الذب عن مذهب الإمام مالك

ابن أبي زيد القيرواني

الجزء الأول

ورب مسلط على نفسه، وبعثت بكتابه هذا [إلي] ترغب في بيان شبهاته، لما رجوت من تنبيه من أشكل ذلك عليه، ولرغبة أهل تلك الناحية وغيرهم في ذلك. وإنه لحبيب إلي تأييدك فيما أملت، وعونك على ما إليه من الخير قصدت، ومع ذلك فإنه يهون علينا ترك المعارضة لمن أوقف نفسه موقف هذا الرجل من تسامحه في منطقه، وسوء ثنائه على أئمته، وشدة تقصيره في العلم، وقلة تحريه فيه. ولو تكلف الناس أن يكتبوا قول كل ناعق فينقضوه، ويتتبعوا خواطر كل متكلف فيعارضوه، لطال هذا وأشغل عن ما هو أولى منه، ولولا ما ذكرتَ من كثرة من افتتن به من الضعفاء ما استجزت مناقضته، والله المستعان. ولقد أثر من ابتـ[ـدع في] الأمة الكلام في الدين على الحمية والضغن أثر فتنة، فصارت زلة متبعة، عاقبتها لمن اتبعها الفرقة بالحمية بعد الألفة بالنصيحة، وضغن العداوة بعد ظفر الولاية، وأهل السنة لا يتخلقون بهذا الخلق في عامتهم فضلا عن أئمتهم، وهذا خلق الخوارج. ولقد تقدم -رحمكم الله- من بيان المتقدمين ما فيه كفاية لمن بعدهم. ولكني تحملت ذلك لكم، لقلة ما بأيدي أهل ناحيتكم من كلام أصحابنا على الأصول ومسائل الخلاف، ولما رجوت أن ينتفع به من لم يسبق إليه الكلام على أصول أصحابنا، فتشكل عليه الفروع. وقد حكيت كلام هذا الرجل، مقتصرا على إيعاب معانيه، وإن اختصرت بعض لفظه كراهية التطويل، وبدأت بمناقضته فيما قدم قبل المسائل من جمل، تضمنت غير

شيء من خلاف أصولنا، والطعن على أئتمتنا، وفصلت [] أنا [] خبر [] تأملت هذا [] من قوله، [] مخالف لظاهر [] ممن اتبعه. مالك من الصحابة والتابعين. وهذا وهذه الكلمة منه بخلافها من غيره، لأنه يرى أن ما تعلق هو به من ظاهر القرآن والسنة لا يحتمل غير قوله. فتأمل ما سترت الحمية عنه، أنه جعل من قال بخلافه من السلف قد خالف ظاهر القرآن بما لا يحتمل إلا مخالفة القرآن؛ لأن ذلك الظاهر -عنده- لا يحتمل غير الوجه الذي ذهب إليه.

والشافعي وغيره من المختلفين يرون أن الظاهر محتمل لقول المختلفين، إلا أن كل واحد يرى أن ما تبين له من الاحتمال أشبه وأولى. فتأملوا مبلغ ما تنتهي إليه هذه الكلمة منه دون [] علينا وما علمت من العلماء من نسب من خالفه منهم أنه خالف ظاهر نص من الكتاب غير محتمل لقوله، وهذا لا يجوز أن ينسب إلى العامة فضلا عن الأئمة. وإنما اختلف الناس في ما ظاهره من الكتاب والسنة يحتمل ما ذهب إليه المختلفون، فكل واحد يرى أن تأويله في الاحتمال أولى وأكثر أدلة، ومن عد كلامه من عمله لم يطلق مثل هذا في أئمة الدين. ثم رأيته ترجم كتابه بكتاب "التنبيه والبيان عن مسائل اختلف فيها مالك والشافعي"، وتلك المسائل كثير منها مما يقول الشافعي فيها بقول مالك، وهذا مما سترته عنه الحمية أو لم يدر ما اتفق فيه الرجلان، ثم تكلف النقض على الأئمة والاختيار من أقاويلهم. ثم رأيته [بدأ] في كتابه بتشريف الشافعي ومدح طريقته ومذاهبه، ما وهم أنه يتبع مذاهبه ويتقلد أقاويله، وهو كثير الخلاف له في الأصول فضلا عن الفروع، وفي غير مسألة مما في كتابه هذا الذي ترجمه بنصر مذاهب [الشافعي تجده] يرد أشياء هي قول

الشافعي معنا، فكأنه [] في قول لا يراه صوابا، ولا يعتقده مذهبًا [] ولا في [ما ألفه يتجاسر] ورأيته فيما [] [] و [] في مالك [] من التقصير الشديد، [] بالشافعي [] ذلك إليه في مثل ذلك القول أو يعيبه عليه، وهذا حيف شديد وميل بعيد وقول بالهوي وغير العدل. ولقد تجاسر هذا الرجل في مثل هذا الإمام، وتحمل منه ثقلا باء بوزره، ولقد سلك سبيلا لم يسلكها من انتسب في المذهب إليه. ولقد قصد داود بالرد أهل الرأي، ولم يقصد إلى مثل مالك في تمامه وإمامته برد في كتابه ألفه، ولقد أعاب محمد بن داود على الشافعي قصده بتأليف الرد على مثل مالك في إمامته، ثم ما علمته قصد مالكا بتأليف كتاب عليه، وقصد بمثل ذلك الشافعي.

فصل آخر

فهان عليك أيها الرجل ما لم يهن على من سبقك إلى ما تقلدته من المذهب، فلا بنفسك ارعويت، ولا بمن ارتضيت مذهبه اقتديت. فصل آخر وبدأ هذا الرجل في خطبته بما كثر فيه، وأخلاه من المعاني التي لها ألف كتابه، وكأنه فيما ضمن ما ابتدأ به كتابه رجل يرد على [المعاندين] في الإسلام، وكان أولى به أن يضمن في مقدمته ما [تكلفه] مما قصد إليه من الكلام على الأحكام. وذكر أن في الكتاب والسنة بيان كل دقيقة وجليلة، وأن الخلق لم يوكلوا إلى

آرائهم. فإنا لنعلم أن في كتاب الله وسنة نبيه أمورًا محكمة وأمورًا محتملة لغير وجه من التأويل، أبيح للعلماء أن يجتهدوا في طلب أولى الاحتمالات، وقد أبقى الله

لعباده حكما في الحوادث التي لا نص فيه أن ترد بحكمهم إلى ما يشبهها [من] المذكور. وكأنه أشار بهذه الجملة إلى نفي القياس الذي يأبى اسمه

و [ينفي] معناه، وقد حكم الصحابة والسلف أجمع برد الحوادث إلى ما يشبهها من الأصول، [فحكموا] [للجدة بالإرث] وللعمات

[والخالات] [] بالتيمم [بغير نص]، [وحكموا في حد] الخمر بغير نص، وشبهوه بحد القذف، وأول من شبهه به علي بن أبي طالب عند مشورة عمر للصحابة، فرأوا ذلك من تشبيه علي رحمه الله صوابا، واجتمع ملؤهم عليه. وحكموا في أمهات الأولاد بغير نص،

وفي ميراث الجد وفي كثير مما أجمعوا عليه، فقالوا فيه بالتشبيه لما ذكر، واختلفوا في القول، وهم مع اختلافهم يعلمون أنه لا نص فيما اختلفوا فيه، أعني نصا لا يحتمل غير وجه واحد، ومن قال: إنهم يختلفون فيما لا يحتمل غير وجه واحد، فقد أزرى بهم. وإذا كان لله في الحادثات حكم، -وقد أمرنا عند التنازع بالرد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم– فلا بد من أحد قولين، إما أن نقول: إن كل حادثة يختلف فيها عليها نص أو لا نص فيها، فإن قلت: عليها نص، رميت الأمة أنها تتنازع في النص -وقد عصمها الله من ذلك،- وإن قلت: لا نص فيها، لم يبق إلا أنها مردودة إلى ما يشبهها من النص، أو تقول: لا حكم لله في الحادثة، وهذا خلاف الآية، لأن الله تعالى لم يأمر عباده –عند التنازع– بالرد إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا وفيهما دليل على الحكم في كل حادثة.

وربما لجأ قائل هذا القول في بعض ما حكموا فيه من الحوادث بغير نص أن يقول هذا إجماع، قلنا: فإما أن تقول: إنهم أجمعوا على شرع دين لا أصل [لحكمهم عليه]، [أو تقول: إنهم ردوا] ذلك إلى شبهه من الأصول، فترجع عن قولك، [فإن قلت: إن الذي أجمعوا على] الحكم به من الحوادث توقيف، قيل: هذا يبعد، [لأنه لو وقع لاشتهر] ونقل كما نقل ما هو أقل من ذلك، ولذكروا ذلـ[ـك] [ولم يتركوه للمشاورة] والتناظر، ولم يسعهم اختلاف، والاجتهاد [] هذا لا يقوله من يتحفظ فيما يقول، وهذا [] والاشتهار ما لا يذكره [منهم] أحد بإغماض ولا رد. [وهم يتنا] ظرون، ويرجع بعضهم إلى بعض، ويختلفون قبل رجوعهم ويجمعون، أو يقيمون على الاختلاف، وشهرة هذا منهم توجب أن دافعه مكابر. ويلزمه أن يقول في مثل ذلك: قال الله أو رسوله، ولا يحتج بأنه إجماع، فتزول

فائدة الحجة بالإجماع عند الحوادث، وعمر يقول للجدة للأب: ما أنا بزائد في الفرائض، وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، ثم جعل لها، وحكم لها بذلك بعد

التشاور، فانتهى الأمر فيها إلى أن أجمعوا على توريثها بعد علمهم، وقولهم: إن الخبر في غيرها، فظهر منهم – عند الحادثة – ما كان عندهم فيه من خبر فذكروه، وبينوا ما حكموا فيه بالتشبيه لما فيه الخبر، وهذا كثرته تغني عن تقصيه. وهذا والإجماع وصورته تُبعد على متعاطي قول هذا القائل أصلَه فيه، لأنه لا إجماع عنده حتى لا يبقى أحد من الصحابة، ثم إن صمت واحد منهم لم يعد إجماعا، فأين يوجد في شيء حكاية القول عن كل قائل.

ومنهم من يقول: إذا اختلف الصحابة ثم أجمعوا لم يعده إجماعا، ولكل من بعدهم خلاف ذلك، وهذا من ورائه ما لا خفاء به، وحكايته تنوب عن الاعتلال عليه [ولنا عود] إلى الكلام في إثبات القياس سنطيل فيه، ولكن ذكرنا [منه جملة من] المعنى الذي رمى به هذا الرجل من أصله فيه. والشافعي معنا يقول [بالقيا] س كقول العلماء من الماضين والباقين، فكان أولى بهذا الرجل أن يطالب الشافعي ومالكا وغيرهما في هذا الأصل الجليل الذي [تنبني عليه القواعد] العظيمة من الأحكام، والحلال والحرام وما أولى [بك من تقديم] الكلام على الأصل الذي فرق بيننا وبينك وبين الشافعي [في كثير من العلم و] نحن [لا يشكـ]ـل بنا العجز عن جوابك في مسائلك، فإن حكمنا أن نناظرك في

الفروع لما ذكرنا، وليس لك علينا ولا على الشافعي درك في فروع قلنا فيه بالقياس على أصل، وإنما لك الكلام في الأصل الذي هو القياس الذي فرق بيننا وبينك وبين الشافعي في كثير من العلم. وإن كنت أفصحت بخلافك لنا، وكتمت عن خلافك في ذلك للشافعي، من كتابك هذا الذي أظهرت فيه الانتصار للشافعي، كأنك داجيب أصحابه وسالمت متبعيه في ذلك، وهذا من اللعب، لأنك أظهرت حمية على من خالفت في مثل ما خالفت فيه من سالمت وهذا من شهوات النفوس.

وفصل آخر

وفصل آخر ثم أخذ يحتج في إبطال اقتداء الناس بعلمائهم، وقبولهم، ما أفتوهم به، بقول الله سبحانه عز وجل: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} في مثل هذا من الآتي، وأن الرسول عليه السلام قال لحذيفة: إنهم أحلوا لهم الحرام فاستحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه. وهذه عظيمة، ما ظننت أن يتجاسر عليها متجاسر، وكيف يحتج بآية نزلت في قوم من بني إسرائيل بدلوا كتاب الله عنادا وكذبا، ليشتروا به ثمنا قليلا، وقالوا فيما غيروه: إنه من عند الله، وما هو من عند الله افتراء على الله الكذب. فأين تذهب بك المذاهب في تشبيهك لهؤلاء بالأئمة المأمونين على الكتاب والسنة الذين تشهد الأمة أنهم لم يخونوا الله في دينه ولا رسوله، بل هم المأمورون بالاجتهاد، القاصدون للحق والمأجورون إذا أفتوا على اجتهادهم، الذي قصدوا به وجه الله وما أعلم بالأمة من يجعل ما ضربه هذا الرجل لهم مثلا من القصد إلى مخالفة الله ورسوله خيانة وعنادا إلا حاقن عليهم باللسان، وكل قول خرج عن غضب وحمية تعظم عاقبة الزلل فيه، أعوذ بالله من الطعن على الأئمة. ولا يعدو أن يكون من أشرت إليه من علماء الأئمة نزلوا عندك في رتبة هؤلاء الذين خانوا في كتابه، وحرموا حلاله وأحلوا حرامه، قاصدين لذلك، جرأة على الله وردا لأمره، أو هم بضد ذلك كله، وفي موضع الثناء فيهم خلاف ذلك، فإن ساويتهم

بهم خرجت إلى تكفير الأئمة وتضليلهم، وإن لم يكونوا كإياهم فقد احتججت بغير حجة ومثلت بغير مثال. وما هذه الحمية التي غيبتك حتى قرنتهم في التشبيه بالمعاندين للحق، وهم في حلية الراغبين فيه، وبالمذمومين وهم الممدوحون المأمورون أن يقولوا بالاجتهاد وبالآثمين الضالين وهم المحمودون المأجورون، ولا ادري ما عذرك فيما تخطيت إليه من هذا. ثم شفع ذلك بقريب منه، فقال: فهمت الذي ذكرتم مما من الله به عليكم وعلى أهل الحديث غيركم بالشافعي، إذا انتاشكم وإياهم من أيدي الهلكة، وبيَّن لكم تمويه وخرق المبطلين. فليت شعري من عني بقوله: المبطلين والهالكين؟ أمالكا يعني وأشكاله من أئمة هذا الدين؟ أم أهل الأهواء والخوارج الضالين فإن الشافعي لم يتكلم على أحد من أهل الأهواء بشيء، فيمدحه بذلك، وهذا مما حمد للشافعي، لسلوكه في ذلك سبيل متقدمي السلف، وإنما تكلم في الحلال والحرام. وما يرضي من له ديانة وتحت منطقه وقلبه خشية أن يقول في أئمة الفقه والحديث ومن نحا نحوهم: إنهم مبطلون وإنهم بسبيل هلكة، وهم خيار أعصارهم، ومالك وأهل عصره من القرون الممدوحة.

