الرحلة الشامية

الأمير محمد علي

مدخل

مدخل الحمد لله الّذي لا برّ إلاّ برّه ولا جود إلاّ من جوده، الموجود الأوّل الّذي لا أوّل لوجوده والمشهود الآخر الّذي لا آخر لشهوده، والصلاة والسلام على أفضل رسله الكرام سيّدنا ومولانا محمّد المرسل رحمة لجميع الأنام وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية ومصابيح الظلام، (وبعد) فهذه رحلتي الشامية أقدّمها لقراء العربية تحفة مرضية مستعيناً بالله وهو حسبي ونعم الوكيل.

قضيت نحو ثلاثين صيفاً في جو البلاد الأوربية حيث تربّيت في مدارسها صغيراً، ثمّ تجوّلت في سياحتها كبيراً، فطوّفت حول حواضرها وقراها كثيراً حتّى إنّي بمعونة الله لم أدع شيئاً من آثارها التاريخية، ومعاهدها العلمية، ومعاملها الصناعية إلى غير ذلك ممّا يهمّ السائح أن يتعرّفه في تلك البلاد إلا زرته وأخذت منه بالقدر الأوفى والنصيب الأوفر، ثمّ ما من مرّة كنت أزور فيها هذه البلاد إلا وكنت أجتمع بملوكها وأمرائها وأعيانها ووجهائها، وإلا كنت أردّد النظر حول رياضها المنتسقة ومناظرها البديعة، ولقد ساعدني حسن الحظّ أخيراً على زيارة بلاد اليابان والصين، وهناك وضعت رحلتي اليابانية الّتي فصّلت فيها سياحتي لقراء العربية تفصيلاً، وقد كنت إبّان هذه الرحلات العديدة والأسفار المفيدة أذكر بعض البلاد الإسلامية الّتي لا تزال حتّى اليوم مستقلّة في أيدي المسلمين وتحت سيطرتهم، فكنت أحنّ إليها حنين الشارف على ولدها، وأودّ من صميم قلبي لو أن يجعل الله لي نصيباً من زيارتها، بل كثيراً ما هممت بمشارفتها ونهضت لذلك نهوضاً لولا أن صعوبة المواصلات، وما لعلّه يكون من بعد الشقّة وعدم توفر وسائل الراحة ووسائط

الرفاغة، كانت يومئذ عقبة كؤوداً في طريقي، ولولاها ما كان أحوج مسلماً يحبّ المسلمين ويصبو إلى بلادهم أَن يشدّ رحاله إلى بغداد مدينة السلام، ودمشق عاصمة الشام، كيلا يحرم من مشاهدة مدينتين فخيمتين كانتا أكبر عواصم الإسلام وأعظمها حضارة، وناهيك بهما في عهدي الدولة الأموية والعباسية، وعلى الخصوص في عهد المأمون عهد الحضارة الشرقية والنور، يوم كانت بغداد هذه محطّ رحال العرب ومنبعث أشعّة الحكمة والأدب. على أني ما لبثت قليلاً حتّى قيّض الله لي نفراً من أصدقائي الكرام وعلية القوم في بلاد الشام فطلبوا إليّ أن أزور بلادهم، وقد كنت لا أزال أخشى من حصول ما عساه يعترض المسافر ممّا ربّما مسّ بالصحّة أو أساء إلى الكرامة، فكاشفت هؤلاء الصحب بما كان يجيش به صدري من ذلك وغيره لعلّي كنت أبلغ من لدنهم عذرا أو أستطيع إلى السفر سبيلا، فما زالوا يجهدون أنفسهم في إقناعي بضدّ ما كنت أظن حتّى لقد حبّبوا إليّ الرحلة وأوقعوها من نفسي بحيث صارت عزيمتي إليها أشدّ منها إلى سواها خصوصاً بعد ما أنّهم تكفّلوا براحتي فيما كنت أتوقّع التعب من ناحيته أكثر من المعتاد في أسفاري، وما كان ليخامرني ريب في صدقهم، إذ كنت أقرأ على صفحات وجوههم البيضاء آية الإخلاص والوفاء، وحينئذٍ طويت العزم على اِرتياد بلاد سورية وفلسطين والعراق فرحاً مسروراً بتحقيق رجائي القديم من زيارة بلادٍ طالما تاقت نفسي أن تراها وتشاهد فيها أهلها على الأزياء الفطريّة والعوائد الشرقيّة الّتي لا تزال إلى اليّوم حافظة ما كانت عليه منذ العصور المتقدّمة بفضل ما يعرف في أهلها من الغيرة عليها وحرصهم على أن لا تختلط بتقاليد الغربيّين وعوائدهم. وقد كنت كلّما سمعت النّاس يمتدحون طقس هذه البلاد وما وهبها الله من جمال المنظر ونضارة البقعة وبهاء الطبيعة، فضلاً عن اِتّساع مساحتها وخصوبة تربتها وعذوبة مياهها وغضارة رياضها يزداد شوقي نحوها ويتأكّد

الدنادشة والعكاكرة

عزمي على اِرتيادها. وكان يجيء في غضون حديث القوم عن وصف تلك البلاد ذكر الخيل المحكّمة الخلقة الكريمة الأصل وأنّها في تلك الجهات تمتاز كثيراً عن غيرها بسرعة العدو واِعتدال الصورة وكبر القامة، فكان ذلك يزيد في تنشيطي ويقوّي من عزيمتي سيما وأنّي مولعٌ بالخيل ولي غرام عظيم باقتنائها. كما أنّي أميل كلّ الميل إلى الشجاعة والشجعان وأحبّ ملء قلبي الفروسيّة والفرسان. وكان فيما سمعته من غير واحد أنّ بعض الطوائف في تلك البقاع يحسنون اِختيار الخيل ويجيدون ركوبها على أتمّ ضروب الفروسيّة وأكمل خواصّها، وأنّ أخصّهم في هذا المعنى وأشهرهم به فوارس الدنادشة وأبطال العكاكرة. الدنادشة والعكاكرة هما قبيلتان يقال إنّ الأولى منهما أصل جدّها من اليمن ونزل حوران منذ ثلاثة قرون، ثمّ هاجروا من حوران وسكنوا برج الدنادشة فوق تل كلخ مقرّهم الحالي. وكان زعيمهم إذ ذاك يسمى الشيخ إسماعيل، ولقّبه التركمان جيرانه باسم دندشلي، لأنّه كان يزين خيله بعذبات مرسلة تسمّى دنادش. ثمّ رحل شقيقه مع بعض قبيلته إلى حوران وهم الفُحيليون إلى الآن، وزعيمهم مقيم في تل كلخ، ثمّ هم مسلمون سنيّون ولهم ولعٌ غريبٌ بالفروسيّة، ولهم أيضاً عقارات واسعة في سهل البقيعة. وهناك طائفة من المتاولة تسمّى الدنادشة أو بني دندش ويقيمون في عكّار وما يجاور الهرمل وحمص. ولعلّ العكاكرة قبيلة من هؤلاء تنسب إلى عكّار البلد المذكور هذا. وكم كنت أشعر باِرتياح نفسي واِنشراح صدري حينما كنت أذكر مروري بين آثار المتقدّمين، وما عساه أن يكون قد غفلت عنه عين الدهر وأخطأته يد الدّمار من مخلّفات الحروب الّتي تعاقبت على تلك البلاد زمناً طويلاً، خصوصاً من يوم أن فتحها المسلمون إلى أن صارت في أيدي العثمانيّين. نعم، ولعلّي أستطيف حول مواقع الحروب الصليبيّة لأنظر تلك القلاع المتينة، والحصون المكينة الّتي لا تزال تنم على فضل مؤسّسيها نمّ الزجاجة على ما فيها. وهناك تتجلّى مدينة الشرق أوّل أمرها في ما لا يزال يناطح الدّهر إلى اليوم بل حتّى آخر الزمان من آثار العمالقة الأولى

ومخلّفات الرومان. وما بقي يحكي قوّة الأشوريّين، ويذكّر بسلطان الفينيقيّين، وعظمة البيزانطيّين، وتبدو حضارة الإسلام فيما جدّده بعد ذلك غزاته الفاتحون وملوكه السالفون، وهو ما به يسطع نور الحجّة على عظم صولتهم وكبر دولتهم وهمّتهم وسعة علمهم وغزارة حكمتهم. تلكَ آثارنا تَدلُّ عَلينا ... فانظروا بَعدَنا إلى الآثارِ وعندئذ ما كان أدعانا أن نحمد الله إلى هؤلاء القوم ونشكر لهم سعيهم الجميل بل نحمد الله الّذي هدانا لهذا ووفّقنا له وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ونعود بجميل الثناء وجزيل الشكر لسموّ الجناب العالي الخديوي الّذي ما كدت أعرض على سموّه الأمر، وألتمس إذنه الكريم بالسّفر حتّى تفضّل - حفظه الله - فزاد على إذنه بذلك أن أتحفني بمرافقة حضرة الفاضل أحمد بك العريس، لمناسبة أن حضرته من أهل الشام، وله مكانة كبيرة من صدور الشاميّين، فضلاً عن كونه من أصحاب البيوت العتيقة في المجد والشرف وعلى علم تام من أخلاق القوم وعوائدها. وكذلك تفضّل الجناب العالي - حفظه الله - فأرسل معنا حضرة محمود خيري أفندي، أحد ضباط الحرس الخديوي، ياورا خاصاً لنا مدّة هذه السياحة. ثمّ إنّي قبل السفر ببضعة أيّام كنت طلبت إلى شركة كوك أن تبعث إلينا رسولاً من قبلها لنستعلمه عن كيفية السفر، وبالأخص عن كيفية السير إلى بغداد من طريق حلب، فأخبرنا بأن الطريق من حلب إلى بغداد من الطرق التي لم تمسّها يد الحضارة إلى الآن، وأنه بلغ من الطول بحيث أن المسافر فيه يظلّ خمسة عشر يوماً راكباً على متون الدواب، لأنّه لا مركب ثمت إلا الخيل أو عربات البريد. وهذا مركب صعب شاق، خصوصاً إذا كان المسافر ممّن لم يتعوّدوا السفر غير في طريق السكّة الحديديّة. وعند ذلك لم يسعني غير أن عدلت خطتي الأولى وتركت زيارة عاصمة العراق إلى أن يذلّل الله المصاعب ويسهّل للمسافر الطريق.

السفر من بور سعيد

السفر من بور سعيد من حسن الاتّفاق أنّ سفرنا من ميناء بور سعيد كان يوم الجمعة 21 ربيع الأوّل سنة 1328 فكان يوماً ميمون الطلعة حسن الفأل. وكان أوّل طوالع البر والخير لهذه الرحلة السعيدة. فبعد أن أدّينا فريضة الجمعة في الجامع العبّاسي، وتناولنا طعام الغداء لدى سعادة محافظ المدينة، توجّهنا على بركة الله إلى الباخرة الفرنسية، وهي إحدى بواخر شركة (مساجري). وكان يودّعنا جمّ غفير من رجال الحكومة وأعيان البلد ومظاهرها يتقدّمهم مع حضرات العلماء سعادة المحافظ. وحينما وصلنا إلى الباخرة ألفينا رئيس الشركة في انتظارنا من أجل أن يهدينا إلى المخدع الّذي أعدّ لنا هناك. ثمّ ما كدنا نسكن إلى مجالسنا من المكان حتّى استدعى الرئيس قبطان السفينة، وأخذ يلقي عليه من الأوامر والتعليمات اللازمة لراحتنا في هذا السفر ما شاء الله أن يلقي، وكان القبطان يلبّي رئيسه إلى ذلك طائعاً مسروراً. ولم يمض علينا من وقت وصولنا إلى المركب إلا نصف الساعة تقريباً حتّى بارحنا الميناء مودّعين من جناب المحافظ ومن كان معه بغاية الحفاوة والإكرام. بيروت وما زلنا مسافرين والباخرة تنفذ في أكباد البحر وتمزّق أحشاء الماء، حتّى ألقت مراسيها في وسط ميناء بيروت حيث دخلناها في صباح يوم السبت 22 ربيع الأول. وهناك وقع نظرنا لأول مرّة على الجهات الشاميّة الجميلة. وحينئذٍ لا تسل عمّا كان يتجدّد في صدورنا من الانشراح والسرور بمشاهدة تلك البقاع الّتي لها في تاريخ الإسلام ذلك المكان المعروف، خصوصاً عندما رأينا جبل لبنان مشرفاً على بيروت وضواحيها إشراف الملك على رعيّته والقائد على جنده، وكأنّه لم يكتف بأن يشرف على الدأماء حتّى أراد أن يعانق الجوزاء. وممّا نشكر الله له ونحمده عليه أنّنا ما لقينا من سفرنا هذا نصباً لأنّ الجوّ كان في غاية الاعتدال، وكان البحر بالمصادفة ساكناً هادئاً يهدي إلينا في طيّات

أبراد النسيم تحيّة نديّة وسلاماً مزاجه من تسنيم. ولقد لمحنا أثناء وقوفنا مركباً حربيّة صغيرة من مدرعات الحكومة العثمانيّة كانت راسية في مياه الميناء إلى ناحية من الشاطئ. وكان يلوح لنا من شكلها أنّها من ضمن المراكب التابعة لمصلحة خفر السواحل. ولمّا كان من العوائد المتّبعة قديماً في هذه البلاد أنّ الوافدين على بيروت من أمراء الحكومة العثمانية وغيرها يستأجرون زوارقهم من هذه السفينة، ويدفعون في أجرة الزورق الواحد ما لا يقلّ عن عشرة جنيهات، وإنّما كان هذا ليمتاز الأمراء عن غيرهم من عامّة النّاس ولكي تظهر أبّهتهم وعظمتهم، حيث يوجد في هذه الفلك من النظام والجند ما ليس يوجد في غيرها ممّا يشبه الرسميات، وقد كنّا نسمع بهذه العادة من قبل وأن أحد أمراء مصر كان قد استأجر زورقاً من هذه السفينة حينما زار بعض جهات الشام، رأينا أن نتبع سبيله في ذلك ونجري تلك العادة إذ لا مانع منها وهي علينا سهلة يسيرة. وبينما نحن في الباخرة ننتظر مجيء الزورق، إذ رأينا ما يقارب الخمسة زوارق آتية تتعاقب في البحر بنظامها قاصدة إلى موقفنا من الميناء. وما أوشكت أن تدنو منّا حتّى رأينا فيها جملة أناس من الموظّفين بين ملكيّين وعسكريّين، فما ارتبنا وقتئذٍ في أنّ هؤلاء قد أوفدتهم الحكومة المحليّة لاستقبالنا في مرسانا. وقد كان أدرك هذه الغاية من مجيء هذا الوفد حضرة عزيزنا أحمد بك العريس، فأسرع إلى مقابلتهم، ثمّ جاء بهم إلينا، وأخذ يقدّمهم واحداً واحداً. وكان أوّل من عرفته منهم جناب كاتب أوّل أسرار الولاية، وقومندان الجندرمه، ومندوب الحكومة العثمانية لدى شركة السكك الحديدية، ثمّ ناموس متصرّف جبل لبنان، ثمّ بعض أعيان مدينة بيروت وآخرين من أعضاء المجلس البلدي فيها. وبعد أن استقرّ بهم المجلس، وقدّمت لهم لفائف التبغ، وتبودلت بيننا وبينهم عبارات التحيّة والسلام، أخبرنا جناب كاتب أسرار الولاية بأنّ دولة ناظم باشا الوالي وأركان الولاية وأعيانها جاؤوا لانتظارنا على المرفأ. وعندئذٍ لم يسعنا سوى أن نسرع

في الذهاب إليهم حتّى لا نشقّ عليهم بطول الانتظار، فنزلنا في الزوارق بعدما شكرنا للقبطان تيقّظه في خدمتنا واهتمامه المزيد براحتنا مدّة سفرنا في البحر، غير أنّا كنّا تركنا متاعنا في عهدة أتباعنا الّذين كانوا لا يزالون في الباخرة ومعهم أحد ضباط الجندرمة الّذي كان قد خصّص بمساعدتهم في ما عسى أن تستدعيه حاجتهم ويقتضيه ترحالهم. وكانت المسافة من حين نزولنا من الباخرة إلى حين وصولنا إلى الرصيف لا تزيد عن عشر دقائق، مررنا في أثنائها على السفينة الحربية الّتي أسلفنا أنّها للحكومة العثمانية، وقد أدّيت لنا من أهلها مراسم التجلّة وإشارات التعظيم. وعندما حاذينا المرفأ تقدّم إلينا في أوّل المتقدمين صاحب الدولة ناظم باشا الوالي فبادرنا بتحيّة القدوم وحيّيناه كذلك وشكرنا له معروفه وحسن عنايته. وبعد ذلك شرع يعرّفنا بمن كانوا في انتظارنا مع دولته من علية القوم ويقدّمهم لنا واحداً بعد آخر، ونحن نستقبل الكلّ بما يليق بمكانتهم من الاحترام. فكان من بينهم جناب قومندان الموقع العسكري، وبعض العلماء يتقدّمهم حضرة قاضي المدينة ورئيس المجلس البلدي وبعض الرؤساء الروحيّين، ثمّ كان مصطفّاً على الرّصيف فرقة من الجند النظامي ومعها موسيقاها. وبعد أن تصافحنا وشكرنا لحضرات المحتفلين لطفهم وحفاوتهم، ركبنا مركبة دولة الوالي الخاصّة الّتي قدّمها إلينا دولته وكان هو صاحبنا فيها. وكان أمامنا إذ ذاك جنديان من السواري ووراءنا أربعة منهم أيضاً، وخلف أولئك كانت مركبة عزيزنا أحمد بك العريس ومعه الياور محمود خيري أفندي ومركبات أخرى لبعض المستقبلين. وما زلنا نسير على هذه الهيئة الرسمية حتّى وصلنا إلى فندق (أوربا). وكان الطريق من الرصيف إلى ذلك الفندق غاصّاً بالأهالي من طبقات عديدة. وقد كان سرّنا جدّاً من هؤلاء المحتشدين ما كنّا نلاحظه أثناء السير من حفاوتهم بمقدمنا وسرورهم الحقيقي القلبي الّذي ما كنّا لنرتاب فيه، وإنّا لنرى البشر كان يتألّق سناه على وجوههم جميعاً، فكنت أحيّيهم كثيراً نظير ما كنت أجده بين حين وآخر من ترحيبهم وحسن وفادتهم.

في الفندق

في الفندق دخلنا الفندق، وكان ينتظرنا عند مدخله صاحبه ومديره ومندوب من قبل شركة كوك، وهؤلاء أرشدونا أوّلاً إلى الحجرات الّتي خصّصت لأجلنا هناك، حيث كنّا أرسلنا قبل قيامنا من مصر إشارة برقيّة إلى صاحب هذا الفندق بإعداد الغرف اللازمة لنا فيه. وبعد ذلك دخلنا البهو ومعنا دولة الوالي الّذي كان لا يزال مرافقاً لنا، فجلسنا نتبادل من الحديث ما كان لا يتجاوز الترحيب منه بنا والشكر منّا له. وما لبثنا إلا ريثما تناولنا القهوة مع دولته حتّى وفد إلينا ثانية جميع الّذين كانوا قد خرجوا لمقابلتنا في الباخرة وعلى رصيف الميناء، فاستقبلناهم بغاية الحفاوة شاكرين لهم تكرر الزيارة، معترفين لأصغرهم قبل أكبرهم بذلك الجميل العظيم والمعروف الكبير. ثمّ مكثنا طويلاً نتحدّث، وقد تناول حديثنا أطرافاً عامّة كان منها أن سألونا عن المدّة الّتي قدّرناها لزيارة مدينتهم. وما كدت أن أخبرهم بأنّي سأبارحهم ثاني يوم قاصداً إلى مدينة دمشق حتّى نهضوا جميعاً مستغربين ذلك الخبر، وأخذوا يلتمسون منّا بإلحاح شديد أن نطيل إقامتنا بينهم، وأنّ أقلّ ما يرجونه من المكث في ضيافتهم هو أربعة أيام. وإذ وجدت أنّ هذه المدّة كبيرة لا تتّفق هي وما كنت رسمته في خطّتي من قبل، أسفت كثيراً لأنّي لم أستطع إجابتهم على وفق عرضهم، حيث كان الوقت ضيّقاً وكان السفر أمامنا طويلاً. على أنّي وعدتهم بالإقامة في بلدهم يومين عند العودة، إن شاء الله، إجابة لملتمسهم. ثمّ اِستأذننا دولة الوالي في الانصراف، فرافقناه إلى أن ركب العربة شاكرين له ما أبداه لنا من العناية والاهتمام. وقد اِنصرف على أثره حضرات الزائرين أيضاًَ مودّعين منّا بمزيد الشكر والثناء. كلّ هذا والخدم لم يزالوا متأخّرين، وما ندري وقتئذٍ إذا كانوا في الطريق أم ما برحوا موجودين في الباخرة. وكان يهمّنا حضورهم سريعاً بالمتاع وفيما نحن ننتظرهم بفروغ الصبر إذ رأيناهم يصعدون على سلّم الفندق وبينهم عبد أسود كان

رد الزيارة

يحمل وحده صندوقنا الكبير فعجبنا من قوّة ذلك العبد لأن الصندوق كان قد وصل من الثقل إلى حيث لم يتصوّر أن يحمله واحد فقط ولذلك أعجبنا بهذا الأسود القوي إعجاباً عظيماً، وحينئذٍ مالت نفسنا أن نخاطبه ببعض كليمات ترتاح إليها نفسه ويأنس بها طبعه، على عادتنا مع كلّ شجاع نشيط حيث إنّ لنا ميلاً خاصاً إلى الشجعان الأقوياء، فخاطبناه بما دلّ على ميلنا نحوه على أنّنا كافأناه وأجزناه فوق أجره بما شرح صدره وسرّ خاطره. ردّ الزيارة وقد كنّا طوينا العزم على ردّ بعض الزيارات في هذا اليوم لمن كانوا قد خفّوا لاستقبالنا وزيارتنا مرّة بعد أخرى، ورأينا أن نبادر بذلك حتّى لا يفوتنا أداء ما استحقه علينا أولئك القوم تلقاء ما لاقيناه من حفاوتهم وكرمهم وحتّى نتفرّغ لمشاهدة ما يهمّنا أن نطّلع عليه في تلك المدينة إذ ليست مدّة إقامتنا فيها إلا ساعات. لذلك أوعزنا إلى الفندق أن يشعر بعزمنا هذا دولة الوالي الّذي اِستحسنّا أن نردّ زيارته في دار الحكومة ودولة متصرّف جبل لبنان الّذي كان في هذا الحين مقيماً في مدينة بيروت وجناب قومندان العسكر الشاهانية وقد رأينا أيضاً أن نزور هذا الأخير في مقرّ سلطته، وإنّما أشعرناهم بذلك لكي يستعدّوا لمقابلتنا في المواضع الّتي تخيّرنا زيارتهم فيها، ثمّ إني طلبت إلى بعض خدمي إحضار الملابس المعتادة في الزيارات الرسمية فلبستها وكنت قد اِستوفيت اِستعدادي كلّه لهذا الغرض في مسافة لا تزيد عن ربع الساعة. نزلنا من الفندق وكنّا نحسب أنّنا سنذهب على تلك المركبات العامة الّتي يستأجرها النزل لمعامليه في ضمن ما يلزمهم، ولكنّا وجدنا جملة عربات خاصّة قد أرسل بها إلينا بعض أعيان المدينة الكرام فركبت إحداها، وكان معي حضرة الفاضل أحمد بك العريس. وركب عربة ثانية البكباشي خيري أفندي وذلك الضابط الّذي أسلفنا أنّه مندوب الحكومة لخدمتنا. وكانت لنا الكفاية من هاتين العربتين. ولعلّ السبب في إرسال تلك العربات أنّهم لم يجدوا من مركبات الإيجار ما كان يوافق

استطراد في الطريق إلى بحث أخلاقي

ركابنا في حفلة حافلة، تشخص إليها أبصار المحتشدين على طول الطريق وعرضه. أمّا الموكب فكان رسميّاً منتظما، ً حيث كان يسير خلفنا وأمامنا بعض الجند السواري على الهيئة الّتي وصفناها حال حضورنا من الميناء حتّى الفندق. وكان طريق مرورنا من وسط شوارع المدينة الّتي كانت غاصّة من الجانبين بالأهالي على اِختلاف أعمارهم وتفاوت أقدارهم. وكان سروري يتجدّد كلّما كنت أرى أولئك النّاس متشبثين بالعوائد الشرقيّة ومتمسّكين بالملابس القديمة والأزياء الفطريّة. ثمّ كنت أشاهد كثيراً من العامّة يتّخذون مجالسهم من المحال العمومية كالقهاوي والحوانيت التجاريّة ويتعاطون من المكيّفات المباحة ما جرت به عوائد معظم الناس في جميع الجهات تقريباً. فمنهم من كان يدخن بالأنابيب الّتي تصنع عادة من أغصان الياسمين وتتحلّى مباسمها غالباً بالكارم الأصفر الجميل، وهي عين ما كان يستعمله المصريّون للتدخين من عهد غير بعيد، ويسمّى في متعارف أصحاب الكيوف بالشبك. ومنهم من كان يدخّن بالنارجيل على نحو ما يشاهد في القهاوي في مصر غير أنّ اِستعمال هذا النوع في بلاد الشام أكثر منه في البلاد المصريّة. وبعضهم كان يتعاطى القهوة وآخر يشرب الشاي إلى غير ذلك ممّا يشبه أن يكون نسخة طبق الأصل من عوائد المصريين في بلادهم. ولهذه المناسبة نذكر هنا كلمة عن الأخلاق ممّا تعرّفناه في تلك الرحلة، لعلّ القارئ يدرك منها نسبة ما بين العناصر الشرقية بعضها إلى بعض على ما بينها من تباعد المواطن وشتات الأماكن وتباين الأسباب والعلل واِختلاف الملل والنّحل، ثمّ نعود فنذهب في طريقنا إن شاء الله. استطراد في الطريق إلى بحث أخلاقي إن ما صادفناه من عوائد أولئك الشاميّين في محافلهم ومجالسهم ليس في الغالب ممّا يختص بالشاميّين دون سواهم، بل هو يكاد يكون عامّاً يشاهده الإنسان في جهات كثيرة ويعرفه في عوائد أكثر الآدميّين الشهيرة. غير أنّ الناقد الّذي يتبيّن فاضل الأشياء من مفضولها، ويميّز أجناسها من فصولها ويرجع بفروعها إلى أصولها، عندما يعنى بالتنسيب ويقايس بين أخلاق أهل الشام وبين أخلاق أهل مصر لا يجد

من مسافة الفرق بينهما بعد ما يجده من غيرهما. ولا نستغرب أن نجد أنّ مجموعة العوائد والأخلاق في الشام تشبه من معظم الوجوه مجموعتها في مصر، إذ كان الشرق أبا القبيلتين ومربّيهما معاً، على أنّ علّة اِكتساب الأخلاق والصّفات لا بدّ أن ترجع إلى اِختلاط الناس وامتزاجهم بعضهم ببعض مهما اختلفت مطالع الشموس وتباينت منازع النفوس، وأنه كما قد تتقوّى العلائق وتتوثّق الروابط بين الناس وتتضاءل وتضعف على نسبة ما يكون من المعاشرة، ويقع من الاختلاط قوّة وضعفاً وكثرة وقلّة، كذلك يكون الحال في تشابه أخلاق الناس وعاداتهم سواء في ذلك ما كان من التشابه بين الآحادِ والأفراد وما كان منه بين الأمم والجماعات. ومن أجل هذا نشاهد أنّ كثيراً من الغربيّين قد أكسبهم طول العشرة لأهل الشرق خلقاً غير خلقهم وعادة خلاف عادتهم حتّى تراهم فلا تكاد تفرّق بينهم وبين الشرقيّين إلا في قليل ممّا قويت فيه ملكاتهم وفطرت عليه غرائزهم. كما أنّا نرى مثل ذلك في كثير من أبناء الشرق وما كان يكون هذا أصلاً لولا شدّة الاختلاط وطول المعاشرة، وإن كنّا لا ننسى أيضاً أنّ من المراجع القويّة والأسباب المهمّة في ذلك عشق العادة والميل إلى تقليدها في الغير كما يشاهد في كثير من المقلّدين الّذين بالغوا في تقليد الأجنبي إلى حدّ أنّهم عادَوا عوائدهم وكرهوا تقاليدهم. على أنّه كثيراً ما ينطبع في بعض الناس خلق غيره ويقوى فيه إلى درجة أن يصير منه بمنزلة طبعه وسجيّته وعدوى الطبائع معروفة، كعدوى الأدواء سريعة الانتقال صعبة الزوال. ومن ثمّ كان ينبغي أن يحتاط الإنسان ما أمكنه من مجالسة ذوي النفوس الخبيثة والأخلاق الرديئة وأن يتخيّر أصحابه وذوي مجلسه دائماً من الحكماء والأدباء وأرباب النظر البعيد والرأي السديد، فإنه ما أخلق صاحب هؤلاء أن يستفيد دون أن يخسر، وأجدر جليس الجهّال والسفهاء أن يخسر دون أن يستفيد، وفي هذا المعنى يقول الشاعر العربي: مجالسةُ السفيهِ سفاهُ رأيٍ ... وَمِن عقلٍ مُجالسةُ الحَكيمِ فَإنّكَ وَالقرين معاً سَواء ... كَما قُدّ الأديمُ منَ الأديمِ

عود إلى بدء

ويقول آخر: لا تَصحبِ الكسلانَ في حالاتهِ ... كَم صالِحٍ بِفساد آخرَ يفسدُ عَدوى البليد إلى الجليدِ سَريعة ٌ ... وَالجَمرُ يوضعُ في الرمادِ فيخمدُ وبالجملة فإن الإنسان من حيث هو إنسان له من أصل فطرته استعداد تام لقبول كلّ ما يدخل عليه من خير أو شر، كمثل المرآة تنطبع فيها صورة ما يعرض عليها من حسن أو قبيح. لذلك هو يستطيع أن يتحوّل كيف شاء متى شاء. فالشرقيّ الّذي نبت في صميم الشرق وتربّى على مبادئه يمكنه أن يكون وقتاً ما مضاهياً لأبناء الغرب حتّى كأنّه رضع مع اِبن الغربية من ثديٍ واحد. وما كنّا لنستغرب أن نرى أبناء الشام يشبهون أبناء مصر في تقاليدهم وعوائدهم ونحن ندرك ما بين الشعبين من كثرة الاجتماع وشدّة الاختلاط لأسباب ووجوه متعدّدة منها تبادل التجارات الشرقية واتحاد اللّغة وقرب الحوار، ذلك فضلاً عن كونهما من الحكومة العثمانية بمثابة عضوين من جسم واحد. عود إلى بدء هذا وقد كنت أرى قطرات من الخيل تمرّ في طرق المدينة مثقلة بالأحمال، كما تسير قُطُرات الإبل في بلاد العرب فأستأنس بهذا المنظر الشرقيّ وأرتاح له ارتياح الظمآن عند رؤية الماء، حتّى إذا نحن وصلنا إلى سراي الولاية الّتي كانت واقعة في وسط المدينة (وقد ألفيناها من الخارج كبيرة الحجم ضخمة البناء إلا أنّها كانت بسيطة المنظر لا يرى عليها من الوشي والزخرف ولا من جمال الزينة ما تتحلّى به عادة قصور الحكّام والأمراء) أشرنا إلى مَن كان معنا من الجند باِنتظارنا لدى الباب الّذي دخلنا منه، حيث هناك كان (القراه قول) يؤدّي لنا مراسم التحيّة والإجلال. وما أوشكنا أن نصعد على سلّم السراي حتّى كان قد اِستشعر دولة الوالي بقدومنا

زيارة متصرف جبل لبنان

فخرج لاِستقبالنا في الحال، وسار بنا إلى البهو الكبير حيث جلسنا هناك وقتاً نتحدّث بعد أن قدّم لنا دولة الباشا الوالي جملة من كبار الموظّفين في دائرة الحكومة. وقد تناول حديثنا مع دولته عدّة مواضع أذكر أنّي سألته في خلالها عمّا إذا كان يحسن بمثلي أن يطوف على بعض جهات المدينة ليرى آثارها وعجائبها، وأن يختلط في هذه البلاد ببعض القوم إذا هو أراد أن يجاملهم بردّ زيارة أو إجابة دعوة أو ما يشبه ذلك ممّا قد يحصل عادة بين الضيف والمحلي. على أنّي ما قصدت من رحلتي إلى بلاد سوريا سوى تبديل الهواء والتنزّه طلباً للصحّة والوقوف على آثار الشام وغرائبها لكي أضمّ ما أعرفه منها إلى ما سبق لي أن عرفته من البلاد الأخرى، وأنّي أخشى إذا أنا فعلت شيئاً ممّا ذكرته أن تتشوّش الحكومة العثمانية منه أو أن ينالنا من قبلها شيء. وقد بادرني دولته بأنّي أكون مطلق السبيل في سياحتي وأن ليس عليّ حرج أن أزور من النّاس من أحب وأن أتجوّل من جهات المدينة وضواحيها فيما أريد. وحينئذٍ تبادلنا عبارات الشكر والثناء. أمّا دولة ناظم باشا فقد رأينا منه في ذلك المجلس الصغير رجلاً رشيد السياسة سديد الرأي غاية في الذكاء والفطنة وديع النفس ليّن العريكة، لا يشكّ محدّثه في أنّه تربّى في حجر الفضيلة تربية صحيحة، واِستفاد من اِحتكاكه بسياسة الشعوب وتقلّبه الكثير في أرقى مناصب الحكومة خبرة واسعة وعلماً غزيراً. وبالجملة فإنّه من أعظم رجال الحكومة العثمانية كفاءة واِستعداداً لإدارة شؤون البلاد وسياسة الرعيّة. ثمّ إنّنا وجدنا في تلك السراي من كثرة المستخدمين والزائرين ما كان يدلّ على شدّة الحركة وتواصل العمل. زيارة متصرّف جبل لبنان بعدما انقضت زيارتنا لدولة الوالي توجّهنا مودّعين من دولته بكلّ حفاوة إلى دار صاحب الدولة يوسف باشا متصرّف لبنان. وهي مكان جميل المنظر قائم على مرتفع من الأرض في بقعة من بيروت تعرف بالروميلي. وهناك توجد أيضاً مساكن قناصل الدول وسراة المسيحيين وأعيانهم. فاستقبلنا عند مدخل السراي بفرقة من العساكر ومعها موسيقاها. وقد أعجبت كثيراً بارتداء هؤلاء الجند السلط والسراويل وبأنّهم

زيارة القومندان

رجال ضخام الأجسام طوال القامة، تبدو عليهم علائم القوّة والشجاعة حتّى لا يرتاب رائيهم في أنّهم من نخبة الشجعان وصفوة الفرسان. وكان أوّل من اِستقبلنا عند الدخول دولة المتصرّف وكاتب أسراره حيث دخلوا بنا في ردهة الاستقبال، وإذ ذاك عرّف إلينا قرينته على عادة الغربيّين في التعارف. أمّا هذه السيدة المصونة فكانت ذات جمال نادر وذكاء باهر، وبين جنبيها نفس مهذبة وأخلاق كريمة. وأمّا دولة الباشا فقد كان يزيد على اللّطف والوداعة محبّة وإخلاصاً لنا ولعائلتنا ممّا اِستوجب شكري لهما واِمتناني منهما. وكان دولته يودّ كثيراً أن تطول إقامتنا في جبل لبنان ليكرم وفادتنا ويحسن ضيافتنا هناك، فسررت منه جدّاً خصوصاً عندما عرفت منه رجلاً فاضلاًَ محنّكاً، قد اِكتسب بالتجارب الكثيرة والتقلّب في خدمات الحكومة خبرة تامّة وسياسة رشيدة. كما أنّه قد اِستفاد من التربية الصحيحة والتعليم العالي لطفاً وأدبا، غير أنّ الظروف كانت لا تسمح لي بأكثر من إجابته إلى تناول طعام الغداء عند دولته في ظهر اليوم الثاني. ثمّ بارحنا دارهم حيث كانت تحيّينا الجنود في الوداع بمثل ما كانت حيّتنا به عند الاستقبال مودّعين من لدن دولة المتصرّف وجميع من كان معه بغاية الحفاوة والاحترام. زيارة القومندان ومن هناك ذهبنا إلى القشلاق حيث فيه مركز جناب قومندان الموقع العسكري في حكومة بيروت. وهو بناء فخم جميل واقع على ربوة وحينما وصلنا على هذه الثكنة حيّتنا الجنود عند مدخلها وأدّت لنا مراسم التعظيم كالعادة. وقد أخذنا مجالسنا في البهو الكبير منها، وهناك رأينا ساعة كبيرة تدقّ للساعات العربيّة والإفرنكية، ووجدنا أيضاً صورة إمبراطور الألمانيين ملوّنة بالزيت على جرمها الطبيعي، يحيط بها إطار يقرب طوله من ثلاثة أمتار وعرضه من مترين ونصف.

حديث مع بعض التلاميذ

فاستغربت جدّاً أن أرى في هذه المكان صورة إمبراطور ألمانيا ولا أرى صورة ملك البلاد وسلطانها. وليس موضع الغرابة من هذا إلا أنّ القوم مسلمون من حكومة سلطانها مسلم، وهم مع ذلك يحتفلون بصورة غير سلطانهم ويعلّقونها على جدار ذلك القشلاق، فلم يسعني حينئذٍ غير أن أسأل جناب القومندان لماذا وجدت هنا هذه الصورة دون صورة السلطان. فقال إنّ جلالة الإمبراطور، حينما ساح سياحته في البلاد الشامية وجاء إلى بيروت، تخيّر منزله في تلك الثكنة حيث أعدّ له مكان خاص أقام فيه مدّة وجوده في هذه المدينة. وقد منح جلالته المكان هذه الصورة لتكون تذكاراً له في ذلك القشقلاق. هذا وأقول لعلّ جلالة الإمبراطور قد راق لعينيه ضخامة المحل وفخامة شأنه فلم يشأ أن يبارحه بذاته ويفارقه بجسمه حتّى يحلّ فيه بصورته ورسمه. ثمّ بارحنا جناب القومندان بعد أن ودّعنا منه ومن رجاله بمثل ما قوبلنا به حيث قصدنا إلى الفندق. وقد كان جاء ميعاد الغداء الّذي ما كدنا نستريح بعده حتّى وفد إلينا جمهور كبير من المسافرين بقصد زيارتنا. حديث مع بعض التلاميذ وكان بين أولئك الوافدين بعض طلبة المصريين في كلية الأمريكان ومدرسة اليسوعيّين، فاستقبلناهم بما يليق بهم من الحفاوة والإكرام. وقد مكثوا في مجلسنا زمناً غير قليل كان حديثنا في أثنائه يدور غالباً على نظام التدريس والتعليم في المدارس والكليّات النظامية، وكنت أشجّعهم على طلب العلم، وأحثّهم على المثابرة والجدّ في تحصيل الواجبات المدرسيّة على شريطة أن يقرنوا خطاهم في سبيل تلك الغاية الشريفة بالنيّة الصحيحة والفكرة الصالحة. وهنا قلت لهم: إنّ طلب العلم، وإن كان في حدّ ذاته، هو أسنى مطالب الإنسان وأسمى رغائبه في تلك الحياة بل العلم هو وحده الأساس الّذي لا اعتماد للسعادة إلا عليه والأصل الّذي لا اِستناد للفضيلة إلا إليه. غير أنّه لمّا كانت منافعه متعدّدة وفوائده متفاوتة كانت نوايا الناس إليه مختلفة ومقاصدهم نحوه متباينة. فمن فريق يطمح إلى تحصيل الأعراض الزائلة والأغراض السافلة، ومن فريق آخر يطمع في تكميل عقله وتثقيف فكره إلى

غير ذلك من المطالب الكثيرة. فمثل العلم كمثل الشجرة العظيمة إذ يقصد إليها جماعة من الناس، وكلّ له منها مقصد معين. فواحد يريد ظلّها، وآخر يبتغي أغصانها، وآخر يطلب ثمرها. ولقد يصدق على الجميع أنّهم يطلبون الشجرة، ولكن شتان ما بين طالب الظلّّ منها وبين طالب الثمرة. فأنا أنصح لكم، معشر التلاميذ النجباء، أن تصرفوا كلّ همّتكم الآن في تحصيل المعارف والعلوم الّتي حبستم عليها شبابكم، والّتي من أجلها هجرتم أوطانكم وتركتم أهلكم وإخوانكم، وأن لا يبرح عن فكركم أبداً أنّ لأمّتكم عليكم حقوقاً يجب أن تجعلوها دائماً نصب أعينكم، وأن تجتهدوا ما اِستطعتم لأدائها عندما تطلب منكم، وأن لا تجعلوا لزخارف الدنيا وأعراضها سلطاناً على أنفسكم فتملككم وتغلبكم على أمركم، وأن تشتغلوا بالعلم قصداً إليه نفسه وحبّاً له ذاته، لا لأن يكون وسيلة إلى غاية منحطّة ولا مقدّمة إلى نتيجة فاسدة، فإنّكم أفطن من أن ألفتكم إلى أنّ العلم ليس مفيداً حيثما كان، بل قد يكون مضرّاً في بعض الأحيان، وكثيراً ما يتجاوز ضرره صاحبه على غيره. وأنتم أيضاً فوق أن تنبهوا إلى ما كان من علماء الغرب الّذين ظهرت فوائد علمهم الغزيرة وثمراته الكثيرة في الاقتراحات العديدة، والاختراعات المفيدة الّتي نحن الآن متمتّعون بها في كثير من أمور حياتنا الفردية والاجتماعية، ممّا جعل هؤلاء العلماء تفتخر بهم بلادهم وتشتهر بأسمائهم جهاتهم حتّى استحقّوا أن يحمدوا ويشكروا من كلّ من عرف قيمة الحياة وأدرك سرّ الاستعمار. ثمّ قلت لهم إنّه يسوؤني كثيراً أن أرى أناساً يضيعون زهرة شبابهم في التعليم على قصد أن يكونوا يوماً ما مستخدمين في الحكومة، أو من أهل الثروة واليسار في البلاد، أو ممّن يطمعون في الامتيازات العرضية كالرتب والنياشين والألقاب. نعم يسوؤني ذلك لأنّي أجد القسم الأوّل لم يستعمل فكره ومواهبه إلا فيما تقتضيه منه شؤون الحكومة، فتتضاءل مداركه وتتعطّل مواهبه ثمّ لا يلبث أن تنحصر معلوماته الواسعة في دائرة أضيق من صدر الأحمق. وأمّا القسم الثاني والثالث فقد أرادوا غاية دون ما كان ينبغي أن يطلب بالعلم ويذهب إليه من طريقه، إذ أن الرتبة مثلاً إذا لم تكن عنوان ما في نفس صاحبها وشعاراً للتربية النافعة والتعليم الصحيح، فلا قيمة لها حتّى ولا بين قومه وعشيرته. أمّا الّذي يضمن للمرء عزّه في كلّ مكان ويستوجب اِحترامه من كلّ

إنسان ويجعله دائماً في الصفّ الأوّل، ومن العزّ في المحلّ الأرفع والمكان الّذي لا يتحوّل، فإنّما هو العلم الصحيح. أقول الصحيح لأنّ كثيراً من العلماء لم ينفعهم علمهم في تحصيل ما قد أرادوه من سبيله، فاتّخذوا منه مطيّة إلى الشقاء وسبيلاًَ إلى الضلال. ومن أمثال هؤلاء تستنبط الحيل وتدبّر المكائد الّتي بها تفشو المضار وتكثر المفاسد. وإنّه لا غرابة أن يكون العلم سبباً من أسباب الشقاء، وهو بعينه أصل السعادة وطريقها، ما دامت تختلف عليه نوايا العاملين وتتفاوت في طلبه مقاصد العالمين. وإنّي لاأحدثكم بألذّ من عيش العالم العاشق للعلم فلقد تمرّ عليه الحوادث والعاديات فيطّلع عليها وهي لا تنال منه إلا ريثما تنال الصور المتحركة والخيالات العادية عن الحقائق. فمثل هذا يعيش ما قدر له أن يعيشه في هذه الدنيا مرتاح القلب مطمئن النفس، لا يفرح بشيء يأتيه كما لا يأسف على شيء يفوته، لأنّ ثروته كلّها في العلم، فهو به في غناء عن كلّ ما عداه. وهكذا كنت أبث نصائحي للتلاميذ كلّما دخلت مدرسة من مدارس الشام. وقد كنت أُلفتهم إلى ما كان للشرق في التاريخ الأوّل من المجد والعزّ وسعة نطاق المعارف وكثرة الصنائع والحرف، مبيّناً لهم أنّ بناء الشرق الشامخ وشرفه الباذخ لم يكن قائماً إلا على أساطين الحكمة وعماد الفضيلة. فإذا كنّا نحسّ الآن بنقص عظيم في علومنا الحيوية وحاجاتنا الضرورية، فإنّما ذلك لأنّ الشرق ما زال لم يعوّض ما كان فقده من علمائه وحكمائه الّذين أخلصوا في خدمته وتفانوا في العمل على سعادته، إلى أن قلت لهم: إذاً، يجب عليكم بوصف أنّكم رجال المستقبل أن تستصحبوا دائماً في عملكم نيّة أن تكونوا أوّل العاملين على رقيّ البلاد وإعلاء شأنها وأن تسدّوا منها الفراغ العظيم وتكملوا فيها ذلك النقص الكبير وما ذلك على همّتكم ونشاطكم بعزيز. هذا خلاصة ما دار بيننا وبين الطلبة من الحديث. وقد سرّني منهم كثيراً أنّي كنت أجدهم مصغين غاية الإصغاء لما أقول، وأنّ نصائحي نالت من نفوسهم غاية الاستحسان والقبول. وقد زادني إعجاباً بهذه النشأة الطيّبة ما أظهروه لنا من المبالغة في حبّ عزيزهم أمير البلاد وتعلّقهم الشديد بعرشه السامي وإخلاصهم الكبير لذاته الكريمة كما هو الواجب على كلّ شعب لأميره وحاكمه. نعم، وكما هو الواجب الّذي ينبغي أن تتربّى عليه النفوس من صغرها حتّى ينتقش فيها ذلك، فلا تحتّه

زيارة المدرسة الحربية

الدسائس ولا تنحته الوساوس. ثمّ إنّهم عندما همّوا بالانصراف قدّموا إلينا قانون جمعيّتهم معنوناً بقانون جمعية التلاميذ المصريّين في كلية الأمريكان، ومصدّراً بصورة سمو الجناب العالي الخديوي. وسنذكر إن شاء الله هذا القانون بنصّه في خاتمة الرحلة، ليعرف منه حضرات القراء أسماء أعضاء الجمعية وما اشتمل عليه من المواد. وقد قابلت منهم ذلك الإهداء الجميل بالثناء العاطر والشكر الجزيل، ودعوت لهم الله أن يكلّل مشروعهم بالنجاح ويتوّج عملهم بالفلاح. وبعد ذلك خرجوا من عندنا جذلين مسرورين، على أنّ سرورنا إذ رأينا أدبهم ونشاطهم كان في وزن فرحهم أو هو يزيد. كيف لا، وإن أقل ما كان يقتضيني أن أسرّ حينئذ أنّي قابلت شبيبة بلادي تجاهد في سبيل العلم مجاهدة الأبطال، وأنّها لقد تركت وراءها من أجل استحصاله كلّ مرتخص وغال. ورجوت أن يكون ما تظاهر به أولئك الطلبة النبهاء من محبّة مولاهم ومحبّتنا غير مشوبة بشائبة النّفاق والرياء، وأن يكون ليس من نوع المحبّة العارضة بسبب البعد والاغتراب، ولا من قبيل ذلك النسب الذي اِنتحله اِمرؤ القيس في قوله وقد أناخ بعسيب: أَجارتنا إنّ الخطوبَ تَنوبُ ... وَإِنّي مقيمٌ ما أقامَ عَسيبُ أَجارتنا إِنّا مُقيمانِ ها هُنا ... وَكلّ غَريبٍ لِلغريبِ نسيبُ زيارة المدرسة الحربية توجّهنا في شباب يوم الأحد 23 ربيع الأول سنة 1328 إلى زيارة المدرسة العسكرية الابتدائية وكان موقعها من المدينة في قسم الباشورة وهي تحتوي على سبعين تلميذاً تقريباً يبلغ سنّ الواحد منهم من سبع سنين إلى أربع عشرة سنة، وقد طفت على كلّ فصول هذه المدرسة ودوائرها وكان المعلّمون يختبرون التلاميذ أمامنا

