطع , فقصر فمخطئ آثم , وإن لم يقصر فالمختار مخطئ غير آثم. لنا: لا دليل على التصويب. والأصل عدمه. وصوب غير معين للإجماع. وأيضا: لو كان مصيبا لاجتمع النقيضان , لأن استمرار قطعه مشروط ببقاء ظنه للإجماع على أنه لو ظن غيره لوجب الرجوع فيكون ظانا عالما بشيء واحد. لا يقال: الظن ينتفي بالعلم , لأنا نقطع ببقائه. ولأنه كان يستحيل ظن النقيض مع ذكره. فإن قيل: " الظن متعلق " بأنه الحكم المطلوب والعلم بتحريم المخالفة فاختلف المتعلقان فإذا تبدل الظن زال شرط تحريم المخالفة. فإن قيل: فالظن متعلق بكونه دليلا والعلم ثبوت مدلوله فإذا تبدل الظن زال شرط ثبوت الحكم. قلنا: كونه دليلا حكم أيضا. فإذا ظنه علمه وإلا جاز أن يكون المتعبد به غيره فلا يكون كل مجتهد مصيبا. وأيضا أطلق الصحابة الخطأ في الاجتهاد كثيرا وشاع وتكرر ولم ينكر. عن علي وزيد وغيرهما - رضي الله عنهم - أنهم خطأوا ابن عباس في ترك العول , وخطأهم وقال: من باهلني باهلته أن الله لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا ". ش - المسألة: إما أن يكون فيها قاطع من نص أو إجماع أو لا يكون. فإن كان الثاني فقد اختلف فيها. قال القاضي والجبائي: كل مجتهد مصيب فيها وليس فيها

قبل الاجتهاد لله حكم وإنما حكمه فيها تابع لظن المجتهد لما أدى إليه اجتهاده كان حكم الله فيها في حقه وحق من قلده. وقيل: لله فيها حكم والمصيب واحد. ثم اختلفوا فمتهم من قال لا دليل على ذلك الحكم بل يوقف عليه بطريق الاجتهاد كدفين يصاب بطريق الاتفاق فمن ظفر به أصاب ومن لم يظفر به فقد أخطأ. ومنهم من قال عليه دليل. ثم اختلفوا فيما بينهم. فقال الأستاذ دليله ظني من ظفر به أصاب وله أجران ومن لم يظفر به أخطأ

وله أجر واحد. وقال بشر والأصم: دليله قطعي والمخطئ آثم. ونقل عن الأئمة الأربعة التخطئة والتصويب يعني تصويب كل مجتهد وتخطئته. وقد ذكرنا ما نقل عن أبي حنيفة في ذلك في التقرير فليطلب ثمة. وإن كان الأول فإن قصر المجتهد في طلبه ولم يجد فمخطئ آثم. وإن لم يقصر فقد اختلفوا فيه , فقيل إنه غير مخطئ. والمختار أنه مخطئ غير آثم واحتج المصنف على ذلك بثلاثة أوجه: الأول: لا دليل على تصويب الكل والأصل عدمه. وفيه نظر لأن للمصوبة أدلة. فإن قيل هذا يستلزم أن لا يصوب أحد من المجتهدين. أجيب بأن الدليل يقتضي ذلك لكنه ترك للإجماع على تصويب واحد غير معين ولأنه يفضي إلى عدم جواز الاجتهاد لعدم فائدته وهو خلاف ما تقدم.

والثاني: أن كل مجتهد لو كان مصيبا لاجتمع النقيضان لأن المجتهد إذا ظن أن حكم الله في حقه ما أدى إليه اجتهاده قطع بأن الحكم ذاك لعلمه أن كل مجتهد مصيب. وإذا قطع استمر قطعه إذ الأصل بقاء الشيء على ما كان. واستمرار قطعه مشروط ببقاء ظنه للإجماع على أنه لو ظن غيره وجب الرجوع إليه. فيكون ظانا عالما بشيء واحد في زمان فيلزم اجتماع النقيضين ضرورة اقتضاء القطع عدم احتمال النقيض والظن احتماله. ولا يخفى تطويله ويكفي أن يقال: لأنه إذا اجتهد ظن أن ذلك حكم الله وإذا ظن ذلك قطع بأنه حكم الله لعلمه بأن كل مجتهد مصيب فكان ظانا عالما. وأورد على الملازمة بأنا لا نسلم أن الظن ينفى عند عدم العلم بل ينتفي به لأن الأضعف يزول بالأقوى. وأجاب بوجهين: أحدهما: أنا نقطع ببقاء الظن عند بقاء الإصابة الموجبة لاستمرار القطع فلا يمكن منعه. وغايته أنه يلزم على تقدير أن يكون كل مجتهد مصيبا بقاء الظن عند استمراره وعدم بقائه وهو محال يلزم من تقدير تصويب كل مجتهد فيكون التقدير محالا لأن ما يفضي إلى المحال محال. والثاني: أنه لو انتفى ظن ما أدى إليه الاجتهاد بالعلم به لاستحال ظن نقيض ما أدى إليه الاجتهاد مع ذكر ما أدى إليه الاجتهاد للعلم به , وذلك لأن عند ظن نقيض ما أدى إليه الاجتهاد يكون ما أدى إليه الاجتهاد موهوما اللازم نقيض ما أدى إليه الاجتهاد فبالعلم به أحرى بالانتفاء فينتفي وهم ما أدى إليه الاجتهاد بالعلم مما أدى إليه الاجتهاد فينتفي ملزومه وهو ظن نقيض ما أدى إليه الاجتهاد , ويثبت المطلوب وهو الملازمة المذكورة. ويلزم استحالة ظن نقيض ما أدى إليه الاجتهاد عند العلم بما أدى إليه الاجتهاد

لكن لا يستحيل ظن نقيض ما أدى إليه الاجتهاد للإجماع على جواز ظن نقيض الحكم عند ذكر الحكم. وفيه نظر لأن كون ما أدى إليه الاجتهاد وهو الحكم موهوما عند ظن النقيض إما أن يكون عند الذاكر أو عند غيره. فإن كان الأول فلا علم لما تقدم في أول الكتاب , وإن كان عند غيره فلا ينهض جوابا لأن الكلام في ظن الذاكر. ولأن الفرض زوال الظن والوهم بالعلم فأين الوهم اللازم عند ظن النقيض حتى ينتفي بانتفائه الملزوم؟ فإن قيل ما ذكرتم من لزوم اجتماع النقيضين مشترك الإلزام فإنه كما يلزم على ذلك تصويب كل مجتهد يلزم على تصويب واحد لأن الإجماع على أن المجتهد إذ ظن وجوب الفعل أو حرمته وجب عليه اتباع ظنه فليزم وجوبه أو حرمته قطعا مع كونه ظانا بالوجوب أو الحرمة فكان الشيء معلوما مظنونا في زمان واحد. قلنا: الظن يتعلق بأن الوجوب أو الحرمة هو الحكم المطلوب بالاجتهاد والعلم يتحقق بتحريم مخالفة ذلك للظن فاختلف المتعلقان واندفع التناقض. ولقائل أن يقول فعلى هذا يجوز تصويب كل مجتهد ولا يلزم التناقض لاختلاف متعلق الظن والعلم كما ذكرتم. قوله: فإذا تبدل الظن زال شرط المخالفة , إشارة إلى جواب دخل. تقريره: متعلق العلم والظن واحد لأنه إذا تبدل ظن الحكم زال العلم بتحريم مخالفته وذلك يدل على أن متعلقهما واحد. وتقرير الجواب: أن الظن شرط العلم بتحريم المخالفة فإذا تبدل " الظن " زال شرط العلم بتحريم المخالفة فيزول العلم بتحريم المخالفة لزوال شرطه لا لأن متعلقهما واحد. فإن قيل على تقدير تصويب كل مجتهد لم يلزم اجتماع النقيضين لاختلاف

المتعلقين فإن متعلق " الظن " كون الدليل الذي أقامه المجتهد على الحكم دليلا ومتعلق العلم بثبوت مدلوله وهو الحكم وزوال العلم عند تبدل الظن لا يوجب كون المتعلقين واحدا لأن الظن شرط العلم وزوال الشرط يوجب زوال المشروط. أجيب بأن كون الدليل الذي أقامه المجتهد على الحكم دليلا هو أيضا حكم فإذا ظنه لزم أن يكون معلوما وإلا لجاز أن يكون " المتعبد " به غيره فلا يكون كل مجتهد مصيبا وحينئذ يلزم أن يكون كون الدليل دليلا معلوما مظنونا في حالة واحدة وهو محال. ولقائل أن يقول: كون الدليل حكما إما أن يكون عقليا ولا مدخل له في الباب أو شرعيا وليس كذلك لأنه ليس من الخمسة المذكورة. والاجتهاد إنما يكون بذل الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي كما تقدم. سلمناه ولكن يصح أن يقال في إصابة الواحد أن متعلق الظن هو الوجوب أو الحرمة فإذا ظنه قطع به فكان معلوما وإلا لجاز أن يكون المتعبد به غيره فيكون مظنونا معلوما. والوجه الثالث: أن الصحابة - رضي الله عنهم - أطلقوا الخطأ في الاجتهاد كثيرا وشاع وتكرر ولم ينكر فكان إجماع منهم على أن المصيب واحد. منها ما روي عن علي وزيد بن ثابت وغيرهما كابن مسعود - رضي الله عنهم - أنهم خطأوا ابن عباس في ترك العول , وخطأهم ابن عباس وقال من شاء باهلته أن الله - تعالى - لم يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا. ومنها ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: ألا يتقي الله زيد

- أدلة القائلين بأن المصيب واحد

يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أبا. والله أعلم. ص - واستدل: إن كانا بدليلين. " فإن كان أحدهما راجحا تعين , وإلا تساقطا وأجيب بأن الأمارات تترجح بالنسب فكل راجح. واستدل بالإجماع على شرع المناظرة فلولا تبيين الصواب لم تكن فائدة. وأجيب: بتبيين الترجيح أو التساوي أو التمرين. واستدل بأن المجتهد طالب ولا مطلوب , محال. فمن أخطأه , فهو مخطئ قطعا. وأجيب: مطلوبه ما يغلب على ظنه , فيحصل. وإن كان مختلفا. واستدل بأنه يلزم حل الشيء وتحريمه لو قال مجتهد شافعي لمجتهدة حنفية: أنت بائن. ثم قال: راجعتك. وكذلك لو تزوج مجتهد امرأة بغير ولي , ثم تزوجها بعده مجتهد بولي. وأجيب بأنه مشترك الإلزام , إذ لا خلاف في لزومه اتباع ظنه. وجوابه أن يرفع إلى الحاكم فيتبع حكمه ". ش - واستدل على عدم إصابة كل مجتهد بوجوه أربعة: الأول: إذا اختلف اجتهادان في حكم فإما أن يكون اجتهاد كل من المجتهدين بدليل أو لا. فإن كان الثاني يلزم تخطئاهما " إن كانا بلا دليل " أو

تخطئة من لا دليل له. وإن كان الأول فإما إن يرجح أحدهما أو لا. فالأول يستلزم تصويب صاحبه وتخطئة غيره. والثاني يلزم تساقطهما وتخطئتهما جميعا. وأجاب بأنه على كل منهما أمارة والأمارات ترجح بالنسب إلى الأشخاص وكل أمارة تترجح بالنسبة إلى من يقول بها. وحاصله اختيار النسق الأول من الترديد ونفي استلزامه لما ذكره وذلك لأنه إنما يلزمه ذلك أن لو كان أحد الدليلين مرجحا على غيره مطلقا. وأما إذا كان مرجحا بالنسبة إلى من يقول به فلا يلزم ذلك. الثاني: أن الإجماع منعقد على شرعية المناظرة وفائدتها تبيين الصواب لأن الأصل عدم الغير ولو كان كل مجتهد مصيبا لم يشرع لعدم فائدتها. وأجاب بجواز أن تكون الفائدة بيان ترجح أحد الأمارتين على الأخرى أو تساويهما أو تمرين النفس لاستنباط الأحكام. ولقائل أن يقول ترجح إحدى الأمارتين ليس مقصودا لذاته فيكون لتبين " للصواب " لأن الأصل عدم غيره. وأما بيان التساوي فليس بمقصود أصلا , وتمرين النفس للاستنباط إن كان لتبين الصواب ثبت المدعى وإن لم يكن فهو مستغني عنه لأن كل ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد إذ ذاك صواب فلا حاجة إلى التمرين. والثالث: أن المجتهد طالب وكل طالب لا بد له من مطلوب موجود لاستحالة طلب المعدوم فمن وجد ذلك المطلوب فهو المصيب فكان المصيب واحدا. وأجاب بما معناه سلمنا ذلك لكن لا يلزم أن يكون ذلك المطلوب واحدا فإن المصوبة تقول بتعدده واختلافه فمطلوب كل منهم ما يغلب على ظنه أنه حكم الله في الحادثة وهو موجود في الذهن ولا حاجة إلى تعينه في نفس الأمر فمن ذهب اجتهاده إلى شيء وهو مطلوبه وهو حكم الله عنده فكان كل مجتهد مصيباً.