ومالك الذي قصد هذا الرجل إليه من شهد له التابعون [بالصدق] والأمانة، ورووا عنه واستفتوه، ولقد استفتاه زيد بن أسلم في مسألة من دينه وانتهى إلى قوله. وأما أهل طبقته ونظراؤهم ومن دونهم، فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك، وقد تأول فيه سفيان بن عيينه أنه عالم المدينة الذي بشر به الرسول عليه السلام، وقال سفيان: كانوا يرونه مالكا، قال عبد الرحمن بن مهدي: يعني من أدرك وقد أدرك التابعين، وتأويل ذلك فيه ابن مهدي وعبد الملك بن جريج ووكيع وكثير يكثر عددهم، قال يحي بن سعيد: مالك أثبت القوم، وهذا فيه يكثر ذكره. وقد رضيته الأمة إماما في الحديث والفقه في دين الله، وقد قال الشافعي: إنه النجم في الآثار وأمير المؤمنين في السنن، وقاله فيه أئمة الحديث ومخالفوه من أصحاب

فصل آخر

أبي حنيفة. ولو تكلم بما أشرت إليه في مالك رجل يتهم ساعته، أو حديث عهد بكفر من دار حرب؛ ما عذر في جهله بفضل هذا الرجل الذي امتلأت الأرض بفضله؛ وشهدت الخاصة والعامة بإمامته، وعظم قدره في الدين والإسلام والفقه والحديث على ألسنة الأخيار. وما أدري على أي وجه من التأويل يُصرف أمر الناطق بهذا، وأي عذر يعتذر به في نفي ما قرب نفسه إليه من الريبة. وبعد فإن الشافعي رضي لنفسه ولأصحابه بالقياس، واحتج على من نفاه، واستعمل الأحاديث فيها، فأخرج كثيرا منها عن الظاهر إلى المعاني، فإن كان هذا هو طريق الهلكة وقول المبطلين فهذا مذهب من أظهرت نصرته، فإما أن تدع كل ما خالفت فيه الشافعي، وتدخله فيما جعلته هلكة وإبطالا، وهذا [] [وإما أن تقبل ما وا] فقك فيه، فتجعل خلافه ذلك هلكة و [إبطالا، وما خالف] فيه غيرك لم يلحق عندك فيه بأهل الهلكة والباطل، وهذا تلاعب ودين الله ليس من ذلك. فصل آخر ثم قال: والشافعي رحمة لأهل الحديث ونعمة من الله عليهم، إذ إلى الله ورسوله دعاهم، وعن تقليد من لا يجب تقليده نهاهم، وعلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه

حضهم، وقد كانت الفرق بأجمعها كادت الحديث حتى قُذفت بشهابها ودُمِغت بحجرها. فنحن نسأله: من يعني من أهل الحديث الذي صار لهم رحمة، وجدد لهم على يديه هذه الدعوة إلى الله والرسول حتى أجابوا؟ فإن عني أهل عصر الشافعي ممن فوق طبقته منهم، كمالك والأوزاعي وابن جريج والسفيانين والحمادين وشعبة ونحوهم، أو من تحت هؤلاء، كيحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل ووكيع وأسد بن موسى وابن وهب والقعنبي والحميدي وضربائهم، ممن يكثر ذكره فهذا إن ادعاه من اللعب وقبيح الكذب، ولقد مدح الشافعي بما نقصه به لوو شعر، وطعن عليه بما لم يبلغه عليه من الطعن أحد، إذ نسبه إلى أنه الذي دعا أئمة الحديث والمتمسكين بالسنن والآثار في أعصارهم - من طبقته أو فوق طبقته - إلى الله ورسوله، وإلى اتباع الحديث، حتى رحموا بدعوته، وأنهم عليهم بإجابته. أفكانوا يخالفون الحديث فردهم إليه، واجتمعوا على الجهل بمخارجه فققههم فيه، أو لم يكونوا بالسنن متمسكين أو عن شيء منها راغبين، وهم رؤساء أعصارهم في التمسك بالسنن والقيام بها. ومالك رأس الناس في زمانه في الرواية والحفظ والفقه وتهذيب الآثار، قال أحمد بن حنبل: مالك [إمام يسكن] إلى حديثه وإلى فتياه: مذهبه الآثارـ[شديد]

الاتباع للآثار التي تصح عنده. ولا يشك منصف أنه النجم في الآثار في عصره، والجامع لشملها والمذهب لها، وأمير المؤمنين فيها، وسنذكر بعد هذا بعض قول الأئمة فيه واعترافهم بإمامته في الفقه والحديث. وإن قال: أردتُ بهذه الدعوة طلبة الحديث في وقته؛ فهؤلاء ما كادوا شيئا من الحديث، وهم مسلمون لأئمتهم، وكذلك عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وما يعرف الطلبة برد الحديث حتى يكيدوه والكيد في رد الشيء أعظم من دفعه. فليت شعري متى تطابقت الفرق كلها على هذا الأمر العظيم، فلم يبق منهم متمسك بالسنن، حتى أتى الشافعي فتمسك بها ورد الناس إليها، لقد بالغ هذا الرجل في نقص العلماء، وفي انتقصاص الشافعي حين رفعه بنقص سلفه، ووصفه بما لا يرضى به لنفسه، ولا يرضي به من يؤثر الحق من أصحابه. وإن أراد أهل الرأي من الكوفيين، فليسوا بالفرق كلهم، ولهم بعض التمسك بما عندهم من الحديث وإن كان غيرهم أثبت أحاديث وأعلم بالسنن منهم.

ولم يزل أهل المدينة يتمسكون بما عندهم من السنن، ويطالبون من خالفهم ما عندهم من ذلك بتأويل أو لحديث لا يكون في الثبات كالذي عندهم، بما يشبه من المطالبة على الشافعي وبعده. قال عبد الرحمن بن مهدي: السنة المتقدمة [من سة] أهل المدينة خير من الحديث، يريد أنه أقوى من نقل الآحاد، [ثم ذلك] [] وقد قال الشافعي: إذا كان حديثا متصلا لا يعرف له أصل في الحجاز لم يقبل، وهذا غير قولك. وإن أردت بالكائدين للحديث الخوارج [فإن هؤلاء هم] الذين ردوا الحديث، وهم على أمرهم ما انتفعوا [بالشافعي] و [ولا] كان لهم إليه إجابة، وما كان لهم من الله رحمة، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا، وليسوا بالفرق كلهم، بل هم

ممن لا يعبأ بمخالفتهم، ولا يأنس أهل السنة إلى ماوفقتهم، ولا ينقض خلافهم إجماعًا، ولا يعرف أن الشافعي تكلم على أهل الأهواء بشيء، وإنما كلامه في

الحلال والحرام. فمن الذين دعاهم الشافعي إلى الله والرسول وإلى الحديث: فانتفعوا بدعوته ورحموا بإجابته، وتركوا ما ركبوا من كيد الحديث؟ فهذا كلام لم يتحصل في الروية ولا سلم من الحمية. وبعد فإنا نقول: أرأيت هؤلاء الذين أجابوا الشافعي في دعوته وسلكوا سبيله في اتباع الحديث؛ فهل ترضى وتتبع مسالكه ومعانيه في اتباع الحديث؟ فإن لم ترضها لهم ولا له؛ فقد مدحت ما لا ترتضيه، ودعوت إلى ما تطعن فيه، وإن رضيت لهم مسالكه في اتباع الحديث؛ فارض بها لنفسك قبلهم وأجبه كما أجابوه. فإن الشافعي يقول معنا بالمعاني والعلل في الأحاديث وظاهر الكتاب، وربما نقل ظاهر اللفظ إلى معنى تناوله، وإذا اختلف حديثان يتأول لكل واحد معنى بتأويل، قد يخالف فيه إذا لم يعلم الناسخ، فإذا ضاق به التأويل اتبع أقواهما في الرواية باجتهاده بما عسى أن يكون اجتهاد غيره بخلافه، فإن لم يكن ذلك اتبع أشبههما بالكتاب عنده، بما قد يخالف فيه من التأويل، ومعنى من ذهب إلى مذاهبه غير هذا. وقلنا نحن: إن تأويل الصحابة في الحديثين أولى، وكذلك في أخذهم بأحد الحديثين دون الآخر، وإن كان لابد من التاويل فتأويلهم مع المشاهدة أولى من تأويل

المتأخرين. والشافعي يترك الحديث إذا تركه راويه من الصحابة، وفعل ذلك فيحديث أُبَي: الماء من الماء، وهذا نحو قولنا، وقال في كتاب" مختلف الحديث": إن الأشبه أن

أُبَيًّا لم يتركه إلا وعنده من ذلك علم أوجب تركه، ونحو هذا. وهذا غير قولك، وصاحبك لا يوجب الطهر من التقاء الختانين، على ما في ذلك من رجوع الأنصار إلى أزواج النبي عليه السلام، وما اجتمعت عليه تلك الطوائف من القرن الثاني أجمع ومن بعدهم. والشافعي يعترض في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، فيقول بتأويله: إن الماء نجس والإناء نجس، وليس في الحديث دليل على ذلك، ثم يقيس على ما تأول فيجعل الخنزير مثله لابد في غسل الإناء فيه من سبع، ولم يقس عليه الذئب والسبع.

وقلنا: إن تحديد سبع مرات يدل أن ذلك التحديد ليس بمقدار [لما] تطهر به النجاسات، وقال الشافعي بنجاسة الماء والإناء، وليس هذا قول صاحبك في هذا، ولا معنى ما تقلد من اتباع ظاهر الحديث. والشافعي يقول بنجاسة أبوال الغنم والإبل، ويتأول في الحديث أن المأمورين بشرب أبوالها لداء كان بهم، والتداوي بالنجاسات لا يرجع به إلى أصل، مع ما روى من صلاة النبي عليه السلام في مراح الغنم، وليس هذا قول

أصحابك. ويقول بعموم آية الملامسة، فيوجب الوضوء على من لمس أمه أو ابنته، ولم يخصص ذلك، بما روى من الحديث في حمل النبي عليه السلام أمامه في الصلاة، وما روي من قبلته ثم يصلي، وتقبيله [لعائشة] ثم يصلي، ومسه برجله لعائشة وهو في الصلاة، وهي معترضة لتقبض رجليها ليسجد.

ويعمم حديث مس الذكر [فيوجب الوضوء على من] مس دبره أو مس ذكر صبي، وأنتم تردون [ذلك عليه] ونحن [لا نرى أن نقـ]ـيس عليه، إذ ليس في ظاهره ما يدل على علة يرد بها إليه غيره.

وأدخل الشافعي في حديث بول الأعرابي تأويلا خالفتموه معنا فيه، فقال: إن الذنوب علة لطهر بول رجل واحد لا أكثر منه، ولا يطهر بول رجلين إلا دلوان، وقد يبول رجل كبول رجال، وليس في الحديث دليل ظاهر يضطر إلى هذا، وجعل ما يطهر البولة قدر سبعة أمثالها أو أكثر، والذنوب يجاوز هذا وأضعافه. وخالفتموه في ذلك كله، وفيما تقلد من علل حديث القلتين، ورده إياه إلى

خمس قرب، مع سائر ما فرع من ذلك على ما أصل. وقال بتنجيس ما مات فيه ذباب أو خشاش أو دود من الشراب والماء والطعام المائع، والحديث معروف في أمر النبي عليه السلام بغمس ما وقع من الذباب في الطعام، وهو يموت في ذلك، وهذا ما لا يمتنع منه، وهذا من الحرج المرفوع عن هذه الأمة، وتأول في ذلك بما خالفتموه فيه.

ولا يرى ما روى الصحابة، من ذكر التشهد في الصلاة، الذي علمه الرسول عليه السلام من أصحابه يجزي، حتى يصلي بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يفعل فالصلاة فاسدة عنده، وليس ذلك في حديث مذكور فأوجب زيادة ذلك في التشهد، ثم أفسد الصلاة بتركه، فخالفتموه أنتم، وغيركم في ذلك، وحديث التشهد مشهور. قال: من أعتق عبدا فماله لسيده، قياسًا على ما روي في من باع

عبدًا، وفي العتق حديث آخر: أن المال للعبد. وقال: العبد لا يملك، لقول الله: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} ولم يصرف ذلك إلى ما لا تتعطل معه الآية الأخرى، كما يفعل في الحديثين، وذلك قول الله سبحانه في العبيد: {إن يكونوا فقراء [يغنهم الله] من فضله}،

فوصفهم بالغني والفقر، على أن قوله {لا يفد [ر على شيء} لا يدل على رفع] ملكه. ولم يقل بالحديث المتصل في إيجاب الكفارة على من أفطر في رمضان، أنه يخير في العتق والصيام والصدقة. وقال بحديث لم يروه مالك إلا منقطعا، فيمن وطيء أهله في رمضان، وفيه ذكر البدنة، فلم يقل بالبندنة.

ثم قصر الكفارة على الواطيء، ولم يقس على منتهك الصوم بالوطء منتهك الصوم بالأكل – وهو من القائسين – هذا لو لم يجب فيه غير القياس، فكيف وفيه الخبر الثابت، وعلل ذلك بتأويل تخلفونه فيه، كما خالفه غيركم.

وقال بنجاسة الشعر، إذا بان عن جسد الإنسان، والحديث ثابت في قسم النبي عليه السلام شعره بين أصحابه، ولا يمتنع أحد أن يبقى عليه شعره من حلق رأسه، وهذا من الحرح لو لم يكن فيه أثر، فكيف وحديث الرسول عليه السلام فيه ثابت. ومن ذلك قوله في حديث: " السلب للقاتل ": إنه إنما يكون لمن قتله مقبلا غير

مدبر، وليس في الحديث ذلك، ولو كان أيضا السلب للقاتل أمرا راتبا، لابد منه، لم يؤخر النبي فيه البيان على أصلكم، لأنه إنما يحفظ في حنين، هي من آخر المغازي، ولا كان يقضي بشهادة واحد بغير يمين، ولم يذكر أن أبا قتادة حلف، ولو

كان تمليكا مرتبا، كانت الأسلاب مقام اللقطات لا يخص بها أهل ذلك الجيش، إذا فقد النائلون البينات. وأنتم ترون أنه خالف الحديث، حين خص بالقاتل المقبل دون المدبر، ولنا نحن عليه مطالبة في بقية معاني الحديث ليس هذا موضع تقصيها. وربما يطالب من الظاهر على معانيكم، ما يخرج به عن المعنى المقصود. من ذلك ما روى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: من غير دينه فاقتلوه. فقال: إنه في كل ملة ودين فجعله عاما في اليهودي يتنصر أو يتمجس، والنصراني يتمجس أو يتهود، وهذا مما

خالفناه فيه نحن وأنتم، وقلنا المراد هنا: من غير دينه الذي رضيه الله ودعا إليه، وحذر من تغييره، ولا يأمر الرسول بالقتل على تغيير دين لا يرضى المقام عليه. وقال بعموم الحديث الآخر: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فيكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير، فجعل الكفارة في اليمين في المشي إلى

مكة والصدقة، وأبي ذلك في العتق والطلاق – وهما يمينان عنده – وهذا من معنى الأول، أنه عليه السلام إنما أوجب – في الأظهر - الكفارة في اليمين التي أذن في الحلف بها. ثم زاد في عموم ذلك إلى غير الظاهر فيه، فجعل في يمين متعمد الكذب الكفارة، وهي يمين معصية وكذب، ولا تكفرها كفارة، وإنما فيها الوعيد من الله جل وعز، ومن رسوله عليه السلام، فيمن اقتطع حق امريء مسلم بيمينه، فأين مدخل الكفارة

في هذا؟ وخالفتموه في تأويله في هذه الأحاديث وما تعلق به فيها. وإنما ترك العموم فيخص الظاهر، بما تخالفوه أنتم ونحن فيه. من ذلك، تركه لعموم آية الظهار، فلم يوجب الظهار في الإماء، وهذا يكثر إن تتبعناه.

ومن الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثى. وحديث آخر: صلاة الليل والنهار. وهو يجيز أن يتنفل الرجل بركعة، ولم يرو أنه عليه السلام تنفل في ليل ولا نهار إلا شفعا شفعا، إلا الوتر، وقد أكد النبي عليه السلام الوتر، وقال عليه السلام: إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم ألا وهي الوتر. ولم يرها الشافعي واجبة ولا مؤكدة، بتأويلات لم يسلم له فيها. وتعرض على ما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وفي حديث آخر: لا يقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، بأن ابن عباس قال: هي من أم القرآن، والقرآن لم يؤخذ

بالروايات. ويتأول أنهم كانوا يسرونها، ويأمر هو بإجهارها، ويبالغ فيما تاول فيبطل صلاة من لم يقرأ بها، وهذا كله غير ما نحوت إليه، من اتباع ظاهر الحديث. وتخالفونه في قوله بحديث: خمس رضعات، وتدعون عليه تأويله فيه، في الرضعات، أنها كالأكلات دون المصات، لأنه تأويل أن الصبي لو أقام أكثر نهاره في

حجر أمه يرضع، كانت رضعة واحدة. وهذا يكثر علينا إن تتبعناه من سلوكه، في اتباع الحديث وتعليل الأخبار والظواهر غير مسالككم. فأراك أول الناكلين عن دعوته في اتباع الحديث، الذي جعلته الداعي الفرق إليه بعد أن كادوه، والراد لهم بعد أن خالفوه. وأنت أكثرهم للشافعي خلافا في معاني اتباعه للحديث، فما الذي خصصت به الشافعي في اتباع الحديث دون غيره؟ وأنت تراه يتأول في تغيير الظاهر وتعليل الأخبار، ويترك ما يترك منها، بتأويل يظهر له، ولغيره من المعاني في ذلك، ما هو أقوى عنده في أدلته. والعلماء لا يردون امر الله أو أمر رسوله معاندة، ولا رغبة عنه، ولكن لهم اختلاف تأويل في اتباع الحديث ومعاني النصوص، تختلف معانيهم في ذلك باختلاف التأويل، فمن بين مصيب ومخطيء مجتهد.