المدرسة الملكية

فيما يتدارسونه من العلوم الجغرافية والهندسية والتاريخية وغيرها جرياً على العادة فسررنا من نجابة التلاميذ واستحضارهم، ثمّ تعهّدنا غرف النوم ومواضع الأكل والطبخ أيضاً فسرّنا اِختيارها ونظافتها سروراً بليغاً ولذلك أثنيت حميد الثناء على القائمين بشؤون هذه المدرسة عموماً، خصوصاً الأساتذة الّذين ظهر لي حسن عنايتهم بتربية الطلبة وتعليمهم ممّا كنت أراه من إجاباتهم السارّة على أسئلة أولئك المعلّمين، غير أنّي لاحظت شيئاً واحداً هناك وهو عدم تمرين التلاميذ على حمل السلاح وتعويدهم عليه في صغرهم وشباب عمرهم مع أنّ المدرسة حربيّة وكان يجب أن يوجد ذلك فيها بل أن يكون من أوّل دروسها وأهم حصصها، وقد سألتهم عن سبب هذا النّقص المحسوس فأجابوني بما كان لا يلاقي اِعتراضي عليهم، قالوا: إنّ المدرسة اِبتدائية وإن التلاميذ أحداث صغار، وقلت إن المدارس الحربيّة الإعدادية في الجهات الأخرى تعطي أبناءها السلاح في ضمن ما يتعاطونه وهم صغار لينشؤوا على حبّه ويتمرّنوا على حمله ولكي تتربّى فيهم من حال الصغر ملكة الشجاعة وتغرز في سجاياهم القوّة والجراءة ومن ذلك يستشعر التلميذ من نفسه الشهامة والإقدام، نعم لا ننكر أنّ الجيش العثماني من أقوى الجيوش وأشجعهم قلباً وأشدّهم بأساً اشتهر ذلك عن هذا الجيش حتّى إنه لا يوجد على ظهر المسكونة أحد يجهله أو يرتاب فيه، غير أن الواجب إنّما هو البلوغ بالإنسان إلى الحدّ الأكمل من كلّ فضيلة، وبدل ما أن يقال الجندي العثماني شجاع والجندي الفلاني أشجع منه يقال على العكس من ذلك، وما العمل لتحصيل هذا بالأمر المستحيل ولا هو بالصعب أيضاً. المدرسة الملكية ومن هناك ذهبنا إلى المدرسة الملكيّة حيث كانت الساعة 11 إفرنجية، فاستقبلنا على مدخلها جناب ناظر المدرسة وأساتذتها وبعض متخرّجيها وفريق من علية القوم، وإذ ذاك صدحت الموسيقى المدرسيّة بالسلام والنشيد الوطني. أمّا نحن فدخلنا ردهة الاستقبال، بينما كانت التلاميذ يحيّوننا ويهتفون لنا بالدعاء. وما كدنا نستقر في مجالسنا حتّى قام أحد التلاميذ ورحّب بنا بخطاب تركي. ثمّ نهض بعده الأستاذ

يوسف أفندي حرفوش فتكلّم بالنيابة عن الأساتذة والمعلّمين بما لم يخرج عن تهنئتنا بالسلامة عقب السفر، والترحيب بزيارتنا لتلك المدرسة، غير أنّ خطابه كان باللغة الفرنسية. ثمّ أعقبه على الفور جناب بشير أفندي قصار وألقى مقالة بليغة اِستهلها بقصيدة غرّاء قال في مطلعها: تِهْ فخاراً يا مَعهد العلمِ واِسمُ ... بِأميرِ الأَخلاقِ خير الوفودِ بِأميرِ الصّفاتِ وابنِ أميرٍ ... بِكَريمِ الآباءِ بعدَ الجدودِ ومنها: قَد أَتى معهداً يَزورُ بنيهِ ... فَتبدّوا منهُ بِعزمٍ جَديدِ معهداً قَد مَضت عليهِ سنين ... سائِراً في سبيلِهِ المحمودِ مَعهَداً أشربت قُلوبُ بنيه ... أَن تُنادي في العلمِ هَل من مَزيدِ ومنها وهو ختامها: إنّ يوماً قَد زرت ذا الربع فيهِ ... هوَ لا شكّ عِندنا خير عيدِ وقد تكلّم في خطابه عن المدرسة ومسيرها مدّة ستة عشر عاماً منذ اِفتتاحها، وهي متّبعة سنّة النمو والارتقاء التدريجي. وما أوشك أن ينتهي من ذلك حتّى نهض أحد التلاميذ بالنيابة عن الجمعية العلمية، فأهّل بنا ورحّب، وذكر خطّة الجمعية وبيّن غاية ما تسعى إليه، ثمّ قدّم لنا رسمها تذكاراً لزيارتنا لها. وحينئذٍ قمنا فصافحنا حضرات الخطباء، وشكرنا لجناب الدكتور صاحب القصيدة معروفه وأدبه وحسن خطابه وقلت له: لست أشكرك لمدحك إياي ولكن لذلك الفكر الصائب الّذي أبديته من وجوب تنشيط المعاهد العلمية. ثمّ أخذنا ندور على دوائر المدرسة ونتعهّد فصولها. وقد زرنا القسم الاستعدادي واختبرنا بعض صغار التلاميذ فيه

نزهة في الضواحي

فسررنا جدّاً من نجابتهم واِستعدادهم. ثمّ عدنا ثانية إلى قاعة الاستقبال حيث كانوا ينتظروننا بالمرطّبات. وهنالك أثنينا على رقيّ هذا المعهد العلمي، وقلنا لرئيس المدرسة الأستاذ الشيخ أحمد أفندي عبّاس: إن الواجب الأوّل في التعليم هو الاعتناء بتربية الأخلاق الكريمة في نفوس التلاميذ، وحضهم دائماً على الاشتغال بالعلم للعلم نفسه، حتّى لا يتجهوا في طريق التعليم إلى غاية أخرى. وقد أجابنا حضرته بما معناه أن هذه الرغبة الحميدة هي عين الغاية الّتي تسعى إليها المدرسة منذ نشأتها. ثمّ بارحناهم شاكرين لهم ما لاقيناه من عنايتهم ومعروفهم. نزهة في الضواحي ذهبنا ومعنا عزيزنا الفاضل أحمد بك العريس لنقضي وقت العصر في التنزّه ببعض الجهات الّتي كنّا لم نشاهدها، فمررنا بعربتنا في ضواحي المدينة. وكنّا أثناء السير نرى من مناظر الطبيعة ما لا نقدّر حسنه، خصوصاً عند الرجوع. فإن سبيلنا إذ ذاك كان من الطريق القديم الموصل ما بين بيروت ودمشق. وقد صادفنا ونحن سائرون غابة كبيرة من شجر الصنوبر كان قد أمر بغرسها جدّنا المرحوم إبراهيم باشا الأكبر. وسبب ذلك، على ما علمناه من حديث القوم هنالك، أنه قبل أن توجد هذه الغابة كان مرض الحمّى متفشّياً في المدينة يفتك بأهلها فتكاً ذريعاً. فتوجّهت همّة المرحوم إبراهيم باشا إلى مطاردة هذا الداء الخبيث بذلك الغرس الجميل الّذي من خواصه تطهير الهواء واِمتصاص المواد العفنة الّتي كان يتسبّب عنها هذا الداء، وقد تمّ له بسبب ذلك ما أراد. وقد وجدنا في طول هذه الغابة وعرضها طرقاً منتظمة جميلة المنظر، يقال إن الّذي أنشأها هو المرحوم إسماعيل بك كمال (الذي اشتغل كثيراً في مسألة اِستقلال الألبانيين) حينما كان والياً في ولاية بيروت. وقد مررنا أيضاً بجملة حدائق بهيجة كان غرسها من شجر البرتقال والليمون والتوت. وفي أثناء الطريق وجدنا مقابر عدّة، بعضها لليهود وبعضها للمسيحيّين، حتّى إذا كنّا على مقربة من حديقة إفرنكو باشا رأينا قبر المرحوم الشيخ أحمد فارس، ذلك العالم المشهور الّذي يقال إنه اِعتنق الدين الإسلامي أخيراً ومات عليه بعد أن اِعتنق جملة أديان وتقلّب

على عدّة مذاهب. وهو صاحب مجلّة الجوائب المعروفة، وله غيرها كثير من التآليف النافعة، منها: الجاسوس على القاموس في فن اللغة، وكتاب الساق على الساق في ما هو الفارياق، وهو كتاب جميل ضخم في علم الأدب. ثمّ قصدنا إلى الفندق من داخل البلد حيث كنّا في وقت الغروب، وعلى ذلك اِنقضت سحابة اليوم. وفي صبيحة اليوم الثاني جاء إلينا جماعة من أهل بيروت ومعهم خيل اِختاروها بقصد أن يطلعونا عليها على أمل أن نبتاعها منهم، حيث كانوا قد سمعوا من قبل بميلي إلى اِقتناء جياد الخيل. وقد كنت أودّ أن أجد منها ما يعجبني فأشتريه، ولكنّها مع مزيد الأسف كانت عاديّة لا تمتاز عن غيرها بحال، فضلاً عن كونها مجهولة الأصل. ولذلك لم يرق في نظري شيء منها، على خلاف ما كنت أحسب. وكان عليّ بعض زيارات لعلية القوم في المدينة، فأرسلت أحد الحاشية وأرسلت معه جملة من بطاقات الزيارة لينوب عنّي في ذلك، إذ كان لا يمكنني أن أؤدّي هذا الواجب. وقد حضر لزيارتنا في الفندق حينذاك عدد جمّ من أهل الشام، وكان من بينهم جملة من حضرات الرؤساء الروحيّين. ثمّ حضر أيضاً أحد أصحابنا (البلوني المسكوفي كونت برانتيسبيسكي) أحد عظماء بلاد الروسيا وأغنيائها وأشهر غواة الخيل العربية فيها. وكان قد جاء إلى الأقطار الشامية هذه المرّة لغرضين: أحدهما زيارة بيت المقدس، والثاني البحث عن الخيل العربية الأصلية. وقد أخبرني جنابه في ضمن حديثه أنّه لم يجد من بين الخيل الشاميّة والعربية الّتي اِطّلع عليها في تلك السياحة ما كان يستوجب العناية أو يستحق الشراء. ولذلك عدل عن الغرض الأخير الّذي وفقت الصدفة بيننا وبينه فيه. وقد كنت مسروراً من حديث هذا الشيخ الكبير ومجلسه. وليست هذه أوّل مرّة اِجتمعت فيها بجنابه، لأنّي كنت عرفته قبل هذه الزيارة في مصر، وآنست منه نفساً عالية وطبعاً رقيقاً وكمالاً وأدباً. وما أجدر الشيخ الهرم أن يكون متحلياً بالآداب ومتجمّلاً بالفضائل. وإن صاحبنا هذا كان قد طالع الثمانين وولاها ذنباً، ثمّ إنّه قضى معظم هذا العمر الطويل في سياحة الممالك والبلاد طولاً وعرضاً، فاِستفاد معرفة كثير من الأمراء والعظماء، كما استفاد خبرة واسعة بمعرفة الأخلاق والعوائد القوميّة المختلفة. وكان قد زار مصر مع والده على عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير، واِصطادا تمساحاً من بركة الأزبكية، قبل أن يصل

غريبة في بيروت

إليها بالطبع هذا العمار الباهر. ثمّ هو لا يزال يتردّد على القاهرة في كلّ شتاء. وإنّنا نشكر الصدفة الجميلة الّتي جمعتنا بهذا الشيخ الجليل في فندق من فنادق الشام على غير موعد. غريبة في بيروت وبينما كنت أنقّب عن الخيل الأصيلة وأبحث عنها في المدينة وغيرها لأشتري ما يعجبني منها، إذ أخبرت أنّ شابّاً إنجليزي التبعة يدّعي أنّه يعرف البلاد ويتعشّق الخيل ويقتنيها يريد أن يقابلني فأذنت له. وكانت هيئته وحركاته في سلامه وكلامه تدلّ على أنّه رجل عاقل مهذّب ظريف. ثمّ إنّي اِفتتحت حديثي معه بشأن الخيل الّتي توجد في جهات الضواحي، وسألته أيّ الجهات الّتي تعرف فيها وجود الخيل الكريمة، وأيّ الناس أعظم شهرة باِقتنائها من العرب وغيرهم؟ فقال: إنّ لي أصحاباً كثيرين من دروز حوران وعرب رولة الّذين يقطنون بالقرب من مدينة دمشق، وهؤلاء أعرف الناس بالخيل وأبعدهم صيتاً في حيازتها. ثمّ دار بيني وبينه من الكلام والبحث ما عرفته منه أنّ هذا الشاب ملمّ حقيقة بموضوعنا وله معرفة تامّة بحَسَن الخيل وقبيحها وجيّدها ورديئها، فقلت في نفسي الآن وقعت على خير عارف وسأبلغ إن شاء الله بواسطة هذا الشاب النشيط مأربي من خيل الشام. ثمّ عدنا إلى الحديث مستطردين إلى ذكر بعض أمور عامّة تتناول الموضوع الّذي جاءنا بصدده وغيره، فكان منها أنّه غزا في وقائع كثيرة، وأنّه مرّة كان يكون مع الدروز وأخرى يكون في صفّ العرب، وأنّه يجيد النطق باللّغة العربية ويحسنها حتّى كأنّها لغته، إلى غير ذلك. ثمّ إنّي سألته عن غايته من مجيئه إلينا ومقابلتنا وأنّه لم يسبق لي به معرفة ولا كلام، فقال بكلّ رزانة وأدب: أنّه لم يبعثني على التشرّف بمقابلة دولتكم سوى أن أتشرّف بخدمتكم فيما عسى أن ترغبوا شراءه من خيل تلك البلاد أو غيرها، وأنّ لديّ خيلاً لبعض النّاس أريد أن أطلع دولتكم عليها، لعلّكم تجدون منها ما يطابق غرضكم ويوافق رغبتكم. فقلت له: وأين توجد هذه الخيل؟ وإنّنا بحثنا كثيراً فلم نجد ما كان يروق لنا شراؤه. فقال: إنّي أعرف من تلك الخيل حصانين في

إلى متصرف لبنان

حوران. فقلت كان بودّي أن أراهما، ولكن مع الأسف ليس عندي الآن من الوقت ما يسع أن أنتظر ريثما تجيء الخيل من جهة بعيدة عن بيروت أو ضواحيها، لأنّي عازم على زيارة دمشق ولم يبق إلا ساعات قليلة. فقال: إذا كان لابدّ من السفر فإنّ أمامنا حصانين آخرين في بعض الجهات القريبة من دمشق، ومن السّهل جدّاً أن أسافر وأستحضرهما لدولتكم عندما تشرفون هذه المدينة؛ وإنّ هذين الحصانين لا يقلان حسناً وشهرة عن الحصانين الأوّلين. ولمّا لم يكن ثمّت مانع من ذلك تفاوضنا في ما ندفعه أجراً له على سعيه وتعبه، وانتهينا على أن يتقاضى منّا جنيهاً واحداً في كلّ يوم، حيث يكون منه أيضاً أكله وشربه ومصاريف سياحته سفراً وإقامة، حتّى تتمّ مأموريته الّتي أنطناه بها. وقد كان علم أنّ سفرنا من بيروت سيكون في صباح اليوم الثاني، فأراد أن يزجّ بنفسه في حاشيتنا ويسافر معنا. ومن أجل ذلك سألنا: هل ترون من اللازم أن أستبدل ملابسي بزيّ عربي أو لبوس عاديّ، لكي أحظى بشرف السفر في معيّة دولتكم في القطر الّذي تسافرون فيه؟ فأجبته بأنّ سفرنا في هذه السياحة ربّما لا يسمح لنا بمرافقة عدد أكثر ممّن سيسافرون معنا، وربّما لا تحبّ الحكومة العثمانية أن ترى في ضمن رفاقنا أحد رجال الإنجليز، على أنّنا لا نرى هناك من ضرورة لأن تكون في هذا السفر من جملة حاشيتنا، وأنت تعرف أنّ القطار غير خاصّ بنا، وأنّ في عرباته الكثيرة سعة لك ولغيرك من المسافرين، فاِنزل منه في أيّ عربة تريد. ثمّ إذا جئت دمشق فاِنزل منها أيضاً في أيّ فندق تحبّ وتختار. وعلى ذلك اِنصرف الرّجل ونحن لا نعرف من أمره سوى أنّه عاقلٌ نبيه ووادع مؤدّب. وسنذكر بقيّة قصّته في فندق دمشق، إن شاء الله. إلى متصرّف لبنان ما كادت تتوسّط الغزالة حتّى كنّا أخذنا زينتنا وأعددنا عدّتنا للذهاب إلى سراي صاحب الدولة يوسف باشا فرانكو متصرّف لبنان السابع، فركبنا من باب الفندق ومعنا رفاقنا ما وسعنا من المركبات، حيث قصدنا توّاً إلى السراي. وكان في اِنتظارنا عند بابها من العسكر والموسيقى في هذه المرّة ما كان لا يقلّ عنه عدداً ونظاماً في المرّة

الأولى. وكان أوّل من اِستقبلنا حال دخولنا دولة المتصرّف، فرادنا إلى ردهة الاستقبال الّتي دخلناها، وكانت وقتئذٍ حافلة بحضرات المدعوّين من كبار القوم وسراة المسيحيّين وأعيانهم. وقد وجدنا في ما بين أظهرهم بعض أسرة سرسق وأسرة بسترس، وهاتان الأسرتان من أشهر الأسر في بلاد الشام، وهما من طائفة الروم الأرتدكس وأصلهما غالباً من لبنان، ويسكنان الآن في مدينة بيروت ولهما هناك شهرة كبيرة وصيت ذائع حتّى يقال أنّهما أعظم أهل بيروت ثراء وأكثرهم مالا. ثمّ كان من المدعوّين أيضاً حضرة الفاضل سليم بك تابت. ولعلّ القارئ يلاحظ على أنّي أفردت هذا الشخص بالذكر وعيّنته بالاسم، دون ما سواه من المحتفلين، وما أدراه أنّ سليم بك تابت هذا جدير أن يبلغ من أنفسنا تلك المكانة، وأن يفسح له في رحلتنا بقدر ما يسع ذكر مروءته وكرم أخلاقه وحسن تربيته. وما نريد من ذلك إلا أن يعرف القرّاء له ما عرفناه من الكرم والمعروف. أمّا هو فإنه سليل أسرة مسيحيّة محترمة في تلك البلاد. وما كان يلفتنا إليه ويجعله منّا في تلك المنزلة أنّه ثريّ وجيه ولا أنّه عزيز في قومه، وإنّ الناس في هذا الباب كثيرون مزدحمون، وإنّما رأيت في الرجل همّة عالية ونشاطاً كبيراً وبديهة حاضرة لا يملّ مجلسه ولا تسأم معاشرته، لأنّه جميل المحاضرة ظريف ما اِستطاع، كأنّ الشام بيته والمسافرين إليها ضيوفه، ممّا دلّنا على أنّ فيه غيرة على بلده وحرصاً غريباً على أن لا يقع نظر السائح منها إلا على ما يحبّ ويستحسن. وقد عجبنا جدّاً من أنّه قادر على نفسه، غالب لها على إرادتها، إذ لم يمنعه تحيّزه لدينه وتعصّبه لمذهبه أن يقسط بين الناس في لطفه ومودّته، يستوي عنده في ذلك المسيحي والمسلم واليهودي وغيرهم من أيّ ملّة أو نحلة. ثمّ هو لا يألو جهداً في مساعدة الإنسان متى قصده وطلب معونته. وإنّه لجدير بمن تجتمع له هذه الخلال الطيّبة والشمائل المحمودة أن ينال من قلوب الناس محبّة تامّة ومن ألسنتهم ثناءً جميلاً. ولذلك قلّما ينعقد مجلس سرور، أو تتألّف حفلة أنس أو تتّسق جمعية مفيدة، حتّى يكون من أهمّ مروّجيها وأصحاب القدح المعلّى فيها. وبعدما جلسنا برهة نتحدّث مع هؤلاء المدعوّين الكرام، دعينا إلى غرفة الطعام. وهناك تعاطينا من المآكل الشهيّة اللذيذة ما حمدنا الله على إساغته. وقد كانت الموسيقى في هذه الأثناء تصدح بألحانها المطربة. ثمّ عدنا إلى قاعة الاستقبال،

زيارة المجلس البلدي

فشربنا القهوة. وبعد ذلك شكرنا لدولة المتصرّف وجناب قرينته المصونة ومن كان معهما في هذه الحفلة الشائقة ما أظهروه من العناية في إكرامنا والاحتياط بجميع الوسائل لراحتنا، ممّا جعلنا لا ننسى لهم جميعاً هذا اللّطف والمعروف أبداً. وقد خرجنا من عندهم مودّعين بغاية الحفاوة والاحترام. زيارة المجلس البلدي ومن هنالك ذهبنا حيث كانت الساعة أربعة بعد الظهر قاصدين على رأس النبا إجابة لدعوة رئيسَي البلدية في مدينة بيروت. وقد كانا أعدّا لنا مأدبة شاي جميلة في حديقة الحريّة، وهي في باب سراي الحكومة، وكانت تسمّى بالحديقة الحميديّة منذ عشرين سنة. ثمّ هي حديقة عامّة واقعة في وسط المدينة، وتشبه حديقة الأزبكيّة من حيث يقصد النّاس إليها للتروض والفسحة. وقد زخرفها المجلس وزيّنها من أجل الاحتفال بنا زينة بديعة، وأقام في وسطها كشكاً فسيحاً لجلوس المدعوين، وسرادقاً جميلاً جعل فيه خواناً عليه من ألوان الطعام وأنواع الشراب ما لذّ وطاب. وحينما وصلنا إلى هذه الحديقة، وجدنا جمّاً غفيراً من أهالي البلد مجتمعين حول الروض من الخارج وفي طرقاته من الداخل. وما كاد يقع علينا نظرهم حتّى طفقوا عن بكرة أبيهم يحيّوننا تحيّة فائقة ويصفّقون لقدومنا تصفيقاً. وقد كان في أوّل المستقبلين لنا حضرتا رئيسَي البلدية. وذهبا بنا توّاً إلى ذلك البهو بين تصدية المحتشدين وهتافهم الشديد. وقد وجدنا في اِنتظارنا هناك عدداً كبيراً من رجال الحكومة وثراة المدينة وأعيانها، يتقدّم الجميع صاحبا الدولة ناظم باشا الوالي، ويوسف باشا المتصرّف. فحيّيناهم جميعاً وما لبثنا نجلس إلا قليلاً، ثمّ قام جناب الرئيس الأوّل الحاجّ منيح أفندي رمضان وارتجل في وسط هذا المجتمع الحافل خطابة، كانت على طولها غاية في الرقّة والرشاقة. افتتحها بعبارات الشكر لنا والثناء علينا، ثمّ اِنتقل إلى شرح السرور البليغ الّذي كان يخامر أفئدة أهل الشام عموماً،

وأهل بيروت خصوصاً، من زيارتنا لبلادهم. ثمّ أخذ يُطيل ما شاء الله في وصف الإعجاب بوجود أمير من أمراء الشرق، ومن ذريّة المرحوم محمد علي باشا الكبير، في تلك البلاد الّتي طالما عطشت إلى وجوده واِشتاقت للتمتّع بطلعته بينما، تكرّرت فيها زيارة الأجانب من الأمراء الغربيّين وغيرهم. وشرع بعد ذلك يذكر مآثر المغفور له مؤسّس الأسرة الخديوية وأصل الدوحة العلويّة قائلاً: إنّ التاريخ لم يسجّل عليه محاربته للدولة العليّة حتّى ملأ صفحاته البيضاء بذكر ما كان له رحمة الله عليه من الإصلاحات الكبيرة والخيرات الكثيرة في جميع البلاد الّتي تمتّعت بعدله وسعدت بحكمه أعواماً طوالاً. وأشار في أثناء ذلك إلى تلك الغابة الّتي أسلفنا أنّها غرست بأمر المرحوم إبراهيم باشا الكبير. وهنا أطنب إطناباً في بيان ما لهذه الغابة الصنوبرية من الفوائد الجمّة والمزايا المهمّة، مفيضاً في شرح منافعها المحسوسة من الوجهة الصحيّة، وكيف أنّها كانت حجازاً مكيناً وحصناً حصيناً بين سكان المدينة وبين ذلك الأسد المغتال والمرض القتّال الّذي طالما كانت تكثر زيارته وتثقل ضيافته فيعبث بالمهج العالية والأرواح الغالية، وهكذا حتّى إذا اِنتهى ذلك الخطيب المصقّّع من خطابته البليغة، أخذ جميع الحاضرين يصفّقون تصفيقاً حادّاً إظهاراً لمكان الخطبة من نفوسهم، بينما كانت الموسيقى تعزف بألحانها الشجيّة ونغماتها المطربة، فكان لها مع تصفيق القوم وضوضائهم مجموعة رنّات، اخترق تأثيرها الشديد أعماق القلوب. ثمّ قام حضرة الفاضل الشيخ أحمد طبارة، وألقى كذلك خطبة أخذت بمجامع القلوب. وكان اِبتداء الكلام فيها بإطراء الأسرة الخديوية، وبيان مآثرهم في البلاد المصرية والشاميّة. ثمّ أخذ يذكر روابط الوداد وعلائق الاتّحاد بين الشعبين المصري والشامي. وأفاض في بيان الأسباب الكثيرة لاتّفاقهما وتآخيهما الّتي ذكر منها أنّهما متّحدان في اللّغة الأصيلة، وأنّهما متجاوران، وأنّ تجارة الشام في مصر من أكثر التجارات وأعظمها رواجاً، وأنّ كثيراً من أبناء الشام هاجروا إلى مصر واستفادوا منها ماديّاً وأدبياً فوائد جمّة. فمنهم من اشتغل بالتجارة، ومنهم من استخدم في وظائف الحكومة ومصالحها وغير الحكومة أيضاً ممّا لا يسعنا معه سوى الاعتراف بفضل مصر على الشاميّين، حيث رحّبت بهم وفتحت أبوابها في وجوههم، فما زالوا يمرحون في بحبوحة كرمها ونعمتها إلى غير ذلك مما كان صريحاً في إقرارهم بمعروف مصر وفضلها

كلمة عن بيروت

عليهم. وعندما انتهى ذلك الخطيب الفاضل هممت بأن أقوم خطيباً وأبدأ خطبتي لهم بشكرهم على ما صادفته من سماحة نفوسهم وكرم أخلاقهم، ثمّ أبيّن مقدار ما اِنطوت عليه قلوب المصريّين الكرماء من محبّة العرب والشاميّين، غير أنّي لاحظت أنّ الظروف وقتئذٍ لا تسمح لي أن أقوم فأقول شيئاً من هذا في حفلة كبيرة مجموع لها الناس، مخافة أنّ الحكومة العثمانية الجديدة ربّما تتشوّش من الخطبة، أو تتأوّلها بما لعلّه يخالف غرض الخطيب ويبتعد عن قصده ومراميه. وبعد ذلك قمنا متوجّهين نحو السرادق لتناول ما كان أعدّ لنا من الشاي وغيره. ثمّ قصدنا إلى الفندق وكان طريق مرورنا من وسط الحديقة حتّى الباب غاصّاً بالأهالي. وعند ذلك وُدّعنا من حضرتي الرئيسين ومن كان معهما بمثل ما استقبلنا به من الإكرام والحفاوة، فشكرناهم وركبنا العربات حيث وصلنا إلى فندقنا قبل الغروب. وإذ ذاك حضر لزيارتنا بعض أعيان المدينة وكبارها، وكان بينهم المفتّش العثماني في شركة السكّة الحديديّة الفرنسيّة، فقابلناهم جميعاً شاكرين لهم حفاوتهم الكبيرة وزياراتهم الكثيرة. وقد بلغني في هذا المجلس أنّ الشركة أعدّت لسفرنا صالوناً خاصاً بقطر الصباح، حيث كنّا اِعتزمنا - مع مشيئة الله تعالى - على الرحلة في ذلك القطر إلى مدينة دمشق. كلمة عن بيروت وهنا رأيت أنّه لابدّ لي قبل مبارحتي لهذا البلد من ذكر كلمة مختصرة عنها، ملحقة بما تقدّم من كلامنا فيها، على الرغم من أنّ هذه المدينة من المراسي الشهيرة والمدن التجارية الكبيرة الّتي قد عني بشأنها قديماً وحديثاً أرباب المحابر من الكتّاب وعلماء التاريخ، فأفاضوا في الوصف وأطنبوا في بيان ما يتعلّق بها من الجهات المهمّة والأغراض المفيدة، لأنّي إنّما أريد أن أذكر في رحلتي هذه جميع ما كنت أشاهد بعيني وأقف عليه بنفسي. ولعلّني إن أتيت في خلال ذلك من الآراء والملاحظات على حياة القوم الاجتماعية وبعض الأمور الداخليّة بما عساه أن يمرّ على بعض النّاس فيغمضوا فيه إغماضاً أو يتركوه وراءهم ظهريّا، دون أن يعيروه ما يستحقّه من

وصف منظر

الالتفات والعناية، أكون قد وافيت القرّاء بما لعلّهم يجهلونه في تلك البلاد وأرشدتهم ثمّت على ما ربّما تقصر عنده ألسنة المحدّثين أو تجفّ دونه أقلام الكاتبين. على أنّه لا يذهب على عاقل أنّ تاريخ البلاد، من جهة سياستها وعمارتها وحالة سكانها المعاشية والتجارية، ممّا لا يلازم بالضرورة حالة واحدة أو يقف عند حدّ محدود تتعاقب عليها حوادث الأيّام والليال، ويلحقها كسائر العالم وصف التغيير من حال إلى حال. بيروت مدينة قديمة التاريخ من أشهر وأهم مدن سوريا التجارية واقعة على شاطئ بحر الروم، وهي أكبر ميناء في بلاد الشام. ومركزها الطبيعي غاية في الجمال، وعدد سكانها يبلغ الآن نحو150 ألف نسمة، أغلبهم من الطوائف المسيحية، وعدد العسكر فيها يقرب من 1100 جندي منهم 800 من البيادة والطوبجية ونحو 300 من السواري. وأكثر مناظرها الطبيعية كانت في باب الجمال، ممّا قلّ أن يتناوله النظر في غيرها من البلاد الأخرى. وصف منظر نعم، وهل رأى الوافدون على بيروت، في ما كانوا شاهدوه، أحسن وأشهى وأخصب وأينع وأجمل وأبدع من منظر هناك، واقع بين البحر المتوسط وجبل لبنان، قد اِمتلأ من كلّ الجهات بالزروع المزهرة والأشجار المثمرة؟ تراه وقد اتّشح على طوله الطويل وعرضه الجميل بوشاح بهيّ ورداء سندسيّ يملأ عين مبصره بهجة ورواء وحسناً وبهاءً، كما يملأ قلبه طرباً وحبوراً وفرحاً وسروراً. هذا لعمرك منظر السفح، بينما تنظر إلى سكون الجبل وثباته واِضطراب البحر وثباته كأنّهما، وقد حاصراه بينهما، عاشقان يتجاذبان حبّه ويتنازعان وصله وقربه. وما أبرّه بعاشقيه وأوفاه بعهد صاحبيه، فلقد كان في موقعه أحسن ما يكون مطلوب بين طالبين ومعشوق أراد إرضاء العاشقين، غير أن الماء قد غلبته غيرته وأخذته غريزته وملكته أثرته، فلم يزل متهيّجاً لا يهدأ له بال ومتحرّكاً لا يستقرّ على حال، وكأنّ الجبل وهو ساكن سكونه محبّ قد اِمتلأ ثقة بمحبوبه أو غالب ظفر من مغلوبه بمطلوبه.

هذا، وقد كان أكثر ما رأيناه من الحدائق والبساتين في المدينة وضواحيها مغروساً بشجر التوت والبرتقال الّذي يرسل مع عليل النسيم عبير زهره فيشفي الجسم السقيم. وإنّه لا يكاد الإنسان يصرف النظر عن هذا السهل وما فيه من الحدائق والجنان، حتّى يرفعه إلى جبال لبنان فيرى جبلي صنين وكنيسة متلازمين تلازم الفرقدين، وظاهرين من بين الجبال ظهور النيرين، ذلك لما امتازا به من زيادة العلوّ والطول، حتّى كأنّهما وقد شمخا بأنفهما إلى السماك يطمعان أن يسكنا حيث تسكن وحتّى ترى السحاب على اِرتفاع شأنه وبعد مكانه لا يمرّ عليهما إلا فرقاً مذعوراً وخائفاً مقهورا على أنّهما لا يسمحان له بالمرور إلا إذا ترك على قمتيهما من ذلك الثلج الطبيعي ما يشبه العمامة البيضاء على رأس الشيخ الوقور: يَحسبهُ الجاهلُ ما لَم يعلم ... شَيخاً على كرسيّه معلما أمّا هواء بيروت فإنّه معتدل جدّاً في زمان الشتاء، وحرّ شديد في فصل الصيف. ولكن يقال إنّ اتّصال البلد بالبحر يلطّف كثيراً من هوائها في مدّة الحرّ على أنّه يقال أنّ معظم السكّان من طبقة المتوسّطين في هذه المدينة يصعدون على لبنان لقضاء الصيف هناك، لما قد امتاز به هذا الجبل من جودة الهواء وعذوبة الماء وجمال المنظر. وأمّا مياه المدينة، فقد بلغني من بعض القوم أنّها كانت في الزمن السابق غير صالحة للشرب، إذ كانت عفنة رديئة وكان ينشأ عنها بهذا السبب أمراض كثيرة وأوبئة شتّى. وقد عنيت الحكومة العثمانية بتلافي ذلك الخطر الخطير منذ خمس وثلاثين سنة، فجلبت إليها ماء الشرب من نهري الكلب وبيروت اللّذين ينبجسان من السفح الغربي من لبنان، حتّى أصبح أهل المدينة وضواحيها يتمتّعون بشرب الماء النقيّ الطاهر. وأما مدارس المدينة فكثيرة، إذ تبلغ نحو مائة مدرسة، للمسيحيين منها سبعون مدرسة: أربعون للبنين وثلاثون للبنات، وللمسلمين ثلاثون مدرسة: خمس وعشرون للذكور وخمس فقط للإناث. ومن ثم كان التفاوت عظيماً بين المتعلّمين من أبناء

الطائفتين ذكوراً وإناثاً. وقد تجد مثل هذا الفرق بين المعابد أيضاً، حيث إن للمسيحيّين ما ربّما يزيد عن الأربعين كنيسة، بينما مساجد المسلمين لا تربو على خمسة وعشرين مسجداً. ذكرنا قبل هذا أنّ العدد الأكثر من سكّان بيروت إنّما هو من الطوائف المسيحيّة، حيث المسلمون هناك لا يزيد عددهم عن أربعين ألف نسمة، على حين أنّ المسيحيّين يبلغ عددهم نحو مائة ألف أو هم يزيدون. ولكنّا رأينا مع ذلك أنّ الطائفة الإسلامية أظهر كلمة وأقوى جانباً. وربّما كانت هي صاحبة السيادة والأبّهة في البلد، وإن كان يلاحظ مع هذا أنّ مسافة الفرق بين ثراء الأمّتين عظيمة جدّاً. وقد يدرك الإنسان ذلك ممّا يراه من الفرق المحسوس بين مدارس المسيحيّين ومدارس المسلمين، فإنّ الأولى مع كثرتها وكفايتها حسنة العمارة نضرة البقعة وافية بكلّ أغراض الطلبة ومنها الكليات الّتي لا تقلّ في نظاماتها عن الكليات المعروفة في البلاد الراقية، وأمّا الثانية فإنّها مع قلّة عددها كما عرفت وعدم كفايتها بالطبع لأبناء هذه الطائفة لا تزال تحتاج إلى الشيء الكثير من مال الأغنياء وآراء المفكّرين. وعلى الجملة، فإنّ التعليم في مدينة بيروت ممّا يسرّ أنصار وعشّاق المعارف ومحبّي التقدّم والرقي. ولهذا كنت أرى معظم الأهالي يجيدون القراءة والكتابة، وقلّما وجدت مدينة أهلها كذلك في كلّ بلاد الشام. وأمّا مطابعها فإنّها ليست أقلّ أهميّة من مدارسها، وأقدمها مطبعة الأمريكان ثمّ اليسوعيّين، ثمّ مطبعة حديقة الأخبار، إلى غير ذلك من المطابع الكثيرة. وقد سمعت أنّ ما يطبع في تلك المطابع من الكتب العلميّة والفنيّة شيء فوق الحصر، كما أنّه يطبع فيها عدّة جرائد يوميّة وأسبوعيّة وشهريّة سياسيّة وتجاريّة وطبيّة. وممّا امتازت به هذه المدينة عن سائر مدن الشام أنّها تصدّر كثيراً من مطبوعاتها إلى البلاد الشاميّة وغيرها من البلاد الأجنبية، وأمّا لغة التخاطب العامّة بين المسيحيّين والأجانب فهي اللغة الفرنسية. ويقال إنّه في الزمن السابق كان التخاطب جارياً بينهما باللغة الطليانية بدلاً من اللغة المذكورة. وعلى كلّ حال، فإنّ لغة البلاد الأصلية والّتي يتخاطبون بها فيما بينهم هي اللغة العربية. وأمّا تجارتها فتدور في الغالب على مزروعاتها ومصنوعاتها الّتي أكثرها من الحرير وزيت الزيتون والصابون. وفي المدينة عدّة معامل لحلّ الحرير الإفرنكي وللصابون

والدباغة والفخار. ثمّ إنّ تجّار الشام المسيحيّين غاية في النشاط والمهارة، وإقبال النّاس عليهم في محالّهم عظيم جدّاً. ولذلك لم يكن للتاجر الأجنبي مطمع في وقت من الأوقات أن ينال من أهل البلد مثل ثقتهم بتاجرهم مهما حاول واِحتال، وقد رأيت هناك حالة تستدعي الأسف. معلوم أن جبل لبنان قطعة من الشام، وهو جملة بلاد واسعة يسكنها ما يقرب عدده من 400 ألف نفس: منهم حوالي 230 ألفاً من الموارنة، 55 ألفاً من الروم الأرثدكس، و45 ألفاً من الدروز، و35 ألفاً من الروم الكاثوليك، و17 ألفاً من المتاولة، و14 ألفاً من المسلمين وثمان مائة من البروتستان، و150 من اللاتين، وقليل من الطوائف الأخرى. وكانت هذه البلاد تابعة لولاية بيروت، قبل حدوث التعديّات الّتي وقعت سنة 1860 في دمشق ووادي التيم ولبنان، ولكنّها انسلخت عن بيروت واِنفصلت عن حكومتها وقتما كان احتلّها العساكر الفرنساويون مع معتمدي الدول لدفع هذه العاديات، وجعلت من هذا الحين متصرفيّة مستقلة متعلقة بالباب العالي رأساً. ولذلك كنت أجد تمام الانفصال بين الحكومتين، كما كنت أرى تخالف الأزياء العسكرية فيهما، وأن العلاقات بين حكومة الجبل وولاية بيروت صارت قاصرة على مجرّد العلاقات التجاريّة والمودّة الجوارية. ولقد كنت أسفت أشدّ الأسف على مرافق الدولة ومصالحها، كما يأسف كلّ غيور عندما يجد سكان هذا الجبل معتمدين على نفوذ الدول الأجنبية وحمايتها لهم غير خاضعين بالمرّة لقوانين الحكومة العثمانية ونظاماتها الشرعية، حتّى كأنّهم ليسوا من ضمن رعاياها، وحتّى إن أثر هذا الاستقلال الممنوح لهم من جهة السلطة الخارجية واضح مثل فلق الصبح في الفرق العظيم والبون الشاسع بين أحد أهالي لبنان وبين غيره من سكان المدينة أو أي بلد من بلاد الولاية، حيث الأوّل مترعرع ذو قوّة وشمم تعرف في وجهه نضرة النّعيم والترف، بينما الآخر على العكس من ذلك لا يتعدّى حدود السلطة ولا يتجاوز مواقف النظام، مع أنّهما موجودان تحت سماء واحدة ويتنفسان معاً في جوّ واحد. على أنّه يقال إنّ عدداً عظيماً من أهل لبنان وبعضاً من السوريّين يهاجرون إلى الولايات المتحدة وإلى جمهوريات أمريكا الجنوبية والوسطى، وأوستراليا، وبعض الجزائر بقصد التجارة وغيرها لتوسيع المال وتحصيل الثروة الطائلة. ويقدّر بعضهم عدد

السفر إلى دمشق

المهاجرين إلى سنة 1906 بنحو250 ألفاً متفرّقين في الجهات المذكورة. واللبنانيّون من هؤلاء يبلغون نحو ستّين ألفاً ما بين ذكور وإناث. وليس هذا شاهدنا ممّا أردنا إيراده في ذلك الموضوع، وإنّما نريد أنّ ابن لبنان إذا ما انقضى أربه وتمّ له ما يريد من الهجرة على البلاد البعيدة عاد ثانية إلى وطنه، ويفضل أن يأوي إلى بيت في الجبل دون أن يسكن بيتاً في مدن الولاية وبلادها، مع أنّ متمّمات رفاهته وأسباب ترفه وكماليات معيشته قد لا تتيّسر له إلا في المدينة، لا سيّما وأنّ بعض أرض الجبل صخري لا يصلح للاستنبات والزراعة. وعلى ذلك يؤثر اللبناني العاشق للزراعة أن يعيش في ذلك البلد ناقص الحاجة أو أن يتجشّم مشاق كثيرة ويتكبّد متاعب جمّة بجلب الطين من بيروت وغيرها لإصلاح الصخر وإعداده للزرع. كلّ هذا لأنّه يرى أنّ سكنى الجبل خير له من أن يسكن بلداً من بلاد الولاية، ويعيش تحت سيطرة الحكّام خاضعاً للنظامات والقوانين، ومعروف كيف كان يجري تنفيذها أرباب الشؤون. ليت شعري، كيف يملك الإنسان نفسه عندما يجد ذلك اللبناني قد ترك وفضل ما بين المدينة المتحضّرة وبين الجبل مهما كانت حاله لأن يعيش متمتعاً بسرور الأمن ولذّة الراحة مطمئن النفس على ماله وعياله، على حين أنّه يرى غيره من أبناء الأمّة في دائرة الولاية وتحت سلطة الحكومة كاسف البال، منكود الحظ، وضيع النفس. هذا ما كان يستدعي أسفي الشديد وما كنت عنده أرجو الله تعالى أن يوفق أصحاب الكلمة والشأن لإصلاح الحال حتّى يستوي اللبناني والبيروتي ويسود العدل ويعمّ الأمن والسلام. السفر إلى دمشق ولمّا أن أصبح الصباح وأراد الله أن نمضي عزيمتنا على زيارة دمشق، أخذنا أهبتنا للسفر وركبنا من باب الفندق مركباتنا الّتي مازالت تواصل السير حتّى كان آخر سيرها عند رصيف الميناء حيث كان عند مرسى السفينة موقف القطار. وقد وجدنا المحطّة غاصّة بأهل المدينة الّذين كانوا قد سبقونا إليها للاحتفال بوداعنا، فودعنا منهم ومن رجال الحكومة والثراة والأعيان وداعاً كان من أكبر مظاهر الأبّهة وأبهر مناظر

الجمال والكمال. أمّا نحن فقد شكرنا جميع المودّعين، خصوصاً دولة الوالي الّذي قام لنا بما يقتضيه لطفه ومعروفه من الإكرام والحفاوة. سار القطار على بركة الله وعونه من تلك المحطّة الصغيرة، وقد كنّا أخذنا مجالسنا في الصالون الخاص الّذي كانت أعدّته لنا الشركة. وكان الخطّ الحديدي من مبدأ قيامنا إلى مدينة دمشق من الخطوط الضيّقة. وكانت القاطرة التي تسير بنا في هذا الطريق تمتاز عن القاطرات المعروفة في جميع الخطوط بأن لها عجلة زائدة في وسطها من الباطن تشتبك بقضيب موضوع بحذائها، عندما يشرع القطار في الصعود وذلك لحفظ توازنها في المنحدرات، ثمّ ترفع هذه العجلة عندما يأخذ في الهبوط وإذا استقام الطريق. وهي من نوع القاطرات الّتي ابتدعت في الجهات الغربيّة لصعود الجبال. وقد كان الطريق معتدلاً على شاطئ البحر المتوسّط حتّى وصل القطار إلى محطة بيروت العمومية. ثم قام منها قاطعاً الطريق الحديدي الّذي يربط بين مدينتي بيروت وطرابلس الشام على قنطرة فوقه، ثمّ اتّجه إلى الجنوب على طول بيروت، وما زال سائراً في طريقه على شاطئ نهر بيروت حتّى اقترب من حديقة رستم باشا، وعندئذٍ كان قد وصل على الطريق القديم الّذي كان الناس يسافرون منه إلى دمشق بالعربات قبل إِنشاء السكك الحديديّة في تلك البلاد. وهناك كان يسير القطار على أرض خضراء نضرة مغروسة كلّها بالأعشاب والنباتات. وعلى يمين المسافر ويساره رياض فيحاء وغياض غنّاء، تفيض خلالها الجداول وتغرّد على أغصانها البلابل وتترسّل بين نواحيها نسمات الصبح النديّة بروائح الزهر الذكيّة. ولله كان النسيم العليل يسري في ذلك الجو الصاحي الجميل، ويمتزج بعبير الرياحين ويجري مع الأنفاس في صدور الناس، فيعمل في الأبدان عمل الطبيب المجرّب والحكيم المتدرّب، وله في الرؤوس مثل تأثير الكؤوس ممّا كان يتمنّى المسافر معه طول الإقامة تحت سماء هذا المراح الغضير والمناخ النضير الّذي يحسّ عنده الإنسان بانتعاش الجسم وخفّة الروح، ويدرك فيه سعادة الحياة ولذاذة العيش، ويجد منه بعد الضعف قوّة وبعد الكسل نشاطاً، كأنّما كان مسجوناً أفرج عنه أو مغمى عليه أفاق من غشيته. وما أحسن قول الشاعر في هذا المعنى:

نَسيمَ الصّبا النجديّ ما لكَ كلّما ... تَدانيتَ منّا زادَ نشركَ طيبا كأنّ سُليمى أَخبرت بِسقامِنا ... فَأعطَتكَ ريّاها فَجئت طبيبا وقد كان يكون الشعر أحسن من هذا وأوفق بالمعنى وأوفى بالمراد، لو أنّ الشاعر أبدل من لفظ النجدي لفظ الشامي، فإنّه شتّان ما نسيم النجود والقفار وشتان ريح المخصبة والبحار الّتي وصفها مادح الشام في قوله: يا حُسنَ واديها وَطيبَ شَميمه ... قَد فاحَ عرفُ الزهرِ فيهِ وعبّقا وَتَراسَلت أَطيارهُ بَينَ الرّبى ... سحراً فَهيّجت الفؤادَ الشيّقا كَيفَ اِتّجهت يخرّ نحَوكَ ماؤه ... وَإِليكَ يَركع كلّ غصنٍ أَورَقا وما برح القطار في اتّجاهه حتّى رسا على محطّة الحدث حيث منها كان مبدأ الصعود إلى جبال لبنان. وفيما كان القطار يعالج هذا الصعود علاجاً ويتدرّج فيه تدريجاً، إذ وقف على محطّة يقال لها بعبده، وهي على مسافة تسعة كيلومترات من محطّة الحدث. وفي هذا البلد قصر عظيم كان يسكنه قديماً أحد الأمراء السالفين، والآن يسكنه في فصل الشتاء متصرّف جبال لبنان. وعندما يشرف الإنسان من هذه الجهة على مدينة بيروت وخليج القدّيس جورج يشاهد منظراً جميلاً وشكلاً بهيجاً. ثمّ يقف القطار على محطّة جمهور، وهي تبعد عن بعبده بمسافة 12 كيلومتراً وعند هذه المحطة يقترب سير القطار من طريق دمشق القديم. ثمّ يقف على موقف عربة، بعد أن يقطع مسافراً مسافة 17 كيلومتراً من محطّة جمهور. ومن تلك المحطّة يمرّ القطار في نفق صغير، وإذ ذاك تحتجب الطبيعة وتتوارى معالمها عن عيون المسافرين ريثما يجتاز القطار ذلك النفق. ثمّ ينكشف الجوّ كما كان في جلبابه الأبيض الناصع. وتتجلّى معالم الطبيعة ثانية وقد بلغت في الحسن حيث تعرفها في جبال لبنان:

تَتجلّى لكَ الطبيعة آنا ... ثمّ آناً بِحُسنِها تَتوارى وقد كان من أجمل المناظر الّتي يشاهدها المسافر ما كان يرى من تلك البقعة على وادي شهرور، وبعد أن يسير القطار مسافة 21 كيلومتراً من عرية يكون قد وصل إلى محطّة علية. وقد استقبلنا على إفريز تلك المحطّة جناب وكيل المتصرّف، حاملاً إلينا سلام دولته، وكان معه ثلّة من العساكر وبعض الأعيان وبعض الرؤساء الروحيّين. فشكرنا لحضراتهم هذا الاحتفال، بعد أن شكرنا من صميم القلب دولة حاكم الجبال الّذي كان شديد العناية بسفرنا، عاملاً كلّ ما في وسعه لراحتنا وسرورنا، فضلاًَ عن أنّه كان عظيم الحرص على إجراء الرسميات والمظاهرات لمقدمنا في كلّ مقام ومكان في دائرة حكومته، إذ ما كنّا نقف على محطّة في طريق سيرنا حتّى نجد في اِستقبالنا اِستعداداً تامّاً من رجال الحكومة وأعيان البلاد، فيستقبلوننا بمزيد الحفاوة وكبير الاحترام. وكنّا نشاهد من البشر الّذي يتلألأ على وجوههم ما نستدل منه على صفاء سرائرهم وحسن طويّاتهم، وما زال يمرّ بنا القطار في وسط الجبل حيث كانت تستقبلنا الطبيعة بمناظرها البديعة حتّى وصلنا عين صوفر. ويقال إن هذا البلد أحسن بلاد الجبل هواء وأعذبها ماء وأكثرها اِزدحاماً بالمصطافين من أعيان مصر وغيرها. ولهذا السبب يوجد فيها فندق كبير من أحسن وأكبر الفنادق في بلاد الشام، كما أنّه يوجد فيها منازل كثيرة للإيجار مدّة مصيف الناس. وقد كان في استقبالنا على تلك المحطّة قومندان الجندرمة ومعه بعض العساكر فشكرناهم وكنّا نرى أثناء المسير مناظر الأشجار الكبيرة والبلدان الجسيمة تتصاغر أمام أعيننا كلّما اِزددنا صعوداً إلى الجبل ممّا كان يدلّ على زيادة العلو، خصوصاً وأن من عين صوفر يبتدئ شعور المسافر بالصعود المحسوس. ثمّ يجتاز القطار بعد ذلك بطن الجبل، فيمرّ هناك من نفقين كبيرين: يبلغ طول الأوّل نحو 280 متراً، والثاني نحو 360 متراً، ويسمّى هذا خان مراد أو بيدار. ثمّ يصل على محطّة بعيضان، وهي أعلى نقطة

