الراغب الأصفهاني وجهوده في اللغة

عمر عبد الرحمن الساريسي

مقدمة

الرّاغب الأصفهاني وجهوده في اللّغة للدكتور عمر عبد الرحمن السّاريسي كلية اللغة العربية بالجامعة مقدمة إن من يبحث في حياة أبي القاسم، الحسين بن مفضل، المعروف بالراغب الأصفهاني1، وفي جهوده المختلفة في اللغة والأدب وغيرها يجد عنتاً شديداً. فبينا هو يرى أن كتابه (محاضرات الأدباء) لا يجهله أديب، ويلحظ أن معجمه في (مفردات ألفاظ القرآن) لم يستغن عنه مفسِر أو معجمي جاء بعده، وبينا هو يطالع قول الإمام فخر الدين الرازي (656) ، من أن أبا حامد الغزالي (505) كان يعجب بكتابه (الذريعة إلى مكارم الشريعة) ويستحسنه لنفاسته2؛ إذا هو لا يكاد يجد له ترجمة في كتب الطبقات والتراجم3!!!. وربما نتج عن هذا أن الرجل لم ينل حظه من الدراسة والبحث في الأبحاث المعاصرة أيضاً، فلم تفرد له دراسة مستقلة بل لم تعن به الدراسات التي تناولت أدباء العصر العباسي وفنونهم النثرية4. أما المشكلة الثانية التي تجابه المتصدي للكشف عن آثار هذا الرجل وأثره فهي تحديد

_ 1 راجع بروكلمان 1/ 269 والأعلام 2/279 ومعجم المؤلفين4/59. 2 راجع بغية الوعاة 396 وكشف الظنون1/530. 3 فلم يترجم له معجم الأدباء ووفيات الأعيان وسير أعلام النبلاء وتاريخ بغداد مثلاً. 4 مثل أبحاث أحمد أمين وزكي مبارك وآدم متميز وكتب تاريخ الأدب العربي.

عصره وذكر تاريخ وفاته وشيء عن نشأته. فكل ما قيل عنه لا يعدو ذكر ميلاده في أصفهان واختلافه إلى بغداد وأنه إمام في اللغة والأدب والتفسير، وأنه قد توفى عام502 هـ. ولقد كان الفارق الكبير بين ما يحق له من شهرة علمية مناسبة وبين هذا التنكر والتجاهل حافزاً قويا على العكوف على دراسته وتقصي أخباره مهما بعدت مظان أخباره وآثاره. وكان مما انتهى إليه الباحث، في هذا البحث، أن خيل إليه أنه قد جَمع ما يمكن أن يكوّن صورة أولية عن حياة الراغب وعصره وعن جهوده الفكرية واللغوية. أما في الأولى فأهم ما يزعم أنه قد توصل إليه أن صاحبه لم يتوف عام 502، كما زعم أكثر الذين ذكروه، بل إنه على المرجح أن يكون قد توفي قبل هذا التاريخ بقرن كامل من الزمان!! وهو فرق ليس باليسير في معرفة رجال التراث. وأما في الثانية فقد وقف على جهود للراغب في كل من اللغة والأدب والتفسير والفرق الإسلامية والتربية والأخلاق مما يستحق أن يفرد له مقالة برأسها، وهانحن هنا نحاول أن نَرصد جهوده اللغوية، والله من وراء القصد.

جهود في اللغة

جهود في اللغة آثاره اللفوية ... جهوده في اللغة: آثاره اللغوية: وفي بداية تعرفنا على جهود الراغب الاصفهاني في الأدب واللغة نحاول أن نتعرف أولاً على آثاره الأدبية واللغوية ولعلها تنحصر في (محاضرات الأدباء) وفي (مجمع البلاغة) وفي (المفردات في ألفاظ القرآن) ، ولم تخل سائر آثاره من الخبرة العميقة باللغة ومن استخدامها في الوصول إلى الحقائق المبتغاة. أما (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء) فلعله أشهر مصنفات الراغب على وجه الإجمال، "فهو خزانة أدب وشعر وحكم وأمثال" كما يذكر أحد الباحثين1, "وخير ممثل لثقافة العصر الذي عاشه الراغب" كما يقول باحث أخر2, يقع في خمسة وعشرين باباً، يسمي كل باب حدا، ويتضمن كل باب موضوعات تتفرع عن العنوان الأساسي للباب.

_ 1 جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية، دار الهلال ج3. 2 د. عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي 3/214.

ففي الباب الأول وعنوانه (العقل والعلم والجهل وما يتعلق بهما) يبحث في الموضوعات التالية (العقل والحمق وذم اتباع الهوى، ما يحد به العقل وبنوه والحمق وذووه، الحزم والعزم والظن والشك 000) يقول في المقدمة: "وقد ضمنت ذلك طرفاً من الأبيات الرائقة والأخبار الشائقة 000"2، وكان يحرص أن يجمع هذه الأخبار وهذه الأبيات من جيد المنثور والمنظوم مما سبق من عهود التراث، في موضوعات متنوعة من الثقافة والأدب والاجتماع، جرياً على عادة الكتاب في القرن الثالث والرابع الهجريين من (أن الأدب هو الأخذ من كل علم بطرف) . ويبدو أنه كان يرمي إلى أن يجعل من كتابه مادة تعليمية ينهل منها الشادون في الأدب والمتعلمون. وكان فيه إلى جانب الجد والأخبار لون من الهزل والغزل والمجون، فمن شاء وجد منه ناسكا يعظه ويبكيه ومن شاء صادف منه فاتكاً يضحكه ويلهيه3، كما يقول. وطريقته في التأليف فيه هي أن يجمع تحت الموضوع الذي عقده ما يناسبه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم مأثورة وأشعار مروية وأخبار سائرة وأمثال نادرة. ويبدو أن كلمة (محاضرات) الأدباء كانت تعني مجالسهم وما يطرح فيها من أدب وأخبار. وقد لقي هذا الكتاب عناية كبيرة فقد ترجم إلى اللغات الأوربية4, وهذب وشذب5, ونشر عدة مرات في القاهرة وفي بيروت6. أما (مجمع البلاغة) فهي المخطوطة التي قمت بتحقيقها من أعمال الراغب، وقد وجدت من التحقيق أنها في أغلبها مأخوذة من كتاب المحاضرات, لذلك فهي تأخذ منهاجه ومادته إلى حد ما, ولكنها تتميز عنه بغزارة المادة اللغوية في صيغ الأفعال وصيغ الأسماء والتراكيب الأدبية، وما بين متشابهاتها من فروق دقيقة.

