الرحلة التتويجية لعاصمة البلاد الإنجليزية

الحسن بن محمد الغسال

نص الرحلة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم الحمد لله الهادي إلى سَوَاءِ الطريق، المنقد بمنه وفضله الضال والغريق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب التاج واللواء الحقيقي، وعلى آله وأصحابه أُولي الهداية والتوفيق، وبعد لما بلغ شريف علم سيدنا وولي نعمتنا، مولاي أمير المؤمنين، سليل الطيبين ونعمة السادات الهاشميين، المحفوظ بئاية الحفظ المنيعة، وعقد الدولة العلوية، وجوهرة إنسان عين البلاد المغربية. سلسلة الذهب الإبريز، حضرة سيدنا ومولانا عبد العزيز أدام الله تعالى تأييده ونصره. وأبقى لنا وللعباد وجوده، وأجرى في طالع اليمن سعوده ما شنف الأسماع. وشاع في سائر الأقطار والبقاع. مما عزمت عليه سائر الأقطار والبقاع. مما عزمت عليه حضرة السلطان (أكريت أبريطن) وإمبراطور

الانطلاق

الهند المعظم لدى المسامع، جلالة إدوارد السابع من الجلوس على مِنصَّة العز والتمكين، والتتويج بتاج الملك الرصين. انتخبت الحضرة الشريفة أعزها الله سفيرا لهذا المشهد الرائق والجمع الفائق. خديمها الأنصح المكرم الباشا الأفخم المحترم نخبة الباشوات الصادق السيد عبد الرحمن بن عبد الصادق ورشحته أيدها الله نيابة عنها لحضور هذا المحفل المحفوف بغاية الأبهة الملوكية وتهنئة لسلالة الملكة الفكتورية، والإسعاد للدولة البريطانية المفخمة بعاصمة إنكلترا، فكان ركوبنا على اليمن والبركة من ثغرنا السعيد كلاه الله وحماه في الساعة العاشرة صبيحة يوم السبت سابع عشر ربيع الأول سنة عشرين وثلاث مائة وألف هجرية، وذلك صحبة المركب الحربي الإنجليزي المسمى (رويان صفرن) قاصدين جبل طارق، ولما صعدنا له قابلنا رئيسه وكبراؤه مقابلة رسمية لائقة بالسفارة السعيدة، وفي الساعة الحادية عشر ونصف أقلع المركب بنا، وأثناء السير أتحف السفير المذكور رئيس المركب بسكين مُفَضَّضٍ رفيع بحمَّالته الذهبية، وخليفته بخنجر كذلك وفق العادة الجارية، وبعد مسير ساعتين ونصف أرسينا بمرسى جبل طارق ونزلنا بالمون الجديد المعد لنزول أهل المراكب الحربية، وقابلنا عند (المون) وكيل سيدنا ثمة الأرضى الطالب السيد عبد السلام بوزيان وخليفة حاكم البلد

والكبطان اعني قائد المرسى، وجماعته من الكبراء أحسن مقابلة حامدين لنا بالسلامة وأطلقت مدافع التحية المنحوتة أبراجها في الجبل، كما أطلقت من المركب المذكور أيضا وفق القانون الرسمي، ثم ركبنا في (الكُوجْيسْ) أعني عربية كانت معدة لركوب السفير، ومن معه، وتوجهنا فيها بين صفوف العساكر النظامية حاملة للسلاح مؤدية مراسم السلام والتحية، والموسيقة تصدح بالنغمات والألحان الإنجليزية، وسارت بنا والحالة أن الطرقات والسراجم كلها متزاحمة بالأهالي رجالا ونساء لائحة عليهم لوائح السرور إلى أن وصلنا إلى دار النقنصوات السعيدة. فنزلناها وبعد نحو ساعة توجه السفير لدار حاكم البلد الأشيب العاقل المعتبر (سجورت ويط) بقصد السلام عليه وفقا للقانون الجاري عندهم من كون القادم هو يبتدئ بالسلام، فتلقى السفير بغاية التعظيم والترحيب. وبعد هنيئة من مجالسته رجع السفير لمحل نزوله المشار إليه، وفي الساعة العاشرة صباح يوم الاثنين ورد عليه الحاكم المذكور وخليفته بقصد رد (البزيطة)! وهي عبارة عندهم على رد الزيارة، فقابله السفير أحسن مقابلة ولاطفه أحسن ملاطفة، وتناول معه شرب الأتاي ثم لما حاول الانصراف أتحفه السفير بسكين رفيع بحمالته الذهبية وخليفته بخنجار مفضض كذالك فأظهر بذلك سرورا عظيما وخرج من عنده على أتم نشاط، وقد كان بساعة خروجه ودخوله ببابه العدد الكثير من

الناس مستغربين زيارته حيث لم يعهد أنه زار أحدا هناك، وفي الساعة الثانية بعد الزوال من يومنا هذا وجه لنا الحاكم المذكور عجلته المخصوصة لركوبه فركبناها وصارت بنا للمون الجديد، وألفينا هناك خليفة الحاكم وقائد المرسى المذكورين على الهيئة المتقدمة الذكر آنفا متهيئين لوداعنا، فأدوا مراسم الوداع على القانون المعهود وركبنا بابورا صغيرا مخزنيا ليوصلنا للباكبط وبمجرد الركوب أطلقت مدافع التحية على العادة إلى أن وصلنا للباكبط المسمى بالباشا ومعناه باللغة الفارسية بلاد الفرس، فإذا هو باكبط جيد متسع طولا وعرضا في غاية الإتقان والنظافة، ثقله ثمانية آلاف طون وقد أنشئ عام ستة وتسعين مسيحية. وبه عدة بيوت من المرتبة الأولى المسمات عندهم بالبريمة ذات الفروش النظيفة ويليها عدة بيوت أخرى من المرتبة الثانية تسمى عندهم بالسكونضة. وبه بيت كبير متسع مشتمل على عدة كنابس من الحرير والمُوبر وهي عبارة عن الكراسي الرفيعة المتقنة الصنعة يسمونه بيت الجلوس والراحة وفيه بيت آخر أيضا يسمونه بيت الدخان كما به بيت كبير متسع جدا معد عندهم للأكل وهو المسمى عندهم بالكميدور وقد احتوى على ما يقرب ثمانمائة شلية يعني كراسي دايرة بالموائد الرفيعة والأواني النفيسة المعدة للأكل عليها، كما به عدة بنيوس وهي عبارة عن صهاريج رخامية على قدر جرم الإنسان ذات عنابيب مائية من البارد