في هذه الجهة حيث يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر نحو 1500 متر. ومن عندها يتحدّر القطار إلى جهة الشرق مسافة 44 كيلومتراً حتىّ يصل إلى المريجات، حيث هناك تنكشف المناظر الجميلة ذات اليمين على جبل بروق، وذات الشمال على جبل كنيسة. وبعد ذلك يرسو القطار على موقف المعلّقة، وهي تبعد عن مدينة بيروت بنحو 56 كيلومتراً. وتلك البلدة هي الحدّ الفاصل بين ولاية سورية وحكومة لبنان، ويوجد فيها كفر كبير إسلامي تابع لبلاد الشام، وفيها أيضاًَ بعثة إنجليزية ومدرسة لليسوعيّين. ثمّ إن هذه البلدة قريبة من قرية تسمّى زحلة من البلاد التابعة لحكومة الجبل. ويبلغ عدد سكانها نحو 1500 نسمة، وهم عن بكرة أبيهم مسيحيّون كما أنّهم جميعاً يعنون بزراعة العنب ولهم به عناية زائدة، ولديهم نهر يسمّى البردوني. ويوجد في تلك البلدة دير ومدرسة لليسوعيّين أيضاً. وممّا يحفظه التاريخ لأهل زحلة والمعلّقة أنّهم كانوا أعظم الناس مصاباً وشقاء عند حدوث العاديات الّتي كانت وقعت في بلاد الشام من الدروز سنة 1860. وبعد أن يفارق القطار محطّة المعلّقة، يمرّ هناك في وسط أرض واسعة وسهل فسيح بين لبنان والجبل الشرقي، وهو يمتدّ من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي 34، 40، 22 من العرض، وطوله نحو 70 ميلاً وعرضه يختلف بين 3و7 أميال. وهذا السهل غاية في الخصب، تكثر فيه الزروع وفيه أكثر من 100 قرية عامرة، وتجري إليه ينابيع غزيرة من الجبال فتشقّه في أنحاء شتّى. ويسمّى هذا السهل ببقاع العزيز، نسبة في ما قيل إلى الملك العزيز بن السلطان صلاح الدين الأيّوبي. وهو غير البقاع الّتي تعرف ببقاع كلب، وهي أرض واسعة بين بعلبك وحمص ودمشق، فيها قرى كثيرة ومياه غزيرة. وأكثر شرب هذه الضياع من عين تخرج من جبل يقال لها عين الجر، وهي المعروفة اليوم بعنجر. وفي هذه البقاع يوجد قبر النبي إلياس عليه السلام. وهكذا يستمر القطار في سيره على أن يصل إلى رياق، وهي محطّة تبعد عن مدينة بيروت بمسافة 66 كيلومتراً، وعندها ينتظر القطار نحو نصف الساعة. وفي تلك المدّة يتناول من شاء من المسافرين طعام الغذاء في مطعم تابع لأكبر فندق في دمشق يعرف بفندق الشرق الأكبر. ويمتدّ من

هذه المحطّة فرع آخر من خطوط السكّة الحديدية يوصل إلى بعلبك وحمص وحماة وحلب. ولما أن انتهينا من تناول الغذاء في ذلك المكان، شكرنا المندوب الّذي كان يرافقنا في هذا السفر من قبل الحكومة، حيث كان هذا الموضع هو آخر مشواره معنا. ونزلنا في القطار الّذي ما برح يتابع السير بنا في طريق دمشق، وهو يطوي الأرض بأقدامه الحديدية طيّاً، حتّى رسا عند وادي يعفوف وهو وادٍ خصب جميل مغروس بالنباتات والحدائق في كلّ جهاته، وعند هذه المحطّة يأخذ القطار في الصعود إلى الجبل الشرقي. وقد مررنا من هذا الطريق على قنطرة تعرف بجسر الرمّانة، وهي قنطرة عالية ترتفع عن سطح البحر بنحو 1320 متراً حتّى يصل القطار إلى محطّة سرغاية الّتي كانت تعلو عن منسوب البحر بمقدار 1400 متر. وهنا لا يستطيع المسافر أن يعبّر عمّا كان يتداخله من الارتياح ويستخفّه من الطرب، عندما يشرف من تلك الجهة على البقاع وجبال لبنان فيرى منظر الطبيعة فوق ما يوصف جمالاً ويعرف حسناً ورواء. وأيّ نفس لم تعد بعد الخمول نابهة وبعد الذبول ناضرة، وهي تتقلّب مرّات كثيرة على أبهج المناظر وألطف الأشكال. ثمّ هي لا تلبث أن تستقر في جهة تظن أن عندها منتهى الحسن وإليها قد اِستتمت ضروب الجمال والظرف، حتّى تفاجئها جهة أخرى فتأخذها منها روعة جديدة وهزّة شديدة، وترى أنّه كان قليلا في غيرها ما استكثر وصغيراً في نظرها ما استعظم واستكبر. ومن تلك المحطّة سافرنا على محطّة الزبداني، وهي مركز قضاء تابع لحكومة لبنان وعدد سكانها يقدّر بنحو 6500 نسمة، نصفهم من المسيحيّين والنصف الآخر من طوائف شتّى. ومركز هذه البلدة الطبيعي غاية في البهاء والحسن، إذ تحيط بها المزارع اليانعة والحدائق الواسعة من جميع جهاتها إحاطة الأكمام بالثمر والهالة بالقمر. وممّا قد اِمتازت به عن غيرها من البلاد، زيادة عن طيب مناخها، أنّ جميع الفواكه المشهورة توجد فيها. وأشهر ما فيها من أنواع تلك الفاكهة العنب والتفّاح حتّى قيل إن التفاح الزبداني لا يماثله أي تفاح كان في بلاد الدنيا. وفي ذلك الوادي، الزبداني، يمرّ نهر بردى، ذلك النّهر الجميل المشهور في هذه الجهات بجمال موقعه وصفاء مائه وبرودته وعذوبته. وبعد اِجتياز النهر المذكور والمرور من محطّة التكيّة، يخترق الخط الحديدي نفقاً صغيراً فيصل إلى سوق وادي بردى. والمسافة من مدينة بيروت حتّى هذا الوادي تبلغ نحو

موقع الجبل

115 كيلومتراً. وكان في الطريق، بين سوق بردى ومحطّة التكيّة، قرية اِشتهرت بكثرة الفاكهة وجودتها. ويقال إن جميع الفواكه المشهورة في بلاد الشام من أوّلها إلى آخرها توجد في حدائق هذه القرية. أمّا سوق بردى ففيه عدّة مغائر وكهوف، يذكر أنّها كانت تسكنها الناس قديماً، حتّى زعم بعض المؤرّخين أنّ هذه البلدة هي الّتي كانت فيها حادثة قتل هابيل لأخيه قابيل. ولعلّ هذا الزعم نشأ للمؤرّخ من أن هذا البلد واقع على مكان المدينة القديمة الّتي كانت تسمّى في عهد البطالسة أبيلة. ثمّ تمرّ السكّة الحديديّة من بعد هذه المحطة على دير قانون حتّى تصل إلى عين الفيجة، وهي ذات مجرى جميل يصبّ في نهر بردى ومركزها الطبيعي بين المزارع والأشجار، ممّا يسرّ الأفئدة ويبهج الأنظار. وهناك يسير القطار على شاطئ نهر بردى، تكتنفه الزروع وتحيط به من الجانبين بساتين نضيرة وأشجار غزيرة حتّى يصل إلى محطّة الجديدة. وهذه الجهة لا تبلغ في العلو عن سطح البحر مبلغ الجهات قبلها. ثمّ يبارحها القطار متّجهاً إلى محطّة الحامي، وعندئذٍ تتّصل السكّة الحديديّة بطريق دمشق القديم الّذي أسلفنا أنّه كان لمرور العربات، قبل وضع الخطوط الحديدية على أرض تلك البلاد. ثمّ يرسو عند محطّة دمّر، وهي واقعة على مسافة 137 كيلومتراً من بيروت. ثمّ هي بلدة صغيرة ولكنّها من المنتزّهات الصيفيّة وتعمر كثيراً في مدّة الحرّ، حيث أن أعيان الشام وأسره الكبيرة يقصدون إليها ليقضوا فيها فصل الصيف، ولهم فيها من أجل ذلك عدّة مساكن وبساتين جميلة. ومن هناك تظهر مآذن دمشق وتبدو طلائعها مبشّرة بقربها، ويرى المسافر على يمينها جبل قسيون وعلى يسارها تلول كلبات المزّة. وإلى هنا ينتهي طريق السير من بيروت إلى مدينة دمشق، ويفارق المسافر جبال لبنان ومناظرها الّتي كانت على طول هذا الطريق تختلف طرباً وتتفاوت حسناً وعجباً. وينبغي أنّنا لا نودّع هذا الجبل حتّى نذكر بعض معلوماتنا فيه تتميماً للرحلة وقد كانت في طريقه طويلة جميلة. موقع الجبل تمتدّ سلسلة جبل لبنان من الشمال الشرقي إلى أواسط سوريّة إلى الجنوب الغربي

حاصلات لبنان

وطولها 145 كيلومتراً وعرضها 45 ومساحة الجبل كلّه تبلغ 6500 كيلومتراً مربعاً. وأمّا حدوده فمن الشمال متصرفيّة طرابلس، ومن الشرق أقضية بعلبك وراشيا وحاصبيا، ومن الجنوب قضاء صيدا، ومن الغرب بيروت وشاطئ البحر. أمّا سكانه فقد ذكرنا عددهم فيما تقدّم. وفي لبنان أنهار وجداول كثيرة، من أشهرها نهر قديسا، وهو ينبع من قرية بشرى ويمرّ على مقربة من أهدن وزغزته في قضاء البترون، ويدخل مدينة طرابلس حيث يسمّى عند أهل هذه المدينة بأبي علي، ويروون من مائه البساتين، وهو يصبّ في البحر عند طرابلس، وطوله 38كيلومتراً. حاصلات لبنان وأما حاصلاته فقليلة لأن أرض الجبل في بعض جهاته صخرية غير معدّة للغرس ولا متهيّئة للزراعة، وقد تعب الأهالي كثيراً في إعداد أرضه للزراعة بقطع الصخور العظيمة ليزرعوا تحتها وقد حاولوا أيضاً غرس شجر السنوبر تحت نفس الصخور في عدّة مواضع منه، ومن محاصيله المهمّة القمح والحمّص والشعير والعدس، وكلّ الأهالي تقريباً يشتغلون بالحرير ويقال أنّه يوجد في ذلك الجبل نحو 147 معملاً لذلك ولهذا هم يكثرون من غرس التوت حيث أنّ دود القز يتغذّى من ورقه، ومن محاصيله المشهورة أيضاً التين والعنب ويقال أن التين اللبناني أحلى مذاقاً وألذّ طعماًَ من كلّ أنواع التين سواء في الشام وغيره. هواء لبنان أمّا هواؤه فإنّه لم يبق لي موضع لأن أصفه بالطبع بعدما شهد له الأطباء الشرقيّون والغربيّون قديمهم وحديثهم. وعلى الجملة فإن السائح الّذي يريد أن يكتسب صحّته وعافيته ويمتّع نفسه بمناظر العيون والجداول والينابيع والأحراش لا يجد مصيفاً طبيعياً خيراً من لبنان. ويقال إنّ أحسن بلاده موقعاً وهواء، وأكثرها جمالاً وثروة، البلد المسمّى زحلة.

صناعات لبنان

صناعات لبنان وأمّا صناعاته فيقال إنّ فيه صناعات قديمة مثل عمل الأقمشة والنجارة والحدادة إلى غير ذلك، وتجارته تدور على صنائعه ومحاصيله. ثمّ إنّ من أهمّ موارد الثروة في الجبل موسم المصطافين، لأنّ الجبل في الصيف يزدحم بالناس ازدحاماً عظيماً، اِلتماساً للصحّة وطلباً للشفاء والبرء من السقام، وأكثر هؤلاء من المصريين الأغنياء. ويقال إن بعضهم قدّر عدد السياح في ذلك الجبل بنحو 18 ألف نسمة، وأظن أنّهم يصرفون من مالهم في تلك السياحة الجميلة شيئاً لا يستهان به. دمشق هي أكبر مدن سورية وفلسطين وموقعها في أواسط سورية حيث الطول الشرقي 30 - 36، والعرض الشمالي 20 - 33، وهي إلى الشرق بانحراف إلى الجنوب من مدينة بيروت، تبعد عنها 145 كيلومتراً، وتبعد عن جنوبي حمص 4 مراحل، وتعلو عن سطح البحر 2400 قدم، ومحيطها 9 أميال ونيف. وهي مدينة قديمة التاريخ، مضى على بنائها نحو 3145 سنة. وكانت تسمّى بإرم ذات العماد، إذ يقال إن الّذي كان بناها جبرون بن سعد بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. وقد وصفها بعضهم بأنّها جنّة الدنيا لأنّها تشتمل على بساتين كثيرة ومياه تجري في قنواتها في كلّ مكان. وقد قيل في وصفها كثير من النثر والشعر، من ذلك قول بعضهم: سَقى اللهُ أرضَ الغوطَتينِ وَأهلَها ... فَلي بِجنوبِ الغوطَتينِ شُجونُ وَما ذُقت طَعمَ الماءِ إِلا اِستخفّني ... إِلى بَردى وَالنيربينِ حنينُ

وغوطة دمشق مشهورة، وهي من أجمل المناظر والمنتزهات، ولآخر: أمّا دمشقُ فَقد أَبدَت مَحاسِنها ... وَقَد وَفى لَك مُطريها بِما وَعدا إِذا أَردت ملأت العَينَ مِن بلدٍ ... مُستحسنٍ وَزمان يُشبِه البَلدا يُمسي السّحاب عَلى أَجبالها فرقاً ... وَيُصبحُ النبتُ في صَحرائِها بددا فَلَست تُبصر إِلا واكفاً خَضلاً ... أوَيانِعاً خَضراً أوَطائراً غردا كَأنّما القيظ ولّى بَعدَ جيئته ... أَو الربيع دَنا مِن بَعد ما بعدا ولنا بعد هذا الكلام فيما يتعلّق بهذه المدينة من الأمور والملاحظات الّتي لم نر بدّاً من تسطيرها في تلك الرحلة إن شاء الله تعالى. وصلنا مع سلامة الله ورعايته إلى محطّة دمشق، وعندئذٍ أخبرني قومساري القطار بأنّ والي الشام وناساً معه واقفون ينتظرون قدومنا على إفريز المحطّة، فما وسعني حين ذاك سوى أن أسرعت بالنزول من الصالون، وإذا بفتى حديث السنّ ممتلئ خفّة ونشاطاً كان هو أوّل من اِستقبلني من بين الحاضرين، فعرّفني بنفسه ووظيفته وأنّه حضر لاستقبالنا من قبل الوالي قائلاً إن دولة الوالي يعتذر عن عدم حضوره بذاته إلى المحطّة لانتظار دولتكم واِستقبالكم بأن سفر دولتكم إلى الشام غير رسمي. ثمّ طلب إلينا أن نركب عربة خاصّة كان جاء بها لهذا الغرض. وقد عرفنا بعد أن هذه العربة مملوكة لأحد أصدقاء الوالي، كما عرفنا أن المرسلين لانتظارنا من قبله أربعة أشخاص: أحدهم فخر الدين بك مدير الأمور الأجنبية، وهو ذلك الّذي بلّغنا اعتذار الوالي، والثاني روحي بك مدير البوليس، والثالث حسني بك قومندان الدرك، والرابع أحمد أفندي الحسيبي وكيل رئيس البلدية، وهؤلاء هم جملة

المستقبلين. أمّا أنا فمذ سمعت ذلك العذر العجيب صمّمت على أن آخذ مركبي من غير تلك العربة المستعارة، لذلك لم أجبه إلى طلبه وقلت له: إنه ليجدر بمن لم يكن سفره رسمياً أن لا يتعاطى شيئاً من الرسميات مطلقاً، ومن ثمّ لا أخالف تلك الخطّة وأركب عربة تجعل لي تلك الصفة في بلدكم. وقد كنت وأنا أحدثه ألاحظ أن حركته ولهجته في الكلام أشبه بحركات ولهجات الغربيّين منها بالشرقيّين، وأنّه لا يعلم إلا الله مقدار اِستغرابي وعجبي ممّا وجدته في اِستقبال ذلك الشاب، عندما صافحني مصافحة النظائر والأنداد وخاطبني وهو يهزّ يدي بما كان لا يقل عن خطاب كبير من الكبراء وأمير من الأمراء إلى غير ذلك ممّا كان لا يجمل بالمعاملة ولا يتفق هو والتقاليد الّتي تقتضيها حالة الشرق وتستدعيها عادة البلاد. وكيف لا أعجب عجباً شديداً، ولم يسبق لي أن أرى مثل هذه المقابلة من أحد، حتّى ولا من نفس الأمراء والعظماء في البلاد المتمدّنة الّتي يزعم الناس أنّها بلاد الحريّة والمساواة، لولا أنّ ذلك الناشئ بادرنا بشرح وظيفته وتعريف نفسه، ما كنّا شككنا أنّ الّذي كان يستقبلنا ويهزّ يدنا هزّاً هو حاكم الشام نفسه. على أن جميع الناس الذين قابلناهم قبل هذا فيما تركناه وراءنا من البلاد الشاميّة كانوا غاية في اللطف والأدب عارفين وزن أنفسهم، ثمّ هم لا يزالون محتفظين بتقاليد الشرق وأخلاقه. خرجنا من المحطّة فركبنا من العربات ما كان لنا منه الكفاية، وقصدنا توّاً إلى فندق فكتوريا الّذي اِخترناه لنزولنا مدّة إقامتنا في دمشق حيث هو أجمل فندق في تلك المدينة. ولم يكن ليصادفنا في الطريق الّذي كنّا نمرّ منه ما كان يلفت نظر السائح نحوه غير تكيّة للمولوية وذلك النهر العظيم، نهر بردى الّذي يمرّ في وسط المدينة أشبه بنهر السين في وسط باريس، وأنه لقد سرّني كثيراً منظره الجميل وحسن موقعه بين المزارع والبساتين. وكانت المسافة منذ ركبنا العربات حتّى وصلنا النزل لا تتجاوز الدقائق إلى الساعات. وهناك وجدنا عند مدخل الفندق صاحبه الّذي كان ينتظرنا ليهدينا إلى الحجرات الّتي خصّصت لنا فيه. ولم يمض على جلوسنا هناك أكثر من ربع الساعة حتّى شرّفنا الوالي بزيارته مرتدياً إذ ذاك لباساً عسكرياً فاستقبلناه وجلسنا نتحدّث، فأفهمنا في غضون حديثه أنّه كان لا يستطاع إعمال شيء في ما يتعلّق باستقبالنا عند موقف القطار أكثر ممّا حصل حيث لم يكن

حضورنا إلى ذلك البلد مصبوغاً بصبغة رسمية. أمّا نحن فبعد أن شكرنا له هذه الزيارة الّتي تبرّع بها من عنده قلنا له إننا حقيقة لم نجئ إلى بلدكم بصيغة رسمية وكذلك كان غير رسمي كلّ سفرنا في جميع البلاد الّتي قصدنا إليها في هذه الرحلة. على أنّه ليس لنا أن نسافر إلى دمشق أو غيرها سفراً رسمياً، وأنّه لا يجهل كلانا أنّ الأسفار الرسميّة إنّما تكون للأجانب أو لمن كانت تنفذه الحكومة من قبلها لمباشرة أعمالها ومصالحها. كما أنّنا نعرف تماماً أن كلّ الّذي كان يعمل من أجلنا في الاستقبالات من الاجتماعات والمظاهرات الأخرى إنّما كان من محض تبرّعات الحكام وأعيان البلاد. أمّا نحن فلم نأسف لأنّ اِستقبالنا منكم كان بسيطاً إلى الحدّ الّذي لا تجهله وأنّه كان هناك شيء يستدعي أسفنا فليس إلا أنّه لم يرسل لاستقبالنا على المحطّة من كان يناسب حالنا ويلتئم مع تبعتنا. ولقد كان يرضينا ويسرّنا أيضاً أن نجد في اِنتظارنا ولو أحد الضباط، بدلاً من ذلك الّذي قابلنا وكانت وظيفته مدير الأمور الأجنبية، إذ أنّي لست أجنبياً من تلك البلاد إذ هي بلاد الشرق، وأنا شرقي محض. وقد كنت أحسب أنّي عثماني تابع لدولة العثمانيّين. هذا كان خلاصة حديثنا مع الوالي وقد شرب القهوة وقام. أمّا نحن فما لبثنا بعده إلا قليلاً ريثما اِرتدينا ملابسنا المعتادة في الزيارات، ثمّ ذهبنا لا نلوي على شيء حتّى وصلنا إلى سراي الحكومة حيث نرد للوالي زيارته وسلامه. وقد رأينا السراي جميلة المنظر جدّاً، وربّما كانت أحسن مباني المدينة عمارة وأنضرها بقعة، لأنّها واقعة بجوار نهر بردى. وكنّا نظن أنّه يوجد في تلك السراي مثل ما يوجد في سرايات الحكومات من الناس والمستخدمين، ولكنّنا مذ دخلنا فيها لم نقابل سوى ثلاثة عساكر فسألناهم: هل هنا دولة الوالي؟ فقالوا: دولة الوالي ليس موجوداً هنا. فقلنا: أليس أحد من كبار المستخدمين أو السكرتارية هنا أيضاً؟ فأجابوا: ليس أحد هنا من هؤلاء جميعا. ً فبدا لنا أن نترك مع أحدهم بطاقة الزيارة ليعرف الوالي أنّنا رددنا تحيّته. وهناك ذهبت منّا اِلتفاته على سلّم السراي، فرأينا عليه إنساناً عرفنا بعد أنّه من أعيان البلد وأصحاب الجرائد فيها، وقد قرأنا في وجهه آية الأسف الشديد ممّا كان رآه من حال الاِستقبال والوداع في دار الحكومة، عندما دخلناها وخرجنا منها، وحينما سألنا العسكر سؤالنا وأجابونا جوابهم. ولهذا خفّ الرجل إلينا خفّة الطائر، وسألنا عمّا إذا كنّا نستحسن

أن نكتب في جريدته شكايتنا واِنتقادنا تلك الحالة الغريبة الّتي اِستنكر حصولها هذا الرجل، فشكرنا له معروفه وأجبناه بأنّه ليس لنا شكاية من شيء، ولا نريد أيضاً أن ننتقد عمل الحكومة على كلّ حال. وحسبنا من كلّ ما نطلب منكم ما وجدناه من محبّتكم لنا وشعوركم الجميل نحونا. ثمّ بارحنا تلك السراي قافلين إلى الفندق، فلمّا وصلنا إليه رأينا علماً عثمانيّاً مرفوعاً في داخله على السلّم الضيق فسألت صاحبه (وهو الخواجا بيترو وكان رجلاً كبير السن يميل كثيراً إلى مصر حيث كان يتاجر فيها حينما كان شابّاً): لماذا رفع هنا هذا العلم العثماني؟ فأجابني بأنّ العادة المتّبعة في جميع جهات الدنيا أنّه عندما ينزل ضيف كريم في أي فندق من الفنادق يرفع له علم الحكومة التابع هو لها إجلالاً له واِحتفالاً بقدومه، فقلت له: هذا العلم يرفع عادة على باب الفندق من الخارج فلماذا كان مرفوعاً من الداخل؟ فقال: نعم كان يجب رفع العلم خارج الفندق، غير أن أصحاب الأمر والنهي في البلد قد أبوا عليّ ذلك ومنعوني منه. فما أمكن لي أن أؤدي ذلك الواجب إلا برفعه حيث ترون، وإنّي لشديد الأسف من تلك الظروف الّتي عاكستني حتّى لم أتمكّن من نصب العلم على باب الفندق إشعاراً بوجود مثل دولتكم فيه. لعلّ القارئ يأخذ عليّ شيئاً من الملاحظات على بعض رجال الحكم والإدارة في حكومة الشام. ولست أنكر أنّ ذلك يكاد يكون بارزاً يلمس باليد من خلال سطور بعض المقالات في رحلة دمشق، ولكنّه ما جاء مقصوداً ولا مراداً به أي شيء، وإنّما جاء عفواً في ما تستدعيه الرحلة من ذكر كلّ ما يرى الراحل ضرورة ذكره. وإذا كان من الضروري أن أبين كيف كان اِستقبالي في كلّ مدينة أو بلد أنزل فيها أو أمر بها لا جرم كان وصف اِستقبالي في أكبر مدن الشام وأعظم عواصمها منتظراً في رحلتي قبل كلّ شيء، كما أنّه ضروري على كلّ حال، خصوصاً بعدما تحدّث به المتحدّثون وكتب فيه الكاتبون. قد ذكرت في غضون هذه الرحلة ما كنت لاقيته من أولئك الكرام المساميح أهل بيروت وأهل الجبل حكّاماً وغير حكّام، وما كان من لطفهم وأدبهم واِعتنائهم بضيوفهم، ممّا مرّ على القارئ بيانه من وقت أن كنّا في ميناء بيروت إلى أن نزلنا في محطّة دمشق، وأنّه ما فاتنا والحمد لله أن نشكر لهم معاملتهم لنا وحسن صنيعهم

زيارة في الفندق

بنا عدّة مرّات. كما أنّنا كتبنا كلّ ذلك مفصّلاً في رحلتنا هذه ليبقى معروفهم مسطّراً على صفحات الكتاب مثلما كان مطبوعاً من قبل في طويّات الألباب. وقد كان بودّي لو أنّه يسطّر بمداد من نور على صفحات خدود الحور. وإذا رأى القارئ في ما رأى أنّي لم أنس ذلك لأحدٍ منهم حتّى ولا لأصغر القوم سنّاً وأقلّهم شأناً واحتراماً، عرف من مبدئي في الأمور الإعلان بالصدق والصراحة في الحقّ كائناً ما كان وبالغاً ما بلغ. زيارة في الفندق عدنا إلى الفندق وبعد قليل من الزمن حضر إلينا صاحب الجريدة الّذي كان قابلنا في دار الولاية، وقد اِرتحت كثيراً لمجلس هذا الرجل الظريف لما سبق لي من مروءته ومعروفه على غير معرفة سابقة. وكان حديثنا معه قاصراً على وصف بلاد الشام وذكر مواهب الله فيها من خصوبة الأرض وجودة الهواء وعذوبة الماء وصفاء الجوّ إلى غير ذلك، وما كدنا نتمّم حديثنا معه في ما كان يقتضي سرورنا من مناظر تلك البلاد وأشكالها الطبيعية الساحرة حتّى جاءنا عدّة رجال من أعيان المدينة مظهرين لنا شدّة استيائهم من أنّنا لم نخبرهم بوقت حضورنا إلى دمشق، إذ كان ذلك سبباً في فوات أكبر فرصة كانوا ينتهزونها لتأدية الواجب نحونا من الاحتفاء بنا والاِحتفال باِستقبالنا لدى المحطّة، فشكرنا لهم جميعاً هذا الشعور العالي والإحساس الجميل. ثمّ جاء بعدئذ الأمير علي بن الأمير عبد القادر الجزائري، فقابلناه بما يليق بمقامه الكريم من الحفاوة والتعظيم. أمّا حضرته فكان وقوراً بشوشاً سمح الوجه ظريف المحادثة، لا يشكّ من يراه أنّه من بيروت المجد والإمارة. وقد أظهر لنا في فاتحة حديثه ما اِنطوت عليه نفسه الطاهرة من الميل والإخلاص للأسرة العلويّة. ثمّ أخذنا نتبادل أطراف الحديث، وكان أكثر ما يدور عليه كلامه هو اِمتداح المغفور له جدّنا الأكبر محمّد علي باشا وبيان مآثره النافعة في بلاد الشرق. وكان يسرّني ما كنت أسمعه من ذلك الحديث الحسن الصحيح سروراً جمّاً، ليس ذلك لأن الأمير كان يطري جدّنا ويذكر من أعماله وآثاره ما كان يذكر، فإن الآثار والأعمال نفسها تعرب عن

قدر صاحبها واِستحقاقه شكر الناس له إعراباً صحيحاً لا شكّ فيه ولا خلاف عليه، ولكن ذلك لأنّي رأيت مثل هذا الاِعتراف الجميل يصدر عن إنسان آخر على خلاف المألوف في طبائع أغلب الناس، خصوصاً في هذا الزمان، فإنّه قلّما يعترف واحد لغيره بفضل أو ميزة اللهم إلا إذا كان نفاقاً أو رياء. وقد يدفع الحقد ببعض الناس إلى أن يزيدوا، على نكران المعروف ونسيان الجميل والمروءة، أن يتلمّسوا لصاحبهم مواضع العيب والنقص من أعماله، وينشروها ليشهّروا به في المحافل والمجالس تشهيراً. وإنّ أعجب ما في الإنسان أن تراه شديد العداوة والبغضاء لأخيه، عظيم النفور منه. ومع ذلك فإنّه شديد الحاجة إليه عظيم الرغبة فيه. فبينما تجده يكره منه أن يزاحمه على خير أو يشاركه في فضل أو يستأثر دونه بعلم أو عمل، ويمقته ويزدريه ويودّ لو أنّه يستأصل من هذا الوجود فلا يبقى له أثر فيه، إذا هو لا يستطيع أن يعيش بدونه ولا أن ينهض بغيره، لا يرى معونته إلا منه ولا سلطانه إلا به ولا عزّه إلا في بقائه. فقضية الإنسان في تلك الحياة متناقضة معكوسة، وقل مع هذا أن يملك الواحد نفسه وينصف صاحبه، ويعطيه قسطه من المدح وحقّه من الثناء والشكر. وحينئذٍ لا بدع إذا كان يسرّني جدّاً أن أرى إنساناً مثل هذا نظيف القلب مغسول الصدر من أدران الحقد والحسد. وإنّي بعد أن شكرته جزيل الشكر وأثنيت عليه جميل الثناء، قلت له: إذا كان للمرحوم جدّنا محمّد علي باشا في الشرق من تلك الآثار الواضحة والأعمال الخطيرة النافعة ما يستوجب شكر الناس له، فإنّنا معشر الشرقيّين لا ننسى أن لأبيكم في الغرب من الإصلاحات الكثيرة والمنافع الجمّة الجليلة ما ليس يقلّ عن ذلك شيئاً، وعلى هذا اِنتهى حديثنا. وكان من ضمن الزائرين لنا في مساء هذا اليوم حضرة عبد الحميد بك غالب، نجل المرحوم عثمان غالب باشا. وقد اِستغربت إذ ذاك وجوده في دمشق، فسألته ماذا جاء بك إلى هنا؟ فقال: إنّ لي عمّاً في هذه المدينة، وقد كان المرحوم والدنا اِشترى بيتاً كبيراً حوله حديقة في ضواحي دمشق. ثمّ إنه ما زال جالساً معنا حتّى وقت الغروب، فاِستأذننا مودّعاً بالحفاوة مشكوراً على تلك الزيارة.

سياحة في المدينة

سياحة في المدينة في صبح اليوم الثاني عوّلنا على الخطّة الّتي كنّا رسمناها للسياحة في بياض ذلك اليوم، وكان منها زيارة بعض وجهاء المدينة وسادتها الّذين كانوا جاؤوا لزيارتنا في فندق فكتوريا، ومنها أيضاً مشاهدة ما كان لا بدّ للسائح أن يطّلع عليه في دمشق من المناظر والآثار. الإنجليزي في دمشق وفيما نحن نعدّ أنفسنا للخروج، جاءنا صاحب الفندق يخبرنا أنّ الشاب الإنجليزي (ومعروف للقارئ من هو) مصاب في عقله وأنّه كثيراً ما تعتريه نوبات جنون شديدة فيتشوّش دماغه ويضطرب فكره، وعند ذلك يتهيّج وربّما يتلون في الملابس والأزياء ويتداخل في ما لا يعنيه من شؤون الناس ولا يبالي أن يزجّ بنفسه في أخطر الوقائع وأصعب الفظائع. وقد تعدّدت جناياته وجرائمه في بلاد الشام حتّى صار يعرفه كلّ الناس تقريباً، وأن له أباً رجلاً طبيباً من سكّان لبنان ومن محترمي الإنجليز أيضاً، وقد تعب كثيراً هذا الوالد المسكين يحاول إصلاح شأن ولده ويعالجه بكلّ أنواع العلاج، رجاء أن يؤوب إلى ثباته ويعود إلى رشده. ومع ذلك لم يفده الإصلاح إلا فساداً، ولم يزده العلاج إلا جنوناً. ولمّا أن يئس والده المسكين من جهته ووجد أنّ نسبة اِبنه إليه واِرتباطه به على هذه الحال السيّئة ربّما يلحق به أذى وضرراً من جرّاء الجنايات الّتي يقترفها ذلك الوالد بخبله، اضطرّ أن يعلن على الملأ اِنفصاله عنه وبراءته من كلّ ما يحصل منه. أمّا أنا فقد أدهشني جدّاً هذا الخبر الفجائي الغريب، ولكنّي كنت أسأت الظنّ بالمخبر حتّى أتبيّن صحّة خبره، فسألت عن حقيقة ذلك الإنجليزي بعض من يعرفه من سكّان دمشق فأجابوني بما أكّد عندي حكاية صاحب النزل وحقّقها تحقيقاّ. وعندئذ لم يسعني غير أن أوعزت إلى حضرة الفاضل أحمد بك العريس أن يخليه من مأموريتنا ويبعده عنّا بدعوى أنّنا

لا حاجة لنا برؤية الخيل ولا شرائها. وقد وصلناه بمكافأة مالية ترضيه، فانصرف بها إلى حال سبيله. أمّا نحن فقد اِعتبرنا ما ذكره لنا الخواجة بيترو نصيحة جميلة وشكرناها له في نفسنا. وبعد ذلك ركبنا عربة من باب الفندق وذهبنا جاعلين وجهتنا في أوّل الأمر ردّ الزيارات، فابتدأنا بزيارة سعادة محمد باشا العظم في داره الّتي كانت واقعة في داخل البلد الأصلية من ضمن العمائر القديمة. وهي من البيوت الأثريّة النفيسة شرقيّة الشكل، فيها ساحة من حولها الغرف، وفي الساحة أشجار وأغراس وبركة ماء، وقد تكون البرك في داخل الغرف أيضاً، والأرض كلّها مبلّطة بالرخام المرمر الجميل، وبعض السقوف والجدران مذهّبة أو مزخرفة بفاخر الفسيفساء. وقد كان أكثر البيوت الّتي زرنا فيها أصحابها من هذا القبيل، وإن كانت تتفاوت بالطبع في سعة المساحة وضخامة البناء. وبالجملة، فإن بيوت دمشق التاريخية تشبه كلّ الشبه البيوت القديمة في جميع بلاد الشرق، ومثل تلك البيوت في مصر بيوت الغزّ والسادات. وحقيقة، كانت بيوت دمشق التي زرناها جميلة المنظر دقيقة الصنع، يطالع فيها المتأمل درساً طويلاً من أهمّ دروس التاريخ الأثري. ومنها يعلم كيف كان غرام المتقدّمين وولعهم بالفنون البديعة والصنائع الدقيقة. نعم، ويعرف أيضاً إلى أيّ درجة بلغت عنايتهم بزخرفة بيوتهم بالرسوم الفاخرة والأوضاع المحكمة. وقد كنت أدركت شيئاً من الفرق بين تلك الصناعة في بيوت الشام وبينها في بيوت مصر، فهي في الأخيرة أدق وأتقن منها في الأولى. وأظنّ أن هذا الفرق يمكن أن يدركه كلّ من زاول هذه الصناعة واِطّلع عليها في المدينتين. ولكنّي مع مزيد الأسف أقول: إن الصناعات القديمة والآثار التاريخية ليس لها مكان من قلوب المصريّين ولا نصيب من اِستحسانهم مثل ما لها من قلوب غيرهم، لأنّ معظم عنايتهم أو كلّها منصرفة دائماً إلى التقاليد الغربية والأنماط الإفرنكية، وبالأخص في العمارات الّتي غيّرت بالكليّة هيئة البلد وخرجت بها عن الشكل الشرقي بالمرّة. وأنه إذا كان بقي من ذلك البناء القديم بقيّة إلى اليوم، فإن ذلك من النادر القليل. وكم كنت جذلاً مسروراً من أنّ أهل الشام لا يزالون إلى اليوم محافظين على آثار أسلافهم وتاريخ عمائرهم، إذ أن أكثرهم ما فتئ يسكن البيوت العتيقة. ولا سبب لهذا في ما نعلم إلا أن العوائد الأوربية لم تتغلب عليهم ولم تنل

أسواق المدينة

منهم ريثما نالت من سواهم، فهم شرقيّون بارون بالشرق محتفظون بمخلفات الأصول وآثار الجدود. وبعد أن اِنتهينا من الزيارات ومشاهدة أفخر البيوتات ذهبنا إلى أسواق المدينة. أسواق المدينة في هذه المدينة أسواق كثيرة تسمّى بأسماء مختلفة، وفي الغالب يسمّى كلّ سوق منها باِسم ما يصنع أو يباع فيه على نحو ما يعرف في المدن الكبيرة. وهذه الأسواق على نوعين مجموعة ومتفرقة. والمجموعة منها يطلق عليها اسم المدينة، وهي شرقية الشكل أكثرها ضيق مسقوف. أمّا سوق الحميدية الجديدة وسوق الخوجه، وسوق محمد علي، فهي من الأسواق الحديثة الجميلة. ويوجد في المدينة من الخانات عدد كبير، أقدمها خان أسعد باشا وخان سليمان باشا. وقد كان أوّل مرورنا من السوق الأكبر، ورأينا أنّ حركة البيع والشراء متبادلة هناك بين الشرقيّين، وقلّما وقعت العين على أوربي يبيع أو يشتري أو يمرّ في هذا السوق، على أنّه هو أكبر الأسواق في ذلك البلد. ثمّ إننا كنّا نسير بين حوانيت من الجانبين، منها حوانيت السروجية والقصّارين وباعة الخبز واللحوم المشويّة والعطّارين وغيرهم من أصحاب التجارات وأرباب الصنائع الشرقيّة البحتة. كما كنّا نلاحظ أنّ مجموعة المتعاملين بالبيع والشراء كانوا يختلفون بين عرب وأكراد وأعجام وشراكسة ويتميّزون كلّ بلبوسه المعروف. ثمّ إن هناك بعض الأعاجم قد اتّخذوا محال لنقش الأختام، وجماعة كثيرة من الكتاب العموميّين يجلسون متفرّقين في طول السوق ومسافة ما بين الواحد منهم والآخر تبلغ من عشرة أمتار تقريباً إلى عشرين في الكثير. وحول هؤلاء الكتاب زحام من أهل البلد، إذ يستكتبونهم العروض والجوابات، كما قد يشاهد في الشوارع القريبة من المحاكم

فكاهة

الأهلية والأقسام في مصر. وكنّا نرى بعض أناس من حملة المباخر يروحون ويغدون في الطريق لطلب الصدقات من المارّة وأصحاب الحوانيت. كما كنّا نجد من الناس من يشتري الخبز ويلقمه الكلاب. ومن عادة التجار الّتي لاحظناها منهم في البلد أنّهم يشغلون أوقات فراغهم من حركة البيع والشراء بقراءة القرآن ومطالعة الكتب أو بالتدخين في النارجيل. فكاهة ولنذكر هنا على سبيل الفكاهة ما كنّا نسمعه من مناداة بعض السوقة في الطريق ذلك أن بائع الليمونادة ينادي (بيبرد الله قلبك اطف الحرارة)، ويصيح بائع الجلاب وهو التمر هندي المعروف (مواللال يا ولد) يريد أنّه صافٍ جدّاً، وبائع الخشاف البارد ينادي (بالك سنونك)، ويقول بائع الورد (صالح حماتك)، هذا ما كنّا وعيناه من ندائهم أثناء مرورنا. وبعد ذلك سرنا من جملة أسواق كان منها سوق الحميدية نسبة في ما يقال إلى السلطان عبد الحميد. وفي هذا السوق يوجد أيضاً خليط من النجارات الشرقية، ثمّ سوق العصرونية وسوق باب البريد، وهكذا حتّى وصلنا إلى جامع بني أمية. جامع بني أمية موقع هذا الجامع في آخر سوق الحميديّة من الطرف الشرقي، ويقال إنّ موضعه في الأصل كان معبداً وثنياً ثمّ حوّل إلى كنيسة مسيحيّة في عهد الإمبراطور أركديوس وكانت تسمّى القدّيس يوحنّا، ولعلّ سبب هذه التسمية وجود رأس يوحنّا المعمدان في تلك الكنيسة، وهو النبي يحيى عليه السلام الّذي لا يزال مدفوناً تحت إحدى قباب هذا المسجد، وكلّ أهل دمشق يقسمون برأسه. وعند هذا المسجد تقابل خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما عند فتح دمشق. وزعموا أن الجهة الشرقية منه أخذت غصباً وعنوة وأن الجهة الغربية تركت للمسيحيّين. وكان

المسلمون والمسيحيّون يدخلون أولاً من باب واحد إذا أرادوا الصلاة وقد استمرّوا كذلك على عهد الوليد بن عبد الملك. وبعد ذلك صار المسجد كلّه للمسلمين، لأنّ الوليد أخذ من المسيحيّين نصيبهم منه نظير أنّه ضمن لهم بقاء ملكيتهم لجملة كنائس أخرى متفرّقة في دمشق وضواحيها. ثمّ إنه هدم جميع الكنيسة من الداخل حتّى لم يبق من بنائها الأصلي إلا السور الخارجي وبنى مسجده الجميل الّذي أحكم بنيانه حتّى صار آية من آيات الحسن والبهاء، وكان المهندسون فيه من اليونان. ويقال إن الوليد عندما أراد الشروع في البناء استحضر 1200 صانع من إسلامبول لهذا الغرض، ولبثوا يشتغلون فيه مدّة تسع سنين. وقد جمع كلّ الأعمدة القديمة الّتي كانت متفرّقة في مدن الشام الأثريّة، ورصّ أرض الجامع بنوع من الرخام الجميل النادر، وكذلك فعل بدوائر الجدران من أسفل. وأمّا القبّة وحيطان المسجد من الأعلى فقد كان نقشها وزخرفها بحجارة ملوّنة دقيقة، وكذلك كانت محاريب الصلاة مزدانة بأبدع النقوش من ألطف الألوان وأدق الحجارة. وكانت عقود هذه المحاريب مزيّنة زينة باهرة بسلاسل وأغصان ذهبيّة، أمّا السقف فكان كلّه من الخشب المتين المطعّم بالذهب. وكان في المسجد 600 قنديل من ذهب خالص. ويقال إن دفاتر الحسابات لهذه العمارة نقلت إلى الوليد على 18 بغلاً. وحينما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز غيّر بعض معالم المسجد، فأبدل هذه القناديل الذهبية بقناديل عادية من الزجاج. وفي سنة 460 من الهجرة، وهي السنة الّتي استولى فيها تيمورلنك على دمشق، كان قد هدم هذا المسجد بحريق أتلف منه جزءاً. ومن ذلك الحين لم يعد المسجد إلى جماله الأوّل وشكله القديم. ثمّ احترق مرّة أخرى في 14 أكتوبر سنة 1893 فتلف فيه قسم عظيم، وكان ذلك على عهد السلطان عبد الحميد، وقد صدر أمره إذ ذاك بإعادة القسم المحترق وتجديده على مثل ما كان. ويقال إنهم جمعوا 80 ألف جنيه، أكثرها من تبرّعات الناس، أعادوا بها البناء، وإنّ جميع الصنّاع والمهندسين كانوا من الدماشقة، إذ يقال أنهم اجتمعوا على أن لا تزاحمهم يد أجنبية. ثم إن الجامع الآن

لم يبق فيه من المباني العتيقة الّتي كانت قبل الإسلام إلا قوس نصر، وهو قوس محكم الوضع متقن الصناعة جميل المنظر جدّاً، وكذلك بقيّة من باب واحد في الجهة الجنوبية. وطول المسجد يبلغ 131 متراً ويبلغ عرضه 38 متراً، فمساحته تبلغ حينئذ 4978 متراً مربّعاً. أمّا بناؤه فقائم على موضع الكنيسة، وفيه صفّان من الأعمدة الشاهقة تقسم المسجد إلى ثلاثة أروقة، ويبلغ طول العمود من تلك العمد 7 أمتار. ثمّ إنّ سقف هذه الأورقة الثلاثة متّكئة على كتل خشبيّة ضخمة منقوشة بأبدع النقوش. وقد نقش على الحائط الغربي من داخل المسجد أسماء الخلفاء الأربعة بالخطّ الكبير، كما كتب على الجدار الجنوبي وبقية الجدران بعض كلام الله سوراً كاملة وآيات من بعض السور، وهي منقوشة أيضاً بالثلث الجميل. وفوق القبلة والمنبر من الجهة الجنوبية ثلاث نوافذ كبيرة تمتاز عمّا عداها بجمال الزجاج وحسن رونقه في. وفي الجامع محاريب منها محراب خاص بالحنفية وآخر خاص بالشافعية، وآخر يسمّى بمحراب الصحابة، وقريباً من ذلك المحراب يصلّي السادة الحنفية، وهم أكثر عدداً في المصلين من أهل المذاهب الأخرى، ولعلّ ذلك لأنّ معظم أهل المدينة من هذا المذهب. ويقال إن الّذي بنى هذه المحاريب هو تنكز في سنة 729 هـ. وفي وسط المسجد قبّة عالية جدّاً مثمّنة الشكل، وفي كلّ جهة من جهاتها نافذتان على شكل نصف دائرة، ويقال إن هذه القبة مغطّاة بالرصاص. ولا يوجد بناء من أبنية المدينة كلّها أعلى منها إلا المآذن الثلاث. ولذلك هي تنظر للمسافر من مسافة بعيدة، ويرى على رأسها هلال شاهق، وتسمّى قبّة النسر، وربّما سميت كذلك لأنّ الرواقين في شمالها ويمينها كجناحين لها. وفي صحن الجامع أربعة أعمدة مغطّاة بالرخام الملوّن، وهي قائمة على القبر الّذي دفنت فيه رأس يحيى عليه السلام. أمّا رحبة المسجد فتحيط بها بواكٍ كثيرة إلا أنّها ليست نصف دائرة تماماً بل شكلها بيضاوي تقريباً ويقال أن عدة هذه البواكي تبلغ 47 باكية. وتيجان العمد في تلك الرحبة بارزة مربّعة الشكل لا تختلف شيئاً عن تيجان الأعمدة المصرية. ويقال إن هذه الرحبة كانت في الزمن السابق مبلّطة بالرخام المرمر النفيس.

وفي الجهة الغربية من تلك الرحبة قبّة أخرى تعرف بقبّة الخزنة. وفي وسطها قبّة كذلك تسمّى بقبّة النوفرة، ويقال إنّها واقعة في منتصف المسافة بين إسلامبول ومكّة المكرمة. وفي الجهة الشرقية قبّة الساعة، وهي واقعة أمام قبة الخزنة، وفيها ساعة. ثمّ إن وراء الأعمدة من الناحية المقابلة للمسجد عدّّة غرف خاصّة بالعلماء والطلبة. أمّا مآذن الجامع فثلاث: أوّّلها مأذنة عيسى، وهي واقعة في الجهة الشرقية من المسجد، مثمّنة الشكل ونقشها من الصناعة العربية الدقيقة، ولها ثلاثة أدوار يصعد إليها بنحو 187 درجة، وتنتهي بكرة عليها هلال. ومن فوقها يرى الإنسان منظراً بهيجاً إذا هو أشرف منها على أبنية المدينة وقوس نصر جميل بين البساتين والمزارع. ويعجبني تشبيه بعض من شاهد ذلك المنظر بأنه قطعة من الصخر الرمادي في إطار من الزمرّد الأخضر الشهي. ثمّ إن هذا المأذنة تزيد في الارتفاع عن قبّة الجامع بنيف ومائة قدم، والسيّاح يصعدون إليها ليروا ذلك المنظر العجيب. ولولا أنّ الزمن قليل والسفر طويل لكنت في عداد أولئك الصاعدين حتّى لا يفوتني أن أتمتّع به مثلهم. أمّا المأذنة الثانية، فهي في الجهة الجنوبية الشرقية، وتسمّى بمأذنة الساعة. وسبب هذه التسمية في ما يزعم الناس أنّ سيّدنا عيسى سينزل عليها عند قيام الساعة. وهاتان المأذنتان قديمتان جدّاً على ما يقال حتّى ذهب بعض المؤرّخين على أنّهما موجودتان منذ عهد الرومانيين واليونانيين. أمّا الثالثة، فقائمة في الجهة الشمالية، وتسمّى بمأذنة العروس. بناها الوليد على غاية ما يمكن من الإتقان والإبداع، وهي وإن كانت لا تبلغ في الطول مثل سابقتيها إلا أنّها تفوقهما حسناً وجمالاً. وقد تغزّل فيها بعض الأدباء فقال: قاسوا حَماة بجلّقٍ فَأَجبتُهم ... هَذا قِياسٌ فاسدٌ وَحياتكم فَعروسُ جامع جلّق ما مِثلها ... شتّانَ بينَ عَروسِنا وَحَماتِكم وأمّا أبوابه الخارجية فسبعة أكبرها في جهة الشرق.