_ 1 طبعة دار مكتبة الحياة، 1960، في مجلدين. 2 ترجمة فلوجل-دائرة المعارف الإسلامية المجلد9 عدد1 ص 407. 3 طبعة دار مكتبة الحياة 1960 في مجلدين. 4 نشره إبراهيم زيدان عام 1902 مختصرا، ونشره أنور الجندي عام 1960 مختصراً، وزارة الثقافة المصرية. 5طبع عام 1284 بمطبعة بولاق وعام 1287 بالمطبعة العثمانية و1305 بمطبعة جمعية المعارف، 1310 بالمطبعة الشرفية، 1322 مطبعة السعادة، 1326 المطبعة العامرة. 6 طبعة دار مكتبة الحياة 1960 في مجلدين.

وقد وقعت المخطوطة في نحو من مائتي ورقة تنتظم خمسة عشر فصلا, ذكرها السيوطي فيما وقف عليه من آثار الراغب باسم (أفانين البلاغة) . وذكرها غيره من بين مخطوطاته. ويبدو أن مصنفها أراد من كلمة (البلاغة) المعنى الأدبي الذي يعني ببليغ القول وفصيحه من شعر ومن نثر، ولم يرد المعنى الاصطلاحي منها. أما كلمة (مجمع) فإنه يريد منها أنها تجمع فيها كل أركان الفصاحة والكلام البليغ. أما كتاب (مفردات ألفاظ القرآن) فسيأتي الحديث عنه في تبيين أثر الراغب اللغوي- إن شاء الله-.

خطة بحث

خطة بحث: فإذا ما حاولنا بعد ذلك التعرف على جهوده في ميدان اللغة فإننا سنجدها مبثوثة في مصنفاته الأدبية أو في مفردات ألفاظ القرآن بوجه خاص أو في سائر مصنفاته. وقد برزت له معها جهود لغوية أخرى يمكن أن نجمعها في شكل قضايا لغوية متفرقة، سنعرض لها- إن شاء الله- بعد أن نقف على ما حوت مصنفاته أولاً من هذه الجهود. أما في مصنفاته الأدبية: فقد عني باللغة عناية خاصة تمثلت في تجميع مفرداتها المتلاقية المعاني المختلفة الأشكال في أسر لغوية، تجد ذلك في الأفعال وفي الأسماء وفي التراكيب التي يقترب بعضها من بعض في الدلالة وتختلف عنها في الصياغة. ففي معنى (الكبر والضعف) يقول: "احقوقف ودنف وتأطَّر وانحنى، وخانته القوى، وخذلته الأركان، وتقوس من الكبر، وبلِي كما يبلى الشجر، غيض بصره وأجلاده، ولان أجياده، صار كعظم الرمة البالي") 1 فالأفعال الأربعة الأولى أفادت المعنى بنفسها، أما سائر أفعال هذا المعنى فلم تتضح إلا بإكمال التركيب الذي ترد فيه. وفي جميع المفردات الاسمية التي تنتظم تحت معنى واحد وفي توضيحها ننظر إلى المثال التالي: "القَرْم أكل الصبيِ والخضْد للعقل والخَضْم للرطب والقَضْم لليابس، والقطم بأطراف الأسنان كالرمان، والكَشْم والكَشْذ كنحو القثاء، والَمسْغ والمسع كالبطيخ والكَشْب للحم، والعَلْك لكل معقود والكشّ لذوات الحافر"2.

_ 1 مجمع البلاغة ص 241. 2 مجمع البلاغة 358 ولعله يريد بالكش صوت ذوات الحافر وهي تأكل

أليس يذكرنا الراغب في مثل هذه المجموعات، وما أكثرها في مجمع البلاغة بوجه خاص وفي المحاضرات، بما عرف في فقه اللغة بالفروق والذي ظهر بشكل واضح في كتاب أبي منصور الثعالبي (فقه اللغة وسر العربية) ؟. إن الباحث حينما يتعمق في هذه المجموعات اللغوية أو الأسر اللغوية في أعمال الراغب، يجد أنه لا يبعد كثيراً عن المراحل المتتالية التي قطعتها معاجم المعاني حتى ارتقت في كتاب الثعالبي في الشرق وفي مخصص ابن سيده في الغرب1. ففي (القِرى) يقول الراغب: "المأدُبة والوليمة والعُرْس والخُرْس والإعذار والنقيعة والوكيرة والعقيقة والوضيمة للدعوات"2 ولدى البحث نجد لهذه الأسرة اللغوية أصلاً في كتاب (تهذيب الألفاظ) لابن السكيت3، حيث يقول: " ... ِ والوليمة طعام العرس.. والوكرة والوكيرة الطعام الذي يصنعه الرجل عند فراغه من بناء داره فيدعو عليه، والإعذار والعذره طعام الختان.... والنقيعة طعام الأملاك.... ويقال لطعام الولادة الخُرس والذي تطعمه النفساء الخُرْسة ... "4. إن مقابلة هذه المجموعة اللغوية في الكتابين تدل على أن الراغب قد اطلع على ما في تهذيب الألفاظ ولم ينهج منهاجه في التفصيل فيما بين المفردات المتشابهة من فروق. ولنتأمل المجموعة اللغوية التالية في أثار الراغب: " تقول في إصلاح الفاسد: أصلح فاسدَه وحصد معانده وقَوَّم مائده ولمَّ شَعْثَه ورَمَّ رَثّه ومنتكثه وآسى كَلْمَه، حسم الأدواء بكيّه وإنضاجه وِادمل الجروح بطبه وعلاجه، رتق الفتوف بعد تفاقمها واستفحالها ... نهض إلى فَتْق فرتَقَه وخرْق فرقعه وشَعْثٍ فلّمه ونشرٍ فضّمه.... تألف النافَر، سد مختله واصلح معتلّه ... "5. ولنتأمل معها المجموعة اللغوية الأخرى من الألفاظ الكتابية للهمذاني (320 هـ) : "في باب معنى أصلح الفاسد تقول: لم فلان الشعث وضم النشر ورَمَّ الرث وسد الثغر ورقع الخرق ورتق الفتق وأصلح الفاسد وأصلح الخلل وجمع الشتات وجبر الوهن"6.

