الرحيق المختوم مع زيادات

صفي الرحمن المباركفوري

المقدمة

المقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإن سيرة النبي المصطفى محمد صلّى الله عليه وسلم هي الأساس الكامل والمرجع الرئيس لكل داعية يرجو لعمله النجاح، وللدعوة الإسلامية الاستمرار. فالرسالة المحمدية والسيرة العطرة لا تزال متصلة يحملها العدول من كل زمان، من العلماء العاملين، والدعاة المخلصين، وقد تناقلت الأجيال سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيلا بعد جيل، حفظا في الصدور، وكتابة في السطور، وسجلت في كتب يضيق بها الحصر والتعداد، وسوف تظل الكتابة فيها متواصلة ما بين مختصر وشارح، أو مفند وكاتب للعبر والدلالات، ويبقى الحديث عن السيرة قائما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن فضل الله علي أن وفقني لتدريس مادة السيرة النبوية وقد اختارت لجنة المناهج كتابا قيما فكان الكتاب نواة لمنهج السيرة النبوية. وقد وجدت أن من المفيد إضافة بعض التأملات والعبر والدروس لحوادث السيرة مما يجعل قراءتها أكثر أهمية وأجلّ نفعا. وشفعتها بمصورات إيضاحية تبين الأماكن والآثار والمواقع ليسهل على الدارس معرفة الحوادث ودراستها. والله أسأل أن ينفع بهذا العلم طلاب العلم وجميع المسلمين. كما أسأله عز وجل أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم. د. علاء الدين زعتري

(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: تعتبر مادة السيرة النبوية من أهم المواد الشرعية لأنها ترسم منهاج حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وتكمن أهمية تدريس مادة السيرة في تقديمها بشكل شيق يجعلها منهاج حياة السامعين. وأردد دائما مقولة أن السيرة النبوية صيدلية عظيمة وما علينا إلا استخدام الدواء المناسب للمرض المناسب. ففهمنا لسيرة النبي صلّى الله عليه وسلم تجعلنا نحسن استخدام أدويتها لحل مشاكلنا. ولقد منّ الله تعالى عليّ بتدريس هذه المادة في كلية أصول الدين منذ بضع سنوات، جزى الله القائمين عليها كل خير، وجعلني أهلا لهذا. ويعتبر هذا الكتاب في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم من خيرة وأحدث ما كتب في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم. فجهد المؤلف فيه عظيم ومشكور. ومع وجود الكثير من الأخطاء المطبعية فقد أكرمني الله سبحانه وتعالى بالتعاون مع أخي الدكتور علاء الدين زعتري بوضع بعض التصويبات وإضافة بعض التعديلات والملاحظات التي تزيد الكتاب وضوحا وسهولة. كما وتم إضافة الكثير من المصورات التي تساعد في فهم الغزوات والمعارك المختلفة وتوضح أماكن وقوع الحوادث التاريخية العظيمة وفي هذا خير عظيم للقارئ والدارس. مما يجعل هذا الكتاب بوضعه الجديد مناسبا تماما للدراسة في كلية أصول الدين لطلاب السنة الأولى والسنة الثانية. نرجو من الله تعالى تمام التوفيق وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) والحمد لله رب العالمين غسان محمد رشيد الحموي مدرس مادة السيرة النبوية.

نسب النبي- صلّى الله عليه وسلم- وأسرته نسب النبي- صلّى الله عليه وسلم-: لنسب النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزء اتفق على صحته أهل السير والأنساب وهو إلى عدنان، وجزء اختلفوا فيه ما بين متوقف فيه وقائل به، وهو ما فوق عدنان إلى إبراهيم عليه السلام، وجزء لا نشك أن فيه أمورا غير صحيحة، وهو ما فوق إبراهيم إلى آدم عليهما السلام، وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذا، وهاك تفصيل تلك الأجزاء الثلاثة: الجزء الأول: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- واسمه شيبة- بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناف- واسمه المغيرة- بن قصي- واسمه زيد- بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر- وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة- بن مالك بن النضر- واسمه قيس- بن كنانة بن خزيمة بن مدركة- واسمه عامر- بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان «1» . الجزء الثاني: ما فوق عدنان، وعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان ابن عوص بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام «2» . الجزء الثالث: ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارح- واسمه آزر- بن ناحور بن ساروع- أو ساروغ- بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح- عليه السلام- بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ- يقال هو إدريس عليه السلام- ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم عليهما السلام «3»

_ (1) ابن هشام 1/ 1، 2. تلقيح فهوم أهل الأثر 5، 6، رحمة للعالمين 2/ 11، 12، 13، 14، 52. (2) قد جمع العلامة محمد سليمان المنصور فوري هذا الجزء من النسب برواية الكلبي، وابن سعد بعد تحقيق دقيق. انظر رحمة للعالمين 2/ 14، 15، 16، 17 وفيه اختلاف كبير بين المصادر التاريخية. (3) ابن هشام 1/ 2، 3، 4 تلقيح فهوم أهل الأثر ص 6، خلاصة السير للطبري ص 6، ورحمة للعالمين 2/ 18 واختلفت هذه المصادر في تلفظ بعض هذه الأسماء وكذا سقط من بعض المصادر بعض الأسماء.

طيب نسبه صلّى الله عليه وسلم روى الترمذي أنه صلّى الله عليه وسلم قام على المنبر، فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله عليك السلام، فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتهم، فجعلني في خيرهم بيتا، وخيرهم نفسا. وروى مسلم من حديث وائلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نفسه: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .

نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسرته نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -:

المولد وأربعون عاما قبل النبوة المولد: ولد سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني وعشرين من شهر أبريل سنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فوري والمحقق الفلكي محمود باشا «1» . وروى ابن سعد أن أم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك «2» . وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك البيهقي «3» ولا يقره محمد الغزالي «4» . ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد- وهذا الاسم لم يكن معروفا في العرب- وختنه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون «5» .

_ (1) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 62، رحمة للعالمين 1/ 38، 39 واختلافهم في تعيين تاريخ أبريل فرع للاختلاف في التقويمات الميلادية. (2) انظر مختصر سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله النجدي ص 12 وابن سعد 1/ 63. (3) نفس المصدر الأول. (4) انظر فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 46. (5) ابن هشام 1/ 159، 160، ومحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 62 وقيل إنه ولد مختونا، انظر-

في بني سعد:

وأول من أرضعته من المراضع- بعد أمه صلّى الله عليه وسلم- ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي «1» . في بني سعد: وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادا لهم عن أمراض الحواضر؛ لتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم الرضعاء، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر- وهي حليمة بنت أبي ذؤيب- وزوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة، من نفس القبيلة. وإخوته صلّى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث (وهي الشيماء- لقب غلب على اسمها-) وكانت تحضن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من وجهين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية «2» . ورأت حليمة من بركته صلّى الله عليه وسلم ما قصّت منه العجب، ولنتركها تروي ذلك مفصلا: قال ابن إسحق: كانت حليمة تحدث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئا، قالت: فخرجت على أتان لي قمراء «3» ، معنا شارف لنا «4» ، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض

_ - تلقيح فهوم أهل الأثر ص 4 وقال ابن القيم: ليس فيه حديث ثابت. انظر زاد المعاد 1/ 18. (1) تلقيح فهوم الأثر ص 4، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 13. (2) زاد المعاد 1/ 19. (3) أي ضعيفة. (4) أي ناقة.

عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه، فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة! لقد أخدت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله! إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علَّي حين قدمنا به معنا شباعا لبّنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبّنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبايا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا «1» . وهكذا بقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة «2» من

_ (1) ابن هشام 1/ 162، 163، 164. (2) هذا ما ذهب إليه عامة أهل السير، ويقتضي سياق رواية ابن إسحاق أنه وقع في السنة الثالثة، انظر ابن هشام 1/ 164، 165. -

إلى أمه الحنون:

مولده وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون «1» . إلى أمه الحنون: وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين «2» . ورأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا، ومعها ولدها اليتيم- محمد صلّى الله عليه وسلم- وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرا، ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، ويلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة «3» . إلى جده العطوف: وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم، الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنا،

_ (1) صحيح مسلم، باب الإسراء 1/ 92. (2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7، ابن هشام 1/ 168. (3) ابن هشام 1/ 168، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 63، فقه السيرة للغزالي ص 50.

إلى عمه الشفيق:

ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع «1» . ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلّى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه «2» . إلى عمه الشفيق: ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده، وقدمه عليهم، واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه. ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها. بحيرا الراهب: ولما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة- قيل وشهرين وعشرة أيام «3» - ارتحل به أبو طالب تاجرا إلى الشام، حتى وصل إلى بصرى «4» - وهي معدودة من الشام وقصبة لحوران، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان- وكان في هذه البلد راهب عرف ببحيرا واسمه جرجيس فلما نزل الركب خرج إليهم، وأكرمهم بالضيافة، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك وعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أبو طالب: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخرّ ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفا عليه من اليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة «5» .

_ (1) ابن هشام 1/ 168. (2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7، ابن هشام 1/ 169. (3) قاله ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7. (4) تبعد 20 كم شرق درعا. (5) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 16، وابن هشام 1/ 180، 181، 182، 183، ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا (تحفة الأحوذي) وهو من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا، وإن كان موجودا فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر. زاد المعاد 1/ 17.

حرب الفجار:

حرب الفجار: ولخمس عشرة من عمره صلّى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية لمكانته فيهم سنا وشرفا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس. وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته، أي يجهز لهم النبل للرمي «1» . حلف الفضول: وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذي القعدة في شهر حرام، تداعت إليه قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت «2» وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف إن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، وعديا، فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قبيس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فقاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي بعد ما أبرموا الحلف «3»

_ (1) ابن هشام 1/ 184، 185، 186، 187، قلب جزيرة العرب ص 260، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 63. (2) ابن هشام 1/ 113، 135، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 30، 31. (3) نفس المصدر الأخير ص 30، 31.

حياة الكدح:

حياة الكدح: ولم يكن له صلّى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنما، رعاها في بني سعد «1» ، وفي مكة لأهلها على قراريط «2» وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرا إلى الشام في مال خديجة رضي الله عنها، قال ابن إسحق: كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوما تجارا فلما بلغها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلّى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام «3» . زواجه خديجة: ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه صلّى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين. وجدت ضالتها المنشودة- وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها، فتأبى عليهم ذلك- فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وهذه ذهبت إليه صلّى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة، وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بكرة، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبا وثروة وعقلا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت «4» .

_ (1) ابن هشام 1/ 166. (2) فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 52. (3) ابن هشام 1/ 187، 188. (4) ابن هشام 1/ 189، 190، فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 59، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7.

فضل خديجة ومنزلتها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

وكل أولاده صلّى الله عليه وسلم منها سوى إبراهيم، ولدت له أولا القاسم- وبه كان يكنى- ثم زينب ورقية، وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله، وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن، إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلّى الله عليه وسلم، سوى فاطمة رضي الله عنها فقد تأخرت بعده ستة أشهر، ثم لحقت به «1» فضل خديجة ومنزلتها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم ثبت في الصحيين أنها خير نساء زمانها على الإطلاق. روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: ما غرت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: كان رسول لله صلّى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة، فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة، قالت: فأغضبته يوما، فقلت: خديجة!! فقال صلّى الله عليه وسلم «إني قد رزقت حبها» . وروى الطبراني وأحمد عن عائشة قالت: كان رسول لله صلّى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزا، قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب ثم قال: «لا، والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» .

_ (1) نفس المصدر الأول 1/ 190، 191، والثاني ص 60، وفتح الباري 7/ 507 وبين المصادر اختلاف يسير أخذنا ما هو الراجح عندنا.

خطبة أبي طالب في خطبة خديجة من النبي صلى الله عليه وسلم

خطبة أبي طالب في خطبة خديجة من النبي صلّى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وضئضيء معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا حكام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش إلا رجح عليه برا، وفضلا، وكرما، وعقلا، ومجدا، ونبلا، وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل! وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليّ. بناء الكعبة وقضية التحكيم: ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلّى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة، وذلك لأن الكعبة كانت رضما فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت- باعتبارها أثرا قديما- للعوادي التي أوهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلّى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها، واتفقوا على أن لا يدخلوا في بنائها إلا طيبا، فلا يدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد ابن المغيرة المخزومي، وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد

إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءا منها، فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بنّاء رومي اسمه باقوم، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد. فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده، فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم. وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة. وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبا يبلغ ارتفاعه 15 مترا، وطول ضلعه الذي في الحجر الأسود والمقابل له 10، 10 م، والحجر موضوع على ارتفاع 50، 1 م من أرضية المطاف. والضلع الذي في الباب والمقابل له 12 م وبابها على ارتفاع مترين على الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها 25، 0 م ومتوسط عرضها 30، 0 م وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشا تركتها «1» .

_ (1) انظر في تفصيل بناء الكعبة ابن هشام 12/ 192 إلى 197، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص 62، 63، وصحيح البخاري باب فضل مكة وبنيانها 1/ 215، ومحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 64، 65.

أهم ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء

أهم ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء بنيت الكعبة خلال الدهر كله، أربع مرات بيقين، ووقع الخلاف والشك فيما قبل هذه المرات الأربع وبعدها. أما المرة الأولى منها: فهي التي قام بأمر البناء فيها نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعينه ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وذلك استجابة لأمر الله، وقد ثبت ذلك بصريح القرآن والسنة. قال الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة: 127) وفي الحديث: « ... ثم قال- أي إبراهيم-: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» . رواه البخاري في كتاب الأنبياء (64) باب (يزفون) / الصافات 94/ النسلان في المشي (12) حديث رقم (3184) ، عن ابن عباس، ج 3، ص 1230. وأما المرة الثانية: فهي تلك التي بنتها قريش قبل الإسلام، واشترك النبي صلّى الله عليه وسلم في بنائها، وقصّرت النفقة بقريش فلم يتمموا البناء على قواعد إبراهيم عليه السلام. وفي ذلك يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم» .

فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه، قال يزيد- ابن رومان-: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه، وأدخل فيه الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل، قال جرير- ابن حازم- فقلت له: أين موضعه؟ قال: أريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: هاهنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها. رواه البخاري في كتاب الحج (32) ، باب فضل مكة وبنيانها (41) ، حديث رقم (1509) ، ج، ص 574. ومن الدروس المستفادة ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان ينقل معهم الحجارة للكعبة، وعليه إزارة، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة، قال: فحلّه فجعله على منكبيه، فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا صلّى الله عليه وسلم. رواه البخاري في كتاب الصلاة في الثياب (9) باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها (7) ، حديث رقم (357) ، ج 1، ص 143، وتكرر تحت رقم 1505 و 3617. وأما المرة الثالثة: فقد كانت عند ما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزتها جيوشه من أهل الشام، عند ما حاصروا عبد الله بن الزبير بقيادة الحصين بن نمير في آخر سنة ست وأربعين للهجرة، ورموا البيت بالمنجنيق، فتهدم واحترق. فانتظر ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، فاستشارهم قائلا: أيها الناس، أشيروا عليّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهى منها؟ فقال له ابن عباس: أرى أن تصلح ما وهى وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وأحجارا أسلم الناس عليها، فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدّه، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري. ثم باشر نقضه بعد ثلاثة أيام حتى بلغوا به الأرض، فأقام ابن الزبير أعمدة من حوله، وأرخى عليها الستور، ثم باشروا في رفع بنائه، وزاد فيه ما أخرجت قريش منه. وزاد في ارتفاعه إلى السماء عشرة أذرع، وجعل له بابين، اتباعا لحديث عائشة. وأما المرة الرابعة: فقد كانت بعد مقتل ابن الزبير. روى مسلم عن عطاء أنه لما قتل ابن الزبير، كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسّ نظر إليه العدول

من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء. أما ما زاد في طوله- ارتفاعه- فأقرّه، وأما ما زاد فيه من الحجر فردّه إلى بنائه، وسدّ الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه. أما ما وقع الشك والخلاف فيه فهو بناء الكعبة قبل بناء نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، روى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعث الله عز وجل جبريل عليه السلام إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل عليه الصلاة والسلام، فجعل آدم يحفر، وحواء تنقل حتى أصابه الماء، فنودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح عليه السلام، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم عليه الصلاة والسلام القواعد منه» . وهناك روايات وآثار أخرى قريبة في المعنى الذي رواه البيهقي، إلا أن جميعها لا يخلوا من ضعف أو نكارة. فالأولى اعتماد ما ثبت يقينا، وأما ما وراء ذلك فنكل علمه إلى الله.

في ظلال النبوة والرسالة

في ظلال النبوة والرسالة في غار حراء: ولما تقاربت سنه صلّى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور، على مبعدة نحو ميلين من مكة- وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد- ومعه أهله قريبا منه، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه «1» . وكان اختياره صلّى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم. ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة. وهكذا دبر الله لمحمد صلّى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ.. دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عند ما يأذن الله «2» .

_ (1) رحمة للعالمين 1/ 47، وابن هشام 1/ 235، 236، في ظلال القرآن الجزء 29/ 166. (2) نفس المصدر الأخير 29/ 166، 167.

جبريل ينزل بالوحي:

جبريل ينزل بالوحي: ولما تكامل له أربعون سنة- وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل- بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة، وتلك الآثار هي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر- ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلّى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن «1» . وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الإثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا، ويوافق 10 أغسطس سنة 610 م، وكان عمره صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و 12 يوما، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و 22 يوما «2» .

_ (1) قال ابن حجر: وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة في رمضان (فتح الباري 1/ 27) . (2) اختلف المؤرخون اختلافا كبيرا في أول شهر أكرمه الله فيه بالنبوة، وإنزال الوحي، فذهبت طائفة كبيرة إلى أنه شهر ربيع الأول، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه رمضان، وقيل هو شهر رجب (انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 75) ورجحنا الثاني- أي أنه شهر رمضان- لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (2: 185) ولقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (97: 1) ومعلوم أن ليلة القدر في رمضان، وهي المرادة بقول تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (44: 3) ولأن جواره صلّى الله عليه وسلم بحراء كان في رمضان، وكانت وقعة نزول جبريل فيها كما هو معروف. ثم اختلف القائلون ببدء نزول الوحي في رمضان في تحديد ذلك اليوم، فقيل: هو اليوم السابع، وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر (انظر مختصر سيرة الرسول المذكور ص 75، ورحمة للعالمين 1/ 49) وقد أصر الخضري في محاضراته على أنه اليوم السابع عشر (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 69) . وإنما رجحنا أنه اليوم الحادي والعشرون مع أنا لم نر من قال به لأن أهل السيرة كلهم أو أكثرهم متفقون على أن مبعثه صلّى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين، ويؤيدهم ما رواه أئمة الحديث عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: فيه ولدت فيه أنزل علي، وفي لفظ: ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه (صحيح مسلم 1/ 368، أحمد 5/ 297، 299، البيهقي 4/ 286، 300، -

ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور الله، أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال، حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ. قالت عائشة رضي الله عنها: أول ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: فقلت: ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «1» فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الورع، فقال لخديجة، مالي، وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي ابن عم خديجة- وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي- فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي،

_ - الحاكم 02/ 602) ويوم الإثنين في رمضان من تلك السنة لا يوافق إلا اليوم السابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين، والثامن والعشرين، وقد دلت الروايات الصحيحة أن ليلة القدر لا تقع إلا في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان وأنها تنتقل فيما بين هذه الليالي، فإذا قارنا بين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وبين رواية أبي قتادة أن مبعثه صلّى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين وبين حساب التقويم العلمي في وقوع يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة تعين لنا أن مبعثه صلّى الله عليه وسلم كان في اليوم الحادي والعشرين من رمضان ليلا. (1) كان نزول الآيات إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.

وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي «1» . وروى الطبري وابن هشام ما يفيد أنه خرج من غار حراء بعد ما فوجىء بالوحي ثم رجع وأتم جواره، وبعد ذلك رجع إلى مكة، ورواية الطبري تلقي ضوءا على سبب خروجه وهاك نصها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذكر مجيء الوحي: ولم يكن من خلق الله أبغض عليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت إن الأبعد. - يعني نفسه- شاعر أو مجنون إلا تحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها، فلأستريحن! قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد!! أنت رسول الله، وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مقامي، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي «2» حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها (ملتصقا بها مائلا إليها) فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت؟ فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عم، واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة «3» ، ثم قامت فانطلقت إلى ورقة وأخبرته. فقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت، فرجعت خديجة وأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جواره وانصرف (إلى مكة) لقيه ورقة، وقال بعد أن سمع منه خبره: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى «4» .

_ (1) صحيح البخاري 1/ 2، 3، وقد أخرجه البخاري مع اختلاف يسير في اللفظ في كتابي التفسير وتعبير الرؤيا. (2) نص الطبري 2/ 207. (3) نص ابن هشام 1/ 237- 238. (4) ملخص من ابن هشام 1/ 238.

فترة الوحي:

فترة الوحي: أما مدة فترة الوحي فروى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد أنها كانت أياما «1» وهذا الذي يترجح بل يتعين بعد إدارة النظر في جميع الجوانب. وأما ما اشتهر من أنها دامت طيلة ثلاث سنين أو سنتين ونصف فلا يصح بحال، وليس هذا موضع التفصيل في رده. وقد بقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبا محزونا، تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا عدا «2» منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك «3» . جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية: قال ابن حجر: وكان ذلك (أن انقطاع الوحي أياما) ، ليذهب ما كان صلّى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود «4» ، فلما تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف صلّى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أضحى نبيا لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار تشوفه وارتقابه لمجيء الوحي سببا في ثباته واحتماله عندما يعود، جاءه جبريل للمرة الثانية. روى البخاري عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، قال: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر إلى قوله: فاهجر، ثم حمي الوحي وتتابع «5» .

_ (1) فتح الباري 1/ 27، 12/ 360. (2) بالعين المهملة من العدو، وهو الذهاب بسرعة، وفي بعض النسخ «غدا» بالغين المعجمة. (3) صحيح البخاري كتاب التعبير باب أول ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة 2/ 10340. (4) فتح الباري 1/ 27. (5) صحيح البخاري كتاب التفسير باب والرجز فاهجر 4/ 1876.

الوحي وموقف المسشرقين منه

الوحي وموقف المسشرقين منه إن حديث الوحي هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الدين، وإن فهم الوحي والإيمان به، هو المدخل إلى الإيمان بسائر ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم. من أجل هذا، يهتم محترفو التشكيك بالإسلام بمعالجة موضوع الوحي، من أجل التلبيس في حقيقته، والخلط بينه وبين الإلهام، أو حديث النفس، أو الصرع. وقد تبارى المسشرقون، وتنافسوا في إطلاق الكلمات، وسرح بهم الخيال في بيان ما زعموا أنه توضيح للحالة التي جرت مع محمد [صلّى الله عليه وسلم] . فمن متصور أن محمدا لم يزل يفكر، إلى أن تكونت في نفسه بطريقة الكشف عقيدة، كان يراها الكفيلة بالقضاد على الوثنية. ومن قائل أن محمدا إنما تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب. ومن قائل بأن محمدا كان رجلا عصبيا أو مصابا بداء الصرع. ونحن- المسلمين المؤمنين- حينما نسمع مثل هذه الترهات ندرك في جلاء ووضوح الحكمة الإلهية من بدء نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وسلم بهذه الطريقة التي ذكرتها كتب السنة، ثم فتر الوحي، ثم تتابعه. لماذا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل بعيني رأسه لأول مرة؟ وقد كان بالإمكان أن يكون الوحي من وراء حجاب. لماذا قذف الله في قلبه صلّى الله عليه وسلم الرعب من الملك والحيرة في فهم حقيقته؟ مع أن مقتضى محبة الله لنبيه أن يلقي السكينة في قلبه، ويربط على فؤاده، فلا يخاف. لماذا خشي النبي صلّى الله عليه وسلم على نفسه أن يكون هذا الشيء الذي تمثل له في الغار أتيا من الجن، ولم يرجح أن يكون ملكا من عند الله؟. لماذا فتر الوحي، ثم نزل مرة ثانية، وكان من مقتضى الوحي أن يستمر دون انقطاع؟. كل ذلك حكمة باهرة لصاحب الفكر الحر للوصول إلى الحقيقة الواقية عن الوقوع في شرك المسشرقين واتباعهم. لقد فوجىء رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، قائلا له: اقرأ، حتى نتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا، مردّه إلى حديث النفس، وإنما هي استقبال وتلقي لحقيقة خارجية. ولقد داخله الخوف مع الرعب مما سمع ورأى، لكي يتضح أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم

يكن متشوفا للرسالة التي سيدعى إلى حملها وبثها في العالم، بل الأمر اصطفاء، قال الله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] . ثم إن الإلهام، أو حديث النفس، أو الإشراق الروحي لا تستدعي الخوف والرعب. إذا فحديث بدء الوحي على النحو المذكور ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة.

أدوار الدعوة ومراحلها يمكن أن نقسم عهد الدعوة المحمدية- على صاحبها الصلاة والسلام والتحية- إلى دورين يمتاز أحدهما عن الآخر تمام الامتياز وهما: (1) الدور المكي، ثلاث عشرة سنة تقريبا. (2) الدور المدني، عشر سنوات كاملة. ثم يشتمل كل من الدورين على مراحل لكل منها خصائص تمتاز بها عن غيرها، ويظهر ذلك جليا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلال الدورين. ويمكن تقسيم الدور المكي إلى ثلاث مراحل: 1- مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنين. 2- مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة. 3- مرحلة الدعوة خارج مكة، وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة. أما مراحل الدور المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه.

أدوار الدعوة ومراحلها

المرحلة الأولى جهاد الدعوة ثلاث سنوات من الدعوة السرية: معلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وكان بها سدنة الكعبة، والقوام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عسرا وشدة عما لو كان بعيدا عنها. فالأمر يحتاج إلى عزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث، كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم. الرعيل الأول: وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلّى الله عليه وسلم الإسلام أولا على ألصق الناس به وآل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه خيرا ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الله الحق والخير، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء- الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلّى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره- جمع عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلّى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي «1» وابن عمه علي بن أبي طالب- وكان صبيا يعيش في كفالة الرسول- وصديقه الحميم أبو بكر الصديق. أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة «2» .

_ (1) كان قد أسر ورق، فملكته خديجة، ووهبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجاءه أبوه وعمه ليذهبا به إلى قومه وعشيرته، فاختار عليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتبناه حسب قواعد العرب، وكان لذلك يقال: زيد بن محمد، حتى جاء الإسلام فأبطل التبنّي. (2) رحمة للعالمين 1/ 50.

ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلا مألفا محببا سهلا، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد الله التيمي. فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام. ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أمين هذه الأمة «1» أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت وعبد الله بن مسعود الهذلي وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفرا «2» . وفي ذكر بعضهم في السابقين الأولين نظر. قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به «3» . أسلم هؤلاء سرا، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفيا؛ لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمي نزوله بعد نزول أوائل المدثر. وكانت الآيات وقطع السور التي تنزل في هذا الزمان آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هادئة خلابة تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على تحسين تزكية النفوس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رأي عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك.

_ (1) انظر لتسميته بهذا اللقب صحيح البخاري مناقب أبي عبيدة بن الجراح 1/ 530. (2) انظر سيرة ابن هشام 1/ 245 إلى 262. (3) نفس المصدر 1/ 262.

وجه السرية في بدء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم

وجه السرية في بدء دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم لم تكن سرية الدعوة في أول أمرها، خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفسه، ولكنه إلهام من الله، لتعليم الدعاة من بعده، وإرشادهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة. وفي هذا المجال، يحسن تلخيص كلام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عند رب العالمين، إذ جاء فيه: إن النبي صلّى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة» وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته» . ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار آهامن إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار سلام، عزم على تغيير البيت وردّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك- مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء. فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفّه ضده. الثانية: أن يقلّ وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان. والثالثة موضع اجتهاد. والرابعة محرمة. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالمنكرات كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النّشاب وسباق الخيل ونحو ذلك. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرّغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك. وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم. [إعلام الموقعين، 3/ 15] .

المرحلة الثانية الدعوة جهارا

المرحلة الثانية الدعوة جهارا أول أمر بإظهار الدعوة: أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (26: 214) والسورة التي وقعت فيها الآية- وهي سورة الشعراء- ذكرت فيها أولا قصة موسى عليه السلام من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، ونجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله. أرى أن هذا التفصيل إنما جيء به حين أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلى الله، ليكون أمامه وأمام أصحابه نموذجا لما سيلقونه من التكذيب والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ بداية دعوتهم. ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة- علاوة على ما ذكر من أمر فرعون وقومه- ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب بما يؤول إليه أمرهم وبما سيلقون من مؤاخذة الله إن استمروا على التكذيب، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم لا للمكذبين. الدعوة في الأقربين: وأول ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أنه دعا بني هاشم فحضروا، ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا. فبادره أبو لهب وقال: وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصّباة. واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق

على جبل الصفا:

من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية وقال: «الحمد الله أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا» . فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به. فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا «1» . على جبل الصفا: وبعد ما تأكد النبي صلّى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته، وهو يبلغ عن ربه، قام يوما على الصفا فصرخ: يا صباحاه: فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته وباليوم الآخر. وقد روى البخاري طرفا من هذه القصة عن ابن عباس. قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبي صلّى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي با بني فهر!. يا بني عدي! لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «2» .

_ (1) ابن الأثير، فقه السيرة ص 77، 78. (2) صحيح البخاري 2/ 702، 743، والرواية مخرجة في صحيح مسلم أيضا 1/ 114.

الصدع بالحق وردود فعل المشركين:

وروى مسلم طرفا آخر من هذه القصة عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: لما نزلت هذه الآية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعم وخص. فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها «1» . هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلّى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم. وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله. الصدع بالحق وردود فعل المشركين: ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (15: 94) فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وترهاته، ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، ويبين بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين الله فهو في ضلال مبين. انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وماجت بالغرابة والاستنكار، حين سمعت صوتا يجهر بتضليل المشركين وعباد الأصنام، كأنه صاعقة قصفت السحاب، فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادىء، وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها. قامت لأنها عرفت أن معنى الإيمان بنفي الألوهية عما سوى الله، ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم الآخر هو الانقياد التام والتفويض المطلق، بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم، فضلا عن غيرهم. ومعنى ذلك انتفاء سيادتهم وكبريائهم على العرب، التي كانت بالصبغة الدينية، وامتناعهم عن تنفيذ مرضاتهم أمام مرضاة الله ورسوله، وامتناعهم عن المظالم التي كانوا يفترونها على الأوساط السافلة، وعن السيئات التي كانوا يجترحونها صباح مساء. عرفوا هذا

_ (1) صحيح مسلم 1/ 114، صحيح البخاري 1/ 385، 2/ 702، مشكاة المصابيح 2/ 460. أبلّ رحمه بلا وبلالا بالكسر: وصلها، والبلال بالفتح: اسم لصلة الرخم.

وفد قريش إلى أبي طالب:

المعنى فكانت نفوسهم تأبى عن قبول هذا الوضع «المخزي» لا لكرامة وخير بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (75: 5) . عرفوا كل ذلك جيدا، ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين، أعلى مثل للقيم البشرية ولمكارم الأخلاق، لم يعرفوا له نظيرا ولا مثيلا خلال فترة طويلة من تاريخ الآباء والأقوام؟ ماذا سيفعلون؟ تحيروا في ذلك، وحق لهم أن يتحيروا. وبعد إدارة فكرتهم لم يجدوا سبيلا إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب، فيطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما هو فيه، ورأوا لإلباس طلبهم لباس الجد والحقيقة أن يقولوا: إن الدعوة إلى ترك آلهتهم، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة وإهانة شديدة لها، وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين، وجدوا هذا السبيل فتسارعوا إلى سلوكها. وفد قريش إلى أبي طالب: قال ابن إسحاق: مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه «1» . المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة: وخلال هذه الأيام أهم قريشا أمر آخر، وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لا بد من كلمة يقولونها للعرب في شأن محمد صلّى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، قالوا: فأنت فقل، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو

_ (1) ابن هشام 1/ 265.

بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك «1» . وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا: أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم: أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر، حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفا» . وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر (من 11 إلى 26) وفي خلالها صور كيفية تفكيره، فقال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره «3» . والذي تولى كبر ذلك هو أبو لهب، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتبع الناس إذا وافى الموسم في منازلهم وفي عكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب «4» .

_ (1) نفس المصدر 1/ 271. (2) انظر في ظلال القرآن 29، 188. (3) ابن هشام 1/ 271. (4) روى فعله هذا الترمذي عن يزيد بن رومان و.. عن طارق بن عبد الله المحاربي ورواه الإمام أحمد في مسنده 3/ 492، 4/ 341.

ولكن ما أبو لهب؟ وما قريش؟ وما العرب؟ وما الدنيا كلها؟ بإزاء رجل يحمل رسالة من الله الذي له ملك السموات والأرض يريد أن يعيد بها الرشد لعالم فقد رشده. ما تجدي وقفة جهول؟ أو غضبة مغرور؟ في منع هذه الرسالة الكبيرة من المضي إلى هدفها البعيد. إن الطحالب العائمة لا توقف السفن الماخرة، فالقافلة تسير والكلاب تنبح. وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.

درجات المسؤولية

درجات المسؤولية لو أمعنا النظر في بداية حياة البعثة: دعوة سرية ثم وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 214] . ثم فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] . هذا الترتيب يلمح إلى درجات المسؤولية المتعلقة بكل مسلم عامة، وأصحاب الدعوة خاصة. فأول درجات المسؤولية هي مسؤولية الشخص من نفسه ونلاحظها في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم في امتداد فترة ابتداء الوحي، تلك المدة الطويلة التي علمناها، أي ريثما يطمئن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أنه نبي مرسل، وأن ما ينزل عليه إنما هو وحي من الله، ويوطن نفسه لقبول كل ما سيتلقاه من مبادىء ونظم وأحكام. وأما الدرجة الثانية فهي مسؤولية المسلم عن أهله ومن يلوذ به من ذوي قرباه، قال الله تعال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] . وأما الدرجة الثالثة، فهي مسؤولية العالم عن حيه أو بلدته، ومسؤولية الحاكم عن دولته وقومه، وكل منهما ينوب في ذلك مناب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. دار الأرقم: مقدمة لما جهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدعوة قابلت قريش دعوته بأساليب شتى، تتلخص فيما يأتي: 1- السخرية والتحقير والاستهزاء والتكذيب، والقصد منها: تخذيل المسلمين، وتوهين قوامهم المعنوية. 2- تشويه تعاليم الرسول صلّى الله عليه وسلم، وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، حول ذات النبي صلّى الله عليه وسلم وشخصه وتعاليمه. 3- معارضة القرآن بأساطير الأولين، ومحاولة إشغال الناس بها عن القرآن. 4- مساومات حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق،

بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي صلّى الله عليه وسلم بعض ما هو عليه. ولما رأى المشركون أن هذه الأساليب لا تجدي لهم نفعا في كف الدعوة الإسلامية، اجتمعوا وكونّوا لجنة أعضاؤها خمسة وعشرون رجلا، وبعد التشاور والتفكير اتخذت اللجنة قرارا حاسما: أن لا تألوا جهدا في محاربة الإسلام، وفي إيذاء رسول الإسلام، وفي تعذيب الداخلين فيه. فكان من الحكمة أن يكون للمسلمين مكان بعيد عن أعين المشركين يتعبدون فيه ربهم. وكان من الحكمة تلقاء هذه الاضطهادات أن يمنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسلمين عن إعلان إسلامهم قولا أو فعلا، وأن لا يجتمع بهم إلا سرا؛ لأنه إذا اجتمع بهم علنا فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما بفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل وقع ذلك فعلا في السنة الرابعة من النبوة، وذلك أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرا، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا فسال دمه، وكان أول دم أهريق في الإسلام «1» . ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة الاختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرا؛ نظرا لصالحهم وصالح الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا. وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان أن اتخذها مركزا لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة «2» .

_ (1) ابن هشام 1/ 263، مختصر سيرة الرسول لمحمد بن عبد الوهاب ص 60. (2) نفس المصدر الأخير، ص 61.

العبر والدلالات:

العبر والدلالات: يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهذا مشروط بأن لا يستلزم مثل هذه الحماية: إضرارا بالدعوة الإسلامية أو تغييرا لبعض أحكام الدين، أو سكوتا عن اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز للمسلم الدخول فيها. دليل ذلك: موقفه صلّى الله عليه وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمله مالا يطيق، فقد وطّن نفسه للخروج من حماية عمه، وأبي أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه. ودليل جواز الاستجارة: استجارته صلّى الله عليه وسلم بالمطعم بن عدي يوم رجع من الطائف.

الهجرة الأولى إلى الحبشة:

الهجرة الأولى إلى الحبشة: كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة، ثم لم تزل يوما فيوما وشهرا فشهرا حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة، حتى نبا بهم المقام في مكة، وأوعزتهم أن يفكروا في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الساعة الضنكة الحالكة نزلت سورة الكهف، ردودا على أسئلة أدلى بها المشركون إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، ولكنها اشتملت على ثلاث قصص، فيها إشارات بليغة من الله تعالى إلى عباده المؤمنين، فقصة أصحاب الكهف ترشد إلى الهجرة من مراكز الكفر والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين، متوكلا على الله وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (18: 16) «1» . وقصة الخضر وموسى تفيد أن الظروف لا تجري ولا تنتج حسب الظاهر دائما، بل ربما يكون الأمر على عكس كامل بالنسبة إلى الظاهر. ففيها إشارة لطيفة إلى أن الحرب القائمة ضد المسلمين ستنعكس تماما، وسيصادر هؤلاء الطغاة المشركون- إن لم يؤمنوا- أمام هؤلاء الضعفاء المدحورين من المسلمين. وقصة ذي القرنين تفيد أن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء. وأن الفلاح إنما هو في سبيل الإيمان دون الكفر، وأن الله لا يزال يبعث من عباده- بين آونة وأخرى- من يقوم بإنجاء الضعفاء من يأجوج ذلك الزمان ومأجوجه، وأن الأحق بإرث الأرض إنما هم عباد الله الصالحون. ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39: 10) وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد علم أن أصحمة النجاشي ملك الحبشة ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم من الفتن. وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة. كان مكونا من

_ (1) نفس المصدر الأخير ص 61.

قصة الغرانيق:

اثني عشر رجلا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه السيدة رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيهما: إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام «1» . كان رحيل هؤلاء تسللا في ظلمة الليل- حتى لا تفطن لهم قريش- خرجوا إلى البحر، ويمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطيء كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار «2» . قصة الغرانيق: وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الحرم، وهناك جمع كبير من قريش، كان فيه ساداتها وكبراؤها، فقام فيهم، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام الله قبل ذلك، لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضا، من قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (41: 26) فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب- لا يحيط بروعته وجلالته البيان- تفانوا عما هم فيه، وبقي كل واحد مصغيا إليه، لا يخطر بباله شيء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب ثم قرأ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (53: 62) ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدا، وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين «3» . وسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» ، جاءوا بهذا الإفك المبين، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلّى الله عليه وسلم، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا

_ (1) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 92، 93، زاد المعاد 1/ 24، رحمة للعالمين 1/ 61. (2) رحمة للعالمين 1/ 61، زاد المعاد 1/ 24. (3) روى البخاري قصة السجود مختصرا عن ابن مسعود وابن عباس، انظر باب سجدة النجم وباب سجود المسلمين والمشركين 1/ 146، وباب ما لقي النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 1/ 543.

أثر هذه القصة على مهاجري الحبشة:

يؤلفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء «1» . أثر هذه القصة على مهاجري الحبشة: بلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماما عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار، وعرفوا حلية الأمر، رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيا، أو في جوار رجل من قريش «2» . الهجرة الثانية إلى الحبشة: ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة «3» . وبالأول جزم العلامة محمد سليمان المنصور فوري «4» . مكيدة قريش بمهاجري الحبشة: عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جليدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة- قبل أن يسلما- وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من

_ (1) تفهيم القرآن 5/ 188 وإلى هذا التوجيه جنح المحققون في حديث الغرانيق. (2) نفس المصدر 5/ 188. زاد المعاد 1/ 24، 2/ 44، وابن هشام 1/ 364. (3) انظر زاد المعاد 1/ 24، رحمة للعالمين 1/ 61. (4) انظر المصدر الأخير.

آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم. ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعا، فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنا ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ قال جعفر بن أبي طالب- وكان هو المتكلم عن المسلمين-: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ. فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون- يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه- فخرجا، وقال عمرو بن العاص لعبد الله بن

اخفاق المهمة

ربيعة: والله لآتينهم غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه. فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنا ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت [1] بطارقته، فقال: وإن نخرتم والله. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي- والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم- والدبر الجبل بلسان الحبشة. ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءوا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار «1» . هذه رواية ابن إسحق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين «2» لكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وجعفر في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحق تقريبا، ثم إن تلك الأسئلة تدل لفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي. اخفاق المهمة أخفقت حيلة المشركين، وفشلت مكيدتهم، وعرفوا أنهم لا يشيعون ضغينتهم إلا في حدود سلطانهم، ونشأت فيهم من أجل ذلك فكرة رهيبة. رأوا أن التفصي عن هذه «الداهية» لا يمكن إلا بكف رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن دعوته تماما، وإلا فبإعدامه، ولكن كيف السبيل إلى

_ (1) ابن هشام ملخصا 1/ 334، 335، 336، 337، 338. (2) مختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 96، 97، 98، وفي تلك الصفحات تفصيل الأسئلة والأجوبة.

قضية إسلام النجاشي

ذلك وأبو طالب يحوطه ويحول بينه وبينهم؟ رأوا أن يواجهوا أبا طالب في هذا الصدد. قضية إسلام النجاشي اختلف النصارى قديما في طبيعة المسيح على مذاهب شتى وكان هناك مذهب يقوم على اعتباره بشرا مرسلا، وليس إلها ولا ندا لله، ويعتقد أن نجاشي الحبشة على هذا الرأي. ومما يؤيد هذا الرأي، ما جاء في سيرة ابن هشام: اجتمعت الحبشة، فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيئنا لهم سفنا. وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد الى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا لله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه- شيء يوضع فوق الكتف لحماية الجسم من الضرب- عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحقّ الناس بكم؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه.

قريش يهددون أبا طالب:

قريش يهددون أبا طالب: جاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحدّ الفريقين. عظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال: يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر- حتى يظهره الله أو أهلك فيه- ما تركته، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبد «1» . وأنشد: والله لن يصلوا إليك نجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا «2» قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى: ولما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماض في عمله؛ وعرفت أن أبا طالب قد أبي خذلان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له: يا أبا طالب إن هذا الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه. هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن

_ (1) ابن هشام 1/ 265، 266. (2) مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 68.

فكرة الطغاة في إعدام النبي - صلى الله عليه وسلم -

عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال: والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك «1» . لا تذكر المصادر التاريخية زمن هاتين الوفادتين، لكن يبدو بعد التأمل في القرائن والشواهد أنهما كانتا في أواسط السنة السادسة من النبوة، وأن الفصل بين الوفادتين لم يكن إلا يسيرا. فكرة الطغاة في إعدام النبي- صلّى الله عليه وسلم- بعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلّى الله عليه وسلم بطريق أخرى، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما: حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر ب وَالنَّجْمِ إِذا هَوى وبالذي دَنا فَتَدَلَّى ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» ، وقد استجيب دعاؤه صلّى الله عليه وسلم، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه «2» . ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان «3» .

_ (1) ابن هشام 1/ 226، 267. (2) تفهيم القرآن 6/ 522، من الاستيعاب، والإصابة، ودلائل النبوة، والروض الأنف، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 135. (3) نفس المصدر الأخير ص 113.

ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلّى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبي إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم، ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمّ بي أن يأكلني. قال ابن إسحق: فذكر لي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه «1» . وبعد ذلك فعل أبو جهل برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما أدى إلى إسلام حمزة رضي الله عنه وسيأتي. أما طغاة قريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم، روى ابن إسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما

_ (1) ابن هشام 1/ 298- 299.

إسلام حمزة بن عبد المطلب:

والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا. فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه. قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط «1» . انتهى ملخصا. وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلّى الله عليه وسلم، قال: بينا النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ «2» . وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئا من غدائره إلا رجع معنا «3» . إسلام حمزة بن عبد المطلب: خلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق نور للمقهورين طريقهم، ألا وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذي الحجة. وسبب إسلامه أن أبا جهل مر برسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما عند الصفا، فآذاه ونال منه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فشجه، حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن

_ (1) ابن هشام 1/ 289، 290. (2) صحيح البخاري- باب ذكر ما لقي النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 1/ 544. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 113.

إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

جدعان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القنص متوشحا قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة- وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة- فخرج يسعى، لم يقف لأحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له: يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم- حي أبي جهل- وثار بنو هاشم- حي حمزة- فقال: أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا «1» . وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه. ثم شرح الله صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى «2» ، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز. إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق آخر أشد بريقا وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة «3» . بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه «4» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه، فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام» فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه «5» .

_ (1) مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 66، رحمة للعالمين 1/ 68، ابن هشام 1/ 291، 292. (2) تدل عليه رواية ذكرها الشيخ عبد الله النجدي في مختصر السيرة ص 101. (3) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 11. (4) ستأتي رواية في ذلك. (5) الترمذي، أبواب المناقب، مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب 2/ 209.

وخلاصة الروايات مع الجمع بينها- في إسلامه رضي الله عنه- أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلّى الله عليه وسلم قائم يصلي وقد استفتح سورة «الحاقة» فجعل عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، قال: فقلت- أي في نفسي- هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (69: 40، 41) قال: قلت: كاهن. قال: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر السورة. قال فوقع الإسلام في قلبي «2» . كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، والعصبية التقليدية، والتعاظم بدين الآباء هي غالبة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه، فبقي مجدا في عمله ضد الإسلام، غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة. وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه خرج يوما متوشحا سيفه، يريد القضاء على النبي صلّى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوي «3» ، أو رجل من بني زهرة «4» ، أو رجل من بني مخزوم» فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا قال: كيف تأمن من

_ (2) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 6، ويقرب من هذا ما رواه ابن إسحاق عن عطاء ومجاهد. لكن في آخره ما يخالف ذلك. انظر ابن هشام 1/ 346، 347، 348، ويقرب من هذا أيضا ما أورده ابن الجوزي عن جابر، وفي آخره أيضا ما يخالف هذه الرواية انظر تاريخ عمر بن الخطاب ص 9- 10. (3) وهذا على رواية ابن إسحاق، انظر ابن هشام 1/ 344. (4) روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه. انظر تاريخ عمر بن الخطاب ص 10، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد النجدي ص 103. (5) روى ذلك ابن عباس انظر المصدر الأخير ص 102.

بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه، قال أفلا أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وختنك «1» قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامرا «2» حتى أتاهما وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها- وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن- فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة- أخت عمر- الصحيفة، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة «3» التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له خنته: يا عمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدا. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها- وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها- فقالت- وهي غضبى-: يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فلما يئس عمر، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحي، وقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ طه حتى انتهى إلى قوله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد. فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا. فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر، فقال: وعمر، افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم حبذه جبذة شديدة فقال: أما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم! هذا

_ (1) أي: صهرك (2) دمر: هجم هجوم الشر (3) الصوت الخفيف

أثر إسلام عمر على المشركين:

عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، فقال عمر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد «1» . كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين بالذلة، والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفا وسرورا. أثر إسلام عمر على المشركين: روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت: أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إليّ، وقال: أهلا وسهلا، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به. قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به «2» . وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت- أي حين أسلمت- إلى خالي- وهو العاصي بن هاشم- فأعلمته فدخل البيت، قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش- لعله أبو جهل- فأعلمته فدخل البيت «3» . وذكر ابن هشام وكذا ابن الجوزي مختصرا، أنه لما أسلم أتى إلى جميل بن معمر الجمحي- وكان أنقل قريش للحديث- فأخبره أنه أسلم، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر: - وهو خلفه- كذب، ولكني قد أسلمت، فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطلح، أي أعيا عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا «4» . وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله. روى البخاري عن عبد الله بن عمر

_ (1) تاريخ عمر بن الخطاب ص 7، 10، 11، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله ص 102، 103، ابن هشام 1/ 343، 344، 345، 346. (2) المصدر الأخير 1/ 349، 350. (3) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 8. (4) نفس المصدر ص 8 وابن هشام 1/ 348، 349.

أثر إسلام عمر على المسلمين:

قال: بينما هو- أي عمر- في الدار خائفا، إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سيرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني أن أسلمت، قال لا سبيل إليك- بعد أن قالها أمنت- فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس «1» وفي لفظ، في رواية ابن إسحاق: والله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه «2» . أثر إسلام عمر على المسلمين: هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين؛ فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام- ثم قص عليه قصة إسلامه وقال في آخره- قلت: - أي حين أسلمت- يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: «بلى! والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم» ، قال: قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلى قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الفاروق» يومئذ «3» . وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر «4» . وعن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به «5» .

_ (1) صحيح البخاري، باب إسلام عمر بن الخطاب 1/ 545. (2) ابن هشام 1/ 349. (3) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 6، 7. (4) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 103. (5) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 13.

ممثل قريش بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم:

وعن عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر «1» . ممثل قريش بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم: وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين- حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما- أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في إدلاء العذاب والنكال إلى المسلمين، وحاولوا مساومة مع النبي صلّى الله عليه وسلم بإغداق كل ما هو ممكن أن يكون مطلوبا له؛ ليكفوه عن دعوته. ولم يكن يدري هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دعوته، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا. قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما، وهو في نادي قريش، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد؟ فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة «2» في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع» ، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه- أو كما قال له- حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يستمع منه: قال: «أو قد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم، قال: «فاسمع مني» ، قال: أفعل،

_ (1) صحيح البخاري، باب إسلام عمر بن الخطاب 1/ 545. (2) السطة: أي أو سطهم حسبا ونسبا.

فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم «1» . وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلّى الله عليه وسلم، إلى قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فقام مذعورا، فوضع يده على فم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: أنشدك الله والرحم! وذلك مخافة أن يقع النذير، وقام إلى القوم فقال ما قال «2» .

_ (1) ابن هشام 1/ 293، 294. (2) تفسير ابن كثير 6/ 159، 160، 161.

الدلالات:

الدلالات: إن الاحتمالات التي عرضتها قريش على النبي صلّى الله عليه وسلم، ورفضها عليه الصلاة والسلام، جادت لتقطع السبيل إلى كل وسواس وتشكيك بمقصد النبي صلّى الله عليه وسلم من قيامه بالدعوة. ومع هذا، فقد بقي البعض ممن احترف الغزو الفكري يؤثر القول بأن محمدا- صلّى الله عليه وسلم- كانت له دوافع سياسية، وكانت رغبته في السيادة والملك، وممن قال هذا القول من المستشرقين، كريمر الألماني، وفان فلوتن الهولندي. والرد عليهم واضح جلي، من خلال قصة عتبة بن ربيعة، ومن جواب النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا وفي الآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.

أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب:

أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب: تغير مجرى الظروف وتبدلت الأوضاع والأحوال، ولكن أبا طالب لم يزل يتوجس من المشركين خيفة على ابن أخيه، إنه كان ينظر في الحوادث الماضية- إن المشركين هددوه بالمنازلة، ثم حاولوا مساومة أبن أخيه بعمارة بن الوليد ليقتلوه، وإن أبا جهل ذهب إلى ابن أخيه بحجر يرضخه، وإن عقبة بن أبي معيط خنق ابن أخيه بردائه وكاد يقتله، وإن ابن الخطاب كان قد خرج بالسيف ليقضي على ابن أخيه- كان أبو طالب يتدبر في هذه الحوادث، ويشم منها رائحة شر يرجف له فؤاده، وتأكد عنده أن المشركين عازمون على إخفار ذمته، عازمون على قتل ابن أخيه، وما يغني حمزة أو عمر أو غيرهما إن انقض أحد من المشركين على ابن أخيه بغتة «1» . تأكد ذلك عند أبي طالب، ولم يكن إلا حقا، فإنهم كانوا قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علانية، وإلى هذا الإجماع إشارة في قوله تعالى أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (43: 79) فماذا يفعل أبو طالب إذن. إنه لما رأى تألب قريش على ابن أخيه قام في أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف، ودعاهم إلى ما هو عليه من منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابوه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربي، إلا ما كان من أخيه أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش «2» .

_ (1) ابن هشام 1/ 293، 294. (2) تفسير ابن كثير 6/ 159، 160، 161.

المقاطعة العامة

المقاطعة العامة سببها: وقعت أربع حوادث ضخمة- بالنسبة إلى المشركين- خلال أربعة أسابيع، أو في أقل مدة، منها: أسلم حمزة، ثم أسلم عمر، ثم رفض محمد صلّى الله عليه وسلم مساومتهم، ثم تواثق بنو المطلب، وبنو هاشم كلهم مسلمهم وكافرهم، على حياطة محمد صلّى الله عليه وسلم ومنعه، حار المشركون، وحقت لهم الحيرة، إنهم عرفوا أنهم لو قاموا بقتل محمد- صلّى الله عليه وسلم- يسيل وادي مكة دونه بدمائهم، بل ربما يفضي إلى استئصالهم. عرفوا ذلك فانحرفوا إلى ظلم آخر دون القتل، لكن مضاضة عما فعلوا بعد. ميثاق الظلم والعدوان: اجتمعوا في خيف بني كنانة من وادي المحصب فتحالفوا، على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق «أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل» قال ابن القيم: يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشلت يده «1» . تم هذا الميثاق، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم- إلا أبا لهب- وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة.

_ (1) زاد المعاد 2/ 46.

ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب:

ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب: واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاما يدخل مكة ولا بيعا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون [1] من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا- وكانوا- لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الشراء. وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحا إلى عمته خديجة- رضي الله عنها- وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البختري، ومكنه من حمل القمح إلى عمته. وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتي بعض فرشهم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام، وقد أسلفنا ما كان يأتي به أبو لهب. نقض صحيفة الميثاق: مرت ثلاثة أعوام كاملة والأمر على ذلك، وفي المحرم «1» سنة عشر من النبوة حدث نقض الصحيفة وفك الميثاق، وذلك أن قريشا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارها لها. وكان القائم بذلك هشام بن عمرو بن بني عامر بن لؤي- وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفيا بالليل بالطعام- فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي- وكانت أمه عاتكة

_ (1) الدليل على هذا أن أبا طالب مات بعد نقض الصحيفة بستة أشهر، والصحيح في موت أبي طالب أنه في شهر رجب. ومن يقول: إنه مات في رمضان فهو يقول إنه مات بعد نقض الصحيفة بثمانية أشهر وأيام.

بنت عبد المطلب- وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زهير: أبغنا رجلا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال من هو؟ قال: أنا قال: أبغنا ثالثا. قال قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: أبغنا رابعا. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: أبغنا خامسا. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل- وكان في ناحية المسجد-: كذبت، والله لا تشق. فقال: زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب. ما رضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرا إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، أي تشاوروا فيه بغير هذا المكان.

صور من واقع الحصار الاقتصادي

وأبو طالب جالس في ناحية المسجد. إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة «1» ، فأكلت جميع ما فيها من جوى وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت. وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا «باسمك اللهم» . وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله. تم نقض الصحيفة، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر الله عنهم، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (54: 2) أعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفرا إلى كفرهم «2» . صور من واقع الحصار الاقتصادي قال السهيلي: كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة، يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام قوتا لعياله، فيقوم أبو لهب، فيقول: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم حتى لا يدركوا معكم شيئا، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن، لا خسارة عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع أحدهم الى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده سيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس، حتى جهد الؤمنون ومن معهم جوعا وعريا. وعن سعد بن أبي وقاص قال: خرجت ذات ليلة لأبول، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ورضضتها بالماء، فقويت بها ثلاثا.

_ (1) دودة بيضاء تشبه النملة، تظهر في أيام الربيع. (2) جمعنا تفاصيل المقاطعة من صحيح البخاري، باب نزول النبي صلّى الله عليه وسلم بمكة 1/ 216، وباب تقاسم المشركين على النبي صلّى الله عليه وسلم 1/ 548، زاد المعاد 2/ 46، وابن هشام 1/ 350، 351، 374، 375، 376، 377، ورحمة للعالمين 1/ 69، 70 ومختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 106، 107، 108، 109، 110، ومختصر السيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 68، 69، 70، 71، 72، 73، وبين هذه المصادر اختلاف يسير، أخذنا ما ترجح عندنا بعد النظر في القرائن.

آخر وفد قريش إلى أبي طالب

آخر وفد قريش إلى أبي طالب خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته، وقريش وإن كان قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين، والصد عن سبيل الله، أما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات- لا سيما حصار الشعب- قد وهنت وضعفت مفاصله، وكسرت صلبه، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به- وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلّى الله عليه وسلم بين يديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك، فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب. قال ابن إسحاق وغيره: لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا «1» أمرنا، وفي لفظ: فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ، فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون تركوه، حتى إذا مات عمه تناولوه. مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم- وهم خمس وعشرون تقريبا- فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه،

_ (1) ابتزه أمره: سلبه إياه وغلبه عليه.

ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه، فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا له وعرضوا عليه، من عدم تعرض كل فريق للآخر. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم» ، وفي لفظ أنه قال مخاطبا لأبي طالب: «أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» ، وفي لفظ آخر قال: «يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم» ؟ قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: «أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين له بها العرب، ويملكون بها العجم» ، ولفظ رواية ابن إسحاق: «كلمة واحدة تعطونها، تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم» ، فلما قال هذه المقالة، توقفوا وتحيروا، ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد، ثم قال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: «تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه» . فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا. وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (38: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7) «1» .

_ (1) ابن هشام 1/ 417، 418، 419، تفهيم القرآن 4/ 316، 317، 318، مختصر السيرة للشيخ عبد الله ص 91.

عام الحزن

عام الحزن وفاة أبي طالب: ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب «1» سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر «2» . وقيل: توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام. وفي الصحيح عن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلّى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: «أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» ، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (9: 113) ونزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «3» (28: 56) . ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من

_ (1) تاريخ إسلام للشاه أكبر خان النجيب آبادي 1/ 120، وفي المصادر اختلاف كبير في الشهر الذي توفي فيه أبو طالب، وهذا الذي رجحناه إنما رجحناه لأن أكثر المصادر متفقة على أن موته كان بعد ستة أشهر من الخروج من الشعب، وأن الحصار كان ثلاثة أعوام، وأن بدء الحصار كان ليلة هلال المحرم سنة سبع، وإذن فموته في رجب سنة عشر من النبوة. (2) مختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 111. (3) صحيح البخاري، باب قصة أبي طالب 1/ 548.

خديجة إلى رحمة الله:

أجداده، فلم يفلح كل الفلاح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار «1» . وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم- وذكر عنده عمه- فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه 2. خديجة إلى رحمة الله: وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو ثلاثة- على اختلاف القولين- توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها، كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره «3» . إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرم ولد غيرها» «4» . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هذه خديجة، قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب «5» . تراكم الأحزان: وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب

_ (1- 2) صحيح البخاري، باب قصة أبي طالب 1/ 548. (3) نص على موتها في رمضان من تلك السنة ابن الجوزي في التلقيح ص 7، والعلامة المنصور فوري في رحمة للعالمين 2/ 164 وغيرهما. (4) رواه الإمام أحمد في مسنده 6/ 118. (5) صحيح البخاري. باب تزويج النبي صلّى الله عليه وسلم خديجة وفضلها 1/ 539.

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه، فقد كانوا تجرأوا عليه، وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غما على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه. وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلّى الله عليه وسلم، اشتدت على أصحابه، حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ برك الغماد [1] ، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدغنة في جواره» . قال ابن إسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا، ودخل بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك. قال: ويقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب «2» . ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الحزن، وبهذا اللقب صار معروفا في التاريخ.

_ (1) صرح الشاه أكبر خان النجيب آبادي بأن هذه الوقعة كانت في هذه السنة انظر تاريخ إسلام 1/ 120، والقصة بطولها مروية في ابن هشام 1/ 372، 373، 374، وفي صحيح البخاري 1/ 552، 553. (2) ابن هشام 1/ 416.

من صور إيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه

من صور إيذاء المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه روى البخاري عن ابن مسعود قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟، فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبي صلّى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهره، والنبي صلّى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان، فأخبر فاطمة، فجاءت- وهي جويرة- فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم. فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاث مرات، وإذا سأل سأل ثلاثا. ثم قال: «اللهم عليك بقريش» ثلاثا، فلما سمعوا ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته. ثم قال: «اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط» وذكر السابع ولم أحفظه، [عمارة بن الوليد] . فو الذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر. الحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد. تحمل النبي صلّى الله عليه وسلم الأذى، ولكنه أخذ يفكر في التوجه برسالته إلى قرية أخرى، علها تكون أحسن قبولا وأقرب استجابة، فاستصحب معه زيد بن حارثة، وولى وجهه شطر ثقيف في الطائف.

المرحلة الثالثة دعوة الإسلام خارج مكة

المرحلة الثالثة دعوة الإسلام خارج مكة الرسول- صلّى الله عليه وسلم- في الطائف: في شوال «1» سنة عشر من النبوة (في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م) خرج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلا، سارها ماشيا على قدميه جيئة وذهوبا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها. فلما انتهى إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة (أي يمزقها) ، إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، إن كنت رسولا لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال لهم: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني. وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم، يسبوته ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا

_ (1) صرح بذلك النجيب آبادي في تاريخ إسلام 1/ 122، وهو الراجح عندي.

عنه، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى حبلة من عنب، فجلس تحت ظلها إلى جدار فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنا مما لقي من الشدة، أسفا على أنه لم يؤمن به أحد، قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عداس، وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل. فلما وضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلا: «باسم الله» ، ثم أكل. فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني، من أهل «نينوى» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى. قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها. فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبا محزونا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة. وقد روى البخاري تفصيل القصة- بسنده- عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال:

لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب- وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك. وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين- أي لفعلت، والأخشبان: هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان- قال النبي صلّى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا «1» . وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلّى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي لا يدرك غوره. وأفاق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واطمأن قلبه؛ لأجل هذا النصر الغيبي الذي أمده الله عليه من فوق سبع سماوات، ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادي نخلة، وأقام فيه أياما. وفي وادي نخلة موضعان يصلحان للإقامة- السيل الكبير والزيمة- لما بهما من الماء والخصب، ولم نقف على مصدر يعين موضع إقامته صلّى الله عليه وسلم فيه. وخلال إقامته هناك بعث الله إليه نفرا من الجن، ذكرهم الله في موضعين من القرآن، في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (46: 29، 30، 31) . وفي سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً إلى تمام الآية الخامسة عشرة.

_ (1) صحيح البخاري. كتاب بدء الخلق 1/ 458، مسلم. باب ما لقي النبي صلّى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين 2/ 109.

ومن سياق هذه الآيات- وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث- يتبين أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يعرف بحضور ذلك النفر من الجن، وإنما علم ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضي سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مرارا. وحقا كان هذا الحادث نصرا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (46: 32) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (72: 12) . أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس، التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطرودا مدحورا، حتى صمم على العود إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وجد وحماس. وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشا، فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحراء، وبعث رجلا من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي، فقال المطعم: نعم، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا، ثم بعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى يا معشر قريش، إني قد أجريت محمدا فلا يهجه أحد منكم، وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.

وقيل: إن أبا جهل سأل مطعما: أمجير أنت أم متابع- مسلم-؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت «1» . وقد حفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له «2» .

_ (1) التقطنا تفصيل حادث الطائف من ابن هشام 1/ 419، 420، 421، 422، وزاد المعاد 2/ 46، 47، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 141، 142، 143، ورحمة للعالمين 1/ 71، 72، 73، 74، وتاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 123، 124. (2) صحيح البخاري 2/ 573.

عرض الإسلام على القبائل والأفراد

عرض الإسلام على القبائل والأفراد في ذي القعدة سنة عشر من النبوة- في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619 م- عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد، ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، لقضاء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إليه، كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة.. القبائل التي عرض عليها الإسلام: قال الزهري: وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نصر، وبنو البكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد «1» . وهذه القبائل التي سماها الزهري لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة، ولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة. ولا يمكن تسمية سنة معينة لعرض الإسلام على قبيلة معينة، نعم هناك قبائل قد جزم العلامة المنصور فوري أن عرض الإسلام عليهم كان في موسم السنة العاشرة «2» . وقد ذكر ابن إسحاق كيفية العرض وردودهم، وهاك ملخصا:

_ (1) روى ذلك الترمذي، انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 149. (2) رحمة للعالمين 1/ 74، وبه جزم النجيب آبادي، انظر تاريخ إسلام 1/ 125.

المؤمنون من غير أهل مكة:

1- بنو كلب- أتى النبي صلّى الله عليه وسلم إلى بطن منهم، يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. 2- بنو حنيفة- أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم. 3- وأتى إلى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال بحيرة بن فراس (رجل منهم) : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم، لكبر سنه، وقالوا له: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ لذناباها «1» من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم «2» ؟ المؤمنون من غير أهل مكة: وكما عرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإسلام على القبائل والوفود، عرض على الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجال بعد هذا الموسم بقليل. وهناك لوحة منهم: 1- سويد بن صامت- كان شاعرا لبيبا من سكان يثرب، يسميه قومه الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه، جاء مكة حاجا أو معتمرا، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وما الذي معك. قال: حكمة لقمان. قال: اعرضها عليّ. فعرضها، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن هذا الكلام حسن، والذي

_ (1) مثل يضرب لما فات، وأصله من ذنابي الطائر إذا أفلت من حباله فطلبت الأخذ بذناباه. (2) ابن هشام 1/ 424، 425.

معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي، هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، وقال: إن هذا لقول حسن. فلما قدم المدينة لم يلبث أن قتل يوم بعاث «1» . وكان إسلامه في أوائل سنة 11 من النبوة «2» . 2- إياس بن معاذ- كان غلاما حدثا من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس، جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، وذلك قبيل حرب بعاث في أوائل سنة 11 من النبوة، إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين- وكان الأوس أقل عددا من الخزرج- فلما علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمقدمهم جاءهم فجلس إليهم، وقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علّي الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع- رجل كان في الوفد- حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال: دعنا عنك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش. وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد، ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلما «3» . 3- أبو ذر الغفاري- وكان من سكان نواحي يثرب، ولما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم بسويد بن صامت وإياس بن معاذ وقع في أذن أبي ذر أيضا، وصار سببا لإسلامه «4» . روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار، فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل وكلمه، وائتني بخبره، فانطلق، فلقيه، ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير، وينهى

_ (1) نفس المصدر 1/ 425، 426، 427، رحمة للعالمين 1/ 74. (2) تاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 125. (3) ابن هشام 1/ 427، 428، وتاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 126. (4) نفس المصدر الأخير 1/ 128.

عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد. قال: فمر بي عليّ. فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. فقال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء ولا أسأله ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد؛ لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء. قال: فمر بي علي فقال: أما زال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت لا. قال: فانطلق معي، قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي الله فأرسلت أخي يكلمه، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى، ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه، فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد وقريش فيه، فقلت: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابىء. فقاموا، فضربت لأموت، فأدركني العباس، فأكب علي، ثم اقبل عليهم فقال، ويلكم تقتلون رجلا من غفار؟ ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عني، فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا قوموا إلى هذا الصابىء، فصنع بي ما صنع بالأمس، فأدركني العباس، فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس «1» . 4- طفيل بن عمرو الدوسي- كان رجلا شريفا شاعرا لبيبا رئيس قبيلة دوس، وكان لقبيلته إمارة أو شبه إمارة في بعض نواحي اليمن، قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم التقدير، وقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئا.

_ (1) صحيح البخاري باب قصة زمزم 1/ 499، 500 وباب إسلام أبي ذر 1/ 544، 545.

يقول طفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا [1] ؛ فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، قال فغدوت إلى المسجد، فإذا هو قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فعرضت عليه قصة مقدمي، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له: اعرض علي أمرك، فعرض علي الإسلام، وتلا علي القرآن، فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له: إني مطاع في قومي، وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، فدعا. وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل الله نورا في وجهه مثل المصباح، فقال: اللهم في غير وجهي، أخشى ان يقولوا: هذه مثلة، فتحول النور إلى سوطه، فدعا أباه وزوجته إلى الإسلام فأسلما، وأبطأ عليه قومه في الإسلام لكن لم يزل بهم حتى هاجر بعد الخندق «1» ومعه سبعون أو ثمانون بيتا من قومه، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسنا، وقتل شهيدا يوم اليمامة «2» . 5- ضماد الأزدي- كان من أزد شنوءة من اليمن، وكان يرقي من هذا الريخ، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذا الريح، فهل لك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الحمد الله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد. فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه «3» .

_ (1) بل وبعد الحديبية، فقد قدم المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يخيبر. انظر ابن هشام 1/ 385. (2) ابن هشام 1/ 382، 383، 384، 385، رحمة للعالمين 1/ 81، 82. مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 144، تاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 127. (3) رواه مسلم، مشكاة المصابيح، باب علامة النبوة 2/ 525.

ست نسمات طيبة من أهل يثرب:

ست نسمات طيبة من أهل يثرب: وفي موسم الحج من سنة 11 من النبوة- يوليو سنة 620 م- وجدت الدعوة الإسلامية بذورا صالحة، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات، اتقى المسلمون في ظلالها الوارفة عن لفحات الظلم والطغيان طيلة أعوام. وكان من حكمته صلّى الله عليه وسلم- إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل الله- أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين «1» . خرج كذلك ليلة ومعه أبو بكر وعلي، فمر على منازل ذهل وشيبان بن ثعلبة وكلمهم في الإسلام. وقد دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقفوا في قبول الإسلام «2» . ثم مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعقبة منى، فسمع أصوات رجال يتكلمون «3» ، فعمدهم حتى لحقهم، وكانوا ستة نفر من شباب يثرب، كلهم من الخزرج، وهم: (1) أسعد بن زرارة (من بني النجار) (2) عوف بن الحارث بن رفاعة، ابن عفراء (من بني النجار) (3) رافع بن مالك بن العجلان (من بني زريق) (4) قطبة بن عامر بن حديدة (من بني سلمة) (5) عقبة بن عامر بن نابي (من بني حرام بن كعب) (6) جابر بن عد الله بن رئاب (من بني عبيد بن غنم) وكان من سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبيا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان، سيخرج فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم «4» .

_ (1) تاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 129. (2) انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 150، 151، 152. (3) رحمة للعالمين 1/ 84. (4) زاد المعاد 2/ 50، وابن هشام 1/ 429، 541.

فلما لحقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لهم: من أنتم، قالوا: نفر من الخزرج، قال: من موالي اليهود؟ أي حلفائهم، قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم، إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته وأسلموا. وكانوا من عقلاء يثرب، أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت من قريب، والتي لا يزال لهيبها مستعرا، فأملوا أن تكون دعوته سببا لوضع الحرب، فقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ولما رجع هؤلاء إلى المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» .

_ (1) نفس المصدر 1/ 428، 429، 430.

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج وبينا النبي صلّى الله عليه وسلم في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق فيها طريقا بين النجاح والاضطهاد، وكانت تتراءى نجوما ضئيلة تتلمح في آفاق بعيدة، وقع حادث الإسراء والمعراج. واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى: 1- فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، اختاره الطبري. 2- وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووي والقرطبي. 3- وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة، واختاره العلامة المنصور فوري. 4- وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهرا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة. 5- وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة. 6- وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة. وردت الأقوال الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة الإسراء «1» . أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جدا.

_ (1) انظر لهذه الأقوال زاد المعاد 2/ 49، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 148، 149، رحمة للعالمين 1/ 76 وتاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 124.

وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة. وفيما يلي نسردها بإيجاز: قال ابن القيم: أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم، بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبا على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد. ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل، ففتح له، فرأى هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به، ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره. ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه، ورحبا به، وأقرا بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته. فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور. ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى، فقال له: بم أمرك؟

قال بخمسين صلاة: قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم، إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه- هذا لفظ البخاري في بعض الطرق- فوضع عنه عشرا، ثم أنزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمسا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم، فلما بعد نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي- انتهى «1» . ثم ذكر ابن القيم خلافا في رؤيته صلّى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى، ثم ذكر كلاما لابن تيمية بهذا الصدد، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصلا وهو قول لم يقله أحد من الصحابة. وما نقل عن ابن عباس من رؤيته مطلقا ورؤيته بالفؤاد فالأول لا ينافي الثاني. ثم قال: وأما قوله تعالى في سورة النجم ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (53: 8) فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل، وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه، وأما الدنو والتدلي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. وهذا هو جبريل، رآه محمد صلّى الله عليه وسلم على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم «2» انتهى. وقد وقع حادث شق صدره صلّى الله عليه وسلم هذه المرة أيضا، وقد رأى ضمن هذه الرحلة أمورا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك. ورأى أربعة أنهار في الجنة: نهران ظاهران، ونهران باطنان، والظاهران هما: النيل والفرات،

_ (1) زاد المعاد 2/ 47، 48. (2) زاد المعاد 2/ 47، 48، وانظر صحيح البخاري 1/ 50، 455، 456، 470، 471، 481، 548، 549، 550، 2/ 684، وصحيح مسلم 1/ 91، 92، 93، 94، 95، 96.

ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلا بعد جيل، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة. ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر وبشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلما لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعا من نار كالأفهار، فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن. ورأى عيرا من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير ندّ لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء «1» . قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم وضراوتهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورا، وأبي الظالمون إلا كفورا «2» . يقال سمي أبو بكر رضي الله عنه صديقا؛ لتصديقه هذه الواقعة حين كذبها الناس «3» .

_ (1) المصادر السابقة وابن هشام 1/ 397، 402، 403، 404، 405، 406. (2) زاد المعاد 1/ 48، وانظر أيضا صحيح البخاري 2/ 684، وصحيح مسلم 1/ 96، وابن هشام 1/ 402، 403. (3) نفس المصدر الأخير 1/ 399.

بأي شيء كان الإسراء والمعراج

بأي شيء كان الإسراء والمعراج قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم 2/ 390: والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسرى بجسده صلّى الله عليه وسلم، والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل. وقال ابن حجر في شرحه على البخاري 7/ 136- 137: إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء الحديث والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل. ومن الأدلة على أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح معا: قوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا فكلمة «عبد» تطلق ويراد بها الإنسان الكامل جسدا وروحا. استعظام مشركي قريش للإسراء والمعراج، وتعجبهم للخبر وسرعة تكذيبهم له، إذ لو كانت المسألة مسألة رؤيا، لما تعجبوا أو استنكروا، ولما سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيت المقدس وصفاته وأبوابه وسواريه. الدلالات والعبر: لقد عانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألوانا كثيرة من المحن التي لاقاها من المشركين، وكانت آخرها ما عاناه لدى هجرته إلى الطائف. فجاءت ضيافة الإسراء والمعراج من بعد ذلك تكريما من الله تعالى له، وتجديدا لعزيمته وثباته، فإذا كان أهل الأرض قد تخلوا عنك فإن السماء تفتح لك أبوابها. وتبدل ضعفه إلى قوة، وقلة الحيلة إلى حسن التدبير، والهوان على الناس إلى إكرام من الله تبارك وتعالى.

بيعة العقبة الأولى

بيعة العقبة الأولى قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة، وواعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إبلاغ رسالته في قومهم. وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي- موسم الحج سنة 12 من النبوة يوليو سنة 621 م- اثنا عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم في العام السابق- والسادس الذي لم يحضر هو جابر بن عبد الله بن رئاب- وسبعة سواهم. وهم: (1) معاذ بن الحارث، ابن عفراء من بني النجار (من الخزرج) (2) ذكوان بن عبد القيس من بني زريق (من الخزرج) (3) عبادة بن الصامت من بني غنم (من الخزرج) (4) يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم (من الخزرج) (5) العباس بن عبادة بن نضلة من بني سالم (من الخزرج) (6) أبو الهيثم بن التيهان من بني عبد الأشهل (من الأوس) (7) عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف (من الأوس) الأخيران من الأوس، والبقية كلهم من الخزرج «1» . اتصل هؤلاء برسول الله صلّى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت عند فتح مكة. روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: تعالوا، بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين

_ (1) رحمة للعالمين 1/ 85 وابن هشام 1/ 431، 432، 433.

سفير الاسلام في المدينة:

أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. قال: فبايعته- وفي نسخة فبايعناه- على ذلك «1» . سفير الاسلام في المدينة: وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلّى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول سفير في يثرب، ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه السفارة شابا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه. العبر والدلالات لقد أينع الصبر، وبدأ الجهد يثمر، واستغلظ زرع الدعوة وأخذ يستهوي على سوقه ليعطي النتيجة والثمار. إحدى عشرة سنة من التعب والجهاد والصبر، حتى جاء الفرج، وكان من السهل على الله أن يقيم دعائهم المجتمع الإسلامي بدون هذا التعب، ولكن تلك هي سنة الله في عباده. بنود البيعة الأولى، لم تكن نطقا بالشهادتين فحسب، بل هي سلوك وتصرف في حياة الفردمع الآخرين، وهذه هي غاية العبادة ومقصودها، كما بيّن الله عز وجل ذلك في كل عبادة، إذ قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [العنكبوت 29] وقال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة 183] . وقال عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة 103] . مهمة الدعوة ليست قاصرة على الأنبياء والمرسلين وحدهم، بل هي مهمة كل مسلم، والقدوة في ذلك مصعب بن عمير مع وجود النبي صلّى الله عليه وسلم.

_ (1) صحيح البخاري، باب علامة الإيمان حب الأنصار 1/ 7، باب وفود الأنصار 1/ 550، 551 واللفظ من هذا الباب، وباب قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ 2/ 727، باب الحدود كفارة 2/ 1003.

بيعة العقبة الثانية

بيعة العقبة الثانية في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة- يونيو سنة 622 م- حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين من أهل يثرب، جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم- وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق- حتى متى نترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلم اتصالات سرية، أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يتجمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل. ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الاجتماع التاريخي، الذي حول مجرى الأيام في صراع الوثنية والإسلام، يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام، سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا- وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا- فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا» . قال كعب: «فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند

بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسئولية:

العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من نسائنا؛ نسيبة بنت كعب- أم عمارة- من بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو- أم منيع- من بني سلمة» . فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه (عمه) العباس بن عبد المطلب- وهو يومئذ على دين قومه- إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، وتوثق له، وكان أول متكلم «1» . بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسئولية: وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام التحالف الديني والعسكري، وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. تكلم ليشرح لهم- بكل صراحة- خطورة المسؤولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة لهذا التحالف. قال: «يا معشر الخزرج- وكان العرب يسمون الأنصار خزرجا، خزرجها وأوسها كليهما- إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده» . قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت» . وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم وتصميم وشجاعة وإيمان وإخلاص في تحمل هذه المسؤولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة. وألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة.

_ (1) ابن هشام 1/ 440، 441. (2) نفس المصدر 1/ 441، 442.

بنود البيعة:

بنود البيعة: وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: (1) على السمع والطاعة في النشاط والكسل. (2) وعلى النفقة في العسر واليسر. (3) وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (4) وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم. (5) وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة «1» . وفي رواية كعب- التي رواها ابن إسحاق- البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه «قال كعب. فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق (نبيا) لنمنعنك مما نمنع أزرنا «2» منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا (عن كابر) . قال: فاعترض القول- والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم «3» .

_ (1) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، وصححه الحاكم وابن حبان، انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 155، وروى ابن إسحاق ما يشبه هذا عن عبادة بن الصامت، وفيه بند زائد، وهو «أن لا ننازع الأمر أهله» انظر ابن هشام 1/ 454. (2) العرب تكني عن المرأة بالإزار وتكني أيضا بالإزار عن النفس. (3) ابن هشام 1/ 442.

التأكيد من خطورة البيعة:

التأكيد من خطورة البيعة: وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الشروع في عقدها قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتي 11، 12 من النبوة، قام أحدهما تلو الآخر، ليؤكدا للقوم خطورة المسؤولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية ويتأكدا من ذلك. قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نضلة: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه «1» . وفي رواية جابر (قال) : فقمنا نبايعة، فأخذ بيده أسعد بن زرارة- وهو أصغر السبعين- فقال رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله «2» . عقد البيعة: وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة، قال جابر- بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة-: فقالوا يا أسعد، أمط عنا يدك، فوالله لانذر هذه البيعة، ولا نستقيلها «3» .

_ (1) نفس المصدر 1/ 446. (2) رواه الإمام أحمد من حديث جابر. (3) نفس المصدر.