ونحن نسلك مسالك من تقدمنا من أهل المدينة، في اتباع السنن، ونتمسك في ذلك بمعانيهم، ولأنت لنا ولغيرنا مخالف في ذلك، في معاني اتباع الحديث والظواهر. وقد يحتمل ظاهر النص أو الحديث أوجها، فيوجهه كل فريق إلى معنى، يرى أنه أولى في التأويل عنده، بدليل يظهر له. أو يستدل أحد منهم بدليل، على أن ذلك خاص، أو في وقت دون وقت. أو يدعه لحديث يرى أنه أولى منه، لغير معنى يستدل به، من قوة الرواية، أو من غير ذلك. أو يظهر له أن [له] ناسخًا بدليل. أو [أن] أحد الخبرين مفسر لما أجمله الآخر. أو يوجه معناه إلى وجه هو أظهر عنده في الأصول []. أو يستدل بدليل أنه على غير الإيجاب. أو يدع من احتماله وجهًا، ويأخذ بوجه يؤيده – عنده – ظاهر القرآن. أو يكون حديثا، يدعه جمهور الصحابة – وهم به عالمون – فيعلم أن من وراء ذلك علم، من نسخ أو خصوص، أو غير ذلك.

أو يجهله أهل الحجاز معدن العلم، ويغرب به غيرهم، فيعترض بهذا ريب في قبوله.

وهذا نقوله نحن والشافعي معنا، وغير شيء من هذه المعاني، مما لا يتهم العلماء فيه على الكيد للحديث ولا للكتاب، ولا الرغبة عنهما. فلم يترك أحد منهم شيئا من ذلك راغبا عنه، ولكن باجتهاد تختلف به أدلتهم. فلا تتحامل أيها الرجل، بالطعن على العلماء وأحس بهم ظنا. وانت قد تركت معانيهم أجمع، في اتباع الحديث، وظاهر الكتاب، وتركت الكلام على المعاني والعلل في ذلك، وطالبت الظاهر، دون أن تنتهي بذلك إلى العلل والمعاني. وتركت على الشافعي وغيره معانيهم في ذلك، تركا خرجت به الى الشذوذ، حتى قلت – أو من قاله من أصحابك – لا يجزيء مخرج البر في زكاة الفطر، إذ لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر – وليس قول الخدري: كنا نخرج على عهد رسول الله

صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام. ثم ذكر غير البر من الأصناف حجة عنده، وهو يعلم أن رسول الله عليه السلام هو الذي كان يأخذها من الخدري، أفيأخذ منه ما لا يجزئه؟ ومن يخرج أفضل من الذكور، كيف لقائل أن يقول: إنه لا يجزئه، هذا [وظا] هر الأمر إنما أراد به النبي عليه السلام غنى الطوافين عن طواف ذلك اليوم، بما يعطونهم مما هو جل قوتهم. وأن أمر النبي عليه [السـ]ـلام بطرح السمن الذائب تقع فيه الفأرة، لا يوجب [طرح] [الزيت] أو سائر الأدهان.

وأن ما نهى عنه من البول في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه ويشرب، لا يوجب على غير البائل نهيا عن الشرب والوضوء منه، إذا لم يتغير لونه طعمه. وكذلك ألزموه أن لو بال في إناء، فصبه فيه، لم يدخل تحت هذا النهي، على أصله، إذ لا يتعدى بالمسموع عنده غير ما يعطي ظاهره، دون طلب ما تؤدي إليه المعاني، من ذلك الظاهر. وهذا خروج عن ما يفهمه السامعون في التعاريف، وتعطيل المقاصد في الأمور في الأغلب منها. وحكى عن بعض من يتقلد مثل هذه الأقاويل: أن البكر إن تكلمت في الإذن بنكاحها لم يجز النكاح إلا بصماتها، على ظاهر الحديث، وهذا من ذلك، أن يكون

قد جوز لها أن ينوب لها الصمت عن الكلام فإذا أبت بالذي كان هذا منه بدلا لم ينب عنه، وكان دونه فصار البدل من الشيء أقوى من المبدل منه. وهذا خارج عن عوائد الناس، فيما يفهمون من المخاطبة والأمر والنهي، بعيد من عرفهم، غير معاني الشافعي في اتباع النصوص، الذي يزعمت أنه رحمة لأهل الحديث، في دعوتهم إليهم، حتى كادت الفرق الحديث، وأنه انتاش أصحابه من الهلكة، ومن قول المبطلين. فإما أن تعاود معانيه وأصوله في اتباع الحديث والنصوص، فتصحح ألفاظك، وتدخل مدخل النجاة من الهلكة ومن قول المبطلين على لسانك وتجيب إلى ما دعاك إليه. وإن أقمت على خلافه في ذلك وثبتت على أصولك، بطلت ألفاظك ها هنا، ودخلت مع سائر من نكل عن إجابته، ومدخل من نسبته إلى المبطلين والهالكين. فقد عاد هذا الطعن منك على مالك بأسرع على الشافعي ولو كنت أفصحت بمذاهبه ومذاهبك في اتباع الحديث لم [] وعلم الناظر في ذلك أن طعنك على الشافعي أشد، وأنك في خصومته ألد. وإن عذرت الشافعي فيما لم تعذر في مثله غيره، كنت متلاعبا وكذلك إن سلمت للشافعي ما نسب إليه خصماءه من خلاف الحدث، ولم تسلم إليهم ما نسبوه إليه من خلاف الحديث، لقد عدلت عن الإنصاف، لأن كل فريق منهما يقول بالمعاني في الحديث، وإن اختلفت أدلتهم.

فصل آخر

وأنت لهما جميعا مخالف في أصلهما في اتباع الحديث، ومن وفق لرشده أنصف خصماءه، ولم يركب ما ينهي عنه ويترك ما أمر به، والله يهدي إلى سواء السبيل. فصل آخر ثم قال: وإن كان الشافعي قد رسم في كتبه ما دلكم على إغفال من غفل من المتكلمين، وتقليد من قلد من المتكلفين، غيور للإزدياد بما يطمئن قلوبكم، من كشف الغطاء عن تمويه أهل الرأي ومقلديهم. فهذا كلام من غرضه تسفيه الحق وغمص أهله؛ لأن العلماء - في اختلافهم - غير متنابزين بنقص ولا طعن، بل يتناظرون تناظر الولاية، ويتحرون الصواب بالإشفاق، وهذا لم يطلقه في الأئمة إلا الخوارج. فقولك: كشف الغطاء عن تمويه أهل الرأي ومقلديهم، فإن أراد بذلك ملكا، فقد تأفك باطلا، واختلف كذبا. ولم ينسب أحد من العلماء مالكا إلى غير السنن، وكيف وهو الجامع لشملها، والمذهب لها، والنجم فيها، وأمير المؤمنين في الرواية، المأمون عليها. قال أحمد بن حنبل: مالك مذهبه الآثار، شديد الاتباع للآثار التي تصح عنده. قال أبو إسحاق الفزازي: مالك مذهبه الآثار، ومالك كان لا ينطق إلا عن آية

محكمة أو سنة ماضية، وربما قرأ كتاب الله وتتبع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسألة سئل عنها ليستخرج ذلك منهما. ولقد سأله رجل عن رجل خلف بالطلاق ما يدخل بطون بني آدم أشر من الخمر، فأمره أن يرجع إليه، ثم جاءه، فقال قرأت كتاب الله، ونظرت فيما بلغني من [سنة رسول] الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أشر من الربا، لأن الله سبحانه قال فيه ما لم يقل في شيء مما حرم، فقال: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله}، وإن امرأتك قد طلقت عليك. وكان أشد الناس توقفا ورعا في الفتوى، ويكره كثرة المسائل. وقال: ما تكلمت برأيي إلا في ثلاث مسائل، ذكرها وغير ذلك فإنما هو ما سمعه من التابعين، وتخير من أقاويلهم وأقاويل الصحابة فيما لم تكن فيه سنة معلومة. وفي الباب الذي بعد هذا، شيء من ذكر محل مالك عند الأئمة، في اتباع السنن، وما هو له أهل عندهم من الصيـ[ـت]. وهذا مما يهجن الاستدلال عليه، ومن عد كلامه من عمله تدبر قوله قبل أن يقول.

وكيف يحسن بمن يتقي الله في قوله أن يقول: إن مالكًا يموه، وهذا لا يشار به إلى ذوي الفضل ورؤساء الأئمة في الدين. وما [لك] تكاملت له الفضائل عند المسلمين، إلا عند ظنين لا عذر له، ومن رضي أن يموه بزخرف الباطل عن نور الحق فقد خان الله ورسوله. وهذا يرغب به عن عامة المسلمين فضلا عن أئمتهم في الدين، وإذا كان أدنى منازله أن اجتهد وأخطأ عند مخالفه - على طلب منه للحق - كيف يدخل ها هنا التمويه؟ أفتنسب لك من خالفت أنت قوله، من صاحب، وتابع، وتابع تابه - على كثرة من تخالف وقلة عدد من توافق - أنهم يموهون، [أي] يسترون الحق بالتمويه، فهذا تجاوز واعتداء وإساءة بالأئمة ظنّا. وقوله: ومن قلد من المتكلفين، خروج عن القصد، لأنه إن منع الجاهل تقليد العلماء تقليد [العذر] قال ما لا قائل له يعبأ به.

وإن أراد أن مالكا ومن استبحر في العلم من [] لا يعدو قوله مما عده سبيل مالك وأصحابه إلا من لم يستبحر في العلم، وهو - عند نفسه وعند علماء عصره - لم ينته من اتساع العلم، إلى حد الإمامة فيه، فعليه - فيما هو فيه مقصر- تقليد أهل التمام، فيما أشكل عليه. ولا فرق بين من أشكل عليه الأمر في حادثة، وبين جاهل بها وبغيرها، فيما عليه من اختيار من ينبغي اختياره؛ لأن فيه محملاً لاختيار القائل، وليس فيه محمل لاختيار القول، وهذا قول المتقدمين ومن أنصف من المتأخرين. وذكر أن ما تقدم عند الشافعيين من كلام الشافعي على من يخالفه، فإنه محبوب عندهم أن يزيدهم هذا الرجل مما تطمئن به قلوبهم، وهو للشافعي ولهم أشد اختلافا.

فكيف تطمئن قلوبهم بنصرة رجل وهو لهم مخالف في الذي أظهر فيه نصرتهم، وإذ لم تطمئن قلوبهم بما عندهم من الشافعي، كان أحرى ألا تطمئن بما عندك مع خلافك إياهم، وهذا كلام لم يحصل منه إلا الحمية. ثم قال: وإذ سهل الله عليكم الاعتراف بفضيلة أهل الحق، يعني الشافعي. وإذا كان هو وأصحابه عندك أهل الحق، وجب أن يكون من خالفه أهل الباطل، فأنت أقرب إلى هذه التسمية على لسانك، لخلافك للشافعي في الأصول وكثير من الفروع. وإن أردت أنهم أهل الحق فيما وافقوك فيه، وأهل باطل فيما خالفوك، فلا معنى لما خصصتهم به من هذه الكلمة التي أقررت أنها باطل على لسانك. ولو قلت ذلك فيهم في مسألة اوفقتهم فيها، نزلت عن درجة المناقضة، وبقي عليك درك سوء أدب المراجعة. ومعانيك في هذا الفصل كيف ما قلبتها لم تفقد منها خللا. أرأيت إذا قالوا في مسألة: نحن أهل الحق فيها، وقال مثل ذلك خصماؤهم، أفي ذلك ما يرضي به أهل التحفظ؟ وهل هذا إلا تنطع وتكلف؟ وهذا الرجل يخالف الشافعي الذي نسبه إلى الحق [و] يخالفنا، إلا أنه رضي بالجنف، والغلو علينا دونه، ورضي أن [يرفع] محله من الإنصاف والدين، وأن يخلد بهذه الورطة كتابًا بأيدي الـ[ـناس].

ثم ذكر - في تخليط له -: إني جامع لكم - يعني الشافعي - مسائل من أهل الخلاف لكم، تدل على إغفال من قلدوه، وعل ضعف ناصري [مذهبه] يكون عدة لضعفائنا، والمنتحلين بالانتساب إلينا، ومن المنتـ[ــسبين] إلى الحديث، والمتزينين باسمه، والراغبين عنه من سائر الفرق. فهذا احتفال هذا الرجل في النصيحة في الدين، أن أشغل [المبتدئين] ومن لا علم له منهم بمسائل الخلاف الموشحة بالحمية وسوء الثنـ[ــــــــــــاء علي] الأئمة، دون أن يأمرهم بأول المطالب، مما عليهم، ومن تعلم أصـ[ــول] الديانة، وما هو أولى بهم مما يلزمهم. وإنما ينظر في الخلاف ويحـ[ــكي] قول العلماء من اتسع في العلم، ولا يحل أن يؤمر الضعـ[ـيف] بتعلم مسائل الخلاف، وإدخال الحمية على الأئمة في صدره، ولـ[ـا يبدأ] بإحكام فرائضه، فما أقبح هذا الأثر في الإسلام. وجعل [هذه] المسائل عدة المنتسبين إلى الحديث والراغبين عنه، وهذا [شيء] ظاهره لا يردي ما هو أن ينشأ عنده أو بعده. وإن أراد أنها لمن [ينتسب] إلى الديث وهو عنه راغب، فكيف يكون له عدة ما

هو عليه [] حث عبارته أنها [] كان في هذه المسائل ما شمل الـ[] سائر الناس [] من أهله بمسائل خالف هو الـ[] في غير [] العلماء [] لسانه في الراغبين عن الحديث، لأنه جـ[ـعل] من خالفه [] الحديث [] أولا، ثم ضم نفسه معهم بعـ[] [لا خفاء به] [] الحيف الشديد. وذكر انه كان يضعف علـ[ـيه] [] جهل به ولكن الإرادة لإظهار جـ[ـهل] الطاعنين على الشافعي، رد عني عن ذلك. فإن أراد أن هذه الإرادة رادعة له عن كتمان ذلك، حدثت له، ولم يكن مريدا لإظهار ذلك، مع [تلا] وته لآيات الوعيد في كتمان العلمن فقد استعتب من خطئه بأشد [خطـ]ـأ؛ لنه عاود بث االرد على الطاعنين على الشافعي، ولم يرد على نفسه [و] ينسبها إلى الجهل؛ لأنه طاعن في كثير من أصول الشافعي وفروعه، فإما [أن] يرجع عنها، أو يقر بالجهل بطعنه عليه فيها.

فصل آخر

ووسم من انتصر له من الشافعيين بالجهل، إذ تحرج أن يكتمهم ما فرضه أن يبينه لهم، [مما] جهلوه عنده من هذا العلم الذي أفادهم. [ومما] كتم عنهم مخالفته [للشـ]ـافعي في كثير مما ذكر في كتابه هذا، وفي [غيره]. [فإن كـ]ـان في ذلك مبطلا فليراجع [قـ]ـول الشافعي، وإن كان محقًا فبيان [ذلك لـ]ـهم كان أولى به. وإن كان [هو] وهم تسالما في ذلك بغير علم منه ومنهم، أنه على خلاف ما أظهر [من] موافقتهم، فقد رضي منهم ورضوا منه بالتمويه، الذي نسبه إلى [أ] صحابه، وموه بشيء أظهره عن شيء سواه ستره، وهذا تلاعب، ولا [تـ]ـلاعب في الدين. فصل آخر ثم قال ولولا ما أخذ الله من الميثاق على الذين أوتوا الكتاب ليبينه للناس، وقول النبي عليه السلام في كتم علما، لصعب الإفصاح عن مقالة من ذكرنا، لئلا ينتحل ذلك المنتسبون إلى الترأس الجاهلون بما يجب عليهم، من الاعتراف بفضيلة أهل

الحق، والذابين عنه، وفيما أوعد الله على كتمان الحق، ووعد على إذاعته رادع لشفاء الغيظ من أمثالهم. فتدبروا ما أنا ذاكر من مسائلهم وارعو، وأذيعوه تعرفوا أقدار القوم في العلم ومبلغهم منه. قال أبو محمد: فتأملوا - رحمكم الله - مبلغ هذا الرجل في دينه، وما أبطن من طويته، مما أقر به على نفسه، أن تكلم في الدين على الأئمة فيه، وهو حنق عليهم مغتاظ، وقد هم - فيما ذكر - أن يشفي غيظه ليبلغ جهد [] [من] شفاء [غيظه] [] أمره، على أنه مغتاظ عليهم، جامع عنانه، غير مشتبه، أفهذا مقام الناطقين في دين الله، والحافظين لحدوده في ألفاظهم.؟ وهل تقدمه أحد إلى أن يخالف أخاه في باب من الدين، يريدان فيه الحق ويجتعدان، فيدخل فيه الغيظ من أحدهما على الاخر، وهذا خروج من الولاية إلى العداوة على القول بالحق؛ لأنه لا يحل لمن خالفك أن يدع ما بان له من الحق، لما بان لك دونه، وأنت تحرم عليه ألا يتبع إلا ما بان له به الدليل عنده، دون ما عندك، ولم يدع العلماء الحق عنادا له، ولا رغبة عنه.