_ 1 راجع لذلك المعجم العربي، نشأته وتطوره، د. حسين نصار. وحركة التأليف عند العرب د. أمجد الطرابلسي. 2 مجمع البلاغة 392. 3 يعقوب بن اسحق (244هـ) حققه وفهرسله9 لويس شيخو بيروت 1895. 4 المصدر السابق ص614. 5 مجمع البلاغة ص 175. 6من فصل من فصول الباب الأول من الألفاظ الكتابة لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، حققه ونشره لويس شيخو بيروت الوضيمة: طعام المآتم. النقيعة: ما يذبح للضيافة أو طعام الرجل ليلة عرسه.

إننا نجد أن لا بد من وجود علاقة تَأثّرٍ بين المجموعتين، أو المجموعة الواحدة في الكتابين، على الأصح. فكما أن الراغب أفاد من ترتيب سابقه كذلك شقق التعابير ووسّع فيها، في إطار المعنى العام الواحد لمختلف التعابير. وقد صنَّف في مثل هذه المجموعات اللفظية قدامة بن جعفر، أيضا، كتابا في (جواهر الألفاظ) 1 وكان الفصل الأول فيه باب إصلاح الفاسد. وقدامة من كتاب القرن الرابع الذي أظل الراغب، فيما نرجح، وأظل أبا منصور الثعالبي. ويبدو أنهم لم يكتفوا بمرحلة السمع والتأنقات اللفظية بل تخطوها إلى التأليف في الألفاظ، كما يلاحظ باحث حديث2، وهو يعني أنهم جعلوا ينظرون إلى الألفاظ نظرة تفوق ما بينها من محسنات إلى مستوى تجميعها في أسر ومجموعات. وقد نجد أن الراغب كان يغتنم فرصة التعبير الغامض فيبادر إلى شرحه من خبرته اللغوية، شرحا معجميا، دقيقا، مثل قوله: "اللَّفَفُ أن يدخل بعض حروف في بعض، والعُقْله أن يعتقل لسانه، واللّكْنَه إذا دخل حروف العجم منه والحُكْلة نقص في آلة الكلام "3. وكثيرا ما يرد الكلمات إلى معانيها اللغوية الأولى التي اشتقت منها، كقوله: "كَعَمه الخوف من الكِعام الذي يوضع على أنف البعير" 4 وقوله: "المخضرم الذي لحق الجاهلية والإسلام, وقيل مخضرم الدولتين لمن لحق بني أمية وبني العباس وأصله من لحم مخضرم أو من المخضرمة وهى القطعة التي تقطع من أذن الناقة "5. أما ما في المفردات في ألفاظ القرآن من جهود لغوية فإننا نحاول أن نتعرف عليها الآن، بعد ما حاولنا الإشارة إلى ما في هذا المصنف الكبير من أثر في التفسير القرآني ولنتعرف على منهجه في هذا المصنف وعلى غايته من تصنيفه من مقدمته، يقول فيها: " وقد استخرت الله في إملاء كتاب مستوفي فيه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجي، فتقدم ما أوله الألف ثم الباء على ترتيب حروف المعجم، معتبرا فيه حروفه الأصلية دون الزائدة، والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب"6.

_ 1 تحقيق محيى الدين عبد الحميد،القاهرة،1934. 2 د. زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع.1/86. 3 مجمع البلاغة ص57. 4 مجمع البلاغة ص193. 5 مجمع البلاغة ص53. 6 طبع بعناية محمد سيد كيلاني.

إنه، أولاً، يريد أن يقيم مؤلفه على ألفاظ القرآن لا على معانيها وبذلك يقترب من عمل المعاجم التي تعنى بشروح الألفاظ. وهو، ثانياً، ينوي أن يرتب هذه الألفاظ باعتبار أوائلها وفقا لترتيب حروف الهجاء: الألف مع الباء والألف. ثم الألف مع الباء والباء، ثم الألف مع الباء والتاء ثم الألف مع الباء إلى ... الياء، وهكذا يفعل بسائر الحروف. وهو، ثالثا، يبدأ بالحروف المجردة للكلمة قبل أن يأخذ في مزيداتها، وهي طريقة المعاجم. وهو، رابعا، يشرح تحت المادة المجردة كل ما اشتق منها وناسبها، أي اقترب من لفظها، من الألفاظ القرآني. ولنختر مادة من مواد هذا المصنف، لنرى إلى أي مدى حقق الراغب عملياً هذا المنهاج، ولنبحث عما يميز كتابه هذا عن أعمال سائر اللغويين، ولتكن مادة حَسُنَ: حَسُنَ: الحُسْن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه. وذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى ومستحسن من جهة الحسّ. والحَسَنة يعبر بها عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله. والسيئة تضادها، وهما من الألفاظ المشتركة، كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة، كالفرس والإنسان وغيرهما. فقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي خصب وسعة وظفر، وإن تصبهم سيئة أي جدب وضيق وخيبة. وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} . وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، أي من ثواب، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} أي من عقاب. والفرق بين الحُسْن والحَسَنة والحُسْنى أن الحسن يقال في الأعيان والأحداث، وكذلك الحسنة إذا كانت وصفا، وإذا كانت اسماً فمتعارف في الأحداث، والحسنى لا يقال إلا في أحداث دون الأعيان، والحسن أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر؛ يقال: رجل حسن وحُسّان وامرأة حسناء وحسانه. وأكثر ما جاء في القران من الحسن فللمستحسن من جهة البصيرة. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي الأبعد