اثنا عشر نقيبا:

وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل، وتآكد منه- وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير، وبالطبع فكان هو الرئيس الديني على هؤلاء المبايعين- فكان هو السابق إلى هذه البيعة. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده «1» . وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر: فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة «2» . وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولا. ما صافح رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط «3» . اثنا عشر نقيبا: وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم انتخاب اثني عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فقال للقوم: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا؛ ليكونوا على قومكم بما فيهم. فتم انتخابهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وهاك أسماؤهم: نقباء الخزرج: (1) أسعد بن زرارة بن عدس. (2) سعد بن الربيع بن عمرو. (3) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة. (4) رافع بن مالك بن العجلان.

_ (1) قال ابن إسحاق: وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان، وقال كعب بن مالك: بل البراء بن معرور (ابن هشام 1/ 447) قلت: لعلهم حسبوا ما دار بينهما وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم بيعة، وإلا فأحرى الناس بالتقديم إذ ذاك هو أسعد بن زرارة. والله أعلم. (2) مسند الإمام أحمد. (3) انظر صحيح مسلم باب كيفية بيعة النساء 2/ 131.

نقباء الأوس:

(5) البراء بن معرور بن صخر. (6) عبد الله بن عمرو بن حرام. (7) عبادة بن الصامت بن قيس. (8) سعد بن عبادة بن دليم. (9) المنذر بن عمرو بن خنيس. نقباء الأوس: (1) أسيد بن حضير بن سماك. (2) سعد بن خيثمة بن الحارث. (3) رفاعة بن عبد المنذر بن زبير «1» . ولما تم انتخاب هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي صلّى الله عليه وسلم ميثاقا آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين. قال لهم: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي- يعني المسلمين-» قالوا: نعم «2» .

_ (1) زبير بالباء الموحدة، وقيل بدل رفاعة، أبو الهيثم بن التيهان، ابن هشام 1/ 443، 444، 446. (2) زاد المعاد 2/ 51.

هذه هي بيعة العقبة الثانية- التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى- وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولاء والتناصر بين أشتات المؤمنين، والثقة والشجاعة والاستبسال في هذا السبيل، فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الأخ الذي أحبه بالغيب في ذات الله. ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام، بل كان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه، إيمان لا يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيدة والعمل، وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالا، ويتركوا عليها آثارا، خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلو المستقبل.

طلائع الهجرة

طلائع الهجرة وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة- وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته- أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن. ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان. وبدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون من الخطر، وهاك نماذج من ذلك: (1) كان من أول المهاجرين أبو سلمة- هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق- وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها، وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة- رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا- وليس معها أحد من خلق الله، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء

قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة «1» . (2) ولما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب، ربح صهيب «2» . (3) وتواعد عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل موضعا يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام. ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش- وأم الثلاثة واحدة- فقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فرق لها. فقال له عمر: يا عياش، أنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبي عياش إلا الخروج معهما؛ ليبر قسم أمه، فقال له عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا «3» . هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا ذلك. ولكن مع كل

_ (1) ابن هشام 1/ 468، 469، 470. (2) نفس المصدر 1/ 477. (3) بقي هشام وعياش في قيد الكفار حتى إذا هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوما: من لي بعياش وهشام؟ فقال الوليد بن الوليد: أنا لك يا رسول الله بهما، فقدم الوليد مكة مستخفيا، ولقي امرأة تحمل إليهما طعاما فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور الجدار، وقطع قيديهما وحملهما على بعيره حتى قدم المدينة انظر ابن هشام 1/ 474، 475، 476، وكان قدوم عمر المدينة في عشرين من الصحابة (صحيح البخاري 1/ 558) .

ذلك خرج الناس ارسالا يتبع بعضهم بعض. وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي- أقاما بأمره لهما- وإلا من احتبسه المشركون كرها. وقد أعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه «1» . روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمسلمين إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين- وهما الحرتان- فهاجر من هاجر قبل المدينة. ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر «2» .

_ (1) زاد المعاد 2/ 52. (2) صحيح البخاري، باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه 1/ 553.

الدلالات والعبر:

الدلالات والعبر: واجه المسلمون صعوبات كثيرة اختلفت باختلاف الظروف والأحوال، وقابلوا كل ذلك بالصبر، فهم قد انتقلوا من فتنة الإيذاء والتعذيب، إلى فتنة ترك الوطن والمال. هدف الدعوة - التخلص من الإيذاء والإستهزاء. - التعاون على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. - العمل على نشر الدعوة عالميا. حكم الهجرة الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام واجبة، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء 97] . ولا تعارض بين هذا، وبين قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» إذ إنه مخصوص بزمن النبي صلّى الله عليه وسلم.

في دار الندوة"برلمان قريش"

في دار الندوة «برلمان قريش» ولما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج، وقعت فيهم ضجة أثارت القلاقل والأحزان، وأخذ القلق يساورهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم الخطر الحقيقي العظيم، الذي يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي، فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد- صلّى الله عليه وسلم- من غاية قوة التأثير مع كمال القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامة والفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من قوة ومنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد فيما بينهما، بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية طيلة أعوام من الدهر. كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجة التجارية التي تمر بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام. وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويا، سوى ما كان لأهل الطائف وغيرها. ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك الطريق. فلا يخفى ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب، ومجابهة أهلها ضدهم. شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر، الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمد صلّى الله عليه وسلم. وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 من شهر سبتمبر سنة

622 م «1» - أي بعد شهرين ونصف تقريبا من بيعة العقبة الكبرى- عقد برلمان مكة (دار الندوة) في أوائل النهار «2» أخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية، ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء سريعا على حامل لواء الدعوة الإسلامية، وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيا. وكانت الوجوه البارزة في هذا الاجتماع الخطير من نواب قبائل قريش: (1) أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم. (2) جبير بن مطعم، وطعيمة بن عدي، والحارث بن عامر، عن بني نوفل بن عبد مناف. (3) شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، عن بني عبد شمس بن عبد مناف. (4) النضر بن الحارث (وهو الذي كان ألقى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سلا جزور) عن بني عبد الدار. (5) أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام عن بني أسد بن عبد العزى. (6) نبيه ومنبه ابنا الحجاج، عن بني سهم. (7) أمية بن خلف، عن بني جمح. ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتّ له، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا. قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم.

_ (1) أخذنا هذا التاريخ بعد مراجعة التحقيقات التي سجلها العلامة محمد سليمان المنصور فوري في رحمة للعالمين 1/ 95، 97، 102، 2/ 471. (2) يدل على انعقاد الاجتماع في أوائل النهار ما رواه ابن إسحاق أن جبريل أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بمؤامرة هذا الاجتماع وأذن في الهجرة. ثم ما رواه البخاري من حديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاء أبا بكر في نحر الظهيرة وقال له: «قد أذن في الخروج» وسيأتي.

النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -:

النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي- صلّى الله عليه وسلم-: وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلا. قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم- بعد أن يتابعوه- حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا. قال أبو البختري: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله- زهيرا والنابغة- ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه- كما تقولون- ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم. ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام. قال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا أرى غيره. ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم، وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورا «1» .

_ (1) انظر ابن هشام 1/ 480، 481، 482.

هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -

هجرة النبي- صلّى الله عليه وسلم- ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل بوحي ربه تبارك وتعالى، فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة قائلا: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه «1» . وذهب النبي صلّى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» . فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله. قال: «فإني قد أذن لي في الخروج» ، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم» «2» . وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى بيته، ينتظر مجيء الليل. تطويق منزل الرسول- صلّى الله عليه وسلم-: أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة (دار الندوة) صباحا، واختير لذلك أحد عشر رئيسا من هؤلاء الأكابر، وهم:

_ (1) ابن هشام 1/ 482، زاد المعاد 2/ 52. (2) صحيح البخاري، باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه 1/ 553.

(1) أبو جهل بن هشام. (2) الحكم بن أبي العاص. (3) عقبة بن أبي معيط. (4) النضر بن الحارث. (5) أمية بن خلف. (6) زمعة بن الأسود. (7) طعيمة بن عدي. (8) أبو لهب. (9) أبي بن خلف. (10) نبيه بن الحجاج. (11) أخوه منبه بن الحجاج. «1» . قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام، فيثبون عليه «2» . وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نارا تحرقون فيها «3» . وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله عالب على أمره، بيده ملكوت السماوات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجار عليه، فقد فعل ما خاطب به الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما بعد: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (8: 30) .

_ (1) زاد المعاد 2/ 52. (2) ابن هشام 1/ 482. (3) نفس المصدر 1/ 483.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغادر بيته:

الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يغادر بيته: ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم فقد فشلوا فشلا فاحشا. ففي هذه الساعة الحرجة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام «1» . ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (36: 9) فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن «2» . وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا محمدا. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رؤوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم. ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليا، فقالوا والله إن هذا لمحمد نائما، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام عليّ عن الفراش، فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: لا علم لي به «3» . من الدار إلى الغار: غادر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة الموافق

_ (1) نفس المصدر 1/ 482، 483. (2) نفس المصدر 1/ 483، زاد المعاد 2/ 52. (3) نفس المصدرين السابقين.

إذهما في الغار:

12/ 13 سبتمبر سنة 622 م «1» . وأتى إلى دار رفيقه- وأمن الناس عليه في صحبته وماله- أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقيل: بل كان يمشي في الطريق على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان؛ فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل، عرف في التاريخ بغار ثور «2» . إذهما في الغار: ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: ادخل. فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا أبا بكر؟ قال لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده «3» .

_ (1) رحمة للعالمين 1/ 95- ويكون شهر صفر هذا من السنة الرابعة عشرة من النبوة إذا فرضنا بداية السنين من شهر محرم، وأما إذا بدأنا السنين من الشهر الذي أكرم الله فيه نبيه صلّى الله عليه وسلم بالنبوة، فيكون شهر صفر هذا من السنة الثالثة عشرة قطعا. وعامة من يكتب في السيرة ربما يختار هذا، وربما يختار ذلك، فكثيرا ما يتخبط في ترتيب الوقائع، ويقع في أغلاط ونظرا إلى ذلك اخترنا بداية السنين من شهر محرم. (2) رحمة للعالمين 1/ 95، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 167. (3) رواه رزين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه ثم انتقض عليه (أي رجع أثر السم حين موته) وكان سبب موته. انظر مشكاة المصابيح، باب مناقب أبي بكر 2/ 556.

وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد «1» . وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. و (كان) يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث» . وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفي عليه «3» . أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلّى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما «4» . ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر، وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها «5» . وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات) تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنا من كان «6» .

_ (1) انظر فتح الباري 7/ 336. (2) صحيح البخاري 1/ 553، 554. (3) ابن هشام 1/ 486. (4) رحمة للعالمين 1/ 96. (5) ابن هشام 1/ 487. (6) انظر صحيح البخاري 1/ 554.

في الطريق إلى المدينة:

وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما، وفي لفظ: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما «1» . وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلّى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة. في الطريق إلى المدينة: وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة. وكانا قد اسنأجرا عبد الله بن أريقط الليثي، وكان هاديا خريتا- ماهرا بالطريق- وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الإثنين- غرة ربيع الأول سنة 1 هـ/ 16 سبتمبر سنة 622 م- جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي صلّى الله عليه وسلم: بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتي هاتين. وقرب إليه أفضلهما. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بالثمن. وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر، فسميت ذات النطاقين «2» .

_ (1) صحيح البخاري 1/ 516، 558، ولم يكن فزع أبي بكر مخافة على نفسه، بل سببه الوحيد هو ما روي أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 168. (2) صحيح البخاري 1/ 533، 555 وابن هشام 1/ 486.

ثم ارتحل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وارتحل معهما عامر بن فهيرة، وأخذ بهم الدليل- عبد الله بن أريقط- على طريق الساحل. وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطىء البحر الأحمر، وسلك طريقا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرا. وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا الطريق قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخرار، ثم سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاح، ثم سلك بهما مرجح محاج، ثم تبطن بهما مرجح ذي الغضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما الفاجة، ثم هبط بهما العرج، ثم سلك بهما ثنية العائر- عن يمين ركوبة- حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما على قباء «1» . وهاك بعض ما وقع في الطريق: (1) روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلّى الله عليه وسلم مكانا بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذى. فحلب في كعب كثبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلّى الله عليه وسلم، يرتوي منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت:

_ (1) ابن هشام 1/ 491، 492.

اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى، قال: فارتحلنا «1» . (2) كان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفا للنبي صلّى الله عليه وسلم، وكان شيخا يعرف، ونبي الله صلّى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير «2» . (3) وتبعهما في الطريق سراقة بن مالك. قال سراقة: بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فعرفتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات- ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني

_ (1) صحيح البخاري 1/ 510. (2) روى ذلك البخاري عن أنس 1/ 556.

إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» . وفي رواية عن أبي بكر قال: ارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «2» ورجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ههنا. وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما «3» . (4) ومر في مسيره ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقي من مر بها، فسألاها: هل عندها شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى والشاء عازب، وكانت سنة شهباء. فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتفاجت عليه ودرت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا. فلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزالا، فلما رأى اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاء عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفاته الرائعة بكلام رائع كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه- وسننقله في بيان صفاته صلّى الله عليه وسلم في أواخر المقالة- فقال أبو معبد:

_ (1) نفس المصدر 1/ 554- وكان مقر بني مدلج بالقرب من رابغ، وتبعهما سراقة حينما كانا مصعدين من قديد- زاد المعاد 2/ 53- فالأغلب أنه تبعهما في اليوم الثالث من رحيلهما. (2) صحيح البخاري 1/ 516. (3) زاد المعاد 2/ 53.

النزول بقباء:

والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه ولا يرون القائل: جزى الله رب العرش خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به ... وأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسؤدد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة «1» . (5) وفي الطريق لقي النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بريدة، وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كان قد أعلن عنها قريش، ولما واجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلا من قومه، ثم نزع عمامته، وعقدها برمحه، فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلا وقسطا «2» . (6) وفي الطريق لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو في ركب المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضاء «3» . النزول بقباء: وفي يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة- وهي السنة الأولى من الهجرة- الموافق 23 سبتمبر سنة 622 م نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقباء «4» .

_ (1) زاد المعاد 2/ 53، 54. (2) رحمة للعالمين 1/ 101. (3) روى ذلك البخاري عن عروة بن الزبير 1/ 554. (4) رحمة للعالمين 1/ 102- وفي هذا اليوم تم عمره صلّى الله عليه وسلم ثلاثة وخمسين عاما كاملا لا وكس ولا شطط، وتم على نبوته ثلاثة عشر عاما كاملا عند من يقول: إنه أكرم بالنبوة في 9 ربيع الأول في سنة 41 من عام الفيل، وأما-

قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فيتنظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أو فى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح «1» . قال ابن القيم: وسمعت الرّجّة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (66: 4) «2» . قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحيي- وفي نسخة: يجيء- أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك «3» . وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة حبقوق النبي: إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران «4» . ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثا، حتى أدى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الودائع التي كانت

_ - من يقول: إنه أكرم بالنبوة في رمضان سنة 41 من عام الفيل فعنده يتم على نبوته- في ذلك اليوم- اثنى عشر عاما وخمسة أشهر و 18 يوما أو 22 يوما. (1) صحيح البخاري 1/ 555. (2) زاد المعاد 2/ 54. (3) صحيح البخاري 1/ 555. (4) صحيفة حبقوق (3: 3) .

الدخول في المدينة:

عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه، حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهدم «1» . وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس «2» . وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس- يوم الجمعة- ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار- أخواله- فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل «3» . الدخول في المدينة: وبعد الجمعة دخل النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة- ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا- وكان يوما تاريخيا أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحا وسرورا «4» : أشرق البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة؛ إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلّى الله عليه وسلم عليه. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد

_ (1) زاد المعاد 2/ 54. ابن هشام 1/ 493، رحمة للعالمين 1/ 102. (2) هذا ما رواه ابن إسحاق، انظر ابن هشام 1/ 494 وهو الذي اختاره العلامة المنصور فوري انظر رحمة للعالمين 1/ 102، وفي صحيح البخاري أنه أقام بقباء أربعا وعشرين ليلة (1/ 61) وبضع عشرة ليلة (1/ 555) وأربع عشرة ليلة (1/ 560) وهذا الأخير هو الذي اختاره ابن القيم، وقد صرح هو نفسه أن نزوله بقباء كان يوم الإثنين وخروجه يوم الجمعة (زاد المعاد 2/ 54، 55) ومعلوم أن فصل ما بينهما لا يزيد على عشرة أيام سوى يومي الدخول والخروج، ومعهما لا يزيد على اثني عشر يوما إذا كانا من أسبوعين. (3) صحيح البخاري 1/ 555، 560، زاد المعاد 2/ 55، ابن هشام 1/ 494 رحمة للعالمين 1/ 102. (4) ذكر ابن القيم أن إنشاد هذه الأشعار كان عند مرجعه صلّى الله عليه وسلم من تبوك، ووهم من يقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة (زاد المعاد 3/ 10) لكن ابن القيم لم يأت على هذا التوهيم بدليل يشفي، وقد رجح العلامة المنصور فوري أن ذلك كان عند مقدمة المدينة، ومعه دلائل لا يمكن ردها انظر رحمة للعالمين 1/ 106.

والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار- أخواله- صلّى الله عليه وسلم. وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: المرء مع رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده «1» . وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري، وهذا بابي. فانطلق فهيء لنا مقيلا، قال: قوما على بركة الله «2» . وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر «3» . قالت عائشة: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك، قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل

_ (1) رحمة للعالمين 1/ 106، زاد المعاد 2/ 55. (2) صحيح البخاري 1/ 556. (3) زاد المعاد 2/ 55.

قالت عائشة: فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حبا، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة «1» . إلى هنا انتهى قسم من حياته صلّى الله عليه وسلم، وتم دور من الدعوة الإسلامية، وهو الدور المكي.

_ (1) صحيح البخاري 1/ 588، 589.

لمحات من الهجرة

لمحات من الهجرة عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسّلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه (5000) أو (6000) درهما، قالت: وانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، قال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك. إن هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم لم تكن عملا عشوائيا ارتجاليا، وإنما كانت خطة حكيمة متكاملة تمت في غاية الحكمة والأناة. فقد اشترك في رحلة الهجرة ست لجان: 1- لجنة تموينية: تعد الطعام للمهاجرين، وهي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. 2- لجنة تموهية: للنوم في فراشه صلّى الله عليه وسلم، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 3- لجنة إعلامية: لنقل أخبار قريش وتحركاتهم، وهو عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه. 4- لجنة تضليلية: لمحو آثار الأقدام إلى الغار، وهو عامر بن فهيرة. 5- لجننة إرشادية: للدلالة على الطريق، وهو عبد الله بن أبي أريقط. 6- لجنة المرافقة: للقيام بخدمة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

نص الخطبة الأولى في المدينة

نص الخطبة الأولى في المدينة قال صلّى الله عليه وسلم أيها الناس: «قدموا لأنفسكم، تعلمن الله ليصعقنّ أحدكم، ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولنّ له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرنّ قدماه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من قدم من أهل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أيام وصلت زوجته سودة بنت زمعة وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وخادمه أسامة بن زيد، وحاضنته أم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، وبقي في مكة من أبنائه صلّى الله عليه وسلم زينب عند أبي العاص، منعها من الخروج، وقد هاجرت بعد غزوة بدر. أصاب بعض المسلمين حمّى يثرب، وكان ممن أصيب، أبو بكر وبلال، فجاءت عائشة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد حبا، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها» . أخرجه البخاري وأحمد ومسلم.

بناء مجتمع جديد

بناء مجتمع جديد قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة (12 ربيع الأول سنة 1 هـ الموافق 27 سبتمبر سنة 622 م) ، وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال: ههنا المنزل إن شاء الله، ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب. بناء المسجد النبوي: وأول خطوة خطاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع.

المؤاخاة بين المسلمين:

وبنى بيوتا إلى جانبه، بيوت الحجر باللبن، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلّى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب «1» . ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات، وبرلمانا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية. وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون. وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، النغمة العلوية التي تدوي في الآفاق، كل يوم خمس مرات، والتي ترتج لها أنحاء عالم الوجود. وقصة رؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه بهذا الصدد معروفة رواها الترمذي وأبو داود وأحمد وابن خزيمة «2» . المؤاخاة بين المسلمين: وكما قام النبي صلّى الله عليه وسلم (ببناء المسجد) مركز التجمع والتآلف؛ قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. قال ابن القيم: ثم آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (8: 75) رد التوارث، دون عقد الأخوة. وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية ... والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار «3» أهـ.

_ (1) صحيح البخاري 1/ 71، 555، 560، زاد المعاد 2/ 56. (2) انظر بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص 15. (3) زاد المعاد 2/ 56.

ميثاق التحالف الإسلامي:

ومعنى هذا الإخاء- كما قال محمد الغزالي- أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر. وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال «1» . فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: مهيم؟ قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب «2» . وروى عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: فتكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا «3» . وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم أودهم. وحقا فقد كانت هذه المؤاخاة فذة، وسياسة صائبة حكيمة، وحلا رائعا لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها. ميثاق التحالف الإسلامي: وكما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعقد المؤاخاة بين المؤمنين، قام بعقد معاهدة أزاح بها كل ما كان

_ (1) فقه السيرة ص 140، 141. (2) صحيح البخاري. باب إخاء النبي صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار 1/ 553. (3) صحيح البخاري- باب إذا قال: اكفني مؤنة النخل إلخ 1/ 312.

من حزازات الجاهلية، والنزعات القبلية، ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية، وهاك بنودها ملخصا: هذا كتاب من محمد النبي- صلّى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم: (1) أنهم أمة واحدة من دون الناس. (2) المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (3) وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. (4) وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة «1» ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. (5) وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم. (6) ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. (7) ولا ينصر كافرا على مؤمن. (8) وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم. (9) وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. (10) وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. (11) وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. (12) وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن. (13) وأنه من اعتبط مؤمنا «2» قتلا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول.

_ (1) الدسع: الدفع كالدسر. والمعنى أي طلب دفع ظلم. لسان العرب بتصرف. (2) اعتبط مؤمنا قتلا: قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله. لسان العرب.

أثر المعنويات في المجتمع:

(14) وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه (15) وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وانه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. (16) وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلّى الله عليه وسلم «1» . أثر المعنويات في المجتمع: بهذه الحكمة، وبهذه الحذاقة أرسى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قواعد مجتمع جديد، ولكن كانت هذه الظاهرة أثرا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئك الأمجاد بفضل صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية وتزكية النفوس والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم بآداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة. سأله رجل: أيّ الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرىء السلام على من عرفت ومن لم تعرف «2» . قال عبد الله بن سلام: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة جئت، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما قال: يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام «3» . وكان يقول: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه «4» . ويقول: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده «5» . ويقول: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه 6.

_ (1) ابن هشام 1/ 502، 503. (2) صحيح البخاري 1/ 6، 9. (3) رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي. مشكاة المصابيح 1/ 168. (4) رواه مسلم، مشكاة المصابيح 2/ 422. (5- 6) صحيح البخاري 1/ 6.

ويقول: المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله «1» . ويقول: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا «2» . ويقول: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام «3» . ويقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة «4» . ويقول: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء «5» . ويقول: ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه «6» . ويقول: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر «7» . وكان يجعل: إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويعدها شعبة من شعب الإيمان «8» . وكان يحثهم على الإنفاق، ويذكر من فضائله ما تتقاذف إليه القلوب، فكان يقول: الصدقة تطفىء الخطايا كما يطفىء الماء النار «9» . ويقول: أيما مسلم كما مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم

_ (1) رواه مسلم، مشكاة المصابيح 2/ 422. (2) متفق عليه، مشكاة المصابيح 2/ 422، صحيح البخاري 2/ 890. (3) صحيح البخاري 2/ 896. (4) متفق عليه مشكاة المصابيح 2/ 422. (5) سنن أبي داود 2/ 235، جامع الترمذي 2/ 14. (6) رواه البيهقي في شعب الإيمان، مشكاة المصابيح 2/ 424. (7) صحيح البخاري 2/ 893. (8) والحديث في ذلك مروي في الصحيحين، انظر مشكاة المصابيح 1/ 12، 167. (9) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، مشكاة المصابيح 1/ 14.

أطعم مسلما على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم «1» . ويقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة «2» . وبجانب هذا كان يحث حثا شديدا على الاستعفاف عن المسألة، ويذكر فضائل الصبر والقناعة، كان يعد المسألة كدوحا أو خدوشا أو خموشا في وجه السائل «3» . اللهم إلا إذا كان مضطرا، كما كان يحدث لهم بما في العبادات من الفضائل والأجر والثواب عند الله وكان يربطهم بالوحي النازل عليه من السماء ربطا موثقا يقرؤه عليهم، ويقرؤونه، لتكون هذه الدراسة إشعارا بما عليهم من حقوق الدعوة، وتبعات الرسالة، فضلا عن ضرورة الفهم والتدبر. وهكذا رفع معنوياتهم ومواهبهم، وزودهم بأعلى القيم والأقدار والمثل، حتى صاروا صورة لأعلى قمة من الكمال عرفت في تاريخ البشر بعد الأنبياء. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم «4» . ثم إن هذا الرسول القائد الأعظم صلّى الله عليه وسلم كان يتمتع من الصفات المعنوية والظاهرة، ومن الكمالات والمواهب والأمجاد والفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، بما جعلته تهوي إليه الأفئدة، وتتفانى عليه النفوس، فما يتكلم بكلمة إلا ويبادر صحابته- رضي الله عنهم- إلى امتثالها، وما يأتي برشد وتوجيه إلا ويتسابقون إلى التحلي به. بمثل هذا استطاع النبي صلّى الله عليه وسلم أن يبني في المدينة مجتمعا جديدا، أروع وأشرف مجتمع عرفه

_ (1) سنن أبي داود، وجامع الترمذي، مشكاة المصابيح 1/ 169. (2) صحيح البخاري 1/ 190، 2/ 890. (3) انظر في ذلك أبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي، مشكاة المصابيح 1/ 163. (4) رواه رزين، مشكاة المصابيح 1/ 32.

التاريخ، وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع حلا تتنفس له الإنسانية الصعداء، بعد أن كانت تعبت في غياهب الزمان ودياجير الظلمات. وبمثل هذه المعنويات الشامخة تكاملت عناصر المجتمع الجديد، الذي واجه كل تيارات الزمان حتى صرف وجهتها، وحول مجرى التاريخ والأيام.

معاهدة مع اليهود

معاهدة مع اليهود بعد أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووثق من رسوخ قواعد المجتمع الإسلامي الجديد، بإقامة الوحدة العقائدية والسياسية والنظامية بين المسلمين، رأى أن يقوم بتنظيم علاقاته بغير المسلمين، وكان همه في ذلك هو توفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء، مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد، فسن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي. وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود- كما أسلفنا- وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد، فعقد معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام. وجاءت هذه المعاهدة ضمن المعاهدة التي تمت بين المسلمين أنفسهم، والتي مر ذكرها قريبا. وهاك أهم بنود هذه المعاهدة: بنود المعاهدة: (1) إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، كذلك لغير بني عوف من اليهود. (2) وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. (3) وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. (4) وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.

(5) وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه. (6) وإن النصر للمظلوم. (7) وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. (8) وإن يثرب حرام جوفها لأجل هذه الصحيفة. (9) وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (10) وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. (11) وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ... على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. (12) وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم «1» . وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية، عاصمتها المدينة ورئيسها- إن صح هذا التعبير- رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين، وبذلك أصبحت المدينة عاصمة حقيقية للإسلام. ولتوسيع منطقة الأمن والسلام عامد النبي صلّى الله عليه وسلم قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه المعاهدة، حسب الظروف، وسيأتي ذكرها.

_ (1) انظر ابن هشام 1/ 503، 504.

الكفاح الدامي

الكفاح الدامي استفزازات قريش ضد المسلمين بعد الهجرة واتصالهم بعبد الله بن أبي: قد أسلفنا ما كان يأتي به كفار مكة من التنكيلات والويلات ضد المسلمين، وما فعلوا بهم عند الهجرة، مما استحقوا لأجلها المصادرة والقتال، إلا أنهم لم يكونوا ليفيقوا من غيهم، ويمتنعوا عن عدوانهم، بل زادهم غيظا أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمنا ومقرا بالمدينة، فكتبوا إلى عبد الله بن أبي بن سلول، وكان إذ ذاك مشركا بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة- فمعلوم أنهم كانوا مجتمعين عليه، وكادوا يجعلونه ملكا على أنفسهم لولا أن هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآمنوا به- كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين يقولون لهم في كلمات باتة: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم «1» . وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة- وقد كان يحقد على النبي صلّى الله عليه وسلم، لما يراه أنه استلبه ملكه- يقول عبد الرحمن بن كعب: فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلم تفرقوا «2» . امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن إرادة القتال عند ذاك؛ لما رأى خورا أو رشدا في

_ (1) أبو داود باب خبر النضير. (2) نفس المصدر.

إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام:

أصحابه، ولكن يبدو أنه كان متواطئا مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود؛ ليعينوه على ذلك، ولكن تلك هي حكمة النبي صلّى الله عليه وسلم التي كانت تطفىء نار شرهم حينا بعد حين «1» . إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام: ثم إن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمرا، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من لقف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة «2» . قريش تهدد المهاجرين: ثم إن قريشا أرسلت إلى المسلمين تقول لهم: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم «3» . ولم يكن هذا كله وعيدا مجردا، فقد تأكد عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكائد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهرا، أو في حرس من الصحابة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى قالت: سهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة، فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة، قالت فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم نام «4» .

_ (1) انظر في هذا الصدد صحيح البخاري 2/ 655، 656، 916، 924. (2) صحيح البخاري، كتاب المغازي 2/ 563. (3) رحمة للعالمين 1/ 116. (4) مسلم باب فضل سعد بن أبي وقاص 2/ 280 واللفظ له، وصحيح البخاري- باب الحراسة في الغزو في سبيل الله 1/ 404.

الإذن بالقتال:

ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي بل كان ذلك أمرا مستمرا، فقد روى عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحرس ليلا، حتى نزل وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال: يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل «1» . ولم يكن الخطر مقتصرا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بل على المسلمين كافة، فقد روى أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه. الإذن بالقتال: في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة، والتي كانت تنبىء عن قريش أنهم لا يفيقون عن غيهم، ولا يمتنعون عن تمردهم بحال، أنزل الله تعالى الإذن بالقتال للمسلمين، ولم يفرضه عليهم قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (22: 39) . وأنزل هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل، وإقامة شعائر الله، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (22: 41) . والصحيح الذي لا مندوحة عنه أن هذا الإذن إنما نزل بالمدينة بعد الهجرة، لا بمكة، ولكن لا يمكن لنا القطع بتحديد ميعاد النزول. نزل الإذن بالقتال، ولكن كان من الحكمة إزاء هذه الظروف- التي مبعثها الوحيد هو قوة قريش وتمردها- أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية المؤدية من مكة إلى الشام، واختار رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبسط هذه السيطرة خطتين: الأولى: عقد معاهدات الحلف أو عدم الاعتداء مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وقد أسلفنا معاهدته- صلّى الله عليه وسلم- مع

_ (1) جامع الترمذي أبواب التفسير 2/ 130.

الغزوات والسرايا قبل بدر:

اليهود، وكذلك كان عقد معاهدة الحلف أو عدم الاعتداء مع جهينة قبل الأخذ فى النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاثة مراحل من المدينة، وقد عقد معاهدات أثناء دورياته العسكرية وسيأتي ذكرها. الثانية: إرسال البعوث واحدة تلو الأخرى إلى هذا الطريق. الغزوات والسرايا قبل بدر «1» : ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ في المسلمين النشاط العسكري فعلا بعد نزول الإذن بالقتال، وقاموا بحركات عسكرية هي أشبه بالدوريات الاستطلاعية، وكان المطلوب منها هو الذي أشرنا إليه من الاستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة، وعقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق، وإشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، وإنذار قريش عقبى طيشها، حتى تفيق عن غيها الذي لا تزال تتوغل في أعماقه، وعلها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم، وعن الصد عن سبيل الله، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة، حتى يصير المسلمون أحرارا في إبلاغ رسالة الله في ربوع الجزيرة. وفيما يلي أحوال هذه السرايا بالإيجاز: 1- سرية سيف البحر، في رمضان سنة 1 هـ. الموافق سنة 623 م. أمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلا من المهاجرين، يعترض عيرا لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص «2» . فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني- وكان حليفا للفريقين جميعا- بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حجز بينهم، فلم يقتتلوا. وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أبيض، وكان حامله أبا مرثد كناز بن حصين الغنوي.

_ (1) سمى المؤرخون ما خرج فيه النبي صلّى الله عليه وسلم بنفسه غزوة، حارب فيها أم لم يحارب وما خرج فيه أحد قادته سرية. (2) العيص- بالكسر- مكان بين ينبع والمروة ناحية البحر الأحمر.

2- سرية رابغ، في شوال سنة 1 من الهجرة- أبريل سنة 623 م، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكبا من المهاجرين، فلقي أبا سفيان- وهو في مائتين- على بطن رابغ، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال. وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبة بن غزوان المازني، وكانا مسلمين، خرجا مع الكفار؛ ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين. وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف. 3- سرية الخرّار «1» ، في ذي القعدة سنة 1 هـ الموافق مايو سنة 623 م، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين راكبا، يعترضون عيرا لقريش، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس. كان لواء سعد رضي الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو. 4- غزوة الأبواء أو ودان «2» - في صفر سنة 2 هـ الموافق أغسطس سنة 623 م، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه، بعد أن استخلف على المدينة سعد بن عبادة، في سبعين رجلا من المهاجرين خاصة، يعترض عيرا لقريش حتى بلغ ودان، فلم يلق كيدا. وفي هذا الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشي الضمري، وكان سيد بني ضمرة في زمانه، وهاك نص المعاهدة: هذا كتاب من محمد رسول الله لنبي ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، ما بل بحر صوفة، وإن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه «3» . وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب.

_ (1) الخرار- بالفتح فالتشديد- بالقرب من الجحفة. (2) ودان- بالفتح فالتشديد- موضع بين مكة والمدينة، بينه وبين رابغ مما يلي المدينة تسعة وعشرون ميلا، والأبواء موضع بالقرب من ودان. (3) انظر المواهب اللدنية 1/ 75 وشرحه للزرقاني.

5- غزوة بواط، في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ سبتمبر سنة 623 م، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه، يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بواطا من ناحية رضوى «1» ولم يلق كيدا. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 6- غزوة سفوان، في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ سبتمبر سنة 623 م أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزا وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله علي بن أبي طالب. 7- غزوة ذي العشيرة- في جمادي الأولى، وجمادي الآخرة سنة 2 هـ الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623 م، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال: في مائتين، من المهاجرين، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها، يعترضون عيرا لقريش، ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبر بفصولها من مكة فيها أموال لقريش، فبلغ ذا العشيرة «2» ، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سببا لغزوة بدر الكبرى. وكان خروجه صلّى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى، ورجوعه في أوائل جمادى الآخرة على ما قاله ابن إسحاق، ولعل هذا هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزوة. وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة.

_ (1) بواط (بالضم) ورضوى، جبلان فرعان أصلهما من جبال جهينة: مما يلي طريق الشام، بينه وبين المدينة نحو أربعة برد. (2) العشيرة- مصغرا، ويقال: العشيراء بالمد، وقيل: العسيرة بالمهملة- موضع بناحية ينبع.

واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء في هذه الغزوة أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. 8- سرية نخلة- في رجب سنة 2 هـ الموافق يناير سنة 624 م، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتب له كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه. فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم» فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه. وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام. وأنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما فعلوه، وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ووقف التصرف في العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسما هذه الأقاويل، وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (2: 217) .

فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الربية في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتنى على وقاحة ودعارة. وبعد ذلك أطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، وأدى دية المقتول إلى أوليائه «1» . تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في واحدة منها سلب الأموال وقتل الرجال، إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري، فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أوتوه قبل ذلك من الأفاعيل. وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين، وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريبا، ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة- كما فعلت جهينة وبنو ضمرة- ازدادوا حقدا وغيظا، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل، من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر. أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش، في شهر شعبان سنة 2 هـ، وأنزل في ذلك آيات بينات وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ

_ (1) أخذنا تفاصيل هذه السرايا والغزوات من زاد المعاد 2/ 83، 84، 85، وابن هشام 1/ 561 إلى 605، ورحمة للعالمين 1/ 115، 116، 2/ 215، 216، 468، 469، 470 وفي المصادر اختلاف في ترتيب هذه الغزوات والسرايا، وفي تعيين عدد الخارجين فيها- واعتمدنا في ذلك على تحقيق العلامة ابن القيم والعلامة المنصور فوري.

أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (2: 190: 191: 192: 193) . ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر، يعلمهم فيها طريقة القتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (47: 4، 5، 6، 7) «1» . ثم ذم الله الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الآية (47: 20) . وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالاستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الأحوال، ولو كان هناك قائد يسبر أغوار الظروف لأمر جنده بالاستعداد لجميع الطوارىء، فكيف بالرب العليم المتعال، فالظروف كانت تقتضي عراكا داميا بين الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين وحميتهم، آلمتهم، وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر. وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي، وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا، انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأسارى، والإثخان في الأرض، حتى تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين نهائيا. ولكن ترك كل ذلك مستورا؛ حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله. وفي هذه الأيام- في شعبان 2 هـ/ فبراير 624 م- أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت

_ (1) حقق الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي تحقيقا مدللا أن سورة محمد نزلت قبل بدر، راجع تفهيم القرآن 5/ 11، 12.

المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد دخلوا في صفوف المسلمين لإثارة البلبلة انكشفوا عن المسلمين، ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة. وفي تحويل القبلة إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد، لا ينتهي إلا بعد احتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم، وإن كانت بأيديهم فلا بد من تخليصها يوما ما. وبعد هذه الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين، واشتدت نزعاتهم إلى الجهاد في سبيل الله ولقاء العدو في معركة فاصلة.

غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة

غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة سبب الغزوة: قد أسلفنا في ذكر غزوة العشيرة أن عيرا لقريش أفلتت من النبي صلّى الله عليه وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال، ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء، ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة، وأخبرا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخبر. كانت العير مركبة من ثروات طائلة من أهل مكة، ألف بعير موقرة بالأموال، لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلا. إنها فرصة ذهبية لعسكر المدينة، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة، لذلك أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسلمين قائلا: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة- بدل العير- هذا الاصطدام العنيف في بدر، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضي رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا الماضية، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة. مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات: واستعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا (313، أو 314، 317 رجلا) ، 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين، و 61 من الأوس و 170 من الخزرج. ولم

الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر:

يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليّ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا واحدا. واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذز، واستعمله على المدينة. ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض. وقسم جيشه إلى كتيبتين: 1- كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها علي بن أبي طالب. 2- كتيبة الأنصار، وأعطى علمها سعد بن معاذ. وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا- وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلّى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش. الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر: سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها، ترك طريق مكة بيسار، وانحرف ذات اليمين على النازية (يريد بدرا) ، فسلك في ناحية منها، حتى جزع واديا يقال له رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق، ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، وهنالك بعث بسبس بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير. النذير في مكة: وأما خبر العير فإن أبا سفيان- وهو المسؤول عنها- كان على غاية من الحيطة والحذر، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من

أهل مكة يتجهزون للغزو:

الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمدا- صلّى الله عليه وسلم- قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة، مستصرخا لقريش بالنفير إلى عيرهم، ليمنعوه من محمد- صلّى الله عليه وسلم- وأصحابه، وخرج ضمضم سريعا حتى أتى مكة، فصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، وقد جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. أهل مكة يتجهزون للغزو: فتحفز الناس سراعا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا، والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين، إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج منهم أحد. قوام الجيش المكي: وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة درع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوما تسعا ويوما عشرا من الإبل. مشكلة قبائل بني بكر: ولما أجمع هذا الجيش على المسير، ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة والحرب، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف، فيكونوا بين نارين، فكاد ذلك يثنيهم، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي- سيد بني كنانة- فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه.