والحر معدة عندهم للغسل والتنظيف كل صباح، وقريب منها عدة ميضات نظيفة ذات الماء الجاري بئالة بحيث لا تخطر معها أدنى رائحة، وقدر المستخدمين في هذا ألبا كبط ما يقرب من ماية نسمة وجلهم من أرض الهند ما بين المسلمين وغيرهم، وقد أخبرنا من يوثق به أن كَمْبَانِيَةَ هذا ألبا كبط يعني جماعة تجار ملاك هذا ألبا كبط المسماة بكمبانية (ابنسلار ابدار تيطل) لهم من جنس هذا ألبا كبط ما يزيد على السبعين، وليعلم الراكب في هذا ألبا كبط أن لهم قواعيد وأدبيات عند الأكل والشرب والجلوس وغير ذلك مما يطول شرحه فلترد البال أيها الراكب ولتأخذ بالاحتياط بقدر الإمكان والإنسان فقيه نفسه، وفي الساعة الرابعة عشية يومنا هذا أقلع بنا وسار بنا سير مسرعا لأنه يقطع سبعة عشر ميلا في الساعة، وفي الغد الذي هو يوم الثلاثاء مررنا بمياه البرتغال ويظهر إنها أرض طيبة المنبت غزيرة النفع كثيرة الجبال قوية الحراثة والعمارة وغيرها. وفي يوم الأربعاء دخلنا مياه بحر بِشْكَايَة المعروف دائما بكثرة الاضطراب والهيجان غير أنا وجدناه يومئذ متوسط الحال ما بين سهولة وصعوبة، وقدر مسافته خمسة وعشرون ساعة. وفي صبيحة يوم الخميس مررنا على منارة مبنية على حجرة صغيرة وسط البحر وعلى رأسها فنار معد لاهتداء المراكب ليلا وأخبرنا أن قدر منارات الضوء على شواطئ مياه أَكْلْتَرَّةْ المعدة لما ذكرنا نحو مايتي منارة احتياطا منهم على المراكب المارة ليلا وصيانة لها من الآفات البحرية.

وفي الساعة العاشرة ونصف نهارا من يومنا هذا وصلنا لأولى مرسى من مراسي كلاتيرة المسماة بابليمس وهي مرسى حربية حاصنة وأَلْفَيْنَا فيها عددا كثيرا من المراكب التجارية وغيرها مما لا يسع بيانه كما بها بعض المراكب الحربية وبالمغرب منها مراسي ثلاثة أصغر منها، الأولى تسمى شلطان والثانية تسمت دي البرط والثالثة تسمى سْطَنَ هَوْصَ وحراثتها وقتئذ لا زالت مخضرة كوسط الربيع عندنا بالمغرب مع أنه أواخر شهر ينيه العجمي وبمجرد ما أرسينا بها صعد عندنا الكبيطان موصلي رئيس المدرعة لابسا الكسوة الرسمية لأداء مراسم السلام نيابة عن ميرانط البحر الكبير. وقد وضع هذا ألبا كبط بالمرسة المذكورة من الركاب الإنجليزيين وبعض ملوك الهند ومهرج مع كُبَرَائِهِم وسفير الدولة الأفغانية الإسلامية، وعند الزوال لبسوا الملابيس الرسمية، كل على زي أرضه، ومن زي أهل الهند أنهم يتحلون بحلي النساء بالجواهر الرفيعة والأحجار النفيسة ومن جملة ملوك الهند المشار إليهم امرأة مسلمة ملكة على بعض جزور الهند على وجهها قناع وجميع من ذكر كله ورد بقصد حضور رسم التتويج ومن جملة ما أنزله الباكبط المذكور بالمرسى المذكورة ماية صندوق مملؤة ذهبا ما بين قطع ومسكوك مضروبة بجزيرة استراليا داخل كل صندوق بتقريب خمسة ءالاف إبرة وكل جمعة يرد على هذه المرسى باكبط ويضع فيها القدر المذكور وزيادة عليه.

وفي الساعة الواحدة من يومنا هذا أقلع بنا قاصدا مرسى اللندرة ولما قربنا لمرساها أتحف السفير رئيس ألبا كبط وخليفته بتحفة مناسبة كما أتحف المستخدمين به بدراهم ذهبية كل واحد منهم بما يناسب وَضِيَفَته وفق العادة الجارية. وفي الساعة الثالثة مساء يوم الجمعة حللنا مرسى اللندرة حلول حفظ وسلامة فإذا هي مرسى عظيمة وفيها من المراكب التجارية والحربية والبابورات الصغار المعدة لإدخال البابورات والمراكب للمرسى ولجر القوارب مالا يحصى كثرة، وما نزلنا بالدكس أعني المون إلا بعد ساعة لكثرة البابورات الداخلة والخارجة ولما نزلنا بـ المون سرنا خطوات قليلة فركبنا إحدى حافلة بابور البر ثم قفل بنا مسرعا إسراعا لا يتمكن الإنسان معه من النظر إلى الأشياء القريبة على حقيقتها لأنه يقطع ثمانين ميلا في الساعة الواحدة، وبعد سير نصف ساعة نزلنا في إسطيشن أعني موقف بابور البر وركبنا في عربية فصارت بنا نحو ساعة فوصلنا إلى الدار المعدة لنزولنا الكائنة بحومة تسمى جمسط السكوير نمرة أربعة وسبعين، وهي من الجهات المعتبرة عندهم هنالك لا يسكنها إلا الأعيان، وعادتهم أن حارات الأشغال والحوانيت والمخازن لا يسكنها إلا عامة الناس، وجهة مساكن الأعيان لا يكون إلا خالية من جميع ذالك، وجل بناء هاته البلاد من الأجور إلا قليلا من الحجارة المنجورة وعامة دورهم ذوات طبقات