عن الشبهة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا شككت في شيء، فدع"، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي كلمة حسنة وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} . وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} . وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} , إن قيل: حكُمه حَسَنُ لمن يوقن ولمن لا يوقن فلم خص؟ قيل: المقصد إلى ظهور حسنه والاطلاع عليه وذلك يظهر لمن تزكى واطلع إلى حكمة الله تعالى دون الجهلة. والإحسان: يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير؛ يقال: أحسن إلى فلان، والثاني: إحسان في فعله؛ وذلك إذا علم علماً حسناً أو عَمل عملاً حسناً, وعلى هذا قول أمير المؤمنين -رضي الله عنه-: "الناس أبناء ما يحسنون" أي منسوبون إلى ما يعملون. وما يعملون من الأفعال الحسنة قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . والإحسان أعم من الإنعام؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} فالإحسان فوق العدل، وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له، فالإحسان زائد عن العدل. فتحري العدل وأجب، وتحري الإحسان ندب وتطوع. وعلى هذا قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} . وقوله عز وجل: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . ولذلك عظم الله ثواب المحسنين فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} , وقال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} , {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} . ولدى التأمل في هذا النص قد نلاحظ الملاحظات التالية: أولاً- إن كتاب المفردات معجم خاص, وقد توفر على الشرطين الأساسيين اللذين توفرت عليهما سائر المعاجم اللغوية وهما الترتيب والشمول 1. فها هو ذا قد رتب مفردات القرآن الكريم جميعها تقريبا 2 حسب حروف الهجاء باعتبار أوائلها، فمادة (حَسب) تسبق (حسد) وهما تسبقان مادة خرج وهلم جرا.

_ 1 راجع لذلك حركة التأليف عند العرب وأمجد الطرابلسي، والمعجم العربي، نشأته وتطوره د. حسين نصار. 2 أقول تقريبا لأنني اطلعت على استدراك مخطوط عليه عدد مواد قرآنية لم يتعرض لها، رقم ض448 مكتبة راغب باشا باستانبول.

ونقول: هو معجم خاص؛ لأنه يختص بما ورد في القران الكريم فقط من مواد لغوية. وبهذا قد يكون تفرد من بين أصحاب المعاجم الذين سبقوه. ولعل المعاجم الخاصة لم تظهر إلا متأخرة في اللغات الأجنبية وفي لغتنا العربية1. ثانياً - ترتيب معجم المفردات على أساس حروف الهجاء مع مراعاة أوائل الأصول. لقد وردت مادة (حسن) في هذا المعجم في نهاية قائمة الحاء والسين وما يثلثهما: حَسّ، حسب، حَسد، حسر، حسم، حسن. ثم وردت بعد مادتها (حشر) وما يشتق منها. وهكذا يكون قد نظر إلى حرف الحاء- مثلاً- في الترتيب، وهو بذلك يخالف ما عرف قبله من معاجم ترتب المواد حسب مخارج الأصوات, أو اعتبار الحرف الأخير من المادة، كما عرف في معجم العين للخليل (170 هـ) , وتاج اللغة العربية, وصحاح العربية للجوهري (393) , ويوافق في طريقته طريقة ابن دريد الأزدي (331 هـ) في الجمهرة في اللغة, وابن فارس (395) الذي نرجح أن الراغب كان معاصراً له، في معجميه (المجمل) , (ومقاييس اللغة) . ثالثاً- ثنائية اللغة- ويبدوا أن الراغب قد تأثر بابن دريد أكثر من غيره؛ وذلك أننا لو نظرنا إلى قائمة الحاء والسين وما يثلثهما لوجدناه يبدأ فيها بالفعل حَسَّ ثم يأتي بعده الحاء والسين والباء. وكذلك في مادة (حَضَّ) ومادة (مَزَّ) . أليس يدل هذا على أن الراغب كان يرى ثنائية اللغة وأنها أولاً ذات أصول ثنائية؟ وقد كان ابن دريد يقسم اللغة إلى ثنائي وثلاثي ورباعي وقد لاحظ هذا في الراغب العالم اللغوي الأب انستاس الكرملي, وقال: "إنه تشبث بالثنائية"2، وذكر باحث آخر ذلك بإعجاب قائلاً: "إن الثنائية سمة اللغات السامية"3. ومما قد يساعد على هذا أن الراغب قد أفرد للمواد الرباعية أبواباً خاصة ولم يلحقها بالثلاثي مثل: عبقر، وعسعس، وشرذم، وسرمد، وِما ذاك إلا أنه يوافق رأيه في القول مع القائلين إن الرباعي ثنائي مضعف، فزلزل مثلاً من زلّ وعسعس من عَسَّ. رابعاً - الخبرة اللغوية- يبدو أن الراغب يدل بثقافة لغوية عريضة، يناقش فيها ما يورد اللغويون قبله بثقة اللغوي واقتدار المفكر، ففي مادة (بعض) نراه يقول: "بعض الشيء جزء منه..... ويقال ذلك بمراعاة كل، ولذلك يقابل به كل, فيقال:

_ 1 لم تعرف في لغتنا إلا حديثا معجم المصطلحات الزراعية، والمعاجم الطبيعية والفلسفية والاجتماعية مهلاً. 2 راجع لذلك دراسات في فقه اللغة د. صبحي الصالح ص162، وهذا يوافق رأي الكرملي. 3 المرجع السابق، ص164.