إهداء عالم

إهداء عالم فرغنا من زيارة المسجد الأموي وعندما كنت مسرعاً في الخروج منه تقدّم نحوي شيخ يناولني كتاباً على غير معرفة، وقد حسبت أنّه من فقراء المساجد جاء يلتمس منّا صدقة، فأمرت له بجنيه وأخذت منه الكتاب، وأنا لا أزال مسرع السير حيث كان مقصدي زيارة قبر المرحوم صلاح الدين الأيوبي، قبل أن ندخل في وقت الظهر. ولكنّي عرفت أخيراً أنّ ذلك الشيخ الّذي أهدى إليّ كتابه هو شيخ الجامع الأموي نفسه. وعندئذٍ أسفت كثيراً لأنّي لم أقابله بما كان يستحقّه من الاحترام لشخصه ويقتضيه من الشكر لهديّته، لا سيّما والكتاب مخطوط قديم التاريخ نبيل الموضوع، إذ فيه ذكر فضائل مصر وعجائبها من القرآن والحديث وآثار السلف، وفيه أيضاً مسائل كثيرة في جغرافيتها الاقتصادية. وإنّما عرفت وظيفة هذا الأستاذ حينما تصفّحت الكتاب فرأيت عنوانه مكتوباً بخطّ يده على أوّل صحيفة منه، تحت ما كتبه من عبارات الإهداء الّتي تدلّ على أدب ذلك الرجل وتواضعه. وأنه وإن فاتنا أن نشكر له ذلك في وجهه فإنّه لم يفتنا أن نسطّره في رحلتنا، وذلك أبلغ في معنى الشكر والثناء. صلاح الدين الأيوبي من هو صلاح الدين الّذي قصدنا إلى زيارة قبره، إنّي أعتقد قطعاً أنّه ليس على وجه الأرض أحد إلا وهو يفهم قدر هذا البطل الكبير والفاتح الشهير كما يفهم وجود نفسه. كيف لا وهو الّذي طبق صيته الخافقين، وبلغت شهرته الّتي لم يسمح في غابر التاريخ ولا حاضره بمثلها لأحد من الملوك والسلاطين ولا غيرهم من العالمين. ولولا أنّي لا أحكم على الغيب ولا أتنبأ بالمستقبل لقطعت بأن الزمان لم يعد يسمح بنظيره. حَلَفَ الزّمانُ ليأتينّ بِمثلهِ ... إنّ الزّمانَ بِمثلهِ لَبخيلُ

وليس لنا أن نفيض في وصفه ولا أن نطيل بذكر تاريخه بعد أن امتلأت بطون التواريخ بقصصه الطويلة وشرح أعماله الجليلة الّتي شهدت بها الناس جميعاً حتّى أعداؤه ومبغضوه. ومَليحة شَهدت لَها ضرّاتُها ... وَالفضلُ ما شَهدت بِه الأعداءُ ولكن لا بأس أن نورد في رحلتنا نبذة من تاريخه العطري تبركاً بذكره الفخيم وتيمّناً باِسمه الكريم. هو السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أيّوب. ولد رحمه الله في تكريت سنة 532 من الهجرة، وقدم به أبوه إلى دمشق وهو رضيع فنشأ في حجره، وكان أبوه إذ ذاك مستعملاً على بعلبك. ولمّا ترعرع صلاح الدين، أرسله المرحوم السلطان نور الدين الشهيد مع أمراء جيشه للحرب في مصر فأبلى فيها بلاءً حسناً وأظهر من الشجاعة والبراعة ما أكبره وسما في أعين الناس، ثمّ عاد إلى دمشق وأقام إلى أن أغار الصليبيون على مصر وكادوا يستولون عليها وكانت وقتئذٍ بيد الفاطميين فطلب نور الدين إليه أن يذهب إلى مصر مع عمّه شيركوه فأجاب عن اِرتياح ونكل بالفاطميين وقطع خطبتهم وصار من هذا الحين نائباً في مصر إلى أن مات السلطان نور الدين فاِستقل هو بحكمها ومن ذلك العهد أخذ يفتح البلاد فتوحاته الكثيرة حتّى مات في مدينة دمشق في يوم 27 صفر سنة 588 وكان عمره لا يتجاوز 57 سنة وكان رحمه الله غاية في الجود والكرم حتّى قيل أنه لم يترك بعد وفاته سوى 47 درهماً وهي ثروة ربّما ترك السائل لأولاده أضعاف أضعافها ولكنّه البذل والسخاء والحنان والشفقة على المساكين والفقراء تستنفد المال ولو كان مثل الجبال. دخلنا قبّة هذا الملك وهي بجانب الجامع الأموي من جهة الشمال ورأينا حال دخولنا حديقة لا تزيد عن خمسة أمتار طولاً في مثلها عرضاً، وهنا أخذتني هزّة عندما رأيت صلاح الدين صاحب الحروب الصليبية والّذي أخضع الجبابرة وأسر القياصرة والّذي كان يضيق بهمّته الشمّاء فضاء ما بين الأرض والسماء ينتهي أمره بسكنى هذا المكان الضيق وتكون حديقته أمتاراً معدودة يوجد في مقابر البسطاء من

الصالحية

الناس ما هو أكبر منها، نعم إن الميت في قبره لا ينتفع بسعة المكان كما لا يهمّه شيء من زخارف الحياة، وإنما أسفي كان من أنّ الشرقيّين وهم أعرف الناس بقدر هذا الفاتح المظفر لم يحفلوا به كما يحفل الغربيّون بعظماء رجالهم مع أنّ الغربيّين أنفسهم قد قدروا قدر هذا الرجل وليس هناك أدلّ على ذلك من إهداء إمبراطور ألمانيا إلى قبره إكليلاً زهرياً يسر الإنسان أن يرى منه برهاناًَ على شعور جلالة الإمبراطور وأضرابه بقدر ما يحزنه أن لا يرى شيئاً مطلقاً من جانب الشرقيّين عموماً والمسلمين خصوصاً على قبره. الصالحية هي إحدى القرى والأحياء الّتي تنقسم إليها مدينة دمشق، وقد كنّا عوّلنا على اِرتيادها في هذا اليوم. فبعد أن فرغنا من مشاهدة الأسواق واِنتهى أربنا من زيارة الأعيان وبعض الجوامع ومن كلّ ما كان يهمّنا أن نطّلع عليه بالقصد أو كان يصادفنا أيضاً على غير نيّة وحساب عندما كنّا نسير في الشوارع والطرقات، توجّهنا تحوطنا رعاية الله إلى الصالحية وكان الوقت عصراً فسرنا في طريق كان من أجمل الطرق وأحسن المنتزهات في تلك البقاع حيث لا يلتفت فيه الإنسان عن ذات يمينه أو عن ذات يساره حتّى يرى الأرض من الجانبين خضراء زاهية بالبساتين والمزارع الّتي يميل إليها الطبع ويفرح منها القلب، ولا يزال المسافر في ذلك الطريق يمرّ بين مناظر طبيعية تختلف في الحسن وتتفاوت في الجمال وينتقل من منظر شهي إلى أشهى ومن شكل بهيّ إلى أبهى، ولا يودّع فيه نهر الطرة حتّى يستقبل بعده نهر البريد وهكذا إلى أن يصير في الصالحية. وهي قائمة على هضبة جهة الغرب من المدينة، وعدد سكّانها يبلغ نحو عشرة آلاف نسمة، ويمرّ منها نهر البريد وفيها من الأشياء المشهورة جامع الصوفي الشهير محيي الدين ابن العربي، وقبر عبد القادر الجزائري.

وقد سرّني جدّاً منظر هذه القرية الّتي جمعت على طيب المناخ ونضارة البقعة واعتدال الجو من ضروب الحسن والبهاء ما لا يمكن الإعراب عن نعته بأكثر من أنّه جنّة عالية تجري من تحتها الأنهار، كما قال بعض الشعراء: الصالِحيّة جنّةٌ ... وَالصّالِحونَ بِها أَقاموا وهذا قليل في وصف بلد مثل هذه. وإنك تكاد تطير فرحاً وسروراً عندما تشرف منها على دمشق وما يتخلّلها من الماء والخضرة ويحيط بها من البساتين النضرة، فترى من هذه المجموعة البديعة منظراً يخدع النفس حسنه ويسترقّ الفؤاد جماله، مررنا هناك في جملة شوارع ورأينا فيما كنّا نراه بيوتاً وأكواخاً صغيرة تدلّ بظاهر هيئتها على أنّ سكّانها من الفقراء البائسين وقد كنت أحسب أنهم من العرب ولكنّي عندما تأمّلت شكلهم عرفت أنّهم من أهل كريد المسلمين توطّنوا تلك الجهة واِستعمروها. وقد رأينا في نفس البلد أيضاً بيوتاً كبيرة وقصوراً مشيدة وهي من أملاك أكابر الدماشقة وأعيانهم. ثمّ صادفنا ونحن خارجون من تلك القرية مصطبة الإمبراطور. وقد اِستغربت هذه الإضافة فسألت من بعض القوم عن سببها فقالوا: إن إمبراطور ألمانيا لمّا زار تلك الجهة نصبت له خيمة فيها ووقف على تلك المصطبة ليرى منظر المدينة وما حولها، ومن هذا الحين نسبت إليه ودعيت باسمه. ثمّ إنّه لم يكن وراء الصالحية من الجهة الغربية إلا جبل قسيون، وأمّا من ناحية الشرق فلست أجدني مبالغاً إذا قلت إن الطبيعة لم تتجلّ للعيون فتملأها حسناً ولا للقلوب فتنهبها طرباً إلا في تلك البقعة عندما يشرف الإنسان منها على المدينة وما يحيط بها فيرى من الحسن والإبداع وجمال التكوين والاختراع ما لم يعثر النظر على مثله ولم تنسج الطبيعة على منواله. وكم كنت آسفا من أنّي لست بالشاعر الخيالي ولا بالرسام الماهر حتّى كان يمكنني أن أصوّر للقارئ كيف كان يفعل بالعقول ذلك المنظر الساحر، حينما كنت أشرف تارة على ناحية الشرق فأرى السفح مفروشاً من النبات البهي

بمثل البساط السندسيّ، وأرسل النظر تارة أخرى إلى الجنوب فأشاهد مآذن دمشق الشاهقة بين مبانيها ومعالمها الفائقة، وقد أحاط بها سياج من الحدائق الفيحاء إحاطة النطاق بخصر المشبوبة الهيفاء، فما أدرى وقتئذٍ إذا كنت أردّد البصر بين نضارة المزارع وجمال المدينة أم كنت أغازل عروساً بديعة الحسن في ثياب البهاء وشعار الزينة. ولكن ماذا كان يفيدني أن أكون أبلغ المتكلّمين فأصف ما كوّنته يد القدرة في هذا المقام الكريم بأفصح مقال وأوضح تبيين، أو أكون أحذق المصوّرين فيتحرك قلمي في رسم ذلك المنظر الفخيم بأبدع نقش وأبهر تلوين وأنه شتّان بين ما يقع في القلب من روعة المشاهدة والعيان وبين ما يصل إلى السمع من حديث التعريف والبيان. يا اِبنَ الكِرامِ أَلا تَدنو فَتُبصر ما ... قَد حدّثوك فَما راءٍ كَمن سَمِعا وعلى ذلك تمّت الرحلة على الصالحيّة. ثمّ عدنا إلى الفندق وقد مررنا في أثناء الطريق بمدرسة الملك الظاهر بيبرس ومكتبة الحكومة الّتي جمعت عند قبره واِشتهرت في تلك الدائرة بادّخار نفائس الأسفار العربية وغرائب الكتب الفنيّة، ويقولون إنه قبل أن تتكون هذه المكتبة كانت الكتب متفرقة في عدّة أماكن متنائية، فكان يصعب على عشّاق العلم أن يصلوا إلى غايتهم من البحث والمراجعة في تلك الكتب. على أن تباعد مواضعها كان من أهمّ الأسباب لتدشينها ونقص بعضها بل ضياع عدد كثير منها. ولولا أن أتاح الله لها مدحت باشا فعني بجمعها وترتيبها لكانت اليوم في حيّز العدم، وكانت تكون دمشق كبيروت خالية من المكتبات العامّة الّتي لا تقل فائدتها في المجتمع عن المدارس. ثمّ إنّي كنت عجبت من أنّه كيف تكون بيروت خالية من الكتبخانات العامة وهي البلد الوحيدة التي اختصّت من بين سائر بلاد الشام بكثرة المدارس وانتشار العلوم والمعارف. ولا شك أن تأسيس مثل هذه المكتبة الجميلة المشتملة على الكتب القديمة في مدينة كبيرة يعدّ نهضة شريفة تبقى لمدحت باشا في تاريخه إلى

آخر الزمان. وقد كان أمام هذه المكتبة جامع ابن بيبرس وقد منعنا أن نزور غيره أيضاً من جوامع دمشق الكثيرة الّتي منها أيضاً جامع السنانية أنّنا كنّا قريبين من وقت الظهر. وبعد أن تناولنا طعام الغداء في الفندق أخبرنا بحضور جملة من الخيل فاطّلعنا عليها. وكنّا نحسب أنّ فيها ما يجتلب رغبتنا ويجتذب اِستحساننا ولكنّا، مع مزيد الأسف، وجدناها كسائر الخيل المعتادة لا تمتاز حتّى ولا بأنّها من تلك الجياد الأصيلة. ولذلك صرفنا عنها النظر، وذهبنا في عربة إلى زيارة تكيّة المولوية، تلك الّتي ذكرنا أنّها كانت في طريقنا من المحطّة إلى الفندق. دخلنا هذه التكيّة، وهي من البناء المزخرف الجميل قائمة في وسط حديقة غنّاء. وقد اِستقبلنا عند مدخلها شيخها، وهو رجل كامل ظريف، وبعد أن رحّب بنا ناولنا من سعوطه الّذي أخبرنا أنّه من عمله وصنعة يده، فشكرت له أدبه ومعروفه. ثمّ طفنا على قاعات التكيّة ورأينا أنّ أهلها من أوّلهم إلى آخرهم ممتلئون جذلاً وسروراً بسبب أن جلالة السلطان محمّد الخامس مولوي الطريقة، فهم من أجل ذلك يطمعون في رعايته وعطفه بنوع خاص، ويؤملون أملاً كبيراً في أن يكون لجميع التكايا من وراء ذلك ما يرقيها ويوسّع نطاقها، حقّق الله آمالهم. ثمّ قصدنا إلى زيارة شيخ النقشبندية. ومن هناك مررنا ثانياً من داخل المدينة في عدّة أسواق يتّصل بعضها ببعض وتتمايز بالأسماء، وكان منها سوق الأروام وسوق باب البريد وسوق الحرير وسوق الخياطين. وإذ ذاك صادفنا دار أسعد باشا، وهي تعدّ من ضمن الأمكنة الّتي يقصد إليها المسافرون ويرتادها السائحون. ولهذا الباشا خان من ضمن خانات المدينة، كما أن لمدحت باشا سوقاً طويلاً يعرف باِسمه هناك. ومن الأسواق الّتي مررنا فيها من هذا الطريق سوق يسمّى سوق القطن لأنّ القطن يباع فيه، ومنه مررنا بجامع السنانية حيث قصدنا إلى الفندق. وكان سبيل سيرنا من ناحية المرج، وهو طريق طويل من المنتزهات البديعة المنسّقة مارّ بجوار نهر بردى وعليه من جهة اليمين واليسار مزارع وأغراس بهيجة والمتفسحون من أهل دمشق يستحسنون هذه الطريق كثيراً وأكثرهم استحساناً له وفسحة فيه المغرمون بركوب الخيل، فإنهم يروحون ويغدون على خيولهم يرتعون ويلعبون في هذا الطريق الجميل. بذلك ختمنا رحلة هذا اليوم، وما كاد يجيء صبح اليوم الثاني حتّى حضر إلينا في الفندق جمّ غفير من ذوات المدينة

في محطة دمشق

وأصحاب الحيثيات الكبيرة، فيها وقد كنّا تهيأنا للسفر فما زال هؤلاء الكرام معنا حتّى ذهبنا إلى المحطّة. في محطة دمشق جلسنا هناك في غرفة الاستراحة بين الذين كانوا جاؤوا إلى المحطّة للاحتفال بوداعنا مسافة نتبادل الحديث، وفي تلك الأثناء جاء إلينا أحد موظفي الحكومة يحمل معه سلام دولة الوالي واعتذاره إلينا عن عدم حضوره بذاته بأنّه مريض لا يستطيع السير إلى المحطّة، فشكرنا له هذه العناية الجليلة والأريحية الجميلة وقلنا لذلك المندوب على مسمع من كلّ الحاضرين: إن شاء الله سيزول مرض الوالي ويحصل له تمام الشفاء والنشاط، عندما نفارق هذا البلد ونسافر. ولمّا آذن القطار بالرحيل قمت فودّعت جميع الّذين كانوا قد حضروا لتوديعنا من علية القوم، وحينئذ كنت أسمع منهم عبارات الأسف الشديد ممّا كان حصل من الوالي أولاً وآخراً، فأجبتهم بأنّي ما جئت إلى بلاد الشام لزيارة الحكومة ولا رجالها، وأنه عندي يستوي أن أرى عناية الحكومة واحتفالها وأن لا أرى شيئاً أصلاً، لأنّ الحكومة كلّ الناس يعرفون أنّها كالأعراض دائماً متغيّرة لا تثبت على حال واحدة، وأنّها تتقلّب على مبادئ مختلفة تلتئم مع الظروف الحاضرة مثل السفينة الّتي تجري في البحر على حسب ما تقتضيه الرياح وتشتهيه الأهوية وقد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وإنّما جئت بلاد الشام لا أقصد إلا زيارة أهلها واكتساب معرفتهم ومحبّتهم. وحسبي أنّي، والحمد لله، اجتمعت في هذه الرحلة السعيدة بأمثال حضراتكم، فسأعود الآن من سفري هذا إلى بلادي بأكبر غنيمة وأربح صفقة. قلت لهم ذلك، وأنا لا أقدّر ما كان يختلج في صدري من السرور ولا أستطيع أن أعرب عن اِمتناني ممّا لاقيته من عناية أولئك القوم الّتي كانت ألمع برهان على شدّة تعلّقهم بنا وإخلاصهم لنا ولأسرتنا، كيف وإنهم سادة البلاد وأصحاب الشأن والكلمة فيها. على أنّي ختمت مقالتي لهم بأنّه لا ينبغي للإنسان أن يمتعض من الحاكم ويغتاظ عليه لمثل هذا الأمر قبل أن يتبيّن سببه، لعلّ له عذراً وأنت تلوم، وما يدرينا إذا كان الوالي

فعل ما فعله من تلقاء نفسه أو كان مجبوراً ومرغماً عليه من قبل أصحاب الحلّ والربط في البلاد. وأنا عند ذلك الأخير أقول: إذا كانت الحكومة تريد من وراء عملها هذا كسر شوكة الأسرة الخديوية والحطّ من كرامتها في عيون الناس، فليس في وسعي حذاء ما تبتغي الحكومة سوى الصبر والسكوت، وهو أحسن ما يكون جواباً في تلك الحال. وإلا فماذا ينفع القيل والقال وقد أصبحت البلاد كما تعرفون؟ لا أقول إنّها بلاد فوضى أو خالية من العظماء والعقلاء والحكّام والأمراء. ولكن كلّنا لا نجهل أنّ الاختلاف على المبادئ والغايات كثيراً ما يوجد الاشتباه والالتباس ويوجب تفرّق الكلمة ويذهب بوحدتها بين الناس، خصوصاً إذا هم اختلفت شعوبهم واضطربت مضاربهم وآراؤهم، ومن ثمّ لا تجدي الشكاية من امرئ يزعم أن أكبر المبرّرات لعمله اِعتماده على جانب غيره واِطمئنانه على قوّته ونفوذ أمره. ولذلك أنا أفضل من الآن الرجوع إلى مصر، دون أن ألوي في طريقي على مكان آخر، على أن أتمّ رحلتي في بقيّة البلاد. فإنّي أحسب أنّ هذا أحفظ لكرامتي وخير لي ممّا عساني أصادفه في حكومات الشام. وعندئذٍ قالوا جميعاً خفّض على نفسك، فالأمر أهون ممّا تظنّ، وسافر على بركة الله على ما شئت من البلاد، فإنّك سترى إن شاء الله من الآن ما يسرّك ويرضيك حيث أقمت وحيث ارتحلت، فليس في طريقك من هنا إلى بعلبك وحمص وما بعدهما إلا قومنا وأبناءنا الّذين منهم المتصرّفون والحكّام. وإنك ستجد من عنايتهم واِحتفائهم العظيم بمقامك الكريم ما أنت جدير به فشكرت لهم هذا المعروف الكبير والإخلاص المتناهي مرّة بعد أخرى. ثمّ قام القطار، وهنا كان آخر رحلتي في مدينة دمشق وعاصمة الشام الكبيرة. وقد كان بودّي لو أن تطول إقامتي فيها لأتجوّل في جميع ضواحيها ونواحيها، وأطوف أيضاً على مدارسها النظامية ومعاهدها الدينية ومعاملها الصناعية ومكاتبها ومطابعها، وأوافي القراء في رحلتي بتفصيل ذلك كلّه، غير أن الوقت كان مع الأسف ضيّقاً لا يسمح لي بأكثر ممّا كان. على أني كنت ألاحظ في أثناء مروري في طرقات البلد من داخلها وخارجها أنّ أغلب السكّان من الطوائف الإسلامية، وأنّ عدد المسيحيين بالنسبة إليهم قليل جدّاً كعدد المسلمين بالنسبة إلى سكّان لبنان أو هو أقل من ذلك أيضاً.

طريق السفر إلى بعلبك

طريق السفر إلى بعلبك مرّ بنا القطار في سهل البقاع الّذي سبق الكلام عليه حتّى وصل إلى محطّة الرياق الّتي أسلفنا أنّ القطار يقف عندها زمناً يكفي المسافر لأخذ غايته من طعام الغداء. وقد كانت المسافة من هذه المحطّة إلى مدينة بعلبك أقرب مسافة بين المحطّات. ورأينا في اِنتظارنا على إفريزها سعادة عبد الحميد باشا الدروبي، لمناسبة أنّنا كنّا وعدناه بزيارتنا له في مدينة حمص الّتي هي بلده وهو سيّدها وأكبر واحد فيها. وكان معه في اِستقبالنا قائمقام بعلبك وحضرة مطران بك أحد أسرة مطران الشهيرة في بلاد الشام، وإن شاء الله سنذكر نبذة من تاريخ هذه الأسرة الفخيمة. وبعد أن تناولنا جميعاً طعام الغداء الّذي كان مجهّزاً مع جميع أدواته نزلنا في القطار الّذي ما فتئ يعبث بالأرض وينفذ كالسهم في كبد الفضاء حتّى وصل إلى محطّة بعلبك. وكان الزمن الّذي اِستغرقناه في طول المسافة بين الرياق وهذه المحطّة لا يزيد عن ثلاثة أرباع الساعة. مدينة بعلبك هذه المدينة ترتفع عن سطح البحر نحو 1170 متراً، وهي قائمة في الجانب الشرقي من وادي الليتاني وهو وادٍ خصب التربة جيّد المعدن جدّاً. ثمّ إنّ هذه المدينة، وإن كانت قديمة التاريخ مشهورة في سورية، غير أنّها صغيرة لا يزيد عدد سكّانها عن خمسة آلاف ومائتي نفس، خمسهم من طوائف المسيحيين. وهي قصبة قضاء باسمها تابع لواء دمشق، وفيها حامية صغيرة، وديران روميان وآخران مارونيان، ومدرستان للبنات: إحداهما لراهبات القدّيس يوسف، والأخرى للبعثة الإنجليزية. وفيها أيضاً مساجد ومزارات لبعض الأولياء، وروضة أنيقة، ونبع يسمّى برأس

تاريخ المدينة

العين، وهو من أجمل المنتزهات، وماؤه عذب لطيف. وفيها من الآثار المهمّة والعجائب التاريخية قلعة بعلبك الّتي هي من أعجب مباني العالم وأغلب الآثار السورية بعد تدمر. وسيأتي لنا عليها كلام بعد قليل ممّا سنذكره في تاريخ تلكالمدينة. تاريخ المدينة أصل مدينة بعلبك غير معروف وقد وجد اِسمها ضمن كتابة قديمة عثر عليها في الآثار الأشورية والمصرية ويؤخذ من هذه الكتابات أنّ المدينة كانت مخصّصة بعبادة الإله بعل، وكان اليونان يقولون أن بعلاً هذا هو نفس إليوس إله الشمس ويفسّرون بعلبك ب (اليوبوليس)، ولما أن جاء الرومان قالوا أن إليوس هو المشتري وكانوا يمثّلونه بشاب أمرد أمامه ثوران وفي يمينه سوط وفي يساره صاعقة وبعض من سنابل القمح وفي عهد الملك أوغيست اعتبرت المدينة مستعمرة رومانية كما يدلّ على ذلك بعض نقود القرن الأوّل الّتي وجدت تحت الجدران، وفي عهد الملك أنطنيوس الصالح من سنة 138 إلى سنة 161 بعد الميلاد شرع في بناء معبد لآلهة اليوبوليس الثلاثة المشتري والزهرة وعطارد، ولكن لم يتم بناء ذلك المعبد إلّا في عهد (كراكلا) سنة 217، ثمّ بنى بعد ذلك معبد الإله باكيس إله الخمر. ولمّا جاء عهد الإمبراطور قسطنطين الأوّل محيت عبادة الزهرة، وذلك كان من سنة 324 إلى سنة 337. وفي عهد الإمبراطور بتودوز، الّذي كان من سنة 379 إلى سنة 395، هدم بأمر منه المعبد الكبير بعد أن كانت الزلازل قد نالت منه مرادها أيضاً، ثمّ بنى الإمبراطور في موضعه كنيسة. وقد وجد في ضمن الآثار كتابات يذكر فيها بعض أساقفة اليوبوليس. وفي القرن السابع استولى على المدينة بطل المسلمين أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، بعد أن دارت حرب بينه وبين بطريق يسمّى هربيس، أرسله هرقل

من المحطة إلى الفندق

عظيم الروم. وكان هربيس هذا رجلاً شديد البأس شجاع القلب، ولكنّه لم تنفعه شجاعته ولم تغنه كثرة قومه وجنده والمسلمون يومئذٍ أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً وكان عليهم من أمراء الجيش وقوّاده خالد بن الوليد وعمرو بن معدي كرب الزبيدي ورافع بن عبد الله السهمي من سادات قريش فنصر الله المسلمين وأيّدهم بعدما كان حمي وطيس الحرب بين الروم والعرب، وحصر العرب الروم حصاراً شديداً ضايقهم حتّى اِنتهى الأمر باِنهزامهم واِستكانتهم وخضوعهم لشروط الغالبين. وقد ثار الروم أخيراً بالبطريق هربيس زعيمهم فقتلوه واِنضموا للإسلام، وتمّ الفتح للمسلمين واِستخلف أبو عبيدة على بعلبك رافع بن عبد الله السهمي وأوصاه على عادته بالعدل والاِستقامة. ويعتقد العرب أنّ القلعة من بناء سيدنا سليمان، وقد بنوا فيها حصوناً كان لها أهمّ تأثير في حروب القرون الوسطى. وفي سنة 1139 اِستولى الأمير محمود زنكي على المدينة والقلعة. وفي سنة 1175 اِستولى عليهما أيضاً السلطان صلاح الدين. وفي سنة 1260 خرّبها المغول تحت رياسة هولاكو، وجاء بعده تيمورلنك فأجهز عليها. أمّا بناء المعابد فقد وجدت نقود من عهد الإمبراطور سبيتم سفير سنة 193 إلى سنة 211، وكذلك وجدت نقود من العصور الّتي تلي عصر هذا الإمبراطور، عليها كلّها صورتا المعبدين. ولكن مع هذا لم يعلم بالتحقيق متى كان تمّ بناء المعبد الكبير. وقد وجدت كتابة من عهد أنطونيوس الصالح تدلّ على أنّ المعبد الكبير كان لجميع آلهة اليوبوليس. وأمّا المعبد الصغير، فكان خاصّاً بالإله باكيس. وعلى كلّ حال، فإن بناء المعبدين ينتهي تاريخه إلى عصر واحد. وقد هدمت جميع تلك المباني في ما جاء من العصور بعد ذلك. وفي القرن السادس عشر عثر بعض الأوربيين على آثار المعبدين. ومنذ ذلك الوقت، تناوبتهما الزلازل خصوصاً في سنة. 1959 وقد أظهرت مباحث علماء من سنة 900 إلى سنة 904 كثيراً من الآثار المفيدة. من المحطة إلى الفندق نزلنا في محطّة بعلبك فوجدنا في اِستقبالنا على إفريزها عدداً كبيراً من أعاظم

أسرة مطران

البلد وأعيانها وأهاليها، وكان في مقدّمتهم نقيب السادة الأشراف وبعض أسرته وجناب أسقف الروم الكاثوليك، فرحّبوا جميعاً بمقدمنا وشكرناهم، ثمّ ذهبنا إلى الفندق بينما كان الطريق من المحطّة إليه غاصّاً بالأهالي. ومذ وصلنا إليه طلبنا من صاحبه ما يكفينا وضيوفنا من الغرف. ولم تمض علينا فيه إلا برهة صغيرة، ثمّ توجّهنا نردّ زيارة من كانوا زارونا واِستقبلونا على المحطّة، فبدأنا بزيارة أسرة مطران بك ثمّ نقيب السادة الأشراف، وقد دُعينا من جانب الأوّل لتناول طعام العشاء عنده في مساء ذلك اليوم فأجبناه شاكرين له حسن عنايته ومعروفه. وحين فرغنا من تلك الزيارات ذهبنا، وكنّا إذ ذاك في وقت العصر، إلى التروّض والفسحة في روضة أنيقة يمرّ في وسطها نهير غاية في العذوبة والصفاء. وقد اِجتمع لأجلنا هنالك عدد كبير من الفرسان على خيلهم الجميلة، ثمّ أخذوا يلعبون أمامنا على جملة كان منها طريقة الهجوم. وكان البعض من تلك الخيل حرورياً كريماً، فسررت كثيراً من ألاعيبهم. وأكثر ما سرّني أنّي شاهدت بين هؤلاء الفوارس جملة من الشبّان الأحداث الّذين لا يزيد عمر أكبرهم عن 14 سنة، وكانوا يلعبون ألاعيب مدهشة بمهارة فائقة. وقد مكثنا نشاهدهم معجبين بما كانوا يأتونه من ضروب الفروسية، ريثما جيء لنا بالقهوة. ثمّ ذهبنا إلى حضرة أسقف المذهب الأرتدكسي (وهذا المذهب يحتمي أبناؤه بحماية دولة الروسيا) فاِستقبلنا حضرته اِستقبالاً جميلاً مع بعض رجاله. ومُذ جلسنا قام شاب من تلاميذ مدرستهم وألقى بين يدينا خطابة رشيقة اللفظ كانت تنحصر عباراتها في الترحيب بنا وبيان ما شمل القوم من السرور بزيارتنا لبلدهم. فشكرنا لحضرة الأسقف وحاشيته لطفهم وأدبهم، ثمّ خرجنا من عندهم مودّعين بكلّ حفاوة واِحترام حيث قصدنا إلى بيت آل مطران. أسرة مطران هي أسرة كبيرة قديمة كاثوليكية المذهب، هاجرت من زمن بعيد من حوران إلى الشام، ثمّ توطّنت بعلبك، ولم تزل فيها منذ أربع مائة سنة. ويحكى أنّ جدّ هذه الأسرة كان المطران أبيفانيوس، أسقف بعلبك الّذي حضر المجمع الأسقفي المعقود في

قرية الراس ضد البطريرك مكاريوس الدبّاس في سنة 1618. وممّا ثبت بشهادة البطريرك مكاريوس الحلبي أنّ المطران أبيفانيوس المذكور كان ذا أولاد، فمن سلالته آل مطران الّذين نحن بصددهم. ولهذه الأسرة الّتي مضى عليها نحو أربع مائة سنة، وهي في بعلبك تتناوب المجد وتتوارث الفضل والنبل إلى اليوم، تاريخ طويل رأينا أن نكتفي منه بالقدر الّذي ذكرناه ليعرف القرّاء من هم آل مطران الّذين دعونا، ونحن ذاهبون إليهم الآن إجابة لدعوتهم. ومذ وصلنا إلى بيتهم، رأيناه من أجمل البيوت، وكان فوق حسنه الذاتي وجماله الموضعي غاية في الزخرف والزينة، وفيه ثريّات كثيرة يكاد يبيضّ منها وجه الليل الحالك. وحين جلسنا في قاعة الاستقبال، جاء إلينا حضرة البك يعرفنا بقرينته المصونة على حسب العادة، ثمّ دعينا على المائدة، وإذ ذاك أخذوا يشعلون السواريخ ذات الألوان البديعة الّتي كانت تمثل في صعودها وهبوطها جملة أشياء مختلفة رائعة حتى انتهينا من تناول الطعام الشهي وخرجنا إلى مجالسنا ريثما تعاطينا القهوة. ثمّ اِنصرفنا مودّعين من تلك الأسرة الكريمة بمثل ما اِستقبلنا به حيث ذهبنا لا وجهة لنا إلا الفندق، ثمّ ما لبثنا هناك أن جاء إلينا جناب ميخائيل أفندي موسى ألوف البعلبكي، مدير مصلحة الآثار التاريخية في مدينة بعلبك فاستقبلناه وقد عرّفنا بنفسه ووظيفته فسررت من هذا التعريف، لأنّي كنت مصمّماً على زيارة الأثر الغريب في هذا البلد، وهو المسمّى بقلعة بعلبك أو المعبد القديم. أمّا هذا الزائر، فقد كان عالماً أثريّاً يكاد يتوقّد فطنة وذكاء، عرفت ذلك ممّا كان يدور بيني وبينه من الكلام الّذي كان يتناول بعض العموميات تارة وبعض الخصوصيات تارة أخرى. ثمّ إنّه خرج من عندنا على نية أن ينتظرنا عند الأثر ليرشدنا فيه إلى ما عساه يخفى علينا، وعلى ذلك انتهت رحلة اليوم الأول في تلك المدينة. ولمّا جاء صباح اليوم الثاني توجّهنا إلى زيارة القلعة، وكان في اِنتظارنا هناك مدير الآثار المذكور فأخذ يسرد لنا قصّتها وتاريخها من أوّل الأمر إلى آخره، ويشرح عجائبها وغرائبها شرحاً وافياً

قلعة بعلبك

ضافياً. ومن ذلك أن هذه القلعة أو المعبد القديم كان قبل الآن مغموراً معظمه بالأنقاض والأتربة، حتّى ما كان يظهر من معالمه الأثريّة المدهشة سوى جزء صغير، وما زال كذلك حتّى أتاح الحظ لبعلبك أن زارها جلالة غليوم الثاني إمبراطور الألمانيين. ومذ رأى أنّ المعبد كما وصفنا ليس ظاهراً منه إلا شيء قليل، توجّهت همّته لكشف هياكله وإظهار تماثيله ومعالمه ليعود إلى سيرته الأولى، فوجّه من أجل ذلك بعثة علمية تتألّف أعضاؤها من خير مهندسي حكومته ويرأسها أحد مشاهير العلماء، فأخذت هذه البعثة في البحث والتنقيب عن الآثار تحت أطباق الردم والتراب حتّى كشفت ما هنالك للرومان والأوثان، وما تمّ على يد البيزانطيين ودين المسيح، ثمّ ما زاده من البناء غزاة الإسلام. ويقال إن هذه البعثة الألمانية استمرت تشتغل في تلك المهمّة نحو سنتين، وأنّها اشترطت أن تأخذ لنفسها في نظير ذلك العمل كلّ ما تعثر عليه من الآثار ذات القيمة متى كان يمكن لها نقله من جهة إلى أخرى. وقد ذكر لنا أيضاً أن العرب والأتراك كانوا قد اتّخذوا حصنهم الحصين من ذلك المعبد مدّة حرب الصليبيين، وأنّهم هدموا ما كان يحيط به من البناء الّذي كان يستطاع تسلّقه وكان غرضهم من ذلك تحصين القلعة وزيادة منعتها. قلعة بعلبك هذه القلعة قائمة في الجهة الغربية من المدينة، وهي مغطّاة بآثار المعبدين، وقد تقدّم ذكرهما. قصدنا إلى تلك القلعة، وقد كنّا قبل أن ندنو منها نشاهد منظراً ضخماً وبناء شاهقاً لم نر له مثيلاً، فما برحنا نردّد النظر حوله حتّى إذا صرنا منه على مسافة أمتار، أفزعنا شكله في مجموعه وروّعنا ما رأيناه من أصوله وفروعه، وما زال يزداد عجباً وتعظم دهشتنا كلّما تدانينا منه حتّى بلغنا إليه، فرأينا ذلك المنظر المهول وقد تحلّلت جملته وتفكّكت كليته بين حديقة وأغراس جميلة إلا أنّها من الأوضاع الحديثة. رادنا رئيس الآثار إلى القلعة حيث دخل بنا إليها من باب كبير على جانبه من اليسار واليمين بابان صغيران، فوصلنا إلى ساحة مسدّسة الشكل وفي جميع جوانبها آثار أعمدة يفيد ظاهرها وبعض شيء لا يزال باقياً عليها أنها

كانت مكسوة (بالموزاييك) وعند كلّ من الجانبين الشرقي والغربي حُجر صغيرة حوّلها العرب إلى حصون ومنافذ ضيّقة لإرسال السهام. ومن تلك الساحة المسدّسة يدخل إلى ساحة المذبح بعد اجتياز ثلاثة أبواب، منها اثنان متهدّمان أمّا الثالث، وهو أصغرها، فلم يزل قائماً على حاله. ويظهر أيضاً أنّ هذه الساحة كانت محاطة بأعمدة مثل الّتي تقدمتها، وأنّه لا يزال يوجد فيها آثار بعض غرف على الجانبين الشمالي والجنوبي، وقد تأمّلنا الجدران في الساحتين فوجدناها آخذة من الزخرف والزينة بالصناعة الدقيقة ما يفوق الوصف. ثمّ إن في تلك الجدران محاريب كانت معدّة لوضع الأصنام، ولم يزل بعض الحجرات إلى اليوم مسقوفاً وحافظاً لشيء من جمال سقوفه. ويظهر أن تلك الغرف كانت معدّة لإيواء بعض زائري المعبد. وفي وسط الساحة تقريباً يوجد مذبح كبير لم يظهر إلا نصفه وبعض الدرج التي كان الكهنة يقفون عليها عند تقديم القربان، أمّا النصف الثاني من ذلك المذبح فلا أثر له، ويقال إنّه هدم لإدخاله ضمن الكنيسة التي بناها بيتودوز. ويوجد على المذبح حوض المعمودية الّذي صنعه الإمبراطور المذكور أيضاً وفي جنوب ذلك الحوض يوجد حوض آخر يظهر أنّه كان للاستحمام، ولم يبق إلا شيء قليل من آثار المعبد الكبير الّذي كان مخصّصاً بجميع آلهة اليوبوليس، وأهمّ هذه البقية ستّة أعمدة هائلة ويوجد في الجنوب الشرقي من هذه الأعمدة معبد باكيس وهو يكاد يكون وحده الأثر المحفوظ وربّما كان من أحسن الآثار القديمة في جميع البلاد السورية، وهو مستقل تمام الاستقلال عن المعبد الكبير وأقلّ منه ارتفاعاً وليس له ساحة، ويصعد إليه بسلّم ذي ثلاث درجات، وسقفه مصنوع بغاية الإتقان يمثل مسدّسات فيها بعض صور محي معظمها بمرور الزمان. وفي الجهة الغربية توجد أعمدة لا تزال باقية حتّى الآن، ويوجد في تلك الجهة نفسها بعض قطع هائلة من السقف. ومن الجهة الشرقية يوصل السلم المذكور سابقاً إلى دهليز على جانبيه أعمدة، ومن ذلك الدهليز يصل السائر إلى باب المعبد الداخلي وهو باب جميل الصنع جدّاً، وعلى جانبي الباب الكبير بابان صغيران، وبأعلاهما يمتدّ على طول الجدار إفريز جميل، يظهر أنّه كان مزداناً بنقوش بارزة. أمّا الهيكل الداخلي فقد رأيناه متهدّماً إلا أنّه في الجهة الشمالية كان أقلّ تهدّماً منه في الجهة الجنوبية، على أنّ النقوش الّتي كانت على هاتين

إهداء مدير الآثار

الجهتين لا تختلف عنها في بقية الجهات، كما أن ما رأيناه من تيجان الأعمدة في كلّ جهات المعبد كان أيضاً لا يمتاز عن تيجان الأعمدة في تلك الجدران، ورأينا أيضاً عدّة محاريب كانت لوضع الصور والتماثيل. وقد وضع في إحداها لوحة من الرخام منقوش فيها كتابة بالتركية والألمانية تذكاراً لزيارة إمبراطور ألمانيا. ويوجد أمام واجهة هذا المعبد مبان عربية حديثة العهد، بعضها مبني بأنقاض أخذت من نفس القلعة. ويؤخذ من شكلها أنّها كانت حصوناً وكانت في الأصل أقبية، ويقال إنّهم كانوا جعلوها كذلك بقصد أن تكون مخازن. وفي طريق العرب الموصل إلى تلك الحصون توجد عدة غرف متقنة الصنع جميلة النقوش. ثمّ إن آثار المعبد الكبير كانت محاطة بسور هائل على بعد عشرة أمتار من المعبد، وكان هذا الفضاء مملوءا بأحجار ضخمة كما يشاهد ذلك في الجهة الشمالية. ويظهر أنّ هذه الأحجار الكبيرة كانت مهيأة لأن تستعمل في مبان أخرى. ويوجد في تلك الجهة حفرة يمكن لمن نزل إليها أن يرى الأحجار العظيمة التي كانوا وضعوها في أساس البناء. أمّا ذلك السور الخارجي، فإنّه مبني بحجارة خارقة للعادة، إذ يبلغ سمك الحجر الواحد منها أكثر من أربعة أمتار. وفي الجهة الشرقية للقلعة يقوم المعبد الصغير المسمّى معبد الزُّهَرة، وهو مستدير الشكل ويصعد إليه بسلّم واقع في الجهة الشمالية منه. وهو معبد جميل، في داخله رقوش بديعة ونقوش مشابهة لنقوش المعابد القائمة في القلعة، وفيه أيضاً محاريب لوضع التماثيل. وكان ظاهر هذا المعبد أجمل من باطنه، فإنّه يحيي ذكرى الصناعة الرومانية في العصور المتأخّرة، ثمّ هو خماسي الشكل وجوانبه مستديرة في الداخل، وتحيط به من الخارج أعمدة على رؤوس الزوايا، وبأعلى الجدار إفريز مزخرف بإكاليل الزهر. وقد استعمل هذا المعبد فيما سبق كنيسة رومية، كما يدل على ذلك بقايا الصلبان الّتي لا تزال آثارها ظاهرة على الجدران. إهداء مدير الآثار وبعد أن انتهينا من زيارة القلعة من الخارج والداخل، شكرنا لمدير الآثار معروفه وخدمته الجليلة التي أدّاها لنا أثناء ما كنّا نزور تلك القلعة. وقد توّج جميله بأن

كلمة عن القلعة

أهدانا، ونحن خارجون، كتاباً مطبوعاً في تاريخ بعلبك من تأليفه. وهو كتاب جليل حوى في موضوعه أحسن المسائل التاريخية الحاضرة والأثرية لهذه المدينة العتيقة، فتقبلنا منه هديّته بالشكر والثناء. كلمة عن القلعة يخرج السائح من قلعة بعلبك، بعد أن يتطوّف على دوائرها، ويتعرّف بواطنها بعد ظواهرها ويتفقّدها من أوّلها إلى آخرها، وإنه لقد حار في الأمر فكره وضاق بالعجب صدره. وبعد أن كانت المسألة عنده قاصرة على فخامة القواعد وضخامة المباني، تحوّلت إلى بحث واسع في موضوع علمي حافل بجليل المقاصد وجميل المعاني. وبعد أن كان ذلك الزائر يحصر نظره كلّه في دائرة لا تزيد عن أطوال وأعراض ومهارة عمّال وشطارة مهندسين، صار يجول في محيط عظيم من أطوار وأغراض السريانيين والكلدانيين، وممّا كان أصاب الناس من ضروب المذلّة والمهانة في العصر الماضية، عصر الأوثان والكهانة، تلك الّتي كان للكهنة فيها تأثير في سياسة الممالك مثل تأثير القياصرة والملوك أو هو فوق ذلك. وقد كان هذا التأثير نفسه هو الأصل الّذي عليه ترتكن الحكومة، عندما كانت تعمد إلى تشييد تلك المباني الضخمة، مثل قلعة بعلبك وحلب في الشام والأهرامات ومعبد الكرنك ومدينة هبو في مصر، وغير ذلك من الحصون والمعابد والمقابر التي نراها فيفزعنا منظرها ويهولنا شأنها والّتي لا تزال تتجلّى فيها فكرة مؤسّسيها وواضعيها يمرّ بعض الناس بهذه الآثار المدهشة مرّ الكرام على اللغو من الكلام وغاية ما في الأمر أنّهم يعجبون من مناظر هذه الأشياء وظواهرها لأنّهم لم يعرفوها في عادتهم ولم يألفوها في قدرتهم، مثل إتقان البنيان وإحكامه إلى حدّ أنّ سنّ الإبرة لا يمكن أن ينفذ بين مداميكه وسافاته، أو قدرة البنائين والفعلة إلى درجة أنّهم يرفعون تلك الحجارة الثقيلة الهائلة إلى مسافة عظيمة حين لم يكن لديهم آلات لجرّ الأثقال ورفعها وما أشبه ذلك، ولكن الوقوف عند هذا الحدّ من مثل هذه الأعمال الخطيرة المفزعة قصر في النظر ثمّ هو عن الضالة المنشودة والغاية المطلوبة بمراحل طويلة، بل هو في نظري لا يزيد عن حدّ الوقوف عند

العاديات إلّا بمقدار ما يسافر الفكر إلى اِرتياد العلل وطلب الأسباب، أمّا من عني بالبحث والتدقيق واستنتاج الحقائق بالتحقيق فإنه لا يكتفي بتلك المناظر ولا يهمّه الالتفات إلى مجرد الظواهر، ولا يدع مثل قلعة بعلبك تفلت من يده حتّى يدور نظره حولها مراراً ويعتصر فيها فكره اعتصاراً فينتفع من أجزائها وجملتها وعمدتها وفضلتها بمعرفة ما لا يمكن أن يعرف إلّا من طريقها، ومن ثمّ نورد هنا كلمة فيلسوف بحاث في حصن بعلبك وهياكله لا بقصد أن نفيد أن هذا هو منتهى ما وصلت إليه الأفكار وآخر ما استقرّ عليه الرأي أو أن نشير إلى القطع بشيء مخصوص في موضوع لا يزال إلى اليوم مطروحاً على بساط البحث والنظر أمام المفكرين من علماء الآثار والأخبار وغيرهم، وإنّما ذلك لأن هذه الكلمة الطيّبة في حدّ ذاتها خلاصة بحث واسع ونتيجة فكر سليم، قال ذلك الفيلسوف أن هذه الهياكل القائمة في معابد القدماء وحصونهم سواء الموجود منها في صعيد مصر وفي بلاد الشام تشير إلى ما كان عليه السريانيون والكلدانيون قبل الطوفان وبعده من غلوّهم في الوثنية وعبادة الأصنام وهي مع هذا تشير أيضاً إلى قوّة هؤلاء الناس وبأسهم في غابر الزمان واستعصائهم على الأنبياء والرسل بعد أن أرشدوهم إلى الحقّ وأوضحوا لهم سبل السعادة، ومن هؤلاء الرسل الكرام النبي إلياس عليه السلام كان قد طلب إلى قومه أن يتركوا عبادة الصنم بعل وأن يعبدوا الله عز وجل فعصوه واستمروا عاكفين على عبادة الصنم المذكور، قال تعالى: (أَتدعونَ بعلاً وَتَذرونَ أَحسنَ الخالقين الله ربّكم وربّ آبائِكم الأوّلين) وخوف أن يصيروا سدّاً بين نور الله والناس أغرقهم الله بالطوفان وأرسل عليهم العذاب الأليم في أزمان مختلفة، وتقادم عهد الزمان وآثارهم العظيمة لا تزال باقية تنادي عليهم بالويل والثبور وأنهم مع ما أوتوا من القوّة والبطش لم يعصموا أنفسهم من بأس الله إذ جاءهم فلئن كانوا أولي بأس وقوّة فالله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلا، ولمّا كانوا ظاهرين في الأرض بالقوّة لاستحواذهم على ضعاف العقول وكان في ذلك من ضرر النوع الإنساني ما فيه أشار الله في كتابه على ذمّ صنمهم القائم في أرض الشام إبّان ظهور الدين الإسلامي فقال: أتدعون بعلاً. . (الآية). فالقرآن يشير إلى أن

الوثنية كانت قائمة هناك، وغير القرآن من الكتب يشير أيضاً إلى ذلك. إذاً فالهياكل وطيدة الأركان قائمة الدعائم ضخمة البنيان هنالك من أزمان متوغلة في القدم، ولا يناطح الزمان إلا مثله في القوّة والبأس. ولقد اكتشف الألمان في هذا الزمان الآثار الموجودة في بعلبك وأمكنهم أن يصلوا إلى السرّ الّذي عجز عنه الأوّلون، ولو كان انكشف لهم في سالف الزمان ما كانوا قضوا أجيالاً كثيرة وأحقاباً طويلة وهم ملازمون للوثنية عاكفون على الأصنام، وما كانوا نازعوا رسل الله نزاعاً شديداً ولا جحدوا رسالة ربّهم وكفروا به، وما كان تأخّر العمران واِنتشار الحضارة في الأرض. لقد علم الألمانيون بالبحث الدقيق أن جوف الصنم بعل أجوف، وفيه فتحتان فتحة من أمام وفتحة من وراء وأن رئيس الكهنة كان يسيطر على الأمّة كلّها، ملكها ومملوكها، وكانت له الكلمة النافذة التي لا يستطاع ردّها ولا يمكن معارضتها. وذلك أنّه كان إذا استشير في أمر خطير يهمّ الملك والمملكة قال حتّى نتقرّب إلى الصنم وندعوه ويأذن لنا في هذا، فإن لم يأذن فلا يكون هذا الأمر. ثمّ يذهب بعد ذلك إلى خادم خاص بالصنم، منعزل عن الناس، عاكف على الصنم واقف في خدمته، ويقول في غد آتي إلى هنا مع الملك وأشياعه ونقرّب القربان إلى الصنم وندعوه أن يبيّن لنا ما نحن بصدده، أنمضي في الأمر أم لا نمضي فيه. فإذا نحن جئنا وخشعنا أمام الصنم ودعوناه، فهنالك تكون قد وضعت البوق الطويل في الفتحة التي من خلفه قائلاً كذا وكذا. فما يكون من ذلك الخادم إلا أن يصدع بأمره، ويقوم بما أوحى إليه رئيس الكهنة، ولا يقول إلا ما أذن له في قوله، حين وقوفهم بين يدي الصنم واستشارتهم إيّاه، فلا يحصل أمر الملك والمملكة إلا كما يسمعون من الصنم. وعلى هذا النمط كانت أمور الكهنة مع الأمم في سائر الأرض الوثنية. ومن هنا تعلم أنّ الوثنية كانت جرثومة الفساد في الأرض وأصل الظلم العظيم، ولذلك حاربها الله تعالى محاربة شديدة حتّى يرجع الناس إلى الاعتماد على عقولهم التي ركبت فيهم وعلى أنفسهم، وحتى لا يخدعهم خادع ولا يصرفهم عن مصالحهم الّتي بين أيديهم صارف، فينتظم الكون وينتشر العمران في الوجود. ولقد بالغ محمد، صلى الله عليه وسلم، في التنفير من الكهانة والابتعاد عنها كثيراً، وما حكمة ذلك إلا أن تجري الناس على سنن الطبيعة وِفاق الفطرة والمصلحة. تلك سنّة الله في خلقه فهو يردّهم

إلى المسجد

إليها إن انحرفوا عنها ولن تجد لسنّة الله تبديلا. إلى المسجد ومن هذه القلعة ذهبنا إلى المسجد لتأدية فريضة الجمعة حيث كنّا على وشك الصلاة، وهناك رأينا في انتظارنا عدداً كبيراً من عظماء القوم في مدينة بعلبك، يتقدّمهم حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة نقيب السادة الأشراف، وقائمقام بعلبك، وعبد الحميد باشا الدروبي. وبعدما فرغنا من أداء الصلاة، قصدنا إلى الفندق مباشرة فتناولنا هناك طعام الغداء، وجلسنا بعد ذلك ريثما أخذنا أهبتنا للسفر. ثم ذهبنا على عرباتنا إلى المحطّة الّتي كانت مكتظّة بالمودعين من حكام المدينة وعلية الناس فيها فسلّمنا عليهم. وقد رأينا من عنايتهم وعناية الأهالي بتوديعنا ما كان لا يقل عن ترحابهم وحفاوتهم بنا عند الاستقبال. أمّا نحن فقد بارحنا هذا البلد على غاية من السرور، شاكرين لأهلها الكرماء ما قابلونا به أوّلاً وأخراً من اللطف والمعروف. السفر إلى حمص نزلنا من القطر وما هي إلا لمحة عين وقد تحرّك متّجهاً مع سلامة الله إلى حمص وكان طريق سيره بالقرب من نهر هناك يعرف بنهر العاصي وكان على جانبي الطريق بساتين أنيقة وزروع بهيجة تنعش الروح وتسرّ الخاطر وقد صادفنا أثناء سيرنا قرية تسمّى الياعات. الياعات قرية واقعة في طريق حمص بين بعلبك وبلد تسمّى برأس بعلبك، وعدد سكّانها يبلغ نحو ألف نفس، وأهلها يستقون من بئر عذب جميل. وقد اشتهرت هذه القرية

بعمود أثري مركّب من 16 حجراً فوق قاعدة درجية مربّعة على قمته تاج قورنشي، وعلوّ هذا العمود من قاعدته إلى تاجه يبلغ عشرين متراً، وهو منفرد في السهل وليس حوله شيء من الآثار. ويقال إنّ الّذي بنى هذا العمود هو الملكة هيلانة، أم قسطنطين الكبير، إذ أنها كانت تشيّد في كلّ مرحلة من طريقها إلى القدس أثراً ليوقد على رأسه نار ترى على مكان الأثر الآخر، افتخاراً وإعلاناً بكشف الصليب. وما زلنا نواصل السير، والطريق في الوادي كان يضيق تدريجياً بين الجبلين اللّذين كادا يتعانقان لولا كان يمنعهما الحياء، فمررنا على جملة بلاد صغيرة، ويقال إن في بعضها آثاراً تاريخية، حتّى وصلنا إلى رأس بعلبك وهي على مسيرة نحو 72 كيلومتراً من مدينة بعلبك. هذه البلدة ترتفع عن منسوب البحر بنحو 810 متر، ومعظم سكّانها من طائفة الروم الكاثوليك. وعندئذ كانت المنطقة سهلاً مستوياً، فكانت تنكشف منها للمسافرين بحيرة حمص على مسافة طويلة. فما برحنا نتابع السير، حتّى إذا قربنا من تلك البحيرة مررنا بكفر يسمّى بالقاعة. وعند تلك الجهة كانت الأرض في أكثر المواضع غير مزروعة وذلك لأنّها فقدت خصوبتها بسبب مجاورتها للبحر، وقد يوجد في بعض الجهات زروع إلا أنّها من الأعشاب والحشائش الطبيعية وبعد ذلك وصلنا إلى بلد يسمّى بالقصير، ثمّ إن بحيرة حمص هذه كبيرة متّسعة حتى أنها لم تفارق أنظارنا في طول هذا السفر إلّا بعد مسيرة ساعتين تقريباً، وقد شاهدنا على مسافة بعيدة جبل عكار، الّذي سنتكلم عليه في موضع آخر من تلك الرحلة إن شاء الله، وما فتئنا نتابع السير ونقطع الفيافي والبلاد حتّى وصلنا إلى محطّة الكتينة ثمّ بارحناها فما لبثنا بعدها إلا مسافة صغيرة حتّى وصلنا مع سلامة الله ورعايته إلى محطّة حمص، وهي على بعد 110 من الكيلومترات من مدينة بعلبك.