أربع والخامسة السفلى تحت الأرض إذ كل دار منها في الغالب تجد على بابها دربوزا من حديد خارجا عن حائط الدار وفيه درج للدار السفلى المعدة عندهم للطبخ والأشغال اللازمة والخاص منها ذو طبقات عشرة إلى أربع عشر بالطبقة السفلى وأكثر طرقها في عرض العشرين ذراعا بعضها مر صفا بقطع من الخشب في شكل الحجارة وذلك لقلة الدوي وفقدان فرقعة العربيات. وفي هاته البلدة عدة (لميدات) أي حدائق كبيرة متسعة جدا بل لكل حومة حديقة صغيرة خاصة بأهلها ويخترق بهذه المدينة النهر الكبير المشهور بالتمس تسافر فيه السفن الكبيرة وعليه عدة جسور بعضها من بناء وبعضها من الخشب ومنها قنطرة الحديد التي لا أعمدة لها بل أحد طرفيها على ضفتي النهر ووسطها معلق بقضبان من حديد وسلاسل ممتدة إلى الضفتين يرفع وسطها بتلك السلاسل عند إرادة فتحها ثم تسد بأسرع حركة ومناولة كما تفتح كذلك وهي من أعجب ما يرى، وقد خرقوا تحت بعض جهات هذا النهر طريقا يمر فيها بابور البر تحت الماء وفوقه تمر المراكب البحرية وفوق الوادي قنطرة تمر عليها العربيات والناس والدواب وفوق ذلك كله جسر يمر عليه بابور البر أيضا فصار مجموع طرق الاستخدام أربعة كما علمت ويشقها نهر صغير يسمى بنو ويرا أعني الوادي الجديد على ثمانية وثمانين ميلا من المدينة والميْل في اصطلاح الإنجليز عبارة عن سبعة عشرة ماية يرضة (1700)، وماؤه يجتمع من عدة عيون ويصب في صهاريج ومنها يجري على بسيط الأرض في قواديس جديدة حتى يدخل لجهة من جهات البلاد فقط وباقي الجهات يجري لها من محل آخر وينقسم

على بعض ديارها وبساتينها وحدائقها، ومدة العمل في جلبه لها إحدى عشر سنة وذلك من عام تسعة وستمائة وألف مسيحية إلى عام عشرين، وقدر ما خرج صار عليه نصف مليون إبرة، ثم إن هذا الصاير وزع على خمسة وسبعين تاجرا كل واحد منهم نابه ستة آلاف إبرة وكل قسم من هذه الأقسام يساوي الآن لصاحبه ماية ألف أبْره، وأعظم مكان في (ألأَْنْدَرة) هو مركز أشغال التجارة الكبرى وهو طريق عظيم به ديار ومخازن وحوانيت السلع، ومن جملة ما بهذا المركز دار بنكة المخزن ودار حاكم البلد ودار البليسية وقريب منها دار ضرب السكة وبطرق هذا المحل من الازدحام وأصوات العجلات ما يحير العقل ويتعب النظر. وفي بعض جهات نهر التيمس موضوع عمود حجر المسمى بالمسلة، وهو قطعة واحدة من أعاجيب الدنيا لم أتحقق قدر طوله، وقد صرف على جلبه من الإسكندرية أموال باهضة وعلى طرف هاته البلد مصابيح من الأضواء الكازية، والكهربائية ما لا يحصى كثرة وكان الليل بها نهارا، وعلى كل مركز من الطرقات ورديات من البوليس وهو صنف من المخزنية يتميزون من العسكر بكسوة خاصة لا يحملون من السلاح إلا الكوابيس مستورة تحت لباسهم للاحتياط وهو قسمان، قسم ظاهر لابس لباسا رسميا يعرفه كل واحد، وقسم آخر خفي عيون، وأما العربيات التي في هاته البلدة فحدث ولا حرج ومن ضوابط استخدامها أنهم يجعلون على كل واحدة منها نمرة مركبة من واحد وهلم جرا. وقد رأيت مرسوما على واحدة منها نمرة تزيد على الستين ألف عجلة واسم صاحبها، ونمرة عجلته مرسومة في

قطعة من نحاس معلقة على صدره، ولذلك فوائد ونتائج، وهذه العجلات على أربعة أنواع، الأول من النوع المعتاد الذي يجره الخيل، وهو أكثرها، والثاني يسير بالقوة الكازية، الثالث يسير بالقوة الكهربائية، والرابع يسير بالقوة الكهربائية أيضا، إلا أنه بواسطة اتصال قضيب من حديد منه يسير إلى الأسلاك الكهربائية الممتدة بالطرق وكلما امتد سار معه، وهذا مقصور على الطرقات الطويلة التي خط السير فيها مستقيم ومن الحزم الذي ينبغي للراكب فيها أن يقيد في كناشه عند ركوبه نمرتها عسى أن يقع له من الآفات ويحتاج لرفع نازلته لدار البوليس فيجد النَّمْرَةَ مقيدة عنده ليعرف بها رجال البوليس كي يسهل عليهم معرفة صاحب النمرة. ومن الآداب في ركوبها أن يجلس كبير المرتبة مواجها للفرسين الذين يجرانها ومن يليه في المرتبة يجلس عن يمينه والثالث والرابع في المرتبة يجلسان أمامه، وفي كل حومة من البلد موضوعة آلة عجيبة تجر بالخيل كالعجلة معدة عندهم لإطفاء النار بسرعة متى شب الحريق في محل، ومن العوائد الجارية عندهم بخزائن البيع والشراء أنه إذا اشتريت منها مقضيات ولو قدر ماية ألف إبرة لا تتكلف بحمل ما اشتريته بل تعلم البائع لك باسمك وباسم محل نزولك ونمرته واذهب لغرضك مطمئنا من ذلك بحيث لا تجد ذلك إلا وصل في الحفظ والأمان. وبهذه البلدة دور كبير للبيع والشراء يصعد لطبقاتها بالمكينة إلا وأنت في الطبقة التي تريد الصعود إليها. وبالجملة فقد انفردت (اللندرة) على مدن قطر المعمورة بشدة الحركات في أشغال التجارة، وقدر سكانها على قدر ما يحررونه في هذا التاريخ هو