فأين تذهب بك الحمية أيها الرجل؟ وإلى من تخطيت بمثل هذا؟ وما تحملت به من هذا الغيظ والحنق أولى أن يغيظ من سمعه من المسلمين، في تجاوزك بذلك إلى أئمتهم، وما أقررت به من الغيظ ستر بصيرتك عن استقباح هذا. وما أعرف لغيظك على مالك وأصحابه سببا أحماك، إلا ما ترى مما رفعهم الله به من الدرجات، والله يؤتي فضله من يشاء. ولئن قلدت صاحبك في إطلاق مثل هذه الأفاظ على أهل الرأي، أو من ردَّ الآثار من أهل الكلام، فإن كان مثل هذا قد حسن عندك فيمن قاله، فألا سلكت به مسالكه، وقلته فيمن رد الآثار من اهل الكلام، دون أن تطلقه في أمير المؤمنين فيها، والمأمون عليها روا [ية] والقائم بها.

وإذا آثرت اتباع داود في طريقته، فألا امتثلت طريقته مع مالك، وعظمت من أمر مالك ما عظم داود وابنه، فما علمناه أنهما قابلاه برد، ولا أقذعا [فيه] بلسان، ومن وقع في مالك بنقصه أو خقض ما رفع الله من [رتبته]، فإن الانتصار منه في ظهور لك عليه [ـ]ـاد سلطه على هلاك نفسه ودينه. ولقد أخذ ابن داود على بعض أصحاب الـ[ـشافعي، في جانب] [ألفه] عليه مثل ما نقمناه من [أهل] [] الحمية من [] سفاهة القول، ونسب [] إلى السفه، [واحتج بحديث] [عليه] رويناه عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: سيأتي على الناس سنون، يصدق فيها الكاذبـ، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم/ ما الرويبضة، قال: السفيه ينطق في أمر العامة. ولقد كثر عجبي من قولك في مالك إذ قلت: فتدبروا ما أنا ذاكره من مسائلهم، وعوه وأذيعوه، تعرفوا متعرفكم، أقدار القوم في العلم، ومبلغهم منه. وما علمت من الأئمة وأهل العلم والدين أحدا، صغر بقدر مالك في العلم.

ولقد رفع الله من قدره فيه، أن أحوج فيه إليه معلميه. ولقد حلق، وهو ابن سبق عشرة سنة، وبالناس ويومئذ حياة، ووفد التابعين باقون، قد رأوه لذلك أهلا. ثم أقام سبعين سنة – بعد ذلك – يحدث الناس عنه، ويستفتونه في دينهم، وتشد إليه المطايا من الأقطار. واستفتاه التابعون، وشهدوا له بالفقه والحديث، ولقد استفتاه زيد بن أسلم لنفسه في مسألة من أمر دينه. قال مالك: قل رجل كتبت عنه، إلا كان يأتيني فيستفتيني. واحتاج إليه في العلم معلموه كلهم، إلا نافعا، فإنه قديم الموت، مات ومالك دون العشرين. قال شعبه: قدمت المدينة بعد موت نافع بسنة، ولمالك حلقة. وقال ابن هرمز لخادمه – وقد أخبرته أنه بالباب -: أدخليه فذلك عالم النـ[ـاس].

وكان ربيعة يرجع إليه في غير شيء. وأما نظراؤه، فأكثر من أن نوعبه فـ[ــي هذا الكتـ]ـــــــــاب. وكان ابن عيينة يجلس في حلقة مالك، يسمع الحلال والحرام، والحديث العمـ[] ولا يتكلم بحرف، فإذا [] من حلقة منذ كانت له حلقة. وكان الثوري في الحج يتبع مالكا، فما فعل فعل سفيان مثله اقتداء به. وروى عنه السفيانان وشعبة وحماد بن زيد والليث بن سعد، وروى عبد الملك ابن جريج عن الثو [ري] عن مالك. وروى عنه الدراوردي وابن أبي حازم. وكل إمام أ [خذ] عنه مالك فقد روى عنه، أو أخذ عنه، إلا نافعا، فإنه قديم الموت.

و [رو] ى عنه ابن شهاب، وكثير ممن يكثر ذكره من نظرائه. وقد استدعاه الأ [مير] إلى الحضور مع معلميه في المشورة، فلم يفعل حتى شاور في ذلك [من] التابعين من شاوره، فأمروه بذلك، ورأوه لذلك أهلا فحضر معهم. واستفتاه التابعون، وشهد له بالتمام والإمامة ائمة عصره. وعـ[ــلا] القوم من أمره أمر جليل قواهم على ذلك فيه. وذلك ما تأويل فيه كثـ[ـير] من أئمة التابعين وتابعيهم، أنه العالم الذي بشر به رسول الله [صلى] الله عليه وسلم، ورواه جابر وأبو هريرة، وهو حديث لا شك في ثباته، فنحـ[ـتاج] إلى ذكر إسناده، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ينقضي الـ[ـناس]، فلا يبقى عالم أعلم من عالم المدينة. وفي حديث آخر: ليس على ظهر [الأرض] أعلم منه، فيضرب الناس إليه أكباد الإبل.

قال ابن عيينة: كانوا يرونه [مالكا] قال ابن مهدي: يعني من أدرك، وقد أدرك التابعين. وقد تأول ذلك فيه [أنه] عالم المدينة، الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد الملك بن جر [يج] وسفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع، ونحو ذلك عن الأوزاعي. وما تقدم هؤلاء الجلة [الكبار] الأئمة على هذا التأويل فيه إلا وقد تأكد [ت] فيه الأمور الموجبة لذلك. قال حماد بن زيد لرجل جاءه في مسـ[ـألة] [] العلماء فقال له: يا أخي إن أردت السلامة لدينك فـ[ـعليك] بعالم المدينة [وسر] [إلى قوله] فإنه حجة، مالك إمام الناس.

وقال [ابن] المبارك: لو قيل لي [اختر] لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إماما [] الذي لا [] لرأيته مالكا لأنه [] ورأيت ذلك [] للأمة. وقال: [الليث]: [علم مالك علم نقي، مالك] أمان لمن أخذ [عنه] [من] الأنام. وقال [رجل لسفيان بن عيينة]: يا أبا محمد، رجل أراد أن يسأل رجلا من أهل العلم، يكون له حجة بينه وبين الله، فقال سفيان: كان مالك ممن يجعله الرجل حجة بينه وبين الله، قيل له: قد مضى مالك [فـ]ـمن ترى، قال هيهات هيهات، ذهب الناس. ولما أتى نعي مالك إلى ابن عيينة، قال: فوجدناه مكتئبا، فذكر نفي مالك، ثم قال: والله ما خلف على وجه الأرض مثله. قال أحمد بن حنبل: رحمة الله على مالك، مالك إمام، يسكن إلى حديثه وإلى فتياه، وحقيق أن يسكن إليه، ومالك عندنا حجة، لأنه شديد الاتباع للآثار التي تصح عنده.

قال ابن المبارك: ما رأيت أحدا – ممن كتبت عنه علم رسول الله صلى الله عليه وسلم – [أثبت] في نفسي من مالك، ولا أشد إعظاما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك، ولا أشح على دينه من مالك، ولو قيل لي: اختر للأمة إماما، لاخترت لهم مالكا. قال ابن عجلان: مالك مفتي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال إبراهيم بن عبد الجبار الدقاق: الثابت مما رويناه في كتاب علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان، أنه قال: مالك أثبت القوم. قال زيد بن [عبيد] قال يحيى بن سعيد [القطان]: مالك رحمة لهذه الأمة. [قال ابن ابي حازم للدراوردي]: أسألك برب هذه الثنية، هل رأيت [أجل] من مالك بن أنس؟ قال: اللهم لا. قال سفيان: قال عبيد الله بن عمرو: [نعم الخلـ]ـف للناس مالك. قال أبو قدامة: مالك أحفظ أهل زمانه. [قال ابن] مهدي: ما رأيت أثبت عقلا من مالك، وكان يميل إلى مالك دون [غيره].

قال الليث بن سعد: والله ما على وجه الأرض أحد أحب إلي من [مالك] [قال]: وأحسبه قال:: اللهم زد من عمري في عمره، وقال: [] على الدين. وقيل لابن المبارك: من ترتضيه من الفقهاء [للناس]، قال: رحمة الله على مالك، مالك قليل الجرأة، متبع للآثار والسنن، شحيح على دينه، تعرف في كلامه الإرادة. قال ابن عيينة لابن المبارك: إن بالمدينة من بورك له في علمه، يعني مالكا. قال عبد العزيز بن محمد: ما أدركت أحدا من علماء الحجاز إلا وهو معظم لمالك ابن أنس، لا تجمع أمة محمد [صلى الله عليه وسلم] فيه إلا على هدى. قال عبد الـ[] بن عبد الوارث، قل ما رأيت من يتقلد الفتيا مثل مالك، مالك من العـ[ـلم] بمكان، مالك يعرف بالفضل، وكان الليث وابن لهيعة لا يعدلان بمـ[ـالك] أحدا في دهره، أو قال في عصره. قال ابن إسحاق: مالك مالك لنفسه. قال ابو إسحاق الفزاري، مالك بن أنس حجة، مالك بن أنس رضا، مالك كثير الاتباع، مذهبه الآثار. قال عبد الرحمن بن عبد العزيز العمري: قال مـ[ـالك]: ربما وردت علي المسألة،

فتمنعني من الطعام والنوم، فقلت: ولم [يا أبا عبد الله]، فوالله ما كلامك عند الناس، إلا كنقش في حجر، فقال لي: فمن أحق بمـ[ـن] يكون هكذا ممن يكون هكذا. قال ابن الدراوردي: رأيت في المنام ـ، كـ[ـأن] قائلا يقول لي: لو سئل مالك عن ما هو في الدقة مثل الشعر، وفي الثبـ[ـات] مثل الصخر، لم يلز موفقا، ما كان يقول الكلام الذي كان يقـ[ـول]. وكان إذا سئل مالك، فأول ما يجيب، أن يقول: ما شاء الله. وهـ[ـذا] يكثر علينا ذكره، ويطول به الكتاب. وأما الرؤيا فيه، بما يثبت ما تأولوه فيه من الحديث، فقد رأي ابن عيينة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم، اعطي خاتمه مالكا. ورأي غيره من أفاضل الناس أن النبي عليه الـ[ـسلام] أعطاه مسكا، وأمره أن يقسمه بين الناس. ورأي ابن رمح النبي عليه [السلام]، قال: فقلت: يارسول الله، مالك والليث

يختلفان علينا، فقال لي علـ[ـيه] السلام: مالك، مالك ورث جدي. فهذا يشبه ما روى فيه أنه عـ[ـالم] المدينة، ويكثر علينا تقصي مثل هذا، من الاتفاق علي فضله، وسعة [علمه] وفهمه وعقله وفقهه، وحفظه، وسلامته من الريب، وكمال الأمـ[ـور] التي قل ما تكمل في غيره. ومن انتهي من الإمامة إلى هذه النهاية التي ذكر [نا]، عند التابعين وتابعيهم وأئمة الناس وخيارهم وارتفع [قدره في] العلم و [الدين] على ألسنة الأخيار لم يجز أن ينطق فيه [رجل] [ذو] دين وعقل بتقصير قدره في العلم وخفض مرتبته فيه. فلئن رفع قدره هؤلاء الأخيار في العلم، وائتموا به، وانتهوا في وصفه إلى النهاية في الفقه والحديث، وهو بحيث وصفه أهل الحمية من التقصير فلقد أزرى بهم ونقص مراتبهم أجمعين، ورج شهادتهم، وقصر بهم في علمهم وبصائرهم. وهذا - وإن اكن كمن أدخل الشك في العيان واستراب في صريح البيان – فإنما ذكرنا شيئا منه، لما كشف هذا الرجل من ستر نفسه من قوله: تعرفوا أقدار القوم في العلم ومبلغهم منه؛ يعني مالكا. وحسب ذلك من منطقه أن يذكر وينشر، وتكذيب رجل فيما يدفعه الخاصة ويستعظمه العامة ويبطله العيان تكلف ما قد كفيناه.

فصل آخر

وهؤلاء الأئمة قد شهدوا في مالك بما علموه من نهاية العلم وسعته وصحة رويته وحسن استنباطه، وتمامه في الفقه والحديث، وهم بحيث هم من الإمامة والديانة، وقد شهدت أنت فيه بتقصير العلم، فضح نفسك معهم بموضع استحقاقك من قبول القول يعذر ذلك عليك وييسر، والله المستعان. فصل آخر قال أبو محمد عبد الله [بن أبي] زيد: ورأيت هذا الرجل يؤثر في التعريف بذكر مالك أن يقول: [قال الحـ]ـجازي، فلعمري إن مالكا والشافعي لحجازيان، إلا أنه يذكر الشافعي [بما أشـ]ـتهر به من التعريف، فيقول: قال الشافعي. والأغلب مما يذكر العلماء به مالكا اسمه أو كنيته، وليس التعريف بالبلدان آثر في العلماء [و] غيرهم من [الأسماء]، وما لإيثار ذلك دون اسمه وما عرف به مدخل في التشريف، والله أعلم بخابئة قلبه فيما أراد بذلك فيجازيه به. ولو أخذ [في] طريق تشريفه بذكر البلد لسماه من ذلك بما تأول ابن عيينة وابن جريج [وابـ]ـن مهدي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه به، فقال: عالم المدينة، ليس [على ظهر] الدنيا أعلم منه، يضرب الناس إليه آباط الإبل كما تقدم [ذكرناه] إياه. فلو قال: عالم المدينة أو عالم أهل المدينة، كما كان يقول وكيع والأوزاعي وحماد وغيرهم، لكان قد سلك مسلك الناصحين لله ورسوله في تشريف أئمة دينه.

وإن كان هذا الرجل نفث بضغن ونطق بتسفيه للقول وغمص على القائل فالله مجازيه بنيته، أسأل الله ألا يجعل في صدورنا غلا لأئمة المسلمين، ولا لإخواننا المؤمنين المتقدمين والمتأخرين. ورأيت هذا الرجل فيما يذكر يترامي ترامي من لا يشفق من زلل، ولا تعترض عليه شبهة [ولا يعتـ]ـقد إلا أن معه النص المحكم الذي رده معاندة ومخالفة [فشأنه] إن أعاب قولا أطنب، وإن ذكر مخالفه أسهب، ولو نظر بعين [] سليم من الحمية لأشفق أن يكون من وراء نظره من الأئمة [وقوله ذو] نظر حديد وقول شديد ممن لا شك أنه أنفذ بصيرة وأوسع علما وأبين تأويلا وأهدى طريقا وأقل تكلفا، وقد قال بعض من تقدم. وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم.