- أدلة القائلين بأن كل مجتهد مصيب

والرابع: أنه لو كان كذلك " لدخل " الشيء وتحريمه فيما إذا قال شافعي لزوجته الحنفية: أنت بائن. ثم راجعها فإنها بالنظر إلى الزوج تحل لأن الواقع به طلاق رجعي. وبالنظر إليها تحرم لأن الواقع به بائن , ولذلك لو تزوج مجتهد حنفي امرأة بغير ولي. ثم تزوجها بعده شافعي بولي يلزم حل المرأة وحرمتها بالنسبة إلى كل واحد من الزوجين. وأجاب بأن هذا مشترك الإلزام فإنه على تقدير أن يكون المصيب واحدا يلزم كل اتباع ظنه فإنه يجب على كل مجتهد اتباع ظنه وذلك يستلزم كون الشيء الواحد حلالا حراما معا جميعا. ثم قال المصنف: والجواب أن المتبع في مثل ما ذكر هو حكم الحاكم لا اجتهادهما فرفع إلى الحاكم. ص - قال المصوبة: قالوا: " لو كان المصيب واحدا لوجب النقيضان , إن كان المطلوب باقيا أو وجب الخطأ إن سقط الحكم المطلوب. وأجيب بثبوت الثاني بدليل أنه لو كان فيها نص أو إجماع , ولم يطلع عليه بعد الاجتهاد وجب مخالفته , وهو خطأ , فهذا أجدر. قالوا: قال: " بأيهم اقتديتم اهتديم ". ولو كان أحدهما مخطئا لم يكن هدى. وأجيب بأنه هدى لأنه فعل ما يجب عليه من مجتهد أو مقلد ". ش - احتجت المصوبة بأن المجتهد المصيب إن كان واحداً ولم يصب

- مسألة: تقابل الدليلين العقليين محال

الحكم في الواقع بل أدى اجتهاده إلى خلافه فإما أن يكون الحكم الذي هو في الواقع باقيا على المجتهد أو سقط عنه , والأول يستلزم اجتماع النقيضين والثاني يستلزم الخطأ والعمل به. وأجاب بالتزام الخطأ فإن المجتهد يخطئ ويصيب وذلك بالإصابة وعدمها فيكون كمن اجتهد في مسألة فيها نص أو إجماع وسعى في الطلب ولم يجد بعد استفراغ الوسع فإنه يجب عليه الأخذ بموجب ظنه وإن كان خطأ للمخالفة وإذا التزم الخطأ فيما فيه ذلك ففي الذي فيه أولى. وبأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ووجه الاستدلال: أن الصحابة اختلف اجتهادهم فلو كان بعضهم مخطئا كان الاقتداء به ضلالة. وأجاب بأن الخطأ في الاجتهاد لا ينافي كونه هدى لأن العمل به واجب على المجتهد ومقلده , والهدى هو فعل ما يحب على المكلف مقلدا كان أو مجتهدا. وفيه نظر لأنه تفسير بالتشعي فللخصم أن يقول الهدى عبارة عن فعل ما طابق الواقع. ص - قال: مسألة تقابل الدليلين: " العقليين محال لاستلزامهما النقيضين. وأما تقابل الأمارات الظنية وتعادلها. فالجمهور: جائز. خلافا لأحمد والكرخي. لنا: لو امتنع - لكان لدليل , والأصل عدمه ". ش - الدليل هو الذي يستلزم المدلول وحينئذ يكون التقابل بين العقلين مستلزما لاجتماع النقيضين وهذا بلا خلاف. وأما الأمارات وهي التي تفيد الظن فتقابلها وتعادلها جائزان عند الجمهور

- مسألة: لا يستقيم لمجتهد قولان متناقضان في وقت واحد

خلافاً لأحمد والكرخي. احتج الجمهور بأن ذلك لو كان ممتنعا لكان لغيره لا محالة ونحن بحثنا ولم نجد دليلا على امتناعه والأصل عدمه. ولقائل أن يقول هو ممتنع لذاته سلمناه لكن الدليل قد دل على امتناعه وهو الإفضاء إلي بنسبة الجهل إلي وهو باطل قطعا. ص - " قالوا: لو تعادلا فإما أن يعمل بهما أو بأحدهما معينا أو مخيرا , أو لا. والأول باطل. والثاني تحكم. والثالث حرام لزيد , حلال لعمرو من مجتهد واحد. والرابع كذب , لأنه يقول: لا حلال ولا حرام , وهو أحدهما. وأجيب يعمل بهما في أنهما وقفا فيقف أو بأحدهما مخيرا أو لا يعمل بهما. ولا تناقض إلا من اعتقاد نفي الأمرين , لا في ترك العمل ". ش - واحتج المانعون من تعادل الأمارتين بأنهما لو تعادلتا فإما أن يعمل بهما فيلزم التناقض أو بأحدهما معينا فيلزم التحكم لتساويهما أو مخيرا فيلزم جواز أن يفتي لزيد بالحل ولعمرو بالحرمة فيكون الشيء الواحد حلالا وحراما بفتوى مجتهد واحد وهو محال أو لا يعمل بهما أصلا فيلزم الكذب فإنه لا بد وأن يقول ليس بحلال ولا حرام وهو غير مطابق للواقع لأنه فيه إما حلال أو حرام.

وأجاب بأنه يعمل بهما ولا يلزم التناقض لأن مقتضى العمل بهما عند الاجتماع ليس مقتضاه عند الانفراد وإنما مقتضاه عند الاجتماع الوقف بأن يوقف كل منهما الأخرى عن ترتب مقتضاها عليها فيقف المجتهد عنها ولا تناقض فيه وبأنه يعمل بإحداهما على التخيير ولا امتناع في ذلك كما لم يمتنع " بالنقض " وأن امتناعه ليس ضروريا ولم يقم عليه دليل وبأنه لا يعمل بواحدة منهما فلا يلزم الكذب لأنه يلزم من نفي الأمرين في نفس الأمر لا من العمل بهما فجاز أن تكون أحديهما ثابتة في نفس الأمر ولا يعمل بواحدة منهما. ص - مسألة: لا يستقيم لمجتهد " قولان متناقضان في وقت واحد بخلاف وقتين , أو شخصين على قول التخيير. فإن ترتبا فالظاهر , رجوع. وكذلك المتناظرتان , ولم يظهر فوق. وقول الشافعي - رحمه الله - في سبع عشرة مسألة , فيها قولان. إما للعلماء. وإما فيها ما يقتضي للعلماء , قولين لتعادل الدليلين عنده. وإما لي قولان على التخيير عند التعادل. وإما تقدم لي فيها قولان ". ش - لا يستقيم أن يكون للمجتهد واحد في مسألة واحدة في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد قولان متناقضان لأن الدليلين إن تعادلا توقف وإن رجح أحدهما تعين. وأما في وقتين فيجوز لجواز تغير الاجتهاد وكذا في وقت واحد بالنسبة إلى شخصين على القول بالتخيير عند تعادل الأمارتين دون القول بالوقف.

- مسألة: لا ينقض الحكم في الاجتهاديات

فإن كان لمجتهد قولان مرتبان في وقت بعد وقت فالظاهر أن الأخير رجوع عن الأول لتغير الاجتهاد. وكذا إذا كان القولان في مسألتين متناظرتين لا يظهر بينهما فارق فإن ظهر حمل عليه. وإذا ظهر هذا فلا بد من بيان مجمل لما نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال في سبع عشرة مسألة فيها قولان وذلك وجوه. الثاني: أن فيها ما يقتضي للعلماء قولين لتعادل الدليلين عنده. الثالث: أن لي فيها قولين على التخيير عند التعادل. الرابع: أن لي فيها قولين على الترتيب. وهو معنى قوله: وإما تقدم لي فيها قولان. ص - مسألة: لا ينقض الحكم في الاجتهاديات " منه ولا من غيره باتفاق , للتسلسل , فتفوت مصلحة نصب الحاكم. وينقض إذا خالف قاطعا. فلو حكم على خلاف اجتهاده - كان ذلك باطلا , وإن قلد غيره اتفاقا. فلم تزوج امرأة بغير ولي , ثم تغير اجتهاده - فالمختار: التحريم. وقيل: إن لم يتصل به حكم. كذلك المقلد بتغير اجتهاد مقلده. فلو حكم مقلد بخلاف إمامه - جرى على جواز تقليد غيره ". ش - حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية إما أن يكون على خلاف اجتهاده

- مسألة: المجتهد قبل أن يجتهد ممنوع من التقليد

أو لا فإن كان الأول فهو باطل ينقض سواء كان الحاكم قلد غيره في ذلك الحكم أو لم يقلد. وإن كان الثاني فإما أن يخالف قاطعا أو لا والأول ينقض والثاني لا يجوز نقضه لا للحاكم ولا لغيره لئلا يتسلسل فتفوت مصلحة نصب الحاكم , فإذا أدى اجتهاده إلى صحة التزوج بغير ولي ثم تغير اجتهاده. اختلفوا في وجوب العمل بالثاني. والمختار وجوبه فتحرم الزوجة , وقيل بعدم وجوبه إذا اتصل بالأول حكم الحاكم لأن الثاني كان كالأول فإذا اتصل الحكم بالأول ترجح. وكذلك إذا تغير اجتهاد المقلد يجب على المقلد العمل باجتهاد الثاني ولو حكم مقلد على خلاف مذهب إمامه جرى ذلك على جواز تقليد مقلد بعد أن قلد شخصا آخر فإن جاز تقليد غير من قلده أولا جاز له الحكم بخلاف إمامه وإلا فلا. ص - مسألة: المجتهد قبل أن يجتهد ممنوع من التقليد. " وقيل: فيما لا يخصه. وقيل: فيما لا يفوت وقته. وقيل: إلا أن يكون أعلم منه. وقال الشافعي: إلا أن يكون صحابيا , وقيل أرجح. فإن استووا , تخير. وقيل: أو تابعياً.