ما يقارب من ستة ملايين نسمة، ويرى مصدق ذلك في الطرقات والأسواق والحدائق سيما في محطة طرق سكة الحديد التي هي مبسوطة في الأرض كالجداويل متفرعة إلى جميع الجهات وبابورات البر بها صادرة واردة عليها ليلا ونهارا بحيث لا يسافر الإنسان بأحدها ولو ساعة إلا وتمر عليه عدة بابورات البر ما بين صادر ووارد وكلها في الغالب مشحونة بالركاب والسلع وغير ذلك. ويتحير العقل كيف لا تقع بينها مصادمة بسبب غلط من سلوك بعضها في طريق غيره، ولاتخلوا هاته البلدة غالب الأحيان صيفا فأحرى فصل الشتاء من كثرة الغيم والضباب وكاد المطر لا يفارقها وقد يشتد الحر في بعض الأوقات ولاكنه لا يتجاوز اليوم الواحد إلا ويعقبه سحاب ومطر وبرد فسبحان القادر على ما يشاء (رَجْعٌ). وفي الساعة العاشرة صبيحة يوم الأحد توجهنا لقصر السلطان المسمى سر جيمس بلاس بقصد رؤية هيئة عساكر عسس القصر المذكور فإذا هي على غاية من النظام العسكري مرونقة اللباس في زي مخصوص بها وتمييزا عن غيرها من سائر العسكر ومن زيهم أن قلانيسهم سود طوال نحو شبرين على هيئة قربة صغيرة متخذة من جلود الدب وتتكلف بثمن غال، ورئيس هذه العسة وكبيرها ولد وزير الخارجية الحالي. وفي الساعة الثالثة من عشية يومنا هذا ذهبنا لبستان الوحوش المستجلبة من سائر الآفاق فإذا هو جنان كبير متسع جدا محتو علي أشجار

ومياه ومحلات معدة للجلوس ولشرب القهوة، فرأينا فيه من أنواع الحيوانات البرية والبحرية وأنواع الطيور على اختلاف ألوانها وخلقتها البديعة على ما لا يكيف، ومن أغرب الحيوانات التي رأيناه ثمة بمرسى البحر في صهريج ماء صورة وجه لها شبه بصورة وجه الفرس وله صوت عال مزعج وإذا قوبل بمأكول من لحم ونحوه خرج من الماء لشافر الصهريج ليأكل ما يلقى إليه وهو سريع الحركات قوي البنية، ومثله بقر الماء فإنه إذا قوبل بمأكول ولو من حشيش خرج من الصهريج ليأكل ما يلقى إليه أيضا، وصورته تشبه صورة البقر البري. ومن أعجب ما رأينا من الحيوانات البرية الكركدان وهو على قدر بقر الجاموس ولكنه ضخم الجثة كلها معمورة بغداد لحمية. وقد أخبرنا المكلف بهذه الحيوانات أن الرصاص لا يؤثر فيه إلا في محل مخصوص بين أذنيه وله ثلاث قرون، اثنان صغيران بلصق أذنيه والثالث كبير في وسط هامته وبه يحارب الفيل لأنه عدو له ويأكل الحشيش ويجتر كالبقر. وأخبرنا أن عمره أربعون سنة. ومن أغرب ما رأينا سلحفات برية عظيمة الخلقة لها من العمر ماية سنة. ومن أعجب ما رأينا بالمحل المذكور نوع من البغال أصلها من بلاد الحبشة فوق الحمار ودون البغال وهي مخططة كلها خط أبيض وخط أسود. وكل خط منها في عرض إصبعين. وبه جملة من الأفاعي الضخمة التي تبتلع الجدي في لحظة. كما رأينا فرسا جامعا علوه على قدر الكبش، إلى غير ذلك من الحيوان الغريب الذي لا نقدر على عده ووصفه، فتبارك الله أحسن الخالقين والكل محتفل بتربية وتدبير عيشه وهيئة مختصة به مما لابد منه على حسب ما هو معتاد في قطره من إدامة حر أو برد وغير ذلك مما يحفظ حياته. فالحيوان الكبير في صهاريج ماء والصغير منه في أحواض من الزجاج

وهاكذا وبالجملة فإن ما رأيناه بهذا الجنان من غريب الحيوانات يتوقف على كتاب حياة الحيوان الموضوع في هذا الشأن. وفي الساعة الثامنة صباح يوم الاثنين توجه كاتبه سامحه الله نيابة عن السفير صحبة المكلف بنا وهو الكبير مسطر اكلايكر والترجمان اللبيب مسطر اروين بقصد رد البزيطة لبعض كبراء الدولة وغيرهم من سفراء الأجانب ثمة والعادة عندهم في ذلك أن يصل الزائر إلى باب دار المزور ويدفع طرخة أي بطاقة قد كتب فيها اسم الزاير واسم دولته كفلان سافر الدولة الفلانية ثم يتوجه إلى دار أخرى وها كذا إلى أن يأتي عن آخرهم. وفي هذا اليوم نفد لنا جانب المخزن عجلتين بهما متعلمان لابسان لباسا رسميا بقصد أن نركبهما للاستراحة ولمحل الفرجة وغير ذلك لسائر السفراء، وبذلك يمتاز السفير عن غيره. وفي هذا اليوم صدر لنا تنبيه للتأهب للملاقات مع حضرة السلطان صباح يوم الثلاثاء كما نتأهب للعشاء عنده تلك الليلة بعد أن وردت علينا يومه عدة أوراق رسمية بكيفية الدخول لمحل التتويج مع رسم صورة المائدة المعدة للعشاء عنده تلك الليلة ليكون السفير عالما بمحل جلوسه على المائدة، وعند الساعة العاشرة صبيحة يوم الثلاثاء بلغنا بالتأكيد أن حضرة السلطان منحرفة المزاج فأوجب الحال أن نتأخر عن ذلك حتى يظهر. وفي الساعة الثالثة من يومنا هذا توجهنا لمقابلة