بعضه وكله.... قال أبو عبيدة: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي كل الذي تختلفون فيه كقول الشاعر: أو يعتبط بعض النفوس حمامها وفي قوله هذا قصور منه؛ وذلك أن الأشياء على أربعة أضرب: 1 - ضرب في بيانه مفسدة فلا يجوز لصاحب الشريعة أن يبينه كوقت القيامة ووقت الموت. 2- وضرب معقول يمكن للناس إدراكه من غير نبي كمعرفة الله ومعرفته في خلق السموات والأرض، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبينه, ألا تَرى أنه كيف أحال معرفته على القول في نحو قوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} , وقوله: "وتفكروا" وغير ذلك من الآيات. 3- وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصة بشرعه. 4- وضرب يمكن الوقوف عليه بما يبينه صاحب الشرع كفروع الأحكام. وإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختص بالنبي بيانه فهو مخير بين أن يبين وبين أن لا يبين حسب ما يقتضي اجتهاده وحكمته. فإذاً قوله تعالى: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} لم يرد به (كل ذلك) وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه. وأما قول الشاعر: أو يعتبط بعض النفوس حمامها فإنه يعني به نفسه، والمعنى ألا أن يتداركني الموت، لكن عَرّض ولم يصرح حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته. بهذه القدرة اللغوية في فهم النصوص القرآنية والأشعار يناقش الراغب أبا عبيدة معمر بن المثنى أحد شيوخ اللغة والنحو في بداية القرن الثالث الهجري، ويظهر خطأه في أن معنى كلمة (بعض) في الآية {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو (كل) وذلك بفقه شرعي متميز يوضح ما يجوز لصاحب الشرع أو للنبي عليه السلام أن يبينه وما لا يجوز له أن يبينه، وبالتحاكم إلى فهم سليم لنصوص الشعر، في شطر بيت الشعر المنسوب إلى لبيد، حيث يعني نفسه ولم يعن كل الناس، وننظر إلى قوله: "وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه"، إنه يريد أن يقول هذا ظاهر في كل نظر متجرد عن الهوى وبالنظر الموضوعي، كما نقول في هذه الأيام. ولننظر إلى قوله: "حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته" أليست نظرة واقعية إلى طبائع الناس في استبعاد ذكر موتهم، في هذه الحياة؟ خامساً- تطور اللغة- ويبدو أن أبا القاسم الراغب لا يتوفر على خبرة لغوية واسعة وعلى فهم دقيق لأسرار هذه اللغة وحسب؛ بل إن خبرته اللغوية قد مكنته من إدراك التطور الذي أصاب اللغة العربية منذ مرحلة النشأة الأولى التي تبدو في مفرداتها المطلقة على الأمور

المادية المحسوسة إلى مرحلة التطور والتقدم الذي أخذت فيه هذه المفردات دلالات اصطلاحية ومعنوية جديدة, ولننظر لذلك فيما قال في كلمة (الفارض) : " (والفارض) : المسنَّ من البقر، قال: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} ، وقيل: إنما سمي فارضا لكونه فارضا للأرض أي قاطعا، أو فارضا لما يعمل من الأعمال الشاقة، وقيل: بل لأن فريضة البقر اثنان: تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنّة يصح بذلها في كل حال. فسميت المسنّة فارضة لذلك. فعلى هذا يكون الفارض اسماً إسلامياً". يريد أن كلمة (فارض) بمعنى المسنة من البقر معنى ظهر في اللغة بمجيء الإسلام، فهي لم تعرف هذا المعنى من قبل، وقد عرفت بدلالتها المادية في فرض الأرض أي قطعها وتشقيقها في الحراثة أو بما يماثله من الأعمال الزراعية الشاقة. وبهذا يدل الراغب على تنبهه لمعاني المفردات في المعنى المادي وفي المعنى الاصطلاحي المعنوي الذي يواكب التطور الحضاري. وهو سبق أرَى أنه يدل على عقلية متفتحة وسبر للغة العربية نادريَن، فكثيراً ما شغل الباحثون في عصورنا الحاضرة عن الألفاظ الإسلامية التي أضفاها الإسلام على العربية1. سادساً- الراغب والمعاجم اللغوية- رأينا أن مفردات الراغب في ألفاظ القرآن معجم خاص بكل ما في المعاجم من شمول وترتيب وخبرة لغوية دقيقة. ولذا فإننا لا نستغرب إذا وجدنا أنه ما من مفسر لكتاب الله العزيز أو متفرغ لمعاجم اللغة يأتي بعد عصر الراغب، الذي رجحنا أنه عاش إلى أوائل المائة الخامسة للهجرة، إلا يحتاج من هذا المعجم الفريد، بصريح الإشارة إلى المصنف أو صاحبه أو دونما إشارة. أما القول بأن معجم (أساس البلاغة) الذي صنعه جار الله بن محمود الزمخشري (538) في اللغة، وإنه مقتفٍ لأثر الراغب في ترتيب مواده اللغوية فهو قول قد يصح ويجوز، وقد يدفعه رأي آخر بأنه تطور طبيعي بدأه ابن دريد الأزدي وسار الآخرون على سنته. أما في سائر مصنفاته فإننا نجد الخبرة اللغوية أيضا تتضح في تناول الراغب كثيراً من مفردات اللغة بالشرح والتوضيح بين المعاني المتقاربة للألفاظ المتباعدة.

_ 1 ولنلاحظ استخدامه لكلمة الفريضة في قوله (فريضة البقر اثنان) وهو تركيز على المعنى اللغوي لها، جاء في القاموس المحيط (أن الفريضة ما فرض في السائمة من الصدقة) . ولا ننس المعنى الاصطلاحي لها فيما فرض الله على الناس مت أحكام.