ملحق بقلعة بعلبك

ملحق بقلعة بعلبك صرنا والحمد لله عند مدينة حمص بلد صاحبنا الكريم عبد الحميد باشا الدروبي، فسرّنا أن حقّق الله رغبتنا في زيارته وأعاننا على إجابة دعوته. وقد تركنا وراءنا مدينة بعلبك العتيقة وقلعتها الغريبة الّتي حوت من الآثار ما يدهش الألباب ويحيّر الأفكار، والّتي ما رأينا في بلاد الدنيا أضخم من حجارتها وعمدها، ولا أبدع من نقوشها وصورها ولا أحكم من وضعها وبنائها. بناءٌ يَخافُ الدهرُ منهُ وكلّ ما ... عَلى الأرضِ يَخشى دائماً سطوةَ الدهرِ لقد كّنا إذ دخلناها وإذ خرجنا منها في حيرة الضب وأشدّ، لا ندري كيف وصلت أفكار بني آدم إلى تشييد مثل هذا البناء وإحكام سافاته، على سعة مساحته وبعد مسافاته وكيف أمكن لهم أن يقتلعوا تلك الأحجار الضخمة والأعمدة الفخمة ويجرّوها من مقالعها إلى مواضع البناء وربّما وجد منها ما تبلغ مساحته 300 متر مكعّب أو 400 متر كحجر الحبلى الهائل الّذي لا يزال إلى اليوم قائماً بجانب الجبل، كأنّه يدلّ السائح على مقلعه ويرشده إلى موضعه ولسان حاله يقول: يا أيُّها الحَيرانُ في أمرِ الأُلى ... قَد أَدهَشوكَ بِأَعجبِ الآثارِ في بَعلبك رَأيت أبهرَ قلعةٍ ... تَتلو عليكَ غَرائبَ الأخبارِ

نبذة من أخلاق المتقدمين وعوائدهم

لَم تَفهمِ الأفكار قَصد بنائِها ... فَتَشتّتت يا حيرةَ الأفكارِ انظر إلي وَأَنت تَعلم أنّه ... عندَ الجنوبِ مقالعُ الأحجارِ نعم، ما كدنا نفرغ من زيارتها حتّى كنّا قد اقتنعنا بمهارة القدماء واقتدارهم في فنون العمارات والصناعات، خصوصاً في الرسم والتصوير. فقد رأينا لهم نقوشاً حفرية في الأحجار الصلبة والصخور الصلدة من صور متنوعة وأشكال متعددة، كان في ضمنها من صور الأشجار والأغصان المورقة البديعة ما يمثّل في تعاريجه بأدقّ صنعة وجه الأسد. ورأينا كذلك رسومات من أكاليل الزهر والحيوانات أبدع ما خطّته يد أبرع المصوّرين وأحسن ما جرى به قلم أصنع الرسّامين، إلى غير ذلك مما لا يزال واضحاً ثابتاً يكاد ينطق بما كان لهم من البراعة الفائقة في تلك الفنون الجميلة. نبذة من أخلاق المتقدّمين وعوائدهم قد كنّا أطلنا التأمّل في هياكل القلعة وتماثيلها، فلم ندعها حتّى تلقينا عنها درساً طويلاً في أخلاق الحكّام السابقين وعقائدهم وشيء من تقاليدهم وعوائدهم، فعرفنا لهم من الخرافات الكثيرة والآراء الفاسدة ما ليس يتّفق بحال من الأحوال هو وما كان يقتضيه علمهم الواسع واِقتدارهم الكبير، حيث كانوا يقطعون من الجبال حجارة ويصوّرونها بأيديهم هياكل وتماثيل ثمّ يقيمونها ويعبدونها ويتقرّبون إليها ببذل أنفس ما لديهم من الأموال والأرواح. ثمّ إنهم كانوا يسمّون كلّ هيكل باسم مخصوص، وفي الغالب يكون هذا الاسم بما يرتبط بنفس ماله الهيكل من الموجودات على حسب زعمهم الغريب. فهم يسمّون سيرس مثلاً بإلهة الزرع لأنّهم يعتقدون أنّ لها تأثيراً فيه، كما أنّهم يسمّون الزهرة بإلهة العشق وباكيس بإله الخمر، وهلمّ جرّا. ولعلّ ذلك لأنّهم كانوا لم يفكروا فيما وراء المادة ولم يوفقوا إلى البحث فيما يهديهم إلى العقائد السليمة والأفكار القويمة بل قصروا أنظارهم على ما كانت تتناوله

ظلم الحكومات في الزمن القديم

حواسّهم من الماديّات والطبيعيّات، فظلّوا من أجل ذلك عاكفين على عبادة الأصنام الّتي شيّدوها وأقاموا عليها المعابد وتغالوا في بنائها وزخرفها إلى حدّ يدهش العقول: إنّ الهياكلَ وهيَ رأيٌ فاسدٌ ... فيها دَلائلُ قدرةِ العمّالِ تُلقي عَليك دُروسَ تاريخ الأُلى ... شادوا القِلاعَ بِأضخمِ الأثقالِ تُعطيكَ مِنها للعقولِ وَللهوى ... مَثلاً يَسيرُ لآخرِ الأجيالِ قالوا التناقضُ يَستحيلُ وجودهُ ... وَبِها رَأيتُ تناقضَ الأمثالِ ظلم الحكومات في الزمن القديم خرجنا من القلعة ووقفنا نتزوّد منها النظرة الأخيرة وعندئذ ما كان أشدّ حركتها في سكونها وأعظم فصاحتها في سكوتها، إذ كان يخيّل إلينا أنّ أصواتاً خافتة كأنّها لا تزال خائفة تتصاعد من خلال الأبنية الفخيمة، ومن تحت قواعد الأعمدة الجسيمة والهياكل العظيمة، قائلة: انظروا إلى ما بقي من هذه المباني العالية، ثمّ إلى تلك الأطلال البالية تعلّموا كيف كان مقدار قسوة الحكّام وظلمهم في العصور الخالية. حَمَلنا فوقَ أظهُرِنا جبالاً ... وَشيّدنا بِها حِصناً حَصينا يَقومُ مَدى الزمان أدلّ شيءٍ ... عَلى ظلمِ الملوكِ السابقينا وَيشهد أنّنا عِشنا عَبيداً ... وَقاسَينا العَذابَ بِه سِنينا نعم وهل كان يرتاب أحد في أنّ هؤلاء العمال كانوا يساقون إلى جرّ الأثقال من

الجبال كما تساق الثيران والبغال؟ ولا بدّ أنّهم فقدوا الصبر وعيت بهم الحيل، بعد أن استنصروا فلم يجدوا ناصراً واستصرخوا فلم يجدوا مغيثاً. أرأيت لو أن أصحاب الأمر جعلوا بدل ما أن يقيموا من الحجارة مثل هذا البناء الهائل أن يقيموه من أجسام العشائر والقبائل التي ذهبت في سبيل الأغراض ضحيّة الأتربة والأنقاض، أليس كانوا يسدون منها الفضاء ويبلغون بها إلى عنان السماء؟ أرأيت إن نطقت هذه التماثيل النائمة والصور القائمة، أليس كانت تخبر عن عدد الأرواح الّتي أزهقت في نحتها وقطعها وحملها ووضعها؟ ولا ذنب يستوجب عقابها ولا جناية تستدعي عذابها سوى أنّها خلق كريم من الإنسان، كان من حقّه أن يشتغل بعقله ويستخدم مواهبه فيما خلقت لأجله. ولكن ما كان أسوأ حظّ هؤلاء المساكين في ذلك الوجود المظلم، إذ عاشوا ما قدّر لهم أن يعيشوا، مسخّرين لإرادة غيرهم، عاملين غير فاعلين إلا على مقتضى أمرهم ونهيهم. هَل كانَ يُرضيكَ يا جوبترُ ما صَنعوا ... بِالناسِ في غابرِ الأزمانِ والأممِ أَم كانَ يحسن يافينوس ما نَظرت ... عيناك مِن ظلمنا في خِدمةِ الصنمِ إلهة العشقِ ما ذُقنا النعيمَ وما ... كنّا لِندركَ غيرَ الذلِّ والألمِ عِشنا لِنَحملَ أَحجاراً وأَعمدة ... طولَ الحياة وَمتنا مَوتةَ الغنمِ هذه هي الأصوات التي كان يتخيّلها الإنسان تبعث من ذلك المعبد القديم أو كان يسمعها من لسان حاله وما كان أبلغه في نطقه وأصدقه في مقاله. لِسانُ المرءِ يكذبُ في كثيرٍ ... وَأصدَق ما يدلّ عليهِ فعله فَيَنطق ساكناً نطقاً صحيحاً ... وَيَظهر منهُ باطنهُ وعَقله

مدينة حمص

مدينة حمص حمص مدينة يقال إنها قديمة جدّاً وإن الّذي بناها رجل يقال له حمص بن المهرب بن جان بن مكنف، وقيل حمص بن مكنف العمليقي، وقيل بناها اليونانيون. وفيها آثار كثيرة ومشاهد ومزارات ومساجد شهيرة منها مشهد على بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، ودار الفاتح الكبير خالد بن الوليد. ويقال إن أهل حمص كانوا أشدّ الناس على علي بصفّين وأكثرهم جدّاً في حربه، ثمّ صاروا بعد ذلك من غلاة الشيعة. أمّا المدينة فقائمة على مستوى من الأرض، وهي حصينة مقصودة من سائر الجهات جميلة الهواء والتربة، كثيرة المياه والأشجار وأهلها من ذلك في خصب ورغد من العيش. ويقال أنها في قديم الزمان كانت أكبر البلاد وأحسنها، وكانت بيد ملوك الروم إلى أن ملكها كسرى في أيام عطيانوش في جملة ما ملك من البلاد الرومية. ولمّا اِنهزم الروم بعد وقعة اليرموك، كان هرقل بحمص ففارقها وجعلها بينه وبين المسلمين، وأمّر عليها أميراً. ولمّا حصر المسلمون دمشق، كان بها عسكر من أهل حمص أتوا نجدة. ولمّا فتحت دمشق، سار أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد قاصدين حمص بجيوش كافية، وذلك سنة 15 للهجرة، فنازلوها وجعلوا يقاتلونها صباحاً ومساءً. وكان البرد قد آذى المسلمين وطال الحصار فصبروا، وكتب هرقل إلى أهل الجزيرة أن يأتوا مدداً إلى حمص، فاعترضهم المسلمون وفرقوهم فلم يأتوها. فلمّا اِنصرم الشتاء، كان قد ضاق الحال بأهل حمص فخرجوا يطلبون الصلح فصالحهم أبو عبيدة على صلح دمشق، ثمّ استخلف عليها عبادة بن الصامت ورحل إلى حماة. وقد حصل فيها بعد الفتح جملة حوادث مهمّة لا يتّسع المقام لتفصيلها. أمّا سكّانها فيبلغون نحو 8 آلاف نسمة، منهم ألفان من الروم الأرتدكس وألف من اللاتين والباقي من طوائف مختلفة. نزلنا في محطة حمص، وكان يستقبلنا على إفريزها عدد كبير من رجال الحكومة

زيارات

وأعيان المدينة ووجهائها المحترمين، وفي مقدمتهم صاحب السعادة قائمقام حمص. وكان سعادة عبد الحميد باشا الدروبي يعرّفنا بالذوات والعظماء ويقدّمهم إلينا واحداً واحداً، وكنت أقابل الجميع بجزيل الشكر والامتنان. ثمّ ركبنا وركب معنا سعادة القائمقام عربة الباشا الخاصة الّتي كانت قد حضر بها مع جملة عربات أنجال سعادته، وقصدنا توّاً إلى منزله. وكان الطريق من المحطة حتّى بيت سعادة الباشا مزدحماً بالناس الّذين كانوا يستقبلوننا والبشر يتلألأ على وجوههم، حتّى لقد كنت أخال أنّي ضيف كلّ واحد منهم على حدته. وما كنت لأستغرب أن يخرج إلى المحطّة وطرقات البلد سكّان المدينة عن بكرة أبيهم فألاقي من حفاوتهم واحتفالهم بنا ما لم يتّفق أن نلاقيه في جميع بلاد الشام. وأنا أعرف أنّ سعادة عبد الحميد باشا الدروبي قد اِشترى من جميع هؤلاء الناس أفئدتهم وملك نفوسهم بما يسديه إليهم من معروفه وماله، فهو في تلك المدينة بمثابة والد شفيق لكافة الناس. بِبذلٍ وحلمٍ سادَ في قومِهِ الفَتى ... وَكَونك إِيّاه عَليكَ يَسيرُ أمّا البيت فكان واقعاً من البلد في أجمل منطقة وأحسن بقعة، تحيط به الحقول اليانعة والبساتين الواسعة من جميع جهاته، وليس منظره من الداخل بأقلّ حسناً وبهجة منه في الخارج. زيارات وقد جاء إلينا في ذلك البيت جميع الّذين كانوا قد اِستقبلونا عند موقف القطار وغيرهم، فاستقبلناهم بما يليق بهم من الحفاوة والاحترام، وجلسنا معهم مجلساً طويلاً نتحدّث سويّاً. وكان من بينهم بعض مشايخ وبكوات من عشائر الدنادشة المعروفين في تلك البقاع بالمهارة في ركوب الخيل والمشهورين باقتناء جيادها أيضاً. وقد كنت أعرف ذلك عنهم قبل مخالطتهم في هذا البلد، ومن ثمّ قلت لهم في غضون حديثي أنّي أرجو، إن شاء الله، أن أرى ما يسرّني من كرائم خيلكم ومهرة فرسانكم. فقالوا: إن شاء الله، سنتشرف بمقابلة دولتكم عندما تمرّون في طريق

قلعة حمص

سفركم السعيد من حمص إلى طرابلس، وإذ ذاك ترون من الخيل والخيّالة ما لعلّه يوافق رغبتكم الشريفة. قلعة حمص وبعد ذلك ذهبنا إلى زيارة قلعة حمص، وكنّا نحسب أنّها من الأهميّة بالمكان الّذي يستدعي قصد السياح إليها. ولكنّا وجدناها خربة قد دمّرتها يد الخطوب والحوادث وحطّمها كرّ الغداة ومرّ العشيّ، حتّى لم يبقَ من معالمها الأثريّة إلا باب أو بابان، لا أذكر تماماً. ويقال إن جدّنا المرحوم إبراهيم باشا هدم من ذلك الحصن جزءاً كبيراً عندما حارب الشام وخرج عليه أهل حمص وعصوا أوامره. وكنّا نرى ونحن فوقها من أبنية المدينة، خصوصاً جوامعها وكنائسها وما يحيط بها ويتخلّلها من الأشجار والأنهار، مثل تلك المناظر الجميلة الّتي كنّا نطل عليها تحت الجبال والحصون العالية في كثير من بلاد الشام. كلمة عامة عن المدينة نزلنا من القلعة قاصدين إلى زيارة ما كان يهمّنا زيارته في هذا البلد، فقصدنا أوّلاً إلى زيارة جامع خالد بن الوليد، رضي الله عنه، فمررنا من سوق كبير مسقوف بالخشب كأسواق دمشق وبعض الأسواق في بلاد الشرق. ولاحظنا أثناء مرورنا أن أغلب الباعة في حوانيت هذا السوق كانوا من الحمصيّين، أمّا المشترون فإنهم يختلفون بين هؤلاء وبين أعراب البادية والشراكسة المهاجرين الّذين يسكنون ضواحي حمص وما يجاورها من البلاد. كما لاحظنا، من الأزقّة والطرق وشكل البيوت في كلّ الجهات الّتي مررنا عليها، أن مدينة حمص كسائر بلاد الشام، على معنى أنّها لا تزال إلى اليوم حافظة لكيانها الشرقي وشكلها الأصلي.

جامع خالد بن الوليد

جامع خالد بن الوليد وبعدئذ ذهبنا من خارج البلد لنزور جامع خالد بن الوليد ذلك الّذي له الفضل الأكبر في فتوح الشام. وعندما أوشكنا أن نصل إليه، وقد كان على أقرب المسافات من المدينة، قال لنا سعادة عبد الحميد باشا الدروبي اقتضاباً: أمّا وقد لمحتم دولتكم هذا المسجد العجيب الإتقان البديع البنيان فإنكم لابد تذكرون في نفسكم ما يشبهه ويجانسه في مصر. (وقد كنت خالي الذهن إذ ذاك من كلّ شيء إلا فيما كنت رأيته من المدينة وما حولها) فقلت لسعادته إنّه لم يدر في خلدي شيء فأحدث نفسي بمثله في مصر اللهمّ إلا ما رأيته في طريقنا وذلك المسجد. فقال سعادته: ألم يكن شكل هذا الجامع ليلفت خاطركم إلى المسجد الكبير الّذي أسّسه في قلعة مصر جدّكم الأكبر، ساكن الجنان، محمّد علي باشا؟ فقلت له: بلى، لكأنّي به وهو جامع القلعة بعينه. وحقيقة، كان هذا المسجد العظيم لا يختلف عن جامع القلعة شيئاً في رسمه ونظره، سواء في ذلك شكله من الظاهر والباطن. وقال سعادة الباشا: إننا استصدرنا أمر جلالة مولانا السلطان بإصلاح هذا المسجد وتعميره، ورأينا حينئذ أن نشيده على طراز مسجد القلعة، وقد أعاننا الله تعالى على ما وفقنا إليه من تشييده وإتقانه، حتّى صار كما ترون. ثمّ دخلناه واطّلعنا على ما كان فيه، وقد سررنا كثيراً من زخرفه وزينته. واِتّجهنا بعد ذلك إلى زيارة ذلك البطل الكبير والفاتح الشهير خالد بن الوليد في ضريحه، وقرأنا على روحه الطاهرة ما تيسّر لنا من القرآن الكريم. إلى بيت الباشا ومن هناك ذهبنا قاصدين إلى دار سعادة المتصرّف لنردّ له زيارته، وكان طريقنا إليه من داخل المدينة. وبعد أداء الزيارة، عدنا إلى بيت سعادة صاحبنا عبد الحميد باشا. وقد أعدنا إليه النظر، فأعجبنا جدّاً شكله وموضعه الّذي حاز مع جمال المنظر

كمال الأبّهة، حتّى إذا رآه الواحد على بعد لم يشك أنّه بيت مجد وإمارة. ومذ دخلناه رأينا فيه إشارة برقية أرسلها إلينا صاحب العطوفة فخري باشا والي حلب فاستلمناها وقرأنا فيها سؤال عطوفته عن وقت قيامنا من حمص، وعن اليّوم الّذي نصل فيه إلى حلب. فأرسلنا إلى عطوفته إشارة من لدنّا أخبرناه فيها بما كنّا صمّمنا عليه من العدول عن زيارة هذه المدينة، معتذرين إليه بضيق الوقت، مظهرين كبير أسفنا من عدم سنوح الفرصة برؤية حلب الشهباء. وأنه لقد كان في نفسي من أوّل الأمر أن أزور مدينة حلب وأن أقيم فيها يومين، عندما كنت متردداً بينها وبين حماة. ولكنّي، على الرغم من ذلك، جاريت الظروف وقتئذ ونسخت ما كنت رسمته في خطّتي الأولى من مشارفة هذا البلد، مستعيضاً منه مدينة حماة. وعندما جاء وقت الظهر، وكان قد حضر حضرة القائمقام، دعينا إلى المائدة فتناولنا عليها طعام الغداء الشهي. وما لبثنا بعد ذلك إلا قليلاً، ثمّ قدّمت إلينا إشارة برقية أخرى من لدن عطوفة فخري باشا، يذكر فيها أنّ جميع أعيان حلب ووجهائها قد كلّفوا عطوفته أن يرجونا بالنيابة عنهم أن نجيب طلبهم إلى زيارة بلدهم، إلى أن قال: وإن لهم وطيد الأمل وكبير الرجاء في أن لا يحرموا من تلك الزيارة الجليلة، وأنهم منتظرون بفروغ الصبر إجابة تسرّهم، وإلا فإنّهم مستعدّون جميعاً للحضور بأنفسهم إلى مدينة حمص لكي ينالوا رغبتهم ويحصلوا على غرضهم. وإذ ذاك لم يسعني حيال هذا الكرم الكبير سوى أن أعدل خطّتي مرّة ثانية وأستردّ عزيمتي على زيارة مدينتهم، فأرسلنا إلى عطوفة الباشا الوالي رسالة برقية نشعره بما صار إليه عزمنا من قبول ملتمسه بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن حضرات من كلفوه ذلك، مع إبداء مزيد الشكر والامتنان لمعروفه ومعروف أبناء حكومته المخلصين. ثمّ توجّهنا إلى زيارة المدرسة الإسرائيلية لمناسبة أنّ مؤسّسيها كانوا قد طلبوا إلينا زيارتها. وقد وجدنا في اِستقبالنا عدداً كبيراً من تجّار الحمصيّين في مدينة طنطا. وعندما دخلنا أخذ جميع الحاضرين يهتفون لنا بالدعوات تارةً وبالتحيّة والترحيب تارة أخرى. وبعد أن جلسنا في قاعة الاستقبال بين المحتشدين، قام بعضهم يذكر بين أيدينا قصائد ومقالات بليغة كانت كلّ عباراتها تدور حول الترحيب بنا والثناء علينا. وإنّا نقتطف منها ما نراه يناسب رحلتنا مبتدئين بالمقالة الّتي قدّمها إلينا

مطبوعة حضرة الكاتب البليغ الدكتور كامل لوقا، قال حضرته: يا دولة الأمير العظيم، أتشرّف الآن بالوقوف أمام دولتكم عن مفوّض المسيحيين الحمصيين، نزلاء الديار المصرية، الّذين طالما تمتّعوا بالراحة والعدالة والحقوق التجارية تحت كنف العائلة الشريفة المحمّدية العلويّة. أتشرّف بالنيابة عن أولئك العثمانيين لأحيي أميراً عثمانياً مصرياً، فأحيّيكم مرحباً بسلامة قدومكم الميمون من ديار عربية عثمانية مصرية إلى ديار عربية عثمانية سورية. أحيّيكم وأقدّم لكم عواطف الامتنان والشكر بلسان أولئك الّذين يستثمرون أموالهم وأتعابهم في تلك الديار السعيدة منذ خمسين عاماً، وهم في بحبوحة من السعة ورغد العيش. نعم أحيّيكم وأحيي بكم مصر وساكنيها بلسان بضعة آلاف من الأهالي الحمصيين الّذين ينتفعون ويشتغلون ويقدّمون منسوجاتهم الوطنية إلى قطركم المصري. أجل، إقراراً بالفضل ومعرفة الجميل، نحيي باِسمكم الكريم أيّها البرنس الفخيم ونحني الهام أمام تلك الروح الطاهرة الشريفة الّتي أحيت العدل والمعارف في القطر المصري السعيد، روح أحد أبطال الشرق العظام، جدّ العائلة الخديوية الشريفة المرحوم محمد علي باشا الكبير. فأهلاً وسهلاً بأمير أحيا لنا ذلك الاسم المحبوب، فنحيّيكم باسم أولئك النزلاء الحمصيين في كافة القطر المصري عموماً، وفي طنطا خصوصاً، كأمير زائر شريف يقصد النزهة في بلاد ترحّب بزيارته. أمير متنوّر فاضل عرف أن البلاد السورية شقيقة البلاد المصرية، فأحبّ إلى زيارتها على الرحب والسعة. فأهلاً بالفضل ومرحباً بالنبل، وأكرم بهذا الضيف العظيم وبمضيفه الكريم من يفتخر به الوطن مولاي سعادة الهمام عبد الحميد باشا الدروبي. وفي الختام، تنازلوا يا دولة الأمير لقبول عواطفنا القلبية وسرورنا بتشريفهم، مجاهرين بقولنا ليعش جلالة مولانا السلطان محمد رشاد وليعش سموّ الخديوي عباس المعظم وليحي دولة البرنس محمد علي باشا، والسلام. وممّا كان ذكر في هذه الحفلة أيضاً بعض أبيات قدّمها لنا مطبوعة لفيف من الحمصيين المسيحيين الّذين يتّجرون في القطر المصري وهي: لا غَرو إِن شمت حمصاً تَزدهي طرباً ... وَفي مَرابِعها تَزدادُ أنوارُ

فإنّها بَلغت من دَهرها أرباً ... غَنّت لِبهجتهِ في الروضِ أطيارُ قَد زارَها اليومَ مِفضالٌ منَ الأمرا ... تَشرّفت وَاِنثَنت تيهاً بِملقاهُ وَزينت بِشقيق باتَ مُزدهراً ... وَزنبقٍ فاحَ طيباً عرفُ ريّاهُ شَرّفتنا يا سَليلَ المجدِ عَن كثب ... شَرّفتنا فَعلى الترحيبِ والسعةِ فَاِقبَل تشكّرنا يا أيّها العربي ... يا ربّ كلّ ندىً سام وَمكرمةِ أَهلاً وسهلاً بِمَولى زارَ بَلدَتنا ... بِموكبٍ قادمٍ مِن بقعةِ النيلِ أَولت زيارتهُ أَفرادنا مِنناً ... فَلَنبدينّ لهُ شكراً كإكليلِ تجّار حمص بِطنطا حاصِلون عَلى ... عَطفِ الحكومةِ مَع أَقصى عِنايتها وَمع بَني مصر عاشوا إخوة فإِلى ... مصر تحيّتنا الجلّى بِغايَتها مِن حمصَ في مصركم بيت وعائلة ... حلّت بِجملتِها والأنسُ موجودُ إنّا على ثقةٍ إنّا على ثقةٍ ... بِما اِنطويتم علَيه أيّها الصيدُ لَذا أَتيناك يا مَولى الكرامةِ يا ... رُكنَ الفخامةِ نَتلو آيَ شكرانِ بلّغ عَواطِفنا لا زلتَ مُرتقياً ... حُكومةً قَد حَبَتنا كلَّ إِحسانِ

السفر من حمص

هَذي العواطفُ بالإِخلاصِ نُبديها ... بِشَخص علياكمُ الأسمى إلى مصرِ لا زلتَ بينَ البرايا تَنثني ... باليمنِ وَالرغدِ والإسعادِ والبشرِ وبعدما فرغوا من ذكر أشعارهم ومقالاتهم، أخذنا نتحدّث في موضوع التجارة المحليّة. وسألتهم في ماذا يتّجر أهل حمص وأيّ الأشياء أكثر شهرة في متاجرهم فذكروا لي أنّ تجارة الحمصيّين قائمة في الغالب على ما لا يمكن الاستغناء عنه من محاصيلهم ومصنوعاتهم التي أشهرها وأهمّها المنسوجات الحريرية والقصبية ثمّ إن حمص هي البلدة الوحيدة الّتي اِشتهرت في جميع بلاد سورية بحل الحرير وإحسان صنعته ونسيجه، ثمّ قمنا من ذلك المجلس الحافل مودّعين من كلّ المحتفلين الكرام بغاية الإكرام والاحترام وبعد أن شكرنا لهم هذا الأدب والمعروف عدنا إلى بيت سعادة الباشا الدروبي وما برحنا هناك نستقبل ونودّع حضرات الزائرين الّذين كانوا يفدون علينا في هذا البيت الكبير زمراً وأفواجاً حتّى اِحتجبت الغزالة في خدرها وقد كان جيء إلينا في تلك الأثناء بحصانين قريعين، فلم نجدهما وفق رغبتنا من كلّ الوجوه على أنّهما لم يكونا من الجياد الكريمة الأصل ولا من هذه الخيل المطهّمة. السفر من حمص وفي صبيحة اليوم الثاني كنّا تأهّبنا للسفر إلى حلب، فتوجّهنا من منزل سعادة عبد الحميد باشا إلى المحطّة في ركاب حافل من مظاهر القوم وأعيان المدينة الّذين رافقونا حتّى ودّعناهم ونزلنا في القطار وكان لا يزال معنا سعادة الباشا الدروبي ذلك الرجل الأريحي الّذي جمع بين حزم الشيوخ وعزم الشباب وعرف كيف يستخلص له قلوب الناس ويحلّ من صدورهم محلّ الوالد البارّ نعم إنّا لا ننسى لهذا الشهم الواسع الخلق الرقيق العواطف ما رأيناه من فرط كرمه ومزيد عنايته بنا في كلّ حركة

حماة

وسكون، وسار القطار على بركة الله متّجهاً إلى حلب وما اِنفكّ يواصل بنا السير والأرض على يميننا ويسارنا إلى مسافات واسعة كانت كلّها خصبة جيّدة مفروشة ببساط من المزارع الخضراء حيث كان الزمن ربيعاً، وكنت أعجب كثيراً بما أشاهده على تلك الزروع من ألوان الزهر المختلفة بين الحمراء والبيضاء والزرقاء الّتي تشبه مجموعتها البديعة باقة الزهور المرصّعة، وجلّ هذه المزارع النضرة والأعشاب الجميلة إنّما نبتت في تلك الأرض بواسطة الأمطار وعندئذ لم أستغرب ولم أندهش ممّا كنت سمعته من أن قبائل العرب والرعاة يقصدون إلى الجهات قبل فصل الصيف بخيلهم ومواشيهم لرعي تلك الحشائش، وما أحسنها من مرعي وأجملها من ربيع خصوصاً وأن المياه في تلك البقعة غاية في الكفاية والصفاء، حتّى بلغ إلى محطّة حماة وهي على مسافة 55 كيلومتراً من حمص وقد قطعها القطار في نحو ساعة و45 دقيقة. حماة هذه البلدة واقعة في حدود ولاية سورية وكانت أوّلاً تابعة لأيالة الشام، أمّا الآن فقد انفصلت عنها وجعلت متصرفيّة مستقلة وهي مدينة قديمة التاريخ، ويظنّ كثير من النّاس أنّ بانيها هو حمت بن كنعان. فإذا صحّ ذلك فيكون قد مضى عليها الآن أكثر من 4 آلاف سنة. ويقال إن حماة كانت في وقت خروج الإسرائيليين من مصر مملكة مستقلّة تتاخم أرض الميعاد الّتي اِحتلّها الإسرائيليون. وكانت المملكة التي تسمّى باسمها تمتدّ من منبع العاصي حتّى مصبّه مع كلّ السهل الشرقي منه، وكان يتاخمها من الجنوب مدينة دمشق ومن الغرب بلدا فينيقية وممّا يدلّ على أن هذه البلدة قديمة جاهلية ما جاء في شعر اِمرئ القيس من بعض قصائده حيث قال: تقطّع أَسباب اللبانة وَالهوى ... عَشيّة رُحنا مِن حَماة وشيرزا ثمّ إنّها أوسع من مدينة حمص مساحة وأكبر منها عمارة وسكانها يبلغون نحو

فتح حماة

9آلاف نفس. ويقال إن المسلمين من هؤلاء السكّان متمسكّون بدينهم تمسكّاً شديداً بلغ بهم إلى درجة التعصّب، ثمّ إنّهم غاية في الشهامة والشجاعة. ويقال إن الملك المؤيد عندما فتح بلاد الشام جعل هذه المدينة قاعدة ملكه، وتسمّى بسلطان حماة. وينسب إليها بعض العلماء والملوك، وأشهرهم المؤرّخ أبو الفداء الحموي أحد ملوكها من الأيّوبيّين، والجغرافي الكبير ياقوت صاحب المعجم، وتقي الدين ابن حجّة الشاعر المعروف. ومن أشهر بيوتها الّتي يفتخر بها أهل حماة ويذكرونها بالفضل والسيادة بيت الشيخ عبد القادر الكيلاني، شيخ الطريقة الكيلانية المعروفة. أمّا صناعتها فمنحصرة في اِصطناع الأشياء العمومية الّتي لا يستغنى عنها من المنسوجات الحريرية والقطنية والأحذية وما أشبه ذلك. ومن محاصيلها الحنطة والشعير والذرة وغيرها من الحبوب والفواكه الّتي يصدر كثير منها إلى طرابلس، ويرسل أيضاً كثير من سمنها وجبنها إلى أسواق الشام وزحلة وغيرها. وتجارتها دائرة على تلك المصنوعات وهذه المحاصيل. فتح حماة وقد فتحت حماة سنة 17 هجرية على أيدي المسلمين، وكان بطلها ذلك الفاتح العظيم أبا عبيدة بن الجراح فإنّه، رضي الله عنه، قصدها بعد فتح حمص فتلقّاه أهلها مذعنين فصالحهم على الجزية والخراج. وقد توالت عليها بعد ذلك جملة حوادث عظيمة ففي سنة 290 قصدها القرامطة وقتلوا أهلها ولم يبقوا على النساء والأولاد. وفي سنة 352 خربت حماة بالزلازل الّتي أصابت الديار الشامية. ويروى أنّ معلماً خرج من المكتب فلمّا حدثت الزلزلة سقط المكتب على الصبيان فهلكوا عن آخرهم، ولم يأت أحد يسأل عن ولده، ممّا كان دليلاً على أن جميع آبائهم هلكوا في تلك الحادثة أيضاً. وفي سنة 565 تخرّبت بالزلازل أيضاً، وملكها السلطان صلاح الدّين الأيوبي سنة 570 مظهراً طاعة الملك الصالح بن نور الدين زنكي. وفي سنة 573 حصرها الإفرنج، وكان فيها خال صلاح الدين مريضاً وكانت بينهم وبين أهلها مقتلة عظيمة، وأقاموا على قتالها أربعة أيّام، ثمّ استظهر عليهم المسلمون فرحلوا

عنها. ثمّ كانت بعد صلاح الدّين لفرع من عائلته منهم ملكها المشهور أبو الفداء الحموي. وعندما كنّا وصلنا إلى محطّة حماة وجدناها غاصّة بعظماء الناس وأكابرهم، وكان بعضهم من حكومة حماة ومن رؤساء البيوت الكبيرة فيها مثل زعيم أسرة الكيلاني الشهيرة ورئيس أسرة الأزهري الّتي هي من أفخم الأسر في تلك المدينة. وقد عرفنا من حديثهم أنّ لهم قرابة في مديرية المنيا بالقطر المصري. وكان البعض الآخر من مدينة حلب، وهؤلاء منهم اثنان مندوبان من قبل عطوفة الوالي وهما صاحبا السعادة مرعي باشا ناظر أوقاف حلب والميرالاي (قومندان الجندرمة) واثنان آخران مندوبان من جهة أعيان المدينة ووجهائها. وقد جاؤوا جميعاً إلى محطّة حماة ليستقبلونا على أطراف ولايتهم، يحملون إلينا سلام دولة الوالي وتحيّة عظماء البلاد وليكونوا أيضاً في خدمتنا وتحت إشارتنا من هذا البلد حتّى نصل إلى بلدهم. وإنه لا غرابة أن ألاقي مثل هذه العناية الفائقة والأريحية العظيمة من عطوفة الوالي ورجال حكومته وأهالي ولايته، بعد أن رأيت شبيهها أو أكثر في حمص وفي كثير من البلاد الشامية، إذ كان هؤلاء الناس الكرام المخلصون يقدّرون ضيوفهم حقّ قدرهم، ويبالغون في إكرامهم وإحسان وفادتهم، ويبلغون بهم من الكرامة إذاً ما هم حقيقون به وأهله. ولقد شكرت هذا الوفد ومن كان واقفاً معهم من أهل حماة من لساني بما كنت أستطيع أن أعبّر به عمّا استقرّ في نفسي من معروفهم الكبير ولطفهم الكثير. وبعد ذلك ودّعنا الحمويين حيث كان قد تحرك القطار، ونزل معنا فيه ذلك الوفد الجليل، فمررنا ببلدة تعرف بمعرّة نعمان، نسبة فيما يقال إلى نعمان بن بشير. وهي من القرى الّتي اشتهرت بالحروب الصليبية، ويوجد فيها خربة مهدّمة يقال إنّها كانت قلعة نعمان. وسألت أصحابنا عن عدد سكّانها الآن فقالوا إنهم يبلغون 7 آلاف نفس. وشاهدنا حول هذه القرية مروجاً وأحراشاً واسعة، يقال إن أكثر غرسها من شجر التين والفستق. ومررنا بعدئذٍ ببلدة تسمّى السرمين، وهي مشهورة بالينابيع والعيون الكثيرة التي تتفجّر من خلال الصخور. ويقال إن في هذه القرية عدداً كبيراً من المغارات والكهوف حيث كان الناس في سابق الزمان يسكنونها ويأوون إليها وإلى بطون الجبال. أمّا أرضها فكان منها الخصب المزروع، ومنها القحل الأجرد بسبب تغلب الملوحة في تربته. أمّا تلك الأراضي المملحة فكانت ترى للمسافر على مسافة

في محطة حلب

بعيدة من البلد. ثمّ مررنا ببلد يدعى بخان تومان، ويزعمون أنّ هذا الاسم مأخوذ من اسم أحد السلاطين، وعند هذه القرية يشاهد المسافر مآذن حلب من بعيد. ثمّ ما برحنا سائرين ننتقل من بلد إلى آخر والمزارع من جمالها الطبيعي على ما وصفنا حتّى مررنا بنهر يسمّى قويق، وهو من الأنهار المشهورة في تلك الجهات. أمّا المسافة من تلك النقطة إلى مدينة حلب فكانت تقرب من نصف الساعة بسير القطار وقد كنّا في غضونها نطلّ من نافذة العربة فنشاهد أمامنا على بعد هيكل مدينة حلب جسيماً ضخماً تعلوه مآذنها الشاهقة الّتي هي أوّل ما يظهر للناظرين، وما كدنا نقرب من المحطّة حتّى وجدناها تموج بالمنتظرين من وجهاء المدينة وحكّامها موجاً، وهنا لا أستطيع أن أعبّر عن وصف الابتهاج وشرح السرور الّذي كان يخامر نفسي من العناية الكبيرة والحفاوة التامة الّتي كنت أراها بين لحظة وأخرى من سعادة مرعي باشا ناظر الأوقاف وبقيّة الوفد الحلبي حيث كانوا في أثناء هذا السفر لا يألون جهداً في تعهّد راحتنا وانبساطنا وإعمال ما كان يمكنهم من الوسائط لإدخال الفرح على أنفسنا، وقد كانوا يرشدوننا في الطريق على كل شيء مهم سواء من جهة الزراعة والصناعة أو من جهة تاريخ البلاد الّتي كنّا نمرّ بها وأحوال السكّان وعوائدهم في بلادهم وآثار القدماء في تلك البقاع ذلك فضلاً عن أنّهم كانوا يراسلون بواسطة السلك البرقي جميع المحطّات الّتي كان يرسو عليها القطار في طول السكّة ويهتمّون جدّاً بخروج الناس لاستقبالنا على المواقف عند مرور القطار حتّى وصلنا بسلامة الله إلى محطة حلب. في محطة حلب وقف القطار فكان الصالون الخاص بنا محاذياً تمام المحاذاة لموقف صاحب العطوفة فخري باشا الوالي، وما أوشكت أن أنزل من باب العربة حتّى أسرع عطوفته إلى مقابلتنا وتهنئتنا بسلامة الوصول إلى بلدهم. وبعد ذلك أخذ يقدّم إلينا حضرات المستقبلين واحداً واحداً، وكان في أوّلهم صاحبا السعادة توفيق باشا، قومندان عسكر الأردي السابع في ولاية حلب، وأسعد باشا جابري، ثمّ حضرات العلماء فالرؤساء الروحيين. ولمّا أن انتهينا من مصافحتهم والسلام عليهم، ذهبنا إلى قاعة

الاستراحة في المحطّة، وجلسنا فيها برهة مع حضرات المحتفلين الكرام. وعند ذلك قام في وسط هذا الاجتماع العظيم شيخ جليل وألقى على مسامع الحاضرين خطبة لطيفة، كان موضوعها منحصراً في تهنئتنا بالسلامة وإظهار سرور أهل البلاد بقدومنا إليهم، فسررت منه ومن خطبته، وشكرته وشكرت أيضاً جميع الموجودين. ثمّ ذهبنا إلى خارج المحطّة حيث كانت العربات مجهّزة لنا فركبنا وركب معنا عطوفة الوالي عربته الخاصة، وتبعتنا حاشيتنا في عربة أخرى. فسرنا أوّلاً من طريق كان قد اِصطفّ على حافتيه عدد كبير من العساكر الّذين كانوا يختلفون بين بيادة وسواري وطوبجية، وكانت الموسيقى العسكرية تحيينا بنغماتها الشجية. ثمّ سرنا في الطريق الموصل إلى الفندق بين زحام عظيم على جانبيه من سكّان المدينة الّذين كنّا نشاهد البشر العظيم يتألّق سناه على وجوههم البسّامة، لا فرق في ذلك بين شبابهم وشيبهم ولا بين غنيّهم وفقيرهم. كما أنّنا كنّا نرى من لطف عطوفة الوالي وكماله ما ليس في وسعي أن أقدّره في عبارتي فيدرك أو أصفه فيفهم بأكثر ممّا يعرفه الإنسان من أحب الناس إليه وأشفقهم عليه. وقد صرّح لي في خطابه أثناء السير بما كان ينطوي عليه فؤاده من محبّتنا وما كان ينويه ويودّه من نزولنا ضيوفاً عليه مدّة إقامتنا في المدينة، لولا أنّ بيته صغير وقد نزل فيه بالصدفة صاحب الدولة ناظم باشا بدعوة سابقة من لدن عطوفته. فسررت جدّاً من تصريحه بجميل نيّته وحسن قصده بنا، وقد اتّسعت من صدري مكانته وعظمت في قلبي محبّته، عندما كان يكرّر أسفه الشديد من ضيق البيت، حتّى لقد عدّ ذلك من الصدف الّتي عاكسته في أحبّ شيء إليه، وحالت بينه وبين ما كان يرجوه ويودّه من صميم قلبه. ثمّ ما زال عطوفته معنا حتّى دخلنا الفندق وتعرفنا منه بهداية صاحبه ما كان خصّص لأجلنا من الحجرات. وهناك جلسنا مستأنسين بحديث عطوفة الوالي ولطفه ريثما شربنا القهوة، ثمّ جاء إلينا سعادة توفيق باشا القومندان وعدد كبير من عظماء المدينة فرحبنا بمقدمهم وأهّلنا بهم جميعاً، وذكرت لهم بعبارات متكرّرة حسن عنايتهم واِهتمامهم بنا، وكنت أشكرهم لذلك شكراً جزيلاً. وقد كنت في غضون حديثي معهم ألاحظ من حركاتهم ولهجاتهم نشاطاً عظيماً وأدباً تامّاً وحماساً زائداً، إلى غير ذلك ممّا اِستوجب فرط محبّتي لهم، خصوصاً بعدما أظهروا لنا مودّتهم الكاملة وإخلاصهم

رد زيارة

المتناهي. وحقيقة كنت أقرأ في وجوههم آيات الإخلاص والصدق وكانت نفسي لا تحدّثني بغير ذلك فيهم. وَالعينُ تَعلَمُ من عَيني محدّثها ... إن كانَ من حزبها أَو مِن أَعاديها ولم نلبث، بعد أن خرجوا من عندنا وخرج عطوفة الوالي أيضاً، إلا برهة صغيرة، ثمّ وصل إلينا أن دولة ناظم باشا قد حضر إلى الفندق بقصد زيارتنا، فاهتممت جدّاً بزيارة هذا الرجل الكبير المحبوب. وعندما اِستشعرت بقدوم دولته، ذهبت مسرعاً لاستقباله على سلّم الفندق. وكانت هذه أوّل مرّة تقابلت فيها مع دولته، فسلّمت عليه، وذهبت به إلى ردهة الاستقبال، حيث جلسنا نتحدّث، آونة في بعض الشؤون العامة، ومرّة في بعض الأحوال الخاصّة، حتّى انتهى بنا الحديث إلى ذكر القلاقل والصعوبات الكثيرة الّتي توجد الآن في جهة العراق من جرّاء الحوادث الأخيرة. ذلك كان لمناسبة أنّ دولة الباشا سيسافر من حلب إلى مركز وظيفته في تلك الجهات، حيث أنّ دولته والي بغداد والموصل وديار بكر. وقد ذكر لي في خلال حديثه أنه يعرف الجناب العالي الخديوي، وأنه يحبّ كثيراً نجل عمّنا دولة الأمير عزيز باشا حسن، المستخدم في الجيش العثماني. وقد كنت كلّما تغلغلنا في الكلام وتبادلنا أطراف الحديث في المسائل المهمّة، أجد في ذلك الرجل العظيم نباهة زائدة وذكاء حادّاً وعلماً غزيراً. أمّا هو فكان شيخاً أبيض اللحية والرأس، وعسكرياً بكلّ معاني الكلمة، وكانت تبدو على وجهه مع السماحة والبشاشة سيمياء القوة والشجاعة. وعندما أراد الانصراف قمنا فودّعناه بما يليق بمقامه الجليل من الحفاوة والتبجيل شاكرين له خفّته إلى زيارتنا في الفندق على أثر حضورنا. ردّ زيارة ولم نمكث بعد ذلك إلا حيث تهيّأنا للخروج وأعددنا له عدّته، ثمّ قصدنا إلى منزل عطوفة فخري باشا، الوالي، لنردّ لدولته ودولة ناظم باشا ضيفه الكريم زيارتهما. وقد لبثنا لديهما مدّة غير قصيرة، دار حديثنا في أثنائها على موضوعات