اللورد لانسدون وهو وزير الأمور البرانية بدار إدارة الأشغال الخارجية فقابلنا بما لا مزيد عليه من الترحيب والتعظيم والبشاشة وسأل عن الحضرة الشريفة أعزها الله ووزرائها حفظهم الله فأجيب عن ذلك كله بما اقتضاه الحال. وهذه الدار متصلة بدار إدارة وزير المستعمرات وهي من أعظم ديار اللندرة بناءا إذ كلها مبنية بالأحجار المنجور المنقوش على شكل لطيف وصحنا متصلا جدا وكل جهة منها مقصورة على أشغال إيالة من المستعمرات مرسوم على حيطان تلك الجهة تماثيل وصور من الرخام على زي أشخاص تلك الإيالة بقصد تمييز أشغالها عن غيرها. وفي الساعة الواحدة من يوم الاربعاء توجهنا لقصر السلطان بقصد العياذة، وكيفيتها أن يضع العائد خط يده في كناش مخصوص بذلك موضوعا بباب القصر المذكور تحت يد المكلفين به وبعدما يجد الراحة تجرد تلك التوقيعات وتعرض عليه ليعلم من عادة من الكبراء والأعيان، وقد يجتمع كل الجم الغافر من العامة على حريم القصر ليتطلعوا على خبر حاله. وكل يوم يخرج من القصراربع إعلانات على لسان الأطباء الخمسة المخصوصين لمعالجة السلطان بالحالة التي يكون عليها في ذلك اليوم من راحة أو زيادة مرض. وينتشر ذلك في البلد وغيرها. ومن العياذة توجهنا للوقوف على الاصطبل السلطاني فإذا هو اصطبل كبير متسع جدا في غاية من النظافة والإتقان وبه مائة وعشرون من الخيل العتاق وهي على أنواع أربعة بركية وكمرية ودهمية وبلقية. فمنها ما هو معد لجر عربيات السلطان للاحتفالات الرسمية ومنها ما هو معد للمسابقة ومنها ما هو معد للصياده الي غير دلك من الترتيب. وكل

واحد منها له محل منفرد به عن غيره ومعه معدة من الماء الجاري ليشرب منها. وهناك محلات معدة لوضع سلاحاتها الرفيعة المزخرفة بالذهب والفضة. وهناك محلات أخرى أيضا موضوعة بها عربيات ملوكية من الطراز الجديد أنفقت عليها أموال باهضة منها واحدة في شكل غريب من العمل القديم قد مر عليها نحو مائة وأربعين سنة قيمتها ستة عشر آلاف إبرة. وفي الساعة الثالثة من يومنا هذا ركبنا عجلة وسرنا نحو نصف ساعة ثم نزلنا باسْطِيشَنْ أعني موقف بابور البر فركبنا حافلة من حافلاته وأقلع بنا إلى أن وصلنا للمحل المعروف عندهم بسطوار وهو عبارة عندهم عن مخزن كبير متسع جدا متقن البناء محكم الصنعة سقفه مقبي بقضبان حديد بينها قطع زجاج غليظ على شكل لطيف متخذا عندهم سوقا لبيع بضائع نفيسة وتحف غريبة وحوله حديقة ذات أشجار ومياه وبها مواضع معدة للجلوس ولشرب القهوة وشبهها. ومنه توجهنا للقشلة النازل فيها شرذمة من العسكر والطبجية من سائر المستعمرات الإنجليزية والمسلمون وغيرهم. وكل فرقة منها لابسة زي وطنها، ومنهم فرقة مكشوفون الرأس لأنهم يوفرون شعر رؤوسهم فيقوم لهم مقام القلانس وشبهها وهم متفقون بغلظ الشعر وخشونته. ومنهم فرقة حفاة لا يتمكنون من المشي بالنعال لتطبعهم بذلك وألوانهم مختلفة فمنهم الأسود، ومنهم الأحمر. وفي الساعة الثالثة من يوم الخميس توجهنا

لدار تسمى عندهم مدام طوسي متخذة عندهم لوضع صور الملوك والوزراء والحكماء والكبراء الأقدمين من دولة الإنجليز وغيرهم وجل أصحاب تلك الصور أموات وبعضهم أحياء من الموجودين الآن وكل صورة من تلك التماثيل في غاية الإتقان والتشخيص مصنوعة من الشمع وغيره حتى يتوهم الرائي أنها أحياء، ومن أعجب ما رأينا هناك صورة رجل ألماني طويلا جدا طوله ضعف قامة الرجل كما رأينا صورة رجل آخر قصيرا جدا طوله نحو ذراع. وهناك تماثيل مضى لأصحابها نحو تسع مائة سنة، وفي الطبقة السفلى من هذه الدار تماثيل من الرجال والنساء الذي اقتص منهم بجرائم ارتكبوها. فمنهم من قطع رأسه ومنهم من هو مهيأ للقتل، ومنهم من هو ملقى على الأرض مقتولا. وهناك تماثيل الحروب الهندية وغيرها مما يطول شرحه. والقاعدة عندهم عند إرادة دخول الشخص لهذا الدار يشتري كناشا صغيرا يباع في وسط الدار بثمن تفيه يتضمن تراجيم تلك الصور لأن كل واحدة منها مرسوم أمامها نمرتها كما هي مرسومة بالكناش المذكور ليهتدي به الواقف على ذلك حتى يعرف صاحب تلك الصورة وما يتعلق به، وفي الساعة الثامنة ليلا من يومنا هذا ذهبنا للطيطر المسمى باليس وهو عبارة عن محل الفرجة فرأينا فيه من عجائب اللاعبين السامرين ما لا يسع بيانه ومن ذلك لعب صبيان (الجابون) فرأينا صبيا منهم سداسي السن يرتفع في الهواء والآخر مستلق على ظهره يلقاه ويرفعه برجله كلما نزل من الهواء على كيفية بحيث لا ينزل مرة خارجا عن قدمي المستلقي إلى غير ذلك من أنواع اللعب التي تحير العقل وتتعب النظر، والقاعدة عندهم في الطيطروس أن مريد الدخول إليه يشتري تقييدا متضمنا