وقيل: غير ممنوع , وبعد الاجتهاد اتفاق , لنا: حكم شرعي , فلا بد من دليل , والأصل عدمه بخلاف النفي فإنه يكفي فيه انتفاء دليل الثبوت. وأيضا: متمكن من الأصل فلا يجوز البدل , كغيره. واستدل: لو جاز قبله لجاز بعده. وأجيب: بأنه بعده حصل الظن الأقوى. المجوز: (فاسئلوا أهل الذكر). قلنا: للمقلدين , بدليل (إن كنتم) ولأن المجتهد من أهل الذكر. الصحابة. " أصحابى كالنجوم " وقد سبق. قالوا: المعتبر الظن , وهو حاصل. أجيب: بأن ظن اجتهاد أقوى ". ش - تقليد مجتهد غيره إما أن يكون قبل الاجتهاد أو بعده فإن كان قبله فقد اختلف فيه. والمختار عند المصنف أنه ممنوع عن ذلك. وقيل: ممنوع عن ذلك فيما لا

يخصه أي فيما لا يفتي به ولا يكون ممنوعا فيما يخصه أي يتعلق بنفسه. وقيل: إنما يجوز التقليد فيما يخصه إذا فات الوقت إن اشتغل بالاجتهاد. وقيل: هو ممنوع عنه إلا أن يكون مقلده أعلم منه. وقال الشافعي: إذا كان مقلده صحابيا. وقيل: يجوز له تقليد الصحابي إذا كان الصحابي أرجح في نظره من غيره , وإن استووا في نظره تخير في تقليد من شاء. وقيل: يجوز له التقليد إذا كان المقلد صحابيا أو تابعيا. وقيل: المجتهد قبل الاجتهاد غير ممنوع عن التقليد مطلقا , وإن كان بعد الاجتهاد فممنوع بالاتفاق. واحتج المصنف على المختار بوجهين: الأول: أن جواز تقليد المجتهد حكم شرعي وكل ما هو كذلك لا بد له من دليل شرعي ولم يجد ما يصلح دليلا والأصل عدمه. فإن قيل نفي الجواز كذلك. أجاب بقوله بخلاف النفي ومعناه عدم الجواز نفي والنفي يكفي فيه انتفاء دليل الثبوت. الثاني: أن الاجتهاد أصل والتقليد بدل والقدرة على الأصل تنفي البدل كالوضوء مع التيمم.

واستدل بأنه لو جاز تقليده قبل الاجتهاد لجاز بعده لأن المانع تمكن المجتهد من معرفة الحكم بالاجتهاد وهو موجود في الحالتين واللازم باطل بالاتفاق. وأجاب بأن الحاصل بعد الاجتهاد ظن أقوى من الحاصل قبله ولا يلزم من منع المانع القوي منع غيره. احتج مجوز تقليد المجتهد قبل الاجتهاد مطلقا بقوله - تعالى -: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أمر بالسؤال وذلك يقتضي اتباع المسؤول عنه واعتقاد قوله صونا عن الإلغاء. وأجاب بأن المراد المقلدون بوجهين: أحدهما: أن السؤال مشروط بعدم العلم فمن له العلم لا يدخل تحته وليس المراد بالعلم حصوله بالفعل البتة بل القوة القريبة من الفعل كافية وللمجتهد قبل الاجتهاد القوة المذكورة فلا يدخل تحت الخطاب. وقيل تمحل لا يخفي. والثاني: أن المجتهد من أهل الذكر فيكون مسؤولا سائلا فلا يدخل تحت المأمورين بالسؤال. واحتج مجوز تقليد المجتهد الصحابي بقوله - عليه السلام -: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". وأجاب بما سبق أنه للمقلد. وقد احتج المجوز مطلقا أيضا بأن المعتبر في جواز العمل بالظن وهو حاصل بالتقليد. وأجاب: بأن ظن اجتهاده أقوى من الحاصل بفتوى غيره والتمكن من الأقوى

- مسألة: هل يجوز أن يقال للمجتهد: احكم بما شئت

يمنع من غيره. ص - مسألة: يجوز أن يقال للمجتهد: " احكم بما شئت , فهو صواب. وتردد الشافعي: ثم المختار: لم يقع. لنا: لو امتنع - لكان لغيره , والأصل عدمه. قالوا: يؤدي إلى انتفاء المصالح لجهل العبد. وأجيب بأن الكلام في الجواز ولو سلم - لزمن المصالح , وإن جهلها. الوقوع. قالوا: (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه). وأجيب بأنه يجوز أن يكون بدليل ظني. قالوا قال - صلوات الله عليه: " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " فقال العباس: إلا الإذخر. فقال: " إلا الإذخر ". وأجيب بأن الإذخر ليس من الخلا. فدليله الاستصحاب. أو منه ولم يرده. وصح استثناؤه " لولا أن أشق " و " أحجنا هذا لعامنا أو للأبد " و " لو قلت نعم لوجب ". ولما قتل النضر بن الحارث. ثم أنشدته ابنته. ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق. فقال - عليه السلام -: " لو سمعته ما قتلته ". وأجيب: يجوز أن يكون خير فيه معينا. ويجوز أن يكون بوحي ". ش - هذه المسألة تعرف بمسألة التفويض وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له أحكم بما شئت فإنه صواب. واختلف في جوازه. ومختار المصنف جوازه. وتردد

الشافعي - رحمه الله - فيه. والمجوزون اختلفوا في وقوعه. والمختار أنه لم يقع. لنا: لو امتنع لكان لغيره إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته والأصل عدم الغير. قال شيخي العلامة: فإن قيل هذا يناقض ما ذكر في جواز تقليد المجتهد وهو أن الامتناع نفي والنفي يكفي فيه عدم دليل الثبوت. أجيب بأن الجواز والامتناع الإذن الشرعي في العمل بالتقليد وعدم الإذن. ولا شك أن عدم الإذن يكفي فيه عدم دليل الإذن. والجواز والامتناع هاهنا الإمكان العقلي والامتناع العقلي والأصل في الأشياء الإمكان. فالامتناع العقلي يحتاج إلى دليل دون الإمكان. واحتج المانعون عن الجواز بأن تفويض الحكم إلى مشيئة المجتهد يؤدي إلى انتفاء المصالح المقصودة من شرع الحكم لأن العباد جاهلون بالمصالح فيجوز أن يختار ما ليس بمصلحة. وأجاب بأن الكلام في الجواز لا في الوقوع والجواز لا يستلزم انتفاء المصالح. ولو سلم أن الكلام في الوقوع لزمت المصالح وإن جهلها العبد لأن الشرع أخبر عن إصابته لما يختاره العبد يكون مصلحة.

وفيه نظر لأن الشرع أخبر عن إصابته في الاجتهاد لا فيما اختاره عن غير اجتهاد للقطع بعدمها إن خالف قاطعا. والقائلون بوقوع التفويض احتجوا بأجه: الأول: قوله - تعالى -: (كل الطعام كان حلا لبنى إسرءيل إلا ما حرم إسرءيل على نفسه) فإنه يدل على أن التحريم كان مفوضا إلى مشيئته. وأجاب بأنه يدل على أنه حرام على نفسه وليس فيه ما يدل على عدم الدليل فجاز أن يكون تحريمه بدليل ظني. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة " إن الله - تعالى - حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاؤها ولا يعضد شجرها " فقال العباس - رضي الله عنه - يا رسول الله إلا الإذخر. فقال - عليه السلام -: " إلا الإذخر " استثنى من تلقاء نفسه لا بدليل لظهور عدم نزول الوحي في تلك اللحظة بعدم ظهور أماراته. وأجاب بأن الإذخر ليس من جنس الخلاء فجواز اختلائه لا يكون مستفادا من الاستثناء بل بالاستصحاب والاستثناء مؤكد له. سلمنا أن الإذخر من جنس الخلاء لكن يجوز أن لا يكون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يدخل تحت التحريم.

فإن قيل عدم الإرادة تنافي صحة الاستثناء. أجيب بأنا لو قدرنا أن استثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرير لاستثناء العباس ومعناهما واحد صح الاستثناء وإن لم يرد الرسول - عليه السلام - لفهم العباس إرادة الآخر فتكون صحته بناء على فهم العباس الإرادة لا على إرادة الرسول. سلمنا أن الإذخر من جنس الخلاء وأريد منه وقدرنا أن تكرير الاستثناء لأجل الإرادة لكن لا يفيد المطلوب. فإنه يجوز أن " يثبته " حرمة الإذخر بالعام ونسخ بوحي سريع , ومثله لا يحتاج إلى ظهور علامة إنما ذلك فيما يطول زمانه. الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " فإنه أسند الأمر إلى نفسه وهو دليل التفويض. الرابع: أنه لما قام سراقة بن مالك في حجة الوداع. وقال يا رسول الله أحجنا هذا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال - عليه السلام -: " للأبد " " ولو قلت نعم لوجب ".

وذلك يدل على أنه كان مفوضا إليه وإلا لما كان قوله: نعم موجبا. الخامس: أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءت ابنته قتيلة إلى النبي - عليه السلام - وأنشدته:

- مسألة: المختار أنه - عليه الصلاة والسلام- لا يقر على خطأ في اجتهاده

ما ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لو سمعته ما قتلته " ولولا أن قتلته فوض إليه لم يقل. وأجاب عن الوجوه الثلاثة بأنه يجوز أن يكون الرسول مخيرا بين الأمرين على التعيين على معنى أنه خير بين أن يأمر بالسواك أو لا يأمر , وبين أن يأمر بالحج في كل سنة وأن لا يأمر , وأن يقتل وأن لا يقتل بالشفاعة. ويجوز أن يكون قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالوحي لا من تلقاء نفسه فلا يتصل بمحل النزاع. ص - مسألة: المختار أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على اجتهاد وقيل: بنفي الخطأ. لنا: لو امتنع - لكان المانع , والأصل عدمه. وأيضا: (لم أذنت). (ما كان لنبي) حتى قال: " لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه غير عمر " لأنه أشار بقتلهم وأيضا: " إنكم تختصمون إلي , ولعل أحدكم ألحن بحجته. فمن قضيت له بشيء من مال أخيه , فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار ". وقال: " أنا أحكم بالظاهر ". وأجيب بأن الكلام في الأحكام , لا في فصل الخصومات. ورد بأنه مستلزم للحكم الشرعي المحتمل. قالوا: لو جاز - لجاز أمرنا بالخطأ. وأجيب بثبوته للعوام. قالوا: الإجماع معصوم , فالرسول أولى. قلنا: اختصاصه بالرتبة. واتباع الإجماع له يرفع الأولوية. فيتبع الدليل قالوا: الشك في حكمه مخل بمقصود البعثة. وأجيب بأن الاحتمال في الاجتهاد لا يخل. بخلاف الرسالة والوحي ". ش - اختلفوا في جواز الخطأ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده.