جيش مكة يتحرك:

جيش مكة يتحرك: وحينئذ خرجوا من ديارهم، كما قال الله: بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وأقبلوا كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- «بحدهم وحديدهم، يحادون الله ويحادون رسوله» ، وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ، وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، لا جتراء هؤلاء على قوافلهم. تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في تجاه بدر، وسلكوا في طريقهم وادي عسفان، ثم قديد، ثم الجحفة، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا. العير تفلت: وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي، ولكنه لم يزل حذرا متيقظا، وضاعف حركاته الاستكشافية، ولما اقترب من بدر تقدم عيره، حتى لقي مجدي بن عمرو، وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعا، وضرب وجهها محولا اتجاهها نحو الساحل غربا، تاركا الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة. هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الانشقاق فيه: ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلا: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا. ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة

حراجة موقف الجيش الإسلامي:

- وكان حليفا لهم ورئيسا عليهم في هذا النفير- فلم يشهد بدرا زهري واحد، وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل، واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس بن شريق، فلم يزل فيهم مطاعا معظما. وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع. فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة- وهو يقصد بدرا- فواصل سيره حتى نزل قريبا من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر. حراجة موقف الجيش الإسلامي: أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو لا يزال في الطريق بوادي ذفران- خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للاجتناب عن لقاء دام، وأنه لا بد من إقدام بينى على الشجاعة والبسالة، والجراءة، والجسارة، فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيما لمكانة قريش العسكرية، وامتدادا لسلطانها السياسي، وإضعافا لكلمة المسلمين وتوهينا لها، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسدا لا روح فيه، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة. وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة، حتى ينقل المعركة إلى أسوارها، ويغزو المسلمين في عقر دارهم. كلا، فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم. المجلس الاستشاري: ونظرا إلى هذا التطور الخطير المفاجىء عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا عسكريا استشاريا أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه، وقادته. وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس، وخافوا اللقاء الدامي، وهم الذين قال الله فيهم كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وأما قادة الجيش؛ فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن،

ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه» . فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به. وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة: «أشيروا عليّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ، فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: «فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله» . وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا. عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

الجيش الإسلامي يواصل سيره:

الجيش الإسلامي يواصل سيره: ثم ارتحل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذفران، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية، وترك الحنان بيمين- وهو كثيب عظيم الأصل- ثم نزل قريبا من بدر. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يقوم بعملية الاستكشاف: وهناك قام بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه- سأل عن الجيشين زيادة في التكتم- ولكن الشيخ قال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك، قال: أو ذاك بذلك؟ قال: نعم. قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش المدينة- وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش مكة. ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحن من ماء، ثم انصرف عنه، وبقي الشيخ يتفوه، ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي: وفي مساء ذلك اليوم بعث استخباراته من جديد، ليبحث عن أخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين؛ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض وجاءوا بهما إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فاستخبرهما القوم، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان- لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة- فضربوهما موجعا، حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما.

نزول المطر:

ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الصلاة قال لهم كالعاتب: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش. ثم خاطب الغلامين قائلا: أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير. قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف في رجال سمياهم. فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. نزول المطر: وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم. الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية: وتحرك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بجيشه، ليسبق المشركين إلى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم- قريش- فننزله ونغوّر- أي نخرب- ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجيش، حتى أتى أقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض، وغوّروا ما عداها من القلب.

مقر القيادة:

مقر القيادة: وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقرا لقيادته، استعدادا للطوارىء، وتقديرا للهزيمة قبل النصر، حيث قال: «يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك» . فأثنى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير، وبنى المسلمون عريشا على تلك مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، ويشرف على ساحة المعركة. كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ، يحرسون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حول مقر قيادته. تعبئة الجيش وقضاء الليل: ثم عبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيشه «1» ، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله «2» ، ثم بات رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هنالك، وبات المسلمون ليلهم هادىء الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحا إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (8: 11) . كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر.

_ (1) انظر جامع الترمذي أبواب الجهاد، باب ما جاء في الصف والتعبئة 1/ 201. (2) رواه مسلم عن أنس، انظر مشكاة المصابيح 2/ 543.

الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الانشقاق فيه:

الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الانشقاق فيه: أما قريش؛ فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر، وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: دعوهم، فما شرب أحد منهم يؤمئذ إلا قتل، سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني من يوم بدر، فلما اطمأنت قريش بعث عمير بن وهب الجمحي؛ للتعرف على مدى قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادكم، فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم. وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل- المصمم على المعركة- تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش، وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي- المقتول في سرية نخلة- فقال عتبة: قد فعلت، أنت ضامن علّي بذلك، إنما هو حليفي فعليّ عقله ديته وما أصيب من ماله. ثم قال عتبة لحكيم بن حزام: فأت ابن الحنظلية- أبا جهل، والحنظلية أمه- فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.

الجيشان يتراءان:

وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل- وهو يهيئ درعا له- قال يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني بكذا وكذا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه- وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديما وهاجر- فتخوفكم عليه. ولما بلغ عتبة قول أبي جهل: «انتفخ والله سحره» ، قال عتبة: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل مخافة أن تقوى هذه المعارضة. فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي- أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش- فقال: هذا حليفك (أي عتبة) يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك، فقام عامر، فكشف عن استه، وصرخ: واعمراه، واعمراه فحمي القوم، وحقب أمرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. وهكذا تغلب الطيش على الحكمة، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى. الجيشان يتراءان: ولما طلع المشركون، وترآى الجمعان قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» . وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر- إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا. وعدل رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: «استو يا سواد» ، فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: «استقد» ، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد» ؟ قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخير. تعليمات القتال: ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر

ساعة الصفر وأول وقود المعركة:

الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال: «إذا أكثبوكم- يعني كثروكم- فارموهم، واستبقوا نبلكم «1» ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم «2» » ، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش. أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (8: 19) . ساعة الصفر وأول وقود المعركة: وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان رجلا شرسا سيء الخلق- خرج قائلا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فلما التقيا ضربه حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض. المبارزة: وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث- وأمهما عفراء- وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» ، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان

_ (1) صحيح البخاري 2/ 568. (2) سنن أبي داود في سل السيوف عند اللقاء 2/ 13.

الهجوم العام:

أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد «1» ، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، وقد قطعت رجله؛ فلم يزل صمتا حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة. وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ الآية. الهجوم العام: وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضبا، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد. وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرعوا إليه، تلقوا هجمات المشركين المتوالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون: أحد أحد. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يناشد ربه: وأما رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» . حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة، واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا» . وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك. وأوحى الله إلى ملائكته أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا

_ (1) هذا على ما قاله ابن إسحاق، وفي رواية أحمد وأبي داود أن عبيدة بارز الوليد، وعلي بارز شيبة، وحمزة بارز عتبة. مشكاة المصابيح 2/ 343.

نزول الملائكة:

الرُّعْبَ، وأوحى إلى رسوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ- أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضا أرسالا، لا يأتون دفعة واحدة. نزول الملائكة: وأغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» (أي الغبار) . وفي رواية محمد بن إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع» . ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من باب العريش، وهو يثب في الدرع، ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (54: 45) ، ثم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشا وقال: «شاهت الوجوه» ، ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (8: 17) . الهجوم المضاد: وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال: «شدوا» ، وحرضهم على القتال، قائلا: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» ، وقال وهو يحضهم على القتال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ، (وحينئذ) قال العمير بن الحمام: بخ. بخ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قولك: بخ. بخ» ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها» . فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل «1» . وكذلك سأله عوف بن الحارث- ابن عفراء- فقال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده! قال غمسه يده في العدو حاسرا، فنزع درعا كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.

_ (1) رواه مسلم 2/ 139، مشكاة المصابيح 2/ 331.

إبليس ينسحب عن ميدان القتال:

وحين أصدر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت، وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم- وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه- قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعون الأعناق، وزادهم نشاطا وحدة أن رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول في جزم وصراحة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، فقاتل المسلمون أشد القتال، ونصرتهم الملائكة، ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها، وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فإذا هو قد قتل فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة «1» » . وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم» . إبليس ينسحب عن ميدان القتال: ولما رأى إبليس- وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت- فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام- وهو يظنه سراقة- فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربا، وقال له المشركون: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب، ثم فرحتى ألقى نفسه في البحر. الهزيمة الساحقة: وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات

_ (1) روى مثل ذلك مسلم 2/ 93 وغيره.

صمود أبي جهل:

المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت عليهم الهزيمة. صمود أبي جهل: أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه، ويقول لهم في شراسة ومكابرة: لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل منهم رجلا، ولكن خذوهم أخذا، حتى نعرفهم بسوء صنيعهم. ولكن سرعان ما تبدى له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلا حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. نعم بقي حوله عصابة من المشركين، ضربت حوله سياجا من السيوف وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذه السياج وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين. مصرع أبي جهل: قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أيكما قتله» ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: «هل مسحتما سيفيكما» ؟ فقالا: لا، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى السيفين،

فقال: «كلا كما قتله» ، وقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء «1» . وقال ابن إسحاق: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحرجة- والحرجة: الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة- وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه- أطارتها- بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها «2» ثم مر بأبي جهل- وهو عقير- معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل. ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أعمد من رجل قتلتموه «3» ؟ أو هل فوق رجل قتلتموه؟ وقال: فلو غير أكار قتلني، ثم قال: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود- وكان قد وضع رجله على عنقه- لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة. وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: «الله الذي لا إله إلا هو» ؟ فرددها ثلاثا، ثم قال: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه» ، فانطلقنا فأريته إياه، فقال: «هذا فرعون هذه الأمة» .

_ (1) صحيح البخاري 1/ 444، 2/ 568، مشكاة المصابيح 2/ 352، وإنما خص بالسلب واحدا منهما لأن الثاني قتل شهيدا في نفس المعركة. (2) بقي معاذ هذا إلى زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه. (3) أي ليس علي عار فلن أبعد أن أكون رجلا قتله قومه.

قتلى الفريقين:

قتلى الفريقين: انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، ويفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد. ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس» ، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر. وعن أبي طلحة أن نبي الله صلّى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، وأتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركى، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، «يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» ؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» ، وفي رواية «ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون» «1» .

_ (1) متفق عليه، مشكاة المصابيح 2/ 345.

العبر والعظات

العبر والعظات 1- يدلنا السبب الأول لغزوة بدر أن الدافع الأصلي لخروج المسلمين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن القتال والحرب، وإنما كان الدافع قصد الإستيلاء على عير قريش، هذه إرادة البشر. غير أن الله أراد لعباده غنيمة أكبر، ونصرا أعظم، قال الله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الإنفال 7] . 2- التزام النبي صلّى الله عليه وسلم بمبدأ التشاور مع أصحابه. فقد شاورهم في الأمر الذي فوجئوا به بعد أن أفلت منهم العير، وشاورهم في تعيين موقع المعركة، وشاورهم في موضع العريش، والشورى واجبة في كل ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنة. 3- جواز الاستعانة بالعيون والمراقبين، ليكتشف المسلمون خطط أعدائهم وأحوالهم، ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك، ولو استلزم ذلك تكتما أو نوعا من المخادعة أو التحايل، فالحرب خدعة. 4- أهمية التضرع لله وشدة الإستعانة به. لقد علمنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يطمئن أصحابه بأن النصر لهم، حتى إنه كان يشير الى أماكن متفرقة في الأرض، ويقول: «هذا مصرع فلان» ، ولقد وقع الأمر كما أخبر صلّى الله عليه وسلم. ومع ذلك رأيناه يقف طوال ليلة الجمعة في العريش الذي أقيم له يجأر إلى الله تعالى داعيا ومتضرعا، باسطا كفيه إلى السماء يناشد الله عز وجل أن يؤتيه نصره الذي وعد، حتى سقط عنه رداؤه، وأشفق أبو بكر عليه. فلماذا كل هذه الضراعة؟.

إن اطمئنان النبي صلّى الله عليه وسلم وإيمانه بالنصر إنما كان تصديقا منه للوعد الذي وعد الله به رسوله. أما الاستغراق في التضرع والدعاء، فتلك هي وظيفة العبودية التي خلق من أجلها الإنسان، وعلى الإنسان أن لا يخرج عن طور العبودية مهما بلغ حاله. 5- الحياة البرزخية للأموات. في الحوار الذي جرى بين النبي صلّى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، عندما وقف النبي صلّى الله عليه وسلم على فم القليب ينادي قتلى المشركين، دليل واضح على أن للميت حياة روحية خاصة به، لا ندري حقيقتها وكيفيتها. وأن أرواح الموتى تظل حائمة حول أجسادهم، ومن هنا يتصور معنى عذاب القبر ونعيمه. وطريق الإيمان بذلك إنما هو التسليم، ولو لم نعرف حقيقتها، ما دام قد ثبت ذلك بدليل صحيح. 6- مسألة الأسرى. استشار النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الأسرى، فأشار عليه أبو بكر وجماعة أن يأخذ منهم فدية من المال تكون قوة للمسلمين، ويتركهم عسى الله يهديهم. وأشار عمر وجماعة بقتل الأسرى، لأنهم أئمة الكفر وصناديده، فمال النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ما رآه أبو بكر. غير أن آيات من القرآن نزلت عتابا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك وتأييدا للرأي الذي رآه عمر من قتلهم. وهذه الواقعة دلتنا على أن النبي صلّى الله عليه وسلم من حقه أن يجتهد، وله ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور علماء الأصول. وإذا صح أن يجتهد صح منه بناء على ذلك أن يصيب أو يخطىء في الاجتهاد غير أن الخطأ لا يستمر، بل لا بد أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على أن اجتهاده صلّى الله عليه وسلم قد وقع على ما هو الحق في علم الله تعالى.

مؤامرة لاغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -

وقد يستعظم البعض نسبة الخطأ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، متوهمين أن الخطأ هو الإثم، أو الإنحراف، أو نحو ذلك، مما يتنافى مع العصمة الثابتة للأنبياء. مؤامرة لاغتيال النبي- صلّى الله عليه وسلم- كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن اشتاطوا غضبا، وجعلت مكة تغلي كالمرجل ضد النبي صلّى الله عليه وسلم، حتى تآمر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق، ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم، وهو النبي صلّى الله عليه وسلم. جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد وقعة بدر يسير- وكان عمير من شياطين قريش، ممن كان يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة- وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير. قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة، ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان وقال: علّي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم. فقال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم به المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب- وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر- فقال عمر: هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر. ثم دخل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله علي، فأقبل عمير فلببه بحمالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وعمر

غزوة بني قينقاع:

آخذ بحمالة سيفه في عنقه- قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا وقال: أنعموا صباحا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة. ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال: اصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره. وأما صفوان فكان يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه، فحلف صفوان أن لا يكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع أبدا. ورجع عمير إلى مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه ناس كثير «1» . غزوة بني قينقاع: قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع اليهود. وقد كان حريصا كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلا لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفا واحدا من نصوصها. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين. وهاك مثالا من ذلك:

_ (1) ابن هشام 1/ 661، 662، 663.

نموذج من مكيدة اليهود:

نموذج من مكيدة اليهود: قال ابن إسحاق: مر شاس بن قيس- وكان شيخا (يهوديا) قد عسا «1» عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة- يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم- وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة- السلاح السلاح، فخرجوا إليها (وكادت تنشب الحرب) . فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس «2» . هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والتحريشات في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كان لهم خطط شتى في هذا السبيل، كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشكوك في

_ (1) عسا الشيخ: كبر. (2) ابن هشام 1/ 555، - 556.

بنو قينقاع ينقضون العهد:

قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مالي، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سيبل «1» . كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر، على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصا على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة. بنو قينقاع ينقضون العهد: لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصرا مؤزرا في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الأقاصي والأداني، تميزت قدر غيظهم وكاشفوا بالشر. والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذى. وكان أعظمهم حقدا وأكبرهم شرا كعب بن الأشرف- وسيأتي ذكره- كما أن أشر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة- في حي باسمهم- وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود. فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون لنسائهم. وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم. روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا

_ (1) ذكر المفسرون نماذج لفعلاتهم هذه في تفسير سورة آل عمران وغيرها.

الحصار ثم التسليم ثم الجلاء:

يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا. قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (3: 12، 13) «1» . كان معنى ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر بالحرب، ولكن كظم النبي صلّى الله عليه وسلم غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي. وازداد اليهود- من بني قينقاع- جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقا واضطرابا، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة. روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها- وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله- وكان يهوديا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع «2» . الحصار ثم التسليم ثم الجلاء: وحينئذ عيل صبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصروهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب- الذي إذا

_ (1) سنن أبي داود مع عون المعبود 3/ 115، ابن هشام 1/ 552. (2) ابن هشام 2/ 47، 48.

غزوة السويق:

أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذف في قلوبهم- فنزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا. وحينئذ قام عبد الله بن أبي سلول بدوره النفاقي، فألح على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم عفوا، فقال: يا محمد، أحسن في موالي- وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج- فأبطأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكرر ابن أبي مقالته، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرسلني، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك، أرسلني. ولكن المنافق مضى على إصراره، وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، وتحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وعامل رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا المنافق- الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب- عامله بالمراعاة، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم. وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة «1» . غزوة السويق: بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم، كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، فخرج في مائتي راكب ليبر يمينه، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهارا، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفيا تحت جناح الظلام، فأتى حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف فانصرف إلى سلام بن مشكم- سيد بني النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها «العريض» ، فقطعوا

_ (1) زاد المعاد 2/ 71، 91، ابن هشام 2/ 47، 48، 49.

غزوة ذي أمر:

وأحرقوا هناك أسوارا من النخل، ووجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقا كثيرا من أزوادهم وتمويناتهم يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعا، وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق. وقعت في ذي الحجة سنة 2 هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر «1» . غزوة ذي أمر: وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ. وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن جمعا كبيرا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلا ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلا لجيش المسلمين إلى أرض العدو. وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة. أما النبي صلّى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى «بذي أمر» فأقام هناك صفرا كله- من سنة 3 هـ- أو قريبا من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة «2» .

_ (1) زاد المعاد 2/ 90، 91، ابن هشام 2/ 44، 45. (2) ابن هشام 2/ 46، زاد المعاد 2/ 91، ويذكرون أن محاولة اغتيال النبي صلّى الله عليه وسلم من قبل دعثور أو غورث المحاربي كانت في هذه الغزوة. والصحيح أنها في غير هذه الغزوة انظر صحيح البخاري 2/ 593.

قتل كعب بن الأشرف:

قتل كعب بن الأشرف: كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقا على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتظاهرا بالدعوة إلى حربه. كان من قبيلة طيء- من بني نبهان- وأمه من بني النضير، وكان غنيا مترفا معروفا بجماله في العرب، شاعرا من شعرائها، وكان حصنه في شرق جنوب المدينة في خلفيات ديار بني النضير. ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم، ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلّى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلا؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلا، وأفضل، وفي ذلك أنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (4: 51) . ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء. وحينئذ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة- واسمه سلكان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة- والحارث بن أوس، وأبو عبس بن حبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة. وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قال: من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئا. قال: قل.

فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا. قال كعب: والله لتملنه. قال محمد بن مسلمة: فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. قال كعب: نعم أرهنوني. قال ابن مسلمة: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم. قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فترهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا، فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين. هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة، يعني السلاح. فواعده أن يأتيه. وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعبا فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له: ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. قال كعب: أفعل. قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة، وقال أبو نائلة أثناء حديثه: إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك. وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصدا، فإن كعب لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار. وفي ليلة مقمرة- ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 هـ- اجتمعت هذه المفرزة إلى

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم قائلا: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلي ويناجي ربه. وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته- وكان حديث العهد بها: أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. قال كعب: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفح رأسه. وقد كان أبو نائلة قال لأصحابه: إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت منه من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، وزهي كعب بما سمع، فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه. ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئا، فأخذ محمد بن سلمة مغولا فوضعه في ثنته، ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو الله قتيلا، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران. ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذباب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حرة العريض، رأت أن الحارث ليس معهم فوقفت ساعة حتى أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتى إذا بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال: أفلحت الوجوه، قالوا: ووجهك

غزوة بحران

يا رسول الله. ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده «1» . ولما علمت اليهود اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدي نفعا لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكنا لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبىء فيها. وهكذا تفرغ الرسول صلّى الله عليه وسلم- إلى حين- لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخرى. غزوة بحران وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلّى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3 هـ إلى أرض يقال لها بحران- وهي معدن بالحجاز في ناحية الفرع- فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى (من السنة الثالثة من الهجرة) ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حربا «2» . سرية زيد بن حارثة وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وقعت في جمادى الآخرة سنة 3 هـ.

_ (1) أخذنا تفاصيل هذه الوقعة من ابن هشام 2/ 51، 52، 53، 54، 55، 56، 57، وصحيح البخاري 1/ 341، 425، 2/ 577، وسنن أبي داود مع عون المعبود 2/ 42، 43، وزاد المعاد 2/ 91. (2) ابن هشام 2/ 50، 51، وزاد المعاد 2/ 91، واختلفت المصادر في تعيين سبب هذه الغزوة فقيل: إن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بني سليم يحشدون قوات كبيرة لغزو المدينة أو أطرافها، وقيل: بل خرج يريد قريشا، وهذا الثاني هو الذي ذكره ابن هشام واختاره ابن القيم- حتى لم يذكر الأول رأسا- وهو الموجه، وذلك لأن ديار بني سليم لم تكن بناحية الفرع، وإنما هي في نجد بعيدة عن ناحية الفرع.

وتفصيلها أن قريشا بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هم آخر. قال صفوان بن أمية لقريش- وهو الذي انتخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام-: إن محمدا وصحبه عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء. ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق- وهي طريق طويلة جدا تخترق نجدا إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل- فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فرات بن حيان- من بني بكر بن وائل- دليلا له، يكون رائده في هذه الرحلة. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة. وذلك أن سليط بن النعمان- وكان قد أسلم- اجتمع في مجلس شرب- وذلك قبل تحريم الخمر- مع نعيم بن مسعود الأشجعي- ولم يكن أسلم إذ ذاك- فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يروي له القصة. وجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة- على حين غرة- وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له قردة- بالفتح فالسكون- فاستولى عليها كلها، ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة. وأسر المسلمون دليل القافلة- فرات بن حيان، وقيل: ورجلين غيره- وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف، قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات بن حيان على يديه صلّى الله عليه وسلم «1» .

_ (1) ابن هشام 2/ 50، 51، فقه السيرة ص 190، رحمة للعالمين 2/ 219.

وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشا بعد بدر، اشتد لها قلق قريش، وزادتها هما وحزنا. ولم يبق أمامها إلا طريقان، إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين، بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد.

غزوة أحد

غزوة أحد استعداد قريش لمعركة ناقمة: كانت مكة تحترق غيظا على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشا كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى؛ حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم. وعلى إثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين، تشفي غيظها، وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة. المحرّضون: وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطا وتحمسا لخوض المعركة. تمويل الحرب: وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سببا لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثارا، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفي ذلك أنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ (8: 36) . التعبئة العامة: ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طريق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية أغرى أبا عزة الشاعر- الذي كان قد أسر في بدر فمنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه

قوام جيش قريش وقيادته:

العهد بأن لا يقوم ضده- أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حيا يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعرا آخر- مسافع بن عبد مناف الجمحي- لنفس المهمة. وكان أبو سفيان أشد تأليبا على المسلمين بعد ما رجع عن غزوة السويق خائبا لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارا كبيرا من تمويناته في هذه الغزوة. وزاد الطينة بلة- أو زاد النار إذ كاء، إن صح هذا التعبير- ما أصاب قريشا أخيرا في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها، وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين. قوام جيش قريش وقيادته: ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأى قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء، حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة. وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس «1» جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع. وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد، يعاونه عكرمة بن أبي جهل، أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار. جيش مكة يتحرك: تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت الثارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير.

_ (1) زاد المعاد 2/ 92 وهو المعروف، وفي فتح الباري مائة فرس 7/ 346.

الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو:

الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو: وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، ضمنها جميع تفاصيل الجيش. وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجدّ في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة- التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلو مترا- في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء. قرأ الرسالة على النبي صلّى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد مسرعا إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار. استعداد المسلمين للطوارىء: وظلت المدينة في حالة استنفار عام، لا يفارق رجالها السلاح، حتى وهم في الصلاة، استعدادا للطوارىء. وقامت مفرزة من الأنصار- فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة- بحراسة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح. وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها، خوفا من أن يؤخذوا على غرة. وقامت دوريات من المسلمين- لاكتشاف تحركات العدو- تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين. الجيش المكي إلى أسوار المدينة: وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبواء اقترحت هند بنت عتبة- زوج أبي سفيان- بنبش قبر أم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب. ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العقيق ثم انحرف منه إلى ذات اليمين، حتى نزل قريبا بجبل أحد في مكان يقال له عينين، في بطن السبخة، من قناة على

المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع:

شفير الوادي- الذي يقع شمالي المدينة- فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة. المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع: ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبرا بعد خبر، حتى الخبر الأخير عن معسكره، وحينئذ عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا عسكريا أعلى، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال: إني قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا يذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة. ثم قدم رأيه إلى صحابته أن لا يخرجوا من المدينة، وأن يتحضوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول- رأس المنافقين- وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج. ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد، وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه- لأول مرة- أمام المسلمين، وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعتهم على الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم. فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، فأشاروا على النبي صلّى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، حتى قال قائلهم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنّا عنهم. وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم- الذي كان قد أروى فرند سيفه في معركة بدر- فقد قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة «1» .

_ (1) السيرة الحلبية 2/ 14.

تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال:

ورفض رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيه أمام رأي الأغلبية، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر. تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال: ثم صلى النبي صلّى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك. ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه، وظاهر بين در عين (أي لبس درعا فوق درع) ، وتقلد السيف، ثم خرج على الناس. وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر إليه، فندموا جميعا على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته- وهي الدرع- أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه «1» . توزيع الجيش وقسم النبي صلّى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب: (1) كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري. (2) كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير. (3) كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر. قوام الجيش وكان الجيش متألفا من ألف مقاتل، فيهم مائة دارع وخمسون فارسا «2» ، وقيل لم يكن من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وأذن بالرحيل، فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي صلّى الله عليه وسلم بعدوان دارعين.

_ (1) رواه أحمد والنسائي والحاكم وابن إسحاق. (2) قاله ابن القيم في الهدى 2، 92. وقال ابن حجر: هو غلط بين. وقد جزم موسى بن عقبة بأنه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل، ووقع عند الواقدي كان معهم فرس لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وفرس لأبي بردة (فتح الباري 7/ 350) .

استعراض الجيش:

ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج «1» ، يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين، فسأل: هل أسلموا؟ فقالوا: لا. فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك. استعراض الجيش: وعندما وصل إلى مقام يقال له «الشيخان» استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقا للقتال، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حبة، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم. وأجاز رافع بن خديج، وسمرة بن جندب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهرا في رماية النبل فأجازه، فقال سمرة: أنا أقوى من رافع. أنا أصرعه، فلما أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه، فتصارعا، فصرع سمرة رافعا، فأجازه أيضا. المبيت بين أحد والمدينة: وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، وانتخب خمسين رجلا لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة. تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه: وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج، حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر، وكان بمقربة جدا من العدو فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر- ثلاثمائة مقاتل- قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهرا بالاحتجاج بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره.

_ (1) روى ذلك ابن سعد وفيه أنهم من بني قينقاع (2/ 34) ومعلوم أن بني قينقاع كان قد تم إجلاؤهم عقب بدر.

بقية الجيش الإسلامي إلى أحد:

ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما آبداه هذا المنافق من رفض رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى. بل لو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد- في ذلك الظرف الدقيق- أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم، حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وتنهار معنويات من يبقى معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه. وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان- بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج- أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتنا بعد ما سرى فيهما الاضطراب وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول الله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (3: 122) . وحاول عبد الله بن حرام- والد جابر بن عبد الله- تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلا: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه. وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (3: 167) . بقية الجيش الإسلامي إلى أحد: وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي صلّى الله عليه وسلم ببقية الجيش- وهم سبعمائة مقاتل- ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب (أي من قريب) من طريق لا يمر بنا عليهم» ؟ فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، ثم اختار طريقا قصيرا إلى أحد يمر بحرة بني حارثة وبمزارعهم، تاركا جيش المشركين إلى الغرب.

خطة الدفاع:

ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مربع بن قيظي- وكان منافقا ضرير البصر- فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله فابتدره القوم ليقتلوه، فقال: «لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر» . ونفذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلا المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلا بين المسلمين وبين المدينة. خطة الدفاع: وهناك عبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفا للقتال، فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلا، وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة- وعرف فيما بعد بجبل الرماة- جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين مترا من مقر الجيش الإسلامي. والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قال لقائدهم: «انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك» «1» . ثم قال للرماة: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا «2» » ، وفي رواية البخاري أنه قال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم «3» . وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق.

_ (1) ابن هشام 2/ 65، 66. (2) روى ذلك أحمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس. انظر فتح الباري 7/ 350. (3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد 1/ 426.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفث روح البسالة في الجيش:

أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف. ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدا، تتجلى فيها عبقرية قيادة النبي صلّى الله عليه وسلم العسكرية- وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا- فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره- حين يحتدم القتال- بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعا مرتفعا يحتمي به- إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين- ولا يلتجىء إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة إلى أعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جدا أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين. وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3 هـ. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- ينفث روح البسالة في الجيش: ونهى الرسول صلّى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم، وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه، حتى جرد سيفا باترا ونادى أصحابه: «من يأخذ هذا السيف بحقه» ؟ فقام إليه رجال يأخذوه- منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب- حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني» . قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت. فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة، وجعل

تعبئة الجيش المكي:

يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» . تعبئة الجيش المكي: أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد- وكان إذ ذاك مشركا- وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاة صفوان بن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة. أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار، وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب- كما أسلفنا في أوائل المقالة- وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك، تقيدا بالتقاليد التي ورثوها كابرا عن كابر، بيد أن القائد العام- أبا سفيان- ذكرهم بما أصاب قريشا يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث، وقال لهم ليستفز غضبهم ويثير حميتهم: يا بني عبد الدار، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتي الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه. ونجح أبو سفيان في هدفه، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب، وهموا به وتواعدوه، وقالوا له: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع. وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم. مناورات سياسية من قبل قريش: وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين. فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم: «خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، فلا حاجة لنا إلى قتالكم» ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال، فقد رد عليه الأنصار ردا عنيفا، وأسمعوه ما يكره. واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض،

جهود نسوة قريش في التحميس:

فقد خرج إليهم عميل خائن يسمى أبا عامر الفاسق- واسمه عبد عمرو بن صيفي، وكان يسمى الراهب، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه- فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى قومه وتعرف عليهم، وقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. (ولما بدأ القتال قاتلهم قتالا شديدا وراضخهم بالحجارة) . وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم، مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة. جهود نسوة قريش في التحميس: وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، فكن يتجولن في الصفوف، ويضربن بالدفوف، يستنهضن الرجال، ويحرضن على القتال، ويثرن حفائظ الأبطال، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال، فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن: ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضربا بكل بتار وتارة يأززن قومهن على القتال وينشدن: إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق أول وقود المعركة: وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، وبدأت مراحل القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة، خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط

ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته:

شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب إليه وثبة الليث، حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه وذبحه بسيفه. ورأى النبي صلّى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع، فكبر وكبر المسلمون، وأثنى على الزبير، وقال في حقه: إن لكل نبي حواريا، وحواريي الزبير «1» . ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته: ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين. فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول: إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته. ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته، فأدلع لسانه ومات لحينه. وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز، فتقدم إليه علي بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه علي فقتله. ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقتله، فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته، وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقضى عليه. هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، قتلوا جميعا حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شريح بن قارظ فقتله قزمان- وكان منافقا قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام- ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضا، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضا.

_ (1) ذكره صاحب السيرة الحلبية 2/ 18.

القتال في بقية النقاط:

فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار- من حملة اللواء- أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء، فتقدم غلام لهم حبشي- اسمه صواب- فحمل اللواء، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم هل أعذرت، يعني هل أعذرت؟ «1» . وبعد أن قتل هذا الغلام- صواب- سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطا. القتال في بقية النقاط: وبينما كان ثقل المعركة، يدور حول لواء المشركين، كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود، وهم يقولون «أمت، أمت» ، كان ذلك شعارا لهم يوم أحد. أقبل أبو دجانة معلما بعصابته الحمراء، آخذا بسيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مصمما على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقى مشركا إلا قتله، وأخذ يهدّ صفوف المشركين هدّا. قال الزبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت أي في نفسي: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؟ فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول «2» ... أضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا ذفّف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا

_ (1) كان بلسانه لكنة يقلب الذال إلى الزاي. (2) الكيول: اخر الصفوف. يعني أنه لا يقاتل في مؤخرة الصفوف. بل يظل أبدا في المقدمة.

مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب:

ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله «1» . ثم أمعن أبو دجانة في هد الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش، وهو لا يدري بها. قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة. قال الزبير بن العوام رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم «2» . وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين؛ فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين، ولكن لا كما تصرع الأبطال وجها لوجه في ميدان القتال، وإنما كما يغتال الكرام في حلك الظلام. مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب: يقول قاتل حمزة وحشي بن حرب: كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس- وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئا- فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهد الناس هداما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور- وكانت أمه ختانة- قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه «3» . قال: وهززت حربتي، حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثنته- أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت

_ (1) ابن هشام 2/ 68، 69. (2) نفس المصدر 2/ 69. (3) أخطأ رأسه، يقال عند المبالغة في الإصابة.

السيطرة على الموقف:

حربتي ثم رجعت إلى العسكر، فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت «1» . السيطرة على الموقف: وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت بالمسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالا فلّ عزائم المشركين، وفتت في أعضادهم. غسيل الملائكة: وكان من الابطال المغامرين يومئذ حنظلة الغسيل- وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق، والذي مضى ذكره قريبا- كان حنظلة حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب- وهو على امرأته- انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال، أخذ يشق الصفوف، حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله. نصيب فصيلة الرماة في المعركة: وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلّى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث «2» .

_ (1) ابن هشام 2/ 69، 70، 71، 72، صحيح البخاري 2/ 583- أسلم وحشي هذا بعد معركة الطائف، وقتل مسيلمة الكذاب بحربته تلك، وشهد اليرموك ضد الرومان. (2) انظر فتح الباري 7/ 346.

الهزيمة تنزل بالمشركين:

الهزيمة تنزل بالمشركين: هكذا دارت رحى الحرب الزبون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرا على الموقف كله، حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم، لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين. وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها- حتى لم يجترىء أحد منها أن يدنو من لوائها، الذي سقط بعد مقتل صواب، فيحمله ليدور حوله القتال- فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار. قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم- سوق- هند بن عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير.. إلخ «1» وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح: فلما لقيناهم هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلا خيلهن «2» . وتبع المسلمون المشركين، يضعون فيهم السلاح، وينتهبون الغنائم. غلطة الرماة الفظيعة: وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخرى نصرا ساحقا على مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماما، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سببا في مقتل النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، والهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر. لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، لكن على رغم هذه الأوامر

_ (1) ابن هشام 2/ 77. (2) صحيح البخاري 2/ 579.

خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي:

المشددة؛ لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالا، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة «1» . ثم غادر أربعون رجلا من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسواد الجيش، ليشاركوه في جمع الغنائم، وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم، مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا. خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي: وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة، حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد، فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم- وهي عمرة بنت علقمة الحارثية- فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضا، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى. موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة- تسعة نفر من أصحابه «2» - في مؤخرة المسلمين «3» ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو- بالسرعة- بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.

_ (1) روى ذلك البخاري من حديث البراء بن عازب 1/ 426. (2) في صحيح مسلم (2/ 107) أنه صلّى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. (3) يدل عليه قوله تعالى: والرسول يدعوكم في أخراكم. (3: 153) .

تبدد المسلمين في الموقف:

وهناك تجلت عبقرية الرسول صلّى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: عباد الله، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطرا بنفسه في هذا الظرف الدقيق. وفعلا فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون. تبدد المسلمين في الموقف: أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روى البخاري عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم- أي احترزوا من ورائكم- فرجعت أولاهم، فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله «1» . وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحا يصيح: إن محمدا قد قتل. فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية، أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكينا، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي- رأس المنافقين- ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان. ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم

_ (1) صحيح البخاري 1/ 539، 2/ 581، وفتح الباري 7/ 351، 362، 363 وذكر غير البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أراد أن يديه. فقال حذيفة: تصدقت بديته على المسلمين، فزاد ذلك حذيفة خيرا عند النبي صلّى الله عليه وسلم. انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 246.

قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته- بعد نهاية المعركة- ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم «1» . ونادى ثابت بن الدحداح قومه، فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم، حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه «2» . ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم «3» . وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلّى الله عليه وسلم كذب مختلق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة. وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعمل التطويق في بدايته، وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم رضي الله عنهم كانوا في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة- عليه الصلاة والسلام والتحية- صاروا في مقدمة المدافعين.

_ (1) زاد المعاد 2/ 93، 96 صحيح البخاري 2/ 579. (2) السيرة الحلبية 2/ 22. (3) زاد المعاد 2/ 96.

احتدام القتال حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

احتدام القتال حول رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: وبينما كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، تطحن بين شقي رحى المشركين، كان العراك محتدما حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدأوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين: هلم إليّ، أنا رسول الله، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف، ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة. روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لصاحبيه- أي القرشيين- ما أنصفنا أصحابنا «1» . وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط «2» . أحرج ساعة في حياة الرسول- صلّى الله عليه وسلم-: وبعد سقوط بن السكن بقي الرسول صلّى الله عليه وسلم في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد (بن أبي وقاص) «3» وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلّى الله عليه وسلم وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمت شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري، فشجه في

_ (1) صحيح مسلم، باب غزوة أحد 2/ 107. (2) وبعد لحظة فاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فئة من المسلمين فأجهضوا الكفار عن عمارة، وأدنوه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (ابن هشام 2/ 81) . (3) صحيح البخاري 1/ 527، 2/ 581.

جبهته. وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قمئة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، شكا لأجلها أكثر من شهر، إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلّى الله عليه وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم له وهو يمسح الدم عن وجهه: أقمأك الله «1» . وفي الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» . وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ: اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله، ثم مكث ساعة ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون «3» . وكذا في صحيح مسلم أنه كان يقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون «4» ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون «5» . ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا- وهما اثنان فحسب- سبيلا إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب، فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلّى الله عليه وسلم كنانته، وقال: ارم فداك أبي وأمي «6» . ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد 7.

_ (1) وقد سمع الله دعاء رسوله صلّى الله عليه وسلم، فعن ابن عائذ أن ابن قمئة «انصرف إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذروة جبل، فدخل فيها، فشد عليه تيسها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع (فتح الباري 7/ 373) وعند الطبراني فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة (فتح الباري 7/ 366) . (2) صحيح البخاري 2/ 582، وصحيح مسلم 2/ 108. (3) فتح الباري 7/ 373. (4) صحيح مسلم باب غزوة أحد 2/ 108. (5) كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 81. (6- 7) صحيح البخاري 1/ 407، 2/ 580، 581.

وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمع المشركين حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار. قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: من للقوم، فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحدا بعد واحد بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة، قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسّ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، قال: ثم رد الله المشركين «1» . ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعا وثلاثين، أو خمسا وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها «2» . وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد «3» . وروى الترمذي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: «من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» «4» . وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة «5» . وقال فيه أبو بكر أيضا: يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ... لك الجنان وبوأت المها العينا «6» وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي الصحيحين عن سعد. قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي رواية يعني جبريل وميكائيل «7» .

_ (1) فتح الباري 7/ 361، وسنن النسائي 2/ 52، 53. (2) نفس المصدر الأول 7/ 361. (3) صحيح البخاري 1/ 527، 2/ 581. (4) مشكاة المصابيح 2/ 566، ابن هشام 2/ 86. (5) فتح الباري 7/ 361. (6) مختصر تاريخ دمشق 7/ 82 (من هامش شرح شذور الذهب ص 114) . (7) صحيح البخاري 2/ 580.