لجميع أنواع اللعب تلك الليلة المهيأة ليكون الإنسان متهيئاً لها على الإجمال قبل الشروع فيها. وفي الساعة الرابعة عشية يوم الجمعة ذهبنا للديوان الاجتماعي الرسمي المسمَّى بدار مجمع نواب الأمة على مصالح الرعية يعني يحضر بها نائب عن كل إيالة أو عمالة وكيلا عنها في جميع مصالحها ودفع مضارها، وهي دار كبيرة جدا متقنة البناء محكمة الصنعة مضى لبنائها الأخير عقب احتراقها نحو الخمسين سنة، واختطاط أساسها الأول ألف عام، ولا زال محلُّ بها على الاختطاط الأول وقدر الأعيان الذين يجتمعون بها ما يقرب للسبع مايه نفر، وبها عدة صور من بهر في السياسة من الأقدمين من الرخام المتقن التمثيل كما هو مرسوم بها هيئة الحرب التي وقعت بينهم وبين بعض الدول سابقا، وهذا المجلس مؤلف من فرقتين، فرقة في جانب المخزن يحضره كُبراء الدولة والوزير المناسب وصيفته لتلك المسءلة التي تقع المفاوضة فيها، فإن كانت من أشغال الداخلية فيحضر وزيرها وإن كانت من قبيل أشغال الخارجية فيحضر وزيرها أيضا وهاكذا العمل في كل قضية، والفرقة الأخرى مقابلة لهم تسمى بحزب الأحرار، وكيفية المفاوضة عندهم في سائر القضايا أن يقوم خطيب من إحدى الفرقتين يخطب على رءوسهم بورقة بيده متضمنة لما دار في المسءلة ثم يقوم خطيب من الفرقة الأخرى مقابلا لها أو مسلما بحسب ما يقتضيه المقام، وفي صدر هذا المجلس محل مرتفع على هيئة المنبر يجلس (رئيس) المجلس وعلى رأسه قلنسوة بيضاء يتميز بها عن غيره وأمامه كتاب يرسمون به ما يتلقونه من أفواه الخطباء في سرعة باهرة، ثم يقوم هذا الرئيس ويخطب خطبة متضمنة لما ترجح عنده من الخلاف الواقع بين الفرقتين ويقيم على كل فصل من

الفصول راجحة وبراهين قاطعة تشهد على ترجيحه حتى تكون المسألة واضحة كالشمس في الظهيرة وقريب من هذا الإيوان محلات رفيعة معدة عندهم للأكل والشرب ولترويح النفس وكلها مشرفة على النهر التيمس، وبالقرب من ذلك دار رئيس المجلس المذكور. وفي الساعة العاشرة من يوم السبت توجهنا لمرسى بورط سميد على طريقة السكة الحديدية وسرنا نحو ساعتين ونصف، وكل هاته الطريق على جوانبها أجنة وحراثة وبناءات ومحطات السكة فوصلنا إليها فإذا هي مرسى حربية متينة الحصون وبها عدة ترسنات أعني الحياض التي تنشأ فيها المراكب الحربية وموضوع بها كثير من إقامتها وآلاتها مما يقضي منه العجب وبمجرد وصولنا إليها تلقانا فسيال من فسيالات البحر كلفه بنا الميرانط الكبير فهيأ لنا عربية وسارت بنا إلى الدكس أعني المون فركبنا منه في مركب صغير حربي متحف الغاية وسار بنا يطوف على المراكب الحربية الإنجليزية على حسب ترتيبها، وما نمر بمركب منها إلا ويؤدي مراسم السلام بالموسيقى، وقدر ما كان موجودا منها ما يزيد على المايتي مركب كما بهذه المرسى عدة مراكب حربية خشبية من العمل القديم، ولا زالت في غاية الصيانة عندهم لتعليم المتعلمين، ثم رجعنا لمحلنا مع بابور البر أيضا. وفي الساعة الثامنة ليلا من يومنا هذا ذهبنا للطيطر والمسمى أنبار ورأينا فيه من العجائب والغرائب ما لا يكيف، وقدر ما كان فيه من المتفرجين نحو ثلاثة آلاف نسمة. وفي الساعة الثالثة من يوم الاثنين توجهنا صحبة بابور البر وسار بنا نحو ثمانية أقسام فوصلنا إلى مدينة ونزة التي بها قصر السلطان الذي يسكنه في بعض الفصول فإذا هو قصر كبير متسع

جدا فائق الإتقان محكم الصنعة والتزويق مزخرف حيطانه بأنواع الذهب والفضة وجميع أبوابه كلها منقوشة مزخرفة بالتذهيب والتفضيض وبه من الأثاث الظريفة والأواني النفيسة والفرش الحريرية والموبرية الملونة مع الزرابي التركية والهندية العريضة وأصناف الفخار الصينية العتيقة ما لا يوصف كثرة، ومن جملة ما رأيناه منه كموضة بديعة الصنعة من العمل القديم تساوي نحو خمسة وأربعين ألف إبرة، وفيه عدة قباب كبار منها مربع الشكل ومنها مستطيل، كل حيطانها ملبسة بأنواع الديباج المرقوم باليد على شكل لطيف فائق في الحسن والجمال وكل واحدة من هذه القباب توصف بلون فروشها. فان كانت مفروشة باللون الأخضر يقال لها القبة الخضراء وإن كانت ملبسة باللون الأحمر تسمى بالقبة الحمراء وهاكدا وكل قبة منها مخصوصة بغرض فمنها ما هو معد لجلوس الملك ومنها ما هو معد للمشاورة مع كبراء الدولة إلى غير ذلك من أنواع الترتيبات الخاصة التي يطول شرحها، وقد وضع بواحدة منها كرسي الملك المرصع بالحجارة النفيسة من البرنيط أي الحجر الأبيض النفيس الذي يعسر تقويمه، وبعض الاماكين من هذا القصر قد خصصت بأنواع التحف النفيسة والذخائر الغريبة والأشياء العتيقة كالسلاح والرماح وتماثيل صور بعض الملوك السابقة وتشخيص ما وقع بينهم وبين بعض الدول من الحروب وقد فتح على كل ربع منه سراجم تشرف على رياضات ذات مياه متدفقة من خصات رخامية بديعة الشكل محفوفة بأصناف الأشجار