فلننظر في تناوله لكلمة (الإبداع) في أحد هذه المصنفات1: "فالإبداع هو إيجاد الشيء دفعة لا عن موجود ولا ترتيب ولا عن نقص إلى كمال، وليس ذلك إلا للباري تعالى، وإن كانت العرب تستعمل الإبداع فيمن يحفر بئراً في مكان لم يحفر فيه قبل". إنه يعيد المادة إلى معناها اللغوي المادي، وفي مصنف آخر2 يقفنا على مراحل الكلام بدقة الخبير: "إعلم أن المعنى إذا كان في النفس فعلْم، وإذا انتهى إلى الفكر فروية، وإذا جرى به اللسان فكلام، وإذا كتب باليد فكتابة، فهو بالذات شيء، وتختلف عليه الأسامي بحسب اختلاف الأحوال به، وذلك كما أن القطن مادام بحالته قطن، فإذا غزل فهو غزل، فإذا نسج فثوب، فإذا خيط فقميص أو جُبّة" إنه يبين لنا (حدود) هذه الكلمات التي عندما تنتهي تبدأ حدود كلمة أخرى. وقد سوغ هذا التقسيم بأن الأسماء تختلف باختلاف الأحوال، ووضحه بمثال القطن الذي يشبه حالات المادة الواحدة الثلاث بين الصلابة والسيولة والغازية. وفي أثر ثالث للراغب نجد الكثير مما يدل على تسخير اللغة لفهم المتشابه من آي القرآن الكريم وما بينها من الفروق الدقيقة التي تغمض لدى الكثيرين، ونعني مخطوطة (درة التأويل في متشابه التنزيل) التي يتحدث عنها في جهود الراغب في التفسير.

_ 1 الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص219. 2 مخطوطة تحقيق البيان، الورقة رقم9.

قضايا لغوية

قضايا لغوية الترادف ... قضايا لغوية: ويمكن للباحث أن يستخرج رأي الراغب في مجموعة من القضايا اللغوية التي تهم الباحثين اليوم. الترادف: لقد أكثر الراغب من حشد أسر الألفاظ اللغوية من أفعال وأسماء وتراكيب، كما رأينا في محاضرات الأدباء ومجمع البلاغة، بدوافع تعليمية كانت تحفزه إلى جمعها بعضها إلى جانب بعض ليفيد منها المتعلمون من أبناء عصره. وكان يجمع في الأسرة الواحدة المفردات التي تتقارب معانيها وتتباين موادها اللغوية. وهذا يحملنا على التساؤل عن موقف هذا اللغوي من الترادف في اللغة هل كان ممن يراه ويثبته أم من الذين يرون فيه رأيا آخر؟

للإجابة عن هذا السؤال نستذكر المثال الذي ساقه لنا قبل قليل عن مراحل الكلام، حيث قال: "إذا كان المعنى في النفس فهو علم، فإذا خرج إلى الفكر فهو روية، وإذا جرى به اللسان فهو كلام، وإن كتب باليد فكتابة"؛ فإن بين العلم والروية, وبين الكلام والكتابة ما قد وضحه من فرق وحدده، وهو فرق في الدرجة أو الحالة، كما بين القطن في حالاته المختلفة من فروق. ولنتأمل قوله: " تختلف عليه الأسامي بحسب اختلاف الأحوال به" أي أن بينها من الفرق الدقيق الذي لا يوجده إلا اختلاف الحالات. كذلك نستذكر سخريته ممن يظنون أنهم إذا فسروا قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : بالشكر لله, فقد فسروا القرآن، حيث قال في المكان نفسه إنه يريد أن يبين أن قوله تعالى {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} , وقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} , وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} مختلف بعضه عن بعض اختلاف ما بين أولي الأبصار وأولي الألباب وأولي النهى1. أليس يدل هذا على أنه يصر على أن فروقا لا بد قائمة بين هذه المفردات التي يحسب المتسرع أنها واحدة في معانيها؟ ومع ذلك فإننا نبحث عن أمثلة مما طرحه من المجموعات اللغوية. إنه مثلاً يفرق بين مقامات الكلام على النحو التالي، فيقول: " منابر الخطباء، ومقامات الشعراء، ومجالس الفقهاء ومقرأة القرآن ومدرسة العلماء ومجمع الأشهار ومجامع القصاص وحلق أهل الذكر ومهبط الوحي ومعدن التلاوة"2، إنه هنا وضح لنا الفرق في هذه المقامات العلمية عن طريق إضافتها لما هي مشهورة به، ولولا هذا التوضيح بهذه الإضافة لانبهم علينا الفرق بين المجالس والمدارس والمجامع. ويقول في مثال ثان عن (الدَرْس) : "القراءة للتحفظ، ونحوه التلقين والمطارحة، والإلقاء للتعليم، والتقطيع للعروض، والتلاوة للقرآن، والإنشاد للأشعار وكذلك الرواية، والرواية للحديث، وكذلك السرد، والهذّ إجادة القراءة، والإملاء فيما يكتب، والتفسير والتأويل للغريب، والتعبير للرؤيا، والحل للمشكل"3. إنه يقفنا بدقة الخبير اللغوي على مدى ما بين هذه المفردات المتقاربة المعاني المتباينة المباني من فروق دلالية لئلا يظن الظانون أن الواحدة منها تجوز في مكان الأخرى. إنه

_ 1 مقدمة مفردات ألفاظ القرآن، للراغب. 2 مجمع البلاغة ص71. 3 مجمع البلاغة ص77.

يلتقي في ذلك مع قول القائلين بنفي الترادف؛ "لأن في كل واحدة من الألفاظ المتجانسة معنى ليس في الأخرى"1. وإذا قلبنا في مصنفاته الأدبية صفحات أكثر وجدنا أنه يسرد بعض مفردات الأسرة الواحدة دون إضافة كقوله: "ودَّه، وصافاه، وخالصه، وخادنه، وقارنه، وعاشره، وسامره، وألفه، وحالفه، وصاحبه، وواكبه.... وهي أفعال في المحبة ومعاني المعاشرة"2 ولكنه في مجموعات أخرى يوضح الأصل والفرع كقوله: "الإثم والفجور، كنايات عن الكذب"3, وقوله (في أسرع) : "أسرع وألهب وأهذب، أما هب وعصف ومطر وطار وانقض واضطرم والتهب وترامى فكنايات عن العدو"4. وليس عبثاً قوله: "تقول في وصف سيف: ماض وحسام وصمصام ومهند ومخذم ... "5، فإنه يذكرنا بالحكاية التالية التي يسوقها من لا يقبل بالترادف "قال أبو علي الفارسي: كنت بمجلس سيف الدولة بحلب, وبالحضرة جماعة من أهل اللغة, ومنهم ابن خالويه, فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسما، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ له إلا اسما واحداً هو السيف، قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفات" 6.