باب مسألة الرضاع بعد الحولين

باب مسألة الرضاع بعد الحولين قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد: بدأ هذا الرجل فيما أنكر على مالك بمسألة الرضاع بعد الحولين وأنكر رواية ابن القاسم عن مالك أنه يحرم [ما] قارب الحولين، كالشهر والشهرين. واحتج بقول الله سبحانه: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [قال: فـ]ـلا غاية بعد المأمور به تجيز التحديد إلا بنص، [و] [قول] مالك [هذا الذي

جاء] الكتاب بخلافه والـ[ـسنة] يدل على إغفال مالك، والأمة مباينة [] إلى ما هـ[] إلى هـ[] هذه الآية [] كأنه يرى أنها أبين منـ[] فيما ظهر له والله المستعان. فيقال له [لما قال الله] سبحانه: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} دل أن من لم يرد أن يتمها أن الحد له دون لك إذا شاء، فجعل ذلك مصروفا إلى اجتهاد ابوي الولد؛ بقدر ما يريان من احتماله والنظر بالمصلحة له، بقوله: {فإن أراد فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} فخرج هذا التحديد أن يشبه بما وقع فيه التحديد من صوم الظهار وعدد النساء ونحو ذلك، مما لم يجعل فيه لأحد نظرا باجتهاد، تارة ينقص وتارة يزيد. هذا وقد أبيح للأبوين الزيادة على الحولين كما أبيح لهما النقصان؛ على ما ذكرنا من قول الله سبحانه {فإن ارادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} فقد جعل سبحانه الفصال حدا وإن كان قبل الحولين، كما ذكر من تحديد الحولين. أرأيت إن فصلته أمه عن الثدي قبل الحولين تريد به تمام الفصال، ثم بدا لها فأرضعته في الوقت أو بعد ساعة أو ساعتين؛ أو أرضعته حينئذ أجنبية؟

[فإن قلت]: لا يحرم، أحلت وانفردت، حتى يتبين الفصال أو يقو [ي، وإن قلـ]ـت: بل يحرم إذا كان بالقرب، هكذا صرت إلى الزيادة على ما حد الله من الفصال بالاجتهاد، وذلك لما ظهر أن هذا التحديد ان مخرجه اجتهاد الأبوين، والفصال حد، والحولين حد، ولا فرق بين الزيادة بالاجتهاد عليهما مما قاربهما. فإن قلت: فلم وقع منك الاجتهاد بزيادة شهر أو شهرين على الحولين؟ قلت: لغير وجه، منها أنه لما كان للأبوين النقصان من الحولين بالاجتهاد، فكذلك يزاد عليهما بالاجتهاد، ولا يصلح أن تكثر الزيادة شهورا كثيرة، فيصير الأغلب من قوام بدنه، الطعام دون اللبن، كما زيد على الفصال بالاجتهاد، وقد قال النبي عليه السلام: فإنما الرضاعة من المجاعة. ومنها وجه آخر على رواية عبد الملك عن مالك، فإنه روى عنه أن زيادة قدر الشهر ونحوه يحرم، فوجه ذلك أنه لما قال الله تعالى: {كاملين} دل أنه يقع عليهما اسم حولين وهما ناقصان، فاحتمل قوله: {كاملين} كمال الشهور على أكمل الأعداد، ووجدنا الأمة تسمي شهرا تاما إذا كان ثلاثين يوما، وتسميه ناقصا إذا كان تسعا وعشرين فما يبعد ان يكون للسنة في الرضاع اسم الكمال أتم الأعداد،

ووجدنا السنة الشمسية تزيد على القمرية أحد عشر يومًا، فذلك في الحولين نيف وعشرون يومًا، وهذا نحو شهر، وكذلك روى عبد الملك عن مالك زيادة الشهر ونحوه يحرم، لاحتمال هذا التأويل والله أعلم. وروى ابن عبد الحكم عن مالك زيادة الأيام اليسيرة. وإذا ساغ الاحتمال فيه فلا يبعد أن يحتاج فيه بأبعد الاحتمالات؛ لأن دفع الشبهة بالتحريم أولى من إباحة التحليل مع احتمال غيره؛ لأن من ترك سلم بيقين، ومن واقع مع الشك لم يأمن، والتحيم آكد في الأصول من التحليل فيما جرى فيه تحريم. ألا ترى أن الله سبحانه حرم ما نكح الآباء والأبناء، فحرمنا بأقل ما لزم اسم نكاح، وهو العقـ[ــد]؛ وإن لم يقع الوقاع، وأحل المبتوتة بعد أن تنكح زوجا غيـ[ـــره]، فأبان الرسول عليه السلام ألا تتم هذه الإباحة إلا بالأ [كمل] وهو العقد والوطء. هذا وقد اختلف في ذكر الله سبحانه للحو [لين]، فقال القائلون [بالتحريم]

برضاعة الكبير، هذا من باب التعـ[] الـ[] بمراتب [] في رضاعة الكبير، إنما الرضاعة [من المجاعة] [وعن علي]: لا رضاع بعد فصال. واحتجوا برضاعة [سالم] مولى أبي حذيفة: ودفعناهم بالرواية أن ذلك خاص في سالم، وبغير ذلك، فكيف جاز لك أيها الرجل أن تقول: إن الأمة مباينة لقول مالك؟

هذا وكثير منهم يقول بأكثر من ذلك، منهم من يقول حولين شهرين، ومنهم من يزيد على الشهرين، والنعمان يقول حولين ونصفا، وغير واحد من الناس يقولون برضاعة الكبير، فادعيت أن الأمة مباينة لمالك فيما زاد على الحولين؟ وفي ذلك من الاختلاف ما لا يخفى على أكثر من يطلب العلم، وقالت عائشة في رضاع الكبير ما قالت، وخالفها سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقلن: إن ذلك كان خاصا في سالم وحده. وكيف أنكرت على مالك أن احتاط بالتحريم بباب من التأويل، له به شاهد في الأصول والاعتبار؟ ولم تنكر على الشافعي إذ أحل وأباح باستكراه من التأويل بعيد

من الظاهر والاعتبار، واستعمل لذلك حديث خمس رضعات، ونحن ومن تعلقت بمذهبه غير قائلين به، لأنه منسوب إلى القرآن، والقرآن غير مختلف فيه. ثم تأول الشافعي الرضعات، فلم يجعلها بالاحتياط مصات وجرعات، وجعلها أوقاتا فسيحة وأزمنة متراخية، فقال: ما دام الصبي في حجر أمه يرضع ويزيل فيه الثدي ويعاودها [و] لو أقام من اول النهار إلى نصفه فهي رضعة واحدة، ثم يفعل مثل ذلك في يوم ثان وثالث ورابع، ثم لا يحرم ذلك شيئا، ولا تكون التي أرضعته له بذلك أما، ولا هو لها ابنا، وتحل له بنكاح، ولا روى هذا عن سلف، وهذا كله غير قولك، ثم لم تنكره كما أنكرت على مالك. [] فما كان أولى بك أيها الرجل في الـ[]ـد المستكره لهذا، أم ما أخذته على مالك من ما قصد به قصد الا [جتهاد] في حماية المحارم دون إباحتها، وتأويل الشافعي على بعده في إباحتها، دون الاحتياط بالتوقف عنها. والكلام في علل حديث خمس رضعات واضطرابه كثير، لم نقصد إليه، إذ لا تخالفنا أنت فيه، وتركت أن تنكر قول مالك في التحريم بالمصة، وصاحبك لا يحرم إلا بثلاث مصات، كأنك تقدر أن ما ذكرت أقوى في نكير ما أنكرت، وما من ذلك شي يتم لك فيه النكير على تقديرك بحمد الله. والقائل: إنه لا يحرم إلا ثلاث، لا يرجع بهذا التقدير إلى نص، وحديث ابن الزبير ليس فيه إلا الثلاث تحرم، وللشافعي أن يقول لك: إذا كان قليله لا يحرم فذلك لا يحرم حتى ينتهي إلى الخمس، ويقول: لعل ذلك حين كان رضاع العشر، وقد نسخ

[] فما كان أولى بك أيها الرجل في الـ[]ـد المستكره لهذا، أم ما أخذته على مالك من ما قصد به قصد الا [جتهاد] في حماية المحارم دون إباحتها، وتأويل الشافعي على بعده في إباحتها، دون الاحتياط بالتوقف عنها. والكلام في علل حديث خمس رضعات واضطرابه كثير، لم نقصد إليه، إذ لا تخالفنا أنت فيه، وتركت أن تنكر قول مالك في التحريم بالمصة، وصاحبك لا يحرم إلا بثلاث مصات، كأنك تقدر أن ما ذكرت أقوى في نكير ما أنكرت، وما من ذلك شيء يتم لك فيه النكير على تفديرك بحمد لله. والقائل: إنه لا يحرم إلا ثلاث؛ لا يرجع بهذا التقدير إلى نص، وحديث ابن الزبير ليس فيه إلا الثلاث تحرم، وللشافعي أن يقول لك: إذا كان قليله لا يحرم فذلك لا يحرم حتى ينتهي إلى الخمس، ويقول: لعل ذلك حين كان رضاع العشر، وقد نسخ

ذلك، ويقول: في ذلك جواب عن مسألة، ليس على الاقتصار على ما ذكر، أو سؤال للكبير في رضاعته. وبعد ذلك، فلنا ما ندفع ذلك كله، وذلك أن ابن الزبير لم يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما رواه عن عائشة عن النبي عليه السلام، وإن كان قد روى عن ابن الزبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات، فقد روينا مبينا أنه عن عائشة رواه، وبعض الصحابة روى عن بعض، و [بعيد] أن يقول: قال رسول الله، [سيما] ابن الزبير في صغره.

نا الحسن بن بدر قال: نا [النسائي] قال: أنا زياد بن أيوب عن ابن [علية] عن أيوب عن ابن أبي مليكة [عن عبد الله] قال النبي عليه السلام: لا تحرم المصة ولا المصتان. ونا محمد بن عثمان الأندلسي، عن محمد بن الجهم المالكي قال: نا [إبراهيم الحربي نا محمد بن عبد الملك]، قال [نا عبد الرزاق] [قال: نا ابن جريج قال] نا هشام [بن عروة عن عروة] عن عبد الله بن الزبير عن عائشة مثله. فدل أن مدار الأمر كله على عائشة، وهذا هو مستخرج مما عندنا من خبر " خمس رضعات" وذلك قد جامعنا مخالفنا على تركه، [ولغير] علة، قال أهل الحديث: ومن رواه عن ابن أبي مليكة عن أبي هريرة فهو غلط، وأصحا ابن أبي مليكة كلهم

يرويه عنه عن ابن الزبير عن عائشة، فمداره عليها على ما عندها من الخمس، والله أعلم. وقد روي من طريق أم الفصل ابنة الزبير، وذلك على ما عندهم منه عن عائشة والله أعلم. وقد روى ابن وهب في كتابه عن ام الفضل خلاف ذلك: أنه يحرم المصة والمصتان. وروى ابن الزبير عن عائشة لا يحرم إلا سبع، نا الحسن بن بدر قال: نا النسائي قال: نا يزيد بن سنان قال: نا معاذ بن هشام، قال: نا أبي عن قتادة عن أبي الخليل عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: إنما يحرم من الرضاعة سبع مرات، وهذا مما يدل على تضعيف حديث المصتين.

فلما كثر من هذا الاضطراب ما ذكرنا؛ واحتمل ما تعلق به كل فريق؛ كان التمسك بظاهر القرآن أولى وأقرب إلى الاحتياط، حتى يأتي ما لا شك فيه ولا معارض له. فأبقينا عن عموم القرآن بقليل الرضاع وكثيره لقوله سبحانه: {وأخواتكم من الرضاعة} وأجمعوا أن المصة الواحدة رضاع، وبظاهر قول النبي عليه السلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وقال لعائشة في أفلح: (إنه عمك فليلج عليك)، وهذا رضاع قديم ولا توقيت فيه. وكذلك قوله عليه السلام في ابنة حمزة: إنها ابنة أخي من الرضاعة، ولا توقيت في شيء منه. نا أبو بكر بن محمد قال: نا أبو عمران موسى بن الحسن قال: نا مسلم بن إبراهيم قال: نا همام بن يحيى قال: نا قتادة، عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن النبي عليه السلام ذكرت له ابنة حمزة، فقال النبي عليه السلام: (لا تحل لي، فإن حمزة أخي من الرضاعة).

وأمر في سالم فقال: (أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة). وهو –وإن كان عندنا خاصا فيه– لم يرتفع فيه، واجب توقيتة الرضعات، فلم يأمر فيه عليه السلام بتوقيت في حديث عائشة، وهذا كله دلائل تكشف قوة ما ذهب إليه مالك من التحريم بقليل الرضاع. وقد روينا في كتاب البخاري أن عقبة بن الحارث الليثي قال للنبي عليه السلام، وقد تزوج امرأة فقال له: إن امرأة قالت إنها أرضعتنا وهي كاذبة فقال له عليه السلام: كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك. وهذا من أدل دليل على أنه لا توقيت في الرضاع حين أمر به في التوقي، فكيف لو ثبت ذلك ببينة تامة، ولو كان لا يحرم بقليله لم يأمر فيه بتوقي ذلك، وهو لو ثبت لم يحرم عنده، وهذا كله يدل على ما ذهب إليه مالك مع ظاهر الكتاب وما هو أقرب إلى الاحتياط، والله أعلم، وإياه نسأل التوفيق.

باب في قبض اليتامى أموالهم ببلوغ النكاح والرشد

باب في قبض اليتامى أموالهم ببلوغ النكاح والرشد قال عبد الله بن أبي زيد: وأنكر هذا الرجل على مالك في هذه المسألة في البكر التي تولي: أنها لا يجوز قضاؤها في مالها، حتى تبلغ، وتنكح ويدخل بها ويؤنس منها الرشد مع ذلك. وتلا قول الله تبارك اسمه: [{ولا توتوا] السفهاء أموالكم} إلى قوله: {وابتلوا [اليتامى] حتى إذا بلغوا النكاح فإن انستم [منهم] رشدا فادفعوا إليهم [أموالهم]} [] غيرهم. ثم قال: وقال الحجازي في ذلك قولا مخالفا لظاهر الكتاب، أن الإناث في ذلك تخالف الذكور، وألا يدفع إليهن - وإن بلغن وأنس منهن الرشد - حتى ينكحن

ويدخل بهن أزواجهن، ولو عنست وصارت عجوزا لم تقبضه، ولم تحكم فيه ببيع ولا هبة ولا صدقة ولا معروف، كانت في ولاية أبيها أو وصيها. وهذا الرجل لم ير معنى قول مالك، إذ عبر عنه بغير معناه، لأنه قدر أن مالكا إنما فرق بين الذكور والإناث أن هذه أنثى وهذا ذكر. والعلة عند مالك الرشد في الذكر والأنثى، إلا أن رشاد الأنثى لا يوصل إلى تمام اختباره إلا ببروز وجهها واستمكان الاختبار لها. والمعنى عند مالك في قول الله سبحانه {فإن انستم منهم رشدا} بعد ذكر الله سبحانه بلوغهم النكاح فإناس الرشد هو أن يحس ذلك منهم، بالاختبار في صلاح الحال وحسن النظر في المال. أنا أحمد بن إبراهيم عن القاضي إسماعيل بن إسحاق، قال: نا محمد بن عبيد قال: نا محمد بن نور، عن معمر، عن الحسن وقتادة {وابتلوا اليتامى} قالا: اختبروا اليتامي، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم. نا أبو الوليد، قال نا شريك، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس {فإن انستم منهم رشدًا} قال: اليتيم يدفع إليه ماله إذا أدرك بحلم وعقل ووقار.