والمختار أنه لا يقر عليه ومن الناس من نفاه عنه. واستدل المصنف على المختار بالمعقول والكتاب والسنة. أما المعقول فهو أنه لو لم يجز الخطأ في اجتهاده لكان لمانع حيث هو ليس بممتنع لذاته والأصل عدم المانع. ولقائل أن يقول رتبة الرسالة توجب العصمة المانعة عن الكفر والمعاصي لا محالة فلم لا يجوز أن تمنع الخطأ في الاجتهاد. وأما الكتاب فقوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) دل على الخطأ في الإذن ولم يكن بالوحي وإلا لما عوتب. وقوله - تعالى - في أسارى بدر: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) والوحي لا ينكر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: " لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر " لأنه

أشار بقتلهم وترك الفداء والموحى إليه والمجتهد فيه إذا لم يكن خطأ لا يوجبان ذلك. وفيه نظر لأن العذاب والإنكار إنما هو على تركه للأولى وذلك ليس بخطأ فإن سماه به أحد صار النزاع لفظيا. وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بحجته فأقضي على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه , فإنما أقطع له قطعة من نار " وظاهره يدل على جواز وقوع ما لا يطابق الواقع فكان خطأ. وفيه نظر لأنه يستلزم القرار على الخطأ فإن التهديد إنما يفيد إذا استقر ما حكم به وأخذه المحكوم له. وأما إذا لم يقر وظهر الخطأ فإنه يرجع عن الحكم فلا يأخذه أو يرده إن أخذ والقرار على الخطأ على خلاف الإجماع. وقوله - عليه السلام -: " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " فإنه يدل على جواز مخالفة ما يحكم به لما هو في نفس الأمر وفيه نظر لأنه يدل على أنه يحكم بالظاهر وأما أن الظاهر الذي يحكم به على

خلاف الواقع فلا دليل عليه. وأجيب على هذه الأدلة بأنها لا تدل على المتنازع فيه " فإنه الأحكام لا فصل الخصومات " , وهي إنما تدل على الخطأ فيها. وفيه نظر فإنه مختص بالحديثين وليس له تعلق الآيتين. ورد هذا الجواب بأن جوازه فيه يستلزم جوازه ففي الأحكام لأن المآل المتنازع فيه بين الخصمين يحتمل أن يكون حراما على من أباح له النبي - صلى الله عليه وسلم - فيلزم جواز الخطأ في الحكم الشرعي المحتمل وهو كونه حلالا عليه اجتهادا. وقال النافون لو جاز خطؤه في الاجتهاد لجاز أن يؤمر بالخطأ لأنا مأمورون باتباعه , والشرع لا يأمر بالخطأ. وأجاب بنفي بطلان التالي لوقوعه فإن العوام مأمورون باتباع المجتهد وقد وقع الخطأ منهم. وفيه نظر لأن كلامنا في اجتهاد النبي بناء على أنه قادر على اليقين فلا " يجوز " عليه الخطأ وليس المجتهد كذلك. وفيه تأمل. وقالوا: أهل الإجماع معصومون عن الخطأ فالرسول أولى بذلك لعلو مرتبته. وأجاب بأن اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأعلى المراتب وهو رتبة الوحي والرسالة تدفع الأولوية فإن الخلو عن مرتبة سفلى مع اتصافه بالمرتبة العليا لا يوجب نقصا لفوات الأمارة عن السلطان. وأيضا وجوب اتباع أهل الإجماع له يدفع الأولوية. وإذا جاز أن يكون وأن لا يكون يتبع الدليل وقد دل على جواز الخطأ في الاجتهاد دون الإجماع. وقالوا أيضا الخطأ في الحكم مخل بالمقصود بالبعثة لأن المقصود بها اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام الشرعية المفضية إلى المصالح المقصودة من شرع الأحكام

- مسألة: هل النافي يطالب بالدليل على ما نفاه أو لا؟

فلو جاز الخطأ في الحكم لم يحصل المقصود. وأجاب بأن احتمال الخطأ في الحكم لا يخل بالمقصود من البعثة لأنه لا يقرر عليه بخلاف احتماله في الرسالة والوحي فإنه يخل بالمقصود بها وهو منفي عنه بالاتفاق. ص - مسألة: المختار أن النافي يطالب بدليل وقيل: في العقلي , لا الشرعي. لنا: لو لم يكن - لكان ضروريا نظريا وهو محال. وأيضا: الإجماع على ذلك في دعوى الوحدانية والقدم , وهو نفي الشريك ونفي الحدوث. النافي: لو لزم للزم " منكر مدعي " النبوة , وصلاة سادسة , ومنكر الدعوى. وأجيب بأن الدليل يكون استصحابا مع عدم الرافع. وقد يكون انتفاء لازم. ويستدل بالقياس الشرعي بالمانع وانتفاء الشرط على النفي. بخلاف من لا يخصص العلة ". ش - واختلفوا في أن النافي هل يطالب بالدليل على ما نفاه أو لا؟ والمختار أنه يطالب به سواء كان نافيا لحكم عقلي أو شرعي إذاا لم يكن النفي ضرورياً.

وقيل: لا يطالب به مطلقا. وقيل: يطالب به في العقلي لا الشرعي. واحتج المصنف على المختار بوجهين: الأول: أنه لو لم يطالب لزم كون النفي ضروريا نظريا لأن عدم الطلب إنما يكون لكون النفي ضروريا إذ الأصل عدم الغير والفرض أنه نظري فكان ضروريا نظريا وهما لا يجتمعان. الثاني: أن الإجماع على المطالبة به في دعوى وحدانية الله وقدمه ودعوى الوحدانية نفي الشريك ودعوى القدم ودعوى الحدوث فكان الإجماع على مطالبة النافي به. وفيه نظر لأن النفي هاهنا لازم للمدعي وليس الكلام فيه. واحتج النافي بأنه لو لزم لزم منكر مدعي النبوة وصلاة سادسة ومنكر الدعوى أي المدعى عليه لأن كلا منهم ناف واللازم باطلة بالإجماع. وأجاب بأن الدليل قد يكون استصحابا مع عدم الرافع كما في منكر الدعوى وقد يكون انتفاء لازم كما في الصلاة السادسة إذ الاشتهار من لوازمها عادة وقد انتفى وكذا في دعوى الرسالة إذ المعجزة لازمها وقد انتفى. والحاصل منع بطلان اللوازم فإن الثلاثة المذكورة مطالبون بالدليل لكنه مقرر معلوم عند الجمهور فلا حاجة إلى التصريح به. فإذا قلنا بأن النافي مطالب بالدليل فالنافي لحكم شرعي هل يجوز له الاستدلال بالقياس أو لا؟ اختلف فيه قيل والحق إنما يستدل به إذا كان الجامع عدم شرط أو وجود مانع لا باعثا فإن عدم الحكم لا يكون لباعث بل يكفي فيه عدم الباعث عليه وذلك إنما يصح إذا جاز تخلف الحكم عن العلة ولا يكون قادحا في العلية فهو فرع

- التقليد والمفتي والمستفتي

تخصيص العلة: ص - التقليد والمفتي والمستفتي " وما يستفتى فيه فالتقليد: العمل بقول غيرك من غير حجة وليس الرجوع إلى الرسول والإجماع , والعامي إلى المفتي , والقاضي إلى العدول , بتقليد , لقيام الحجة. ولا مشاحة في التسمية. والمفتي: الفقيه وقد تقدم. والمستفتي خلافه. فإن قلنا بالتجزؤ فواضح. والمستفتى فيه: المسائل الاجتهادية , لا العقلية , على الصحيح ". ش - لما فرغ من بيان الاجتهاد شرع في بيان مقابله. وعرف التقليد بأنه العمل بقول غيرك من غير حجة كأخذ المجتهد والعامي بقول مثله. فالعمل بقول الرسول - عليه السلام - ليس بتقليد لأن المعجزة دليل العمل به , وكذلك العمل بالإجماع وعمل العامي بقول المفتي وعمل القاضي بقول العدول لا يكون تقليدا لأن قول الرسول - عليه السلام - دليل على ذلك. ولا مشاحة في تسمية العمل بقول غيرك من غير حجة تقليدا. وقيل معناه إن

- مسألة: لا تقليد في العقليات

سميت بعض ذلك أو كله تقليدا ولا مشاحة في التسمية. والمفتي هو الفقيه وقد تقدم معنى فيعرف منه الفقيه. والمستفتي خلاف المفتي. فإن قلنا الاجتهاد يتجزأ فكل من كان أعلم من غيره فهو بالنسبة إليه مفت وذلك الغير مستفت وإن لم يقل به فالمعنى من كان عالما بالجميع والمستفتي من لا يكون عالما به والمستفتى فيه المسائل الاجتهادية. وأما العقلية فالصحيح أن لا تقليد فيها. ص - مسألة: " لا " تقليد في العقليات " كوجود الباري - تعالى -. وقال العنبري بجوازه. وقيل: النظر فيه حرام. لنا: الإجماع على وجوب المعرفة. والتقليد لا يحصل , لجواز الكذب , ولأنه كان يحصل بحدوث العالم وقدمه. ولأنه لو حصل لكان نظريا ولا دليل. قالوا: لو كان واجبا لكانت الصحابة أولى. ولو كان لنقل كالفروع. وأجيب بأنه كذلك. وإلا لزم نسبتهم إلى الجهل بالله - تعالى - وهو باطل. وإنما لم ينقل لوضوحه وعدم المحوج إلى الإكثار. قالوا: لو كان لألزم الصحابة العوام بذلك. قلنا: نعم. وليس المراد تحرير الأدلة والجواب عن الشبه. والدليل يحصل بأيسر نظر. قالوا: وجوب النظر دوري عقلي. وقد تقدم. قالوا: مظنة الوقوع في السبه والضلالة بخلاف التقليد. قلنا: فيحرم على المقلد , أو يتسلسل ".

ش - التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد لا يجوز على المختار.

وجوزه العنبري. وقيل: النظر في مثلها حرام والواجب فيها هو التقليد. واحتج المصنف بأن معرفة الله - تعالى - وما يجوز عليه إطلاقه من الصفات وما لا يجوز واجبة بالإجماع والتقليد لا يحصل ذلك لأن كذب المقلد لعدم عصمته جائز فلا تحصل به المعرفة. ولأنه لو حصلت به لحصلت بحدوث العالم إذا قلد القائل به , وبقدمه بتقليد القائل به وذلك محال. ولأنه لو حصلت لكان حصولها به بالنظر لأنه لو كان بالضرورة لما اختلفوا فيه واشترك الجميع فيه لكن اللازم باطل لأن النظر لا يحصل إلا عن دليل والأصل عدمه وإلا لم يبق تقليدا. احتج نافي وجوب النظر في العقليات بوجوه أربعة: الأول: أنه لو كان واجبا لكانت الصحابة أولى به لئلا يلزم نسبتهم إلى الجهل بالله وصفاته ولا يظن بهم ترك الواجبات فلو كانوا أولى لنظروا ولو نظروا لنقل عنهم كما نقل مناظرتهم في الفروع ولما لم ينقل دل على أن النظر غير واجب فيها. وأجاب بتسليم أنهم كانوا أولى بذلك لئلا يلزم نسبتهم إلى الجهل بالله فإنه باطل قطعا. ونظروا ولكن لم تنقل مناظرتهم لظهور الأمر عندهم وعدم " المحرج " إلى الإنكار في الكلام والمناظرة لنقاء سريرتهم بقلة الشواغل وتقدم نفوسهم بصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدة أحواله. الثاني: أنه لو كان واجبا لأزم الصحابة العوام بذلك كما فعلوا في غيره من الواجبات لكن لم ينقل ذلك عنهم. وأجاب بمنع انتفاء التالي بأنهم ألزموهم بالنظر ولكن ليس المراد بالنظر تحرير الأدلة وتلخيصها. والجواب عن الشبه الواردة على الأدلة فعل المتكلمين أن المراد الدليل الجملي الموجب للمعرفة وهو يحصل بأيسر نظر وذلك كما قيل: البعرة تدل

- مسألة: غير المجتهد يلزمه التقليد

على البعير فهذا الهيكل العلوي والمركز السفلي ما يدلان على الخالق الخبير. الثالث: لو وجب النظر دار لأن وجوبه نظري فيتوقف على النظر والنظر يتوقف على وجوبه ويدور. والجواب ما تقدم في مسألة الحسن والقبح أن النظر لا يتوقف على وجوبه. الرابع: أن النظر مظنة الوقوع في الشبه والضلالة والوقوع في ذلك حرام ومظنة الحرام حرام بخلاف التقليد فإنه ليس مظنة شيء من ذلك. وأجاب بأن حرمته تستلزم حرمة التقليد أو التسلسل لأنه إما إن يستند إلى النظر أو لا والأول بستلزم حرمته والثاني يستند إلى تقليد آخر وتسلسل وهو باطل. ورد بأنه يجوز بأن يستند إلى كشف لا تقليد فلا يتسلسل. وأجيب بأن المستند إليه لا يكون تقليدا بل هو عمل بالدليل الذي استدل به المقلد. ص - مسألة: غير المجتهد يلزمه التقليد وإن كان عالما. وقيل بشرط أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله. لنا: (فاسئلوا) وهو عام فيمن لا يعلم. وأيضا لم يزل المستفتون يتبعون من غير إبداء المستند لهم من غير نكير. قالوا: يؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ. قلنا: وكذلك لو أبدى له مستنده. وكذلك المفتي نفسه. ش - مسألة: غير المجتهد يلزمه التقليد في الفروع وإن كان عالماً بغير ما