_ 1 دراسات في فقه اللغة د. صبحي الصالح: 343. 2 مجمع البلاغة ص307. 3 مجمع البلاغة ص83. 4 مجمع البلاغة. 5 مجمع البلاغة 300. 6 المزهر للسيوطي 3م402 دراسات في فقه اللغة د. صبحي الصالح 346/ 347.

دافع عن القوالب الأدبية

دافع عن القوالب الأدبية ... دفاع عن القوالب الأدبية: لقد كثر في محاضرات الراغب ومجمع بلاغته التراكيب الأدبية التي جمعها من مأثوِر المنثور من تراث الأدب العربي حتى عصره، وذلك كقوله في الكنايات عن الموت: "قَرَض رباطه، ولعق إصبعه، استوفى أكله أي استوفى رزقه كناية عن الموت، جَرِضَ بريقه واصفرت أنامله، واستأثر الله به، ونقله إلى جواره، وتوفاه، خصه الدهر، ونقبت عنه المنية، ولاقى الذي يشعب الفتيان فانشعبا، اخترمته المخارم، وَجَبَتْ نفسه، ونضب عمره، اعلق أسباب المنية، ودع الدنيا، خلّى مكانه، وتهدم عرشه، وسالت مقامته، وشرق بدم الوتين أخنى عليه الذي أخنى على لبد، قامت عليه النوائح، هوت أمه، ضمت عليه المقابر.... طارت عقاب المنايا في سقائفه.... الخ"1.

_ 1 مجمع البلاغة ص499.

وفي العصر الحديث برز على ألسنة بعض نقاد الأدب ما يقف من هذه القوالب الأدبية في الكتابة الفنية، موقفا مغايرا. فهي عندهم دلائل صنعة لفظية ظلت تخنق الإبداع في النثر قرونا من الزمان، بما فيها من أشكال أدبية تشبه (الكليشهات) القديمة التي تفرض نفسها على الأسلوب الحديث. فإن بعض هذه التراكيب قد أصبحت مبتذلة لكثرة ترديد الأجيال لها, حتى صارت تفقد معناها من كثرة الاستعمال، فهل يعرف الناس المعنى الحقيقي لقولهم: "رفع عقيرته", وقولهم: "نسج على منواله", وقولهم: "الشمس في كبد السماء كدرهم"؟ 1. وقد لاحظ أحد الباحثين أن بعض هذه التعبيرات قد أصبح مبتذلاً إما لكثرة الاستعمال كقولهم: "شط المزار" مثلاً، وإما لتغير العصور كوصف العاشق لفتاته بأنها واضحة الأنياب, وإما لعدم الوقوف على المناسبات الأولى لإطلاقها كقولهم: "رفع عقيرته"2. ولاحظ أيضا أن ثمة تعبيرات لا يمكن الاستغناء عنها وعن ترديدها من مثل الكلمات الواضحة الدلالة التي اكتسبت عراقة الدوام مثل أسر الصبا وصروف الدهر ومثل الصفات الغالبة الباقية العقاب الكاسر، والبرج الشاهق ومن مثل تشبيهات الشعراء المتصلة بالعواطف الإنسانية الباقية مع الإنسان3. إن الباحث حينما ينظر في هذه الدعاوى يجد أن الدافع إلى هجر هذه التراكيب هو سيطرة الصنعة اللفظية على الكتابة منذ عهود القاضي الفاضل والحريري، بما فيها من إيثار للشكل وغرام بتزويق الألفاظ دونما احتفال بما تحتها من معانٍ. ولكن ما يمكن أن يكون متبعا للقديم، في عصر من العصور، لا ينبغي أن يكون سببا في الإزراء بكل ما خلفته جميع العصور من هذا اللون الأدبي. فليست العصور النثر الفني متصفة بأسرها بهذه الصفة. فلنبحث عن نثر فني ظهر في جيل وكان كبير التأثير في الناس، في عصره ولم يزل ذا تأثير مماثل إلى أيامنا هذه. وأول ما يخطر في البال في هذا الصدد الأسلوب القرآني المعجز الذي تكفل الله -جل وعلا- بحفظه مادامت السموات والأرض. ثم أتت من بعد ذلك عهود على النثر الفني كان رفيع القدر عالي التأثير في آثار كتاب العصر العباسي الأول الكثيرين. أفهل كان نثر الجاحظ والتوحيدي وابن العميد مطلقا من القوالب اللفظية؟ ولماذا جهد ابن السكيت والهمذاني وقدامة بن جعفر في التأليف في هذه القوالب وتدوينها وجمعها في أسر

_ 1على النجدي ناصف في كتاب له عن اللغة والأدب، وزكي مبارك، النثر الفني 1/180. 2 د. زكي مبارك، النقر الفني في القرن الرابع، دار الجيل،1/180 أيضاً. 3 المرجع السابق 1/181.

ومجموعات؟ ألم يقدم هؤلاء للغة والأمة والتراث خدمات جليلة فيما كانوا يرمون إليه من أهداف تعليمية يتمنون أن ينشأ عليها شداة الأدب في عصر تشعبت فيه آثار الشعوبية وفشا فيه أثر اللحن. ثم إن كان هذا يصدق في العصر العباسي الأول أفلا يصدق على أبناء العربية اليوم؟ في زمن أصبحت اللغة العربية تزاحمها اللهجات المحلية والعامية والركاكة والأساليب المستهجنة؟. إن الحفاظ على اللغة بما فيها من تراكيب ودلالات يقع على عاتق أبنائها. فهي من مسئوليتهم القومية والدينية والحضارية قبل أن تكون تراكيب وقوالب، فإذا شاءوا أن يقفوا وراء هذه اللغة أبقوا فيها الحياة. أليس المعوّل عليه في هذه التعابير هو أن تعيش في أنفس قائليها كما قال أحد الباحثين؟ 1.