نا هدبة قال: نا مبارك عن الحسن {فإن أنستم منهم رشدا} قال: رشدا في دينهم وإصلاحا في أموالهم. نا علي بن عبد الله قال: نا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه، عن يزيد بن هرمز، عن ابن عباس فيما كتب إلى نجدة في اليتيم متى ينقضي يتمه؟ قال: إذا كان يأخذ لنفسه من صالح، ما يأخذ الناس، ويعطي منها من صالح ما يعطي [الناس فقـ]ـد ذهب [عنه اليـ]ـتم. قال عبد الله: ولما كان منعهم من المال صيانة له، لم يبح لهم إلا بحال يؤمن معها على المال المصون بالحجر، ولا يكن ذلك إلا بالاختبار كما ذكرنا عن ابن عباس والحسن وغيرهما، فلا يقع الاختبار إلا بكون المخالطة والمداخلة، وما يتكرر من ذلك، حتى ينتهي إلى يقينه. فلما كان الذكور يتصرفون وينتهون بالمخالطة للناس والتصرف معهم ومراعاة الأمور، إلى ما يبلغون به فهم المضار في المال، والمنافع واسابب التطلب والاحتيال في حفظه وتثميره، وفهم ما يجر إلى نقصه وفساده، كان الرشاد لذلك منهم معلوما، يدركه

من يكثر مخالطتهم واختباره لهم في الأمور التي تتكرر، والشهادة بذلك ممكنة غير مظنونة. ثم رأينا العذراء في خدرها لا تصل من التصرف ومخالطة الناس ومعاينة الأسباب، ما تبلغ به من إدراك الأمور ما يبلغه الذكر البارز المتصرف، والحجاب الذي فيه لا تبلغ ذلك معه، ولا يبلغ منها أحد حقيقة اختبارها وحسن النظر والأسباب الدالة على صلاح المال الذي كان الحجر لصيانته. فتربصنا بها إلى ظهر وجهها بالنكاح والبناء، لتصل هي ويوصل منها إلى منال أسباب الرشد المشترطة، ويسلك فيها الاختبار ببروز الوجه أكثر من ذ [ات الخدر] في سترها، ولا خـ[ــلاف] في [الرشد] بين الذكر [والأنثى]، لأن الرشد [منهما] [شرط]، و [لا] يؤنس إلا [] لهما [بالظهور] الذي هو سـ[ـبب] [] ويسكن منهما [] جلية من [] الحمية إن شاء الله.

وقد فرق النبي عليه السلام بين الأنثى البكر في سترها وبين الثيب التي برزت، فجعل إذن التي في الستر في النكاح صماتها، وإذن الثيب كلامها مثل الذكر، فقرن التي برزت بحكم الذكر في الدفع عن نفسها والعقد بلفظها، وجعل التي في الستر ينعقد عليها الأمر بصماتها. وهذا ونحن نقول ونستدل: أن الأب يزوجها وإن لم يشاورها، لأنه في رواية سفيان: البكر اليتيمة تستأمر في نفسها. وهذا كله دليل أن التي في الستر لا تمكن هي من أورها، ولا يتمكن هي منها، حتى عذرت في هذا الستر والتخفر بالصمت، فجعل منها كالنطق، ولا يشك أحد أنها غير عاجزة عن الكلام، فعذرت فيه وصارت كالعاجزة عنه لغلبة الحياء عليها، فهي في غير ذلك أعذر، وعن ما هو فوق ذلك من معاناة الأمور أعجز.

وإذا كان الستر موجبًا للتخفر ورفع الانبساط وترك الكلام، كيف تصل هي أو يوصل منها مع قيام هذه الحال، إلى ما لا ينال إلا بالتبسط والظهور وضد هذه الحال، فتدرك هي بالحال الثانية، ما لم تكن تدركه، ويدرك منها مثل ذلك؟ وما وراء هذا إلا المكابرة. وهذا قد قاله أئمة أهل المدينة والاعتبار والشواهد تدل عليه، وقاله عمر بن عبد العزيز وأبو الزناد وعطاء ومجاهد، وربيعة وغيرهم، وهذا مشهور من قول التابعين بالمدينة، وقاله الشعبي وغيره من الكوفيين. نا إبراهيم بن محمد بن المنذر، قال: نا ابي قال: نا موسى بن هارون قال نا يحيى عن قيس، عن جابر، عن عامر الشعبي قال لا يدفع إلى الجارية مالها حتى تتزوج، وإن قرأت التوراة والإنجيل والزبور. قال عبد الله: وأما قوله عن مالك، إنها وإن عنست فصارت عجوزا فلا يجوز صنيعها، فالمشهور من قوله وقول أصحابه، أنها إذا بلغت التعنيس وهي بكر جاز فعلها إن كانت مرشدة في الحال والمال، كانت في ولاية أب

أو وصي، هذه رواية أشهب وابن عبد الحكم وعبد الرحيم بن خالد ومطرف بن عبد الله وغيرهم عن مالك، حتى قال في رواية ابن عبد الحكم وغيره،: لا يزوجها حينئذ الأب إلا برضاها، وهو قول كثير من أصحابه وأصحاب أصحابه، غير أنهم اختلفوا في مقدار سنها في التعنيس. وروى ابن القاسم: لا يجوز صنيعها وإن عنست عند أبيها، وروى ابن القاسم في رواية أخرى أنها إذا بلغت أعلى التعنيس وهي رشيدة جاز فعلها. فيمكن أن معنى روايته الأولى أن تكون في ألو سن التعنيس، لاختلافهم في مقداره، وهذا سائغ في طلب غاية الأمر فيها. وهذا الرجل لا يدري أقاويل مالك وراياته وأقاويل أصحابه، فإن كان وقع على شيء حكى له فمن ذلك أتى، وإن كان رأي ما في المدونة فقد ترك أن يحكي الرواية الأخرى فيها عن مالك، وهذه خيانة، وغاب عنه ما في غيرها من أقاويلهم. فإن قال: فما الفرق بين التي عنست وغيرها؟ قيل له: لما طال بها الزمان كان في ذلك ما يقوم لها وفيها مقام الظهور، ولا يشك أحد أنها بالتعنيس أقرب إلى إدراك الأمور وتمييزها، ويؤذن ذلك ويؤدي منها إلى نحو

ما يتأدى بالظهور في صغر سنـ[ـها] وذلك أمر صرفه الله عز وجل إلى اجتهادنا بقوله: {انستم منهم رشدا}، فنبه أن نجتـ[ـهد] في إدراك الأحوال الموجبة لهذا الرشد منـ[ـهم] وصولنا إلى إدراك ذلك منهم بغير [شيء] كما أصرف إلينا أمر العدل، فلا ندركه إلا بالمخالطة والمداخلة وكثرة الاختبار وتأكد الأحوال الموجبة لهذا الاسم، وكذلك الرشد. ولا يخفي على أحد أن ذات الخدر لا تبلغ من علم التصرف في المال، وعلم الضرر فيه والنفع من نماء ونقص، في السن الذي يبلغه فيه الذكر البارز المتصرف، هذا مع الأغلب ما في النساء الحياء والتحفز، وأنهن بالجملة أقل حيلة ونظرا، فإنما طالب مالك أحوال الرشد من الذكر أو من الأنثى حيث يتم وينتهي وما فرق بين ذكر ولا أنثى كما ظن هذا الرجل. وأما قولك: لو قال قائل يدفع إلى الأنثى البكر إذا رشدت ولا يدفع إلى الذكور حتى يتزوجوا ويولد لهم. فهذا من حجتك يبلغ إلى وجهين من الخطا، أحدهما: أنك أجزت أن يقول قائل خلاف الإجماع، وهذا لا يجوز، فأوهمت أن هذا جائز لقائل أن يتأوله فيقوله. فإن كان لا يجوز أن يقوله أحد فقد سقط عليه الجواب وارتفعت فيه المعارضة، إلا أن يعني أن ما قال مالك كمثل هذا وخلاف الإجماع، وهذا إن قلته أكذبك، الاختلاف الفاشي والدلائل والشواهد، ولو كان مثل هذا ما جازت مناظرة قائله، وكان حكمه غير حكم المناظرة، وهذا تنطع في السؤال وما لا يجوز على كل وجه، وقد دللناك على علـ[ـة] الفرق بين الذكر والأنثى فيما افترقا فيه.

وأما الوجه الثاني مـ[ـن] الخطأ: أنك عبرت بهذه العبارة أن الرشد عند مالك يقع بالنكاح [لا] بإصلاح الحال والمال، بقولك: لو قال قائل: حـ[ـتى] يتزوج الذكور ويولد لهم، ولم تذكر الرشد فيهم مع ذكر النكاح والـ[ـولادة لهم] [] [] بلوغ النكاح والرشد، فلا تزول الولاية إلا بهما، و [قال ما] لك: إنهما إذا بلغا حد النكاح وهو البلوغ؛ أمرنا باختبارهما في رشد الحال. فالذكر تأكد فيه وله وجه التصرف منه والاختبار متى نكح أو لم ينكح، والجارية لا تبلغ ذلك من نفسها ولا نبلغ نحن نهاية الخبرة فيها حتى يبرز وجهها، ولا بروز لها إلا بالنكاح، فلم يطالب مالك حلولها في النكاح، لأنه خصها بذلك دون الذكر، ولكن لأن به إمكان إدراكها للأمور، وإدراك الاختبار منا لها ببروز وجهها، أو يطول زمانها في سترها إلى التعنيس، وهذا بين ظاهر ولله الحمد. وقد قال الشافعي بشيء يقرب بعضه من قولنا: إن أمر الذكور في الاختبار مختلف في إدراك الشهادة على رشادهم فمنهم من تكثر مخالطته للناس في الشراء والبيع قبل البلوغ وبعده، ومنهم من لا يخالطهم بالمبايعة، فيكون اختباره أبعد. ثم اختبار المرأة في صلاح أمرها أبعد لقلـ[ـة] مخالطتها للناس.

فقد نحا الشافعي إلى تحو ما قلنا، إلا أنه قال: يختبر بالنساء وتجوز شهادتهن أو شاهد ويمين، والذي قال مالك أبين وأوضح، وهذا أمر يؤدي إلى غير شيء، وهي لا تصل ولا يوصل منها إلى ما يوجب حقيقة ذلك على ما بينا. وأما احتجاجك بقول الله تعالى: {فإن طبن لكن عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} فهذه غفلة غامرة، لأنك تخصص هذه الآية بآية الرشد، فنقول: فإن طبن به نفسا فلا يجوز ذلك حتى نأنس منهن رشدا، فإذا كان الرشد اول ذلك ففي إدراك الرشد اختلفنا ودللناك [انه] لا يتم من البكر، ويتأخر حتى تبرز [فتختبر] [] قلنا بالرشد [] و [ضعت هذه الآية] في غير موضعـ[ـها] فكأنك قلت: فإن [] حال [] قلت إن البكر رشيدة في حال لا يصل معها إلى الأحوال الموجبة للرشاد، ولو تاملت هذا وشبهه أمسكت عن كثير من قولك، وبالله التوفيق.

باب إقرار المريض لوارثه بدين

باب إقرار المريض لوارثه بدين قال عبد الله: قال هذا الرجل/ إذا أقر المرض لبعض ورثته بدين وجب له ذلك دونهم، قل الدين أو كثر، كان عليه دين لغيره في الصحة ببينة أو لم يكن، وأنكر قول مالك: إن إقراره بدين لوارثه لا يجوز. واحتج بقول الله سبحانه: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} قال: وهذا كإقراره للأجنبي، فلما لزم إقراره للأجنبي لزم إقراره للورارث هذا معنى كلامه. وهذا كلام من لم يطالب في الكلام حقائق المعاني. فأول دليل على رد قوله قول الله تعالى {من بعد وصية يوصى بها أو دين} فلما كان الوارث الذي سمى الله عز وجل له ميراثه، لا يجوز أن يتسبب إلى الزيادة فيه بوصية ولا غيرها، لأن الله سبحانه شرط فيما ذكر من الوصية والدين أن يكون الميت

غير مضار، قال الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها او دين غير مضار} فأخبر أن ما جرى من ذلك على الضرار غير مقبول، وهذا إنما يعلم بالأغلب من الدلائل والله أعلم. وليس على أن الميت يعترف بأن ذلك منه ضرارا، هذا غير مشكل، ولكن ما جرى من ذلك مما تبين أنه فيه مضار بالدلائل، والأغلب من الأمور، والله أعلم. أنا إبراهيم بن محمد بن المنذر، قال: أنا أبي قال: نا علي بن عبد العزيز قال: نا أحمد بن يونس قال: [أنا زهير بن معاوية قال: نا] داود بن ابي هند قال: نا عكرمة عن ابن عباس كان يقول: الضرار في الوصية من الكبائر. قال محمد بن المنذر: ونا زكرياء قال: نا محمد بن رافع قال: نا شبابة قال: نا ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله {غير مضار} قال: في الميراث أهله. فكل ما جرى من الضرار بأهل الميراث في إقرار أو وصية صرف ذلك إلى نفي الضرر.

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد اعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، فجعلها - وإن كانت اسم وصية - زيادة في الميراث الذى سمى الله له، فأصرفها إلى المعنى المقصود. ولو قال المريض: زيدوا وارثي في ميراثه، لم يشك أحد أن هذا باطل، فبين عليه السلام أن الوصية له مثل ذلك، فكذلك كل ما صيره في مرضه، للوارث بمعنى غير الميراث، من وصية أو إقرار فهو أثرة له دلت السنة على منعه. ونحن، فنقول بمعاني الأخبار وبعللها، وأنت لا تطالب العلل، وهذا أصل فرق بيننا وبينك في الفروع. وكيف جاز في وهمك أن يمنع الرسول عليه السلام الوارث من شيء، فتجيز له أنت أكثر منه في ذلك المعنى، الذي كان هو العلة في منعه لما منع.

ولو كانت الأمور على ما ظننت من مطالبة الاسم دون المعاني، لكان إذا وهب لوارثه في مرضه أو تصدق عليه أن ذلك جائز. وكذلك امرأة وهبت لزوجها في مرضها مالها أجمع، وتقول إنما منع النبي صلى الله عليه وسلم الوصية وهذا هبة، وتحتج أيضا في الزوج بقول الله عز وجل: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} فالهبة اسم، والوصية [اسم] وأنت [لا ترد اسما إلى آخر] عند الحكم ما ما وافقه في المعنى من الذكور، ولم يقع النهي إلا في الوصية. فإن قلت: لما قال: إن الله قد أعطى كـ[ـل] ذي حق حقه، دل أن المعنى في ذلك منع الزيادة فيه بأي سبب أو لأ [حد]، ولا يعجز أحد أن يمنع من هبة أو وصية إلا جعلها إقرارا. وكيف جا [ز] عندك أن تساوي بين إقراره في المرض لأجنبي ولوارث، والوصية لا تجوز لأحدهما، وهو الوارث، فكذلك الإقرار له، لأن العلة في وصيته له قائمة في الإقرار وهي التهمة بالزيادة في حقه. ورد المعاني التي سكت عنها إلى معنى ما ذكر هو نفس ما نستدل نحن به من القياس، الذي فق بيننا وبينك وبين الماضين والباقين. فإن قلت: لم جاز إقراره للوارث في الصحة جاز في المرض، ولا يجوز الوصية له في الصحة ولا في المرض.

قلت: إنما لم تجز الوصية له في الصحة، لأنه إنما قال: إذا مت فأعطوه كذا، فهو أمر لم ينفذه في الصحة، وهو من باب الزيادة في حق الوارث. ولو كان كل ما جاز للوارث في الصحة جاز مثله في المرض، لكان تجوز له هبته في المرض كما يجوز في الصحة، فكما منعنا من هبته في المرض لتهمة الزيادة في الميراث، وإن أجرناها في الصحة لإنفاذها في وقت لا تقوم هذه التهمة فيه، كان كذلك يجوز إقراره، له في الصحة لدفع التهمة وتبطل في المرض لقيامها فيه. وكذلك لو أقر لابنه بدين - وقد فلس - فإنا نبطله للتهمة فيه، وهو قول الشافعي، وإذا لم تكن تهمة جاز ذلك.

وقد حمى الرسول عليه السلام الزيادة في حق الوارث، بما منع من الوصية له، فقد طرقت إلى ما حماه عليه [الصلاة] والسلام طريقة هي أقوى وصولا إلى ما منعه منه بالوصية، فلا يعجز أن يسميه إقرارا أو هبة، إن أجزت [له الإقرار] أجزت الهبة وركبت ما [نهى عنه النبي] عليه السلام، وإن لم تجزها ناقضت. وقد قال النبي عليه السلام: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، قد عليه السلام أنه لا يفعل المرء شيئا ليس منصوصا فيما نهي عنه، إلا أنه ذريعة إليه أو فيه من العلة ما فيه، وأنه يلزمه تركه، وهذا مما يدل على مطالبة العلل، وفيه دليل على القياس والتشبيه والتمثيل للمذكور، فكذلك لا يجوز أن يفعل ما يؤدي إلى ما يشبه ما نهي عنه من الوصية من هبة او إقرار. ولئن جاز هذا ليجوزن له أن يشتري من ابنه، دارا تساوي عشرة دنانير بألف دينار، وهذا ظاهره بيع، وقد أحل الله عز وجل البيع، فقد سهل السبيل إلى إباحة ما منع منه الرسول عليه السلام بمثل هذا كثير.