يقلد فيه. وقيل إنما يلزم إذا تبين له صحة اجتهاد من يقلده بدليل اجتهاده. واحتج المصنف على الأول بوجهين: الأول: قوله - تعالى -: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فإنه يدل على وجوب السؤال على من لم يعلم شيئا ممن يعلمه عالما كان أو عاميا. وفيه نظر لجواز أن يكون المراد به فاسئلوا أهل الكتاب ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشرا. الثاني: أن المستفتين ما زالوا يتبعون المفتين من غير إبداء " المعتقين " عدم اجتهادهم. وشاع وذاع ولم ينكر أحد فحل محل الإجماع على اتباع غير المجتهد المجتهد وإن لم يتبين له صحة دليله. وقال الشارطون للتبيين لو لم يتبين له صحة اجتهاده بدليله لأدى إلى وجوب اتباع الخطأ لأنه إذا لم يتبين جاز أن يكون اجتهاده خطأ. وأجاب بأن هذا مشترك الإلزام فإن المجتهد إن بين سنده للمقلد يجوز أن يكون

- مسألة: الاتفاق على استفتاء من عرف بالعلم والعدالة

اجتهاده خطأ فإن ذكر السند لا يدفع احتمال الخطأ. وأيضا المفتي نفسه مأمور بالعمل باجتهاده مع جواز الخطأ. ص - مسألة: " الاتفاق " على استفتاء من عرف " بالعلم والعدالة أو رآه منتصبا والناس مستفتون معظمون له وعلى امتناعه في ضده. والمختار امتناعه في المجهول. لنا: أن الأصل عدم العلم. وأيضا: الأكثر , الجهال. والظاهر أنه من الغالب , كالشاهد والراوي. ولو سلم فالفرق أن الغالب في المجتهدين , العدالة. بخلاف الاجتهاد ". ش - استفتاء من عرف بالعلم والعدالة أو رآه منتصبا للإفتاء والناس يستفتونه معظمين لقدره جائز بلا خلاف , وغير جائز في ضده كذلك. والذي لم يعرف بعلم ولا جهل لا يستفتي على المختار لأن الأصل عدم العلم ولأن أكثر الناس جهال فالظاهر أن المجهول منهم , إلحاقا للفرد بالأغلب كالشاهد والراوي إذا جهل حالهما فإنه لم يقبل قولهما.

- مسألة: المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم معين في حادثة فلا يلزمه تكراره بتكررها

وقيل: يجوز استفتاؤه لأنه لو امتنع الاستفتاء منه للجهل بحاله لامتنع فيمن علم علمه ولا تعلم عدالته للجهل بحاله لكن الناس يستفتون من مثل ذلك. وأجاب بأنه يمتنع الاستفتاء ممن علم علمه وجهلت عدالته ولو سلم جوازه فالفرق بين فإن الغالب في المجتهدين العدالة فمن لم يعرف بها منهم ألحق بالعدول منهم إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب بخلاف من لم يعرف بالاجتهاد فإنه لا يلحق بالمجتهدين لغلبة الجهل. ص - مسألة: إذا تكررت الواقعة " لم يلزم تكرير النظر. وقيل: يلزم. لنا: اجتهد , والأصل عدم أمر آخر. قالوا: يحتمل أن يتغير اجتهاده. قلنا: فيجب تكريره أبدا. ش - المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى حكم معين وتكررت الحادثة لم يلزمه تكرير النظر. وقيل: يلزمه. واحتج للأول بأنه اجتهد وظن بمقتضى اجتهاده والأصل عدم أمر آخر. قالوا: يحتمل أن يتغير اجتهاده بالاطلاع على ما لم يكن عنده أولا فيجب النظر.

- مسألة: خلو الزمان عن المجتهد

وأجاب بأن احتمال التغيير لو أوجب تكرار النظر لوجب لوجوده مستمرا لكنه لم يجب بالاتفاق. وفيه نظر لجواز أن يكون الموجب احتمال التغيير عند تكرر الواقعة وليس ذلك داعيا. ص - مسألة: يجوز خلو الزمان عن المجتهد " خلافا للحنابلة. لنا: لو امتنع - لكان لغيره , والأصل عدمه. وقال صلوات الله عليه - " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه , ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا , فسئلوا , فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ". قالوا: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله أو " حتى يظهر الدجال ". قلنا: فأين نفي الجواز؟ ولو سلم فدليلنا أظهر. ولو سلم فيتعارضان ويسلم الأول. قالوا: فرض كفاية. فيستلزم انتفاؤه اتفاق المسلمين على الباطل. قلنا إذا قرض موت العلماء لم يمكن ". ش - خلوا الزمان جائز خلافا للحنابلة. لنا: أن ذلك لم يستلزم

- مسألة: إفتاء من ليس بمجتهد بمذهب مجتهد

محالا فلو امتنع لامتنع لغيره والأصل عدمه وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا " الحديث وهو صريح في الخلو. واحتجت الحنابلة بأن قوله - عليه السلام -: " لا تزال طائفة من أمتي " الحديث. فدل على " عدم الزمان " عن المجتهد إلى يوم القيامة أو ظهور أشراطها. وأجاب بأنه يدل على عدم الخلو وليس الكلام فيه وإنما الكلام في جواز الخلو , وإليه أشار بقوله: فأين نفي الجواز؟ ولو سلم أنه يدل على نفي الجواز لكن دليلنا أظهر لدلالته على الخلو عن العلماء صريحا دون ما ذكرتم لأن القائم بالحق أعم من المجتهد وغيره ولهذا حمله بعض على الجهاد. ولو سلم أن دليلنا ليس أظهر لكن حينئذ يتعارض دليلنا ودليلكم النقليان ويبقى لنا الأول وهو أن الأصل عدم المانع سالما عن المعارض. واحتجوا أيضا بأن الاجتهاد فرض كفاية فيستلزم انتفاءه في عصر من الأعصار اتفاق المسلمين على الباطل لأن انتفاءه فيه يستلزم كون الأمة متفقين فيه على ترك الواجب وهو باطل. وأجاب بما معناه أن الاجتهاد ليس بفرض دائمي بل هو فرض كفاية إذا كان مقدورا وإذا فرض الخلو بموت العلماء لم يكن مقدورا. ص - مسألة: إفتاء من ليس بمجتهد " بمذهب مجتهد , إن كان مطلعا على المأخذ , أهلا للنظر , جائز.

وقيل: عند عدم المجتهد. وقيل: يجوز مطلقا. وقيل: لا يجوز. لنا: وقوع ذلك , ولم ينكر , وأنكر من غيره. المجوز: ناقل , كالأحاديث. وأجيب بأن الخلاف في غير النقل. المانع: لو جاز لجاز للعامي. وأجيب بالدليل , وبالفرق ". ش - اختلفوا في إفتاء فقيه غير مجتهد على أربعة أقوال: - قيل: يجوز إن كان مطلعا على المأخذ أهلا للنظر. وقيل: إذا لم يكن مجتهدا حاز للمطلع عليها أن يفتي وإن وجد لم يجز. وقيل: يجوز مطلقا أي سواء كان مطلعا على المأخذ أو لا. وقيل: " لا " يجوز مطلقاً.

- هل يصح تقليد المفضول عند وجود الفاضل؟

واحتج المصنف للأول " بأنه و " قع من المطلع عليها في الأعصار ولم ينكر عليه أحدا وأنكروا على إفتاء من ليس بمطلع عليها فحل محل الإجماع على جوازه من المطلع وعدم جوازه من غيره. واحتج المجوز مطلقا بأن غير المجتهد المفتي ناقل لما أفتى يعتبر نقله كالأحاديث. وأجاب بأن الخلاف في الإفتاء بمذهب غيره وهو غير النقل. أما لو قال ناقلا: قال الشافعي: كذا , وظن المستفتي صدقه جاز له الأخذ بنقله. وقال المانع من جوازه مطلقا: لو جاز إفتاء من ليس بمجتهد لجاز إفتاء العامي بجامع عدم الاجتهاد. وأجاب بأن الجواز والامتناع يتبعان الدليل والدليل دل على جواز إفتاء غير المجتهد إذا كان مطلعا على المأخذ أهلا للنظر ولم يدل على جواز إفتاء العامي. ولقائل أن يقول القياس دليل وهو يوجب إلحاق العامي بالمجتهد بالعامي كما ذكرنا فلا يخلوا عن دليل. وبالفرق فإن المطلع الذي له أهلية النظر يبعد عنه الخطأ لاطلاعه على سند الاجتهاد بخلاف العامي. ص - مسألة: للمقلد أن يقلد المفضول. " وعن أحمد وابن سريج: الأرجح متعين. لنا: القطع بأنهم كانوا يفتون مع الاشتهار والتكرر ولم ينكر. قال - عليه السلام -: " أصحابي كالنجوم ".

واستدل بأن العامي لا يمكنه الترجيح لقصوره. وأجيب بأنه يظهر بالتسامع وبرجوع العلماء إليه وغير ذلك. قالوا: أقولهم كالأدلة. فيجب الترجيح. قلنا: لا يقاوم ما ذكرنا. ولو سلم فلعسر ترجيح العوام. قالوا: الظن بقول الأعلم أقوى. قلنا: تقرير ما قدمتموه. ش - تقليد المفضول عند وجود الفاضل جائز على المختار. ونقل عن أحمد وابن سريج تعيين الأرجح. وجه المختار أنا نقطع بأن المفضولين من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يفتون مع اشتهارهم بالمفضولية وتكرر ذلك منهم ولم ينكر عليهم غيرهم منهم فكان إجماعا على جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل وقوله - عليه السلام -: "

- إذا قلد العامي مجتهدا في حكم من الأحكام لا يجوز الرجوع إلى غيره من المجتهدين في ذلك الحكم بالاتفاق

أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". فإنه صريح في عدم التفرقة بين الفاضل والمفضول في جواز الاقتداء بهم. واستدل بأن تعيين الأرجح يتوقف على ترجيح المعاني وهو غير متمكن منه لقصوره. وأجاب بأن الترجيح يظهر بالتسامع وبرجوع العلماء إليه وإقبال الناس عليه في الاستفتاء والعامي ليس بعاجز عن ذلك. واحتج معينو الأرجح بوجهين: الأول: أن أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلد كالأدلة وكما وجب تعين الأرجح منها للعمل وجب تقليد الأفضل. وأجاب بأن ما ذكرتم لا يقاوم ما ذكرنا لأن ما ذكرنا إجماع وهذا قياس والقياس لا يقاومه , ولو سلم مقاومته إياه فالفرق ثابت فإن المجتهد يقدر على ترجيح بعض الأدلة والعامي لا يقدر لعسره عليه. الثاني: أن الظن بقول الأعلم أقوى فتعين اتباعه. وأجاب بأن هذا تقرير للدليل الأول ليس دليلا آخر. ص - مسألة: ولا يرجع عنه بعد تقليده اتفاقا. " وفي حكم آخر , المختار جوازه. لنا: القطع بوقوعه , ولم ينكر. فلو التزم مذهبا معينا كمالك والشافعي - فثالثها كالأول ". ش - إذا قلد العامي مجتهدا في حكم من الأحكام لا يجوز الرجوع إلى غيره من المجتهدين في ذلك الحكم بالاتفاق.