شتّى ومباحث كثيرة، كنت أجدني في خلالها غاية في الارتياح والسرور، لأنّي كنت أراني جالساً بين رجلين فاضلين عاقلين من أكبر الناس أدباً وحلماً، وأوسعهم معرفة بأحوال الأمم والشعوب. وقد كان عطوفة والي حلب يتدفّق علماً ويتوقّد فطنة وذكاء، وإذا تحدّث في موضوع علمي أو سياسي أو أخلاقي اتّسعت له فيه المادة، فيصوغ ما شاء الله من معلوماته الصحيحة ومعارفه الكثيرة عبارات رقيقة رشيقة. ثمّ هو يجيد التركية والعربية والفرنساوية غاية الإجادة، ويتكلّم بها كلّها كأنّها لغته الأصلية الّتي فطر عليها. وقد فهمت من خلال كلامه وحركاته أنّه تربّى تربية عسكرية، وأنّه كان أركان حرب في الجيش الماضي، غير أنّه كان مرتدياً لباساً ملكياً ملائماً لوظيفته الحاضرة. ثمّ كنت سمعت أنّه تقلّب على جملة وظائف عالية، حيث كان في ولاية الأناضول وبلاد العرب والشام وبغداد وبصرى. وإن رجلاً تعاقبت عليه كلّ هذه الولايات، وكان عمله في كلّ واحدة منها ينادي بفضله ويشهد لاستعداده وكفاءته، وأنّه من الذكاء والعلم بالدرجة الّتي لا نعرفها إلا لبعض أفراد يعدّون على الأصابع، لهو حقيق أن يوضع في العيون وتعقد عليه القلوب. كما أنّ الحكومة التي تريد أن تكون في صف أعظم الحكومات، وتكبر من دولتها وصولتها، هي أحوج ما تكون إلى استخدام مثل هذه الأفكار الواسعة المتصرّفة لتنتفع بها في أجلّ شؤونها وأخطر أعمالها. والشيء الغريب الّذي لا يزال غامضاً غير مفهوم إلى الآن، هو أنّنا نرى الحكومة العثمانية الحاضرة تختار لأعلى مناصبها وأسمى مراكزها صغار الموظّفين وضعافهم. على حين أنّه لا يزال يوجد، والحمد لله، رجال عثمانيون أذهبوا أعمارهم الطويلة في خدمة الدولة مع غاية الصدق والإخلاص، وما برحوا يعملون في مصالحهم على رقيّ الدولة ورفعة شأنها، ويسعون سعياً متواصلاً وراء سعادتها وإكبار أمرها. فكان من حقّ هؤلاء العمّال المخلصين المتفانين في حبّ الدولة أن يشغلوا تلك المراكز السامية والوظائف الكبيرة. وأغرب من ذلك دعوى بعض الناس اليوم أنّه لا يوجد بين كبار الرجال في الحكومة من تتوفر فيه الكفاءة والاستعداد لإدارة الأعمال السياسية الخطيرة. وهذا ما جعلني أتجاسر أمام دولة ناظم باشا، والي بغداد، وأقول له بكلّ صراحة، على مسمع من سعادة القومندان توفيق باشا وغيره، أنّي أستغرب كثيراً أن الحكومة الحالية تعيّن في أرقى

في الفندق

مصالحها الداخلية بعض المستخدمين في المصالح الصغيرة، كما تعلم دولتكم. وربّما كان أمثال هؤلاء، الّذين ترفعهم الحكومة وتمرّ بهم فوق رؤوس الكبراء، لم يكونوا من العلم والفضل بالمكان الّذي ينبغي لصاحبه أن يتّصل بأرباب العمل وأصحاب الرأي، ثمّ تترك في زوايا الإهمال فطاحل العلماء وأفاضل الرجال مثل عطوفة فخري باشا، ذلك الرجل العظيم الّذي كلنا يعلم بمقدار نبله وفضله وتثبّته في الأمور. نعم، إنّي مستغرب جدّاً كيف تنساه الحكومة وتهمله وتؤخّره من تقديم هو أولى وأحق به من أولئك الّذين قدّمتهم وكبرتهم، ممّن لا يحسن بمثلنا التصريح بأسمائهم أو عنوانات وظائفهم. هذا وقبل أن أبرح مجلسهم اِلتفتّ مرّة ثانية إلى دولة ناظم باشا وصافحته، ودعوت الله له أن يعينه ويساعده على مأموريّته المهمّة، وأن يؤيّده ويوفّقه لخدمة البلاد والأمّة بما يقطع عنه ألسنة مبغضيه وحسّاده، وبما يكون منه البرهان الساطع على نقيض ما يقال الآن عن بعض المتفيهقين في كبار الرجال وشيوخهم المعمّرين. ومن هناك قفلنا عائدين إلى الفندق. وقد كنت أشعرت بعض الجماعة من أهل المدينة بشدّة ميلي إلى مشاهدة ما يصنع في ذلك البلد من قبيل المنسوجات الحريرية والقطنية والأصواف والجلود، كما طلبت إليهم أن يعرضوا عليّ كرائم خيلهم، عسى أن أظفر هذه المرّة بطلبي وأستعيض من جياد حلب الكريمة ما فاتني في المدن الأخرى. ولما أن سكنت معالم الطبيعة ولبس الجوّ جلبابه الحالك، قصدنا إلى غرفة الأكل حيث تناولنا ورفاقنا طعام العشاء، وكان معنا سعادة المفضال الأكرم عبد الحميد باشا الدروبي. في الفندق وفي صبيحة اليوم الثاني، جاءنا في الفندق صاحبا العطوفة والسعادة فخري باشا وجابري باشا، فاستقبلناهما بما يليق بمقامهما الكريم. وبعد أن تبادلنا أطراف الحديث في غير مسألة، طلب إلينا سعادة جابري باشا أن نتناول طعام الغداء في منزله، فأجبناه إلى ما طلبه شاكرين له مروءته وكرمه. ودعانا كذلك عطوفة الوالي لتناول طعام العشاء، ملتمساً إجابته إلى دعوته في محفل الاتّحاد والتّرقّي. وحينئذ قلت

لعطوفته أنّي لا أستطيع أن أشرح سروري بوجودي في مجلسكم، ويسرّني جدّاً أن أستشفي بطعامكم الهنيء وشرابكم المريء، غير أنّي لا أجدني مرتاحاً ولا منشرحاً إذا ضمّني وحزباً من أحزاب السياسة مجلس أو مقام، وقد عشت حياتي لا أرغب في الجمعيات ولا أميل إلى الدخول في المحافل والمنتديات. ذلك لأنّي أرى أنّ الاجتماعات كثيراً ما تضطر الإنسان وتقهره إلى ما ليس في حسبانه، فيتحدّث بما عساه أن يقلق الخواطر ويشوّش الأذهان. نعم، وأكره من صميم قلبي أن أتقيّد بأمر من الأمور كائناً ما كان، خصوصاً الأمر الّذي سبق رأيي فيه وعرف الناس عنه من لساني مرّة بعد أخرى ما لا أظنّه يخفى على عطوفتكم أيضاً، وإن أقرب عهدنا به مجلس البارحة الّذي تحدّثنا فيه طويلاً مع دولة ناظم باشا وعطوفتكم وبعض رجال الحكومة والأعيان. ولست أخشى من شيء ما أخشى من أن يقال فلان كان بالأمس يقول كيت وكيت، وهو في الصباح يفعل كذا وكذا، وهو ما إذا دخل في الرأي أفسده وفي الكلام أسقطه وعدّ به صاحبه مخادعاً ختالاً. وربّما ذهب في ذلك بعض الناس مذهباً لا يتّفق وما أردته في شيء، وما لي ولهذا كلّه، وإنّي والحمد لله لا أبالي أن أعلن رأيي وأشهره بكلّ صراحة وثبات ما دمت أعتقد أنّه حقّ سديد. (وإنه ليجمل بالرجل ذي الرأي يعتقد صحّته وسداده أن يثبت عليه، مهما تقلّبت أمامه الأمور وتحوّلت الأحوال. وليس من الحكمة أن يخالف الإنسان ضميره ليوافق الناس، ولا أن يغضب نفسه ابتغاء مرضاتهم، كما أنّه ليس من المروءة والشهامة أن يحدّث الواحد قلبه بما يكره أن يدور على لسانه في مجلسه وكلامه)، فأرجوك إذاً أن تعفيني من الذهاب إلى هذا النادي وإنّي أشكرك على هذا الإعفاء، ريثما أشكرك أيضاً على معروفك السابق واللاحق وحسن قصدك الّذي عرفته لك. قلت لدولته ذلك، وهو ما زال يلج في الدعوة ويلحّ في الطلب بما لم يسعني معه أخيراً إلا تلبية طلبه وإجابة دعوته. ولكن ذلك كان بعد أن أفهمني عطوفته أنّ هذه المأدبة من عنده نفسه، وليس لأحد سواه شأن فيها، وأنّه إنّما اختار محل الجمعية لأنّه لم يعثر على محل غيره يسع المدعوين، وهم يبلغون نحو 50 نفساً. وقد ارتحت كثيراً لهذا الجواب، ووددت لو كنت فهمته من قبل. وعلى ذلك انتهت محاورتنا، وخرج من عندنا عطوفة الباشا الوالي مع رفيقه شاكرين لنا ما لقياه من الحفاوة والاحترام، خصوصاً

مسجد سيدنا زكريا

بعدما اِستوثق منّا عطوفته بإجابته إلى ملتمسه. مسجد سيدنا زكريا أمّا نحن فما نشبنا بعد انصراف عطوفة الوالي وصاحبه إلا بضع دقائق ريثما تهيأنا للخروج، ثمّ ركبنا من باب الفندق عربة، ومعنا صاحبنا الهمام سعادة عبد الحميد باشا الدروبي. وركب عقبنا عربة أخرى عزيزنا الفاضل أحمد بك العريس، ومعه الياور خيري أفندي، فقصدنا توّاً إلى جامع سيّدنا زكريا نبي الله عليه السلام. وهو مسجد جميل الشكل متقن الصناعة والبنيان، تعتمد سقوفه المتينة على أقبية وعمد في طول المسجد وعرضه. ويقال إنّ موضع هذا المسجد كان في الأصل كنيسة من عهد الإمبراطورة هيلانة من قياصرة الرومان، ويسمّى الجامع الأموي لأنّه من آثار بني أميّة. ويدّعي أهل هذه الجهات أنّه كان شبيهاً بالجامع الأموي في دمشق، وقد أحرقته طائفة الإسماعيلية سنة 1169 ميلادية، ثمّ أعاد بناءه المرحوم السلطان نور الدين الشهيد، ثمّ هدمه المغول تحت رياسة هولاكو. ويمتاز هذا المسجد بمئذنته الشاهقة الّتي يبلغ ارتفاعها نحو 54 متراً، ولم نشاهد مأذنة في مساجد المسلمين الّتي رأيناها بلغت من العلو هذا المبلغ إلا تلك المأذنة العجيبة، وهي قائمة في الزاوية الشمالية الغربية من جهة الصحن الكبير الّذي تحيط به الأعمدة من الثلاث جهات. ويقال إن هذه المأذنة بنيت في سنة 1290 ميلادية. أمّا المسجد الّذي تقام فيه الصلاة فإنّه واقع في الجهة الجنوبية من الصحن المذكو، وفيه حجاز من الخشب (درابزين) يقسمه إلى قسمين لكنّهما غير متساويين؛ وقد خصّص القسم الأصغر منهما بالصلوات الخمس، وجعل القسم الأكبر خاصّاً بصلاة الجمعة. وفيه يوجد قبر النبي زكرياء، والد النبي يحيى الّذي قدّمنا أنّه مدفون بجامع بني أمية في دمشق، ويسمّى يوحنّا المعمدان. وهذا القبر لم يكن هو القبر الوحيد المجمع عليه من أهل المدن والطوائف، فإنّ مدينة سامرّا وبعض مدن أخرى من الشام تزعم أنّ فيها قبره عليه

قلعة حلب

السلام، وقد رأيناه محاطاً بمقصورة مذهّبة بديعة الشكل. دخلنا المسجد أوّلاً وصلّينا فيه تحيّته ركعتين، ثمّ ذهبنا إلى ذلك المقام الشريف وقرأنا في داخله ما تيسّر لنا من كتاب الله بنيّة حصول البركة وإصلاح الحال. وهناك سألنا الله تعالى أن يتقبّل منّا هذه الزيارة الّتي نشكره، جلّ شأنه، على هدايتنا لها وتوفيقنا إليها. وخرجنا بعد ذلك عامدين على زيارة القلعة الحلبية، وكان طريق سيرنا إليها من داخل البلد. ولا بدّ لنا من ذكر كلمة عن هذه القلعة تتضمّن نبذة من تاريخها، ووصفها على حالتها الحاضرة بقدر الإمكان. قلعة حلب هذه القلعة واقعة في وسط المدينة على تل مرتفع مرصوف بالحجارة، وهو من ذلك يظهر أنّه صناعي. ويقول مؤرخو العرب أنه كان على هذا التل مدينة قديمة من مدن الشام، قائمة على ثمانية آلاف عمود، وهي بالطلع مدينة حلب. ويقال إنّ الّذي بنى هذه القلعة هو سلوقس الذي اختطّ حلب وبناها، فهي على هذا عتيقة متوغّلة في القدم. وبعض المؤرخين يزعم أنّ كسرى زاد في تحصينها ومنعتها. ولست أدري من هو كسرى هذا من ملوك فارس، ولعلّه كان غير كسرى الثاني، لأنّ ذلك هو الّذي أحرقت مدينة حلب بأمره سنة 611 بعد المسيح. ومن أبعد ما يتصوّر أن يعمر القلعة ويزيد في تحصينها من يخرب المدينة ويأمر بإحراقها. ثمّ إنها محاطة من جميع جهاتها بخندق عميق يمكن غمره بالماء، ويقال إنّه بلغ من العمق بحيث يستغرق المسافر إلى قراره مسافة تقرب من نصف الساعة. ويوجد على هذا الخندق قنطرة جميلة مصنوعة من الخشب توصل إلى القلعة، وليس الدخول فيها مباحاً مطلقاً، بل هو محظور عادة إلا لمن حصل على إذن الحربيّة الّتي لا تزال صاحبة السلطة والسيطرة عليها إلى اليوم، على الرغم من أنّ هذه القلعة صارت خربة مهدّمة. ولهذه المناسبة وجدنا اِثنين من ضبّاط الجيش في اِنتظارنا هناك. وقد وصلنا من هذا المعبّر الخشبي إلى برج خارجي، دخلناه من باب حديد مزخرف بأبدع حلية وأجمل نقش، وقد أخذ منّي الإعجاب

بمنظر ذلك الباب مأخذاً بلغ منه أنّي صمّمت على تقليد شيء من شكله في بيتي الّذي أسكنه في منيل الروضة. ثمّ دخلنا في بهو يلاحظ المارّ به أنّ في أعلى الباب الحديد من الجهة اليمنى من الداخل نقوشاً على الجدار ومرسومات حفريّة بديعة من شجر الريحان، وكتابات ينتهي تاريخها إلى سنة 605 هجرية الموافقة سنة 1209 ميلادية على عهد الملك الظاهر. ويلاحظ أيضاً على يمين ويسار الباب الثاني رسومات حفرية أخرى تمثّل رؤوس الفهود تمثيلاً متقناً. ومن ذلك الباب خرجنا إلى صحن متّسع مغطّى بكومات من الأتربة والأنقاض، وفيه آثار جملة طرق. وقد دار في نفسي وقت ما كنت ماشياً في ذلك الصحن أنّه لابدّ أن يوجد تحت الحجارة والردوم شيء عظيم من الآثار التاريخية العجيبة. وبعدئذٍ ذهبت مني اِلتفاتة على باب مخفي بعضه تحت أطباق التراب، فسألت عنه بعض الملمين بذلك الأثر العتيق، فقال لي: إن من ذلك الباب يدخل الإنسان إلى مسجد صغير، كان يصلّي فيه بعض العسكر المتمرضين، فمالت نفسي للاطلاع عليه شأن السائح الّذي يريد أن يستطلع كلّ شيء غريب يقع تحت نظره. فدخلت هذا المسجد ورأيت فيه محراباً، وكان في دوائره وزرة من خشب عليها نقوش ما نظرت عيني إلى اليوم أجمل منها. ولقد رأيت من الرسوم الناتئة والحفرية والنقوش العربية ما لست أحصيه عدداً، خصوصاً ما شاهدته من ذلك فيما يوجد عادة في أوائل الكتب الأثرية. ومع ذلك، لم أذكر في مرّة من المرات أنّي اطّلعت على أعجب وأتقن من تلك النقوش المحكمة والرقوش الدقيقة. وهذا ما اقتضاني، إذ ذاك، أن أتأسّف كثيراً من إهمال ذلك المسجد الجليل وتركه بدون أقل مراقبة. ولابدّ أنّ شيئاً عظيماً من صناعاته البديعة وزخارفه المدهشة قد ضاع ومحي أثره، لأن في وجود مثل الآثار التي شاهدناها على الجدران وغيرها ما يستدلّ منه على أن المسجد كان قبل أن تفتك به عاديات الزمان حافلاً بالمصنوعات العربية الّتي من هذا القبيل. ولسنا نعرف لعفاء هذه الأشياء النفيسة سبباً سوى عدم العناية في مبدأ الأمر بحفظ آثار المتقدّمين وأعمالهم التاريخية النبيلة. وبعد ذلك مررنا بالآبار، وقال مرشدونا في ذلك المكان إنّها عميقة إلى قرار بعيد، ولا يبعد أنّها

بيت جابري باشا

تكون في عمق الخندق. ثمّ إنّ في صحن القلعة الّذي أسلفنا ذكره عدداً كبيراً من الأقبية، وفي وسطه قبّة فخمة قائمة على أربعة أعمدة من البناء. ويستدلّ من شكلها على أنّها كانت في أوّل عهدها فوق بئر محفورة في نفس الصخر، وهناك رأينا منارة جميلة الشكل بهيجة المنظر. وفي الجهة الشمالية الغربية يوجد مدفعان قديمان، صنعت فوهتهما من الحديد الممزوج بالرصاص. وبعدما اطّلعنا على أهمّ ما تشتمل عليه تلك القلعة من الداخل والخارج، صعدنا إلى أعلى نقطة فيها وأشرفنا منها على المدينة وضواحيها، فرأينا بين الأشجار والمزارع وما يتخلّلها من العيون والأنهار منظراً ساحراً فتّاناً لا ندري، وقد أخذتنا من حسنه روعة، أهو أبهج أم ذلك المنظر الّذي كنّا شاهدناه على دمشق من فوق الصالحية. بيت جابري باشا ثمّ برحنا القلعة متّجهين نحو بيت صاحب السّعادة جابري باشا إجابة لدعوته، حيث كان سيرنا إليه من داخل البلد الّذي تطوّفنا فيه على جملة جهات، بقصد أن نطّلع على ما لم يسبق لنا الاطّلاع عليه حتّى وصلنا إلى المنزل. وهناك رأينا في اِنتظارنا على بابه سعادة الباشا في لفيف من أقاربه، فاستقبلونا بأكبر حفاوة واحترام ودخلوا بنا إلى البهو، فاستقبلنا فيه أيضاً جمّ غفير من حضرات المدعوّين، يتقدّمهم إلى ذلك عطوفة الوالي. وما جلسنا إلا نحو خمس دقائق، ثمّ دعينا إلى غرفة المائدة فتناولنا عليها جملة ألوان من ألذّ الطعام وأشهاه. وكان أحسن ما تذوّقنا منها ثلاث صحاف من طعام البلد الخاص بها والمشهور بين أهلها. وبعدما انتهينا من الأكل والشرب، عدنا إلى مجالسنا في ردهة الاستقبال. وكان عدد المدعوّين معنا يبلغ نحو 18 نفساً من أشراف الناس في المدينة، وقد قدّم لكلّ واحد منهم نارجيلة يدخن فيها كما هو المعروف في عوائد هذه البلاد. وإذ ذاك كان المنظر في ذاته غريباً، وأغرب منه ما كنّا نسمعه من قرقرة النارجيل الّتي لم نجد لوصفها أبلغ وأظرف من قول الشاعر: ولابسة مِنَ الياقوتِ تاجاً ... تقهقهُ كلَّما قَبّلت فاها

إلى النزل

ويظهر لي أن هذه القعقعة في مسمع أرباب الكيوف ألذّ من رنّات المثاني ودقّات الدفوف. وكان في الحفلة جوقة موسيقى وترية جميلة تطرب الجالسين بألحانها الشجيّة، وفيها اثنان يغنيان من أشهر المغنّين في مدينة حلب. وبينما نحن في تلك الحفلة جاءنا جماعة من مشاهير التجّار ومعهم بضائع وأصناف شتّى من المنسوجات الحريرية والقصبية وما أشبه ممّا يصنع في نفس البلد. وبعد أن اطّلعت عليها وأعجبني حسن نسيجها ودقّة صنعتها، اشتريت منها بعض الشيء الّذي يلزم لي. وعلى أثر ذلك أخبرت بحضور حصانين من أشهر خيل العرب في تلك الجهات فنهضت لرؤيتهما، وكانا حقيقة جوادين كريمين، أعجبني حسنهما حتّى رغبت فيهما رغبة تامّة وهممت بشرائهما، لولا أنّه ظهر لي أخيراً بالبحث الدقيق أن فيهما من العيوب الخفيّة ما لا يرجى زواله بسهولة. وبعد ذلك رأينا جواد صاحب الدولة ناظم باشا، وهو أدهم جميل المنظر، يشبه كلّ الشبه حصاني الأسود الّذي كنت أهديته من قبل السلطان عبد الحميد. إلى النزل ثمّ خرجنا من عند سعادة الباشا وأصحابه، ونحن لا نقدّر ما كان داخلنا من الجذل والسرور بما استقبلنا به أوّلاً وودّعنا به آخراً من الترحيب العظيم والحفاوة التامة، وقصدنا إلى الضواحي المباشرة للمدينة، فقضينا ردحاً من الزمن في التروّض بين المزارع والبساتين. ثمّ عدنا من هناك إلى النزل لنستعدّ للدعوة الثانية عند عطوفة الوالي، ثمّ ما لبثنا إلا حيث أخذنا أهبتنا. ثمّ ركبنا عربتنا ووصلنا إلى نادي الاتّحاد فوجدناه آخذاً من الزخرف والزينة ما لابدّ أن العمال تعبوا فيه تعباً كبيراً. في نادي الاتّحاد والترقّي وكان عطوفة الوالي وجماعة من رجاله المخلصين ينتظرونا على مدخل النادي، فاستقبلونا بما أنطق ألسنتنا بشكرهم أجمعين. وبعد أن دخلنا غرفة الاستقبال

قصيدة الخوري

الواسعة وجلسنا برهة ريثما تناولنا القهوة، قام حضرة الخور فسقفوس جرجس سلحت نائب مطروبوليت السريان وأنشد قصيدة في المدح والتهنئة بالقدوم. ثمّ دعينا لتناول الطعام على مائدة، كان يحيط بها نحو خمسين نفساً من المدعوّين، وكلّهم من علية القوم وكرام الناس في حلب فأكلنا وشربنا ألواناً وأصنافاً شهيّة لذيذة، بينما كانت الموسيقى تشنّف الآذان بألحانها المطربة، حتى إذا انتهى الأكل وجلسنا في مجالسنا قام عطوفة الوالي في ذلك المحفل الحافل وألقى على مسامع الحاضرين خطبة رشيدة العبارة، جملية الأسلوب، شرح في أوّلها سروره وسرور قومه بزيارتنا لبلدهم، وأطال في آخرها بالدعاء لجلالة سلطان المسلمين وسمو الجناب العالي الخديوي. وقام على أثره حضرة بشير أفندي، رئيس البلدية، وخطب خطبة كانت تطوف معانيها حول الترحيب بنا والشكر لنا. ثمّ تلاه الشيخ محمد بدر الدين أفندي النعساني، أحد علماء حلب، وألقى خطبة أيضاً. وهكذا كان يقوم مصاقع الخطباء وفطاحل الكتاب والشعراء بعضهم تلو بعض، حتّى كان يخيّل إلينا أنّنا محتشدون في مجتمع علمي أو ناد أدبي، وكلّهم كانوا يضربون على نغمة واحدة. وهنا نذكر ممّا قالوه قصيدتين إحداهما لحضرة الخور فسقفوس المذكور، والأخرى لحضرة جورجي أفندي خياط. قصيدة الخوري غَدت مِن بناتِ الماءِ جارية تَسري ... عَلى عجلٍ وَالقلبُ منها عَلى جَمرِ تُضاهي فُؤادي في تأجّج شوقِهِ ... إِلى رُؤية المصر الّذي عزّ مِن مصرِ أُريدُ بِهِ مصر الّتي في اِبتدا الدهرِ ... بَدت بَهجة الدّنيا بِيوسفها البرِّ

بهِ فاقَت الأمصارَ قدماً وحسنها ... كَسا آلَها الأمجادَ أَرديةَ الفخرِ عَلى الفلكِ العلويّ جرّت ذُيولها ... وَأَزرى سَناها اليومَ بالأنجمِ الزهرِ بعبّاسِها الغطريف يوسف عصره ... منَ البشرِ منهُ مخجلٌ طلعةَ البدر إذا قامَ في دستِ الإمارةِ حاكماً ... يُشيرُ إليهِ القومُ بالأنملِ العشرِ فَلا عجبٌ وَهو العظيمُ فعاله ... إِذا كانَ فيها صاحب النهيِ والأمرِ فَمن خيمه تلفيه في رَوضة بكر ... وَمن نَفسه القعساء في عسكرٍ مجرِ وَمن كفّه قَد ينبط الماء في الصّخر ... وَمِن رفدهِ النيلُ المنيفُ على البحرِ يُضارعُ قيساً في أَصالَةِ رأيهِ ... وَمعناً بجودٍ زانهُ الحلمُ في الصدرِ فأَصبحت في إِطرائه بلبل القطر ... وإِن لَم أَكن قبلَ المجلّي في الشعرِ كَشوقي وَمطران وصبري وحافظ ... وَصِدقي وَمعروف ذوي الطرف الغرِّ وَحامل بندِ الشعرِ في وقتنا إلى ال ... فُتوحات بستانيِّنا الذائعِ الذكرِ أَيا قادماً شَهباءنا جئتَ موطناً ... بِزورتكَ اِفترّت ضواحيهِ عن بشرِ

قصيدة جورجي أفندي خياط

وَفيكَ رَأينا اليومَ شخصَ محمّدٍ ... عَلي عزيزِ المشرقِ الطيّب النشرِ أَمولايَ إِن الشعرَ يسكرُ كالخمر ... وَيغني عنِ الدرّ المنضّد في النحرِ فَهذي مَبانيه حكت قطع التبرِ ... وَهذي مَعانيه حكت أُخُذَ السحرِ ولكنّها عَن مدحِ ذاتك قصرت ... ألا استجلها عذراَء تفصحُ عن عذرِ وَدُم يا أَخا العبّاسِ مرتفعِ القدرِ ... عَلى صَرحك العالي يرى علم النصرِ وَلا بَرِحت جَدواك تنهل كالقطرِ ... فَتزجي إِليكَ الشكرَ في النّظمِ والنثرِ قصيدة جورجي أفندي خياط أَيا مَن زار هذا القطرَ أهلاً ... وَسَهلاً فيكَ يا أسمى سريِّ تفاخر فيكَ مصر كلِّ قطرٍ ... أَجل يا نَجلَ توفيق الأبيِّ وَعبّاس الحليم عزيزُ مصرٍ ... أَخوكَ دَعوته بالأريحيِّ فَتىً حَكَم البلادَ بعدلِ كِسرى ... وَأحكَم قبل ضربِ المشرفيِّ لَقد طابَت مَغارِسكم قَديماً ... فَأَنت الفرعُ من أصلٍ زكيّ

وَأَنتَ محمّد للمجدِ تَهدي ... لِذا سمّاك آلكَ بالعليِّ فَسُبحانَ الّذي سوّاك يا من ... يذكّر بِالجمالِ اليوسفيّ وَإِن شِئنا نَقول اليومَ شمنا ... تَباشيرَ الكمال الآصفيِّ أَلا اهنأ يا أَخا العبّاس واصعد ... ذُرى العلياءِ يا أَولى وليِّ وهنا لا أستطيع أن أصف كيف كان تحرّجي في هذا الموقف الضيّق، إذ كنت منه بين عاملين عظيمين يتنازعاني إيجاباً وسلباً: فبينما أرى أنّه من حقّ القوم عليّ أن أحيّيهم وأشكر لهم مجاملتهم ومروءتهم في خطبة مثل خطبهم، قياماً بالواجب المفروض على الإنسان للإنسان من جهة دينه وأدبه، خصوصاً في مثل هذه الظروف؛ وقد قيل من صنع معكم معروفاً فكافئوه؛ وقيل أيضاً من لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ وفوق هذا وذاك قول الحقّ جلّ شأنه: (وَإِذا حُيّيتم بِتحيّةٍ فَحيّوا بِأَحسنَ مِنها أَو ردّوها)، إذ أجد أنّ مقتضى السياسة الحاضرة يحظر على مثلي أن يقف خطيباً في هيئة عامّة كهذا المحفل الكبير، مخافة أن ينقلب الاجتماع من عادي بسيط إلى سياسي محض، فإنّه ما أسرع ما تحيط الظنون والأوهام بالأحاديث التي يلقيها الأمراء والحكّام في المجالس الرسميّة أو الشبيهة بها، ويتناقلها الناس بعضهم عن بعض. وقلّ في الناقلين من لم يشوّه وجوه الأخبار ويمسخ صورها، ومن لم تحمله نزعته على أن يذهب بها وفاق الأغراض والغايات. ولا على مثل هذا أن يفعل غير مبال إذا هو وافق المصلحة العامة أو خالفها، بل إذا ترتب على فعله شقاء أمّة بأجمعها. وكثيراً ما ينتفع سماسرة السوء وأعوان الشرّ من مثل هذه الفرصة، وينتهزونها لإلقاء الدسائس وإثارة الوساوس بما اعتادوه من الشغب وإقلاق الخواطر. ومن العجيب أنّ هؤلاء يستطيعون أن يرتّبوا أخطر الأعمال على أوهن الأسباب،

حلب

ومتى أرادوا أن يحاولوا أمراً من الأمور لا يعدمون له وسيلة ولا يفقدون فيه حيلة. إذن، فماذا عساني أن أصنع ولا محيص من الكلام مع هؤلاء الخطباء الكرام، لاسيما وأن فيهم عطوفة الوالي وقومندان الجيش وأركان الولاية إلى غير ذلك ممّن عرفت أنّه لا يحسن السكوت في إجابتهم؟ نعم، إنّي قمت وأجملت في أقل ما يمكن من الكلام ما كان يجول في نفسي من إظهار عواطفي نحو الجماعة وشكرهم على ما لاقيته من كرمهم ولطفهم. وقلت في ختام مقالتي، بعد أن دعوت الله لهم ولجلالة السلطان، أنّي أرجو لبلدكم هذا مستقبلاً جميلاً في عهد عطوفة الوالي، وأنّكم بهمّته ونشاطه ستبلغون، إن شاء الله، أسمى المقاصد وأعلى المطالب، فإنّه من خير الرجال المخلصين والحكّام العاملين دائماً على سعادة بلادهم وراحة شعوبهم. ثمّ عدنا إلى الفندق مودّعين من لدن صاحب العطوفة فخري باشا بكلّ تجلّة واحترام. وقد بيّتنا النية على الرحلة من حلب في صباح يوم الثلاثاء 2ربيع الثاني سنة 1328. ولابدّ لنا إن شاء الله من ذكر كلمة عن حلب الشهباء وفاء بحقّها، وقد كانت من أجمل بلاد الشام وأعظم مدائنها عمارة وحضارة، لاسيما وقد رأينا من معروف أهلها وودادتهم ما لا ننساه لهم على طول الحياة، وما لعلّنا إذا ذكرنا شيئا منه نكون قد أدّينا الواجب علينا تلقاء ما صادفناه من شهامة هؤلاء القوم ومروءتهم العالية. حلب هذه المدينة واقعة على الدرجة 36 و11 دقيقة و32 ثانية من العرض الشمالي ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر نحو 320 متراً، وهي قائمة في سهل منخفض على حدود الصحراء تحيط بها تلول كثيرة، ويرى حواليها آثار أبنية قديمة تدلّ على أنّ هذه البلد كان محاطاً بسور كبير ضخم، بل إن أثر السور نفسه لا يزال قائماً في بعض نواحيها إلى الآن، وله أبواب عدّة تسمّى بأسماء مختلفة، فمنها باب النصر وباب الفَرَج وباب الجنين وباب أنطاكية، لأنّه قائم على طريق أنطاكية الّتي هي على

تاريخ المدينة

مسافة نحو ستّين ميلاً من مدينة حلب، وباب قنسرين وباب المقام وباب التراب وباب الأحمر وباب الحديد، وفي الجهة الشمالية الغربية يجري نهر قويق، وهو نهر جميل كثير السمك، ويكثر فيه على الخصوص نوع من هذا يسمّى بالثعابين. وهناك يجري نهر آخر يسمّى شالوس وهو ينبع على بعد بضعة أيام من الجهة الشمالية ويصب في مستنقع يبعد عن جنوب المدينة بنحو خمس ساعات ونصف تقريباً. تاريخ المدينة أمّا المدينة فقديمة جدّاً واختلف في بانيها على جملة آراء، منها أنّ حلب بن المهر أحد بني الحان بن مكنف من العماليق هو الّذي اختطّ هذه المدينة وسمّيت باسمه سنة 3990 لآدم، وذلك بعد ورود إبراهيم إلى الدّيار الشامية بمدّة 549 سنة هارباً من راميس ملك أسور، وأن العمالقة كانوا جعلوها حصناً لأنفسهم وأموالهم، بعد أن فتح يشوع بلادهم ولم يزالوا عليها إلى أن أخذها منهم داود، وكثر ذكرها في تاريخ العرب وشعرهم. وهي بما حوت من جمال الجوّ وحسن البقعة وجودة الهواء جديرة بذلك الذكر والإطراء، ثمّ إنّه يحيط بها في ضواحيها المباشرة حدائق غنّاء وبساتين بهيجة، أكثر غرسها من شجر الدلب، وشجر آخر يسمّى لسان العصفور، وشجر الحور الأبيض، وشجر الغَرَب وكذلك النبق والجوز والسفرجل والفستق والزيتون. وهذه الخضرة المتجاوزة حدّ الجمال تبتدئ على بضع ساعات من الجهة الشمالية وتنقسم الأرض في ضواحيها إلى ثلاثة أقسام، الأوّل: الجهة الّتي

يكثر فيها الطمي الرملي من الوادي، والثاني: أرض محمرّة في لون الطوب، وفي هذه الجهة ينبت صنفا القمح والفستق وينجحان نجاحاً مدهشاً، وأحسن ما ينبت الفستق ويفلح إذا كان في الجهات الشرقية حيث كان يستجلبه الإمبراطور قينليوس أحد أباطرة الرومان، في عصر نيرون صاحبه وشريكه في مظالمه المشهورة، النوع الثالث: الطمي الأسود الّذي بمجرّد ما جف يتفكّك كليّة ويتحوّل إلى تراب ناعم، وتستقى المدينة وما يحيط بها من المزارع والبساتين من قسم من ماء نهر قويق ومن قسم آخر يفرق عند وصول النهر المذكور إلى قرية هيلانة، وهي قرية بنتها قديماً الملكة هيلانة أمّ الملك قسطنطين الأوّل. وهذه المياه تصل إلى داخل المدينة وتتوزّع على جملة جهات فيها بواسطة قناة. أمّا الجوّ في تلك الجهة فهو بارد في فصل الشتاء، ويقال إنّه يكثر سقوط الثلج والبرد في هذا الفصل أيضاً، ومن ثمّ لا تعيش هناك أشجار البرتقال. وفي الصيف ترتفع الحرارة وتشتدّ أكثر منها في مدينة بيروت، ولكنّ الهواء جاف تلطّفه كثيراً نسمات الشمال العليلة. ثمّ إن حلب هي مركز الولاية الّتي تشمل الشام الشمالية كلّها، وحدودها تصل إلى نهر الفرات. ويقدّر عدد سكّانها الآن بنحو 200 ألف نفس، والثلثان من هذا العدد مسلمون، والثلث الباقي من طوائف مختلفة، فمنه: 12 ألفاً من الروم ومثلهم من اليهود و 4 آلاف من الأرمن، والباقي بعد ذلك خليط من الأرمن المتحدين والمارونيين والكاثوليك. ويوجد فيها جمعية بروتستانتية للإنجليز وفيها عدّة مدارس اِبتدائية وثانوية، بعضها لطائفة الفرنسيسكان، وفيها أيضاً مدرسة للبنات تديرها راهبات القدّيس يوسف. وعلى مسافة أربعين كيلومتراً من شمال المدينة، يبتدئ خطّ الانفصال بين اللغتين العربية والتركية. ثمّ إن أهل المدينة يتكلمون بالعربية، وهم مع ذلك يجيدون اللغة التركية نطقاً وفهماً أكثر من أهل دمشق، ولعلّ ذلك لأنّهم قريبون من جهة الأناضول. وقد يلاحظ أنّ اللهجة العربية في حلب لا تفترق كثيراً عن لهجات سائر مدن الشام. وعدد الإفرنج فيها أكثر من عددهم في مدينة دمشق، ولعلّ السبب في ذلك هو أن حلب بمثابة مستودع لكثير

من متاجر الأوربيين بحكم مركزها الجغرافي، إذ هي واقعة بين جملة طرق. وقد أخذت هذه المدينة تتحوّل قليلاً عن شكلها الشرقي، وصناعتها الوطنية تكاد تتلاشى في جانب الصناعة الأوربية. ولا سبب لهذا، فيما يغلب على الظنّ، إلا تلك العلاقات الّتي كانت ولا تزال بين هذه المدينة وبين الغرب منذ العصور القديمة. وهي، في مقابل ما تستورده من مصنوعات أوربا وتستجلبه من بضاعتها، تصدّر إليها الأشياء الأوّلية الآتية: وهي الغلال والصوف والقطن (الّذي لا تزال تزداد زراعته سنة بعد أخرى) والعصف والصمغ والسمسم والجلد على اِختلاف أصنافه. ويقال إن صادرات هذا البلد بلغت إلى نحو مليون ونصف من الجنيهات. وقد علمنا أنّ أكثر ما يصنع من الأنسجة الحريرية والصوفية وغيرها يصدّر معظمه إلى جهة الأناضول. ومن تاريخ حلب أيضاً أنّه جاء ذكرها في الآثار المصرية منذ 2000 سنة قبل الميلاد. وقد ذكرها سلمنذار ملك آشوريا، وهو الّذي فتح مدينة سامرا وفرض الجزية على بني إسرائيل، ثمّ محا ملكهم حيث أخذهم وملكهم أسرى في سنة 854 قبل الميلاد وقد قرّب فيها قرباناً إلى الإله حداد وزاد في اتّساعها بعده الملك سيلوكوس نيكاتور. حكم هذا الملك على بابل بعد وفاة الإسكندر وجمع تحت لوائه الشام وأرمينيا والعراق وقسماً من آسيا الوسطى، وهو مؤسّس الأسرة الملوكية الّتي حكمت الشام زماناً وكانت تلقّب باسمه (نيكاتور)، وهو أيضاً الّذي أطلق على حلب اسم بيرواه. وفي سنة 611 بعد المسيح دهمت هذه المدينة بحريق عظيم. ويقال أن إحراقها في ذلك العهد كان بأمر من كسرى الثاني ملك العجم. ثمّ وقعت في أيدي العرب تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح بدون أدنى مقاومة في سنة 145 للهجرة. وذلك أن أبا عبيدة، رضي الله عنه، لمّا فرغ من قنسرين، سار إلى حلب فبلغه أنّ أهل قنسرين نقضوا وغدروا، فأرسل إليها جماعة وسار هو حتّى وصل إلى ظاهر حلب، وهو قريب

منها فجمع أصنافاً من العرب وصالحهم على الجزية ثمّ أسلموا بعد ذلك. وأتى حلب، وعلى مقدّمته عياض بن غنم الفهري، فتحصّن أهلها وحاصرهم المسلمون، فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسهم وحصنهم فأعطوا ذلك، واستثنى عليهم موضع المسجد. ومن هذا الحين أخذت البلد تتقدّم وتزداد أهميّتها. وكانت عاصمة ملك سيف الدولة بن حمدان من سنة 936 إلى سنة 967 ميلادية. وفي سنة 961 استولى عليها البيزانطيون تحت رياسة نقفور ولكن لم يستطيعوا الاستيلاء على حصنها، ثمّ جاءت بعد ذلك الحروب الصليبية. وفي سنة 1114 هدمتها الزلازل. وفي سنة 1124 حاصرها الملك بيدوين، أحد ملوك الصليبيين، ولكنّه لم يتمكّن من الاستيلاء عليها. وفي سنة 1139 عاودتها الزلازل ثانية، ثمّ رجعت ثالثة وكانت في الأخيرة أشدّ منها في الأوليين، وذلك في سنة 1170، فجدّد عمارتها وأعاد إليها سيرتها المرحوم السلطان نور الدين الشهيد. كما أنّه بنى القلعة، ثمّ هدمها المغول تحت رياسة هولاكو في سنة 1260، ثمّ أعادوا الكرّة عليها في سنة 1280. وفي عهد سلاطين المماليك بمصر، كانت حلب عاصمة الشام الشمالية. وفي سنة 1400 خرب المدينة تيمورلنك، بعد واقعة هائلة على الأبواب هزم فيها السوريون شرّ هزيمة. وفي سنة 1516 افتتحها السلطان سليم ومحا آثار سلطة المماليك منها. ومنذ ذلك العهد وهي قاعدة ولاية. وإذا كانت حلب قد استطاعت، على الرغم من كلّ هذه الحوادث المتكرّرة والمصائب المتتابعة، أن تقوم من وهدتها لامّة شعثها رافعة رأسها حافظة لكيانها ومكانها، فذلك إنّما هو بفضل مركزها الجغرافي والتجاري. أمّا مركزها الجغرافي، فلأنّها قائمة على طريق العجم والهند. وأمّا مركزها التجاري، فلأنّ تجارة الحرير والأقمشة والأجواخ والأحجار الكريمة، كلّ هذه التجارات في ذلك البلد نامية زاهرة. وعلى الجملة، فإنّ حلب هذه هي أحسن نقطة في كلّ الولاية. ولذلك اتّخذها أكثر الملوك الفاتحين عاصمة ملكهم. ويقال إنّ جدّنا المرحوم إبراهيم باشا كان قد اتّخذها مركزاً للجنود والعساكر.