وأنواع الأنوار تفرعت فيها طرق على أشكال لطيفة، وعدة درجه الذي يصعد عليها لأعلاه مائة وثمانون درجة، وبالجملة فإن هذا القصر من أعظم القصور الموجودة في أقطار المعمور وبالقرب منه غيضة كثيرة الأشجار يسرح فيها عدد وافر من الغزلان وبقر الوحش والأرانب كالنمل وكل ذلك مقصور على صيادة الملك في بعض الأوقات. وبتلك الغابة ديار المكلفين بحراستها وتفقدها. وفي الساعة العاشرة من يوم الثلاثاء توجهنا لمعرض جيش المستعمرات خيالة وعسكر وطبجية واصطفت صفوفها في فضاء متسع كل جنس إيالة منفرد على حدته في صف لابسا كسوة زي وطنه يمتاز بها عن غيره، ثم جاءت قرينة السلطان في عربيتها ونجلها ولي العهد وراءها راكبا على فرسه وسائر العائلة الملوكية، ومن جملتهم أخو السلطان الذي هو كبير على جميع العسكر. وكان الجمع الغفير من العامة وغيره حاضرا هناك بقصد الفرجة والكل رافع صوته بجميل الثناء والآداب اللائقة وسارت السلطانة هي الأولى في عربيتها وولدها المذكور خلفها راكبا فرسه وسائر الكبراء ووراءهما يمران بين صفوف الجيش صفا بعد صف إلى أن أتيا على آخرها. هذا ونغمات الموسيقى تصدح بالألحان الإنجليزية وقدر تلك الجيوش المستعرضة ما ينيف على الخمسة والعشرين ماية نفر، ثم بعد ذلك نزل ولي العهد عن فرسه وأحضر بين يديه نحو الخمسة عشر عسكريا ممن حضر حرب الترنسفال، فنودي على واحد منهم فتقدم إلى والي العهد وصار أحد كبراء الخيالة يعرف بذلك العسكر ويخبر عنه بما ظهر من بسالته وشجاعته ومزيته التي ظهرت في هذا الحرب الترنسفالي حتى فاق بها غيره من أقرانه فعند ذلك يخطو إليه ولي العهد خطوة فيعلق له على صدره نيشانا من رتبة أمثاله ويصافحه عقب

التعليق فيؤدي العسكري ما يجب عليه من الآداب اللائق بالمقام ويرجع لمحل وقوفه ثم يصفق الحاضرون على عاداتهم استحسانا وسرورا بتعظيم الرجال أو في المزايا ويأتي عسكري آخر فيفعل معه ولي العهد مثل ما فعل مع الأول حرفا بحرف وهكدا إلى أن يأتي عن ءاخرهم غير أن البعض منهم مكنه من نشانه في حكه من غير تعليق، ولعل مزيته أدنى من مزية الذي علق له وتم هذا المعرض عند الساعة الواحدة. وفي الساعة الثامنة من يومنا هذا توجهنا صحبة بابور البر وبعد سير ساعة وكسر وصلنا لفبريكة المدفع فإذا هي عظيمة متسعة جدا طولا وعرضا وهي على أربعة أقسام، الأول وهو أكبرها معد لإفراغ المدفع وسبكه، والثاني لإفراغ الكور وتركيب تخليطته، والثالث لإفراغ القرطوس، والرابع للنجارة كإنشاء الكريطات ونحوها، وما كنا نصل من قسم منها إلى قسم آخر إلا راكبين في بابور البر صغيرا عندهم ثمة، وقد رأينا فيها عدة مدافع كبار من خمسين طونا في الواحد، ومعلوم أن الطون عبارة عن عشرين قنطارا، وأما المدافع الصغار على اختلاف أصنافها فشيء كثير، وقد رأينا مدفعا من المدافع الكبيرة المحدث عنها معلقا في (البوجي) عند خروجه من بيت النار وهو كالجمر ثم أطفئ في صهريج من الزيت مركبة من جملة أدهان ليطلى بدلك المدفع ثم بعد خروجه من الزيت يجعل في المخرطة ثم يدار عليه السلك في عرض غرفة ليلتحم بذلك شيئا فشيئا ثم يعاد إلى بيت النار ثم يطرق عليه ليلتئم ذلك السلك وهكذا العمل إلى أن يصل للنهاية

المقصودة منه وهذا النوع عندهم أرفع وأوثق من الأنواع التي تفرغ دفعة واحدة. والعجب كل العجب من الآلات التي تدخل في جوف المدفع لتشريطه متقنا حتى كأنه من خشب بالنسبة لتلك الآلة، فلا ترى إلا نشر الحديد خارجا من فمه كالنشارة. وأما معمل مفراغ الكور فإن تخليطه الهند والحديد والمذاب ينزلان كالماء من عنبوب بوط كبير ويكب في بوط آخر للتصفية ثم يجري من ذلك البوط للقوالب ومباشرة ذلك بآلة ومكينات عجيبة وأما معمل القرطوس فكثير المستخدمين به الصبيان لمناسبة في ذلك وكيفية العمل فيه أن أول ما يفرغ منه غشاؤه من النيكل على قدر حلقة الخياطة ثم ينقل لمكينة أخرى فيخرج منها في لحظة أطول مما كان، وهاكدا إلى أن يتم العمل فيه، وقدر ما يصنع منه في اليوم نحو مليونين. وأما معمل الكريطات فبه من الآلات والحركات كغيره ما يحير العقل ويتعب النظر فترى الكريطة كأنها قطع من الخشب وبمجرد وضعها في المكينة تخرج مؤلفة متقنة التلحيم والصنعة، ومجموع ما في هذه الفبركة من المستخدمين خمسة وعشرون ألفا نسمة، وبعد استيفاء الغرض منها في الجملة رجعنا لمحل نزولنا بالسلامة. وفي الساعة العاشرة ليلا من يومنا هذا توجهنا لدار وزير الخارجية باستدعاء منه لمأدبة حضرها كل من السفراء والكبراء والأعيان حتى نسائهم وبناتهم وكلهن لابسات أحسن اللباس وعليهن من الحلي وحجر الزمرود الأخضر والربيل) الأحمر وجوهر