وأما لا الرجوع عنه إلى غيره في حكم آخر ففيه خلاف

وأما الرجوع عنه إلى غيره في حكم آخر فمنهم من جعله كالأول. والمختار: جوازه , لأن القطع بوقوع الرجوع وعدم الإنكار فإن العوام لا يزالون يقلدون مجتهدا في حكم وغيره في آخر ولم ينكر فكان إجماعا على الجواز. وإذا التزم العامي مذهبا معينا كمالك والشافعي فقي جواز مخالفة إمامه في بعض المسائل بتقليد غيره ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقا. وعدمه. والثالث أنه يجوز فيما لم يقلد ولم يعمل به بعد ولا يجوز في حكم قلده وهو معنى قوله: وثالثها كالأول. ص - الترجيح: وهو اقتران الأمارة " بما تقوى به على معارضها فيجب تقديمها " للقطع عنهم بذلك. وأورد شهادة أربعة مع اثنين. وأجيب بالتزامه وبالفرق.

ولا تعارض في قطعيين. ولا قطعي وظني , لانتفاء الظن والترجيح في الظنيين منقولين أو معقولين , أو منقول ومعقول ". ش - آخر الأقسام الترجيح وعرفه بأنه: اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها. فقوله: الأمارة تخرج القطعيين. وقوله: على معارضها تخرج القطعي والظني فإنه لا تعارض بينهما فإذا وجد الترجيح يجب تقديم الراجح للقطع بأن

الصحابة - رضي الله عنهم - قدموا بعض الأخبار على بعض متكررا كثيرا من غير إنكار فكان إجماعا. وعورض بأن شهادة الأربع لم تقدم على اثنين ولو وجب العمل بالراجح لم يكن كذلك. وأجاب بالتزامه فإن بعض الأئمة يفعل ذلك. وبأن الفرق بأن الشهادة شرعت لدفع الخصومة فلو اعتبر الترجيح أفضى إلى تطويل الخصومة. وفيه نظر لأنه ممنوع والحق أن شهادة الأربع لا تترجح على اثنين لأن الترجيح إنما يكون بما لا يصلح علة وشهادة كل اثنين حجة فلا تترجح بها غيرها. نعم لو مثل بشهادة ثلاثة أو اثنين كان أنسب. ولا تعارض بين قطعيين لأن القاطع لا بد وأن يطابق الواقع فلا يمكن أن يكون مقابله كذلك وإلا لزم اجتماع النقيضين في الواقع وهو محال. ولا بين قطعي وظني الانتفاء الظن بأحد الطريقين عند القطع بالآخر. وإنما التعارض بين الظنين وهو إما في منقولين أو معقولين أو منقول ومعقول. ص - الأول في المسند والمتن " والمدلول وفي خارج. الأول: بكثرة الرواة لقوة الظن , خلافا للكرخي , وبزيادة الثقة وبالفطنة والورع والعلم والضبط والنحو. وبأنه اشتهر بأحدها باعتماده على حفظه لا نسخته وعلى ذكر لاخظ. وبموافقته عمله. وبأنه عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل في المرسلين. وبأن يكون المباشر كرواية أبي رافع: " نكح ميمونة وهو حلال " - وكان السفير بينهما - على رواية ابن عباس - رضي الله عنهما - " نكح ميمونة وهو حرام ". وبأن يكون صاحب القصة , كرواية ميمونة: " تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان ". وبأن يكون مشافها , كرواية القاسم عن عائشة - رضي الله عنها - أن بربرة عتقت وكان

- الترجيح بامور تتعلق بالسند

زوجها عبدًا , على من روى أنه كان حرا , لأنها عمة القاسم. وأن يكون أقرب عند سماعه , كرواية ابن عمر: أفرد - عليه السلام - , وكان تحت ناقته حين لبى - وبكونه من أكابر الصحابة لقربه غالبا , أو متقدم الإسلام , أو مشهور النسب , أو غير ملتبس بمضعف. وبتحملها بالغا. وبكثرة المزكين أو أعدليتهم أو أوثقيتهم. وبالصريح على الحكم والحكم على العمل. وبالمتواتر على المسند والمسند على المرسل , ومرسل التابعي على غيره. وبالأعلى إسنادا. والمسند على كتاب معروف , وعلى المشهور والكتاب على المشهور وبمثل البخاري ومسلم على غيره. والمسند باتفاق على مختلف فيه , وبقراءة الشيخ وبكونه غير مختلف فيه. وبالسماع على محتمل , وبسكوته مع الحضور على الغيبة. وبورود صيغة فيه على ما فهم. وبما لا تعم به البلوى على الآخر في الآحاد. وبما لم يثبت إنكار لرواته على الآخر. ش - التعارض بين المنقولين إما في السند أو في المتن أو في مدلول اللفظ أو في أمر خارج. والأول وهو التعارض في السند الترجيح فيه بأمور منها: حال الراوي وهو الترجيح بكثرة الراوة لكثرة الظن بها خلافا للكرخي.

- ما يتعلق بحال الراوي

وبزيادة الثقة والعدالة , وبزيادة الفطنة , وبزيادة الورع , وبزيادة العلم , وبزيادة الضبط , وبزيادة علم النحو. وبأن يكون أشهر بأحد هذه الأمور الستة. وباعتماد الراوي على حفظه لا على نسخة سمع منها. وباعتماده على ذكر لا على خط. وذلك بأن يكون الراوي حالة الرواية ذاكرا للرواية غير معتمد في ذلك على خطه أو خط غيره. وبموافقة الخبر عمل الراوي لأنه أبعد عن الكذب ممن لا يوافق. وبمعرفة حال الراوي أنه لا يرسل إلا عن عدل في المرسلين. وبكونه مباشرا لما روي كرواية أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة وهو

حلال. وكان أبو رافع سفيرا بينه - عليه السلام - وبين ميمونة , فإنها راجحة على رواية ابن عباس نكح ميمونة وهو محرم. وفيه نظر لأنه لا يعادل ابن عباس في الثقة والعدالة والفطنة والعلم والضبط. وبكونه صاحب القصة كرواية ميمونة تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان. فإنها تقدم على رواية ابن عباس. وفيه النظر المتقدم. وبكون الراوي مشافها فيما سمع ليس بينه وبين من يروي عنه حجاب كرواية

القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة - رضي الله عنهم - أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدا. فإنها تقدم على رواية من روى أن زوجها كان حرا لأن القاسم سمع من عائشة مشافهة لأنها عمته بخلاف من روى أن زوجها كان حرا فإنه سمع منها من وراء الحجاب. وفيه نظر لأن رواية من روى حريته مثبتة والمثبت أولى فيما لا يعرف إلا بظاهر الحال. وبكون الراوي أقرب ممن يروي عنه عند سماع ما

يرويه كرواية ابن عمر - رضي الله عنهما -: أفرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان تحت ناقة رسول الله إلى حين لبى فإنها تقدم على رواية من روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قرن. وبكون الراوي من أكابر الصحابة بقرب الأكبر غالبا من النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الأصغر. أو بكونه مقدما في الإسلام فإن الكذب منه

- ما يتعلق بحال الرواية

أبعد، أو بكونه مشهور النسب، أو بكونه غير متلبس بضعف طعن فيه، وبتحمله الرواية حال البلوغ لزيادة ضبط البالغ. وفيه نظر لأنه تكرار لقوله وبزيادة الضبط. أو بكثرة من زكى الراوي وبأعدليتهم أو بأوثقيتهم بالبحث عن حاله. وبتصريح المزكين بالتعديل فإنه يقدم على الحكم وذلك بأن تكون تزكية أحدهما بصريح القول، وتزكية الآخر بالحكم بالشهادة والتزكية بالحكم تقدم على التزكية بالعمل بأن تكون تزكية أحدهما بالحكم بشهادته وتزكية الآخر بالعمل بروايته. ومنها حال الرواية وهو الترجيح بالتواتر ترجح على المسند لقطعية متنه.

والمسند يرجح على المرسل. ومرسل التابعي على غيره لأن مرسله الظاهر من حاله أن يكون مرويا من الصحابة والعدالة فيه أصل بخلاف غيره. وفيه نظر لأنه يعني التفرقة بينه وبين التابعي فإنه العدالة فيه أصل فلا فرق بين أن يرويه من الصحابي أو التابعي. وبالأعلى إسنادا لقلة الوسائط. والمسند إلى الرسول - عليه السلام - عنعنة يرجح على الذي أحيل إلى كتاب معروف. وعلى حديث مشهور بين العلماء لم يسند إلى كتاب. ويرجح ما في كتاب معروف على ما ليس كذلك لكنه مشهور بين العلماء لأن

العادة تمنع من تغيير ما في الكتاب المعروف. ويرجح ما في صحيح البخاري ومسلم على ما في غيرهما لشهرة صحتهما. ويرجح المسند اتفاقا على ما اختلف في إسناده وإرساله. ويرجح بقراءة الشيخ على القراءة على الشيخ لإمكان ذهول الشيخ في الثاني.

ما يتعلق بحال المروي

وفيه نظر فإن رعاية الطالب وإرساله أشد. ويرجح غير مختلف الرواية على مختلفها لأن اختلافها يدل على اضطراب الحال بخلاف ما كان على طريقة واحدة. وقيل معناه يرجح على ما هو غير مختلف في رفعه إلى الرسول على المختلف في رفعه. ومنها ما يتعلق بحال المروي فرجع بالسماع. فالمسموع منه - عليه السلام - مقدم على ما احتمل السماع. وبسكوته مع الحضور فإن الذي جرى في حضرته ولم ينكره راجح على ما جرى في غيبته فعلم به ولم ينكر. ويرجح بورود صيغة فيه كالذي يكون فيه لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرجح على ما فهم من فعله مثل: " سهى فسجد ".

ويرجح ما لم تعم به البلوى من الآحاد على ما تعم لكونه أبعد من الكذب لأن تفرد الواحد بنقل ما تتوفر الدواعي إلى نقل يوهم الكذب. ويرجح ما لم يثبت إنكار لرواته على ما ثبت لهم سواء كان الإنكار إنكار جحود أو إنكار نسيان. ص - المتن. النهي على الأمر " والأمر على الإباحة، على الصحيح. والنهي بمثله على الإباحة. والأقل احتمالا على الأكثر. والحقيقة على المجاز. والمجاز على المجاز بشهرة مصححة أو قوته، أو أقرب جهته أو رجحان دليله أو شهرة استعماله. والمجاز على المشترك، على الصحيح، كما تقدم. والأشهر مطلقا واللغوي المستعمل شرعا على الشرعي، بخلاف المنفرد الشرعي. وبتأكيد الدلالة. ويرجح في الاقتضاء بضرورة الصدق على ضرورة وقوعه شرعا وفي الإيماء بانتفاء العبث أو الحشو على غيره. وبمفهوم الموافقة على المخالفة على الصحيح. والاقتضاء على الإشارة، وعلى الإيماء وعلى المفهوم. وتخصيص العام على تأويل الخاص لكثرته، والخاص، ولو من وجه والعام لم

الترجيح بأمور تعود إلى المتن

يخصص على ما خص. والتقييد كالتخصيص. والعام الشرطي على النكرة المنفية وغيرها. والمجموع باللام ومن وما على الجنس باللام والإجماع على النص والإجماع على ما بعده في الظني ". ش - هذا بيان الأمور التي ترجح من حيث المتن. النهي يرجح على الأمر لأن المقصود به دفع المفسدة والمقصود بالأمر حصول المصلحة والاهتمام بالأول أكثر. والأمر يرجح على الإباحة على الصحيح دفعا لاحتمال ضرر الترك لو قدم الإباحة بخلاف العكس فإنه لو قدم الأمر لم يحتمل الضرر لعدم جواز تركه. ومن رجح الإباحة على الأمر نظر إلى كثرة محتملاته دونها. وما قل احتماله ترجح.