بيوت المدينة

بيوت المدينة وقد كنّا نشاهد أثناء مرورنا في طرق المدينة وشوارعها أنّ البيوتات في معظم الجهات مبنيّة من حجارة منقوشة مزخرفة لا فرق في ذلك بين طبقاتها العليا وأدوارها السفلى، وقد أعجبني كثيراً ما رأيته من تلك النقوش البديعة المحفورة في نفس الأحجار بغاية الدقّة والإتقان. ومن ذلك عرفت أنّ لأهل هذا البلد مهارة فائقة وحذقاً عجيباً في صنعة النقش الحفري الّذي يظهر فضل الصانع فيه على الأحجار أكثر مما يظهر على غيرها، فكان ذلك مصدّقاً لما اشتهر عنهم منذ زمان بعيد. ثمّ رأينا في بعض أحياء البلد أبنية حديثة العهد على النمط الأوربي، ولم نستغرب أن نمرّ من شوارع البلد في بيوت على الطراز الجديد وأنّ سكانها أكثرهم من ثراة المسيحيين، وهناك حي آخر يسكنه جماعة اليهود. السفر من حلب وأنه ما كادت تشرق علينا شمس يوم الأربعاء 4 ربيع الثاني سنة 1328 حتّى كنّا تأهّبنا للسفر. وكان قد حضر إلينا جمّ غفير من أهل المدينة، فركبنا العربات من باب الفندق إلى المحطّة. وهناك كان في انتظارنا زحام شديد من المودّعين الكرام، يتقدّمهم جميعاً عطوفة الوالي وأركان الولاية وأصحاب الحيثيات الكبيرة. وبعد أن تبادلنا السلام والشكر، وودّعنا من حضراتهم جميعاً بما لا يتّسع المقام لشرحه من التجلّة والتفخيم، نزلنا في الصالون الخاص وكانت المحطّة لا تزال تموج بالناس موجاً. وما هي إلا لحظة وتحرّك القطار في طريق حمص، وإذ ذاك لا أستطيع أن أعبّر عن سروري وابتهاجي بأولئك الحلبيّين الأفاضل الّذين لم يتركوا في سبيل راحتنا وانبساطنا شيئاً إلا فعلوه. وقد نزل معنا في القطار الوفد الّذي كان قد عين لاستقبالنا

حديث الأمير المغربي

في طرف الولاية عندما حضرنا، وما فتئ ابن البخار يتابع السير على عجل إلى أن وقف على محطّة حماة الّتي كان ينتظرنا على إفريزها صاحبا الوجاهة والفضل، زعيم أسرة الكيلانية الشهيرة ورئيس أسرة الأزهري، مظهرين لنا مزيد الأسف لما فاتهما أوّلاً وآخراً من نزولنا في بلدهم. وقد كانا يودّان كثيراً أن ننزل ضيوفاً عليهما، ولو زمناً يسيراً، فشكرتهما واعتذرت إليهما بضيق الوقت. وفي تلك الأثناء عرضت عليّ جملة خيل من الّتي اشتهرت عندهم بالقوّة والجلد والصبر على احتمال المتاعب والمشاق، فما وجدت فيها ما يروّجها من المحاسن والمميزات الّتي تعشق بها الخيل وتقتنى من أجلها الجياد. وهنا ودّعنا حضرات أصحاب السعادة والفضل، مرعي باشا وقومندان الجندرمة وبقيّة الوفد، وكررنا لهم شكرنا، وعدنا بأجمل الثناء على عطوفة الوالي الّذي بذل كلّ عنايته في إدخال السرور علينا من كلّ طريق. ثمّ تحرّك القطار متّجهاً إلى حمص الّتي وصلنا إليها، دون أن نشعر من هذا السفر بتعب أو قلق، بل كان ارتياحنا إلى تلك المدينة لا يقل عن ارتياح الإنسان إلى مسكنه ووطنه، لما كنّا نجده دائماً من لطف سعادة عبد الحميد باشا الدروبي وكرمه، خصوصاً بعدما تردّدنا على هذه البلد وأوينا إليها مرّة بعد أخرى. وحينما وصلنا إلى المنزل الّذي وصفنا جماله في الدفعة الأخرى، حضر إلينا زائران: أحدهما شيخ كبير من المعروفين في ضواحي حمص بالصلاح والتقوى، والثاني أمير من أمراء المغرب، وهو نجل الأمير محمد المنبهي الّذي كان ناظر الحربية في مملكة مراكش فاستقبلناهما بما يليق بمقامها من الاحترام. حديث الأمير المغربي وما كاد يستقرّ بالأمير مجلسه حتّى أخبرنا عن قصّته في أيّامه الأخيرة، فقال إنّه كان قائداً من قوّاد الروجي الّذي كثيراً ما ألحّ في حرب سلطان المغرب واشتدّ عليه، وأنّه كان من أجل ذلك يحارب في الجملة والده، ضرورة أنّه كان إذ ذاك وزير

الحربية وفي جند السلطان وعسكره إلى أن قال إنّ الروجي كان أرسله إلى السلطان عبد الحميد في مهمّة تخصّه، وبينما كان في إسلامبول لأداء تلك المأمورية، إذ فجع بخبر قتل الروجي في واقعة، فما زال بعد ذلك مقيماً هناك متحيّر الفكر لا يدري ماذا يصنع به، وقد عدم وليّه ونصيره. ثمّ قال: ومن سوء حظّي أيضاً أنّه كان معي في تلك الرحلة ولداي الصغيران وامرأتي، ولما أن ضاقت في وجوهنا أبواب المعاش وأسباب الرزق اضطررنا إلى الهجرة من إسلامبول إلى مدينة حمص. وما فتئنا مقيمين بها إلى هذا اليوم في أحد المنازل الصغيرة. هذا طرف من حديثه معنا. وكان أخبرني سعادة عبد الحميد باشا الدروبي أنّ هذا الأمير رفيع النفس، وقد حاول بعض المحسنين أن يصله ببعض المال فأبى، وما علمنا أنّه نزلت به نفسه وقتاً ما إلى قبول صدقة الناس ولا إحسانهم، وأنّه من وقت أن جاء هذا البلد وعرفناه إلى الآن وهو إنّما يعتاش من فضل مكسبه الّذي يستحصله من كدّه وعمل يده، فاستغربت قصّة هذا الأمير من حديث الباشا وقلت في نفسي: لله هذه العفّة النادرة من رجل غريب في تلك البلاد البعيدة. وإن مثله لو مدّ يده لأهل المروءة واليسار لنال من مالهم ما يجعله في غنى عن الكدّ والكدح طول حياته، لأنّ الناس مدفوعون بطبيعتهم إلى معاونة أمثاله. وفي المجلس ناولني ذلك الأمير عريضة يرجوني فيها أن أتكلّم مع والده في طلب العفو عنه. أمّا أنا فما كدت أقرأ هذا الطلب في عريضته حتّى ارتبكت وتحيّرت في مسألته، إذ لم يكن يرضيني أن يعيش هذا الأمير وهو لا يزال غضّ الشباب تلك العيشة المرّة، ويقضي حياته الطويلة بعيداً عن بلده وأهله وأصحابه متجشّماً مصاعب العيشة، معانياً متاعب الحياة أشدّ ممّا يعانيه الفقراء البائسون. وإنّي لأرأف الناس به وأشفقهم عليه من حين بلغني تاريخه. ومن ذا الّذي يكون في قلبه مثقال ذرّة من الشفقة ولا يتألّم لهذا الأمير أو لا يريد أن يكرمه، وقد أصبح بعد العزّ ذليلاً وبعد الغنى فقيراً، وصار يعدّ من أفراد الناس وعامّتهم بعد أن كان لا يحسب إلا في أمراءهم وسادتهم وعظمائهم وقادتهم؟ ولكن ماذا عساني أن أصنع في مسألته، إذا كان لا يقبل منّة أحد عليه صغيراً أو كبيراً؟ كما أنّه ليس من المستطاع بوجه من الوجوه أن أخاطب والده في طلب العفو عنه بعد أن جرى بينهما ما كان جرى من المحاربة والمخاصمة. وما يدرينا؟ لعلّ في المسألة سرّاً أبعد من

السفر من حمص

كلّ ذلك. فإن والداً يقسو على فلذة كبده إلى حدّ أن لا يفرض له وجوداً طول هذه المدّة، ليس مما ينبني على أسباب بسيطة أو يترتّب على حوادث هيّنة. ولهذا لم أجد لي جواباً سوى السكوت، وقد كنّا بحسن المصادفة مطلوبين لتناول الطعام. السفر من حمص وحين بزغت شمس اليّوم الثاني جهّز لأجلنا أربع مركبات، كان من ضمنها مركبة سعادة عبد الحميد باشا الدروبي الخاصّة وثلاث من مركبات الإيجار، فركبت العربة الأولى ومعي سعادة الباشا المذكور. وركب حضرة عزيزنا أحمد بك العريس ومعه محمود خيري أفندي عربة بعدنا، أمّا العربتان الباقيتان فقد ركبهما اثنان من توابعنا، ومع كلّ واحد منهما بعض المتاع الخاص بنا. وقصدنا إلى طرابلس حيث إنّه لم يمد إلى الآن خط حديدي يربط بين حمص وبين طرابلس ولا يزال المسافرون من هذه إلى تلك يركبون إمّا العربات أو الدواب. وعلى كلّ حال فإنّ السفر في هذا الطريق سهل، بل هو في المعنى أشبه بالفسحة الرياضية لما يصادف المسافر فيه من الأغراس اليانعة والأحراش الجميلة. ثمّ إننا قبل أن نتحرّك ودّعنا سعادة متصرّف المدينة وحضرات الحكام وأكابر القوم الّذين كانوا قد حضروا إلى دار سعادة الباشا لهذا الغرض، وشكرناهم وذكرنا لهم معروفهم في غير مرّة بغير عبارة. وبعد ذلك ابتدأنا السير، وكان أمام عربتنا أربعة من عساكر الجندرمة، وأربعة آخرون مثلهم من خلفنا. وما برحنا نواصل السير في ذلك الطريق حتّى وصلنا إلى سرادق جميل كان قد أعدّه لأجلنا بالخصوص حضرة المفضال محمود بك أحد زعماء مشايخ الدنادشة. وكانت مسافة مسيرنا منذ خرجنا من حمص حتّى وصلنا إلى هذه النقطة لا تبلغ أكثر من نصف ساعة. في الطريق وهناك كان ينتظرنا حضرة البك المذكور مع لفيف من أسرته الكريمة، بينما كان

نحو مائة وخمسين فارساً مصطفّين على خيلهم أمام تلك الخيمة بغاية النظام. وقد كان بين ظهرانيهم فتاتان من بنات العرب مثقلتين بالحلي على لبوسهما العربي اللطيف، وفي إحدى يدي كلّ واحدة منهما سيف وفي الأخرى منديل، ثمّ هما كانتا تغنّيان بين هؤلاء الفرسان لأجل تشجيعهم وتهييج عاطفة الفروسية فيهم. وقد نزلنا من العربات ودخلنا ذلك الصيوان، وبعد أن أخذنا منه مجالسنا قدّمت لنا القهوة ثمّ الشراب. ولم نلبث بعد أن شربناهما إلا مسافة عشر دقائق، ثمّ قمنا فمررنا أمام أولئك الفرسان الّذين كان يركب أغلبهم أفراساً تتبعها أولادها المهارة. وإذ ذاك أخذ العرب الخيالة يتبارون في اللعب ويتغالبون على الخيل، وفي أيديهم بنادقهم على نحو ما يرى في الملاعب والميادين، ممّا يسمّى في عرف العامّة بالبرجاس. وقد خفت حينئذ أن ينفلت رصاصهم على غير عمد فيصيب أحداً، لأنّ بنادقهم كانت من الطراز الحديث، وهي من النوع الّذي لابدّ لإطلاق عبوته الهوائية من وجود الظروف الرصاص فيها أوّلاً. ولذلك طلبت إليهم أن يكفّوا عن الضرب في ذلك الملعب. وفي تلك الأثناء كانت البنتان تدوران حول الخيالة من هنا وهناك، وتترنّمان بأناشيد الحبّ ونغمات الطعن والضرب. فكانتا تنبّهان بذلك الغناء المؤثّر عواطف الفوارس، وتحرّكان فيهم غريزة الحميّة والشجاعة حتّى أخذت الحماسة من نفوسهم مأخذاً عظيماً. وما زالوا كذلك حتّى ركبنا العربات وركب حضرة محمود بك فرساً وسار بجانب عربتنا، وتبعه جميع الخيّالة من خلفنا وأمامنا وعلى جانبينا أيضاً، وهم بين أن يعدوا سراعاً ويعدوا بطاء ويتنوّعوا في ألاعيبهم الحماسية، جرياً ووقوفاً ودفاعاً وهجوماً إلى غير ذلك ممّا لا يدرك وصفه إلا بالرؤية والمعاينة. وقد كنت حين ذاك أعجب بشجاعة أولئك القوم ومهارتهم فوق ما كنت أعجب، وأعجب أيضاً من أبناء الأفراس الصغار الّتي كان عمرها في الغالب لا يزيد عن أسبوعين، ومع ذلك كنت أشاهدها تتبع أمّهاتها في تلك المسافات البعيدة على هذا السير الحثيث، وتتحمّل مشقّة السفر والجري. وقد أخذتني بها من أجل ذلك رأفة شديدة، فطلبت من أولئك الراكضين أن يخفّفوا السير ويتئدوا لكيلا يشقّوا على تلك المهرات المساكين، وهي في ذلك السن الصغير. ثمّ ما فتئوا يركضون على طول المسير ويلعبون بأعظم مهارة وأكبر حذق. وكان فيهم فارس كبير السن يلبس ملابس دندشية قديمة يسمى

حادثة في الطريق

عثمان آغا، وهو يمتاز عن إخوانه بحب الظهور عليهم في الفروسية وخفّة الحركة. وحقيقة، كان هذا الفارس العجيب يبدي أمامنا من ضروب المهارة في الغدوّ والرواح والصعود والهبوط على الصخور الجبلية ما كنّا نعجب منه غاية العجب، وكذلك كان له حذق غريب في عبور النهر وهو فوق حصانه الّذي كان يعدو تارة في الأرض وأخرى في الماء، أسرع من الطير وأخفّ من الهواء، حتّى استغربنا أيّ استغراب من جسارة هذا الرجل الفارس وجراءته المدهشة على ركوب الخيل بتلك الكيفيّة التي كانت فوق التصوّر. وما زلنا كذلك حتّى دخل بنا الطريق في مضايق بين جبلين، فكنّا بين أن نصعد مسافة على فوق ونهبط أخرى إلى تحت. وكان لا يزال على جانب عربتنا حضرة محمود بك، وهو ممتلئ رجولية وشهامة، لاسيما وأنه طويل القامة عظيم الشارب كبير الأهداب، تتجلّى فيه الفروسية بأخصّ أوصافها وأجلى معانيها، وهو مع ذلك مهيب وقور. حادثة في الطريق وقد حدث في أثناء السير أنّ فرساً من أفراس الركب، لا أدري لمن، كان ضرب فرس ذلك البك في ذراعه الأيمن، فجرحه جرحاً بليغاً ما زال يشخب دماً حتّى صبغ ساق ذلك الفرس المجروح بالدم فاحمرّ، بعد أن كان أزرق اللون. وقد خفت على هذا الفرس المصاب أن يهلك تحت راكبه لأنّ الجرح كان خطراً، حيث كان النزيف مسترسلاً بقوّة. ومن ثمّ طلبت إلى محمود بك أن ينزل عنه إشفاقاً عليه ورحمة به. أمّا هو فما كان ليهمّه أصلاً أن يموت الفرس أو يعيش، ما دام في صحبتنا وضمن رفاقنا، حتّى قال حفظه الله ما معناه: إنّي لأجعل فداءك نفسي، وما فرسي بأعزّ عليّ منها. ثمّ تأخّر عنّا نحو دقيقة، وقد كنّا حسبنا أنّه نزل عن الفرس، ولكنّه ما لبث أن جاء إلى جانبنا كما كان، ورأينا أن ليس على فرسه أثر الجرح ولا ذلك الدم الّذي رأيناه وقت الحادثة، وكان ينزف نزيفاً. ففهمنا أنّه كان في تلك المسافة الصغيرة يعالج الفرس، ولكن لست أدري بماذا عالجها، وأي دواء يصل مفعوله من السرعة إلى هذا الحد. وقد عرفت أنّ بعض الفرسان المهاجمين كانوا من أبناء البكوات

الدنادشة، وهم أحداث تتراوح أعمارهم بين السابعة والعاشرة، ومع ذلك فإنهم كانوا يحسنون الركبة مثل ما يحسنها آباؤهم وكبارهم. كما كانوا يتقنون اللعب ويتفننون فيه كأنّهم مارسوه من زمان كبير. ولا بدع أن يكونوا كذلك، إذ قد تربّوا على الشجاعة منذ نشأتهم واعتادوا على الفروسية وركوب الخيل بكثرة التدرب والتمرين. ثمّ دخلنا في ميدان فسيح، وكان لم يمض على سيرنا أكثر من ثلاثة أرباع الساعة. وهناك كان ينتظرنا عدد كبير من الخيّالة، ومعهم البكوات الباقون من عشائر الدنادشة، فاجتمع الفريقان وصاروا ركباً واحداً. ونحن لا نفتأ نتابع السير حتّى وصلنا إلى تل كلخ، وهو واقع في الحدود الفاصلة بين ولايتي بيروت ودمشق، وفي آخر حدود الدنادشة. وإذ ذاك كنّا قد دخلنا في وقت الظهر وحان ميعاد الغداء، فذهبنا إلى بيت حضرة محمّد بك محمد وهو زعيم مشايخ عربان الدنادشة، ونزلنا عليه ضيوفاً، بعد أن طلب إلينا ذلك بإلحاح الكرماء. وكان ينتظرنا هناك بعض مستخدمي الحكومة. وقد قدّم إلينا الطعام على مائدة كبيرة تسع عشرين نفساً، وكانت على النمط الأوربي، وفيها ألوان عديدة وأصناف كثيرة متنوعة، فأكلنا متلذذين من حسن الطعم وإجادته. أمّا الركب الّذي كان معنا، وقد عرفت كثرتهم، فقد كانوا يأكلون جميعاً موزّعين على عدة موائد وطعامهم كان قاصراً على الأرز واللحم، ولم يكن ذلك ليدهشني لأنّي لا أستغرب أن يجتمع على موائد هؤلاء العرب عدد كبير كالّذي رأيناه أو أكثر. وأنا أعلم أنّ العرب قوم جبلوا على الكرم وطبعوا على البذل والسخاء، وإنّما الّذي كنت أعجب منه عجباً شديداً هو تجهيز مائدة على الطراز الغربي الصرف، وأنّ القوم عرب شرقيّون من سكان الجبال. ثمّ بعد أن تهيّأنا للسير، شكرنا لحضرة محمد بك محمد تلك العناية العظمى، وأثنينا كذلك على عشائره الكرام لما بذلوه من الهمّة والمعروف. وقد اجتذبني إلى هؤلاء العرب جمال هندامهم وحسن بزّتهم. وكان بودّي لو أن تطول عشرتي بينهم لأتمتّع كثيراً برؤية منظرهم الجميل لولا أنّ الوقت قصير محدود، على أنّي لم أبارحهم حتّى عمدت إلى أخذ صورتهم بواسطة الفوتوغراف، لأحتفظ بها تذكاراً لهم على طول الزمان. وبعد ذلك أخذنا نسير بين الفرسان على الهيئة الّتي بيّناها أولاً. وإنّي على قدر ما كنت فرحاً مسروراً بهذه المظاهرات الجليلة، كنت آسفا من أنّي راكب عربة

استطراد في السياحة

ولم أكن فارساً ضمن أولئك الفوارس الشجعان فأركض فرسي لتعدو سريعة في ذلك الميدان. وكان يكثر نزوعي إلى مباراتهم كلّما كنت أنظر إليهم فأشاهد خفّتهم على الأفراس، وهم يذهبون بها هنا وهناك، تارة يهيجون وأخرى يدافعون وآونة يسرعون وأخرى يبطئون. استطراد في السياحة يسافر الإنسان إلى أقاصي البلدان ويرحل عن وطنه أحياناً لباعث مخصوص وقصد معلوم ثمّ يتّفق أن يعترضه في طريق رحلته شيء أو أشياء كثيرة لم تكن لتدور من قبل في خلده أو تخطر له ببال، ثمّ كثيراً ما يصادف أن يكون بعض الشيء من ذلك هامّاً خطيراً إلى درجة أن ينسى معه الإنسان غرضه الذاتي. وربّما لم ينسه ولكن يهمله إهمالاً، ويعنى بذلك الشيء العارض، ويحصر كلّ عمله فيه. وهكذا تتفاوت الأمور وتتباعد مراتبها، وكلّ أمر يأخذ من عناية الإنسان واجتهاده بقدر أهميّته في نفسه أو مركزه من الفائدة والمنفعة، في اعتقاد صاحب العمل. وقد قيل: احترام كلّ شيء إنّما يكون بقدر الحاجة إليه. عرف القارئ من مجمل ما تقدّم بالضرورة أنّ سياحتنا في بلاد سورية كان القصد منها، أوّلاً، يدور حول ثلاثة أغراض لا يخلو منها جملة مسافر في الغالب. الأول: تبديل الهواء طلباً للصحّة والعافية، الثاني: مشاهدة معالم المدن الشهيرة في سهول الشام وعلى جبال لبنان، الثالث: الاطّلاع على كرائم الخيل العربية والشامية الّتي تمتاز بها هذه البلاد منذ العصور القديمة. وقد كان هذا المقصد الأخير من أهم بواعث السفر وأعظم أسبابه. ولقد بحثنا جهدنا ونقّبنا آخر ما كان يمكننا عن تلك الخيل، لعلّنا نصل منها إلى غايتنا، فلم يتّفق أن نرى في نتيجة هذا البحث سوى الخيل العادية التي لم تطابق رغبتنا، ولم تكن لتمتاز في نظرنا بوجه من الوجوه. ذلك كان على الرغم من أنّ الصدفة خدمتنا كثيراً في هذا الموضوع وساقت إلينا، فيما ساقته من ذلك النوع، أكثر ممّا سعينا إليه، وتعرّفناه بأنفسنا في غير مرة وغير مكان. هذه كانت مقاصدنا الذاتية وأغراضنا الجوهرية الأولى. ولكنّنا صادفنا، في غضون السياحة، من أخطر

الأمور وأجلّ الأعمال ما اتّفق أن نجده في طريقنا عرضاً، ممّا لا نرى في استطاعتنا بيانه على وجهه بأكثر من أن نخيل القارئ في هذه الرحلة، فيرجع إليه رجوعاً خاصّاً ويدركه حينئذ واضحاً مفصّلاً في مواضعه بالأسباب والمناسبات، وما كنّا لنورده اقتضاباً. وإن الحديث يتفرّق بالإنسان شعبه ووجهه، ويتشبّث بعضه ببعض. وأراني بحمد الله قد استفدت من تلك الأمور على ما فيها فوائد جمّة، ما كان أشدّ حاجة مثلي إليها. وإنّه ما كان يتيّسر لي بحال أن أستفيدها جملة وأنتفع أو أنفع بها أبداً إلا من هذا الطريق، طريق الصدفة العجيبة الّتي أكثر ما كانت تفاجئنا على غير حساب سابق وموعد متقدّم. وربّ صدفة خير من ميعاد. ولولا أنّ وقتي الّذي حتمته المقادير لهذه السياحة كان شهراً واحداً، وهو وقت قصير بالقياس إلى ما كان يلزم للتجوّل في مناكب الشام الواسعة وجوانبها الشاسعة، لكنت استفدت أكثر من ذلك كثيراً، ولكانت تكون رحلتي هذه كتاباً ضخماً يحوي في طوايا صحائفه مجموعة صحيحة صريحة من أنواع متفرّقة وفنون متنوّعة. أمّا ما كنت شرحته من حياة القوم الاجتماعية وأخلاقهم وآدابهم وشجاعتهم وسياستهم فإنّه لم يكن بالشيء القليل ولا بالأمر الغامض، بل لعلّ فيما ذكرته من هذا القبيل كفاية لمن أراد أن يعرف على وجه الإجمال ماذا كان تكوين ذلك الشعب الشامي الجليل، وما هي أحواله العمومية، أو أراد أن يفهم كيف كان شأني فيما بينهم من أوّل السفر إلى أخره، خطوة خطوتها في أرض تلك البلاد. نعم، إنّ الظروف الّتي وجدت فيها كانت تأبى عليّ في غالب الأحيان أن أجتمع إلا بكبار القوم وخاصّتهم، ولهؤلاء صفات وشمائل لا توجد في مطلق الناس. وعلى الرغم من أنّي كنت أتحيّن الفرص، من وقت إلى آخر لكيما أختلط بالعامّة وأمارسهم شأن من يهمّه الوقوف على المبادئ والعادات، لم يصادف أن يجتمع لي وقت كاف أو تتيسر لي معهم ممارسة طويلة، إنّما كنت أختلس بعض الزمن وأجد منهم ذلك غراراً مثل حسو الطير ماء الثماد. وإنه ليصعب مع هذا جدّاً أن يحيط الإنسان بتفصيل موضوع أخلاقي في مجموعة كبيرة تختلف من وجوه كثيرة، وأن يلمّ من ذلك بما لو أراد أن يعطيه

للمستفيد موضوعاً وافياً ودرساً كافياً تحت عنوان أخلاق الشعب وعوائده، لجاء فيه على الكفاية من كلّ شعبه وأطرافه، لاسيما وأنّه موضوع دقيق يحوج إلى نظر ورويّة، ريثما يدعو إلى عشرة طويلة واحتكاك عظيم. ولعلّ الحاكم بعد ذلك على أخلاق القوم وعوائدهم يغلب الحكم عليهم تغليباً، أو يبني رأيه على القياس. وهو على كلا الحالين لا يتجاوز موقف الظنّ، ولا يتعدّى وجه الشكّ في كلّ الّذي يدّعيه، إيجاباً أو سلباً. غير أنّ ذلك لم يكن ليحول بيني وبين ما أردته من تعرّف عامة الشعب الشامي ودرس أخلاقهم على وجه الإجمال بالقدر المستطاع، ممّا عساه أن يعود ببعض الفائدة، وما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه. وذلك بالطبع كاف لمن كانت مدّة سفره ذهاباً وإياباً شهراً واحداً، بل هذا ما لا يطمع في أكثر منه إلا من كان ينقطع للشيء، لا يفرغ منه حتّى يتغلغل فيه ويحيط بجميع أطرافه وحدوده. وعلى ذلك، إذا نحن ادّعينا الآن ما ادّعيناه أوّلاً من أن الشاميّين في مجموعهم قوم حميدو الخصال، رقيقو الشمائل، فيهم وداعة ولطف وسماحة، لا نكون قد أكبرنا الدعوى أو أعظمنا الحكم. ثمّ نحكم، ونحن مطمئنون، بأنّ أخلاق الخاصّة منهم وأحوالهم غاية في الرقي والكمال. ونخصّ بالذكر، من بين هؤلاء جميعاً، ذلك المفضال الأكرم والسري الكبير الأفخم، سعادة عبد الحميد باشا الدروبي الّذي كان قد انتهى دوره معنا في تل كلخ، بعد أن طلبنا إليه أن يعود مع سلامة الله إلى بلده حمص، وما كان يريد إلا أن يرافقنا إلى طرابلس، مجاملة منه ولطفاً فوق لطفه السابق ومعروفه الكبير. ولكنّي أبيت عليه إلا أن يرجع لمباشرة مصالحه الّتي غاب عنها منذ استقبلنا حتّى صرنا في تل كلخ. وهو، في تلك المسافة كلّها، كان يلازمنا ملازمة الظلّ للشاخص، فما كان يبارحنا ولا طرفة عين إلا إذا اقتضته إلى ذلك ضرورة من نوم أو خلافه. وقد كان مع هذا رجلاً كبير السنّ، يشقّ عليه السفر وتتعبه كثرة الحركة والركوب. لذلك على الخصوص، أشفقت عليه وما زلت به حتّى ودّعنا وعاد بالصحة والسلامة، تاركاً في قلوبنا أعظم حبّ ووداد.

السفر من تل كلخ

السفر من تل كلخ وبعدئذٍ قدّمت لنا عربة سعادة عمر باشا الخاصّة الّتي كانت تنتظرنا في التل، فركبناها وركب معنا حضرة عزيزنا أحمد بك العريس. وكان أمام عربتنا، ومن ورائها، ثلّة من عسكر الجندرمة على الترتيب الّذي أسلفناه. وكان، خلف ركابنا مباشرة، عربة حضرتي الفاضلين علم الدين بك وشقيقه اللّذين جمعنا بهما حسن الحظّ في ذلك الموضع، وهمّا يقيمان الآن في مدينة طرابلس في جهة الميناء. وقد كانا قبل ذلك في مصر، ولهما نسبة خاصّة بالبيت الخديوي، منذ حياة المغفور له، ساكن الجنان، والدنا. ولذلك كان لعلم الدين هذا أمل وطيد في أن نكون ضيوفه مدّة إقامتنا في بلدهم، حتّى أنّه ألحّ كثيراً في دعوتنا إلى ذلك ولكنّنا كنّا أجبنا سعادة عمر باشا العكاري، الّذي كان قد سبقه بالدعوة، وهو الرأس الأكبر في قبائل العكاكرة والزعيم الوحيد الّذي إليه الرجع في شؤونهم وأمورهم. فلم يبق في الوسع إذ ذاك سوى الاعتذار إلى علم الدين بك العذر المقبول، غير أنّه أبى مع هذا أيضاً إلا أن نتناول لديه طعام الغداء قبل مبارحة طرابلس. وقد أجبناه، حيث لم يكن ثمّت مانع، وشكرنا معروفه. ثمّ كان وراء عربتهما عربات أخرى يركبها أتباعنا مع المتاع. فسرنا تكلؤنا رعاية الله وتحوطنا عنايته، بينما كان الفرسان المتسابقون يحيطون بركابنا من جميع الجهات. وما برحنا بين هؤلاء الجموع ننحدر على طريق التلّ، والمناظر الطبيعية البديعة كانت حولنا، في طول ذلك الطريق المنحدر وما بعده، من أبهج ما نظرته العيون وانتعشت به الأرواح، إلى أن بدت لنا معالم طرابلس، قائمة على شاطئ البحر. وكنّا، ونحن سائرون، نستنشق في نسمات الشمال روائح ذكية تفوح علينا من أزاهير اللارنج والبرتقال، على مسافة ساعة من البلد تقريباً. وعندما كنّا والمسافة بيننا وبين المدينة تقرب من نصف الساعة، وجدنا في استقبالنا جمهوراً عظيماً من فرسان العكاكرة، حيث كانوا ينتظروننا في تلك الجهة، وعلى مقدّمتهم ذلك البطل الباسل سعادة عمر باشا العكاري، ممتطياً جواداً أزرق اللون محكم

بيت عمر باشا

الخلقة، فجاء إلى جانبنا وتبعه قومه، فالتقى الجمعان على هيئة الجيشين يلتقيان في ساحة الوغى وميدان النزال. ومن ذلك الحين، أخذ الاحتفال صورة جديدة ومظهراً رهيباً مهيباً. وقد استمرّ بنا السير على تلك الحال حتّى ترجّلنا عن مركباتنا عند بيت خارج المدينة، وهو منها على مسيرة بضع دقائق. إذ كان قد خرج عن البلد لاستقبالنا في ذلك البيت سعادة عاكف بك، متصرّف مدينة طرابلس في مقدّمة عدد كبير من رجال الحكومة وأعيان المدينة وعلمائها ووجهائها. وهناك مكثنا بعد أن تصافحنا وتبادلنا السلام والتحيّة، ريثما تناولنا القهوة والمرطّبات اللذيذة. وفي تلك الأثناء تقدّمت إلينا كريمة سعادة المتصرّف وأهدتنا باقة ورد جميلة، كانت تحملها بيدها اليمنى لذلك الغرض، فتقبلناها منها بقبول حسن وشكرنا لها هديّتها، كما شكرنا لوالدها وجميع الحاضرين إذ ذاك عنايتهم وكرمهم. ثمّ عمدنا إلى عربتنا وانتظم الموكب كما كان أو أحسن، نسير من ذلك المكان بين صفوف الألوف من أهل المدينة والضواحي الّذين كانوا يختلفون بين رجال ونساء وكبار وصغار، وكلّهم كانوا يتزاحمون على رؤيتنا ويتسابقون إليها، على نحو ما يشاهد في الاحتفالات الكبيرة الّتي تشهدها الناس ويجتمعون لها من قريب وبعيد، حتّى كان يخيّل إلينا وقتئذ أنّنا نمرّ في حفلة المحمل المصري. وكذلك كان سيرنا طول المسافة حتّى وصلنا إلى بيت صاحب السعادة عمر باشا الّذي كان قد سبقنا إليه ليستقبلنا عنده هو وشقيقه وبقيّة أسرته الكريمة الّتي كانت كلّها من ذوات الرتب السامية والألقاب العالية. وقد وجدنا عند مدخل البيت من حفاوتهم وترحيبهم ما أنطق ألسنتنا بالثناء الجميل على أفراد هذه الأسرة الفخيمة من رأسها إلى ذنبها. بيت عمر باشا أمّا البيت فكان من أبدع البيوتات منظراً وأجملها موقعاً وأحسنها ترتيباً ونظاماً، وقد زاده بهاءً وحسناً ما كان عليه من الزخرف والزينة. وهو قائم في ناحية من المباني عن وسط ميدان واسع، يرى من ورائه هيكل البلد في أحد قسميه قائماً على تلّ مرتفع، وإنّه ما كان تمرّ لحظة وتأتي بعدها لحظة أخرى، حتّى كنّا نحسّ من أنفسنا

بفرح مزيد وسرور جديد وارتياح ونشاط. سبب هذا ما كنا نشاهده، آناً بعد آن، من حسن وفادة القوم وإخلاصهم الّذي كان يتجلّى مثل فلق الصبح في أقوالهم وأفعالهم. نعم، إنّي لا أزال أذكر معروف هؤلاء الأفاضل، زعماء العكاكرة وسادة قضائهم، فأشكرهم عليه دائماً أبداً. ثمّ ما كدنا نجلس في ردهة الاستقبال وتستقر بنا مواضعنا، حتّى توافد علينا جميع الأعيان والحكّام والعلماء والرؤساء الروحيّين، فسلّمنا عليهم وشكرنا لهم تكرر المقابلة، وتبادلنا بعض الأحاديث جرياً على العادة. ثمّ صعدنا إلى غرفتنا الّتي خصصنا بها في هذا البيت، وحينئذ أشرفنا من النافذة لنرى ما كان يحيط بنا من الزحام الهائل. وإذا بذلك الميدان الفسيح، الّذي يبلغ بأقل تقدير ثلاثة أضعاف ساحة عابدين في مصر، كان مكتظّاً بالناس إلى حدّ أنّ أحدهم كان لا يجد في الأرض أكثر من موضع قدميه، ولا في الفضاء ما كان يسعه يحرك رأسه. بل لم أبالغ إذا أنا قلت كما تقول العامّة في أمثالهم المشهورة (ترش عليهم الملح ما ينزلشي). وبعد أن تناولنا الطعام الشهي على مائدة سعادة الباشا واسترحنا قليلاً، قصدنا إلى الحديقة العمومية في هذا البلد حيث كان دعانا سعادة المتصرّف لتناول الشاي فيها. ولقد رأيناها مزدانة مزخرفة، وكانت الطرق الّتي سلكناها إلى تلك الحديقة غاصّة بالأهالي إلى درجة لم تعهد إلا في الاحتفالات العظيمة، وما كان منهم من أحد إلا وكنت أشاهد السرور يتألّق على وجهه. وقد لبثنا هناك نتحدّث، نحن وأصحابنا، في شؤون عامة إلى أن شربنا الشاي وتناولنا ما لذّ وطاب ممّا كان أعدّ على تلك المائدة الشائقة. وأطلقت أمامنا الألعاب النارية الجميلة، وعزفت الموسيقى بالسلام، وتمّت الحفلة فوق ما يرام. ثمّ عدنا إلى بيت سعادة الباشا، وأقمنا فيه ليلتنا مستأنسين بحديثه وسمره، مسرورين مبتهجين بما رأيناه من سامي عناية القوم ولطفهم. وحين ظهرت شمس اليوم التالي وكان يوم جمعة، نمى إلينا ونحن في البيت أنّ خيلاً كثيرة وجمالاً عدّة آتية لأجلنا من ناحية الجبال، عليها فوارس عكار بمزاميرهم، وجمهور من بنات العرب غفير. وما لبثنا أن رأيناهم جاؤوا في الميدان، وكان يلتف بهم عدد كبير من أبناء البلاد. ثمّ شرعوا يزمرون ويلعبون أمام البيت في ذلك الميدان الرحيب الّذي غصّ بهم حتّى لم يبق فيه متّسع لغيرهم، بينما كان معظم أهل المدينة فوق التل يشرفون منه ومن البيوت على

مسجد طيلان

ألاعيب أولئك العرب الخيالة ونسائهم، وينظرون مهارتهم المدهشة في المغالبة والمضاربة بالجريد والمراح، هجوماً ودفاعاً وكراً وفراً. وحقيقة، كان هؤلاء الفوارس مهرة حذاقاً يحسنون اللعب على متون الصافنات الجياد بمختلف أنواعه وأشكاله. وقد كان بين أظهرهم ثلاثة فرسان ظهروا على الكلّ وامتازوا بالخفّة والبراعة، فكان لهم فوق ما كان للجميع من العجب والاستحسان. واستمر الحال كما وصفنا حتّى قربت صلاة الجمعة. وحينئذ تأهّبنا لها وذهبنا، ومعنا سعادة المتصرّف وبقيّة أصحابنا إلى الجامع الأكبر المسمّى بجامع طيلان. مسجد طيلان هذا الجامع واقع في الجنوب الغربي من المدينة فأدينا الفريضة فيه. وكنّا نلاحظ أنّ المسجد على اتّساعه العظيم، كان غاصّاً بالناس. بل رأينا أنّ كثيراً منهم كانوا يصلّون خارجه لضيقه عليهم. ثمّ عمدنا إلى زيارة المخلفات المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فقبّلناها مراراً متبركين بها لنسبتها الشريفة، بينما كان رجال من أهل الطريق يقرؤون الأدعية والأوراد بصوت جهوري. ومن هناك خرجنا مشاة في أوّل السبيل، والناس مصطفّون على حافتي الطريق كأنّهم بنيان مرصوص، وأقدرهم إذ ذاك الّذي كان يظفر برؤيتنا ويظهر عليهم فيها. ثمّ جيء إلينا بالعربات تشق غمار المحتشدين وتأخذ طريقها من بينهم غصباً، فركبناها وقصدنا بيت حضرة الفاضل علم الدين بك لتناول طعام الغداء عنده، إجابة لدعوته السابقة. وهذا البيت كان في الميناء الّتي يوجد فيها جزء عظيم من المباني، لأنّ المدينة التي يطلق عليها اسم طرابلس تتألّف من الأبنية الواقعة على شاطئ البحر ومن تلك الأبنية الّتي ذكرنا أنّها على الهضبة بالقرب من بيت عمر باشا العكاري. وبين التل والميناء مسافة ربع الساعة تقريباً بمسير العربات، ويربط بينهما خط الترام العريض في طريق جميل يجد فيه المسافر على اليمين واليسار بساتين كثيرة وحدائق غنّاء، غرسها في الغالب من شجر اللارنج والبرتقال الّذي كان يملأ الجوّ بعبير زهره الفيّاح، وقد عرجنا في هذا

طرابلس

الطريق على بيت جناب القومندان فزرناه وشكرنا له همّته وجميله. وبعدما أكلنا هنيئاً وشربنا مريئاً لدى حضرة علم الدين بك، قصدنا إلى مياه الميناء، ومنها نزلنا حتّى وصلنا إلى إحدى بواخر الشركة الخديوية. وقبل ذلك كنّا ودّعنا أصحاب السعادة: المتصرّف وعمر باشا وأخاه وغيرهم ممّن كانوا يرافقوننا في تلك المرّة، وشكرنا لهم جميعاً معروفهم ومجاملتهم مدّة إقامتنا عندهم. وحينما وصلنا إلى الباخرة وجدنا فيها خدمنا مع المتاع، حيث كانوا قد سبقونا إليها. وبعد بضع دقائق من نزولنا، أقلعت على بركة الله، وكانت الساعة وقتئذ اثنتين ونصفاً بعد الظهر. وممّن كان نزل معنا حضرة علم الدين بك وشقيقه، لمناسبة أنّ الأوّل كان مندوباً من قبل الشركة من جهة، ولكي يجد من مرافقتنا في طريق البحر إلى بيروت عوضاً له ممّا فاته من تلك الضيافة الّتي كان ألحّ علينا فيها إلحاحاً، وهو يتمنّاها من صميم فؤاده. وبعدما تحرّكت الباخرة ذهبت منّي اِلتفاتة إلى الشاطئ فوجدت على بعد بعيد سعادتي الفاضلين عمر باشا العكاري وأخاه آتيين إلى مرسى السفينة بسرعة يظنّ منهما أنّهما كانا يقصدان مرافقتنا في هذا السفر، ولكنّا كنّا قطعنا مسافة طويلة، وبهذا السبب لم يدركا غرضهم. اوعلى كلّ حال، فإنّي شاكر لهما هذه الهمّة القعساء والمروءة الشمّاء. أمّا وقد وصلنا إلى هنا فلابدّ لنا من كلمة على طرابلس حيث هي من المدن الكبيرة والمراكز الشهيرة. طرابلس هي مركز أحد ألوية ولاية بيروت، وعدد سكّانها 39 ألف نسمة، يبلغ عدد المسلمين منهم نحو 24 ألف نفس، والباقي من طوائف مختلفة، أغلبهم من الروم الأرتدكس. ويوجد في المدينة 14 مسجداً ومعبد لليهود و14 كنيسة للمسيحيين، لكلّ مذهب عدد يخصّه. ثمّ إن للراهبات الفرنسيات ملجأ للأطفال ومدرسة للبنات، وللقسس الأمريكيين مركز للتبشير ومدرسة. ويقال إنّ فيها للمسلمين مكتبات جميلة. أمّا تجارتها فقد كانت نامية رابحة، ولكنّها أخذت في الضعف والانحطاط منذ تمّت السكة الحديدية بين حماة وريّاق. ويقال إن الواردات من

تاريخ طرابلس

الأقطان والمصنوعات قد بلغت نحو عشرة ملايين وسبع مائة ألف فرنك، وأنّ الصادرات من الغلال والصوف والحرير والصابون والإسفنج بلغ تقريباً من سبعة ملايين ومائة ألف فرنك. وأهم ما فيها من الصناعات صناعة الحرير الّتي اشتهرت منها جدّاً المناطق الحريرية، وكذلك صناعة الصابون، حتّى إنّ الباعة يروّجون بضاعتهم من هذين الصنفين بنسبتها إلى طرابلس. أمّا ضواحيها فخصبة التربة جيّدة المعدن، وفيها كثير من شجر الزيتون والبرتقال والليمون وشجر التوت، وهو أكثر من كلّ المغروسات لتربية دود الحرير. وفيها أيضاً يزرع الدخان الّذي لا تزال زراعته تتقدّم شيئاً فشيئاً. تاريخ طرابلس لم يعلم إلى الآن ما هو الاسم القديم الّذي كان يطلقه الفينيقيون على مدينة طرابلس. وقال بعض المؤرخين إنّه يغلب على الظنّ أنّ بناء هذه المدينة لا يتجاوز سبع مائة سنة قبل الميلاد. وهي باعتبارها مدينة من مدن الجمهورية الفينيقية لم يظهر عليها أنّها كانت شغلت مركزاً مهمّاً في تاريخ تلك الجمهورية. ويقال إنّها بنيت في ذلك الوقت على شاطئ البحر. وقد بنى فيها الأشوريون والرومانيون بعد ذلك مباني فخمة، تكون منها إذ ذاك جمال المدينة وحسنها. ولكن الزلازل الّتي توالت عليها خرّبتها ولم تبق شيئاً يذكر من آثار العمائر الجميلة. وقد فتحها المسلمون بدون مقاومة منها مطلقاً. ثمّ توالت عليها حوادث الحروب الصليبية وغيرها، كما تعاقبت عليها مصائب طبيعية كثيرة. وهي تتألّف كما قلنا من قسمين، قسم الميناء البحرية وقسم المدينة الداخلية الّتي بناها المسلمون واِزدادت عمارتها وكثر عدد سكّانها في القرن السادس عشر. وقد اشتهرت طرابلس فيما بين الناس بأنّها مدينة غير صحيّة بسبب ما يظهر فيها من الحميات، مع أنّ هذه الأمراض لا تظهر هناك إلا قبيل فصل الخريف، وهي مع ذلك قليلة الخطر جدّاً. وتسمّى هذه المدينة عند أهلها بدمشق الصغرى، وشوارعها مرصوفة مرصوصة بالحجارة، وعليها أقبية وعقود يذكّر منظرها بالقرون الوسطى. وفيها سوق للحرير الّذي يصنع بها، وعدد كبير من الخانات،

الوصول إلى بيروت

وأجملها كلّها خان الصاغة. وأحسن موضع يرى منه الناظر جمال طرابلس في مجموعه هو القصر الحصين المبني على الجبل المقابل لها. ويقال إنّ الّذي شيّد هذا القصر هو الكنت ريموند ديسانجيل، ويسمّى عند المسلمين إلى الآن ساندجيل. ويوجد خارج المدينة غابة من أشجار الفاكهة، عظيمة المساحة جميلة المنظر. أمّا المدينة البحرية، فإنّها قائمة على لسان داخل في البحر، تحيط بها عدّة أبراج قديمة. وعدد سكّانها يبلغ خمسة آلاف نفس تقريباً، وهذا العدد محسوب من جملة العدد المتقدم. هذا، وقد قدّرنا المسافة من طرابلس إلى ميناء بيروت بنحو أربع ساعات، قضيناها كلّها والحمد لله في راحة تامّة وسرور عظيم، لأنّ سير السفينة في طول هذا السفر كان قريباً من الشاطئ. وناهيك بمنظر الطبيعة البديع الّذي كنّا نشاهده على الساحل من شاطئ البحر إلى جبال لبنان، فقد كان من أحسن ما اتّفق أن يراه الإنسان في بلاد الجمال. الوصول إلى بيروت وصلنا إلى بيروت حيث كانت الساعة ستّاً ونصف بعد الظهر تقريباً، فوجدنا في اِستقبالنا على المرفأ حضرات أصحاب السعادة والفضيلة رجال الحكومة، يتقدّمهم دولة الوالي ثمّ العلماء والرؤساء الروحيّون فالأعيان والوجهاء. وبالجملة، فإنّ الاحتفال كان بالغاً حدّ الأبّهة والوقار، لا ينقص عمّا في المرّة الأولى، إن لم يكن قد زاد أمراً معنوياً، هو ما كان يدور بين القلوب من المحبّة والإخلاص. وبعد أن تبادلنا السلام والتحيّة، ركبنا قاصدين إلى الفندق الّذي كنّا نزلنا فيه أوّل مرّة. ولم يمض علينا إلا قليل من الزمن حتّى توافد إلينا جميع الّذين كانوا ينتظروننا على مرسى السفينة، فاستقبلناهم شاكرين لهم ما أبدوه نحونا من العناية واللطف. وكان من ضمنهم وفد من التلاميذ المصريين في كليّة الأمريكان، جاؤوا ليتعرّفوا منّا الوقت الّذي نحدّده لزيارة مدرستهم، وقد وعدتهم بذلك في صباح اليوم الثاني، إن شاء الله.

وكيل البطريك

وكيل البطريك وكان قد جاءنا على أثر نزولنا في الفندق أيضاً جناب وكيل غبطة بطريك الطوائف المارونية، يحمل إلينا سلام غبطته ويدعونا عن لسانه إلى زيارته في بيته الّذي في الجبل حيث هو لم يستطع الخروج منه. وقد بلغني أنّه يميل كثيراً إلى الأسرة الخديوية لما يعرفه من رعايتهم لأبناء الشام، وما يبلغه من حسن معاملة الحكومة الخديوية لهذا الشعب. ومن ثمّ كان غبطة البطريك يودّ من صميم قلبه أن نعده بزيارته كيما يستعدّ بعمل زينة باهرة واحتفال فخيم، حتّى قال محدّثنا في هذا الشأن إنّه قد صمّم على أن يبالغ في تكوين الزينة ورونقها إلى ما لم يسبق له نظير لسوانا من كلّ زائريه وضيوفه. ولقد كنت أحبّ كثيراً أن ألبّي دعوة هذا الرئيس الديني الكبير وأصعد لزيارته في الجبل، غير أنّه مع مزيد الأسف كانت مدّة إقامتنا لا تسمح بهذه الزيارة. ولذلك قلت لجناب الوكيل ما يتضمّن هذا العذر، ووعدته أن أستبدل من زيارة غبطة البطريك زيارة مدرستهم. فشكر لنا ذلك وانصرف مشيّعاً يما يليق به من الاحترام، محمّلاً منّا إلى رئيسه الكريم عاطر التحيّة والسلام. وعلى ذلك انقضت سحابة هذا اليوم. زيارة المدارس ولمّا أن أصبح الصباح ذهبنا إلى زيارة المدارس الّتي كنّا بيّتنا النيّة على مشارفتها، فابتدأنا بزيارة المدرسة الأهلية، وحين وصلنا إليها وجدنا في استقبالنا عند مدخلها جناب ناظرها الفاضل، وهو رجل هندي الجنس، غاية في الأدب والنشاط، فسلّمنا عليه ورحّب بنا وكان يعجبني منه زيادة عن كلّ شيء احتفاظه بدينه وتمسّكه به تمسّكاً شديداً. ثمّ إنّه عرض علينا ما كانت تشتمل عليه المدرسة من الأعمال والأدوات، بعد أن طاف بنا على جميع مداخلها وغرفها، وعرض علينا أيضاً بعض التلاميذ ممّن كانوا لا يزيد عمر الواحد منهم عن أربع سنوات، وامتحنهم أمامنا فيما

كلية الأمريكان

كانوا يتدارسونه من المسائل والمواضيع المختلفة، فسررنا غاية السرور من نتيجة التعليم وآداب التلاميذ، وشكرنا ذلك الأستاذ الناظر الّذي يرجع إليه الفضل في بلوغ هؤلاء الأحداث إلى مثل هذه النتيجة المحمودة. ومن هناك قصدنا توّاً إلى زيارة الكلية الأمريكانية. كلية الأمريكان وكانت هذه الكليّة من ضخامة العمارة وسعة المساحة وجمال الموضع والبناء، بحيث تنطبق تمام الانطباق على شهرة الأمريكان، وما يعرف لهم من الغنى الواسع والثروة الطائلة. على أنّه قيل لنا إن تلك الكلية لم تقف حتّى الآن عند حدّ محدود، سواء من كثرة البساتين أو من الأقسام والعمائر، بل هي لا تزال تزداد في كلّ سنة زيادة محسوسة بفضل ولاة الأمر فيها وتواصل عنايتهم بها. وعندما نزلنا من مركباتنا، وجدنا على مدخل المدرسة جناب رئيسها المحترم الّذي كان قد خرج إلى هذا المكان ليستقبلنا عنده، وقد اصطفّ بجانبه التلاميذ المصريّون فاستقبلونا جميعاً بالحفاوة والاحترام. ثمّ ما كدنا نخطو أوّل خطوة من الباب حتّى خاطبنا ذلك الرئيس بعبارات تدلّ على كرم أخلاقه ووداعة نفسه، فقال: إنّي أتشرّف كثيراً بزيارة دولتكم هذه كما يتشرّف تلاميذ المدرسة عموماً، وخصوصاً التلاميذ المصريّين. وقبل أن تتفضّلوا بزيارة المدرسة، أستميحكم العفو فيما أريد أن أتشرّف بإبلاغه إلى دولتكم وإنباهكم إليه. فقلنا له نحن مستعدّون أن نفهم من جنابك ما تريد. فقال أتشرّف بتفهيم دولتكم أنّه قد جرت العادة في زيارة هذه الكلية بأنّ الزائر لابدّ أن يبدأ قبل كلّ شيء بزيارة المعبد حيث تقام فيه الصلاة، كما أنّه من الضروري أنّ الزائر لا يبرح يشهد تلك الصلاة ويسمعها حتّى تنتهي. لذلك أرجو دولتكم أن تتفضّلوا بحضور الصلاة في المعبد وفاق العادة. فقلت له يا جناب الرئيس، إنّي وإن كنت امرءاً مسلماً محتفظاً بديني متمسكاً به دائماً ومحبّاً له جدّاً، غير أنّي مع هذا نشأت منذ صغري على حرية الضمير وإطلاق الفكر، ولست أذكر في كلّ عمري الّذي عشته أنّي خضعت لشيء حيث كان إلا بعد أن أتبيّن أنّه حقّ صحيح. هذا هو مبدئي ما

دام يوافق ديني. لذلك تراني لا أبالي أن أزور بيع النصارى وصوامعهم وأجتمع بقسسهم ورهبانهم، كما لا أخشى أيضاً أن أشاهد عبادتهم وصلاتهم، بل قد طالما دخلت المعابد والكنائس في بلاد أوروبا، عندما كانت تقام فيها الحفلات الكبيرة لتتويج القياصرة والملوك، وعند غير ذلك أيضاً. وقد زرت الفاتيكان في رومة ومواضع كثيرة من هذا القبيل، وأصحابي من النصارى وغير النصارى كثيرون جدّاً. وماذا عليّ لو أزور المعابد وأحضر الدعاء، وأنا معتقد ملء صدري أنّ ديني لا يخالفني على شيء من ذلك، بل إن استكناه الأشياء والوقوف على حقائق الأمور وماهياتها ممّا يحثّ الدين الإسلامي عليه بلا نزاع. فلا تظنّ، إذاً يا جناب الرئيس، أنّي إذا لم أوافقك على ذلك الطلب أكون متعصّباً دينياً أو أنّي أخشى شيئاً آخر، معاذ الله. ولكن إذا أردت أن تفهم منّي علّة امتناعي من دخول المعبد وحضور الصلاة فيه، فأنا أقول لجنابك بما اعتدته من الصراحة أنّني اليوم في بلاد شرقيّة، ثمّ أنا أمير مسلم شرقي أيضاً، ولا يتّفق أن أكون كذلك وأن أجري على العوائد والتقاليد الغربية. وإنّه إذا صحّ أنّ الإنسان يصبغ نفسه في بعض الأحيان صبغة غير صبغته، ويجري على مبدئه وعادته، فذلك إنّما يكون عندما تحيط به ظروف مخصوصة، وتقتضيه إلى ذلك دواعٍ قوية لا يجد له منها مفرّاً دون أن يفعل. أمّا والإنسان له من الشيء مندوحة وسعة، وسواء عنده أن يكون ذلك الشيء وأن لا يكون، فإنّه بالطبع في حلّ من أن يختار لنفسه ما يلائم فطرته ويتّفق ومصلحته. فقال: إنّي أوافق دولتكم على فكرتكم هذه، وهي عندي سديدة صحيحة، لو أنّه كان هناك عبادة وصلاة حقيقة. أمّا وليس ثمّت إلا مجرّد مقالة عادية تتلى على مسمع من دولتكم في ذلك المعبد، فإنّي لا أرى في تفضّل دولتكم بإجابتي إلى ملتمسي ما لعلّه يؤخذ عليكم أمام ضميركم أو أمام المسلمين، ولا ما عساكم تنفرون منه وتكرهون حضوره. فقلت له يا جناب الرئيس إنّي قلت وما زلت أقول لجنابك: لم يكن من عادتي أن أتكلّف فعل ما لا أريده، وإن إقامة الصلاة على هيئتها الحقيقية لم يكن هو المانع لي من تلبية مطلبك، فإنّه سواء عندي أن تكون الصلاة حقيقية أو صورية، أو أن لا تكون صلاة أصلاً. وإنّما يمنعني من ذلك أوّلاً أنّه ليس لي فائدة من زيارة معبد قد زرت كثيراً مثله في أوروبا وغيرها، كما أنّه لا معنى لأن أحضر حفلة صلاة كثيراً ما شهدتها