_ 1 د. زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع الجزء الأول ص 110.

الإشتقاق

الاشتقاق: عندما أراد الراغب أن يشرح في (مفردات ألفاظ القران) ، مادة (حسن) ومشتقاتها عرّف الحسن بالبهجة المرغوبة. وبعد هذا التعريف العام (للحسن) شرع في توضيح المعنى الخاص لكل المواد المشتقة من الحسن مثل الحسنة والحسَن والحسنى وأحسن والحسنيين والإحسان. وبهذا ترى أن الراغب قد تأثر بابن دريد في (جمهرة اللغة) في الأخذ بنظرية الاشتقاق، وحينما توقف عند المعنى العام لأصل المشتقات، حيث تلتقي جميعها. وبعد أن شرح المعنى العام مضى يوضح ما تختص سائر مفرداته. يقول ابن جني في تعريف هذا اللون من الاشتقاق، ويسميه الاشتقاق الصغير: "فالصغير ما في أيدي الناس وكتبهم، كأن تأخذ أصلاً من الأصول فتقرأه فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغه ومبانيه، وذلك كتركيب (سَلِمَ) فإنك تأخذ من معنى السلامة في تعريفه نحو سلم ويسلم ويسالم وسلمان وسلمى والسلامة والسليم: اللديغ أطلق عليه تفاؤلاً بالسلامة"1. ومثله قد انطلق الراغب من معنى (الحسن) الذي هو الابتهاج والرغبة, ليحدد بعد هذا المعنى العام المعاني الخاصة في الحسنة والحَسَن والحسنى..... الخ تبعاً لما تضيفه أوزانها الصرفية على المعنى الأساسي.

_ 1 عن كتاب (فقه اللغة) د. طه عبد الحمد طه، مطبعة دار التأليف، مصر، 1970، 2/152.

ويبدو أن أبا القاسم الراغب قد عرف أيضا لونا آخر من ألوان الاشتقاق: ولتوضيح ما نقول نوضح أولاً هذه الألوان المختلفة في الاشتقاق. فالاشتقاق "هو أخذ كلمة من كلمة أو أكثر مع تناسب بينهما فاللفظ والمعنى"1، وأشمل تقسيم لأنواع الاشتقاق ما قسمه أحد الباحثين وهو: 1- الاشتقاق الصغير، ومنه المشتقات السبع المشهورة: كاسم الفاعل، اسم المفعول واسم المرة، والهيئة، والزمان، والمكان، واسم التفضيل. 2- الاشتقاق الكبير، وهو انتزاع كلمة من أخرى بتغيير في بعض أحرفها مع تشابه بينهما في المعنى، واتفاق الأحرف الثابتة وفي مخارج الحروف المتغيرة، وذلك نحو جثا وحذا، وبعثر وبحثر. 3- الاشتقاق الكُبار، وهو ما أسماه ابن جني الكبير أو الأكبر مثل ملك وتقلباتها. 4- الاشتقاق الكبّار، بتشديد الباء، وهو المعروف عند اللغويين بالنحت كالدَمْعَزة من دام عزّك2. وعن الاشتقاق الكُبار يقول ابن جني: "وأما الاشتقاق الأكبر: فهو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، فإن تباعد شيء من ذلك عنه رد بلطف الصنعة والتأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد (مثل أصل كلم الذي يؤخذ منه كمل وملك وكلم ولمك) "3. ويمثل هذا اللغوي الكبير على ما يقول بمادة (جَبَر) التي تعني أصلاً القوة والشدة وما يظل قريباً من معناها هذا من تقاليبها الستة: الجبر والبرج والجراب والمجرّب. وهذا اللون من الاشتقاق الذي شهر به ابن جني وأستاذه أبو علي الفارسي، والذي يقول أحد الباحثين إنه يدل على تطور لغوي جيد، هو الذي قلنا إن الراغب قد عرفه. ففي مادة (فكر) في المفردات يقول:

_ 1 المرجع السابق والصفحة. 2 المرجع السابق والصفحة وهو يعني (بأحد الباحثين) الدكتور عبد الله أمين. 3 المرجع السابق.

"رجل فكّير كثير الفكرة: قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو ترك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها". وفي مادة (وجه) يقول الراغب: "وقال بعضهم: الجاه مقلوب عن الوجه". وفي مادة فسر يقول الراغب: "الفَسْر والسَفْر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عن البول تفسره وسمي بها قارورة الماء، وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار. فقيل سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح". نلاحظ في هذا النص قوله عن (الفسر والسفر يتقارب معناهما لتقارب لفظيهما) وهو ما يريده الاشتقاقيون بالاشتقاق الكبير. وننظر في مثال آخر وهو يعرض لأنواع الأكل، وقد عرضنا له من قبل أيضاً، يقول: "القرم أكل الصبي، والخضد للبقل، والخضم للرطب، والقضم لليابس، والقطم بأطراف الأسنان كالرمان، والكشم والكشذ لنحو القثاء، والمسغ والمسع كالبطيخ". ألا نلاحظ علاقة لفظية ومعنوية بين الخضد والخضم، وبين الخضم والقضم والقطم، وبين الكشذ والكشم، وبين المسغ والمسع؟ إنني أحسب أن الراغب لم يرتب هذه الأزواج اللفظية وهذه المفردات المتقاربة الألفاظ والمباني عبثاً، وما أحسبه حينما قال (أحد الأدباء) ألا يعني في العلاقة بين فكر وفرك، إلا أحد اثنين هما ابن جني وأبي علي الفارسي. ولا حاجة بنا إلى أن نمثل على أثر الاشتقاق في تنمية ألفاظ اللغة على مر العصور، وعلى أثر الراغب الأصفهاني في هذه التنمية.

§1/1