ويرجح النهي على الإباحة بمثل ذلك أي بما قيل في ترجيح الأمر على الإباحة. ويرجح الأقل احتمالا على الأكثر وهو ظاهر. والحقيقة لكونها أصلا على المجاز ولأنها تفيد بنفسها والمجاز بقرينة فإذا اجتمع مجازان يرجح أحدهما على الآخر بسبب شهرة تصحح أحدهما بأن تكون العلاقة مثلا بينه وبين الحقيقة أشهر من علاقة الآخر. أو بقوة مصححة بأن يكون مصحح أحدهما أقوى كإطلاق اسم الكل على الجزء وبالعكس فإن العلاقة الأولى أقوى.

أو بقرب جهة أحدهما كاسم السبب على المسبب فإنه أولى من عكسه لأن السبب يستلزم المسبب دون العكس. أو برجحان دليله ككونه ثبت بنص الواضح أو بصحة النفي والآخر بعدم الإطراد أو بعدم صحة الاشتقاق أو بكون أحدهما مشهورا دون الآخر. ويرجح المجاز على المشترك على الصحيح كما تقدم في بحث المجاز. ويرجح الأشهر مطلقا على غير الأشهر وإنما قال مطلقا ليتناول الترجيح بين الحقيقتين إذا كانت إحداهما أشهر , والترجيح بين المجاز والحقيقة إذا كان المجاز أشهر وهو ما إذا كان المجاز متعارفا. ويرجح اللفظ اللغوي المستعمل شرعا في مفهومه اللغوي على المنقول الشرعي لأن الأصل موافقة الشرع اللغة وهذا بخلاف المنفرد وهو أن يكون اللفظ مستعملا في اللغة لمعنى وفي الشرع لمعنى آخر فإن المعهود من الشرع إطلاق اللفظ في مفهومه الشرعي ويرجح أحد المتعارضين بتأكيد الدلالة خاصين عطف أحدهما على عام

تناوله دون الآخر فإن دلالة الخاص لمعطوف آكد بدلالة العام عليه. ويرجح في الاقتضاء ما يتوقف عليه ضرورة صدق المتكلم على ما يتوقف عليه ضرورة وقوعه شرعا أو عقلا لأن ما يتوقف عليه الصدق أولى لبعد الكذب في كلام الشارع. ويرجح في الإيماء ما لولاه لكان في الكلام عبث وحشو على غيره من " الأقسام الإيماء ". مثل أن يذكر الشارع وصفا لو لم يعلل به الحكم كان عبثا أو حشوا فإنه يقدم على الإيماء بما رتب فيه الحكم بفاء التعقيب لأن نفي العبث والحشو من كلام الشارع أولى. ويرجح مفهوم الموافقة " على مفهوم المخالفة في الصحيح لظهور دلالة اللفظ ". على مفهوم الموافقة ولذلك لم " يقم " بمفهوم المخالفة بعض القائلين بمفهوم الموافقة.

ويرجح الاقتضاء على الإشارة لأنه مقصود بإيراد اللفظ صدقا أو حصولا والأصل يتوقف عليه بخلاف الإشارة فإنها لم تقصد بإيراد اللفظ وإن توقف الأصل عليها. وعلى الإيماء لأنه وإن كان مقصودا بإيراد اللفظ لكنه لم يتوقف الأصل عليه وعلى المفهوم " لأن الاقتضاء " ولهذا لم يقل به بعض من قال بالاقتضاء. ويرجح تخصيص العام على تأويل الخاص لكثرة التخصيص وقلة التأويل. ويرجح الخاص على العام. والخاص من وجه على العام مطلقا لأن الخاص أقوى دلالة من العام فكذا كل ما هو أقرب منه. ويرجح العام الذي لم يخصص على العام المخصوص لأن الأول حجة بلا خلاف بخلاف الثاني فإن فيه خلافاً.

وحكم المقيد والمطلق حكم الخاص والعام. ويرجع العام الشرطي كمن وما على النكرة المنفية وغيرها كالمعروف باللام لقلة المفسدة فإن إلغاء العام الشرطي يوجب إلغاء السببية الحاصلة بالشرط أيضا وإلغاء غيره لا يوجب إلغاء شئ آخر. ويرجع المجموع المحلي باللام ومن ما على الجنس المحلي باللام لأن المحققين اختلفوا في عموم الجنس بخلاف غيره مما ذكر. ويرجع الإجماع على النص لعدم قبوله النسخ دون النص. ويرجع الإجماع الظني على آخر مثله وقع بعده لقرب الأول من الرسول.

الترجيح بحسب المدلول

- عليه السلام - وهو يوجب قوة الظن. ص - " المدلول" الحظر على الإباحة " وقيل بالعكس وعلى الندب والوجوب لأن دفع المفاسد أهم. وعلى الكراهة. والوجوب على الندب. والمثبت على النافي، كخبر بلال - رضي الله عنه -: دخل البيت وصلى. وقال أسامة: دخل ولم يصل. وقيل: سواء. والداري على الموجب. والموجب للطلاق والعتق لموافقته النفي. وقد يعكس لموافقته التأسيس. والكليفي على الوضعي بالثواب. وقد يعكس. والأخف على الأثقل. وقد يعكس ". ش - هذا بيان وجوه الترجيح بحسب المدلول. الحظر" ترجيح " على الإباحة لاستلزامه دفع المفسدة دونها إذ لا يتعلق " بفعلها " وتركه مصلحة ولا مفسدة.

وقيل بالعكس لأن الإباحة تستلزم نفي الحرج الذي هو الأصل وكذالك على الندب لأنه لتحصيل المصلحة " والحظر لدفع المفسدة أهم ". والوجوب يرجح على الندب لأن اعتقاده يوجب احتراز المكلف على ترك الذي هو سبب العقوبة. والمثبث يرجح على النافي لاستلزامه زيادة علم وذلك كخبر بلال أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت وصلى. وخبر أسامة دخله ولم يصل. وقال عيسى بن أبان يتعارضان لأن النافي يقوى بموافقته الأصل. والدارئ أي الدافع يرجح على الموجب للحد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤا الحدود بالشبهات ".

والموجب للطلاق والعتق يرجح على نافيهما لأن موجبهما يوافق النفي الأصلي. وقد يعكس في الصور الثلاث فيرجح الموجب للحد على الدارئ والنافي للطلاق والعتاق على الموجب لهما لأن الموجب للحد والنافي لهما يوافق التأسيس وهو أولى من موافقة النفي الأصلي لإفادة التأسيس فائدة زائدة. والحكم التكليفي يرجح على الوضعي لأنه يحصل به الثواب دون الوضعي وقد يعكس لأن شرط التكليف فهم الخطاب وتمكينه من الفعل في الوضعي ليس كذلك. والتكليفي الأخف يرجح على الأثقل لقوله - تعالى - (يريد الله بكم اليسر

الترجيح بأمر خارجي

ولا يريد بكم العسر) وقد يعكس لقوله - عليه السلام -: " أجرك على قدر نصبك ". ص - الخارج يرجح الموافق لدليل آخر " أو لأهل المدينة , أو للخلفاء أو للأعلام. ويرجحان أحد دليلي التأويلين. وبالتعرض للعلة. والعام على سبب خاص في السبب. والعام عليه في غيره. والخطاب شفاها مع العام كذلك والعام لم يعمل في صورة على غيره. وقيل: بالعكس. والعام بأنه أمس بالمقصود مثل: (وأن تجمعوا بين الأختين) على (أو ما ملكت). وبتفسير الراوي بفعله أو قوله. وبذكر السبب. وبقرائن تأخره. كتأخر الإسلام , أو تاريخ مضيق , أو تشديده , لتأخر التشديدات ". ش - الترجيح بالخارج هو الذي يكون بأمور لا يتوقف عليها الدليل في وجوده ولا في صحته. ودلالة الدليل الموافق لدليل آخر يرجح على دليل ليس كذلك لقوة الظن بالموافقة.

والموافق لعمل أهل المدينة أو للخلفاء الراشدين أو لعمل الأعلم يرجح على غيره بكثرة صحبه الأولين , وكون الأعلم أحفظ بمواقع الخلل وأعرف بدقائق الأدلة. ويرجح أحد التأولين على الآخر برجحان دليله على دليل التأويل الآخر وهو ظاهر. ويرجح أحد الحكمين تعرض لعلته على ما لم يتعرض لها لأن المتعرض لها أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع لإقبال النفس عليه بتعقل المعنى. ويرجح العام الوارد على سبب خاص على العام المطلق في حكم ذلك

السبب لأنه كالخاص من العام والخاص مقدم. يرجح العام المطلق على عام وارد على سبب خاص في حكم غير السبب للاختلاف في عموم العام الوارد على سبب دون عموم العام المطلق. والخطاب شفاها إذا عارض عاما ليس كذلك يرجح بالمشافهة. ويرجح العام عليه في غير من خوطب شفاها. ويرجح العام الذي لم يعمل به في صورة على العام الذي عمل به في صورة لأنه لا يستلزم إهمال أحد الدليلين ولو قدم العام الذي عمل به في صورة لزم إهمال العام الآخر بالكلية. وقيل بالعكس أي يرجح العام الذي عمل به في صورة على الذي لم يعمل به لأن المعمول به يقوى بالعمل. والعام الأمس بالمقصود بأن قصد به بيان الحكم المختلف فيه أولى مما هو بخلافه لقوله - تعالى -: (وأن تجمعوا بين الأختين) فإنه

يرجح على قوله - تعالى - (أو ما ملكت أيمنكم) فإن الأول قد ورد في بيان تحريم الجمع بين الأختين بخلاف الثاني. والخبر الذي فسره الراوي بقوله أو فعله أولى مما لم يكن كذلك لاشتماله على زيادة فائدة. ويرجح الخبر أيضا بذكر السبب فإن ذكر الراوي سببه يدل على زيادة اهتمامه بالرواية. وفيه نظر لأنه لا مدخل لذلك في القوة. ويرجح الخبر أيضا بقرائن تأخره لتأخر إسلام الراوية لأن الظاهر تأخر رواية المتأخر في الإسلام. ويرجح المؤرخ بتاريخ مضيق على غيره لأن ضيقه يدل على التأخير. وبكونه متضمنا لتشديد لأنه أيضا يدل على تأخره فإن التشديد كان في آخر

الترجيح بين المعقولين

عهد الرسول - عليه السلام - والتخفيف في أول عهده. ص - المعقولان , قياسان أو استدلالان فالأول أصله وفرعه ومدلوله وخارج. الأول بالقطع. وبقوة دليله. وبكونه لم ينسخ باتفاق , وبأنه على سنن القياس وبدليل خاص على تعليله. وبالقطع بالعلة أو بالظن الأغلب. وبأن مسلكها قطعي أو أغلب ظنا والسبر على المناسبة لتضمنه انتفاء المعارض. ويرجح بطريق نفي الفارق في القياسين. والوصف الحقيقي على غيره. والثبوتي على العدمي. والباعثة على الأمارة. والمنضبطة والظاهرة والمتحدة على خلافها. والأكثر تعديا والمطردة على المنقوضة. والمنعكسة على خلافها والمطردة على الشبهية. والضرورية الخمس على غيرها. والحاجية على التحسينية. والتكميلية من الخمسة على الحاجية. والدينية على الأربعة. وقيل بالعكس. ثم مصلحة النفس , ثم النسب ثم العقل. ثم المال. وبقوة موجب النقض من مانع أو فوات شرط على الضعف والاحتمال. وبانتفاء المزاحم لها في الأصل. وبرجحانها على مزاحمها. والمقتضية للنفي على الثبوت , وقيل بالعكس. وبقوة المناسبة , والعامة في المكلفين على الخاصة ". ش - لما فرغ عن بيان الترجيح بين منقولين شرع في بيان الترجيح بين معقولين. والمعقولان إما قياسان أو استدلالان. وترجيح أحد القياسين قد يكون بما يعود إلى أصله وإلى فرعه وإلى مدلوله وهو ما يقتضيه القياس , وإلى خارج.