بداية تجمع الصحابة حول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:

بداية تجمع الصحابة حول الرسول- صلّى الله عليه وسلم-: وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة. وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلّى الله عليه وسلم- الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال- لم يكادوا يرون تطور الموقف، أو يسمعون صوته صلّى الله عليه وسلم، حتى أسرعوا إليه؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات- وستة من الأنصار قد قتلوا، والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح- فلما وصلوا أقاموا حوله سياجا من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماتهم. وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه. روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه، قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «دونكم أخاكم فقد أوجب» ، وقد رمي النبي صلّى الله عليه وسلم في وجنته، حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فأخذ بفيه، فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم استلّ السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، قال فأخذه فجعل ينضضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «دونكم أخاكم، فقد أوجب» ، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة «1» . (وهذا أيضا يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم في الكفاح والنضال) . وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلّى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين، منهم أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري. وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وسهل بن حنيف، وأبو طلحة.

_ (1) زاد المعاد 2/ 95.

تضاعف ضغط المشركين:

تضاعف ضغط المشركين: كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم، وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجحشت ركبته، وأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وقال نافع بن جبير: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا، فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله ابن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع. فخرجنا أربعة. فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك «1» . البطولات النادرة: وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيرا. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو. قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: «انثرها لأبي طلحة» . قال: ويشرف النبي صلّى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك «2» . وعنه أيضا قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلّى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلّى الله عليه وسلم، فينظر إلى موقع نبله «3» . وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك. وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص- الذي كسر الرباعية الشريفة- فضربه

_ (1) زاد المعاد 2/ 97. (2) صحيح البخاري 2/ 581. (3) نفس المصدر 1/ 406.

إشاعة مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثره على المعركة:

بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه. وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه- عتبة هذا- إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب. وكان سهل بن حنيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها «1» ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدهما. وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج. وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلّى الله عليه وسلم حتى أنقاه. فقال: «مجه» . فقال: والله لا أمجه أبدا. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقتل شهيدا» . وقاتلت أم عمارة، فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحا أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة حتى أصابها اثنا عشر جرحا. وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلّى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله- لشبهه به- فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح: إن محمدا قد قتل «2» . إشاعة مقتل النبي- صلّى الله عليه وسلم- وأثره على المعركة: ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلّى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين

_ (1) سيتها: ما عطف من طرفيها. (2) انظر ابن هشام 2/ 73، 80، 81، 82، 83، وزاد المعاد 2/ 97.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يواصل المعركة وينقذ الموقف:

وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يواصل المعركة وينقذ الموقف: ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل قتالا شديدا، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون. وحينئذ استطاع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم، فعرفه كعب بن مالك- وكان أول من عرفه- فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن أصمت؛ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون. إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون، حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلا من الصحابة. وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام. تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة- أحد فرسان المشركين- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا. وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمواجهته. إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصمة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذفف عليه، وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم. وعطف عبد الله بن جابر- فارس آخر من فرسان مكة- على الحارث بن الصمة، فضرب بالسيف على عاتقه، فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة- البطل المغامر ذو العصابة الحمراء- على عبد الله بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه. وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه

مقتل أبي بن خلف:

القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه «1» . وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة- في انسحاب منظم- إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقا إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلّى الله عليه وسلم. مقتل أبي بن خلف: قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا؟. فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: دعوه. فلما دنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ- تدحرج- منها عن فرسه مرارا، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني والله محمد. قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك «2» فوالله لو بصق عليّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون به إلى مكة «3» ، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: أنه كان يخور خوار الثور ويقول: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعا «4» . طلحة ينهض بالنبي- صلّى الله عليه وسلم-: وفي أثناء انسحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها

_ (1) صحيح البخاري 2/ 582. (2) وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما كان بمكة كان يلقاه أبي هذا، فيقول: يا محمد إن عندي العود فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة، أقتلك عليه، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بل أنا أقتلك إن شاء الله. (3) ابن هشام 2/ 84، زاد المعاد 2/ 97. (4) مختصر سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله النجدي ص 250.

آخر هجوم قام به المشركون:

ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدّن وظاهر بين الدرعين، وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة «1» ، أي الجنة. آخر هجوم قام به المشركون: ولما تمكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب؛ قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل- يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل «2» . وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد: أجبنهم- يقول: ارددهم- فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثا، فأخذ سعد سهما من كنانته، فرمى به رجلا فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي. فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه «3» . تشويه الشهداء: وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلّى الله عليه وسلم. ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئا- بل كانوا على شبه اليقين من قتله- رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم- وكذا اشتغلت نساؤهم- بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون، وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدما- خلاخيل- وقلائد «4» .

_ (1) ابن هشام 2/ 86. (2) نفس المصدر. (3) زاد المعاد 2/ 95. (4) ابن هشام 2/ 90.

مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة:

مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة: وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان، تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدى استماتتهم في سبيل الله. 1- قال كعب بن مالك: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم «1» ، وإذا رجل من المسلمين ينتظره، وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة «2» . 2- جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قال أنس: لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وأنهما لمشمرتان- أرى خدم سوقهما- تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنهما، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم «3» . وقال عمر: كانت (أم سليط) تزفر لنا القرب يوم أحد «4» . وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، إنها لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم: هاك المغزل، وهلم سيفك. ثم سارعت إلى ساحة القثال، فأخذت تسقي الجرحى، فرماها حبان (بالكسر) ابن العرقة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقيا حتى تكشف، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته «5» .

_ (1) أي استجمعوا وانضموا. (2) البداية والنهاية 4/ 17. (3) صحيح البخاري 1/ 403، 2/ 581. (4) نفس المصدر 1/ 401. (5) السيرة الحلبية 2/ 22.

بعد انتهاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الشعب:

بعد انتهاء الرسول- صلّى الله عليه وسلم- إلى الشعب: ولما استقر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مقره من الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملأ درقته ماء من المهراس- قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيرا وقيل: اسم ماء بأحد- فجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه «1» . وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم «2» . وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبي صلّى الله عليه وسلم، ودعا له بخير «3» ، وصلى الظهر قاعدا من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعودا «4» . شمائة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر: ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه- وكان النبي صلّى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة- ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم قال: اعل هبل. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.

_ (1) ابن هشام 2/ 85. (2) صحيح البخاري 2/ 584. (3) السيرة الحلبية 2/ 30. (4) ابن هشام 2/ 87.

مواعدة التلاقي في بدر:

ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم. ثم قال أبو سفيان: أنعمت فعال، يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجاب عمر، وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. ثم قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر «1» . مواعدة التلاقي في بدر: قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد «2» . التثبت من موقف المشركين: ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة.. وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة «3» . تفقد القتلى والجرحى: وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش. قال زيد بن ثابت: بعثني رسول

_ (1) ابن هشام 2/ 93، 94، زاد المعاد 2/ 94، صحيح البخاري 2/ 579. (2) ابن هشام 2/ 94. (3) ابن هشام 2/ 94، وفي فتح الباري أن الذي خرج في آثار المشركين هو سعد بن أبي وقاص (7/ 347) .

الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة: ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته «1» . ووجدوا في الجرحى الأصيرم- عمرو بن ثابت- وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط «2» . ووجدوا في الجرحى قزمان- وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين- وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون فقال: والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر له، إنه من أهل النار «3» - وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوى إعلاء كلمة الله، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة. وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه: يا معشر يهود والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد، يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود «4» .

_ (1) زاد المعاد 2/ 96. (2) نفس المصدر 2/ 94، وابن هشام 2/ 90. (3) نفس المصدر الأول 2/ 97، 98، وابن هشام 2/ 88. (4) ابن هشام 2/ 88، 89.

جمع الشهداء ودفنهم:

جمع الشهداء ودفنهم: وأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الشهداء، فقال: أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يدمى جرحه اللون لون الدم، والريح ريح المسك «1» . وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فأمر أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم، وأن لا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود، وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة «2» . وفقدوا نعش حنظلة، فتفقدوه، فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر. ومن هنا سمي حنظلة: غسيل الملائكة «3» . ولما رأى ما بحمزة- عمه وأخيه من الرضاعة- اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها، لا ترى ما بأخيها، فقالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه- دعت له- واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد الله بن جحش- وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة. قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء «4» والنشع: الشهيق.

_ (1) نفس المصدر 2/ 98. (2) زاد المعاد 2/ 98، وصحيح البخاري 2/ 584. (3) زاد المعاد 2/ 94. (4) رواه ابن شاذان، انظر مختصر سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله النجدي ص 255.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يثني على ربه عز وجل ويدعوه:

وكان منظر الشهداء مريعا جدا يفتت الأكباد. قال خباب: (إن) حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر «1» . وقال عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وروي مثل ذلك عن خباب، وفيه «فقال لنا النبي صلّى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر» «2» . الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يثني على ربه عز وجل ويدعوه: روى الإمام أحمد، لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت. اللهم: ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول. اللهم: إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق «3» . الرجوع إلى المدينة، ونوادر الحب والتفاني: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه انصرف راجعا إلى

_ (1) رواه أحمد، مشكاة المصابيح 1/ 140. (2) صحيح البخاري 2/ 579، 584. (3) رواه البخاري في الأدب المفرد، والإمام أحمد في مسنده 3/ 424.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة:

المدينة، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة. لقيته في الطريق حمنة بنت جحش، فنعى إليها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن زوج المرأة منها لبمكان «1» . ومر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليها، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل- تريد صغيرة «2» . وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله أمي، فقال: مرحبا بها. ووقف لها. فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذ رأيتك سالما، فقد اشتويت المصيبة (أي استقللتها) . ثم دعا لأهل من قتل بأحد وقال: يا أم سعد أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعا. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا «3» . الرسول- صلّى الله عليه وسلم- في المدينة: وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مساء ذلك اليوم- يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3 هـ- إلى المدينة. فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقني اليوم. وناولها علي بن أبي طالب سيفه، فقال: وهذا أيضا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة «4» .

_ (1) ابن هشام 2/ 98. (2) نفس المصدر 2/ 99. (3) السيرة الحلبية 2/ 47. (4) ابن هشام 2/ 100.

قتلى الفريقين:

قتلى الفريقين: اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلا، واحد وأربعون من الخزرج، وأربع وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود. وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط. وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلا، ولكن الإحصاء الدقيق- بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال- يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون. والله أعلم «1» . حالة الطوارىء في المدينة: بات المسلمون في المدينة- ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع عن معركة أحد- وهم في حالة الطوارىء، باتوا- وقد أنهكهم التعب، ونال منهم أي منال- يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة، إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب. غزوة حمراء الأسد: وبات الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو يفكر في الموقف، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال، فلا بد من أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي. قال أهل المغازي ما حاصله: إن النبي صلّى الله عليه وسلم نادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو- وذلك صباح الغد من معركة أحد، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ- وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد، والخوف المزيد، وقالوا: سمعا وطاعة،

_ (1) انظر ابن هشام 2/ 122، 123، 124، 125، 126، 127، 128، 129، فتح الباري 7/ 351، وغزوة أحد لمحمد أحمد باشميل ص 278، 279، 280.

واستأذنه جابر بن عبد الله، وقال: يا رسول الله، إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي، أسير معك، فأذن له. وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون معه، حتى بلغوا حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة فعسكروا هناك. وهناك أقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم- ويقال: بل كان على شركه، ولكنه كان ناصحا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف، فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك- فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فيخذله. ولم يكن ما خافه رسول الله صلّى الله عليه وسلم من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقا، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفنتهم. ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيا ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديرا صحيحا، ولذلك خالفهم زعيم مسئول «صفوان بن أمية» قائلا: يا قوم، لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج- أي من المسلمين في غزوة أحد- فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة، وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة، ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي، ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد- وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة-: محمد، قد خرج في أصحابه، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال أبو سفيان: ويحك، ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل- أو- حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة.

فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل، فإني ناصح. وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي، وأخذه الفزع والرعب، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة. بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، وطبعا فهو ينجح في الاجتناب عن لقائه، فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم. قال: فأبلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الكرة؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه. فمر الركب برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قاله أبو سفيان، وقالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم- أي زاد المسلمين قولهم ذلك- إيمانا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحمراء الأسد بعد- مقدمه يوم الأحد- الإثنين والثلاثاء والأربعاء- 9/ 10/ 11 شوال سنة 3 هـ- ثم رجع إلى المدينة. وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الرجوع إلى المدينة أبا عزة الجمحي- وهو الذي كان قد منّ عليه من أسارى بدر؛ لفقره وكثرة بناته، على أن لا يظاهر عليه أحدا، ولكنه نكث وغدر، فحرض الناس بشعره على النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين كما أسلفنا، وخرج لمقاتلتهم في أحد- فلما أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يا محمد أقلني، وامنن علي، ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا أن لا أعود لمثل ما فعلت، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه. كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، جد عبد الملك بن مروان لأمه، وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاستأمن له عثمان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمنه على أنه إن وجد بعد

ثلاث قتله، فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش، فلما رجع الجيش خرج معاوية هاربا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فتعقباه حتى قتلاه «1» . ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة، إنما هي جزء من غزوة أحد وتتمة لها، وصفحة من صفحاتها. تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها، وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة، هل كانت هزيمة أم لا؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعا، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي، لكن هناك أمورا تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح. فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجىء إلى الفرار- مع الارتباك الشديد والفوضى العامة- بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحدا من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوما أو يومين أو ثلاثة أيام- كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان- بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتال، قبل أن يتركها المسلمون، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب، وكانت مفتوحة وخالية تماما. كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة، نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي

_ (1) أخذنا تفصيل غزوة أحد، وحمراء الأسد من ابن هشام 2/ 60 إلى 129، وزاد المعاد 2/ 91 إلى 108، وفتح الباري 7/ 345 إلى 377 مع صحيح البخاري، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي من ص 242 إلى 257، وقد أحلنا على المصادر الأخرى في مواضعها.

القران يتحدث حول موضوع المعركة:

بعد عمل التطويق- وكثيرا ما يلقى الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون- أما أن ذلك كان نصرا وفتحا فكلا وحاشا. بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف؛ أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال، ويزداد ذلك تأكدا حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد. وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حربا غير منفصلة، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة، ثم حاد كل منهما عن القتال، من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو، وهذا هو معنى الحرب غير المنفصلة. وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ (4: 104) فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في وإيقاع الألم، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب. القران يتحدث حول موضوع المعركة: ونزل القرآن يلقي ضوءا على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة، ويدلي بتعليقات تصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة، وأبدى النواحي الضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبة إلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة، وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه الأمة، التي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس. كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين، ففضحهم، وأبدى ما كان في باطنهم من العداوة لله ولرسوله، مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج بقلوب ضعفاء المسلمين، والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود- أصحاب الدس والمؤامرة- وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة. نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدىء بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ (3: 121) وتترك في نهايتها تعليقا جامعا على نتائج هذه المعركة وحكمتها قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ

الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة:

عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3: 179) . الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة: قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطا تاما «1» . وقال ابن حجر: قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا منه. ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس، وكسرا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين «2» .

_ (1) انظر زاد المعاد 2/ 99 إلى 108. (2) فتح الباري 7/ 347.

العبر والدلالات والعظات والدروس

العبر والدلالات والعظات والدروس 1- تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي. وأن الطاعة هي قوام النظام في كل جيوش العالم، فإذا ما انعدمت الطاعة فسدت الخطة، وصار الأمر فوضى وخسرانا. 2- عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة، فلو أنهم انتصروا دائما، دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولما تميز الصادق من غيره. فاقتضت الحكمة الجمع بين النصر وتأخيره، ليتميز الصادق من الكاذب. ولو قطع الله كل يد امتدت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حينه، لما بقي إسلام بعده، ولا صبر داعية، ولا تحمل مسلم، ولقيل: إن الله لم ينتصر لنا كما انتصر لنبيه. فتحمله صلّى الله عليه وسلم أسوه وقدوة لتحمل الدعاة المجاهدين من بعده، فتأخير النصر في بعض المواطن حكمة، فهو لتربية النفوس ولكسر شموخها وتعاظمها، فلما كان الابتلاء والامتحان صبر المؤمنون، وجزع النافقون. 3- حنكة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحربية، وبراعته العسكرية، وتقديره الدقيق للموقف، مع سرعة في اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب، مع السيطرة التامة على سير الأحداث. فالتفاف جيش خالد كان كافيا لإفناء جيش المسلمين، وتحطيم كل قواته وعتاده. فجاءت الحنكة والاتزان والهدوء، بفك الطوق والانسحاب المنظم إلى جبل أحد. فاستطاع النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجعل الخسارة أقل ما يكون. إن الافلات من عواقب الانكسار الشنيع عمل لا يقل- في خطره وعظمته- عن الانتصار الأول. 4- تبختر أبي دجانة، يدل على أن بعض مظاهر الكبر المحرمة في الأحوال العامة تزول حرمتها في حالات الحرب.

5- كان لشيوع خبر مقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صفوف المسلمين، فائدة عظمته، وهي أن ارتباط المسلمين برسول الله صلّى الله عليه وسلم ووجوده فيما بينهم كان له من القوة بحيث لم يكونوا يتصورون فراقه. ولم يكونوا يتخيلون قدرة لهم على التمسك من بعده. فكان من الحكمة الباهرة شيوع هذا الخبر كي يستفيق المسلمون إلى الحقيقة التي ينبغي أن يوطنوا أنفسهم لها منذ الساعة، وأن لا يرتدوا على أعقابهم إذا وجدوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اختفى ما بينهم، قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران 144] . 6- الإيمان الكامل بالله ورسوله، والمحبة التامة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، كانا هما سبب التضحية الرائعة، من قبل الصحابة الذين كانوا يتساقطون الواحد منهم إثر الآخر تحت وابل السهام، وهم في نشوة عارمة، وكلهم حرص على حفظ حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب

السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهم عن النفوس، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين، وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم، وتستأصل شأفتهم. فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة، ثم قامت قبائل عضل وقارة في شهر صفر سنة 4 هـ بمكيدة، سببت في قتل عشرة من الصحابة، وفي نفس الشهر قامت بنو عامر بمكيدة مثلها، سببت في قتل سبعين من الصحابة، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر معونة، ولم تزل بنو نضير خلال هذه المدة تجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأول سنة 4 هـ بمكيدة تهدف إلى قتل النبي صلّى الله عليه وسلم، وتجرأت بنو غطفان، حتى همت بالغزو على المدينة في جمادى الأولى سنة 4 هـ. فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين- إلى حين- يهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد صلّى الله عليه وسلم التي صرفت وجوه التيارات وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبت لهم العلو والمجد من جديد، وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها مقدارا كبيرا من سمعة جيشه، واستعاد بها من هيبتهم ومكانتهم ما ألقى اليهود والمنافقين في الدهش والذهول، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم، بل زادت فيها، وفي الصفحة الآتية شيء من تفاصيلها: سرية أبي سلمة: أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلت استخبارات

بعث عبد الله بن أنيس:

المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما، يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فسارع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلا من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة وعقد له لواء، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم، فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حربا. كان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4 هـ، وعاد أبو سلمة وقد نغر عليه جرح كان قد أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات «1» . بعث عبد الله بن أنيس: وفي اليوم الخامس من نفس الشهر- المحرم سنة 4 هـ- نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليقضي عليه. وظل عبد الله بن أنيس غائبا عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالدا وجاء برأسه، فوضعه بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم، فأعطاه عصا، وقال: «هذه آية بيني وبينك يوم القيامة، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه» «2» . بعث الرجيع: وفي شهر صفر من نفس السنة- أي الرابعة من الهجرة- قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوم من عضل وقارة. وذكروا أن فيهم إسلاما. وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر- في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة- وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي- في قول ابن إسحاق وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب- فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع- وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز

_ (1) زاد المعاد 2/ 108. (2) نفس المصدر 2/ 109، وابن هشام 2/ 619، 620.

بين رابغ وجدة- استصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقرب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم- وكانوا قد لجأوا إلى فدفد- وقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا. فأما عاصم فأبى من النزول، وقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى، فنزلوا إليهم، ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر، فأما خبيب فمكث عندهم مسجونا، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أزمعوا على صلبه قال: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم قال: لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد بؤس مطعمي وقد خيروني الكفر والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مدمع ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مضجعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه. ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلا، فذهب به فدفنه، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث وكان خبيب قد قتل أباه حارثا يوم بدر. وفي الصحيح أن خبيبا أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قطفا من العنب، وما بمكة تمرة.

مأساة بئر معونة:

واما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه- وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر- فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر- الزنابير- فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا، وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته «1» . مأساة بئر معونة: وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة. وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك (المدعو بملاعب الأسنة) قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك؛ لرجوت أن يجيبوهم، فقال: «إني أخاف عليهم أهل نجد» ، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلا- في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح- وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمعتق ليموت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة- وهي أرض بين بني عامر وحرة وبني سليم- فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلا فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة. ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصية ورعل وذكوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد بن النجار، فإنه ارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين، فرأيا الطير تحوم

_ (1) ابن هشام 2/ 169 إلى 179، وزاد المعاد 2/ 109، صحيح البخاري 2/ 568، 569، 585.

غزوة بني النضير:

على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه. ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلّى الله عليه وسلم حاملا معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة. ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقرقرة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما فعل، فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود «1» ، وهذا الذي صار سببا لغزوة بني النضير كما سيذكر. وقد تألم النبي صلّى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة «2» تألما شديدا، وتغلب عليه الحزن والقلق «3» ، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، ففي الصحيح عن أنس قال: دعا النبي صلّى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول: «عصية عصت الله ورسوله» ، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد «بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم قنوته «4» . غزوة بني النضير: قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين، إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعا من الحيل، لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال، مع ما كان بينهم وبين

_ (1) انظر ابن هشام 2/ 183 إلى 188، وزاد المعاد 2/ 109، 110، صحيح البخاري 2/ 584، 586. (2) ذكر الواقدي أن خبر أصحاب الرجيع وخبر أصحاب بئر معونة أتى النبي صلّى الله عليه وسلم في ليلة واحدة. (3) روى ابن سعد عن أنس ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة «مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 260» . (4) البخاري 2/ 586، 587، 588.

المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع، وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم، فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت. ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سرا، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين «1» . وصبر النبي صلّى الله عليه وسلم، حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلّى الله عليه وسلم. وبيان ذلك أنه صلّى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري- وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة- فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظرون وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه. وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ ... فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، لكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم. ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلّى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعا، وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همت به يهود. وما لبث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم: اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه. ولم يجد يهود مناصا من الخروج، فأقاموا أياما يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين- عبد الله بن أبي- بعث إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما

_ (1) يؤخذ ذلك مما رواه أبو داود في باب خبر النضير 3/ 116، 117 «عون المعبود شرح سنن أبي داود» .

قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. ولا شك أن الموقف كان حرجا بالنسبة إلى المسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كلب العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفا بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفرادا، وضاعفت نقمتهم على مقتر فيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير- بعد همهم باغتيال الرسول صلّى الله عليه وسلم- مهما تكن النتائج.. فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وسار إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار. والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونا لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير البويرة: اسم لنخل بني النضير، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ (59: 5) . واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرا، أو يدفع عنهم شرا، ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم، وجعل مثلهم: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ (59: 16) . ولم يطل الحصار- فقد دام ست ليال فقط، وقيل: خمس عشرة ليلة- حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للاستسلام ولإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح.

غزوة نجد:

فنزلوا على ذلك، وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك، بل حتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما. وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. وكانت أموال بني النضير وديارهم خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، يضعها حيث يشاء، ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، أغسطس 625 م وأنزل الله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثنى على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصى المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته. وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر: قل: سورة النضير «1» . غزوة نجد: وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون- في غزوة بني النضير- دون تضحيات توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهرة بكيدهم، وأمكن الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد، وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران «2» ، وبلغت بهم الجرأة إلى أن أرادوا القيام بجر غزوة على المدينة.

_ (1) ابن هشام 2/ 190، 191، 192، زاد المعاد 2/ 71، 110، صحيح البخاري 2/ 574، 575. (2) كلمة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 214.

غزوة بدر الثانية:

فقبل أن يقوم النبي صلّى الله عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، فسارع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة؛ حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين. وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال. وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين. وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزوة معينة غزاها المسلمون في أرض نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادى الأولى سنة 4 هـ، ويسمون هذه الغزوة بغزوة ذات الرقاع. أما وقوع الغزوة خلال هذه المدة فلا شك فيه. وهذا الذي كانت تقتضيه ظروف المدينة، فإن موسم غزوة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين انصرافه من أحد كان قد اقترب، وإخلاء المدينة، مع ترك البدو والأعراب على تمردهم وغطرستهم، والخروج لمثل هذا اللقاء الرهيب- لم يكن من مصالح سياسة الحروب قطعا، بل كان لا بد من خضد شوكتهم، وكف شرهم قبل الخروج لمثل هذه الحرب الكبيرة التي كانوا يتوقعون وقوعها في رحاب بدر. وأما أن تلك الغزوة التي قادها الرسول صلّى الله عليه وسلم في ربيع أو جمادى الأولى سنة 4 هـ هي غزوة الرقاع فلا يصح، فإن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما. وكان إسلام أبي هريرة قبل غزوة خيبر بأيام، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وافى النبي صلّى الله عليه وسلم بخيبر. وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيبر، ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى فيها صلاة الخوف، وكانت أول شرعية صلاة الخوف في غزوة عسفان، ولا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق، وكانت غزوة الخندق في أواخر السنة الخامسة. غزوة بدر الثانية: ولما خضد المسلمون شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام، وحضر الموعد المضروب مع قريش- في غزوة أحد- وحق

غزوة دومة الجندل:

لمحمد صلّى الله عليه وسلم وصحبه أن يخرجوا؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى، حتى يستقر الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما بالبقاء «1» . ففي شعبان سنة 4 هـ يناير سنة 626 م، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة وانتهى إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين. وأما أبو سفيان، فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرسا، حتى انتهى إلى مر الظهران على بعد مرحلة من مكة فنزل بمجنة- ماء في تلك الناحية. خرج أبو سفيان، من مكة متثاقلا، يفكر في عقبى القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب، واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضا، فقد رجع الناس ولم يبدوا أي مصادمة لهذا الرأي وأي إصرار وإلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين. وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس وسادوا على الموقف. وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة وبدر الصغرى «2» . غزوة دومة الجندل: عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بدر، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصى حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف، ويعترف بذلك الموالون والمعادون.

_ (1) كلمة محمد الغزالي في فقه السيرة 315. (2) انظر لتفصيل هذه الغزوة ابن هشام 2/ 209، 210، زاد المعاد 2/ 112.

مكث بعد بدر الصغرى في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل- قريبا من الشام- تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعا كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5 هـ، وأخذ رجلا من بني عذرة دليلا للطريق يقال له مذكور. خرج يسير الليل ويكمن النهار؛ حتى يفاجىء أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب. وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدا، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم أياما، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحدا، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن، ودومة بالضم، موضع معروف بمشارف الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة. بهذه الإقدامات السريعة الحاسمة، وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلّى الله عليه وسلم في بسط الأمن، وتنفيذ السلام في المنطقة والسيطرة على الموقف، وتحويل مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم، وأحاطتهم من كل جانب، فقد سكت المنافقون واستكانوا، وتم إجلاء قبيلة من اليهود، وبقيت الأخرى تظاهر بإيفاء حق الجوار وبإيفاء العهود والمواثيق، واستكانت البدو والأعراب، وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين، ووجد المسلمون فرصة لإفشاء الإسلام وتبليغ رسالات رب العالمين.

غزوة الأحزاب

غزوة الأحزاب عاد السلام والأمن، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعثات التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود- الذين كانوا قد ذاقوا ألوانا من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم- لم يفيقوا من غيهم، ولم يستكينوا ولم يتعظوا بما أصابهم نتيجة الغدر والتآمر، فبعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين نتيجة المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين. ولما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتمخضت الليالي والأيام عن بسط نفوذهم، وتوطد سلطانهم، تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق. وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدة، لتهيئة ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها. ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على مناورة المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة. خرج عشرون رجلا من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وقريش قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها. ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشا، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلّى الله عليه وسلم ودعوته والمسلمين. وفعلا خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة- وقائدهم أبو سفيان- في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت من الشرق قبائل غطفان: بنو فزارة،

يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مره، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع يقودهم مسعر بن رخيلة كما خرجت بنو أسد وغيرها. واتجهت هذه الأحزاب، وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه. وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ. ولو بلغت هذه الأحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطر على كيان المسلمين مما يقاس، ربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة، تتجسس الظروف، وتقدر ما يتمخض عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير. وسارع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى، اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه. قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا- وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك-. وأسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعا. وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا، ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا «1» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للمهاجرين والأنصار «2» وعن أنس: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم. فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:

_ (1) أكتادنا: بالمثناة جمع كتد وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. (2) صحيح البخاري باب غزوة الخندق 2/ 588.

اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «1» وفيه عن البراء بن عازب قال: رأيته صلّى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب، ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا قال: ثم يمد بها صوته بآخرها، وفي رواية: إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا «2» كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع، ما يفتت الأكباد قال أنس: (كان أهل الخندق) يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة «3» توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن. وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن حجرين «4» . وبهذه المناسبة وقع في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأى جابر بن عبد الله في النبي صلّى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فذبح بهيمة وطحنت امرأته صاعا من شعير ثم التمس من رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرا أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلّى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت برمة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما

_ (1) نفس المصدر. (2) نفس المصدر 2/ 589. (3) نفس المصدر 2/ 588. والإهالة: الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتا أو سمنا أو شحما سنخة: أي تغير طعمها ولونها من قدمها. (4) رواه الترمذي مشكاة المصابيح 2/ 448.

هو «1» . وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغدى أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلّى الله عليه وسلم فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه. وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب «2» . وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر- ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقا- فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم «3» ، أي صار رملا لا يتماسك. وقال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني «4» . وروى ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه «5» . ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوى الشمال، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلم كخبير عسكري حاذق أن زحف مثل هذا الجيش الكبير، ومهاجمة المدينة- لا يمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذا الجانب. وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في

_ (1) روى ذلك البخاري 2/ 588، 589. (2) ابن هشام 2/ 218. (3) صحيح البخاري 2/ 588. (4) سنن النسائي 2/ 56، وأحمد في مسنده واللفظ ليس للنسائي، وفيه عن رجل من الصحابة. (5) ابن هشام 2/ 219.

المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة «1» . وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزعابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (33: 22) . وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (33: 12) . وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار. وكان شعارهم «حم لا ينصرون» ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة. ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقا عريضا يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة- كما قالوا- مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأسا. وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابا، يتحسسون نقطة ضعيفة؛ لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به طريقا يمكنهم من العبور. وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له علي بن أبي طالب، وقال

_ (1) نفس المصدر 3/ 330، 331.

كلمة حمي لأجلها- وكان من شجعان المشركين وأبطالهم- فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ، فتجاولا وتصاولا، حتى قتله علي رضي الله عنه، وانهزم الباقون حتى اقتحموا من الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو. وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة، لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم. ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش. فقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها» ، فنزلنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب «1» . وقد استاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، ففي البخاري عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق: ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس «2» . وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فصلاهن جميعا. قال النووي: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. انتهى «3» . ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين دامت أياما، إلا أن الخندق لما كان حائلا بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر وحرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة. وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع ستة من المسلمين وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف.

_ (1) صحيح البخاري 2/ 590. (2) نفس المصدر. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 287، وشرح مسلم للنووي 1/ 227.

وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكحل، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، فدعا سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم؛ حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها «1» . وقال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة «2» . وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم. انطلق كبير مجرمي بني النضير إلى ديار بني قريظة، فأتى كعب بن أسد القرظي- سيد بني قريظة، وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب كما تقدم- فضرب عليه حيي الباب، فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين «3» . وفعلا قد قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب. قال ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت

_ (1) صحيح البخاري 3/ 591. (2) ابن هشام 3/ 337. (3) ابن هشام 2/ 220، 221.

صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. قال: والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت «1» ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن، وقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سليه إلا أنه رجل. قال: ما لي بسلبه من حاجة «2» . وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول الله صلّى الله عليه وسلم أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي- مع أنها كانت خالية عنهم تماما- فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملا. وانتهى الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحققه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، وخوات بين جبير، وقال: «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس» . فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد. فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا: عضل وقارة، أي أنهم على غدر، كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع.

_ (1) احتجزت: شدت وسطها. (2) ابن هشام 2/ 228. يحمل هذا الحديث على أن حسانا كان جبانا، وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره، وذلك أن الحديث منقطع الإسناد، ولو صح لهجي به حسان، وإن صح الحديث فربما كان حسان معتلا في ذلك اليوم، وهذا أولى ما تأول.

وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب. وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (33: 10، 11) ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال: كان محمدا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه: إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، وحتى همت بنو سلمة بالفشل وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (33: 12، 13) . أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلا، حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل، فنهض يقول: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره» ، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة؛ لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لا بد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقا لهذا الهدف أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة؛ حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة على قريش التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مرارا، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على انسرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فصوّب رأيهما وقال: «إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» .

ثم إن الله عز وجل- وله الحمد- صنع أمرا من عنده خذل به العدو، وهزم جموعهم، وفل حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي- رضي الله عنه- جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة» ، فذهب من فوره إلى بني قريظة- وكان عشيرا لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدا فانتقم منكم، قالوا فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت من شوال- سنة 5 هـ- بعثوا إلى اليهود: أنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم هو يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا. فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم. وكان المسلمون يدعون الله تعالى: «اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الأحزاب، قال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» «1» .

_ (1) صحيح البخاري كتاب الجهاد 1/ 411، وكتاب المغازي 2/ 590.

وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين، وسرى بينهم التخاذل، أرسل الله عليهم جندا من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها، ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جندا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظه لم ينالوا خيرا، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة. وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين شهرا أو نحو شهر، ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال، ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة. إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر؛ بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة، لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أجلى الله الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» «1» .

_ (1) صحيح البخاري 2/ 590.

الدروس والعبر

الدروس والعبر 1- إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب. فقتلى الفريقين يعدون على الأصابع، ومع تلك الحقيقة، فهي من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، إذ انتقل المسلمون بعدها من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم. 2- في حفر الخندق- المأخوذ من العجم- دلالة واضحة على أن الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجدها التقطها، بل هو أولى بها من غيره. وإن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة، تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله، والمبادىء الجيدة المفيدة، اينما لاح لهم ذلك، وحيثما وجد.

غزوة بني قريظة

غزوة بني قريظة وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله إلى المدينة، جاءه جبريل عليه السلام عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى الراية علي بن أبي طالب، وقدّمه إلى بني قريظة فسار علي حتى إذ دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار، حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها بئر أنا، وبادر المسلمون إلى امتثال أمره، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة، وأدركتهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، حتى أن رجالا منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة، وقال بعضهم: لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق، فلم يعنف واحدة من الطائفتين. هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالا، حتى تلاحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرسا، فنازلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم الحصار. ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسلموا، ويدخلوا مع محمد صلّى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم- وقد قال لهم: والله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم- وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بالسيوف مصلتين، يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ويكبسوهم يوم السبت؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث،

وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد (في انزعاج وغضب) : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمة ليلة واحدة من الدهر حازما. ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لبابة نستشيره، وكان حليفا لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم! وأشار بيده إلى حلقه، يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضى على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى أتى المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا. فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبره- وكان قد استبطأه- قال: أما أنه لو جاءني لا ستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم؛ لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وصاح على: يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم. وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن سلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. قالوا: قد رضينا.

فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة، لم يخرج معهم؛ للجرح الذي كان أصاب أكحله في معركة الأحزاب، فأركب حمارا، وجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون وهم كنفيه: يا سعد، أجمل في مواليك فأحسن فيهم، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم. ولما انتهى سعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال للصحابة: قوموا إلى سيدكم. فلما أنزلوه قالوا: يا سعد، إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك. قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم. قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ - وأعرض بوجهه، وأشار إلى ناحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما- قال: نعم وعليّ. قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات. وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع- كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفا وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس وحجفة، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم. وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالا أرسالا، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم. فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد: ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع؟ والذاهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، فضربت أعناقهم. وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم- وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام-. وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام

غزوة الأحزاب، فلما أتي به- وعليه حلة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يسلبها- مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يغالب الله يغلب. ثم قال: أيها الناس، لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة واحدة، كانت قد طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك. وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنبت، وترك من لم ينبت، فكان ممن لم ينبت عطية القرظي، فترك حيا، فأسلم، وله صحبة. واستوهب ثابت بن قيس الزبير بن باطا وأهله وماله- وكانت للزبير يد عند ثابت- فوهبهم له، فقال ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليّ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك. فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، واستحيا ثابت- من ولد الزبير بن باطا- عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم، وله صحبة. واستوهبت أم المنذر سلمى بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي، فوهبه لها، فاستحيته، فأسلم، وله صحبة. وأسلم منهم تلك الليلة نفر من قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم. وخرج تلك الليلة عمرو- وكان رجلا لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم- فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلى سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب. وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهما واحدا، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري، فابتاع بها خيلا وسلاحا. واصطفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، هذا ما قاله ابن إسحاق «1» وقال الكلبي: إنه صلّى الله عليه وسلم أعتقها، وتزوجها سنة 6 هـ، وماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها بالبقيع «2» .

_ (1) انظر ابن هشام 2/ 245. (2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 12.

ولما أتم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه- التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب- وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته. قالت عائشة: فانفجرت من لبته فلم يرعهم- وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا يأتينا من قبلكم، فإذا سعد يغذوا جرحه دما، فمات منها «1» . وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ «2» . وصحح الترمذي من حديث أنس: قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة كانت تحمله» «3» . قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين، وهو خلاد بن سويد، الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة، ومات في الحصار أبو سنان بن محصن أخو عكاشة. أما أبو لبابة، فأقام مرتبطا ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سحرا، وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها، وقالت لي: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما مر النبي صلّى الله عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. وقعت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة 5 هـ، ودام الحصار خمسا وعشرين ليلة «4» . وأنزل الله تعالى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، علق فيها على أهم جزئيات الوقعة بين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب، ونتائج الغدر من أهل الكتاب.

_ (1) صحيح البخاري 2/ 591. (2) صحيح البخاري 1/ 536، وصحيح مسلم 2/ 294، وجامع الترمذي 2/ 225. (3) جامع الترمذي 2/ 225. (4) ابن هشام 2/ 237، 238، وانظر لتفصيل هذه الغزوة ابن هشام 2/ 233 إلى 273 وصحيح البخاري 2/ 590، 591، زاد المعاد 2/ 72، 73، 74، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 287، 288، 289، 290.

غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع (في شعبان سنة 6 هـ)

غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع (في شعبان سنة 6 هـ) وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف، من حيث الوجهة العسكرية؛ إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والاضطراب في المجتمع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس. ونسرد الغزوة أولا، ثم نذكر تلك الوقائع. كانت هذه الغزوة في شعبان سنة ست من الهجرة على أصح الأقوال «1» . وسببها أنه بلغه صلّى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله، فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي؛ لتحقيق الخبر فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. وبعد أن تأكد لديه صلّى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على

_ (1) والدليل على ذلك ما ثبت في حديث الإفك من أن القضية كانت بعد ما أنزل الحجاب، وآية الحجاب نزلت في شأن زينب، وزينب إذ ذاك كانت تحته، فإنه صلّى الله عليه وسلم سألها عن عائشة فقالت: أحمي سمعي وبصري. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، وأما ما وقع في حديث الإفك من أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة تنازعا في أصحاب الإفك، ومعلوم أن سعد بن معاذ مات عقب غزوة بني قريظة، فالظاهر أن هذا وهم الراوي، فقد روى ابن إسحاق حديث الإفك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة، فلم يذكر فيه سعد بن معاذ بل ذكر أسيد بن حضير، قال أبو محمد بن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه، وذكر سعد بن معاذ وهم (وانظر زاد المعاد 2/ 115) والعجب من محمد الغزالي أنه نسب إلى ابن القيم أنه يعتبر هذه الغزوة من حوادث السنة الخامسة (فقه السيرة ص 223) مع أن كلامه في الهدي (2/ 115) يأبى عن ذلك.

دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق:

المدينة زيد بن حارثة، وقيل أبا ذر، وقيل نميلة بن عبد الله الليثي، وكان الحارث بن ضرار قد وجه عينا؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقى المسلمون عليه القبض وقتلوه. ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقتله عينه، خافوا خوفا شديدا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المريسيع- بالضم فالفتح مصغرا، اسم لماء من مياههم في ناحية قديد إلى الساحل- فتهيؤوا للقتال، وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة. وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظنا منه أنه من العدو. كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم: وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم كما في الصحيح: أغار رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وذكر الحديث «1» انتهى. وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتزوجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» . وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة؛ فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد الله بن أبي وأصحابه؛ نرى أن نورد أولا شيئا من أفعالهم في المجتمع الإسلامي. دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق: قدمنا مرارا أن عبد الله بن أبي كان يحنق على الإسلام والمسلمين، ولا سيما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنقا شديدا. لأن الأوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخرز؛ ليتوجوه إذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، كان يرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي استلبه ملكه.

_ (1) وانظر صحيح البخاري كتاب العتق 1/ 345، وانظر أيضا فتح الباري 7/ 341. (2) زاد المعاد 2/ 112، 113، ابن هشام 2/ 289، 290، 294، 295.

وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر به. ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرة على حمار؛ ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي، فخمر ابن أبي أنفه وقال: لا تغبروا علينا. ولما تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المجلس القرآن، قال: اجلس في بيتك، ولا تغشنا في مجلسنا «1» . وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر، لم يزل إلا عدوا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي، وتوهين كلمة الإسلام، وكان يوالي أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين، وإثارة الارتباك والفوضى في صفوفهم بما مضى. وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين، أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه، وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويخطب، وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يوم الجمعة التي بعد أحد- مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع- قام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي «2» . وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين، حتى قال لهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم. وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من: إثارة القلق والاضطراب، وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قد قص الله تعالى في سورة الأحزاب وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً إلى قوله يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ

_ (1) ابن هشام 1/ 584، 587. صحيح البخاري 2/ 924، وصحيح مسلم 2/ 9. (2) ابن هشام 2/ 105.

يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيدا أن سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي، وكثرة السلاح والجيوش والعدد؛ وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي، وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الذي هو المثل الأعلى- إلى حد الإعجاز- لهذه القيم. كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن بطريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حربا دعائية واسعة ضد هذا الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول أول هدف لهذه الدعاية. ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين. تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبي. وقد ظهرت خطتهم هذه جلية بعد غزوة الأحزاب، حينما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبنى مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبنى على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون ثلمتين- حسب زعمهم- لإثارة المشاغب ضد النبي صلّى الله عليه وسلم. الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟ الثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه- متبناه- فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب- وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصا وأساطير، قالوا: إن محمدا رآها بغتة، فتأثر بحسنها فشغفه حبا، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلى سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشرا بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد

دور المنافقين في غزوة بني المصطلق:

أثرت تلك الدعاية أثرا قويا في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات، فيها شفاء لما في الصدور، وينبىء عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (33: 1) . وهذه إشارات عابرة، وصورة مصغرة مما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر، إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخرى، حسب قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (9: 126) . دور المنافقين في غزوة بني المصطلق: ولما كانت غزوة بني المصطلق، وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلّى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها. 1. قول المنافقين: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزو مقيما على المريسيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له جهجاه الغفاري، فازدحم هو وسنان بن وبر الجهني على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة. وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب- وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث- وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا

ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مر عباد بن بشر فليقتله. فقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن أذن بالرحيل. وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحلت في ساعة منكرة؟ فقال له: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبته ملكا. ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض، فوقعوا نياما. فعل ذلك؛ ليشغل الناس عن الحديث. أما ابن أبي فلما علم. أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، فصدقه، قال زيد: فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا إلى لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فأرسل إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأها عليّ، ثم قال: إن الله قد صدقك «1» . وكان ابن هذا المنافق- وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي- رجلا صالحا من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء

_ (1) انظر صحيح البخاري 1/ 499، 2/ 727، 728، 729، وابن هشام 2/ 290، 291، 292.

2. حديث الافك:

النبي صلّى الله عليه وسلم أذن له، فخلى سبيله، وكان قد قال عبد الله بن عبد الله بن أبي: يا رسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه «1» . 2. حديث الافك: وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلو هودجها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خفته؛ لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن يغشها اللحم الذي كان يثقلها، وأيضا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفن؟؟ ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ - وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه، ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، ثم استشار أصحابه- لما استلبث الوحي طويلا- في فراقها، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحا لا تصريحا، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وأن لا يلتفت إلى كلام الأعداء. فقام على المنبر يستعذ من عبد الله بن أبي، فأظهر أسيد بن حضير

_ (1) نفس المصدر الأخير، ومختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 277.

سيد الأوس رغبته في قتله، فأخذت سعد بن عبادة- سيد الخزرج وهي قبيلة ابن أبي- الحمية القبلية، فجرى بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت. أما عائشة؛ فما رجعت مرضت شهرا، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئا، سوى أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نقهت خرجت مع أم مسطح إلى البراز ليلا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوما، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فاتق كبدها، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. وحينئذ قلص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان، فقالت: والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم إني منه بريئة- لتصدقني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف. قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ. ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: يا عائشة، أما الله فقد برأك، فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة- إدلالا ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم-: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. العشر الآيات. وجلد من أهل الإفك مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، جلدوا ثمانين، ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولى كبره، إما لأن

الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله «1» . وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحا لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري «2» .

_ (1) صحيح البخاري 1/ 364، 2/ 696، 697، 698، زاد المعاد 2/ 113، 114، 115 وابن هشام 2/ 297 إلى 307. (2) ابن هشام 2/ 293.

العبر والدلالات

العبر والدلالات 1- تدلنا معالجة النبي صلّى الله عليه وسلم للمشكلة التي استغلها عبد الله بن أبيّ سلول، بالشكل الذي علمناه، على مدى ما قد آتاها الله من براعة فائقة في سياسة الأمور وتربية الناس والتغلب على مشاكلهم، فقد استقبل الأمر بصدر أرحب من ذلك، فلم يعالج الأمر بعاطفة متأثرة، وإنما ترك الحكمة هي التي تدبر، فأمر القوم بالمسير في وقت لم يكونوا يعتادونه، كي ينشغلوا بالسير عن الاجتماع على المحادثة والكلام، واستمر معهم في السير بقية اليوم والليل كله وصدرا من اليوم الثاني، كي لا يدع لهم مجالا يفرغ فيه المنافقون للخوض في الحديث الباطل، فما أن حطوا رحالهم حتى ذهبوا في سبات عميق. حتى لما وصل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وانتظر الناس شدة منه على المنافقين، لذلك جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول يعرض على الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يتولى هو قتل أبيه إذا كان يرد أن يحكم بذلك، ولكنه فوجىء بما لم يكن يتوقع، حينما سمع من النبي صلّى الله عليه وسلم: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» . وكان من نتيجة هذه الحكمة أن ترك المنافقون رئيسهم وتخلى عنه قومه، وراحوا يعنفونه ويفضحون أمره إذا ما أراد أن يتصرف بشيء مؤذ. 2- قصة الإفك، كانت إحدى المحن التي تعرض لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولقد كانت هذه الأذية أشد في وقعها على نفسه من كل المحن السابقة. ومرة أخرى تجلت الحكمة الإلهية لتظهر حقيقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبشريته وإنسانيته، وذلك في تأخير نزول الوحي معلقا على هذه الحادثة، كاشفا لحقيقتها، فاضحا أمر المنافقين. فكانت الحكمة الإلهية متجهة إلى إبراز شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، وإظهارها صافية غير مشوبة، فقد استقبل النبي صلّى الله عليه وسلم هذه الشائعة كما يستقبل مثلها أي بشر من الناس، ليس له اطلاع على غيب مكنون، ولا ضمير مجهول، فاضطرب كما يضطربون، وشكّ كما يشكّون، وأخذ يقلّب الرأي على وجوهه، ويستشير أهل الرأي من أصحابه. فهو بشر من الناس، والوحي ليس تحت تصرفه، يأتي إليه عندما يطلب، كل ذلك حكمة بالغة للتدليل على عدم الغلو في شخص النبي صلّى الله عليه وسلم، وعدم الركون إلى كلام المشككين في حقيقة الوحي.

وقعة الحديبية (في ذي القعدة سنة 6 هـ)

وقعة الحديبية (في ذي القعدة سنة 6 هـ) سبب عمرة الحديبية: ولما تقدم التطور في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئا فشيئا، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام. أري رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر. استنفار المسلمين: واستنفر العرب ومن حوله من البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من الأعراب، وغسل ثيابه، وركب ناقته القصواء، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نميلة الليثي، وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب. المسلمون يتحركون إلى مكة: وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريبا من عسفان أتاه عينه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. واستشار النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه وقال: «أترون نميل

محاولة قريش صد المسلمين عن البيت:

إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه» ؟ فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، لم نجىء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «فروحوا، فراحوا» . محاولة قريش صد المسلمين عن البيت: وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلّى الله عليه وسلم عقدت مجلسا استشاريا، قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشا نازلة بذي طوى، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكراع الغميم، في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراآى الجيشان، ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون فقال: لقد كانوا على غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين- وهم في صلاة العصر- ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالدا. تبديل الطريق ومحاولة الاجتناب عن اللقاء الدامي: وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم طريقا وعرا بين شعاب، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحمش، في طريق على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم مارا بالتنعيم، تركه إلى اليسار، فلما رأى خالد قترة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيرا لقريش. وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» ، ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى

بديل يتوسط بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقريش:

الحديبية، على ثمد «1» قليل الماء، إنما يتبرضه «2» الناس تبرضا، فلم يلبث أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا. بديل يتوسط بين رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وقريش: ولما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة «3» نصح لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل «4» ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره. قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مكرز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم. رسل قريش: ثم قال رجل من كنانة- اسمه الحليس بن علقمة-: دعوني آته. فقالوا: آته. فلما أشرف على النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء

_ (1) ثمد: حوض. (2) يتبرض: يأخذ منه القليل. (3) عيبة نصح الرجل: موضع سره. (4) استعار العوذ المطافيل للنساء مع أولادهن، والعوذ: الإبل حديثة النتاج، والمطافيل: التي معها أولادها.

هو الذي كف أيديهم عنكم:

أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا، وجرى بينه وبين قريش كلام أحفظه. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته فقالوا: آته، فآتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أوباشا من الناس خلقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه،؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلّى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلّى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء (وكان المغيرة ابن أخي عروة) . ثم إن عروة جعل يمرق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلاقتهم به، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. هو الذي كف أيديهم عنكم: ولما رأى شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في الصلح، فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلا ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثا تشعل نار الحرب، وفعلا قد قاموا بتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم

عثمان بن عفان سفيرا إلى قريش:

ليلا فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعا. ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلّى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلك أنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ (48: 24) . عثمان بن عفان سفيرا إلى قريش: وحينئذ أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبعث سفيرا يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلا: يا رسول الله ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فانطلق عثمان حتى مر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش. فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، لكنه رفض هذا العرض، وأبى أن يطوف حتى يطوف رسول الله صلّى الله عليه وسلم. إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان: واحتبسته قريش عندها- ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة- وطال الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بلغته تلك الإشاعة: لا نبرح حتى نناجز القوم، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على أن لا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: هذه عن عثمان، ولما تمت البيعة جاء

إبرام الصلح وبنوده:

عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له جد بن قيس. أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا بيده، ومعقل بن يسار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الآية (48: 18) . إبرام الصلح وبنوده: وعرفت قريش حراجة الموقف، فأسرعت إلى بعث سهيل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له أن لا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه عليه السلام قال: قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلا، ثم اتفقا على قواعد الصلح وهي هذه: 1- الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يرجع من عامه، فلا يدخل مكة وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثا، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تتعرض قريش لهم بأي نوع من أنواع التعرض. 2- وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. 3- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق. 4- من أتى محمدا من قريش من غير إذن وليه- أي هاربا منهم- رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد- أي هاربا منه- لم يرد عليه. ثم دعا عليا ليكتب الكتاب، فأملى عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم. فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم عليا بذلك. ثم أملى (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال: إني رسول الله وإن كذبتموني،

رد أبي جندل:

وأمر عليا أن يكتب محمد بن عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبى على أن يمحو هذا اللفظ، فمحاه صلّى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب كما قدمنا في أوائل المقالة، فكان دخولهم في هذا العهد؛ تأكيدا لذلك الحلف القديم- ودخلت بنو بكر في عهد قريش. رد أبي جندل: وبينما الكتاب بكتب إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال: فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبدا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم فأجزه لي. قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم. فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية. النحر والحلق للحل عن العمرة: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: قوموا، فانحروا، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد

الاباء عن رد المهاجرات:

بعضهم يقتل بعضا غما، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم جملا كان لأبي جهل، كان في أنفه برة من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام، أو الصدقة، أو النسك في شأن كعب بن عجرة. الاباء عن رد المهاجرات: ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية، فرفض طلبهم هذا، بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا) «1» فلم تدخل النساء في العقد رأسا. وأنزل الله في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً إلخ، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها: قد بايعتك. ثم لم يكن يردهن. وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخرى صفوان بن أمية. ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة: هذه هي هدنة الحديبية، ومن سير أغوار بنودها مع خلفياتها لا يشك أنها فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوما ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية، وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشا لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل لفحواه على أن قريشا نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لا تهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلا يهم ذلك قريشا، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل. أليس هذا فشلا ذريعا بالنسبة إلى

_ (1) صحيح البخاري 1/ 380.

قريش؟ وفتحا مبينا بالنسبة إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها- بالنسبة إلى المسلمين- مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ. لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحا كبيرا في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة؛ صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف. أما البند الثاني؛ فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها، وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ الحرب وضعفه وانهياره. أما البند الأول؛ فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضا فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشا سوى أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط. أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جدا، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلما لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهرا أو باطنا، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوله: إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله «1» ، وأما من أسلم من أهل مكة- فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل- لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئا؟ وهذا الذي أشار إليه النبي صلّى الله عليه وسلم بقوله «ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا» «2» .

_ (1) صحيح مسلم باب صلح الحديبية 2/ 105. (2) نفس المصدر.

حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -:

والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبىء عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخورهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جرف هار، لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ. وما سمح به النبي صلّى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلا على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط. حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي- صلّى الله عليه وسلم-: هذه هي حقيقة بنود هذه الهدنة، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد، الأولى: أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فماله يرجع ولم يطف به؟ الثانية: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدنية في الصلح؟ كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون. وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح. ولعل أعظمهم حزنا كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطى الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، ولن يضيعني أبدا. قال: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. ثم انطلق عمر متغيظا فأتى أبا بكر، فقال له كما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. ثم نزلت إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً إلخ فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم. فطابت نفسه ورجع. ثم ندم عمر على ما فرط منه ندما شديدا. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يؤمئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى

انحلت أزمة المستضعفين:

رجوت أن يكون خيرا «1» . انحلت أزمة المستضعفين: ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت رجل من المسلمين، ممن كان يعذب من مكة، وهو أبو بصير رجل من ثقيف حليف لقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم العهد الذي جعلت لنا، فدفعه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا. فاستله الآخر، فقال: أجل. والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قتل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله: ويل أمه، مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة «2» . إسلام أبطال من قريش: وفي أوائل سنة 7 من الهجرة بعد هذه الهدنة أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد

_ (1) انظر لتفصيل هذه الغزوة والهدنة، فتح الباري 7/ 439 إلى 458، صحيح البخاري 1/ 378، 379، 380، 381، 2/ 598، 600، 717، صحيح مسلم 2/ 140، 105، 106، ابن هشام 2/ 308 إلى 322، زاد المعاد 2/ 122، 123، 124، 125، 126، 127، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 207 إلى 305، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 39، 40. (2) المصادر السابقة.

وقفة تأمل في هذا الصلح

وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها «1» . وقفة تأمل في هذا الصلح إن صلح الحديبية كان مقدمة بين يدي فتح مكة، فقد كانت الهدنة بابا له ومفتاحا، وتلك هي عادة الله سبحانه وتعالى، يوطيء بين يدي الأمور مقدمات تؤذن بها وتدل عليها. فبعد هذه الهدنة أمن الناس بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار، وراحوا يدعونهم، ويسمعونهم القرآن، ويناظرنهم جهرة آمنين، وظهر من المسلمين من كان متخفيا. وعن الزهري قال: «لقد دخل في تينك السنتين- بين صلح الحديبية وفتح مكة- مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» . ولذلك أطلق القرآن اسم الفتح على هذا الصلح، وذلك في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح 27] .

_ (1) اختلفوا كثيرا في تعيين السنة التي أسلم فيها هؤلاء الصحابة، وعامة كتب أسماء الرجال تصرح أنها سنة ثمان، ولكن قصة إسلام عمرو بن العاص عند النجاشي معروفة، وأسلم خالد وعثمان بن طلحة حين رجع عمرو بن العاص من الحبشة فإنه بعد الرجوع قصد المدينة فلقياه في الطريق، وحضر الثلاثة عند النبي صلّى الله عليه وسلم وأسلموا وهذا يقتضي أنهم أسلموا في أوائل سنة سبع. والله أعلم.

المرحلة الثانية طور جديد

المرحلة الثانية طور جديد إن هدنة الحديبية كانت بداية طور جديد في حياة الإسلام، والمسلمين، فقد كانت قريش أقوى قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب الأمن والسلام، انكسر أقوى جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة- قريش وغطفان واليهود- ولما كانت قريش ممثلة للوثنية وزعيمتها في ربوع جزيرة العرب، انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير، ولذلك لا نرى لغطفان استفزازا كبيرا بعد هذه الهدنة، وجل ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء اليهود. أما اليهود فقد كانوا جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر. كانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلّى الله عليه وسلم بعد الهدنة هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر. ولكن هذه المرحلة التي بدأت بعد الهدنة أعطت للمسلمين فرصة كبيرة، لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري. ولذلك نرى أن نقسم هذه المرحلة على قسمين: (1) النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء. (2) النشاط العسكري. وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول موضوع مكاتبة الملوك والأمراء، إذ الدعوة الإسلامية هي المقدم طبعا، بل ذلك هو الهدف الذي عانى له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن، والقلاقل والاضطرابات.

مكاتبة الملوك والأمراء

مكاتبة الملوك والأمراء في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له: إنهم لا يقبلون إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلّى الله عليه وسلم خاتما من فضة، نقشه: محمد رسول الله، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، رسول سطر، والله سطر، هكذا: الله رسول «1» محمد واختار من أصحابه رسلا لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصور فوري أن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام «2» . وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه. 1. الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة: وهذا النجاشي اسمه أصحمة بن الابجر، كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضمري في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة. وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلّى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي،

_ (1) صحيح البخاري 2/ 872، 873. (2) رحمة للعالمين 1/ 171.

فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ (وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر) . وروى البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى النجاشي وهو هذا: هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، فإن أبيت فإن عليك إثم النصاري من قومك. وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله (باريس) نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب- كما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط- وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهدا بليغا واستعان في ذلك كثيرا باكتشافات العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا. (بسم الله الرحمن الرحيم) من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي، أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته. ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى «1» . وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورده البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي

_ (1) انظر رسول أكرم كي سياسي زندكي (بالأردو) ص 108، 109، 122، 123، 124، 125، وفي زاد المعاد: أسلم أنت بدل والسلام على من اتبع الهداى. انظر زاد المعاد 3/ 60.

كتبها النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ إلخ كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم الأصحمة صريحا، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم. وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوى الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب. والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم أن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحا والعلم عند الله «1» . ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب. وكتب إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه. (بسم الله الرحمن الرحيم) إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، والله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض، إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت بها إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابك فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين «2» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفرا ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو بخيبر «3» . توفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلّى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلى عليه

_ (1) انظر لهذه المباحث كتاب الدكتور حميد الله «رسوم أكرم كي سياسي زندكي» ص 108، إلى 114 ومن 121 إلى 131. (2) زاد المعاد 3/ 61. (3) ابن هشام 2/ 359.

2. الكتاب إلى المقوقس ملك مصر:

صلاة الغائب. ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم كتابا آخر ولا يدرى هل أسلم أم لا؟ «1» . 2. الكتاب إلى المقوقس ملك مصر: وكتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى جريج بن متى «2» ، الملقب بالمقوقس ملك مصر والإسكندرية: «بسم الله الرحمن الرحيم» من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط. يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «3» . واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بلتعة. فلما دخل حاطب على المقوقس قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. فقال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه. فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فقد عما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به.

_ (1) ربما يؤخذ هذا مما رواه مسلم عن أنس 2/ 99. (2) هذا على رأي العلامة المنصور فوري في كتابه رحمة للعالمين 1/ 178، وقال الدكتور حميد الله «إن اسمه بنيامين» انظر: رسول أكرم كي سياسي زندكي ص 141. (3) هذا النص أورده ابن القيم في زاد المعاد 3/ 61 والذي أورده الدكتور حميد الله أخذا من صورة الكتاب الذي عثر عليه في الماضي القريب يختلف بعض كلماته عن هذا النص، ففيه «فأسلم تسلم يؤتك الله» الخ. وفيه «إثم القبط» بدل قوله «إثم أهل القبط» انظر: رسول أكرم كي سياسي زندكي ص 136، 137.

3. الكتاب إلى كسرى ملك فارس:

فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر. وأخذ كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فجعله في حق من عاج، وختم عليه ودفع به إلى جارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم» لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك. ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دلدل بقيت إلى زمن معاوية «1» ، واتخذ النبي صلّى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم. وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري. 3. الكتاب إلى كسرى ملك فارس: وكتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس «بسم الله الرحمن الرحيم» من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك. واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم البحرين، ولا ندري هل بعث عظيم البحرين رجلا من رجالاته، أم بعث عبد الله السهمي، وأيا ما كان فلما قرىء الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة: عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: مزق الله ملكه، وقد كان كما قال، فقد كتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني

_ (1) زاد المعاد 3/ 61.

4. الكتاب إلى قيصر ملك الروم:

به. فاختار باذان رجلين ممن عنده، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلّى الله عليه وسلم قال أحدهما: إن شاهنشاه (ملك الملوك) كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وبعثني إليك لتنطلق معي، وقال قولا تهديديا، فأمرهما النبي صلّى الله عليه وسلم أن يلاقياه غدا. وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع «1» ، وعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك: فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك. قال: نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى! وينتهي إلى منتهى الخف والحافر. وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر، وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه: انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري. وكان ذلك سببا في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن «2» . 4. الكتاب إلى قيصر ملك الروم: وروى البخاري ضمن حديث طويل نص الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل، وهو هذا: «بسم الله الرحمن الرحيم» من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «3» .

_ (1) فتح الباري 8/ 127. (2) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 147، فتح الباري 8/ 127، 128 وانظر رحمة للعالمين أيضا ج. (3) صحيح البخاري 1/ 4، 5.

واختار لحمل هذا الكتاب دحية بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى، ليدفعه إلى قيصر، وقد روى البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء «1» ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانة: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبا لكذبت عنه. ثم قال: أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه: قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها- قال: ولم تمكنني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة- قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا. قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب

_ (1) كان قيصر جاء إذ ذاك في إيلياء- بيت المقدس- من حمص، شكرا لما من الله عليه من إلحاق الهزيمة الساحقة بالفرس (انظر صحيح مسلم 2/ 99) ، وكانت الفرس قد قتلوا كسرى أبرويز، وصالحوا الروم على رد ما كانوا قد احتلوا من بلاد قيصر، وردوا إليه الصليب الذي تزعم النصارى أن المسيح عليه السلام كان قد صلب عليه، فكان قيصر قد جاء إلى إيلياء (بيت المقدس) سنة 629 م (أي سنة 7 هـ) يضع الصليب في موضعه، ويشكر الله على هذا الفتح المبين.

ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونة بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأه، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابه حين أخرجنا، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام «1» . هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر، وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة بن الكلبي، حامل كتاب الرسول صلّى الله عليه وسلم بمال وكسوة، ولما كان دحية بحسمى في الطريق لقيه ناس من جذام، فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئا، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمى، وهي وراء وادي القرى في خمسمائة رجل، فشن زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلا ذريعا، واستاق نعمهم ونساءهم، فأخذ من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، والسبي مائة من النساء والصبيان. وكان بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رفاعة الجذامي أحد زعماء هذه القبيلة بتقديم الاحتجاج إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم هو ورجال من قومه ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق، فقبل النبي صلّى الله عليه وسلم احتجاجه وأمر برد الغنائم والسبي.

_ (1) صحيح البخاري 1/ 4، صحيح مسلم 2/ 98، 99.

5 - الكتاب إلى المنذر بن ساوى:

وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتاب إلى قيصر كان بعد الحديبية. ولذا قال ابن القيم: هذا بعد الحديبية بلا شك «1» . 5- الكتاب إلى المنذر بن ساوى: وكتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى حاكم البحرين كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلي في ذلك أمرك، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» «2» . 6. الكتاب إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة: وكتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» . واختار لحمل هذا الكتاب سليط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة بهذا الكتاب مختوما أنزله، وحياه، وقرأ عليه الكتاب، فرد عليه ردا دون رد، وكتب إلى النبي صلّى الله عليه وسلم:

_ (1) انظر زاد المعاد 2/ 122، وحاشية تلقيح فهوم أهل الأثر ص 29. (2) زاد المعاد 3/ 61، 62، والنص الذي أورده الدكتور حميد الله آخذا من صورة الكتاب الذي عمر عليه في الماضي القريب يختلف في كلمة واحدة، ففيه «لا إله غيره» بدل قوله: «لا إله إلا هو» .

7 - الكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق:

ما أحس ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليطا بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلّى الله عليه وسلم كتابه فقال: لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه. فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبى، يقتل بعدي، فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال: أنت وأصحابك، فكان كذلك «1» . 7- الكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق: كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك» . واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب قال: من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه. ولم يسلم «2» . 8. الكتاب إلى ملك عمان: وكتب النبي صلّى الله عليه وسلم كتابا إلى ملك عمان جيفر وأخيه عبد ابني الجلندى، ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما» . واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي الله عنه. قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد- وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقا- فقلت: إني رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم علي بالسن والملك،

_ (1) زاد المعاد 3/ 63. (2) نفس المصدر 3/ 62، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 146.

وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا. فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: وكيف صنع قومه بملكه، فقلت أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب. قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت: بلى، قال: فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجا، فلما أسلم وصدق بمحمد صلّى الله عليه وسلم، قال: لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله فقال له النياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا، ويدين بدين غيرك دينا محدثا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع. قال: انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم ونصدق به، ولكن أخي أضر بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا. قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه. فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم، قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. قال: يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا. قال: فمكثت ببابه أياما، وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوما فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي، فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض خاتمه، وقرأ حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، قال: ألا تخبرني عن قريش كيف

صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب في الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الخرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال قال: دعني يومي هذا، وارجع إلي غدا. فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله لقت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت: أنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلي، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبي صلّى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا على من خالفني «1» . وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيرا عن كتب بقية الملوك، والأغلب أنه كان بعد الفتح. وبهذه الكتب كان النبي صلّى الله عليه وسلم قد أبلع دعوته إلى أكثر ملوك الأرض. فمنهم من آمن به ومنهم من كفر. ولكن شغل فكرة هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم باسمه ودينه.

_ (1) زاد المعاد 3/ 62، 63.

من دلالات الرسائل إلى الملوك

من دلالات الرسائل إلى الملوك إن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، وإن الرسالة المحمدية إنسانية شاملة ليست خاصة بعنصر أو بقوم أو بجماعة معينة. يدلنا ذلك آيات من القرآن وأحاديث كثيرة، منها: قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 158] . وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ 34] . وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 1] . وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ... وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت للناس كافة» .

(غزوة خيبر ووادي القرى) (في المحرم سنة 7 هـ)

(غزوة خيبر ووادي القرى) (في المحرم سنة 7 هـ) كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ستين أو ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة. سبب الغزوة: ولما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة، وأمن منه أمنا باتا بعد الهدنة أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين- اليهود وقبائل نجد- حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه. ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر، ومركز الاستفزازات العسكرية ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا. أما كون خيبر بهذه الصفة، فلا ننسى أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين- الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي- وبغطفان وأعراب البادية- الجناح الثالث من الأحزاب- وكانوا هم أنفسهم يهيئون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متواصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلّى الله عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متوالية، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحقيق، وأسير بن رزام، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك. وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب؛ لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم- وهي قريش- كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب.

الخروج إلى خيبر:

الخروج إلى خيبر: قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. قال المفسرون: إن خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ (48: 20) يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة خيبر عدد الجيش الإسلامي: ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم فيهم قائلا: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (48: 15) . فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر، أعلن أن لا يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقال ابن إسحاق: نميلة بن عبد الله الليثي، والأول أصح عند المحققين «1» . وحينئذ قدم أبو هريرة المدينة مسلما، فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح فلما فرغ من صلاته أتى سباعا فزوده، حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهماتهم. اتصال المنافقين باليهود: وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر: أن محمدا قصد قصدكم وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه، فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل لا سلاح معهم إلا قليل. فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس إلى غطفان. يستمدونهم؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود

_ (1) انظر فتح الباري 7/ 465، زاد المعاد 2/ 133.

الطريق إلى خيبر:

خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين. وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين. الطريق إلى خيبر: وسلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر (بالكسر وقيل بالتحريك) ثم على الصهباء، ثم نزل على واد يقال له الرجيع، وكان بينه وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لإمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حسا ولغطا، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا، وخلوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين خيبر. ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش- وكان اسم أحدهما حسيل- ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال- أي جهة الشام- فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام كما يحول بينهم وبين غطفان. قال أحدهما: أنا أدلك يا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-، فأقبل حتى انتهى إلى مفرق الطرق المتعددة وقال: يا رسول الله هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد، فأمر أن يسميها له واحدا واحدا. قال: اسم واحد منها حزن فأبى النبي صلّى الله عليه وسلم من سلوكه، وقال: اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضا وقال: اسم آخر حاطب. فامتنع منه أيضا، وقال حسيل: فما بقي إلا واحدا قال عمر: ما اسمه قال: مرحب، فاختار النبي صلّى الله عليه وسلم سلوكه. بعض ما وقع في الطريق: 1- عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال، رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ - وكان عامر رجلا شاعرا- فنزل يحدو بالقوم. يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أبينا وبالصياح عولوا علينا

الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر:

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من هذا السائق» ؟ قالوا: عامر بن الأكوع. قال: «يرحمه الله» . قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به «1» . وكانوا يعرفون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد «2» ، وقد وقع في حرب خيبر. 2- وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سمعيا قريبا «3» . 3- وبالصهباء من أدنى خيبر صلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، ثم قام إلى المغرب، فمضمض، ومضمض الناس. ثم صلى ولم يتوضأ «4» ، ثم صلى العشاء «5» . الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر: بات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبا من خيبر، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلى الفجر بغلس، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله محمد والخميس «6» ، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين «7» . اختيار المعسكر وكان النبي صلّى الله عليه وسلم اختار لمعسكره منزلا، فأتاه حباب بن المنذر فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي في الحرب؟ قال: «بل هو الرأي» ، فقال: يا رسول الله

_ (1) صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 603، صحيح مسلم باب غزوة ذي قرد وغيرها 2/ 115. (2) نفس المصدر الأخير. (3) صحيح البخاري 2/ 605. (4) نفس المصدر 2/ 603. (5) مغازي الواقدي (غزوة خيبر ص 112) . (6) الخميس هو الجيش وسمي به لانه مقسوم إلى خمسة أقسام، النهاية 2/ 79. (7) صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 603، 604.

التوجيه المعنوي:

إن هذا المنزل قريب جدا من حصن نطاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا. وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضا هذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكرا. قال صلّى الله عليه وسلم: «الرأي ما أشرت، ثم تحول إلى مكان آخر» . التوجيه المعنوي: ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال: «قفوا» . فوقف الجيش فقال: «اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أظللن، فإنا لنسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشرّ أهلها، وشر ما فيها، أقدموا بسم الله» «1» . التهيؤ للقتال وحصون خيبر: ولما كانت ليلة الدخول قال: «لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» ، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب» ، فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه «2» . قال: «فأرسلوا إليه» . فأتي به، فبصق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرىء، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: «انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم «3» . وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون: 1- حصن ناعم. 2- حصن الصعب بن معاذ. 3- حصن قلعة الزبير. 4- حصن أبي.

_ (1) ابن هشام 2/ 329. (2) وكان لأجل هذه الشكوى تخلف في أول المسير، ثم لحق بالجيش. (3) صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 505، 606، ويؤخذ من بعض الروايات أن إعطاء الراية لعلي كان بعد فشل عدة محاولات لفتح حصن من حصونهم. والراجح عند المحققين هو ما ذكرنا.

بدء المعركة وفتح حصن ناعم:

5- حصن النزار. والحصون الثلاثة الأولى تقع في منطقة يقال لها (النطاة) ، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشق. أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط: 1- حصن القموص (كان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير) . 2- حصن الوطيح. 3- حصن السلالم. وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها. والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال. بدء المعركة وفتح حصن ناعم: وأول حصن هاجمه المسلمون من هذه الحصون الثمانية هو حصن ناعم، وكان خط الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف. خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة. قال سلمة بن الأكوع: فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر

فتح حصن الصعب بن معاذ:

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، وكان سيفه قصيرا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبته فمات منه، وقال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن له لأجرين وجمع بين أصبعيه، إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله» «1» . ويبدو أن مرحبا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخرى، وجعل يرتجز بقوله: قد علمت خيبر أني مرحب.. إلخ، فبرز له علي بن أبي طالب. قال سلمة بن الأكوع: فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أو فيهم بالصاع كيل السندره فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه «2» . ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من أنت، فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو مرحب وهو يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل ابني؟ قال: «بل ابنك يقتله» . فقتله الزبير. ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، انهارت لأجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أياما لاقى المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصعب، واقتحم المسلمون حصن ناعم. فتح حصن الصعب بن معاذ: وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام المسلمون

_ (1) صحيح مسلم باب غزوة خيبر 2/ 122، باب غزوة ذي قرد وغيرها 2/ 115، صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 603. (2) بين المصادر اختلاف كبير في الرجل الذي قتل مرحبا، وفي اليوم الذي قتل فيه، وفتح هذا الحصن. وبعض هذا الاختلاف موجود في سياق روايات الصحيحين أيضا، وهذا الترتيب أخذناه بعد ترجيح سياق رواية البخاري.

فتح قلعة الزبير:

بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة. وروى ابن إسحاق: أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء، فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاما وودكا» . فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه «1» . ولما ندب النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن. ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات. ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية إبن إسحاق كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك نهى عن لحوم الحمر الإنسية. فتح قلعة الزبير: وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النطاة إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قلة «2» ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحصار، وأقام محاصرا ثلاثة أيام. فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم شرابا وعيونا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليه أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

_ (1) ابن هشام ملخصا 2/ 332، والودك: دسم اللحم. (2) القلّه هي القمة العالية.

فتح قلعة أبي:

فتح قلعة أبي: وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء، وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول. فتح حصن النزار: كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم في هذا السبيل، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربعة السابقة. وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه، أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، للاشتباك مع قوات المسلمين، لكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة. وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا بها القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن، انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى، بل فروا- من فروا- من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحية النطاة والشق، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخرى، إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر.

فتح الشطر الثاني من خيبر:

فتح الشطر الثاني من خيبر: ولما فتح ناحية النطاة والشق، تحول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أهل الكتيبة والوطيح والسلام حصن أبي الحقيق من بني النضير، وجاءهم كل فل كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص. بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام «1» . أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاثة إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال. وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال. ومهما كان فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية- الكتيبة- فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يوما، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلح. المفاوضة: وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ قال: نعم فنزل، وصالح على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض وعلى الصفراء والبيضاء- أي الذهب والفضة- والكراع «2» والحلقة «3» إلا ثوبا على ظهر إنسان «4» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا، فصالحوه على ذلك «5» . وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر.

_ (1) ابن هشام 2/ 331، 336، 337. (2) اسم يجمع الخيل. (3) الدروع. (4) ولكن صرح في رواية أبي داود أنه عاهد على أن المسلمين يسمحون لليهود عند جلائهم عن خيبر أن يأخذوا من الأموال ما حملت ركابهم (انظر سنن أبي داود، باب ما جاء في حكم أرض خيبر 2/ 76) . (5) زاد المعاد 2/ 136.

قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد:

قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد: وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا، غيبا مسكا فيه مال وحلى لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. قال ابن إسحاق: وأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكنانة بن أبي الحقيق وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتى رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم! فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه. فدفعه إلى الزبير، وقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة (وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم ألقى عليه الرحى، وهو يستظل بالجدار فمات) . وذكر ابن القيم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة. وسبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة ابن أبي الحقيق، وكانت عروسا حديثة عهد بالدخول. قسمة الغنائم: وأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر ما بدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقرهم. وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم. وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهما، وجمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة سهم،

قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين:

سهم لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد «1» . ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر «2» . ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل «3» . قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين: وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسى: بلغنا مخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين- أنا وأخوان لي- في بضع وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرا وأصحابه عنده، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم «4» . ولما قدم جعفر على النبي صلّى الله عليه وسلم تلقاه وقبله، وقال: والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر «5» .

_ (1) زاد المعاد 2/ 137، 138. (2) صحيح البخاري 2/ 609. (3) زاد المعاد 2/ 148، صحيح مسلم 2/ 96. (4) صحيح البخاري 1/ 443، وانظر أيضا فتح الباري 7/ 484، 485، 486، 487. (5) زاد المعاد 2/ 139.

الزواج بصفية:

وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلا، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم، وبقيتهم جاؤوا إلى المدينة قبل ذلك «1» . الزواج بصفية: ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كنانة بن أبي الحقيق لغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي. فقال: اذهب فخذ جارية. فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك، قال: ادعوه بها. فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلّى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها، وعرض عليها النبي صلّى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعا إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروسا بها، وأو لم عليها بحيس من التمر والسمن والسويق، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها «2» . ورأى بوجهها خضرة، فقال: ما هذا؟ قالت: يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي. فقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة «3» . أمر الشاة المسمومة: ولما اطمأن رسول الله بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث، - امرأة سلام بن مشكم- شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم تناول الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ولفظها، ثم قال: إن هذا

_ (1) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 128. (2) صحيح البخاري 1/ 54، 2/ 604، 606، زاد المعاد 2/ 137. (3) نفس المصدر الأخير، وابن هشام 2/ 336.

قتلى الفريقين في معارك خيبر:

العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: قلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها. وكان معه بشر بن البراء بن معرور، أخذ منها أكلة، فأساغها، فمات منها. واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا «1» . قتلى الفريقين في معارك خيبر: وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلا، أربعة من قريش وواحد من أشجع، وواحد من أسلم، وواحد من أهل خيبر، والباقون من الأنصار. ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 18 رحلا. وذكر العلامة المنصور فوري 19 رجلا؛ ثم قال: إني وجدت بعد التفحص. 23 اسما، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر. والصحيح أنه قتل في بدر «2» . أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلا. فدك: ولما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى خيبر، بعث محيصة بن مسعود إلى يهود فدك، ليدعوهم إلى الإسلام فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك، بمثل ما صالح عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خالصة، لأنه لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب «3» .

_ (1) انظر زاد المعاد 2/ 139، 140، فتح الباري 7/ 497، وأصل القصة مروية في البخاري مطولا ومختصرا، 1/ 449، 2/ 610، 860، وفي ابن هشام 2/ 337، 338. (2) رحمة للعالمين 2/ 268، 269، 270. (3) ابن هشام 2/ 337، 353.