ولو جاز هذا لجاز أن يصل إلى الوصية بأكثر من ثلثه بمعنى لا يجعله وصية، ولكن بيعا بمحاباة ضعفي الثلث، أو يتزوج امرأة بماله كله، وصداق مثلها ربع دينار، والنكاح في المرض عندك جائز. وكذلك يصل إلى أن يورث ابنه ويمنع غرماءه - والدين محيط بماله - بأن يقر لابنه بأضعاف أضعاف ديونهم، حتى يصير إليه أكثر ماله، ولا يعجز الناس أن يغيروا الأشياء ويصلوا بذلك إلى المعاني التي منعوا منها. واقتصارك على الأسماء دون المعاني [ناقص] عليك الأمر، وإن سلكت طريق السلف في [] لتهمة إيثاره فكذلك هو في المرض، لتهمة إيثاره، والشافـ[ــعي] يقول كقولنا: إن إقرار المفلس لا يجوز، لا له ولا لغيره.

أرأيت لم منع الرسول عليه السلام القاتل من الميراث لذلك، إلا للتهمة في تغيير ما أذن له فيه، ثم صار الباب بابا واحدا فيمن يتهم أولا يتهم، وكذلك جرت الأصول في منع الذرائع. وكذلك النهي عن الجمع بين مفترق والتفريق بين مجتمع خشية الصدقة، فإذا فعله بقرب الحول اتهم، ولم يقبل منه أنه فعل ذلك لغير الفرارـ، ومن تأول أن ذلك النهي بعد وقوف الساعي للأخذ أحال، لأن ذلك لا تستقيم به خلطة، وإنما الخلطة خلطة تستقرـ، وهذا خارج من المعنى المذكور في الحديث، وقوله: خشية الصدقة إنما هو ما يخشى مما لم ينزل بعد، وهذا بين. ولا تحمي هذه الأمور إلا بالمساوة فيما بين المتهم وغيره، كما فعل الصديق في رد ما وهب في صحته ميراثا، حين لم يقبض قبل مرضه، وهو المرء غير المتهم على أثرة بعض، ورثته، ولكن لا تتم الحماية إلا بما صنع.

وكذلك نهى النبي عليه السلام عمر عن شراء الفرس الذي تصدق به وظاهره بيع [وجعله] رجوعا في الصدقة وهو بيع. ويتعلق بحو هذه شهادة الـ[ـرجل] على عدوه وشبه ذلك، فهي باطل، وجعل ذلك بابا واحد [سواء] من يتهم أو من لايتهم. وقد أجمعوا على رد شهادة الرجل على عدوه وإن كان مقبولا على غيره، وهذا مما ذكرنا. وقولك هل الوصية إقرار والإقرار وصية [فإن كان] الإقرار وصية [فلا تجز الإقرار في صحة ولا مرض] لوارث. فيقال لك: [ليس الإقرار وصية، ونحن] إنما جعلناه إقرارا [لوارثه عند

عدم ما يبعد الظنة]، كما أجرنا الهبة الصحة لرفع ما يبطلها، وأبطلنا الإقرار عند موضع الظنة، كما تبطل الشهادة على عدوة بالظنة، وكما تبطل الهبة للوارث في المرض، وليست وصية. فإن لم تجزها قيل لك مثل ما قلت: الهبة وصية أو غير وصية؟ فإن كانت وصية فلا تجزها للوارث في صحة ولا مرض، وإن كانت غير وصية فأجزها في المرض، فإن أجزتها للوارث في المرض قدت اصلك بهدم الأصول، وإنه ليلزمك أن تجيزهـ[ـبة] المريض لماله كله، لأن النبي عليه السلام إنما منع سعدا من الوصية بأكـ[ـثر] من الثلث، والهبة غير الوصية، وأنت تطالب اللفظ دون المعنى. ويلزمك أن تقول: إن قالت: كنت وهبت لابني في صحتي جميع مالي أنه يلزمه، إن لم تراع الحيازة التي راعاها الصديق، وجعل بقاءها إلى حين المرض تهمة يبطلها، وكذلك لو قال على أصلك: كنت [أعتقت] [جميع عبيدي أو] كنت تصدقت بجميع مالي. وتكريرك لقولك: أرأيت الإقرار وصية؟ فإن كان وصية فلا يجوز في الصحة.

فقد فرقنا لك بينهما ودللناك على موضع تساوي العلل واختلافها، فتأمـ[ـل]. ويلزمك من السؤال في محاباة البيع في المرض للوارث والهبة له مـ[ـثل] سؤالك هل ذلك وصية أو بيع أو هبة، وقد تقدم هذا. أرأيت [نهي] النبي عليه السلام أن يباع الدينار بالدينارين، إن طالبت الأ [لفاظ دون] المعاني إن قال [خذ هبة] مني هذا الدينار، وأعطني دينارين [] منه [] اللفظ [] إلى الزيا [دة] [] فرقت [] المعاني التي [] اللفظ [] [] الظن حجة.

ويقال لك: هل البيع [هبة أو ليس هبة] فإن قلت: لا، قيل لك: فأجز ما سمياه هبة ولا تحكم له بحكم البيع. وإن قلت: وإن لم تكن الهبة بيعا حكمت لها بحكم ما ذكر معهما، للظنة في إحداهما [لـ]ـلهبة في غير موضعها، قيل لك فألا قلت ذلك في الإقرار؟ وإن لم يكن وصية، فهو في موضع لا وجه لصرف الإقرار فيه إلا إلى ما نهي عنه من الوصية، وقد دللناك على قوة أحكام التهم في الأصول. وقد قال الشافعي في المختصر الكبير، إذا أقر المريض لغير وارث ثم صار وارثا بطل إقراره، ولو أقر لوارث فلم يمت حتى حدث وارث حجبه فإقراره جائز، وقال أيضا: لا يجوز إقرار المفلس لابنه ولا لغيره، وهذا نحو قول مالك. وهذا مما ذكرنا: أن هذا الرجل سمي كتابه " كتاب البيان عن مسائل اختلف فيها مالك والشافعي، وهما متفقان في بعضها، وقد طالب الشافعي التهم في هذا وفي

شهادة الابن والأب، وإن كان يأبى من ذلك في غيره من بيوع الآجال وغيرها، فما اوفقنا فيه حجة لنا عليه فيما [خالفنا] فيه من ذلك. ورأيت من ينسب إلى صاحبك إجازة هبة [المريض لماله] كله، وما أعلم لهذا قائلا من سلف ولا خلف، [] اجتمع كل من يحفظ عنه العلم أن الهبة في المرض مثـ[ـل الوصية إنما تجوز في] الثلث. وكذلك يلزم هذا الرجل ما ألزمناه من إجازة الهبة لوارثه، وكذلك يلزمه أن يخص عتق النبي عليه السلام لثلث العبيد الذين أعتقهم الرجل الذي لا مال له غيرهم؛ أن

يخص بذلك العتق خاصة، وهذا كله من تلقي أمور الله عز وجل ورسوله عليه السلام بغير ما تلقاها السلف من المعاني، ورفع كثير من فائدة الخطاب المشتمل على المعاني إلى ما يغير ذلك، وهذا يؤدي إلى أمر يضيق عند التأمل وتتفاحش عواقبه أسأل الله السلا [مة] من كل فتنة وقولنا في إقرار المريض قول كثير من فقهاء [التابعين] [بالمدينة] والعراقيين وغيرهم، وقاله الشافعي. وممن قال ذلك من رواية ابن وهب وغيره: يحيى بن سعيد والقاسم وسالم وغيرهم من تابعي المدينةن وقالها لنخعي وشريح وابن أذيتة والحكم وأبو هاشم، وقاله سفيان الـ[ـثوري] وأحمد بن حنبل وأهل العراق وقاله الحسن بن صالح، إلا في إقراره للز [وجة] بالصداق، فيجوز.

وما نسب إلى النخعي والحكم أنه قولهما، و [لم] يذكر إسنادا، وعندنا عنهما خلافه من رواية ابن وهب، وغيره. ورو [ي] وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم، وسفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم قـ[ـال]: إذا أقر المريض لوارثه بدين لم يجز إلا ببنية. وقد أبطل النبي عـ[ـليه] السلام شهادة الظنين، ودخل في ذلك ذو العداوة وشهادة الا [بن] والأب عند جملة من ينتهي إلى قوله من علماء الأمصار، وقد [ذكرنا] ذلك في باب آخر، فكذلك إذا اعترضت الظنة في الإقرار [لم] يجـ[ـز، و] كذلك إقراره لابنه في تفليسه.

وتكريرك لقولك [هل] يكون الإقرار في نفسه تارة إقرارا وتارة غير إقرار، وتارة وصـ[ـية] وردد هذا، كأنه رجل ضاقت به مخارج الكلام، فلم يجد غير هـ[ـذا] المعنى يكرره، وهذا كله لا وجه له، لأنا لم نقل الوصية إقر [ار، بل] الإقرار الإقرار في كل وقت، فإذا قارنته التهمة بطل، وصار كالـ[ـوصية]. كما إذا قارنت الشهادةَ الظنةُ بالعداوة أو غيرها بطلت، [ولا يجوز] أن يُقال: الشهادة تارة شهادة، وتارة غير شهادة [فالشهادة لم] تبطل ولم يبطل الإقرار إلا لما قارنهما من التهمة التي لم تكـ[ـن فيما] أجزنا من ذلك، فتلك العلة فرقت بين حكم الإقرارين [وحكم] الشهادتين، وقد دللناك على أحكام الظنة في الأصول [من] الكتاب والسنة والإجماع، وما تعارفته العامة والخاصة. والعجب من قولك/: فما تقول في الصديق والفاروق، لو أقرا لوارث هل يتهما؟ فأنت غائب عن مجاري الأصول كيف جرت، أو لم تعلم أن ما كان أصله التهمة أنه يحمل الباب فيه بمعنى واحد في التهم وغيره، لئلا تختلف أحكام الله عز وجل ورسوله عليه السلام. ألا ترى أن أصل القصر في السفر والفطر تخفيفا وتيسيرا لمشقة السفر، وقد يكون في السفر مرفها وغير مرفه، فجعل الأمر لهما واحدًا، وإن لم يكن في أحدهما موجود الأصل، الذي كان له سبب الرخصة. وكذلك قد أبطل أبو بكر من فعل نفسه من إبقاء الهبة بيده إلى حين وفاته، فأبطلها، وهو يعلم من نفسه أنه غير متهم عند نفسه ولا عند الأمة.

وكذلك عثمان وعلي وغيرهما، لم يتهما عبد الرحمن بن عوف في طلاقه زوجته في المرض. وكذلك زيد بن أرقم، لم تتهمه عائشة بالقصد إلى الربا، ولكن الذ [رائع] لا تحمي المحارم فيها حتى تساوي فيها بين كل أحد وكذلك القائل [] بنو فلان، يستوي فيه من يتهم ومن لا يتهم. وكذلك من فرق بين مجتمع وجمع بين مفترق، يستوي ذلك فيه. وكذلك القاتل لا يرث، كان متهمًا لميراث الميت أو غير متهم، إلا أن أصله مبني على

التهمة بالسنة. وكذلك الشهادة على العدو، وغير ذلك من الشهادة [روعيـ]ـت فيها التهم، وإن كان الخاص من الناس فيها سليما، [فإن] الأحكام تجري بمجرى واحد، لئلا تختلف الأحكام، ويدعى كل واحد السلامة والحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم. وقولك: أرأيت إن صح بعد إقراره لوارثه في المرض [أيكون إقراره] وصية فإذا صح صار إقرارا جائزًا.؟ فهذا منك تقول علينا، ولم يقل لك أحد إن الإقرار وصية، إنما هو إقرار قارنته التهمة، كما قارنت الهبة والوصية، وفجبت حجة الوارث الآخر ما كانت التهمة قائمة، كما للخصم حجة في رد الشهادة بالظنة، فلما صح المقِر لم يكن له ولا للمقَرِّ له خصم يتهمه، ويحتج عليه بما يبطل هذا الإقرار، فقبل قوله على نفسه، إذ لا يتهم هو نفسه لا في المرض ولا في الصحة، وهو ينفي تلك التهمة على نفسه، وإنما القائم بها غيره، فلما زال ذلك الغير كان قوله على نفسه ماضيًا. ألا ترى أنه لو لم يكن غير وارث واحد، فأقر له أو أوصى له في مرضه ولا دين عليه أنه لا خصم له في ذلك، والمال كله صائر إليه. فتأمل مخارج الأصول واتساقها عند كشف معانيها، وأسأل الله توفيقه برحمته.

باب في البيع إلى الجداد [والحصـ]ــاد

باب في البيع إلى الجِداد [والحصـ]ــاد قال عبد الله: وأنكر هذا الرجل قول مالك في [جواز البيـ]ـع إلى العطاء وإلى الجِداد والحصاد، وقال: إن هذا أجل مجهول، وإنه خلاف ظاهر القرآن، من قول الله

سبحانه: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} وإن الأهلة {مواقيت للناس}. فإنا نقول: ليس في ذلك بحمد الله خلاف لظاهر الكتاب، بل في الكتاب والسنة دليل على إجازة ذلك، قال الله سبحانه: {ذلك ومن يظعم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق}. فانقضاء آخر [الشعائر] بالطواف بالبيت طواف الإفاضة، ومن الشعائر التي [تكون] آخرها عرفة [والمشعر] ورمي الجمار والطواف والبـ[ـدن] [] على ذلك بفعله في أو [له] ووسطه وآخره، فقد جعل أجلا مسمى لتقارب بعض ذلك من بعض، وقد يتعجل في يومين كما قال سبحانه ويتأخر، وقد يؤخر طواف الإفاضة ويعجله، ويعجل النحر بمنى، وربما أخره، فيجزيه نحره بعد يوم النحر. وكذلك الوقوف نهارا، وربما وقف ليلا فأجزأه، وكذلك المشعر ورمي الجمار، وقد يؤخرها إلى آخر النهار فيجزيه. فكان هذا كله - لتقارب بعضه من بعض - أجل معلوم، وإن كان له أول ونهاية فلم يزل عنه اسم أجل معلوم، لتقارب أوقاته.

وكذلك البيع إلى الحصاد له أول ونهاية، وبعض ذلك قريب من بعض، فيكون عظم ذلك ووسطه يصرف إليه توقيت ذلك عند الحكم، ولا يعمل فيه على النادر الفاذ، لخروجه عن العرف وعن قصد المتبايعين. أنا أحمد بن إبراهيم بن حماد، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا يزيد بن هارون، عن داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى في قوله {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} قال: الوقوف بعرفة من شعائر الله، والبدن من شعائر الله، والحلق من شعائر الله، والرمي من شعائر الله فمن [يعظمـ]ـها فإنها من تقوي القلوب. نا أبو بكر بن محمد، عن يحيى بن عمر [عـ]ـن حرملة بن عمران، عن ابن وهب

عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [قا] ل: الشعائر ست: الصفا والمروة والبدن والجمار والمشعر وعرفة والركن. وأما قوله: إن الله جعل الأهلة مواقيت، فهو كذلك، ولو تأملت ذلك علمت أن في دليلا على قول مالك من أن ما تقارب من الغرر في الآجال، جا [ئز] في الأصول [ويجوز أن] [يضـ]ـرب أجلا شهرا أو شهرين أو أكثر في بيع أو كراء أو نحوه، فقد تنقص الشهور فيكون منها تسع وعشرين وآخر ثلاثون، فيجوز هذا لتقاربه، والغرر اليسير في الأصول معفو عنه.

وكذلك مكتري ظهرًا إلى بلد، والكراء كالإجارة، وهي مؤجلة في كتاب الله بقوله: {إن تاجرني ثماني حجج} فوصول المكترى إلى البلد يبعد قليلا تارة ويقرب تارة، بقدر سرعة السير وإبطائه وما يعوق في ذلك، فجوز ذلك لتقارب أقله من أكثره. وكذلك لو آجر مع ذلك يخدمه إلى مكه، فهذا كله مجوز على ما ترى فيه من أجل، يقرب تارة ويبعد قليلا تارة، فلم يدخل ذلك في الغرر الصريح. وقد جا [ز] في البيوع يسير الغرر، من ذلك شراء الثمر بإزهاء أوله، وفي الحديث: النهي حتى تزهي، فكان تلاحق ذلك وقرب بعضه من بعض لا يخرجه إلى النهي المحظر، وكان مشتري ما لم يزه منه مع [ما أزهى] غير مرتكب للنهي، لتلاحق ذلك وتقاربه، وجعل كأن جميعه قد أزهى [بإ] زهاء أوله، لقرب بعض ذلك من بعض.