المخرطة ما يبهر، وعلى رؤوسهن تيجان من البرنيط النفيس الذي يعسر تقويمه، وقد تلاقينا به وبقاعدة بيته فبشا ورحبنا بنا أتم ترحيب، وبعد ساعة ونصف خرجنا من عنده. وفي الساعة العاشرة صباح يوم الأربعاء توجهنا لمعرض الجيش الهندي من الخيالة والعساكر والطبجية فكان معرضه علي مقتضى الكيفية المتقدمة انفا في معرض المستعمرة حرفا حرفا. وفي الساعة الثالثة من يوم الخميس توجهنا لدار نجل السلطان وولي عهده البرنس ذي غال فتلقينا به وبقرينته فرحبا ولاطفا في القول أحسن ملاطفة وسأل عن الحضرة الشريفة فأجابه السفير عن ذلك كله بأحسن عبارة ثم خطب السفير الخطبة المهيأة للاجتماع به فترجمت له وهو ينصت لها بسكينة ووقار، وبعد الفراغ منها ناوله السفير الكتاب الشريف بكلتي يديه مظروفا في غلافه الموبري مطروزا بالصقلي ملفوفا في سبنية من حرير فتلقاه منه ولي العهد بيده بغاية التعظيم والاحترام ثم أجاب عن الخطبة بما اقتضاه المقام، ومن الأدب المتعين عند سرد الخطب أنه مهما تلفظ القاري باسم الملك المرسل أو المرسل إليه أو دفع أو قبض كتابا أحدهما إلا ويميل كل أحد رأسه إمالة ما تعظيما لاسم الملك أو كتابه، ومن الأدب أيضا المؤكد أن الحاضر مع الملك لا يبتديه بمد يده للمصافحة حتى يكون الملك هو المبتدئ وكذلك قرينته يسلك معها هذا الأدب ولابد أن يبدأ أن يظهر مصافحهما انطلاق الوجه مع ميلان الرأس ولزوم الوقوف في محله متأدبا من غير التفات حتى يؤذن له بالانصراف أوينصرف الملك. وبعد نحو نصف ساعة خرجنا من عنده على أتم نشاط. وفي الساعة

العاشرة صباح يوم الجمعة ركبنا عربية وسارت بنا نحو ساعة فوصلنا إلى إسيطيشين فركبنا حافلة من الحفالات التي يجرها بابور البر من المرتبة الأولى ذات الفروش الرفيعة ومن جملة من ودعنا عند الاسيطيشين أحد ولات أشغال الخارجية نيابة عن وزيرها، ثم أطلق بابور البر بنا وبعد سير ساعة كاملة وصلنا لمرسى تيلبري فركبنا بابورا صغيرا فوصلنا للباكبط المسمى الربية أي بلاد العرب فإذا هو باكبط جيد مناسب لباكبط الباشا الذي كان حملنا من جبل طارق من باب لا فرق. وفي الساعة الثانية من يومنا هذا أقلع بنا بالسلامة وأنعم الله علينا بطيب البحر وليونته فكنا في غاية الراحة والحمد لله غير أنه اليوم الثاني من سفرنا كثر الضباب علينا وتكاثف ودام اليوم كله مع جزء من اليل حتى ضاقت صدور الركاب وقلق جل من في المركب حتى أمر الريس بحريته بتهيئ القوارب مما عسى أن يطرأ من مصادمة البابور لمركب آخر فيقع ما يقع، وهاده علة أعياهم علاجها وعجزوا وكثيرا ماتتصادم المركبان مثل هذه الحالة الرهينة فيهلك أحدهما بمن فيه أو هما معا، وقد كان ألهمنا الله سبحانه وتعالى لذكر اللطيف فتداركنا المولى جل جلاله بألطافه الخفية. إن ربي لطيف لما يشاء. وكم لله من لطف خفي. وكنت رأيت في هذه الليلة في عالم النوم أثر إغاثة من أهل الله،

رضوان الله عليهم، بحيث ما أكمل الليل حتى أتى المد بريح أجلت ذلك الضباب ومزقته شذر مذر. وبالجملة فرءية هذه الأمور فيها مواعظ وحكم لا تبصر، ومتعة للنفس لمن كان حظه النظر، وذلك كله من آيات الله الدالة على عظمته وقدرته الباهرة. وفي الساعة الواحدة من يوم الثلاثاء ثاني ربيع الثاني وصلنا لجبل طارق في حفظ وسلامة غير أننا لم ننزل إليه، وقد وجه لنا حاكم البلد مع قائد المرسى يستفهمنا هل لنا غرض في النزول للبلد ليتهيأ لاحتفال نزولنا على النسق السابق أم لا فأجبناه بالمجازات على اعتنائه واخترنا التوجه لطنجة وانتقلنا من الباكبط إلى المركب الحربي، رويال صفران الذي كنا قدمنا فيه في الذهاب بعد أن أكرم السفير متعلمي الباكبط وبحريته بدراهم ذهبية كل واحد منهم على قدر ما يناسب شغله وفق العادة الجارية. وفي الساعة الثالثة أقلع بنا من ثمة، وبعد ساعتين ونصف وصلنا ثغرنا السعيد المحروس بالله بخير وعافية لله الحمد والشكر أخيرا باطنا وظاهرا. وهذا ما يسر الله جمعه في هذه الوجهة الميمونة حفظا لما اشتملت عليه هذه السفارة السعيدة مما ينبغي أن يحفظ ويعتنى به، وتنبيها لما يتهيأ في المستقبل بمثله ليكون على بصيرة مما في هذا التقييد كله وليقس ما لم يقل. ولكل مقام مقال وذلك كله والحمد لله بوجود مولانا السلطان الأعظم والملاذ الأفخم سليل الملوك العلوين وتحفة الأمراء الهاشميين وأفضل من جلس على منصة التبريز مولانا عبد العزيز أعز الله به الإسلام دين وجعله أفضل من ملك استرعاه للمسلمين، أسعد الله أيامه، وأصلح الله على يديه البلاد والعباد وقطع بسيف عدله دابر أهل البغي والفساد ووفر حزبه وقوى

خاتمة الرحلة

مدده وسدد أمره ونصر دعوته ولبى طلبته، ولا زالت الخلافة فيه وفي عقبه إلى يوم القيامة بجاه جده عليه الصلوات والسلام. وكان الفراغ من تبييضها فاتح جمادى الثاني سنة عشرين وثلاثماية وألف عام على يد جامعها العبد الذليل الفقير إلى مولاه الحسن بن محمد الغسال كان الله له وتولاه بمنه وكرمه آمين. وكان الفراغ من نقلها من خط مؤلفها قرب زوال يوم الأحد الثامن من محرم الحرام فاتح أربعة وعشرين وثلاثماية وألف بخط أقل العبيد عبد ربه عبد السلام بن محمد الخليع بالثغر الطنجي كلاه الله آمين.

§1/1