وادي القرى:

وادي القرى: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القرى، وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي وهم على تعبئة، فقتل مدعم عبد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: كلا. والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا. فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: شراك من نار أو شراكان من نار «1» . ثم عبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عبّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام. وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه، ثم يعود، فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنمه الله أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا. وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم على أصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها «2» (كما عامل أهل خيبر) . تيماء: ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فدك ووادي القرى لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون للصلح. فقبل ذلك منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم «3» ، وكتب لهم بذلك كتابا، وهاك نصه: هذا كتاب محمد رسول الله لبني

_ (1) صحيح البخاري 2/ 608. (2) زاد المعاد 2/ 146، 147. (3) نفس المصدر 2/ 147.

العودة إلى المدينة:

عاديا، إن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء «1» ، الليل مد، والنهار شد «2» ، وكتب خالد بن سعيد «3» . العودة إلى المدينة: ثم أخذ رسول الله في العودة إلى المدينة، وفي مرجعه ذلك سار ليلة، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال: «اكلأ لنا الليل» فغلبت بلال عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد، حتى ضربتهم الشمس، وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم خرج من ذلك الوادي، وتقدم، ثم صلى الفجر بالناس، وقيل: إن هذه القصة في غير هذا السفر «4» . وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر يبدو أن رجوع النبي صلّى الله عليه وسلم كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 هـ.

_ (1) لا عداء ولا جداء، الظلم وتجاوز الحد، النهاية 3/ 193 (2) لهم ذلك مادام الليل والنهار، النهاية 4/ 310. (3) ابن سعد. (4) ابن هشام 2/ 340، والقصة معروفة مروية في عامة كتب الحديث: وانظر زاد المعاد 2/ 147.

صورة من خيبر:

صورة من خيبر: روى البيهقي أن رجلا من الأعراب جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، فأوصى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعض أصحابه. فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فقال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى بسهم هاهنا وأشار إلى حلقه- فأموت فأدخل الجنة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم إن تصدق الله يصدقك. ولما كان القتال أتى به رسول الله محولا وقد أصابه سهم حيث أشار. فقال صلّى الله عليه وسلم: هو هو؟ قالوا: نعم فقال صلّى الله عليه وسلم: صدق الله فصدقه. وكفنه رسول الله ثم قدمه فصلى عليه، ودعاله وكان من دعائه: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا عليه شهيد.

من دروس هذه الواقعة

من دروس هذه الواقعة 1- أول ما ينبغي أن ما يسترعي انتباهنا من أمر هذه الغزوة، ملاحظة الفرق بين طبيعتها وطبيعة الغزوات السابقة التي حدثت قبلها. لقد كانت الغزوات السابقة كلها قائمة على أسباب دفاعية. أما هذه الغزوة، فهي تدل على أن الدعوة الإسلامية قد دخلت مرحلة جديدة، وهي مرحلة الهجوم بدل الدفاع، الهجوم لدعوة الناس إلى الإسلام، ومحاربتهم على كفرهم وعنادهم عن قبول الحق. 2- إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، ولا ينتزعها من قوم ويعطيها آخرين محاباة، كلا، ولكن الأمة التي تجحد النعمة، وتكفر بعطاء الله، يسلبها الله أرضها، ثم تساق النعمة إلى من يقدّرها ويشكر الله عليها. والأمة التي تتكبر وتتبطر تفقد امتلاكها لنفسها وحقها وأمرها، وتقع تحت سيطرة الآخرين، فيصرّفون أمورها وشؤونها كما يشاؤون. قال تعالى وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 102] . فالحياة كرّ وفرّ، إقفال وإدبار، والنظرة العجلى إلى تاريخ البشرية، توحي بأن مكان الصدارة لم يثبت لأمة، فالصدارة الأصلح والأنفع للبشرية. وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 105] .

بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة

بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة غزوة ذات الرقاع: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كسر جناحين قويين من أجنحة الأحزاب الثلاثة؛ تفرغ تماما للالتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخرى. ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تماما تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر، ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب والإرهاب، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى. ولفرض الشوكة- أو لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة- قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزوة في السنة الرابعة، ولكن مساهمة أبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذه الغزوة تدل على وقوعها بعد خيبر، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7 هـ. وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع باجتماع أنمار أو بني ثعلبة وبني محارب من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له نخل على بعد يومين من المدينة، ولقي جمعا من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف.

وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع؛ لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا «1» . وفيه عن جابر: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلّى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة؛ فجاء رجل من المشركين، فاخترط سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: أتخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله. قال جابر: فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فها هو ذا جالس. ثم لم يعاتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي رواية: وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان «2» . وفي رواية أبي عوانة: فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال الأعرابي: أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه، فقال جئتكم من عند خير الناس «3» . وفي رواية البخاري قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث «4» قال ابن حجر: ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور، وأنه أسلم. لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين والله أعلم «5» . وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين، فنذر زوجها أن لا يرجع حتى يهريق

_ (1) صحيح البخاري باب غزوة ذات الرقاع 2/ 592، وصحيح مسلم باب غزوة ذات الرقاع 2/ 118. (2) صحيح البخاري 1/ 407، 408، 2/ 593. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 264، وانظر فتح الباري 7/ 416. (4) صحيح البخاري 2/ 593. (5) فتح الباري 7/ 428.

دما في أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، فجاء ليلا، وقد أرصد رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلين ربيئة «1» للمسلمين من العدو، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عبادا وهو قائم يصلي بسهم فنزعه، ولم يبطل صلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحان الله، هلا نبهتني، فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها «2» . كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعد هذه الغزوة؛ نرى أن هذه القبائل من غطفان لم تجترىء أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة، بل استكانت شيئا فشيئا حتى استسلمت، بل وأسلمت، حتى نرى عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزو حنينا، وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة، لأن داخل البلاد كانت الظروف قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين.

_ (1) ربيئة: الشخص المخصص للمراقبة. (2) زاد المعاد 2/ 112، وانظر لتفصيل مباحث هذه الغزوة ابن هشام 2/ 203، إلى 209، زاد المعاد 2/ 110، 111، 112، فتح الباري 7/ 417 إلى 428.

عمرة القضاء

عمرة القضاء قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلّى الله عليه وسلم لما هل ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وأن لا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان. أه «1» . واستخلف على المدينة عويف أبا رهم الغفاري، وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحليفة، ولبى، ولبى المسلمون معه، وخرج مستعدا بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يأجج وضع الأداة كلها، الحجف، والمجان، والنبل، والرماح، وخلف عليها أوس بن خولي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب والسيوف في القرب «2» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند الدخول راكبا على ناقته القصواء، والمسلمون متوشحو السيوف، محدقون برسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبون. وخرج المشركون إلى جبل قعيقعان- الجبل الذي في شمال الكعبة- ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين. ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء، وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته «3» ، كما أمرهم بالاضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمنى، ويضعوا طرفي الرداء على اليسرى.

_ (1) فتح الباري 7/ 700. (2) نفس المصدر وزاد المعاد 2/ 151. (3) صحيح البخاري 1/ 218، 2/ 610، 611، صحيح مسلم 1/ 412.

ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحجون- وقد صف المشركون ينظرون إليه- فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمحجنه، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرتجز متوشحا بالسيف: خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله يا رب إني مؤمن بقيله ... إني رأيت الحق في قبوله بأن خير القتل في سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله «1» وفي حديث أنس فقال عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «خل عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل» «2» . ورمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا «3» . ولما فرغ من الطواف سعى بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند المروة، قال: «هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر» . فنحر عند المروة وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناسا إلى يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا. وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا عليا، فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا، فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم، ونزل بسرف فأقام بها. ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادي يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها علي وجعفر وزيد، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلم لجعفر، لأن خالتها كانت تحته. وفي هذه العمرة تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل

_ (1) اضطربت الأشعار وترتيبها في الروايات فجمعنا بين شتيتها. (2) رواه الترمذي، أبواب الاستئذان والأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر 2/ 107. (3) صحيح مسلم 1/ 412.

الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي، فبنى بها بسرف «1» . وسميت هذه العمرة بعمر القضاء؛ إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحديبية، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة أي المصالحة التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه المحققون «2» وهذه العمرة تسمى بأربعة أسماء: القضاء، والقضية، والقصاص، والصلح «3» . وبعد الرجوع من عمرة القضاء بعث عدة سرايا، هاك تفصيلها: 1- سرية ابن أبي العوجاء، في ذي الحجة سنة 7 هـ، في خمسين رجلا بعثه رسول الله إلى بني سليم، ليدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالا شديدا، جرح فيه أبو العوجاء، وأسر رجلان من العدو. 2- سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في صفر سنة 8 هـ. بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما، وقتلوا منهم قتلى. 3- سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8 هـ. كانت بنو قضاعة قد حشدت جموعا كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلا، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهدوا كلهم إلا رجل واحد، فقد ارتث من يبن القتلى «4» . 4- سرية ذات عرق إلى بني هوازن في ربيع الأول سنة 8 هـ. كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخرى، فأرسل إليه شجاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين رجلا، فاستاقوا نعما من العدو، ولم يلقوا كيدا «5» .

_ (1) زاد المعاد 2/ 152. (2) انظر زاد المعاد 1/ 172، فتح الباري 7/ 500. (3) انظر نفس المصدر الأخير. (4) رحمة للعالمين 2/ 231. (5) نفس المصدر وتلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 33 حاشية.

معركة مؤتة

معركة مؤتة وهذه المعركة أكبر لقاء مثخن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى، وقعت في جمادى الأولى سنة 8 هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 629 م. ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدنى بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان. سبب المعركة: وسبب هذه المعركة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني- وكان عاملا على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر- فأوثقه رباطا، ثم قدمه، فضرب عنقه. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليه جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل «1» ، وهو أكبر جيش إسلامي، لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب. أمراء الجيش ووصية رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- إليهم: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: «إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» «2» - وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة «3» .

_ (1) زاد المعاد 2/ 155، فتح الباري 7/ 511. (2) صحيح البخاري باب غزوة مؤتة من أرض الشام 2/ 611. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 327.

توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة

وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم: «اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليدا وليدا ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقطعوا نخلا ولا شجرة، ولا تهدموا بناء» «1» . توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، ودعوا أمراء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى أحد أمراء الجيش، عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (19: 71) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ «2» تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي «3» ... أرشده الله من غاز، وقد رشدا ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم «4» . تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة: وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان، من أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف.

_ (1) نفس المصدر، ورحمة للعالمين 2/ 271. (2) الفرغ: السعة. (3) الحدث: القبر. (4) بن هشام 2/ 373، 314، زاد المعاد 2/ 156، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 327.

المجلس الاستشاري بمعان:

المجلس الاستشاري بمعان: لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة- وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب، على جيش كبير عرمرم، مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلا: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيرا استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة. الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو: وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها «مشارف» ، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري. بداية القتال، وتناوب القواد: وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب. أخذ الراية زيد بن حارثة- حب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط «1» في رماح القوم، وخر صريعا.

_ (1) شاط: تفجر دمه وتمزقت اوصاله.

الراية إلى سيف من سيوف الله:

وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالا منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعا إياها حتى قتل. يقال: إن روميا ضربه ضربة قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. روى البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره. يعني ظهره «1» . وفي رواية أخرى قال ابن عمر: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية «2» . وفي رواية العمري عن نافع زيادة «فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده» «3» . ولما قتل جعفر بعد القتال بمثل هذه الضراوة والبسالة أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة، ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... كارهة أو لتطاوعنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراك تكرهين الجنه ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة «4» ، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل. الراية إلى سيف من سيوف الله: وحينئذ تقدم رجل من بني عجلان- اسمه ثابت بن أرقم- فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على

_ (1) صحيح البخاري، باب غزوة مؤتة من أرض الشام 2/ 611. (2) نفس المصدر 2/ 611. (3) انظر فتح الباري 7/ 512، وظاهر الحديثين التخالف في العدد، وجمع بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، انظر المصدر المذكور. (4) أخذه بمقدم أسنانه ونتفه.

نهاية المعركة:

خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالا مريرا، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية «1» . وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية «2» . وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم مؤتة- مخبرا بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال-: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم «3» . نهاية المعركة: ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين كان مستغربا جدا أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم، ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه. واختلفت الروايات كثيرا فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيرا. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال، وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية، تلقي الرعب في قلوب الرومان؛ حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة، فقد كان يعرف جيدا أن الإفلات من براثنهم صعب جدا لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة. فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقة، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد- بعد أن تراآى الجيشان، وتناوشا ساعة- يتأخر بالمسلمين قليلا قليلا، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنا منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في

_ (1) صحيح البخاري باب غزوة مؤتة من أرض الشام 2/ 611. (2) نفس المصدر 2/ 611. (3) نفس المصدر 2/ 611.

قتلى الفريقين:

الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة «1» . قتلى الفريقين: واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلا، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتلاهم غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم. أثر المعركة: وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظلف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير- ثلاثة آلاف مقاتل- مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير- مائتا ألف مقاتل- ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر، كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقا، ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سليم وأشجع وغطفان وذبيان وفزارة وغيرها. وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيدا لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائبة.

_ (1) انظر فتح الباري 7/ 513، 514، زاد المعاد 2/ 156، وتفصيل المعركة مأخوذ من هذين المصدرين والتي قبلهما.

غزوة فتح مكة

غزوة فتح مكة قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا أهـ «1» . سبب الغزوة: قدمنا في وقعة الحديبية أن بندا من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد- صلّى الله عليه وسلم- وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق. وحسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلا، وهم على ماء يقال له «الوتير» فأصابوا منهم رجالا، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا

_ (1) زاد المعاد 2/ 160.

أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:

قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع. وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «1» قد كنتم ولدا وكنا والدا «2» ... ثمة أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر، هداك الله، نصرا أيدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله، قد تجردا ... أبيض مثل البدر، يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل، وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا «3» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرضت له سحابة من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب. ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة. أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح: ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدرا محضا ونقضا صريحا للميثاق لم يكن له أي

_ (1) الآتلد: القديم، يشير إلى الحلف الذي كان بين خزاعة وبين بني هاشم منذ عهد عبد المطلب. (2) يشير إلى أم عبد مناف- وهي حبى زوجة قصي- كانت من خزاعة. (3) يقول: قتلنا وقد أسلمنا.

مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلسا استشاريا، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلا لها؛ ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة. وخرج أبو سفيان- حسب ما قررته قريش- فلقي بديل بن ورقاء بعسفان- وهو راجع من المدينة إلى مكة- فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ - وظن أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم- فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيها النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا. وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء:

وحينئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني. قال: والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء: يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر عائشة- قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام- أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي. وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا، وارتجز: يا رب إني ناشد محمدا.. الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة. وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن إضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ، ليظن الظان أنه صلّى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم

خبر حاطب:

خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته «1» خبر حاطب: وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجلعته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد، فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش، فانطلقا تعادى بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاطبا، محاكمة حاطب: فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم «2» . وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.

_ (1) وهذه السرية لقيت عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة لشيء كان بينهما، وأخذ بعيره ومتبعه، فأنزل الله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً الآية، وجاؤوا بمحلم ليستغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما قام بين يديه قال: اللهم لا تغفر لمحلم، وقالها ثلاثا، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه، قال ابن إسحاق: وزعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك. انظر زاد المعاد 2/ 150، وابن هشام 2/ 626، 627، 628. (2) انظر صحيح البخاري 1/ 422، 2/ 612.

الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة:

الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة: ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك سنة 8 هـ غادر رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة متجها إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري. ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا، ثم لما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما؛ لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف. قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (12: 91) فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (12: 92) فأنشده أبو سفيان أبياتا منها: لعمرك إني حين أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني ... على الله من طردته كل مطرد فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد «1» . الجيش الإسلامي ينزل بمر الظهران: وواصل رسول الله صلّى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكديد- وهو ماء بين عسفان وقديد- فأفطر وأفطر الناس معه «2» ، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران- وادي فاطمة- نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

_ (1) حسن إسلام أبي سفيان هذا بعد ذلك، ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحبه، وشهد له بالجنة، وقال: أرجو أن يكون خلفا من حمزة. ولما حضرته الوفاة قال: لا تبكوا علي، فوالله ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت. زاد المعاد 2/ 162، 163. (2) صحيح البخاري 2/ 613.

أبو سفيان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

أبو سفيان بين يدي رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: وركب العباس- بعد نزول المسلمين بمر الظهران- بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا؛ ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها. وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش، فهم على وجل وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن زرقاء يتجسسون الأخبار. قال العباس: والله إني لأسير عليها- أي على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم- إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة، خمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حنظلة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه. قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر،

الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة:

فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد. قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن. الجيش الإسلامي يغادر مرّ الظهران إلى مكة: وفي هذا الصباح- صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ- غادر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل «1» ، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فيقول- مثلا-: سليم، فيقول: مالي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: مزينة، فيقول: مالي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المهاجرين

_ (1) الخطم: الأنف، شيء يخرج من الجبل يضيق به الطريق.

نفي التفاخر:

والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن. نفي التفاخر: وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا. فلما حاذى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ فقال: كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل دفعه إلى الزبير. قريش تباغت زحف الجيش الاسلامي: ولما مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت «1» الدسم الأخمش «2» الساقين، قبح من طليعة قوم. قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وبثوا أوباشا لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين، وكان فيهم رجل من بني بكر- حماس بن قيس- كان يعد قبل ذلك سلاحا، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم. ثم قال: إن يقبلوا اليوم فمالي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه وذو غرارين سريع السّلّه «3»

_ (1) الشديد الغليظ. (2) شديد اللحم. (3) علّه: يقال علّ الرجل يعل من المرض، غرارين: حدين، السله: الانتشال والسحب.

الجيش الإسلامي بذي طوى:

فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة. الجيش الإسلامي بذي طوى: أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمضى حتى انتهى إلى ذي طوى- وكان يضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل- وهناك وزع جيشه وكان خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى- وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب- فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا، حتى توافوني على الصفا. وكان الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وكان معه راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها- من كداء- وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر- وهم الذين لا سلاح معهم- فأمره أن يأخذ بطن الوادي، حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. الجيش الإسلامي يدخل مكة: وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه، وقتل من أصحابه من المسلمين كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخندمة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلا فانهزم المشركون، وانهزم حماس بن قيس- الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين- حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي علي بابي. فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلتنا بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه «1» لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

_ (1) النهيت والهمهمة: أصوات.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام:

وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام: ثم نهض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (17: 81) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (34: 49) والأصنام تتساقط على وجوهها. وكان طوافه على راحلته، ولم يكن ذلك محرما يومئذ، واقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- يستقسمان بالأزلام، فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط. ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش: ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه- وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة- ثم صلى هناك، ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب، وهم تحته، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ

لا تثريب عليكم اليوم:

شبه العمد- السوط والعصا- ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (49: 13) . لا تثريب عليكم اليوم: ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ اذهبوا فأنتم الطلقاء. مفتاح البيت إلى أهله: ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه عليّ رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، وفي رواية: أن الذي قال ذلك هو العباس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. بلال يؤذن على الكعبة وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته، فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، فخرج عليهم النبي صلّى الله عليه وسلم فقال لهم: قد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك.

صلاة الفتح أو صلاة الشكر:

صلاة الفتح أو صلاة الشكر: ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانىء بنت أبي طالب: فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانىء حموين لها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد أحرنا من أجرت يا أم هانىء، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال لها ذلك. إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين: وأهدر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل، كانتا تغنيان بهجو النبي صلّى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب. فأما ابن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وشفع فيه فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه، رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة. وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي صلّى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم، وحسن إسلامه. وأما ابن خطل فكان متعلقا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وأخبره فقال: اقتله. فقتله. وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي. وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين هاجرت،

إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير:

فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة، ثم أسلم وحسن إسلامه. وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى، فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت. قال ابن حجر: وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي فقتله علي، وذكر الحاكم أيضا ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة وقد جاء بعد ذلك، وأسلم ومدح، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، وقد أسلمت، وأرنب مولاة ابن خطل أيضا قتلت، وأم سعد، قتلت فيما ذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان، اختلف في اسمهما، أو باعتبار الكنية واللقب «1» . إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير: لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيما كبيرا من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: اجعلني بالخيار شهرين. قال: أنت بالخيار أربعة أشهر. ثم أسلم صفوان، وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول. وكان فضالة رجلا جريئا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو في الطواف، ليقتله فأخبره الرسول صلّى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم. خطبة الرسول- صلّى الله عليه وسلم- في اليوم الثاني من الفتح: ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الناس خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات الأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، أو

_ (1) فتح الباري 8/ 11، 12.

تخوف الأنصار من بقاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة:

يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب. وفي رواية: لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: إلا الإذخر. وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهذا الصدد: يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله. وفي رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له «أبو شاه» فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه «1» . تخوف الأنصار من بقاء الرسول- صلّى الله عليه وسلم- في مكة: ولما تم فتح مكة على الرسول صلّى الله عليه وسلم- وهي بلده ووطنه ومولده- قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها- وهو يدعو على الصفا رافعا يديه- فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم. أخذ البيعة: وحين فتح الله مكة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين تبين لأهل مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا.

_ (1) انظر لهذه الروايات صحيح البخاري 1/ 22، 216، 247، 328، 329، 2- 2/ 615، 617، وصحيح مسلم 1/ 437، 438، 439، وابن هشام 2/ 415، 416، أبو داود 1/ 276.

إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وعمله فيها:

وفي المدارك «1» : روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا، فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ولا تسرفن. فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعرفها، فقال: وإنك لهند؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك. فقال: ولا يزنين. فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن. فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم- وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: ولا يأتين ببهتان. فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: ولا يعصينك في معروف. فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك. ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور. إقامته- صلّى الله عليه وسلم- بمكة، وعمله فيها: وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما، يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره.

_ (1) انظر مدارك التنزيل للنسفي تفسير آية البيعة.

المرحلة الثالثة

المرحلة الثالثة وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم، تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية، واجهتها طيلة بضعة وعشرين عاما. وكان فتح مكة هو أخطر كسب حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حدا فاصلا بين المدة السابقة عليه وبين ما بعده، فإن قريشا كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب. ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين: (1) صفحة المجاهدة والقتال. (2) صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام. وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى، إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي، أنا نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظرا إلى أن صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثر مناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب.

غزوة حنين

غزوة حنين إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شده لها العرب، وبوغتت القبائل المجاورة بالأمر الواقع، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولذلك لم تمتنع عن الاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وفي مقدمتها بطون هوازن وثقيف، واجتمعت إليها نصر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال- وكلها من قيس عيلان- رأت هذه البطون من نفسها عزا وأنفة أن تقابل هذا الانتصار بالخضوع، فاجتمعت إلى مالك بن عوف النصري، وقررت المسير إلى حرب المسلمين. مسير العدو ونزوله بأوطاس ولما أجمع القائد العام- مالك بن عوف- المسير إلى حرب المسلمين ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوطاس- وهو واد في دار هوازن بالقرب من حنين، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات «1» . مجرب الحروب يغلط رأي القائد: ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة- وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان شجاعا مجربا- قال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصبي وثغاء الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم

_ (1) انظر فتح الباري 8/ 27، 42.

سلاح استكشاف العدو:

وأبناءهم، فدعا مالكا وسأله عما حمله على ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيئا؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء، ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شئيا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. ولكن مالكا- القائد العام- رفض هذا الطلب قائلا: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وضاع عقلك، والله لتطيعني هوازن أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع أقود وطفاء الدمع ... كأنها شاة صدع سلاح استكشاف العدو: وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم. قال: ويلكم، ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. سلاح استكشاف رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: ونقلت الأخبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أبا حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يغادر مكة إلى حنين: وفي يوم السبي- السادس من شهر شوال سنة 8 هـ- غادر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة- وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة- خرج في اثني عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة، وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام، واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد.

الجيش الإسلامي يباغت الرماة والمهاجمين:

ولما كان عشية جاء فارس، فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مرثد الغنوي «1» . وفي طريقهم إلى حنين رأوا سدرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهل الجيش لرسول صلّى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم أنواط. فقال: الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم «2» . وقد كان بعضهم قال نظرا إلى كثرة الجيش: لن نغلب اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. الجيش الإسلامي يباغت الرماة والمهاجمين: انتهى الجيش الإسلامي إلى حنين ليلة الأربعاء لعشر خلون من شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كمناءه في الطرق والمداخل، والشعاب والأخباء والمضايق، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدوا شدة رجل واحد. وبالسحر عبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألوية والرايات وفرقها على الناس، وفي عماية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي فبيناهم ينحطون إذا هم تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر- الأحمر- وصرخ جبلة أو كلدة بن الجنيد: ألا بطل السحر اليوم.

_ (1) انظر سنن أبي داود. (2) روى ذلك الترمذي.

رجوع المسلمين واحتدام المعركة:

وانحاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول: هلموا إليّ أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين وأهل بيته. وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلّى الله عليه وسلم التي لا نظير لها. فقد طفق يركز بغلته قبل الكفار وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه، يكفانها، أن لا تسرع. ثم نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستنصر ربه قائلا: اللهم أنزل نصرك. رجوع المسلمين واحتدام المعركة: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمه العباس- وكان جهير الصوت- أن ينادي الصحابة قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك «1» . ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا. وصرفت الدعوة إلى الأنصار، يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة. وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: «الآن حمي الوطيس» . ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة، فلم يزل حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. انكسار حدة العدو، وهزيمته الساحقة: وما هي إلا ساعات قلائل- بعد رمي القبضة- حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتل من ثقيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظعن.

_ (1) صحيح مسلم 2/ 100.

حركة المطاردة:

وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (9: 25، 26) . حركة المطاردة: ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نخلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامر الأشعري، فتناوش الفريقان القتال قليلا، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري. وطاردت طائفة أخرى من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دريد بن الصمة فقتله ربيعة بن رفيع. وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف؛ فتوجه إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم. الغنائم: وكانت الغنائم: السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجعرانة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف. وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية؛ أخت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عرفت له نفسها فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم من عليها، وردها إلى قومها. غزوة الطائف: وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع القائد العام- مالك بن عوف النصري- وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة في نفس الشهر- شوال سنة 8 هـ.

وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على النخلة اليمانية، ثم على قرن المنازل، ثم على لية، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى الطائف فنزل قريبا من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن. ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يوما، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يوما، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر «1» . ووقعت في هذه المدة مراماة ومقاذفات، فالمسلون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رميا شديدا كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك. ونصب النبي صلّى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة «2» ، ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالا. وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم- كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام- أمر بقطع الأعناب وتحريقها. فقطعها المسلمون قطعا ذريعا، فسألته ثقيف أن يدعها لله والرحم، فتركها لله والرحم. ونادى مناديه صلّى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون «3» رجلا فيهم أبو بكرة- تسور حصن الطائف وتدلى منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أبا بكرة» - فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة.

_ (1) فتح الباري 8/ 45. (2) لم تكن الدبابة كدبابتنا اليوم، وإنما كانت تصنع من الخشب، كان الناس يدخلون في جوفها ثم يدفعونها في أصل الحصن لينقبوه وهم في جوفها، أو ليدخلوا من النقبات. (3) صحيح البخاري 2/ 620.

قسمة الغنائم بالجعرانة:

ولما طال الحصار، واستعصى الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيبوا من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة- وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة- استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلي فقال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس: إنا قافلون غدا إن شاء الله، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: إنا قافلون غدا إن شاء الله، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يضحك. ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون. وقيل: يا رسول الله ادع على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وآت بهم. قسمة الغنائم بالجعرانة: ولما عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف؛ مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأنى بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين، فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطى وحظي بالأنصبة الجزلة. وأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى، فأعطاه إياها. وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة- كذا في الشفاء «1» ، وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وكذلك أعطى رجالا من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل، وأعطى آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين حتى شاع في الناس أن محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب بطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال: أيها الناس ردوا على ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا.

_ (1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 1/ 86.

الأنصار تجد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال: أيها الناس، والله مالي من فيئكم، ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم. وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثني عشر بعيرا وعشرين ومائة شاة. كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة، فإن في الدنيا أقواما كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم، لا من عقولهم، فكما تهدي الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهش له «1» . الأنصار تجد على رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: وهذه السياسة لم تفهم أول الأمر، فأطلقت ألسنة شتى بالاعتراض، وكان الأنصار ممن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة، لقد حرموا جميعا أعطية حنين، وهم الذين نودوا وقت الشدة فطاروا يقاتلون مع الرسول صلّى الله عليه وسلم حتى تبدل الفرار انتصارا، وها هم أولاء يرون أيدي الفارين ملأى، وأما هم فلم يمنحوا شيئا قط 2. روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلّى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي: قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» ، فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم

_ (1- 2) كلمة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 298، 299.

قدوم وفد هوازن:

فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم» ؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار» ؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال: «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخدولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا؛ لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلّى الله عليه وسلم قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتفرقوا «1» . قدوم وفد هوازن: وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلما، وهم أربعة عشر رجلا، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة، فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال، وأدلوا إليه بكلام ترق له القلوب، فقال: «إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلي أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقال: «إذا صليت الغداة- أي صلاة الظهر- فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا» ، فلما صلى الغداة

_ (1) ابن هشام 2/ 499، 500، وروى مثل ذلك البخاري 2/ 620، 621.

العمرة والانصراف إلى المدينة:

قاموا فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس» ، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس: وهنتموني. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا. فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا» ، فقال الناس: قد طيبنا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا رسول الله صلّى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية. العمرة والانصراف إلى المدينة: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم في الجعرانة أهلّ معتمرا منها، فأدى العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعا إلى المدينة بعد أن ولى على مكة عتاب ابن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 هـ. قال محمد الغزالي: لله ما أفسح المدى الذي بين هذه الآونة الظافرة بعد أن توج الله هامته بالفتح المبين، وبين مقدمه إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام؟ لقد جاء مطاردا يبغي الأمان، غريبا مستوحشا ينشد الإيلاف والإيناس، فأكرم أهله مثواه، وآووه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، واستخفوا بعداوة الناس جميعا من أجله، وها هو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة التي استقبلته مهاجرا خائفا؛ لتستقبله مرة أخرى وقد

دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها فأنهضها؛ ليعزها بالإسلام، وعفا عن خطيئاتها الأولى إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (12: 90) «1» .

_ (1) فقه السيرة ص 303، وانظر لتفصيل هذه الغزوات- فتح مكة وحنين والطائف، وما وقع خلالها- زاد المعاد ج 2 من ص 160 إلى 201، وابن هشام ج 2 من ص 389 إلى 501، وصحيح البخاري أبواب غزوة الفتح وحنين وأوطاس والطائف وغيرها ج 2 من ص 612 إلى 622، وفتح الباري ج 8 من ص 3 إلى 58.

غزوة تبوك في رجب سنة 9 هـ

غزوة تبوك في رجب سنة 9 هـ إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل. لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم عند العرب، ولذلك انقلب المجرى تماما، ودخل الناس في دين الله أفواجا- كما سيظهر ذلك مما تقدمه في فصل الوفود، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع- وانتهت المتاعب الداخلية واستراح المسلمون؛ لتعليم شرائع الله، وبث دعوة الإسلام. سبب الغزوة: إلا أنها كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان- أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان- وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول الله صلّى الله عليه وسلم- الحارث بن عمير الأزدي- على يدي شرحبيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى عظيم بصرى، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم. ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطرا يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يرى أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في

الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان:

صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان. ونظرا إلى هذه المصالح لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة؛ حتى أخذ يهيء الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة. الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان: وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان؛ للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتا غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان، ويظهر ذلك جليا مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا في هذه السنة (9 هـ) وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له. ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته فظنوا أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلقهن، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق، يقول عمر بن الخطاب- وهو يروي هذه القصة-: وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتيه أنا بالخبر- وكانا يسكنان في عوالي المدينة، يتناوبان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم- ونحن نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أزواجه. الحديث «1» . وفي لفظ آخر (أنه قال) : وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء، فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أنائم هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم. فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم نساءه. الحديث «2» . وهذا يدل على خطورة الموقف. الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان. ويزيد ذلك تأكدا ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كل الميادين، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض،

_ (1) صحيح البخاري 2/ 730. (2) نفس المصدر 1/ 334.

الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان:

بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق، برغم هذا كله طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله. ونظرا إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر، في صورة مسجد، وهو مسجد الضرار، أسسوه كفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله، وعرضوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين، فلا يفطنوا ما يؤتى به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخر الصلاة فيه- إلى قفوله من الغزوة- لشغله بالجهاز، ففشلوا في مرامهم وفضحهم الله، حتى قام الرسول صلّى الله عليه وسلم بهدم المسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه. الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان: كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون، إذ بلغهم من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشا عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطى قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنه أجلب معهم قبائل لخم وجذام وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء. وهكذا تمثل أمام المسلمين خطر كبير. زيادة خطورة الموقف: والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاغ وقلة من الظهر، وكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال، من الزمان الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة. الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يقرر القيام بإقدام حاسم: ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله. إنه كاان يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة؛ كان له أسوأ أثر

الاعلان بالتهيؤ لقتال الرومان:

على الدعوة الإسلامية، وعلى سمعة المسلمين العسكرية، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاسمة في حنين ستحيا مرة أخرى، والمنافقون الذي يتربصون الدوائر بالمسلمين بخناجرهم من الخلف، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو وأصحابه في نشر الإسلام، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ... تذهب هذه المكاسب بغير جدوى. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرف كل ذلك جيدا، ولذلك قرر القيام- مع ما كان فيه من العسرة والشدة- بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام. الاعلان بالتهيؤ لقتال الرومان: ولما قرر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم، وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، ولكنه نظرا إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلى للناس أمرهم، ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد، وتحثهم على القتال ورغبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل الله. المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو: ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة- إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر- حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (9: 92) .

الجيش الاسلامي إلى تبوك:

كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات. كان عثمان بن عفان قد جهز عيرا للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلّى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» «1» ، ثم تصدق وتصدق، حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود. وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله- وكانت أربعة آلاف درهم، وهو أول من جاء بصدقته، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مدا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها؛ وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرط وخواتم. ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ (9: 79) الجيش الاسلامي إلى تبوك: وهكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل سباع بن عرفطة، وخلف على أهله علي بن أبي طالب، وأمره بالإقامة فيهم، وغمص عليه المنافقون، فخرج فلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرده إلى المدينة وقال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» . ثم تحرك رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيرا- ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط- فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزا كاملا. بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان ثمانية عشر رجلا يعتقبون بعيرا واحدا وربما أكلوا أوراق

_ (1) جامع الترمذي. مناقب عثمان بن عفان 2/ 211.

الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح البعير- مع قلتها- ليشربوا ما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العسرة. ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحجر- ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القرى- فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة. وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا» ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح عليه السلام. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: لما مر النبي صلّى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين» ، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي «1» . واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء. ولما قرب من تبوك قال: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي» . قال معاذ: فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تبض بشيء من مائها، فسألهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هل مسستما من مائها شيئا» ؟ قالا: نعم. وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرف من العين قليلا حتى اجتمع الوشل، ثم غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه وجهه ويده، تم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى هاهنا قد ملىء جنانا» «2» . وفي الطريق أو لما بلغ تبوك- على اختلاف الروايات- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله» ، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء «3» .

_ (1) صحيح البخاري باب نزول النبي صلّى الله عليه وسلم الحجر 2/ 637. (2) رواه مسلم عن معاذ بن جبل 2/ 246. (3) نفس المصدر.

الجيش الإسلامي بتبوك:

وكان دأب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخير كليهما. الجيش الإسلامي بتبوك: نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيهم خطيبا، فخطب خطبة بليغة، أتى بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة. وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذهم الرعب فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية. وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة، بما لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين. جاء يحنة بن روبة صاحب أيلة، فصالح الرسول صلّى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأهل أذرح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم، وكتب لصاحب أيلة «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» . وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك زعيم دومة الجندل في أربعمائة وعشرين فارسا، وقال له: إنك ستجده يصيد البقر، فاتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت البقر، تحك بقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيدها- وكانت ليلة مقمرة- فتلقاه خالد من خيله، فأخذه وجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يحنة على قضية دومة وتبوك وأيلة وتيماء. وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات

الرجوع إلى المدينة:

أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير. الرجوع إلى المدينة: ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيدا، وكفى الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلا من المنافقين الفتك بالنبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة بن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة. فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة. القوم من روائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمحجن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمى بصاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الله تعالى وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. ولما لاحت للنبي صلّى الله عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال: هذه طلة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه، وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن «1» : طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع وكان خروجه صلّى الله عليه وسلم إلى تبوك في رجب وعوده في رمضان، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوما. أقام منها عشرين يوما في تبوك. والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبا. وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلّى الله عليه وسلم. المخلفون: وكانت هذه الغزوة- لظروفها الخاصة بها- اختبارا شديدا من الله تعالى، امتاز به المؤمنون من غيرهم. كما هو دأبه تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ

_ (1) هذا رأي ابن القيم وقد مضى البحث عليه في ص 172.

الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (3: 179) فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمنا صادقا، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لهم: دعوه، فإن يكن فيه خير سيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبا، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر. وهم الذين أبلاهم الله، ثم تاب عليهم. ولما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون- وهم بضعة وثمانون رجلا «1» - فجاؤوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين- وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية- فاختاروا الصدق، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصحابة أن لا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل الله توبتهم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (9: 118) . وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحا لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم. وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، الآيتين (9: 91)

_ (1) ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء، وكانوا عددا كثيرا (انظر فتح الباري 8/ 119) .

أثر الغزوة:

وقال فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دنا من المدينة: «إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر» ، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة. أثر الغزوة: وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوى قوة الإسلام، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهليين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدوا آمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، واستسلموا للأمر الواقع، الذي لم يجدوا عنه محيدا ولا مناصا. ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر الله بالتشديد عليهم، حتى نهى عن قبول صدقاتهم، وعن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم، والقيام على قبرهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسم المسجد، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحا تاما، لم يبق في معرفتهم بعدها أي خفاء، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة. ويعرف مدى أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد غزوة فتح مكة؛ بل وما قبلها، إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة «1» . نزول القرآن حول موضوع الغزوة: نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج- وهو في السفر- وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على

_ (1) أخذنا تفاصيل هذه الغزوة من ابن هشام 2/ 515 إلى 537، وزاد المعاد 3/ 2 إلى 13 وصحيح البخاري 2/ 633، 635، 636، 637 و 1/ 252، 414 وغيرها وصحيح مسلم مع شرحه للنووي 2/ 246. وفتح الباري 8/ 110 إلى 126 ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي من ص 391 إلى 407.

ذكر ظروف الغزوة، وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور.

الناس يدخلون في دين الله أفواجا

الناس يدخلون في دين الله أفواجا كانت غزوة فتح مكة- كما قلنا- معركة فاصلة، قضت على الوثنية قضاء باتا، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات، فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام. قال عمرو بن سلمة: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ - أي النبي صلّى الله عليه وسلم- فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه. أوحى الله كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يقرأ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي- صلّى الله عليه وسلم- حقا. فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا. الحديث «1» . وهذا الحديث يدل على مدى أثر فتح مكة في تطوير الظروف، وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك، ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة تترى في هذين العامين- التاسع والعاشر- ونرى الناس يدخلون في دين الله أفواجا، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخر في ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك، قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نرى في حجة الوداع بحرا من رجال الإسلام- مائة ألف من الناس أو مائة وأربعة وأربعون ألفا منهم- يموج حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء.