ورأيتها، وثانياً ما أنبّهك إليه من أنّه لا معنى لأن أميراً مسلماً شرقياً في بلاد إسلامية شرقية، وفي ضيافة وحماية المسلمين الشرقيين، وهو منهم بالنظر الّذي لا يستوي فيه كل ّالناس، ثمّ هو ينسلخ عن تقاليده وعوائده وربّما تساهل بعض الشيء في دينه. كلّ ذلك، هو يفعله لغير سبب إلا مجرد الخضوع للعادة في زيارة كلية. أمّا أنا فلست ممّن يقدّس العادة أو يخضع لحكمها، كائنة ما كانت. فلتكن هذه عادتكم في مدرستكم، أمّا أنا فمخيّر في أنّي لا أزور إلا ما أشاء، فانظر يا جناب الرئيس بعد ذلك ماذا أنت صانع. أمّا هو، فلمّا يئس ولم يجد بعد الجهد والاحتيال إلا إباءً شديداً، رجع عن فكرته مقتنعاً بما قلناه. ثمّ ذهب إلى المعبد، وترك معنا أربعة من التلاميذ المصريّين ليرشدونا إلى مكتبة المدرسة، ريثما يؤدّي رئيس الكليّة صلاته. فذهبنا ومعنا أولئك الطلبة إلى دار الكتب الخصيصة بتلك الكلية، فاطّلعنا عليها. وكان التلاميذ يرشدوننا إلى ما كانت تحويه تلك المكتبة النفيسة. ومنها ذهبنا إلى المتحف الّذي توجد فيه مجموعة كبيرة من حيوانات محنّطة مختلفة أنواعها فاطّلعنا عليها وقضينا منها مأربنا. ثمّ توجهنا إلى معمل الكيمياء والطبيعة، وإلى جملة معامل أخرى فزرناها، وكنّا في غاية السرور بما كنّا نجده من أدب التلاميذ ولطفهم. وبينما نحن نسير بين تلك المعامل، إذ حضر إلينا جناب الرئيس وراودنا إلى زيارة المدرسة، فمررنا من الطريق المؤدّي إليها أوّلاً بحديقة متّسقة فسيحة، وشاهدنا في خلال ذلك الطريق دوائر كثيرة وغرفاً للتلاميذ حتّى انتهينا إلى قاعة واسعة كانت هي الّتي أعدّت لاستقبالنا. وكان فيما تشتمل عليه تلك القاعة صورة سمو الجناب العالي الخديوي، مكبّرة محفوفة بإطار كبير جميل، وكراسي متعدّدة. وهناك كان ينتظرنا جناب قنصل أمريكا وعدد عديد من أساتذة الكلية ومعهم نساؤهم، فرحّبوا جميعاً بمقدمنا واستقبلونا بكلّ حفاوة واحترام. وبعد أن تبادلنا التحيّة واستقرّت بنا مجالسنا، قام جناب ناظر المدرسة وتلا على مسامع الموجودين خطاباً رشيق العبارة، استهلّه بالكلام على فضل مصر والمصريين، ثمّ امتدح الأسرة الخديوية بأعمالها الجليلة في تاريخها الغابر والحاضر. وبعد ذلك رحّب بنا وأهّل، شاكراً لنا زيارتنا لمدرستهم. وما أوشك أن يفرغ من مقالته، حتّى قام أحد التلاميذ المصريّين، بالنيابة عن جميع إخوانه في تلك الكلية، وخطب أيضاً خطبة جميلة كانت لا تخرج عن

نفس الموضوع، وقد أعقبها بقصيدة ظريفة وهي: في مثلِ ذا اليومِ العظيم ... تهتزُّ بالفخرِ النفوس وَلِمثلِ ذا الضيفِ الكريم ... بِتجلّة تُحنى الرّؤوس بِك يا محمّدُ قَد زَها ... صَرحٌ بِهِ تُجنى العُلوم بِلُقاك نِلنا المُشتهى ... يا حبَّذا شرف القُدوم يا فَرعَ عائلةٍ سَمت ... في المجدِ بينَ العائِلات وَبِعَهدها مصر نَمت ... فَتجدّدت فيها الحَياة ما الزّهرُ في فَصلِ الرّبيع ... أَذكى وَأَعطر مِن شَذاك ما لَونُه الزاهي البديع ... أَبهى رواءً مِن سَناك لِسموّ عبّاس الأمير ... بِقلوبِنا أَسمى مَكان نَدعو إِلى المَولى القدير ... بِدوامِهِ طولَ الزّمان نَحنُ الّذين عَلى الوَطن ... وَقَفوا النّفوسَ الغالِية وَلأجلهِ مِن كلّ فَن ... نَجني الدّروسَ العالية

قَد كانَ في ماضي العُصور ... نَبع التمدّن وَالفُنون وَبِفَضلِ عبّاس الغَيور ... اليوم يوشكُ أَن يَكون وَطنٌ لَنا أبداً يَسود ... بِقوى المعارِفِ لا القِراع عنهُ إذا قُمنا نَذود ... فَسلاحنا هذا اليَراع يا مَن أَتانا زائراً ... متفقّد منّا الشؤون سَيظلّ كلّ ذاكراً ... لِلفَضل ما انقضتِ السّنون أَولَيتنا نعماً عَلى ... نعمٍ بِتَشريفِ المقام فَجَميعُنا نُهدي إلى ... عَلياك شكراً والسّلام هذا وقد قدّم لنا صورة هذه القصيدة مكتوبة بخطّ جميل، عليها إمضاؤه وإمضاء كاتبها فشكرناه. وكانت الموسيقى إذ ذاك تعزف بالسلام الخديوي. وحينئذ نهض حضرات المحتفلين عن آخرهم، يدعون لعزيز مصر بتأييد عرشه وحفظ ذاته الكريم. فما وسعني عند ذلك سوى أن قمت وابتدأت خطابي له بشكر من كان حاضراً من الأمريكان وغيرهم. وبعدئذ تكلّمت باِختصار على روابط المودّة الوثيقة بين الشعب الأمريكي والشعب المصري. وبيّنت ما كان للشعب الأوّل من الثبات والإخلاص في أعماله. وذكرت على الخصوص نفراً من الضبّاط الّذين كانوا قد اِنتظموا في سلك الجيش المصري. وأَبنت لهم صدق خدماتهم الّتي لا تزال حتّى اليوم تتردّد على ألسنة المصريّين، مشفوعة بالشكر العاطر والثناء الجميل. وما كدت أجلس حتّى دوّى المكان دوي النحل بعبارات الامتنان والاستحسان. وعلى أثر ذلك قدّمت لنا

صحاف الحلوى وفناجين الشاي، فتناولنا منها ما طاب لنا، وشكرناهم. ثمّ قمنا مودّعين من حضراتهم جميعاً بغاية الإجلال والتعظيم. ومن هناك عدنا توّاً إلى الفندق. وبعد أن تناولنا طعام الغداء وركبنا سيّارة، ومعنا حضرة الأمثل سليم بك ثابت، حيث قصدنا إلى التنزّه في جهات الضواحي. وكان سيرنا في هذه المركبة السريعة على شاطئ البحر من شمال بيروت، بين المناظر الطبيعية الجميلة، حتّى وصلنا إلى بلدة تسمّى سوق مصباح، ومنها عدنا في نفس الطريق إلى الفندق، حين لم يبق من الوقت إلا ريثما يسعنا للعشاء والنوم. وعند الصباح توجّهنا إلى زيارة معمل الخواجه خوري السيوفي، وهو معمل كبير للمصنوعات الخشبية، وحركاته الصناعية تجري كلّها بواسطة الأدوات والآلات الّتي تختلف على حسب اختلاف أدوار العمل وأجزائه. وهناك شاهدنا من العمّال مهارة فائقة ونشاطاً عجيباً، ولهم دقّة غريبة في الصناعة، خصوصاً صناعة الدواليب الّتي كانت لا تقلّ في نظرنا عن الدواليب الّتي تصنع في أهمّ فبريقات أوربا وأشهر معاملها. وبالجملة، فإن هذا المصنع كان حافلاً بالعدد المتينة والآلات المكينة الّتي تلزم لصناعة الخشب بجميع أنواعه، من المبدأ إلى المنتهى، على نحو ما يتصوّره زائر المصانع في البلاد الغربية. وقد طفنا في هذا المعمل على كلّ ما كان يدور فيه من العمل، وسررنا جدّاً من تلك النهضة العملية الشريفة الّتي تبشّر بحسن مستقبل الصناعة في بلاد الشام، وتعدّ خطوة واسعة في طريق الحضارة الشرقية. وإذ ذاك امتدحنا مؤسّس هذا العمل المفيد الّذي كان أكبر مشجّع لتلك الصناعة البديعة في بلاد الشرق، حتّى أصبحنا نرى في مثل بيروت مصنوعات مهمّة تضارع مصنوعات الغربيّين في أعظم مصانعهم. ولابدّ على طول الزمان أن تنشأ المعامل لمثل هذه الصناعة وغيرها في كثير من حواضر البلاد الشامية، وحينئذ يتوفّر للبلاد شيء كثير من ثروتها، يتبادل بين أهاليها ويصرف منها فيها، وذلك هو الأساس الأوّل الّذي عليه يبنى استقلال البلاد وترتكز سعادتها. وإنّه بقدر ما كان سرّني أن أرى تلك الحركة العظيمة والنهضة السامية من أبناء سورية، لقد ساءني أنّي لم أجد مثل ذلك

صيدا

لأحد أبناء مصر، وفيهم الأغنياء المثرون والعقلاء المفكّرون. وقد أخبرني جناب الخواجه خوري بأنّ لأخيه تجارة واسعة في مصر، تصدّر إليه من بيروت. وهي إذا كانت من الإتقان، بالدرجة الّتي شاهدناها، لا جرم كانت قمنة بأن تحرز ثقة المصريين وتروج في أسواقهم رواجاً عظيماً. ولمّا أن قضينا مأربنا من رؤية ما في المعمل واطّلعنا على جميع أدواته، وتعهدنا دوائره ومصنوعاته، شكرنا للرئيس همّته ونشاطه وشجّعناه. وحينئذ دقّ الجرس، فوقفت حركة العمل في كلّ جهة من جهات المعمل، وجاء العمال عن بكرة أبيهم وأحاطوا بنا إحاطة الثوب بالبدن، وكان يبلغ عددهم 300 نفس تقريباً. ثمّ تقدّم نحوي أصغرهم وقدم باقة زهر، وجاء آخر وأخذ يهتف لنا بالدعاء بعد الترحيب والثناء. وعلى أثر ذلك قدّم لنا الشاي والحلوى فتناولنا منهما ما وافقنا، ثمّ خرجنا. وكان ينتظرنا في غضون الطريق مصوّرون معهم آلة التصوير (الفوتوغراف) فأخذوا رسمنا حال مرورنا. ثمّ توجّهنا إلى الفندق، لنتهيأ من هناك للذهاب إلى مدينة صيدا حيث كنّا دعينا لتناول الغداء فيها من قبل صاحب السعادة نسيم بك جنبلاط، أحد أمراء الدروز وعظمائهم. صيدا مدينة صيدا الحالية وهي سيدوم القديمة قائمة على هضبة وهي من هذا تشبه جميع المدن الفينيقية. ثمّ هي محاطة بحدائق غنّاء تمتدّ على طول الشاطئ، خصوصاً في الجهة الشمالية. وأكثر ما فيها من الأغراس أشجار البرتقال والليمون والخوخ واللوز والموز والنخيل، ولكن يقال أنّ هذا الأخير أقلّ من غيره. أمّا عدد سكان المدينة فيقال إنّه يبلغ نحو 11 ألف وخمس مائة نسمة، منهم 8 آلاف مسلمون و2500 من اللاتين و800 من اليهود و200 من المذهب البروتستانتي. وهي مركز قضاء باسمها، وفيها أسقفان للروم الأرتذكس، وأسقف للمارونيين. وفيها مدارس إسلامية، بعضها

تاريخ المدينة

للبنين وبعضها للبنات، ومدرسة للإسرائيليين تسمّى مدرسة الاتّحاد الإسرائيلي. كما أن فيها للبعثة الإنجليزية مدرستين، إحداهما للذكور والأخرى للإناث. وللاتين دير لجمعية الفرنسيسكان، وكنيسة ومدرسة للبنين. ولراهبات القدّيس يوسف مدرسة وملجأ للأيتام. وللجزويت بعثة تبشير، وكنيسة وعدّة مدارس. وكذلك يوجد فيها للمارون وللروم الاتحاديين وللروم الأرتذكس كنائس ومدارس خاصة. أمّا تجارتها، وهي تدور في الغالب على محاصيلها ومصنوعاتها، فقد تقدّمت في السنين الأخيرة، خصوصاً في تصدير الليمون والبرتقال، فإنّه يقال إنّها تصدر من هذين الصنفين إلى الخارج أكثر ممّا تصدره من الأصناف الأخرى. تاريخ المدينة ذكر الشاعر المشهور هوميروس في بعض قصائده تلك المدينة بنوع خاص مسمّاة باسمها القديم سيدوم، وأسهب في الكلام عليها من جهة صناعتها ومهارة صناعها، وعلى ما امتازت به عن بلاد الشام وغيرها من صناعة النحاس وكثرة معادنه، حتّى سمى أهلها (السيدوميون النابغون في الصناعة). ومع أن هذه المدينة افتتحت عدّة مستعمرات منذ عهد قديم جدّاً حتّى قيل إن ذلك كان قبل قرطاجنة القديمة، فإن مدينة صور تقدّمت عليها في هذا السبيل حتّى قيل إنّها لم تدع نفس تلك المدينة تخرج من تحت سلطتها أيضاً، وإن كانت صيدا مع هذا ما زالت حافظة لاستقلالها. وقد اشتهر الصيدانيون بالعلوم الرياضية والفلكية والملاحة الليلية. وعلى الرغم من أنّ هذه المدينة كانت في بعض الأزمنة تابعة لبعض الممالك الآسيوية، فإنّ ذلك لم يؤثر أقلّ تأثير في تجارتها الّتي كانت ولا تزال إلى اليوم نامية زاهرة. وفي سنة 351 قبل الميلاد ثارت هذه المدينة ضد ملك العجم (أرتجزرسيس) الثالث فهدمها سنة 358. وافتتحها، بعد ذلك اليونانيون بدون مقاومة، ولكنها عادت فحافظت على شيء من استقلالها في عهد الرومانيين، فكان فيها مجلس قضاء يتألّف من تسعة

أعضاء كانوا في أوّل الأمر ينتخبون مدّة حياتهم ثمّ عدلوا الانتخاب فجعلوا مدّته عشر سنين فقط. وكان لها أيضاً مجلس شيوخ ومجلس نواب، ويظهر أنّ المسيحية هاجمتها مبكّرة جدّاً، ولا يبعد أن تكون قد دخلت فيها أوّل عهدها، وقد انتدبت عنها أسقفاً حضر مجمع نيسيه وهي مدينة في آسيا الوسطى وذلك كان سنة 325 بعد الميلاد وفي المجمع وضعت أصول الديانة المسيحية واِلتأم شمل عقائدها بعد الشتات. وبعدئذٍ جاء الفتح الإسلامي فافتتحها المسلمون دون أن يجدوا أدنى مقاومة منها. وقد توالت عليها مصائب جمّة منذ عهد الحروب الصليبية، ففي سنة 1107 حاصرها الصليبيون حصاراً ضايقها، فلم تستخلص منه إلا بعد أن اِشترت نفسها بمبلغ من المال. وكان قد تمّ ذلك الصلح بين أهلها وبين المحاصرين، إلا أنّ عدم وفائها بشروط الصلح اضطرّ الملك بدوين الأوّل أن يفتتحها عنوة سنة 1111. وما زالت كذلك حتّى افتتحها السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 1187 وهدم جميع حصونها، إلا أنّ مدّتها في هذا الدور كانت قصيرة لأنّ الصليبيّين عادوا فأخذوها سنة 1197. وفي نفس هذه السنة كرّ عليها الملك العادل فأخذها عنوة، ثمّ هدمها وخرّب ديارها. وفي سنة 1228 أعاد الفرنج بناءها وعمروها، وما زالت كذلك إلى أن جاءت سنة 1249 فهدمها السلطان أيّوب. ولكن الملك القدّيس لويس عمد إلى إعادة بنائها وتحصينها في سنة 1253. ثمّ لم يمض عليها وهي كذلك إلا سبع سنين، وجاء تيّار المغول القوي فجرفها في سنة 1260. وبعد ذلك بمدّة 31 سنة، أي في سنة 1291 افتتحها السلطان الأشرف. ومن ذلك الحين إلى الآن وهي تحت سلطة المسلمين. وقد ابتدأ تقدّمها في القرن السابع عشر من وقت ما كان اتّخذها فخر الدين أمير الدروز عاصمة له، لأنّه فتح أبوابها في وجوه الأوروبيين فزهت إذ ذاك تجارتها واتّسعت عمارتها، وبنى فيها ذلك الأمير قصراً جميلاً لنفسه. وفي سنة 1840 قصدتها أساطيل الدول المتّحدة فهدمت قلعتها. هذا ولا يزال في تاريخ البلد ووصفها كلام كثير إلا أنّ المهمّ ما ذكرناه، ولذلك نكتفي به ونعود إلى ما كنّا بصدده.

السفر إلى صيدا

السفر إلى صيدا ركبنا مركبة سيّارة (أتوموبيل) من باب الفندق، وذهبنا متّجهين نحو ذلك البلد في طريق كان معظمه على شاطئ البحر. وكانت هذه أوّل مرّة مررنا فيها من تلك السكّة الّتي وجدناها مثل أكثر سكك الضواحي في بلاد الشام، إذ كانت مغروسة على الجانبين بالزروع والأشجار. وكنّا نشاهد أثناء السير شجر التوت يمتاز بالكثرة عن كلّ الشجر، وقد قدّمنا أنّ سبب ذلك هو أنّ ثروة أكثر المدن والقرى في تلك الجهات معظمها من محصول الحرير الّذي يتغذى دوده من ورق التوت، فهم لأجل ذلك يكثرون من زراعته في البساتين وفي الطرق أيضاً. ويقال إنّ صيدا ازدادت ثروتها كثيراً بسبب اتّجارها بالحرير ومنسوجاته. وحينما كنّا على مسافة قريبة من البلد، ألفينا في انتظارنا سعادة نسيم بك جنبلاط، ومعه عدّة رجال من مستخدمي الحكومة وثلّة من عساكر الجندرمة، فاستقبلونا بغاية الحفاوة. ثمّ ساروا بنا إلى هضبة تبعد عن البلد قليلاً، حيث على تلك الهضبة تقوم دار سعادة البك الّتي وجدنا على مدخلها، حين وصلنا إليها، أنجال سعادته واقفين ينتظروننا، فرحّبوا بمقدمنا واستقبلونا بما دلّ على تهذيب نفوسهم وحسن تربيتهم. ثمّ دخلنا إلى ردهة الاستقبال، وما كدت أستقرّ فيها حتّى ذهبت منّي نظرة إلى الحائط فرأيت على دائره صور جميع أفراد الأسرة العلوية، من الجدّ الأكبر إلى الحضرة الفخيمة الخديوية. وكانت تلك الرسوم البديعة متقنة إلى درجة أنّها تكاد تمثل أشخاص المرسومين، لأنّها على إتقانها العجيب كانت مكبّرة وملوّنة بالزيت، فانشرح صدري من رؤية هذه المجموعة أيّما انشراح. وحينئذٍ أظهرت لأصحاب البيت سروري وجذلي من ذلك العمل الّذي كنت أستشف منه إخلاص أسرة جنبلاط الكريمة نحو البيت العلوي القديم. ثمّ إنّي ما كدت أبدي عجبي واستغرابي من أنّي أرى رسم الأسرة الخديوية كلّها على حائط هذا البيت، وهو قائم على تلّ من تلال الشام، حتّى كان قد أدرك ذلك منّا سعادة الأمير نسيم بك وقال لنا على الفور: لا تعجبوا دولتكم أن تجدوا أمام أعينكم الآن صور أسرتكم الفخيمة، فما هو إلا بعض الواجب تؤدّيه لكم أسرة شامية، كانت ولا

إلى بيروت

تزال تستمدّ عزّها وقوّتها من بيتكم الكريم وعرشكم الفخيم، منذ عهد المرحوم إبراهيم باشا، جدّكم العظيم. فلا يستكبر مولاي أن ينظر حائط بيتي هذا محلّى ومزيّناً برسوم حكّام مصر وأمرائها الفخام. وإنّي لست إلا أثراً من آثار إحسانهم وغرساً من غراس نعمتهم، وكذلك كان والدي من قبلي. لأن جدّكم المرحوم إبراهيم باشا هو الّذي أسّس مجد بيتنا وشاده ورفع قواعده وعماده، منذ تفضّل فولّى والدنا إمارة الدروز. وإذ ذاك كان في يد البك ورقة، فناولنا إياها وقال: وذلك هو الفرمان العالي الّذي صدر من المغفور له جدّكم إلى والدنا، عندما ولي هذا المنصب الكبير. فمثل هذا الإحسان يا مولاي يجعل آل جنبلاط كلّهم أسرى لذلك البيت العظيم، شاكرين لأنعمكم ما دامت أنفاس الحياة تتردّد في صدورهم، فشكرت لهذا الأمير شعوره وإخلاصه. وبعد ذلك بقليل دعينا إلى غرفة الطعام فأكلنا من طعامهم الشرقي الشهي ألواناً كثيرة، ثمّ خرجنا من تلك الغرفة إلى ردهة جميلة الموضع كانت تطلّ على البحر من ناحية، وتشرف على صيدا من ناحية أخرى. وكان معنا بعض أعيان المدينة، وقد أظهروا لي شدّة ميلهم في أن أزور بلدهم وأتطوّف على آثارها وعلى بيوت الكبراء فيها، فشكرت لهم حفاوتهم وعنايتهم معتذراً إليهم بضيق الزمن. ثمّ ودّعناهم، وشكرنا لحضرة البك أمير الدروز وأنجاله أدبهم وكرمهم. إلى بيروت ومن هناك ركبنا السيارة، حيث كانت الساعة اثنتين بعد الظهر، عائدين إلى مدينة بيروت الّتي لم نلبث أن نقيم فيها إلا قليلاً. ثمّ قصدنا إلى زيارة مدرسة المارونيين، وهي تلك المدرسة الّتي كنّا استبدلنا بها زيارة غبطة البطريك. المدرسة المارونية وصلنا إليها، وعند ذلك وجدنا في انتظارنا على بابها جناب وكيل البطريك وعدداً كبيراً من حضرات القسس فسلّمنا عليها، ورأينا من استقبالهم لنا وترحيبهم

بنا ما أنطق لساننا بشكرهم. ثمّ دخلنا إلى المدرسة، بينما كانت الموسيقى المدرسية تصدح بالسلام الخديوي، وكان التلاميذ جميعاً مصفوفين صفوفاً منتظمة، وكلّهم يترنّمون بالأناشيد والأدوار الّتي كانت تتضمّن الدعاء للحضرة الفخيمة الخديوية. فمررنا على صفوفهم يحيّوننا ونحيّيهم، إلى أن دخلوا بنا في قاعة واسعة جميلة، كانوا أعدّوها لاستقبالنا وزخرفوها ووضعوا فيها كراسي متعدّدة، وجعلوا في صدرها كرسيّاً خاصّاً ممتازاً فأجلسوني عليه، وجلس على يميني حضرات وكيل البطريك وكبار القسيسين والرهبان. ولمّا أن استقرّ بنا المجلس، قام قسّيس من هؤلاء وألقى خطبة باللّغة العربية، ضمّنها أوّلاً مدح مصر وذكر فضائلها، ومدح الأسرة الحاكمة الخديوية، ثمّ تكلّم على مناقب المغفور له محمد علي باشا ومحاسنه في الشرق. وقد أفاض في هذا الموضوع، تمهيداً منه للردّ على بعض شبّان الأتراك الّذي كان كتب مقالة ضافية في إحدى الجرائد، جعل لحمتها وسداها الانتقاد على أسرة محمد علي باشا واختصّنا منها بجانب عظيم، لا ندري ماذا كان سببه. فقال الخطيب ما ملخّصه: إنّه لا ينكر أحد من الشرقيّين والغربيّين ما كان للأمير الكبير المرحوم محمّد علي باشا من الأعمال الجليلة والفضائل الكثيرة الّتي نهضت بالشرق إلى ما جعله مع الغرب في مستوى واحد. ولولاها لما كان يقوم الشرق من وهدته ويستيقظ من رقدته. وهي التي لا تزال تمرّ عليها الأزمان ويراها الناس آناً بعد آن، وتترسّل بها الأنباء بين الآباء والأبناء، إلى أن قال ما مفاده: وإنّي لا أعجب من شيء في الدنيا عجبي من واحد تكون الحقيقة واضحة أمامه، يراها بعينه ويلمسها بيده، ومع ذلك ينكرها. وهو يحسب أنّ إنكاره هذا يؤثّر في تلك الحقيقة ويجعلها في نظر الناس مثل ما هي في نظره. الشيء الثابت لا يضرّه عدمه مطلقاً. ولكن الّذي استطاع أن يخدع نفسه، ويفرض عدم الموجود أو وجود المعدوم ليعيش في عالم الفروض والتقادير، هو ذا حقيقة المسكين الّذي ما استفاد من عمله سوى أنّه شوّش دماغه وملأه خيالاً، كالأروى الّذي غرّته قوّته فحسب أنّه إذا نطح الصخرة أوهنها ونفذ في أحشائها.

فلمّا فعل ونظر إلى الحجر ليعلم هل نال منه وأثّر فيه نطحه، لم يجد إلا أنّ مجاهدته عادت عليه بكسر قوّته، بعد خفوق سعيه وخيبة ظنه. كَناطحِ صخرةٍ يوماً لِيوهِنها ... فَلم يضرها وَأَوهى قرنهُ الوعِلُ بينما الناس جذلون مسرورون بوجود سموّ الأمير الجليل محمّد علي باشا في بلادهم، وإذا بشاب من أبناء الترك قام في هذه الأيّام وكتب في إحدى الجرائد مقالة، ذمّ فيها رجل الشرق الوحيد، مؤسّس العائلة العلوية، وأكبر فخر للمصريّين. وهذا عمل لا يوافقه عليه أحد من العقلاء، وإنّه إذا كان أبناء الترك لا يريدون أن يعترفوا بجميل محمّد علي باشا وفضله، فإنّ أبناء الشام لا ينسون ما كان لهذا الأمير الكبير من الإصلاحات الهامّة والمنافع العامّة الّتي عادت على الأمّة، في كلّ ما تستدعيه ضرورياتها وحاجياتها، بالفوائد الكثيرة والثمرات الكبيرة. أجل، إنّ تاريخ مصر منذ عهده ينطق عليه بالفضل، ويشهد له بالمهارة والنبل، ويؤيّد ما اتّفق عليه المصريّون والشاميّون بل الشرقيّون جميعاً من أنّ هذا المصلح العظيم هو الّذي طيّر المدنية إلى مصر، وهناك وضعها حيث عرف كيف يستفرخها وينتفع منها بما لا تزال تتدرّج به البلاد في طريق رقيّها وسعادتها من يوم إلى يوم، حتّى كانت قد بلغت في إبان عهده من الحضارة والعمران إلى ما صارت به وردة زاهية في يد الشرق، يتيه بها ويعجب حتّى إن الغرب نفسه كان يحسد الشرق عليها وينظر إليها من بعيد وهو لا يستطيع أن يشمّ لها ريحاً. هذا كان خلاصة ما قاله الخطيب على مسمع منّا ومن إخوانه، أمّا أنا فلست أقدّر أسفي من أنّي أرى واحداً من أبناء المسلمين يهجو ويذمّ محمّد علي باشا وينكر فضله، بينما المسيحيّون لا يزالون يقدّرونه حقّ قدره ويعترفون له بالجميل ثمّ يقومون في المحافل ويدافعون عنه، وكان مثل هذا التركي المسلم أولى وأحقّ بالمدح والدفاع هذا، وقد كان في ضمن ما تفوّه به حضرات المحتفلين ذكر المارونيّين المستخدمين في مصر والمقيمين بها وبيان عناية الحكومة المصريّة بهم، خصوصاً الجناب الخديوي.

وبعدما شكرناهم وأبدينا لهم سرورنا، ذهبنا متّجهين إلى الفندق. وهناك تجهّزنا للسفر، ثمّ خرجنا فأدّينا ما كان علينا من الزيارات، حيث زرنا دولة الوالي ودولة متصرّف لبنان وحضرة القومندان. وقبل قيامنا من بيروت، بلغتنا حادثة أزعجتنا وكدّرت صفونا، وهي خبر وفاة المأسوف عليه الخواجه سرسق، فقد كان لهذا الخبر أشدّ تأثير في أنفسنا بعدما أنّه كان دعانا لتناول الطعام في منزله، وكنّا أجبناه إلى ذلك. ولكنّنا مذ بلغنا نعيه، عدلنا عن الذهاب لهذا الخصوص، على الرغم من أسرته كانوا قد استعدّوا بالفعل. وقد ذهبنا لتعزيتهم وشكرهم على همّتهم الكبيرة الّتي لم يكن ليمنع منها هذا الحادث وهو أشدّ ما يكون على نفوسهم. ثمّ توجّهنا إلى الباخرة الفرنساوية بعد الظهر مودّعين من حكّام المدينة وأعيانها ومظاهرها بما كان لا يقل في الرسميّات عن الاستقبال.

خاتمة

خاتمة في هذه الخاتمة نذكر لحضرات القرّاء قانون جمعيّة الاتّحاد المصري بالكلية الأمريكية في مدينة بيروت، وفاءً بسابق الوعد في نشره وهو: المقدمة دخلت جمعية الاتّحاد المصري هذه السنة طوراً جديداً من حياتها، وبلغت شأناً لم تبلغه في السنين الماضية من النظام في اجتماعاتها والدقّة في أعمالها. وقد قامت بعدّة مشاريع مفيدة منها هذا الكتيّب، وهو يحتوي على ما ينبغي للأعضاء معرفته من قوانين الجمعية وأسماء موظّفيها وغير ذلك. وقد صدر برسم الحضرة الفخيمة الخديوية، تيّمناً بطلعته. واتّفقت الجمعية مع أهمّ الصحف المصرية على إرسالها باسم الجمعية لتوضع في مكتبة الكليّة، ليطّلع عليها كلّ مصري ويقف على ما هو سائر في بلاده. أسماء الموظفين الرئيس: عبد الغفار أفندي جمجوم. نائب الرئيس: أنيس أفندي ساويرس. السكرتير: أميل أفندي زيدان. أمين الصندوق: بولس أفندي علم.

اللجنة الإدارية

اللجنة الإدارية عبد الغفار أفندي جمجوم، أنيس أفندي ساويرس، أميل أفندي زيدان، بولس أفندي علم، محمد أفندي أنور روحي، مصطفى أفندي زكي، شعبان أفندي مصطفى. قانون الجمعيّة أولاً: غاية الجمعيّة هي التعاون والتضامن بين أعضائها وترقية الأفكار الأدبية والعلمية بين طلبة الكليّة المصريّين. ثانياً: لا تتعرّض الجمعيّة مطلقاً لقوانين المدرسة ولا تتحزّب لأيّ عقاب تصدره على أحد من المصريّين. ثالثاً: تتكوّن الجمعيّة من أعضاء ورئيس ونائب رئيس وسكرتير وأمين صندوق ولجنة إدارية تقوم بأعمال الجمعية. رابعاً: تتكوّن اللجنة الإداريّة من رئيس الجمعية ونائبه والسكرتير وأمين الصندوق وثلاثة أعضاء ينتخبون. خامساً: اللّجنة الإداريّة ممكن اجتماعها كلّما مسّت الحاجة بطلب من الرئيس أو بأغلبية أصوات أعضائها. سادساً: الاستدعاءات للانتخاب يشترط أن لا تصدر إلا من تلاميذ الدوائر العليا. سابعاً: يشترط أن يكون الرئيس والنائب من الدوائر العليا. ثامناً: يجدّد انتخاب الموظّفين في كلّ سنة مدرسية. تاسعاً: تلتئم الجمعيّة مرّتين في أوّل وثالث خميس من كلّ شهر. عاشراً: لا يسمح لأحد بالتكلّم في مسألة أكثر من مرتين. حادي عشر: على كلّ عضو أن يدفع خمسة بشالك رسوم عضويّته على دفعتين الأولى في أوّل السنة المدرسية والأخرى في منتصفها.

ثاني عشر: تصرف المصاريف المتحصّلة فيما يفيد الجمعية بقرار منها في جلسة رسمية. ثالث عشر: على أمين الصندوق أن يقدّم تقريراً شهرياً للجمعية بالوارد والمنصرف. رابع عشر: في آخر خميس من شهر مايو تجتمع الجمعية لجلستها الأخيرة وتكون تلك الجلسة قاصرة على انتخاب رئيس ونائب رئيس وسكرتير وأمين صندوق للسنة المدرسية التالية ثمّ تعيين لجنة برئاسة الرئيس لمقابلة الطلبة الجدد ومساعدتهم مع إعلان ذلك في الجرائد المصريّة إن أمكن. خامس عشر: كلّ من يخالف بنداً من هذا القانون يرفت من الجمعية في جلسة رسمية ولا يكون له أيّ حق في استرداد ما دفعه للجمعيّة إلى هنا. وقد انتهت رحلتنا الشامية وعدنا بسلامة الله إلى الديار المصرية وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

تكملة الرحلة الشامية

تكملة الرحلة الشامية سبق أنّنا أشبعنا الكلام فيما يتعلّق ببلاد سورية من جهات متعدّدة، فمن ذلك ما ذكرناه من خصوبة أراضيها وطيب مناظرها ونضرة بقاعها وحسن عمائرها، إلى غير ذلك ممّا له مساس بوجودها ومقوّماتها. والآن نريد أن نبدي للقرّاء بعض ملاحظاتنا على حالة تلك البلاد من الوجهة الاقتصادية والوجهة الاجتماعية، لعلّنا نصيب من قلوب السوريّين مكان الناصح الّذي يريد بذلك للشعب الكريم وبلاده العامرة دوام السعادة وعميم الخير والسلام. ذكرنا قبل الآن أن أراضي سورية في غالب الجهات من الأراضي الزراعية الخصبة الّتي تغل جميع الأصناف الحبوبية وغيرها، وريّها سهل متوفّر من الأمطار والأنهار الكثيرة وكذلك الينابيع والعيون والجداول الّتي تتخلّل تلك الأراضي الجيّدة بكثرة بليغة. ولا شكّ أنّ مناظر سورية الطبيعية الّتي يشاهدها المسافر بين حين وآخر قد فاقت كثيراً غيرها من المناظر الجميلة. ولست أجدني مبالغاً إذا قلت إنّها بلغت من البهجة والحسن ما لا يدرك وصفه شاعر مهما اتّسع خياله وانفسح مجاله. أمّا البلاد الشامية في مجموعها، فهي بلاد شرقية على معنى أنّها لا تزال إلى اليوم محافظة على القديم من كلّ تقاليدها وعوائدها. فتجارتها في معظم البلاد تدور غالباً على منسوجاتها ومصنوعاتها

ومحاصيلها الزراعية بمختلف أنواعها وأصنافها. ويسرّ الإنسان أن يرى لهذه التجارة البلدية ربحاً كبيراً ورواجاً عظيماً بين سكّان المدن والضواحي، لأنّ جميع الحاجيّات متوفّرة في أسواق هذه البلاد، وكلّها والحمد لله من البضائع الشرقية الجميلة. وأمّا ما يوجد من التجارات الأجنبية في بعض المدن، ويكون له رواج فيها بحكم مركزها الجغرافي، فهو قليل في جانب التجارات المحلية بنسبة محسوسة. أمّا أراضي هذه البلاد، سواء الزراعية منها وغير الزراعية، فإنّها لا تبرح حتّى الآن في أيدي الوطنيّين يتبادلونها ملكاً وانتفاعاً. لاحظت ذلك في أغلب الجهات الّتي شارفتها، وما علمت أنّ لأجنبي ملكاً بين أملاكهم ولا ضيعة وسط ضياعهم كما يشاهد ذلك في غير تلك البلاد خصوصاً في مصر. وأمّا اللّغة الّتي تجري بها تخاطب القوم وتستعمل في محاوراتهم فهي اللغة العربية الّتي لا تفتأ سائدة على جميع اللغات في تلك البقاع، وإن كنّا لاحظنا أن لهجات الناس تختلف قليلاً باختلاف الجهات: فلهجة الدمشقيين كانت غير لهجة الحلبيّين، غير لهجة البعلبكيين، بفرق غير كبير. وقد تقدّم مثل هذا في الرحلة، مع ما يفيد أنّ الخطاب بين السوريّين والأجانب يحصل غالباً باللغة الفرنساوية. وأمّا عوائد الناس وأخلاقهم وأزياؤهم، فإنّها لم تختلف عن حالتها الفطرية إلا قليلاً في بعض الجهات الّتي يكثر فيها وجود الأجانب كالشواطئ والمراسي التجارية الشهيرة. وبديهي أنّ الاختلاط الّذي أساسه المعاملة والأخذ والرد يكون مدعاة إلى تحوّل الطبائع وتغيّر الأخلاق. إن الارتياح الكبير الّذي يدبّ في نفس الراحل، عندما يشاهد حالة تلك البلاد الحاضرة واحتفاظ أهلها بما كان عليه آباؤهم وأسلافهم من التقاليد والعوائد، ينبّه الإنسان في الوقت نفسه إلى ما يدّخره المستقبل لهذه البلاد، فلا يلبث أن تساوره الأحزان وتواثبه الآلام، خوفاً وإشفاقاً عليها أن تقع - لا قدّر الله - فيما يُعقِبُ الحسرة والندامة. لا شكّ أنّ الانقلاب العظيم الّذي أدركناه ولا نزال ندركه كلّ يوم في جزء كبير من الشرق ونتألّم منه، خصوصاً في مصر، بسبب كثرة الأجانب وانتشارهم في عموم القرى والحواضر تقريباً، حتّى أصبح معظم البلاد الشرقية يضاهي بلاد الغرب في غالب الأحوال. هذا الانقلاب يبدل من طمأنينتنا قلقاً ومن صبرنا جزعاً، ويجعلنا دائماً في خوف شديد على مثل بلاد سورية. وإنّه

ليس إلا هي وحدها البقية الباقية الّتي تذكرنا إلى اليوم بتاريخ الشرق القديم، بل إن الخطر الخطير الّذي يتهدّد تلك العوائد الأصلية والتقاليد الشرقية العتيقة ما بين آن وآن هو أن يروق التمدّن الأوروبي في عيون أهل هذه البلاد فيفتحوا أبوابها فرحين به مرحّبين بمقدمه، كما فعل غيرهم من قبل. فقد شاهدنا أن التمدّن الغربي ما دخل جهة من الجهات إلا وغيّر معالمها وبدّل شؤونها وقضى على أخلاقها وعوائدها وتقاليدها. وأوّل ما ينال منها تغيير الملابس والأزياء الّتي يروّجها الرخص ويسوّلها حبّ التقليد المفطور عليه الإنسان، هو يفرح حينما يشتري ثوبه رخيصاً من البضاعة الأجنبية، ويظلّ ثملاً بنشوة الرخص، غافلاً عمّا يعتقبه من فشل تجارة بلده الّتي لا تلبث إلا ريثما تروّج البضاعة الخارجية ثمّ تتلاشى ويذبل عودها ثمّ يمحى أثرها من الوجود بالمرّة. وفي ذلك من الخسارة العظمى ما لا يخفى، خصوصاً عندما يصبح تجّار البلد معطّلين بعد العمل، وفقراء بعد الغنى. وأدهى من ذلك وأمر أن تفقد البلاد أعظم ركن ترتكز عليه ثروتها واستقلالها. وكلّ ذلك في نظير شيء تافه يظنّ المبتاع أنّ له منه وفراً وثراءً. لا يفهم القارئ ممّا قدّمناه أنّ مقصدنا هو أن تغلق البلاد الشرقية أبوابها في وجه التجارة الغربية حتّى لا يدخل منها شيء في تلك البلاد، فإنّي أقدّر بعض المصنوعات الأوربية وأعترف بحسنها ومنفعتها في بلاد الشرق، ولا أنّي أكره التمدّن الغربي وأمقت دخوله في أرض سورية أو غيرها من البلاد، كما ربّما يفهمه تعبيري السابق. لأنّي أعتقد أنّ الحياة الراقية في كلّ مكان، إنّما هي معقودة بلواء ذلك التمدّن وأفهمه تماماً. إنّه ما من عمل نراه مفيداً في الحياة الاجتماعية إلا وهو شعبة من شعب الحضارة الأوربية ونعت من نعوتها، ولا يفهم غير ذلك أحد إلا كان مخطئاً في فهمه. إنّ كلّ بلد دخلها شيء من التمدّن الأوربي لا شكّ تمتاز عن غيرها وتحسّ بحياة جديدة أرقى بالطبع من حياتها الأولى. ضرورة أنّ البلدة الّتي تتمتع بمنافع البخار والكهرباء وتستفيد من استخدامهما، تجد لها حياة غير ما تجده البلدة الخالية من ذلك. وإنّما الشيء الّذي أكرهه حقيقة ولا أحبّ أن يكون أبداً هو أوّلاً: أن تأخذ التجارة الأجنبية من نفوس أهل الشام مأخذها من نفوس المصريين مثلاً، لأنّ ذلك

إن تمّ أفضى ولابدّ إلى أن تحلّ تلك التجارة محلّ التجارة المحليّة. وثانياً: أن تتألّف شركات أجنبية لاحتكار بعض الامتيازات التجارية والصناعية فإنّها وإن أفادت البلاد كثيراً من ناحية الاجتماع إلّا أنّها تضرها ضرراً بليغاً من جهة الاقتصاد، إنّي أميل كثيراً إلى الشركات وأعرف بكلّ تأكيد أنّ ما يقدر عليه الاثنان قد لا يقدر عليه الواحد، بل يمكن للجماعة الاتيان بما يستحيل على الفرد مهما توفّرت له الأسباب والوسائل، أفهم هذا، وأفهم كذلك بجانبه أن بلاد الشرق خصوصاً بلاد الشام تحتاج كثيراً إلى تأليف الشركات لإيجاد المرافق والمصالح الّتي تستدعيها حالة البلاد، غير أنّي لا أحبّ أن تتكوّن هذه الشركات من الأجانب متى كان يمكن أن تتألّف من أهل البلاد نفسها وقد يوجد والحمد لله رجال سوريّون وعندهم ثروة طائلة، سواء المقيمون في بلادهم أو في مصر وغيرها، لا أحسب أنّ هؤلاء يضنّون على أوطانهم بإيجاد الشركات اللازمة منهم أنفسهم ليدوم للبلاد مجدها ويحفظ لها سعدها، إنّ من أسباب الأزمات المالية في البلاد وفرة المال وهي لا تتيّسر في الغالب إلّا من وجود أغنياء الأجانب فيها وتساهل المصارف أيضاً، يجيء الأجنبي ليشتري أرضاً يزرعها أو يبني فيها بيتاً فيفرح الوطني ببيع جزء من أرضه عندما ينقده ذلك المبتاع ثمناً زائداً عن المعتاد الّذي تسواه قيمة الأرض، وهو لا يدري ماذا سيجلبه له ولمواطنيه هذا الربح من الشقاء المستمر والخسارة الكبيرة، الأجنبي ثريّ ولا يبالي أن ينقد عمّاله أجراً عظيماً ليصطنعهم لنفسه ويستخلصهم لخدمته، فالعامل الّذي نفرض أنّه كان يتقاضى في خدمة سيّده الوطني ثلاثة قروش عندما يجده، يأخذ أجره من ذلك الأجنبي عشرة قروش مثلاً لابدّ أن يطمح إلى الزيادة أو بالأقل لا تهبط به نفسه يوماً أن يعود فيشتغل عند الوطني بدون ذلك المبلغ، بل هو يفضّل إذا اقتضته إلى الشغل ضرورة أن يموت على أن يعيش وتنكرها العفة والمروءة، وعلى ذلك ترتفع أجر العمال أضعاف ما كانت عليه حتّى لا يسع صاحب المزرعة إلّا الرضوخ لطلب عماله، ثمّ لا يخرجه من هذا الحرج سوى أن يعلي هذه الزيادات على أثمان المحاصيل وذلك يستعقب غلوّ أسعار الأشياء كلّها تقريباً لارتباطها بعضها ببعض إلى حدّ أن يستغرق هذا الغلاء ما كان ربحه البائع وأضعاف أضعافه، ذلك فضلاً عن الخسارة التي تعود على غيره من أهل بلاده ومواطنيه،

ضربنا لك بهذا مثلاً ما كنّا لنخترعه ولكن نقلناه عن الوقائع الّتي شاهدناها بأنفسنا في بلادنا، وهذا ما خطر بالبال متعلّقاً بحالة البلاد من الوجهة الاقتصادية. أمّا حالتها من الوجهة الاجتماعية فلا مندوحة من الإشارة إلى ما يجول في النفس بسببها ويكون غالباً مثاراً لأسفها ومصدراً لألمها. وذلك لما يشاهده الناظر المستطلع للأحوال الّتي ترتبط بين كبار البلاد وأشرافها وبين الأفراد (الّذين هم السواد الأعظم في كلّ أمّة) من الانحلال وعدم الوئام، حتّى إنّك إذا رددت الطرف لترى تلك الرابطة بينهما، لا تجد إلا أنّ الحالة أصبحت ولا أثر لمعالم الوفاق بين الوضيع والرفيع، فلا تجد هيبة عند مسود لسيّد ولا احتراماً ولا وقاراً. لذلك لا يسع الغيور على مصلحة أمّته إلا الإشفاق على مثل هذه الحال. وهنا لابدّ وأن القارئ تتوق نفسه لمعرفة الأسباب الّتي أنتجت مثل هذه النتيجة المحزنة، والدواعي الّتي أوجبت مثل هذا الانقلاب، فأقول: إنّ رجال الحكومة وأولي الأمر في هذه البلاد سلكوا مع الكبراء والعظماء فيها مسلكاً وعراً، وركبوا معهم مركباً خشناً. ذلك لأنّهم ما رأوا ذا نفوذ وشوكة إلا وعملوا للكسر من شوكته والضغط عليه بيد غير ليّنة. وعندي أنّ مثل هذه المعاملة لا تلتئم مع مصلحة البلاد وأهلها بوجه، فإن هذه الأعمال أو تلك السياسة إن حسبوها نجحت مرّة فلسوف تخطئ مرّات. وعلى كلّ حال هي لا تنتج إلا عكس المطلوب منها، لأنّ رجال الحكومة إذا استطاعوا اليوم إبادة نفوذ هؤلاء السادة ومحوه من صحيفة الوجود، فلن يستطيعوا أن يقفوا أمام كلّ من يقوم خلفهم من نابتتهم وأولادهم، ذلك الخلف الّذي يملك من نفوس العامّة بحكم الطبيعة صفة الرضوخ والانقياد بسهولة تساق بحكم ما تأصّل في النفوس من السالف القديم. وأنت خبير بما للاحترام السائد لذوي البيوتات الرفيعة في كلّ أمّة من التفوّق والرجحان. هذا فضلاً عمّا يعرف بحكم الطبيعة على الميول والعواطف من التأثير والقوّة. وإنه إذا صحّ ما يقال من أنّ بعض أرباب الرتب وأصحاب الحيثيّات والمقامات قد ارتكبوا ما لا يحسن بأمثالهم حتّى ساءت سمعتهم، فلا ينبغي أن يؤاخذ الكلّ بذنب البعض، ولا يعاقب البريء بذنب المجرم. على أنّي تقابلت مع كثير من أصحاب البيوتات الكبيرة وأرباب المقامات العالية في بلاد الشام، فوجدت منهم رجالاً يتفانون في حبّ الدولة مخلصين في وطنيّتهم، وفيهم غيرة قويّة وشهامة

شديدة، فضلاً عن أنّهم ممتلئون مروءةً ووفاءً. فأمثال هؤلاء ما لهم ولأولئك الّذين أساؤوا إلى أنفسهم حتّى ينضافوا إليهم وينسحب حكم الشقاء عليهم. العدل أن يحافظ على كرامات ذوي البيوت الكبيرة ما داموا محتفظين بشرفهم واحترامهم. أوجّه خطابي هذا إلى السوريّين، وأذكّر أنّي رأيت أنّ مصر كانت منذ ثلاثين سنة تقريباً حافلة آهلة بالذوات والكبراء الّذين كانوا يغارون على البلاد ويحبّونها حبّهم لأنفسهم، حتّى قضت الدخلاء وبعض من كان من ذوي النفوذ أن يحطّوا من كرامتهم ويعملوا لكسر نفوذهم وشوكتهم، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، وأصبحت البلد محرومة من إخلاصهم وفضلهم. فعلى كلّ غيور على مصلحة قومه أن يوضح الطريق لهؤلاء الّذين يريدون أن يقفوا لمقاومة الطبيعة، وعبثاً يحاولون. إلى هنا وأعود مكرّراً ثنائي الجميل وشكري الجزيل لحضرات السوريّين الأفاضل الّذين أكرموا ضيافتي، وأحسنوا وفادتي، وأظهروا لي من إخلاصهم ووفائهم ما عرفت منه حقيقة أنّ في الشام رجالاً يرجع إليهم ويعوّل عليهم، فجزاهم الله على صنيعهم بنا خير ما يجزي العاملين المخلصين. وبعد، فإنّي أحمد الله جلّ شأنه على ما ألهمني إيّاه من هذه الجولة الجميلة الّتي استفدت في أثنائها زيارة بلاد طالما تاقت لها نفسي، وأشكره سبحانه على سلامتنا من المبدأ إلى النهاية، ومن الباعث حتّى الغاية، وأصلّي وأسلّم على رسوله وصفوته من خلقه سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله ما تحدّث الناس أو جرى قلم على قرطاس.

§1/1