الترجيح بما يعود إلى حكمه

وما يعود إلى أصله قسمان: ما يعود إلى حكمه، وما يعود إلى علته. وما يعود إلى حكمه خمسة منها القطع بترجيح الذي يكون حكم أصله مقطوعا على ما لم يكن ومنها قوة دليله: ترجيح الذي دليل حكم أصله أقوى وإن لم يكن مقطوعا على ما هو ضعيف. ومنها كون حكم الأ صل غير منسوخ با تفاق يرجح ما لم يكن حكم أصله منسوخا باتفاق على ما اختلف في نسخه. ومنها كون حكم الأ صل على سنن القياس: يرجح ما يكون حكم أصله جاريا على سنن القياس على ما لم يكن كذلك.

الترجيح بما يعود إلى علته

ومنها دليل خاص على تعليل حكم أصله: فالذي دل عليه خاص على تعليل حكم أصله يرجح على ما ليس كذلك. وما يعود إلى علته وجوه عدة: منها القطع بالعلة: مقطوعها راجح على مظنونها. ومنها الظن الأ غلب: إذا كان وجود علة أحد القياسين أغلب على الظن من وجود علة الآخر ترجح الأول على الثاني. ومنها قطعية المسلك: - يرجح ما كان مسلك علته قطعيا غلى ما لم يكن. وكذا ما كان مظنونا بالظن الأغلب على ما لم يكن. ومنه كون علية وصفه مستنبطة بالسبر على ما كان علية وصفه مستنبطة بالمناسبة لتضمن السبر انتفاء المعارض في الأصل بخلاف المناسبة.

ومنها طرق نفي الفارق بين الأصل والفرع: - فما كان نفي الفارق فيه بينهما قطعيا كان راجحا على ما كان مظنونا. وما كان مظنونا بالظن الأغلب على ما كان مظنونا بغير الأغلب. ومنها كون الوصف حقيقيا فإنه مقدم على ما لم يكن. ومنها كون الوصف ثبوتيا فإنه مقدم على العدمي. ومنها كون العلة باعثة فإنها تقدم على الأمارة. ومنها كونها منضبطة. ومنها كونها ظاهرة.

ومنها كونها متحدة، فإنها مقدمة على أضدادها. ومنها كثرة التعدي: - ترجح الأكثر تعديا على الأقل لزيادة الفائدة. ومنها الاطراد: وترجح المطردة على المنقوضة. ومنها الانعكاس: ترجح المنعكسة على غيرها. وإذا تعارض المطردة فقط والمنعكسة فقط: - ترجح المطردة لأن الطرد في العلل أقوى من العكس ومن ثمة اشترط في ((للعلة)) الاطراد دون الانعكاس ومنها كون وصفه جامعا للحكمة مانعا لها فإنها ترجح على ما لم تكن كذلك.

ويرجح قياس المناسبة على قياس الشبه لزيادة غلبة الظن بغلبة الوصف المناسب. وترجح الضروريات الخمس التي هي حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال على غيرها. ويرجح ما وقع في محل الحاجة على ما وقع في محل التحسين ((والتزيين)) ويرجح على ما وقع في محل التكملة من الخمسة الضرورية على ما وقع في محل الحاجة وإن كان من أصول الجاه. ويرجح من أقسام الخمسة الضرورية الدينية على الأربعة الباقية لأن ثمرتها أكمل أعني السعادة الأخروية. وقيل بالعكس لأن حق العبادة بحاجتهم أرجح. وترجح مصلحة النفس على الثلاثة الباقية لأن الباقية لأجل حفظ النفس. ثم النسب يرجح على العقل لأن حفظه أشد تعلقا ببقاء النفس من حفظ العقل. ثم العقل يرجح على المال لكونه ملاك التكليف.

ويرجح ما يكون موجب نقض علية من وجود مانع أو فوات شرط قويا على ما يكون ضعيفا لأن قوة موجب النقض دليل على قوة العلة المنقوضة. ويرجح ما يكون موجب نقض علته محققا على ما يكون محتملا. ويرجح ما انتفى مزاحم علته في الأصل على ما لم ينتف فيه. لأن انتفاءه يفيد غلبة الظن بالعلية. ويرجح على ما ترجح علته على مزاحمها في الأصل على ما ليس كذلك. وترجح العلة " المقتضية للنفي على العلة " المقتضية للثبوت متأيدة بالأصل. وقيل بالعكس لأن العلة المقتضية للثبوت تفيد حكما شرعيا لم يعلم بالبراءة الأصلية فهو تأسيس. ويرجح أحد القياسين على الآخر بقوة المناسبة لأنها تفيد قوة الظن بالغلبة. ويرجح على ما تكون علته عامة في المكلفين بأن نعم مصلحة المكلفين على ما تكون علته خاصة ببعضهم لكثرة الفائدة.

الترجيح بما يعود إلى الفرع

ص - الفرع يرجح بالمشاركة في عين الحكم " وعين العلة على الثلاثة، وعين أحدهما على الجنسين، وعين العلة خاصة على عكسه. وبالقطع بها فيه. ويكون الفرع بالنص جملة لا تفصيلا ". ش - هذا بيان الترجيح العائد إلى الفرع: " يرجح القياس الذي يكون فرعه مشاركا لأصله في عين الحكم وعين العلة على الثلاثة أي على ما يكون فرعه مشاركا لأصله في جنس الحكم وجنس العلة وفي جنس الحكم وعين العلة وبالعكس لأن زيادة اختصاص المشاركة تقوي الظن بالغلبة. ويرجح ما يكون فرعه مشاركا لأصله في عين أحدهما أعني العلة أو الحكم على ما يكون فرعه مشاركا لأصله في الجنسين، جنس العلة وجنس الحكم لما مر. ويرجح ما يكون فرعه مشاركا لأصله في عين العلة على ما يكون مشاركا لأصله في عين الحكم لأنها أصل الحكم المتعدي فاعتبار ماهو معتبر في خصوص العلة أولى من اعتبار ما هو معتبر في خصوص العلة أولى من اعتبار ما هو معتبر في خصوص الحكم. ويرجح ما تكون العلة في فرعه مقطوعة على ما تكون فيه مظنونة ويترجح ما يثبت حكم الفرع فيه بالنص جملة لا تفصيلا على ما لم يثبت حكم الفرع فيه بالنص. وقيد بقوله: جملة - لأنه لو ثبت تفصيلا ما كان ثابتا بالقياس كما مر في

الترجيح لين المنقول والمعقول إذا تعارضا

شرط حكم الفرع. ولم يتعرض المصنف لبيان حكم الترجيح العائد إلى المدلول وهو حكم الفرع ولا لبيان العائد إلى أمر خارج ولا العائد إلى الاستدلالين لأنه على قياس ما ذك فاستغنى عن ذكرها. ص - المنقول والمعقول. " يرجح الخاص بمنطوقه. والخاص لا بمنطوقه درجات. والترجيح فيه حسب ما يقع للناظر والعام مع القياس تقدم ". ش - إذا تعارض المنقول يعني الكتاب والسنة والمعقول يعني القياس فإن كان المنقول خاصا ودل على المطلوب بمنطوقه يرجح على القياس لقلة خلل المنقول بقلة المقدمات. وإن كان خاصا ودل عليه لا بمنطوقه فذلك يقع " أعلى " درجات لأن الظن الحاصل منه قد يكون أقوى من الحاصل من القياس وقد يكون مثله وقد يكون أضعف فالترجيح بحسب ما يتفق للناظر فله أن يعتبر الظنين ويأخد بأقواهما. وإن كان المنقول عاما فحكمه مع القياس قد تقدم في انه يجوز التخصيص به أو لا فليرجع هناك. ص - وأما الحدود السمعية فترجح بالألفاظ الصريحة على غيرها. ويكون المعرف أعرف. وبالذاتي على العرضي، وبعمومه على الآخر لفائدته. وقيل بالعكس للاتفاق عليه، وبموافقته النقل الشرعي أو اللغوي أو قربه ويرجحان طريق اكتسابه. وبعمل المدينة، أو الخلفاء الأربعة أو العلماء ولو واحدا. وبتقرير حكم الحظر أو حكم النفي. وبدرء الحد ويتركب من الترجيحات في المركبات والحدود أمور لا

تنحصر. وفيما ذكر ارشاد لذلك " " والحمد لله رب العالمين والله هو المعين وصلى الله على سيدنا محمد وأله الطهرة وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أمين ". ش - كما يقع التعارض في الأمارات المفضية إلى الأحكام كذلك يقع في الحدود وهي عقلية كتعريفات الماهيات، وسمعية كتعريفات الأحكام ونحوها وهي التي نحن بصددها. فإذا تعارض منها حدان فالترجيح إما باعتبار اللفظ أو باعتبار المعنى أو باعتبار أمر خارج. فباعتبار اللفظ يرجح ما كان بألفاظ صريحة لا إبهام فيها على ما كان فيه ألفاظ مجازية أو مشتركة أو وحشية. وباعتبار المعنى يرجح ما هو معرف بمعرف أعرف على غيره. وما عرف بالذاتي على ما عرف بالعرضي.

ويرجح بعموم الحد بأن يكون مدلول أحدهما أعم من مدلول الآخر فيكون متناولا لمحدود التعريف الآخر مع زيادة. وقيل بالعكس لأن مدلول الأخص متفق عليه ومدلول الآخر مختلف فيه للاختلاف فيما زاد على مدلول الآخر والمتفق عليه أولى. وباعتبار الخارج يرجح التعريف الذي يكون موافقا للنقل الشرعي أو اللغوي أو قريبا من أحدهما على ما لا يكون كذلك. ويرجح أحد التعريفين على الآخر برجحان طريق اكتسابه بكون طريق اكتساب أحدهما قطعيا والآخر ظنيا. ويرجح أحدهما على الآخر بكونه موافقا لعمل أهل المدينة أو لعمل الخلفاء الراشدين أو لعمل العلماء أو لعمل عالم واحد. ويرجح أحد التعريفين على الآخر بكونه مقررا لحكم الحظر أو مقررا لحكم النفي. ويرجح أحدهما على الآخر بأن يلزم من العمل به درء الحد دون العمل بالآخر. ويتركب من الترجيحات في المركبات والحدود أمور لا تنحصر وذلك بأن يكون أحد الدليلين أو أحد التعريفين مشتملا على جهتين من جهات الترجيح أو أكثر

والآخر مشتملاً على أقل أو مثله. قال المصنف: وفيما ذكرنا من الجهات المفردة إرشاد لما يتركب منها. قال العبد الفقير إلى الله الحفي محمد محمود بن أحمد الشهير بالأكمل الحنفي غفر الله له ولوالديه وعاملهم بلطفه الخفي ألفت هذا المختصر عجالة بمدة تقرب من أربعة أشهر ولم يكن في نظري سوى شرح قدوتي وشيخي العلامة شمس الدين " الأصبهاني " التي لن تضيء الشمس شمسا مثله تغمده الله برحمته وأسكنه أعلى غرف جنته. وأوردت فيه مما سمح به خاطري ألفا ومائتين وثمانين اعتراضا مريدا بذلك إظهار جهل من تفيهق يغض من علماء العجم ومنقبتهم وشرير يضيع مقدار شارحي هذا الكتاب منهم عن معرفتهم: إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غر وأن يرتاب والصبح مسفر هذا وإن العذر عند خيار الناس مقبول والستر يذيل الفضل وفضل الذيل لما فيه من الخطأ والزلل. والله سبحانه - وتعالى - وتقدس بالعفو والفضل والكرم والإنابة مسؤول. فإنه ولينا ومولانا فهو حسبنا وستره على المعترفين بالذنوب مسدول. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

§1/1