_ (1) صحيح البخاري 2/ 615، 616

الوفود:

الوفود: والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين وفدا، ولا يمكن لنا استقصاءها، وليس كبير فائدة في بسط تفاصيلها، وإنما نذكر منها إجمالا ماله روعة أو أهمية في التاريخ. وليكن على ذكر من القارىء أن وفادة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح؛ ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضا: (1) وفد عبد القيس- كانت لهذه القبيلة وفادتان: الأولى سنة خمس من الهجرة أو قبل ذلك. كان رجل منهم يقال له منقذ بن حيان، يرد المدينة بالتجارة، فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقدم النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلم بالإسلام أسلم وذهب بكتاب من النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهر حرام في ثلاثة أو أربعة عشر رجلا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان كبيرهم الأشج العري الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة. والوفادة الثانية كانت في سنة الوفود، وكان عددهم فيها أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه «1» . (2) وفد دوس- كانت وفادة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر، وقد قدمنا حديث إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، وأنه أسلم ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، ثم رجع إلى قومه، فلم يزل يدعوهم إلى الإسلام، ويبطئون عليه، حتى يئس منهم، ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فطلب منه أن يدعو على دوس، فقال: اللهم اهد دوسا. ثم أسلم هؤلاء، فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين بيتا من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر فلحق به. (3) رسول فروة بني عمرو الجذامي- كان فروة قائدا عربيا من قواد الرومان، عاملا لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام، أسلم بعدما رأى من جلاد المسلمين وشجاعتهم، وصدقهم اللقاء في معركة مؤتة سنة 80 هـ. ولما أسلم بعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما علم الروم بإسلامه أخذوه

_ (1) شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 33، فتح الباري 8/ 85، 86.

فحبسوه، ثم خيروه بين الردة والموت، فاختار الموت على الردة، فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له عفراء، وضربوا عنقه «1» . (4) وفد صداء- جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة 8 هـ. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هيأ بعثا من أربعمائة من المسلمين، وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها صداء، وبينما ذلك البعث معسكر بصدر قناة علم به زياد بن الحارث الصدائي، فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: جئتك وافدا على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فرد الجيش من صدر قناة، وجاء الصدائي إلى قومه فرغهم في القدوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقدم عليه خمسة عشر رجلا منهم، وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى قومهم، فدعوهم، ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع. (5) قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى- كان من بيت الشعراء، ومن أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوة الطائف سنة 8 هـ، كتب إلى كعب بن زهير أخوه بجير بن زهير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا، وإلا فانج إلى نجاتك. ثم جرى بين الأخوين مراسلات ضاقت لأجلها الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاء المدينة، ونزل على رجل في جهينة، وصلى معه الصبح، فلما انصرف أشار عليه الجهني، فقام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول الله. إن كعب بن زهير، قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: «نعم» . قال: أنا كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال: «دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا نازعا عما كان عليه» . وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهورة التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها، لم يفد، مكبول قال فيها- وهو يعتذر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويمدحه-:

_ (1) زاد المعاد 3/ 45، تفهيم القرآن 2/ 169.

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها، لم يفد، مكبول نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب، ولو كثرت فيّ الأقاويل لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد، إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل حتى وضعت يميني ما أنازعه ... في كف ذي نقمات قيله القيل فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ... وقيل: إنك منسوب ومسؤول من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... في بطن عثر غيل دونه غيل إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لأنهم لم يكن تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إلا بخير، وعرض في أثناء مدحهم على الأنصار لاستئذان رجل منهم في ضرب عنقه، قال: يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم، قال في تلك القصيدة: من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار (6) وفد عذرة- قدم هذا الوفد في صفر سنة 9 هـ. هم اثنا عشر رجلا فيهم حمزة بن النعمان. قال متكلمهم حين سئلوا من القوم: نحن بنو عذرة، أخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، لنا قرابات وأرحام، فرحب بهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وبشرهم بفتح الشام، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها. أسلموا وأقاموا أياما ثم رجعوا. (7) وفد بلي- قدم في ربيع الأول سنة 9 هـ، وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثا، وقد سأل رئيسهم أبو الضبيب عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة» ، وسأل عن وقت الضياغة، فقال: «ثلاثة أيام» ، وسأل عن ضالة

الغنم فقال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» ، وسأل عن ضالة البعير، فقال: «ما لك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه» . (8) وفد ثقيف- كانت وفادتهم في رمضان سنة 9 هـ. بعد مرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من تبوك. وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائف في ذي القعدة سنة 8 هـ قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم عروة، ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام- وهو يظن أنهم يطيعونه؛ لأنه كان سيدا مطاعا في قومه، وكان أحب إليهم من أبكارهم- فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهرا، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب- الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا- فأجمعوا أن يرسلوا رجلا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكلموا عبد ياليل بن عمرو، وعرضوا عليه ذلك فأبى، وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة، وقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان أحدثهم سنا. فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضية صلح بينه وبين ثقيف. يأذن لهم فيها بالزنى وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات، وأن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقبل شيئا من ذلك، فخلوا وتشاوروا، فلم يجدوا محيصا عن الاستسلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستسلموا وأسلموا، واشترطوا أن يتولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هدم اللات، وأن ثقيفا لا يهدمونها بأيديهم أبدا؛ فقبل ذلك، وكتب لهم كتابا، وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدين والقرآن؛ وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يغدون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوا بالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائما عمد إلى أبي بكر لنفس الغرض، (وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفا لما عزمت على الردة قال

لهم: يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أول الناس ردة، فامتنعوا على الردة، وثبتوا على الإسلام) . ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزن والكآبة، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سألهم الإسلام وترك الزنى والخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم، فأخذت ثقيف نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد: ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل، وحينئذ أبدى الوفد حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت ثقيف. وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا لهدم اللات، أمر عليهم خالد بن الوليد، فقام المغيرة بن شعبة، فأخذ الكرزين وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف. فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف، وقالوا: أبعد الله المغيرة، قتلته الربة، فوثب المغيرة فقال: قبحكم الله، إنما هي لكاع حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها بالأرض حتى حفروا أساسها، وأخرجوا حليها ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحليها وكسوتها، فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يومه، وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه «1» . (9) رسالة ملوك اليمن- وبعد مرجع النبي صلّى الله عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حمير، وهم الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان بن قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر، ورسولهم إليه صلّى الله عليه وسلم مالك بن مرة الرهاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا بين فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطى فيهم المعاهدين ذمة الله وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليهم من الجزية، وبعث إليهم رجالا من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل. (10) وفد همدان- قدموا سنة 9 هـ بعد مرجعه صلّى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالدا، فجاء علي إلى همدان، وقرأ عليهم كتابا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعا، وكتب علي ببشارة

_ (1) زاد المعاد 3/ 26، 27، 28، ابن هشام 3/ 537 إلى 542.

إسلامهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما قرأ الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان. (11) وفد بني فزازة- قدم هذا الوفد سنة 9 هـ بعد مرجعه صلّى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعة عشر رجلا جاؤوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقى، وقال: اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا، مغيثا، مريحا، مريعا طبقا، واسعا، عاجلا، غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء «1» . (12) وفد نجران- (نجران، بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع «2» ، وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا على دين المسيحية) . وكانت وفادة أهل نجران سنة 9 هـ، وقوام الوفد ستون رجلا، منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران، أحدهم العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة واسمه عبد المسيح، والثاني السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية واسمه الأيهم أو شرحبيل، والثالث الأسقف وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة. ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقي النبي صلّى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (3: 59، 60، 61) .

_ (1) زاد المعاد 3/ 48. (2) فتح الباري 8/ 94.

ولما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخبرهم بقوله في عيسى بن مريم في ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم؛ ليفكروا في أمرهم، فأبوا أن يقروا بما قال في عيسى. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم من قوله في عيسى، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المباهلة، وأقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره، فلما رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقب والسيد للآخر: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمرهم، فجاؤوا وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا. فقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة الله وذمة رسوله، وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتابا، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلا أمينا، فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح؛ ليقبض مال الصلح. ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث إليهم عليا؛ ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين «1» . (13) وفد بني حنيفة- كانت وفادتهم سنة 9 هـ. وكانوا سبعة عشر رجلا فيهم مسيلمة الكذاب «2» - وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة- نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإمارة، وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولا، فلما رأى أن ذلك لا يجدي فيه نفعا تفرس فيه الشر.

_ (1) فتح الباري 8/ 94، 95، زاد المعاد 3/ 38، 39، 40، 41، وقد اضطربت الروايات في بيان كيفية وفد نجران، حتى جنح بعض المحققين إلى أن وفادة أهل نجران كانت مرتين، وقد ذكرنا- ملخصا- ما ترجح عندنا في هذا الوفد. (2) فتح الباري 8/ 87.

وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قد أري قبل ذلك في المنام أنه أتي بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحى إليه أن انفخهما، فنفخهما، فذهبا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الاستنكاف- وقد كان يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته- جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شماس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، والله إني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف «1» . وأخيرا وقع ما تفرس فيه النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن مسيلمة لما رجع إلى اليمامة بقي يفكر في أمره، حتى ادعى أنه أشرك في الأمر مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فادعى النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه، وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم. وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا قال فيه: إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» . وعن ابن مسعود قال: جاء ابن النواحة، وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسوله. لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما «3» . كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ربيع الأول سنة 12 هـ، قتله وحشي قاتل حمزة. وأما المتنبىء الثاني، وهو الأسود

_ (1) انظر صحيح البخاري باب وفد بني حنيفة، وباب قصة الأسود العنسي 2/ 627، 628 وفيتح الباري 8/ 87 إلى 93. (2) زاد المعاد 3/ 31، 32. (3) رواه الإمام أحمد، مشكاة المصابيح 2/ 347.

العنسي الذي كان باليمن، فقتله فيروز، واحتز رأسه قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي الله عنه «1» . (14) وفد بني عامر بن صعصعة- كان فيهم عامر بن الطفيل عدو الله وأربد بن قيس- أخو لبيد لأمه- وخالد بن جعفر، وجبار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم، وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر معونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلّى الله عليه وسلم، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلّى الله عليه وسلم، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبرا، ثم حبس الله يده فلم يقدر على سله، وعصم الله نبيه، ودعا عليهما النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما رجعا أرسل الله على أربد وجمله صاعقة فأحرقته، وأما عامر فنزل على امرأة سلولية، فأصيب بغدة في عنقه فمات وهو يقول: أغدة كغدة البعير، وموتا في بيت السلولية. وفي صحيح البخاري: أن عامرا أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين خصال ثلاث: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة، فقال: أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان، إيتوني بفرسي. فركب، فمات على فرسه. (15) وفد تجيب- قدم هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم وكان الوفد ثلاثة عشر رجلا، وكانوا يسألون عن القرآن والسنن يتعلمونها، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها، ولم يطيلوا اللبث، ولما أجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعثوا إليه غلاما كانوا خلفوه في رحالهم، فجاء الغلام، وقال: والله ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فدعا له بذلك، فكان أقنع الناس، وثبت في الردة على الإسلام، وذكر قومه؛ ووعظهم فثبتوا عليه، والتقى أهل الوفد بالنبي صلّى الله عليه وسلم مرة أخرى في حجة الوداع سنة 10 هـ. (16) وفد طيء- قدم هذا الوفد وفيهم زيد الخيل، فلما كلموا النبي صلّى الله عليه وسلم، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن زيد: «ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه» ، وسماه زيد الخير.

_ (1) فتح الباري 8/ 93.

وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن، والأزد وبني سعد هذيم من قضاعة، وبني عامر بن قيس، وبني أسد، وبهراء، وخولان، ومحارب، وبني الحارث بن كعب، وغامد، وبني المنتفق، وسلامان، وبني عبس، ومزينة، ومراد، وزبيد، وكندة، وذي مرة، وغسان، وبني عيش، ونخع- وهو آخر الوفود، توافد في منتصف محرم سنة 11 هـ في مائتي رجل- وكانت وفادة الأغلبية من هذه الوفود سنة 9 و 10 هـ، وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة 11 هـ. وتتابع هذه الوفود يدل على مدى ما نالت الدعوة الإسلامية من القبول التام، وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن ترى محيصا عن الاستسلام أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرف النظر عنها، إلا أننا لا يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاء باسرهم؛ لأنه كان وسطهم كثير من الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعا لسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد ما تأصل فيها من الميل إلى الغارات، ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب، وقد وصف القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (9: 97، 98) وأثنى على آخرين منهم قال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (9: 99) . أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن والبحرين؛ فقد كان الإسلام فيهم قويا، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين «1» .

_ (1) كلمة للخضري في محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 144. وانظر في تفاصيل الوفود التي ذكرناها أو أشرنا إليها، صحيح البخاري 1/ 13، 2/ 626، 627، 628، 629، 630. وابن هشام 2/ 501، 502، 503، 510، 511، 512، 513، 514، 537، 538، 539، 540، 541، 542، 560 إلى 601، وزاد المعاد 3/ 26 إلى 60، وفتح الباري 8/ 83 إلى 103 ورحمة للعالمين 1/ 184 إلى 217.

حجة الوداع

حجة الوداع تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية لله، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، وكأن هاتفا خفيا انبعث في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذا على اليمن سنة 100 هـ قال له فيما قال: يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وشاء الله أن يرى رسوله صلّى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها ألوانا من المتاعب بضعا وعشرين عاما، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة. أعلن النبي صلّى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» . وفي يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلّى الله عليه وسلم للرحيل «2» ، فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح، فلما أصبح قال لأصحابه: أتاني الليلة آت من ربي. فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة «3» .

_ (1) روى ذلك مسلم عن جابر، باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلم 1/ 394. (2) حقق ذلك ابن حجر تحقيقا أنيقا، مع تصحيح ما ورد من أنه خرج لخمس بقين من ذي العقدة انظر فتح الباري 8/ 104. (3) رواه البخاري عن عمر 1/ 207.

وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضا، ثم أهل لما استقلت به على البيداء. ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10 هـ- وقد قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى- فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، ثم صلى ركعتين خلف المقام وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارنا قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحجون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج. وأمر من لم يكن معه هدي في أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالا تاما، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا. ثم أقام في مكة حتى اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية. فلما زالت الشمس توجه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبات فيها ثم صلى الفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس. فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربة وأربعون ألفا من الناس، فقام فيهم خطيبا، وألقى هذه الخطبة الجامعة: «أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا «1» . إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن عمي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.

_ (1) ابن هشام 2/ 603.

فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن [1] فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهم بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله «1» . أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم «2» . وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون» ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس «اللهم اشهد» . ثلاث مرات «3» . وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو بعرفة- ربيعة بن أمية بن خلف «4» . وبعد أن فرغ النبي صلّى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (5: 3) وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان «5» . وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، فصلى بها

_ (1) صحيح مسلم باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلم 1/ 397. (2) معدن الأعمال، ورواه ابن ماجه وابن عساكر، رحمة للعالمين 1/ 263. (3) مسلم 1/ 397. (4) ابن هشام 2/ 605. (5) رواه البخاري عن ابن عمر ... انظر رحمة للعالمين 1/ 265.

المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا. فدفع- من المزدلفة إلى منى- قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة- وهي الجمرة الكبرى نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العقبة وبالجمرة الأولى- فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر- وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة- وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» ، فناولوه دلوا فشرب منه «1» . وخطب النبي صلّى الله عليه وسلم يوم النحر- عاشر ذي الحجة- أيضا حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد «2» . وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكرة قال: خطبنا النبي صلّى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» . وقال: «أي شهر هذا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس ذا الحجة» ؟ قلنا: بلى. قال: «أي بلد هذا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليست البلدة» ؟ قلنا: بلى. قال: «فأي

_ (1) رواه مسلم عن جابر، باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلم 1/ 397، 398، 399، 400. (2) روى ذلك أبو داود، باب أي وقت يخطب يوم النحر 1/ 270.

يوم هذا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر» ؟ قلنا: بلى. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» . «وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض» . «ألا هل بلغت» ؟ قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع» «1» . وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة: «ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به» «2» . وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدى من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها، وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضا، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الرؤوس، فقال: «أليس هذا أوسط أيام التشريق» «3» . وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر. وفي يوم النفر الثاني- الثالث عشر من ذي الحجة- نفر النبي صلّى الله عليه وسلم من منى، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع، وكان قد أمر الصحابة أيضا. ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظا من الراحة، بل

_ (1) صحيح البخاري، باب الخطبة أيام منى 1/ 234. (2) رواه الترمذي 2/ 38، 135 وابن ماجة في الحج، مشكاة المصابيح 1/ 234. (3) أبو داود. باب أي يوم يخطب بمنى 1/ 269.

أخر البعوث:

ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله «1» . وفي طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة توقف في منطقة غدير خم قرب الحجفة يوم 18 ذي الحجة، ثم خطب وأثنى على سيدنا علي بن أبي طالب وكان أهل اليمن قد أكثروا الشكاية عليه لأنه منعهم من ركوب إبل الصدقه. ومما قاله صلّى الله عليه وسلم: لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشى في ذات الله من أن يشكى. ومنها قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. رواه أصحاب السنن والإمام أحمد. أخر البعوث: كانت كبرياء دولة الروم قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان واليا على معان من قبل الروم. ونظرا إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجهز جيشا كبيرا في صفر سنة 11 هـ، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب. وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليّ، وإن هذا من أحب الناس إليّ بعده «2» . وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضى الله أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق «3» .

_ (1) انظر لتفصيل حجة النبي صلّى الله عليه وسلم صحيح البخاري كتاب المناسك ج 1 و 2/ 631 وصحيح مسلم باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلم وفتح الباري ج 3 من شرح كتاب المناسك وج 8/ 103 إلى 110 وابن هشام 2/ 601 إلى 605، زاد المعاد 1/ 196، 218 إلى 240. (2) صحيح البخاري. باب بعث النبي صلّى الله عليه وسلم أسامة 2/ 612. (3) المصدر السابق وابن هشام 2/ 606، 560.

إلى الرفيق الأعلى

إلى الرفيق الأعلى طلائع التوديع: لما تكاملت الدعوة، وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلّى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله. إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، وقال وهو عند جمرة العقبة: خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه. وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها «1» . وخرج ليلة- في منتصفها- إلى البقيع فاستغفر لهم، وقال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. وبشرهم قائلا: إنا بكم للاحقون. بداية المرض: وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11 هـ- وكان يوم الإثنين- شهد

_ (1) متفق عليه، صحيح البخاري 2/ 585.

الأسبوع الأخير:

رسول الله صلّى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع- وهو في الطريق- أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه. وقد صلى النبي صلّى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوما، وجميع أيام المرض كانت 13 أو 14 يوما. الأسبوع الأخير: وثقل برسول الله صلّى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة. قبل الوفاة بخمسة أيام: ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: هريقوا عليّ سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: «حسبكم، حسبكم» . وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد- وهو معصوب الرأس- حتى جلس على المنبر، وخطب الناس- والناس مجتمعون حوله- فقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» - وفي رواية «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد «1» - وقال: لا تتخذوا قبري وثنا يعبد» «2» . وعرض نفسه للقصاص قائلا: «من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه» . ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها،

_ (1) صحيح البخاري 1/ 62، موطا الإمام مالك ص 360. (2) موطأ الإمام مالك ص 65.

قبل أربعة أيام:

فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: أعطه يا فضل، ثم أوصى بالأنصار قائلا: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» وفي رواية أنه قال: «إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم» «1» . ثم قال: «إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده» قال أبو سعيد الخدري: فبكى أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا «2» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر» «3» . قبل أربعة أيام: ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال- وقد اشتد به الوجع-: «هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده» فقال بعضهم: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قوموا عني» «4» . وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب،

_ (1) صحيح البخاري 1/ 536. (2) متفق عليه، مشكاة المصابيح 2/ 546. (3) متفق عليه. مشكاة المصابيح 2/ 548، صحيح البخاري 1/ 22، 429، 449، 2/ 638. (4) رواه البخاري عن أم الفضل باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلم 2/ 637.

قبل يوم أو يومين:

وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي، ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي «الصلاة وما ملكت أيمانكم» . والنبي صلّى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم- يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام- وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفا «1» . وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أصلى الناس» ؟ قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك. قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» . ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس» ؟ - ووقع ثانيا وثالثا ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء- فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام «2» ؛ 17 صلاة في حياته صلّى الله عليه وسلم. وراجعت عائشة النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر، حتى لا يتشاءم به الناس، فأبي، وقال: «إنكن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس» . قبل يوم أو يومين: ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلّى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: «أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويسمع الناس التكبير «3» . قبل يوم: وقبل يوم من الوفاة- يوم الأحد- أعتق النبي صلّى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها،

_ (1) متفق عليه مشكاة المصابيح 1/ 102. (2) صحيح البخاري 1/ 99. (3) صحيح البخاري 1/ 98، 99.

أخر يوم من الحياة:

وكانت درعه صلّى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من الشعير. أخر يوم من الحياة: روى أنس بن مالك: أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر يوم الإثنين- وأبو بكر يصلي بهم- لم يفجأهم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر «1» . ثم لم يأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى. ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة فسارها بشيء فبكت. ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة، فسألنا عن ذلك- أي فيما بعد- فقالت: سارني النبي صلّى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت «2» . وبشر النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين «3» . ورأت فاطمة ما برسول الله صلّى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب أباه. فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» «4» . ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: «يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من

_ (1) نفس المصدر، باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلم 2/ 640. (2) صحيح البخاري 2/ 638. (3) ويدل بعض الروايات أن هذا الحوار والبشارة لم يكن في آخر يوم من حياته بل في آخر أسبوع. رحمة للعالمين 1/ 282. (4) صحيح البخاري 2/ 641.

الاحتضار:

ذلك السم» «1» . وأوصى الناس، فقال: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» ، كرر ذلك مرارا «2» . الاحتضار: وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل عبد الرحمن- بن أبي بكر- وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته. فأمره- وفي رواية أنه استن بها كأحسن ما كان مستنا- وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» - الحديث- «3» . وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: «مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى» «4» . كرر الكلمة الأخيرة ثلاثا، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون. وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11 هـ. وقد تم له صلّى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام. تفاقم الأحزان على الصحابة: وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على المدينة أرجاؤها وآفاقها. قال أنس: ما رأيت يوما قط

_ (1) نفس المصدر 2/ 637. (2) نفس المصدر. (3) صحيح البخاري. باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلم 2/ 640. (4) نفس المصدر والباب، وباب آخر ما تكلم النبي صلّى الله عليه وسلم 2/ 638، 639، 640، 641.

موقف عمر:

كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» . ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربا دعاه. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه «2» . موقف عمر: ووقف عمر بن الخطاب- وقد أخرجه الخبر عن وعيه- يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توفى، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات. والله ليرجعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات «3» . موقف أبي بكر: وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها. ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر. فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدا صلّى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله، فإن الله حي لا يموت. قال الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (3: 144) قال ابن عباس: والله لكأن

_ (1) رواه الدارمي. مشكاة المصابيح 2/ 547. (2) صحيح البخاري باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلم 2/ 641. (3) ابن هشام 2/ 655.

التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض:

الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. قال ابن المسيب: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد مات «1» . التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض: ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلّى الله عليه وسلم، فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخيرا اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومضى في ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى كان آخر الليل- ليلة الثلاثاء- مع الصبح، وبقي جسده المبارك على فراشه، مغشى بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله. ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل العباس وعليا، والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي. فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله، وأوس أسنده إلى صدره. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة «2» . أدرجوه فيها إدراجا. واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحدا. ودخل الناس الحجرة أرسالا عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولا أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان.

_ (1) صحيح البخاري 2/ 640، 641. (2) متفق عليه، صحيح البخاري 1/ 169، صحيح مسلم 1/ 306.

ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملا، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء «1» .

_ (1) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 471، وانظر لتفصيل لحوقه بالرفيق الأعلى: صحيح البخاري، باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلم وعدة أبواب بعده مع فتح الباري وصحيح مسلم ومشكاة المصابيح باب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم وابن هشام 2/ 649 إلى 665 وتلقيح فهوم أهل الأثر ص 38، 39 ورحمة للعالمين 1/ 277 إلى 286 وتعيين عامة الأوقات من المصدر الأخير.

مصورات الخلافة الراشدة جمع وترتيب الدكتور علاء الدين زعتري

فهرس الموضوعات الموضوع المقدمة 3 نسب النبي صلّى الله عليه وسلم وأسرته 5 طيب نسبه صلّى الله عليه وسلم 6 المولد وأربعون عاما قبل النبوة 7 المولد 7 في بني سعد 8 إلى أمه الحنون 10 إلى جده العطوف 10 إلى عمه الشفيق 11 بحيرا الراهب 11 حرب الفجار 12 حلف الفضول 12 حياة الكدح 13 زواجه خديجة 13 فضل خديجة ومنزلتها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم. 14 خطبة أبي طالب في خطبة خديجة من النبي صلّى الله عليه وسلم. 15 بناء الكعبة وقضية التحكيم 15 أهم ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء 17 مصور (حدود الدول أيام الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم) 20 مصور (الممالك العربية عند ظهور الاسلام) 21 في ظلال النبوة والرسالة 22 في غار حراء 22 جبريل ينزل بالوحي 23 فترة الوحي 26 جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية 26

الوحي وموقف المستشرقين منه 27 مصور (منازل أهم القبائل في الجزيرة العربية قبيل البعثة) 28 أدوار الدعوة ومراحلها 29 المرحلة الأولى (جهاد الدعوة) 31 ثلاث سنوات من الدعوة السرية 31 الرعيل الأول 31 وجه السرية في بدء دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم 33 المرحلة الثانية (الدعوة جهارا) 35 أول أمر بإظهار الدعوة 35 الدعوة في الأقربين 35 على جبل الصفا 36 الصدع بالحق وردود فعل المشركين 37 وفد قريش إلى أبي طالب 38 المجلس الاستشاري لكف الحجّاج عن استماع الدعوة 38 درجات المسؤولية 41 دار الأرقم 41 مقدمة 41 العبر والدلالات 43 الهجرة الأولى إلى الحبشة 44 قصة الغرانيق 45 أثر هذه القصة على مهاجري الحبشة 46 الهجرة الثانية إلى الحبشة 46 مكيدة قريش بمهاجري الحبشة 46 اخفاق المهمة 48 قضية إسلام النجاشي 49 قريش يهددون أبا طالب 50 قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى 50 فكرة الطغاة في إعدام النبي صلّى الله عليه وسلم 51 اسلام حمزة رضي الله عنه 53 إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه 54

أثر إسلام عمر على المشركين 57 أثر إسلام عمر على المسلمين 58 ممثل قريش بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم 59 الدلالات 61 أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب 62 المقاطعة العامة 63 سببها 63 ميثاق الظلم والعدوان 63 ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب 64 نقض صحيفة الميثاق 64 صور من واقع الحصار الاقتصادي 66 آخر وفد قريش إلى أبي طالب 67 عام الحزن 69 وفاة أبي طالب 69 خديجة إلى رحمة الله 70 تراكم الأحزان 70 من صور إيذاء المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه 72 المرحلة الثالثة (دعوة الاسلام خارج مكة) 73 الرسول صلّى الله عليه وسلم في الطائف 73 عرض الاسلام على القبائل والأفراد 78 القبائل التي عرض عليها الاسلام 78 المؤمنون من غير أهل مكة 79 ست نسمات طيبة من أهل يثرب 83 الإسراء والمعراج 85 بأي شيء كان الإسراء والمعراج 89 بيعة العقبة الأولى 90 سفير الاسلام في المدينة 91 العبر والدلالات 91 بيعة العقبة الثانية 92 بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسؤولية 93

بنود البيعة 94 التأكيد من خطورة البيعة 95 عقد البيعة 95 اثنا عشر نقيبا 96 نقباء الخزرج 96 نقباء الأوس 97 طلائع الهجرة 99 الدلالات والعبر 102 هدف الدعوة 102 حكم الهجرة 102 في دار الندوة (برلمان قريش) 103 النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلم 105 هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم 106 تطويق منزل الرسول صلّى الله عليه وسلم. 106 الرسول صلّى الله عليه وسلم يغادر بيته 108 من الدار إلى الغار 108 إذ هما في الغار 109 في الطريق إلى المدينة 111 النزول بقباء 115 الدخول في المدينة 117 لمحات من الهجرة 120 نص الخطبة الأولى في المدينة 121 من قدم من أهل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة 121 مصور (طريق الهجرة) 122 مصور (خط السير من قباء إلى مكان المسجد النبوي) 123 بناء مجتمع جديد 124 بناء المسجد النبوي 124 المؤاخاة بين المسلمين 125 ميثاق التحالف الاسلامي 126 أثر المعنويات في المجتمع 128

معاهدة مع اليهود 132 بنود المعاهدة 132 الكفاح الدامي 134 استفزازات قريش ضد المسلمين 134 إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام 135 قريش تهدد المهاجرين 135 الإذن بالقتال 136 الغزوات والسرايا قبل بدر 137 غزوة بدر الكبرى 144 سبب الغزوة 144 مبلغ قوة الجيش الاسلامي وتوزيع القيادات 144 الجيش الاسلامي يتحرك نحو بدر 145 النذير في مكة 145 أهل مكة يتجهزون للغزو 146 قوام الجيش المكي 146 مشكلة قبائل بني بكر 146 جيش مكة يتحرك 147 العير تفلت 147 هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الانشقاق فيه 147 حراجة موقف الجيش الاسلامي 148 المجلس الاستشاري 148 الجيش الاسلامي يواصل سيره 150 الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الاستكشاف 150 الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي 150 نزول المطر 151 الجيش الاسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية 151 مقر القيادة 152 تعبئة الجيش وقضاء الليل 152 الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الانشقاق فيه 153 خريطة غزوة بدر 154

الجيشان يتراآن 155 تعليمات القتال 155 ساعة الصفر وأول وقود المعركة 156 المبارزة 156 الهجوم العام 157 الرسول صلّى الله عليه وسلم يناشد ربه 157 نزول الملائكة 158 الهجوم المضاد 158 إبليس ينسحب عن ميدان القتال 159 الهزيمة الساحقة 159 صمود أبي جهل 160 مصرع أبي جهل 160 قتلى الفريقين 162 مصور (غزوة بدر الكبرى) 163 العبر والعظات 165 مؤامرة لاغتيال النبي صلّى الله عليه وسلم 167 غزوة بني قينقاع 168 مصور (غزوة بني قينقاع) 169 نموذج من مكيدة اليهود 170 بنو قينقاع ينقضون العهد 171 الحصار ثم التسليم ثم الجلاء 172 غزوة السويق 173 غزوة ذي أمر 174 قتل كعب بن الأشرف 175 غزوة بحران 178 سرية زيد بن حارثة 178 غزوة أحد 181 استعداد قريش لمعركة ناقمة 181 المحرّضون 181 تمويل الحرب 181

التعبئة العامة 181 قوام جيش قريش وقيادته 182 جيش مكة يتحرك 182 الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو 183 استعداد المسلمين للطوارئ 183 الجيش المكي إلى أسوار المدينة 183 المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع 184 تكتيب الجيش الاسلامي وخروجه إلى ساحة القتال 185 توزيع الجيش 185 قوام الجيش 185 استعراض الجيش 186 المبيت بين أحد والمدينة 186 تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه 186 بقية الجيش الاسلامي إلى أحد 187 خطة الدفاع 188 الرسول صلّى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش 189 تعبئة الجيش المكي 190 مناورات سياسية من قبل قريش 190 جهود نسوة قريش في التحميس 191 أول وقود المعركة 191 ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته 192 القتال في بقية النقاط 193 مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب 194 مصور (الطريق إلى أحد) 195 مصور (تعبئة غزوة أحد) عبد المطلب 196 السيطرة على الموقف 197 (غسيل الملائكة) 197 غلطة الرماة الفظيعة 198 خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الاسلامي 199 موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق 199

تبد السلمين في الموقف 200 احتدام القتال حول رسول صلّى الله عليه وسلم. 202 أحرج ساعة في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم. 202 مصور (غزوة أحد) 203- 204 بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلّى الله عليه وسلم. 207 تضاعف ضغط المشركين 208 البطولات النادرة 208 إشاعة مقتل النبي صلّى الله عليه وسلم وأثره على المعركة 209 الرسول صلّى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف 210 خريطة غزوة أحد 211 مقتل أبي بن خلف 212 طلحة ينهض بالنبي صلّى الله عليه وسلم 212 اخر هجوم قام به المشركون 213 تشويه الشهداء 213 مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة 214 بعد انتهاء الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الشعب 215 شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر 215 مواعدة التلاقي في بدر 216 التثبت من موقف المشركين 216 تفقد القتلى والجرحى 216 جمع الشهداء ودفنهم 218 الرسول صلّى الله عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه 219 الرجوع إلى المدينة ونوادر الحب والتفاني 219 الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة 220 قتلى الفريقين 221 حالة الطوارئ في المدينة 221 غزوة حمراء الأسد 221 القرآن يتحدث حول معركة أحد وما بعدها 225 الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة 226 العبر والدلالات والعظات والدروس 227

السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب 229 سرية أبي سلمة 229 بعث عبد الله بن أنيس 230 بعث الرجيع 230 مأساة بئر معونة 232 غزوة بني النضير 233 مصور (غزوة بني النضير) 234 غزوة نجد 237 غزوة بدر الثانية 238 غزوة دومة الجندل 239 غزوة الأحزاب 241 قبائل العرب في العهد النبوي 242 خريطة غزوة الأحزاب 248 الدروس والعبر 254 مصور (معركة الخندق) 255 غزوة بني قريظة 256 مصور (إجلاء بني النضير) 261 غزوة بني المصطلق (غزوة المريسيع) 262 دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق 263 دور المنافقين في غزوة بني المصطلق 266 1- قول المنافقين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل 266 2- حديث الإفك 268 مصور (غزوة بني المصطلق) 271 العبر والدلالات 272 وقعة الحديبية 273 سبب عمرة الحديبية 273 استنفار المسلمين 273 المسلمون يتحركون إلى مكة 273 محاولة قريش صد المسلمين عن البيت 274 تبديل الطريق ومحاولة الاجتناب عن اللقاء الدامي 274

بديل يتوسط بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقريش 275 رسل قريش 275 هو الذي كف أيديهم عنكم 276 عثمان بن عفان سفيرا إلى قريش 277 إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان 277 إبرام الصلح وبنوده 278 رد أبي جندل 279 النحر والحلق للحل عن العمرة 279 الإباء عن رد المهاجرات 280 ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة 280 حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي صلّى الله عليه وسلم 282 انحلت أزمة المستضعفين 283 إسلام أبطال من قريش 283 وقفة تأمل في هذا الصلح 284 المرحلة الثانية (طور جديد) 285 مكاتبة الملوك والأمراء 286 1- الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة 286 2- الكتاب إلى المقوقس ملك مصر 289 3- الكتاب إلى كسرى ملك فارس 290 4- الكتاب إلى قيصر ملك الروم 291 5- الكتاب إلى المنذر بن ساوى 294 6- الكتاب إلى هوذه بن علي صاحب اليمامة 294 7- الكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق 295 8- الكتاب إلى ملك عمان 295 من دلالات الرسائل إلى الملوك 298 مصور يوضح جهات الملوك والأمراء الذين استلموا رسائل من النبي صلّى الله عليه وسلم 299 غزوة خيبر ووادي القرى 300 سبب الغزوة 300 الخروج إلى خيبر 301 عدد الجيش الاسلامي 301

اتصال المنافقين باليهود 301 الطريق إلى خيبر 302 بعض ما وقع في الطريق 302 الجيش الاسلامي إلى أسوار خيبر 303 اختيار المعسكر 303 التوجيه المعنوي 304 التهيؤ للقتال وحصون خيبر 304 بدء القتال وفتح حصن ناعم 305 فتح حصن الصعب بن معاذ 306 فتح قلعة الزبير 307 فتح قلعة أبي 308 فتح حصن النزار (البرئ) 308 فتح الشطر الثاني من خيبر 309 المفاوضة 309 قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد 310 قسمة الغنائم 310 قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين 311 الزواج بصفية 312 أمر الشاة المسمومة 312 قتلى الفريقين في معارك خيبر 313 فدك 313 وادي القرى 314 تيماء 314 العود إلى المدينة 315 صورة من خيبر 316 من دروس هذه الواقعة 317 مصور (فتح خيبر) 318 مصور (أسماء الحصون) 319 بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة 320 غزوة ذات الرقاع 320

عمرة القضاء 323 معركة مؤتة 326 سبب المعركة 326 أمراء الجيش ووصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم 326 توديع الجيش الاسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة 327 تحرك الجيش الاسلامي 327 المجلس الاستشاري بمعان 328 الجيش الاسلامي يتحرك نحو العدو 328 بداية القتال، وتناوب القواد 328 الراية إلى سيف من سيوف الله 329 نهاية المعركة 330 قتلى الفريقين 331 أثر المعركة 331 مصور (غزوة مؤتة) 332 غزوة فتح مكة 333 سبب الغزوة 333 أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح 334 التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء 336 خبر حاطب 337 محكمة حاطب 337 الجيش الاسلامي يتحرك نحو مكة 338 الجيش الاسلامي ينزل بمر الظهران 338 أبو سفيان بين يدي رسول الله 339 الجيش الاسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة 340 نفي التفاخر 341 قريش تباغت زحف الجيش الاسلامي 341 الجيش الاسلامي بذي طوى 342 الجيش الاسلامي يدخل مكة 342 الرسول صلّى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام 343 الرسول صلّى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش 343

لا تثريب عليكم اليوم 344 مفتاح البيت إلى أهله 344 بلال يؤذن على الكعبة 344 صلاة الفتح أو صلاة الشكر 345 إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين 345 إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير 346 خطبة الرسول صلّى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح 346 تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلّى الله عليه وسلم في مكة 347 أخذ البيعة 347 إقامته صلّى الله عليه وسلم بمكة، وعمله فيها 348 غزوة (فتح مكة المكرمة) 349 بيان (جيش الفتح الأعظم) 350 المرحلة الثالثة 351 مصور (غزوة حنين) 352 غزوة حنين 353 مسيرة العدو ونزوله بأوطاس 353 مجرب الحروب يغلط رأي القائد 353 سلاح استكشاف العدو 354 الرسول صلّى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين 354 الجيش الاسلامي يباغته الرماة 355 رجوع المسلمين واحتدام المعركة 356 انكسار حدة العدو، وهزيمته الساحقة 356 حركة المطاردة 357 الغنائم 357 غزوة الطائف 357 قسمة الغنائم بالجعرانة 359 الأنصار تجد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم 360 قدوم وفد هوازن 361 العمرة والانصراف إلى المدينة 362 غزوة تبوك 364

سبب الغزوة 364 الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان 365 الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان 366 زيادة خطورة الموقف 366 الرسول صلّى الله عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم 366 الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان 367 المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو 367 الجيش الاسلامي إلى تبوك 368 الجيش الاسلامي بتبوك 370 الرجوع إلى المدينة 371 المخلفون 371 أثر الغزوة 373 نزول القرآن حول موضوع الغزوة 373 مصور (غزوة تبوك) 375 الناس يدخلون في دين الله أفواجا 376 الوفود 377 مصور (انتشار الاسلام في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم) 387 حجة الوداع 388 آخر البعوث 393 بيان (الغزوات التي قادها النبي صلّى الله عليه وسلم) 394 إلى الرفيق الأعلى 399 طلائع التوديع 399 بداية المرض 399 الأسبوع الأخير 400 قبل الوفاة بخمسة أيام 400 قبل أربعة أيام 401 قبل يوم أو يومين 402 قبل يوم 402 آخر يوم من الحياة 403 الاحتضار 404

تفاقم الأحزان على الصحابة 404 موقف عمر 405 موقف أبي بكر 405 التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض 406 مصورات الخلافة الراشدة 409 حروب المرتدين 410 الجبهة الفارسية في عهد الصديق 411 خط سير خالد بن الوليد بين العراق والشام 412 الفتوحات الاسلامية في عهد أبي بكر الصديق 413 اليرموك 414 فتح دمشق 415 سير الفتوح الأولى في بلاد الشام 416 فتح الجزيرة 417 فتوح العراق 418- 419 الجناح الشرقي من الدولة الاسلامية 420 فتح مصر 421 الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب 422 الفتوحات في عهد عثمان بن عفان 423 سلم أحداث الخلافة الراشدة 424 المصادر والمراجع 425 فهرس الموضوعات 427

المصادر والمراجع 1- الرحيق المختوم. صفي الرحمن المباركفوري 2- فقه السيرة النبوية. الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. 3- فقه السيرة. محمد الغزالي 4- أطلس تاريخ الاسلام. د. حسين مؤنس 5- أطلس التاريخ العربي. د. شوقي أبو خليل 6- التاريخ الاسلامي. محمود شاكر 7- الجامع في السيرة النبوية. سميرة الزايد 8- جيش رسول الله صلّى الله عليه وسلم. اللواء الركن محمود شيت خطاب 9- حركة الفتح الاسلامي. د. شكري فيصل 10- خطب الجمعة في السيرة النبوية. نجدت رمضان

§1/1