فالأصول شاهدة لما قال مالك، لمن تأمل ولم ينكر بأول الخواطر. لو أكرى منه إبله إلى مصر بثياب موصوفة، يدفعها إليه بمصر، أو طعام مكيل أو موزون موصوف يأخذه بفسطاط مصر ويتعجل الركوب، لجاز ذلك، ويكون هذا اجلا معلوما. وقد عرف الناس نهاية أجل الوصول في أبطأ السير وأقله في سرعته، فجوز هـ[ـذا] وهو يقل تارة ويكثر قليلا تارة، ولو قال لا يجوز ذلك حتى يضرب أجـ[ـــلا] مع ذكر البلد أحال؛ لأنه قد يحل الأجل قبل تبلغ البلد و [يتأخر] ويلزمه ألا يكون الكراء إلى مصر إلا بأجل مضروب، وهو بيع من البيوع. فهذا أمر ظاهر لا يرد إلا بالمكابرة، وهذا كله يدل على قول مالك، في البيع إلى الجداد والحصاد، لعلم الناس بذلك في نهايته وأوله ووسطه، فيقضي فيه بأوسط ذلك. ألا ترى أن لو اختلف الكري والمكتري في سرعة السر وإبطائه لقضي بينهما بالوسط من ذلك. فما الذي استبعدت من هذا على مالك، قبل أن تتعلم كيف أجرى أصوله، وتبحث عن معاني أقاويله أهل الخبرة بمذاهبه، دون أن تقتحم بأول خاطر، وتجري مع أول ناعق؟ وقد روي نحو قول مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن كثير من أئمة السلف من الصحابة والتابعين.

نا أبو بكر بن محمد قال: نا يحيى بن عمر، قال: نا سحنون بن سعيد قال: نا ابن وهب قال: نا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب أخبره عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشًا، [قال] عبد الله: ليس عندنا ظهر، فأمره النبي عليه السلام [أن يبتاع ظهرا] إلى خروج المصدق. ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن ابن ابي [جعفر]، عن نافع عن ابن عمر أنه: كان يبتاع البيع ويشترط على صاحبه أن يقبضه إلى خروج عطائه. وكان أمهات المؤمنين يشترين إلى خروج عطائهن، وكذلك قال مالك، إن كان العطاء قائمًا لا يختلف، [عن] معلوم، من غير تفاوت فجائز، وما تفاوت، ولم يكن هكذا لم يجز.

وقاله [سعيد بن] المسيب والقاسم وسالم وعلى بن حسين وسليمان ابن يسار وابن قسيط وعبد الله بن أبي سلمة وابن شهاب وربيعة وعروة ابن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن وجابر بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعامر الشعبي وغيرهم، وقاله مالك وعبد العزيز وغيرهما. أنا محمد بن عثمان، قال: أنا ابن الجهم، قال: أنا يوسف بن يعقوب قال: نا سليمان قال: نا حماد، عن سماك، عن النعمان بن حميد أن عمارا أصاب مغنما، فقسم بعضه وبقي بعضه، فكتب إلى عمر يشاوره في ذلك، فتبايع الناس لك إلى قدوم الراكب، يعني قدومهم المدينة. فهذا ما دل عليه الكتاب والسنة وقاله الأئمة من الصحابة والتابعين، فإما أن ترغب في ذلك، أو ترغب عنه إلى تأويلك، والله المستعان.

باب في شهادة العبد والقانع وولد الزنا

باب في شهادة العبد والقانع وولد الزنا قال عبد الله: وأنكر هذا الرجل قول مالك: إن شهادة العبد لا تجوز، وإن شهادة القانع لا تجوز، إلا فيما قل، واحتج بأن العبد داخل في قول الله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، وقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، وقوله: {ممن ترضون من الشهداء}. فظاهر الخطاب فيما تأول مالك وغيره من سلفه للأحرار، وانهم المخاطبون. أنا أحمد بن إبراهيم، نا إسماعيل بن إسحاق، نا مسدد، قال/ نا يحيى هو ابن سعيد، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد {واستشهدا شهيدين من رجالكم} قال: الأحرار. ويدل على ما قال مجاهد وأهل المدينة ما روي عن عثمان.

قال: نا أبو بكر بن محمد قال: نا يحيى، قال: نا سحنون، قال: نا ابن وهب قال: نا يونس بن يزيد عن الزهـ[ـري] عن ابن المسيب، قال: قضى عثمان بن عفان في الصغير يشهد بعد كبره [و] النصراني بعد إسلامه والعبد بعد عتقه أنها جائزة إن لم تـ[ــكن] ردت عليهم قبل ذلك. فهذا حكم من إمام والحكم حجة أقوى؛ لأن ذلك مصروف إلى شهرة القول في الصحابة، وعن تشاورهم والله أعلم. فقرنه بالصغير والكافر في الرد وبين إن لم يكن ردت عليهم، فأخبر أنها ترد قبل العتق، ثم إن قام بها بعد العتق والرد كانت ظنة فلم تجز. أنا أحمد بن إبراهيم، قال: نا إسماعيل قال: نا إبراهيم الهروي، قال / نا هشيم قال: أنا يونس عن الحسن، والمغيرة عن إبراهيم، وأنا محمد بن سالم، عن الشعبي نحو ما ذكرنا عن عثمان. قال: أنا محمد بن عثمان، قال: أنا محمد بن الجهم، قال: انا عبد الله قال: انا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب وعطاء أن عمر بن

الخطاب قال: فذكر مثل ما ذكرنا عن عثمان. قال محمد بن الجهم: ونا محمد بن عبدوس، نا أبو بكر قال نا حفص، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا تجوز شهادة العبد. قال: ونا ابن المبارك عن ابن جريج، عن عطاء مثله، وعن عطاء: لا تجوز وإن كان في شيء طفيف. قال عبد الله: وأكره الإكثار من الأسانيد كراهية التطويل، وفي بعض ذلك كفاية. وهذا قول الفقهاء السبعة من فقهاء تابعي أهل المدينة: ابن المسيب والقاسم وسالم وخارجة وعبيد الله وعروة وابو بكر وسليمان، وقاله الزهري وقتادة. قال مجاهد: وأهل مكة لا يجيزونها على درهم، وكذلك أهل المدينة وأهل العراق، وقاله عامر الشعبي والنخعي والحسن ومكحول، و [وكيع] [وكثير مما يكثر] ذكرهم من الأئمة.

[وقد] [قال] مثل ذلك الشافعي [كذلك] في شهادة العبد. وهذا مما قلنا، إنه ترجم كتابه بـ: " مسائل اختلف فيها مالك والشافعي "، فلا هو دري قول الشافعي، ولا هو - إن كان دراه، قال الحق في ترجمة كتابه، ولا هو إذ أعـ[ــاب شيئا] على مالك أعابه على الشافعي، والله أعلم بما قصد [هـ هـ]ـذا الرجل من ذلك. وبعد فإن في ظاهر القرآن أدلة لما ذهب إليه من ذكرنا من الأئمة، وأن الخطاب للاحرار، في قوله: {من رجالكم} و {ذوي عدل منكم} كما قال {والتي يأتين الفاحشة من نسائكم} كما قال ها هنا: {من رجالكم} وقال: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} كما قال ها هنا: {ذوي عدل منكم} ثم أخبر النبي عليه السلام أن السبيل في الثيب الرجم، وهذا كله خطاب الأحرار قال:

{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجـ[ـلدوهم ثمانيـ]ــن جلدة.} فلو ما قام رجل واحد بشهادته في الزنا لكان عليه الحد ثمانون، وصار راميا، وقد نص الله على جلد القاذف ثمانين، ويلزم من لم يجلد العبد ثمانين في القذف ألا يجيز شهادته على الزنا، ومن جلده ثمانين أن يجيز شهادته في كل شيء. وقال الله سبحانه: و {أنكحوا الأيامي منكم} كما قال: {ذو عدل منكم} ثم قال في سياق الآية: {والصالحين من عبادكم} يقول: عبيدكم، فدل أن أول الخطاب للأحرار. و [لم] يدخل العبد في خطاب الشهادة - والله أعلم - لغير وجه، مـ[ــنها]: ما ذكرنا، ومنها أن الله سبحانه قال- في سياق قوله: {ممن ترضون من الشهداء} {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} قال الحسن: هي للشاهد يدعي للشهادة، أو يدعي ليقيمها.

فالعبد ممن يملك عليه أمرَه غيرُه، فلا يقدر أن يجيب إذا دعي لا في بدء الشهادة ولا في أدائها، فخرج ممن وقع الخطاب عليه في الشهادة والله أعلم، والله سبحانه يقول: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}. ومن ذلك أن الله سبحانه قال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} فقوله: {ولو على أنفسكم} هو الإقرار، فلما كان العبد لا تجوز شهادته على نفسه في إقراره بالأموال، كانت شهادته على غيره فيها أبعد، ودلّ أن خطاب القيام بالقسط في الشهادة هو للأحرار. ودليل آخر: أن القيام بالقسط، هو من إقامة الحكم، فجرت الشهادة مجرى الحكم، والعبد لا يكون حاكما، فقد تأكدت الأدلة في ذلك ولله الحمد. فإن قال: فالمرأة لا تكون حاكمة، وأنت تجيز شهادتها. قلت: لم تكن حاكمة، إذ لا تجوز شهادتها حتى تضم معها امرأة اخرى، فلا تكون نصف حاكم، وشهادتها مقصورة على الأموال، ولا يكون الحاكم إلا مطلقا في كل شيء، والعبد فمنخفض الحرمة في هذا وفي غيره، والمرأة فأتم منه حرمة، وهي لا تجوز في الحدود، وهو لا ميراث له ولا دية راتبة، ولا يحد فاذفه، ولا يقتص من الحر بجرحه، ولا يكون حاكما، ولا يسهم له في الغنيمة، فأردنا أنه أخفض حرمة منها.

ويلزم من يجيز شهادة العبد أن يجيزها لسيده، ولا أعلم من أئمة الأمصار من يقول ذلك، وينبغي أن يجيزه ايضا على سيده في الحـ[ــدود] من سيده وقطع أعضائه. وينبغي لك أن تجيز شهادة [المدبر] والموصى بعتقه على سيده بقتل نفسه أو بما يوجب قتـ[ــله] وأنت لا تحكم بالظنة في الشهادة فتظن به أنه أراد تعجيل [عتقه] بقتل سيده. وإذا كان العبد تجوز شهادته في الزنا والحدود والقتل والطلاق والعتاق، كان كالتام الحرمة، والأصول تشهد بانخفاض حرمته، ونقص مرتبته عن المرأة، وهي لا تجوز في الحدود، لا أعلم من يخالف ذلك من الأئمة ن ودل عليه السلام أن نقص أمور المراة خفض شهادتها فصارت نصف شهادة. ثم احتج هذا الرجل بأن علي بن أبي طالب، رحمه الله، أجاز شهادة العبد، بأسانيد تكلم فيها، رواه الحسن عن علي أنه أجاز شهادة العبد على العبد، والحسن لم يذكر

هل سمعه من علي، وهو يروى عن غيره مثل هذا، وقد قصرها على العبد، فلو ثبت لم يكن قولك. وروى أشعث بن سوار عن الشعبي عن علي أنه أجازها فالشعبي لم يسمعه من علي، وأشعث قد تكلموا فيه. ورواه المختار بن فلفل عن أنس أنه أجازها، وقد قال أهل الحديث: لا يكون المختار حجة في الأحكام. وروى عن عامر وشريح إجازتها في اليسير، وهذا من الاستحسان حين قصراها على اليسير. واختلف عن عطاء، والمروي عن عطاء بالإسناد الجيد أنها لا تجوز.

وقد تقدم ذكرنا لما ثبت عن الصحابة والتابعين بالأسانيد الرفـ[ــيعة] التي لا مطعن فيها. وأما إنكاره قول مالك في شهادة الـ[ــقانع] [إنها لا تجوز إلا في] اليسير وأن ولد الزنا تجوز شهادته إلا في الزنا. قال: وهذا قول لا يتصور في عقل ولا فهم، [لا] ن ذلك تحكم في دين الله. والذي قاله من ذلك مما يتصور [في الـ]ــعقول الراجحة والفطن النافذة والعقول الوافرة، ممن لا يقول تحكما ولا ينطق تلاعبا، وقد روى عن الرسول عليه السلام، وهذا منك تنطع وخروج لمنطقتك في ائمة الدين بما لا يرضى به أهل العقل والدين والفهم.

أنا أبو بكر بن محمد قال: انا يحيى بن عمر، قال: أنا سحنون عن ابن وهب قال: أنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل شهادة القانع، فهذا - وإن كان مرسلا- فإن العلماء لا يدعون أن يحتجوا بالمرسل، ويرون به قوة لما يقولون، وكثير من العلماء يذهبون إلى أن الحجة تقوم به إذا لم يدفعه أقوى منه. قال ابن وهب: قال لي ابن سمعان: سمعت رجالا من أهل العلم يقولون لم يكن السلف يجيزون شهادة القانع، قال: وكان سليمان بن حبيب المحاربي لا يجيزها وكان يقضي بالمدينة، وقال سليمان بن حبيب، أمرني هشام بن عبد الملك برد شهادة السائل. وهو قول غير واحد من تابعي أهل المدينة. وقال شريح: لا تجوز شهادة المريب. ومالك ممن لا يقول قولا إلا عن سلف يسبقه، ولا يتعلق أياض في الاختيار من قول من تقدمه بالشاذ، كما يتعلق غيره.

وبعد فإن القانع الذي قد شهر بالسؤال واستدامة وعرف به، وجعله عيشه لا يحل من القلوب في تمام العدالة محل المتعفف عن ذلك، حتي يقبل ي الدماء والحدود والتجريح والتعديل وعظيم الأموال. ولو كان قد انتهى إلى ما اومأت إليه من تمام العدالة، لوجد متسعا عن مداومة السؤال والشهرة به، قال عليه السلام: من يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله، وقد أثني الله على المتعففين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وقال {لا يسئلون الناس إلحافا} فمن سأل إلحافا فقد انخفضت مرتبته عن هذا الثناء، وقد قصر به عن الحال، الممدوح، والأغلب من الملحف أن يظهر من الفقر أكثر مما هو به وفيه، والله أعلم. وقد قال النبي عليه السلام – وقد مات رجل من أهل الصفة، فوجد في إطماره ديناران فقال عليه السلام: كيتان من نار، وذلك والله اعلم لإظهاره من الفقر أكثر مما به منه، وكان في مرتبة السؤال بملازمته للكون مع أهل الصفة.

وأقل من هذا من الريب إذا عرض في الشهادة وجب أن يتوقف عنها، وكان شريح لا يقبل شهادة المريب. وأما ما استجازه مالك في قبول شهادة القانع في القليل، فلأنه رآه يبعد من التهمة فيه، ومراتب الظنة والتهم في الشهادات أصل ثابت في ردها بها، قد ذكرناه في باب آخر، وما ثبت عن النبي عليه السلام من رد شهادة ذي الظنة. ووقف مالك عن قبولها في الكثير لما ذكرنا، وهذا قول من سبقه من فقهاء تابعي أهل المدينة، فأجازها في ما لم يختلفوا فيه من التافه الذي لا تهمة فيه، ولم يجزها في الكثير لما دللنا عليه من تعلق الظنة، وذلك في أغلب الأحوال. والقليل من ذلك والتافه يجتهد فيه الحاكم عند النازلة به، كما يجتهد فيما يوجب الظنة من [الأمو] ر، التي ترد بها الشهادة من عداوة وخصومة وقرابة ومبلغ ما يقدح من ذلك الريب في القلوب وتقوي به الظنة، التي قالها الرسول عليه السلام.

وأما قول مالك: إن شهادة ولد الزنا جائزة، إلا في الزنا، فيدخل فيما ذكرنا من ذي الظنة، وقول النبي عليه السلام: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، ورواه مالك عن عمر، وقال النخعي: ولا متهم، والظنين المتهم. والأغلب من أحوال الناس أن من لحقته معرة شيء تميله نفسه إلى أن يكون له مثل ونظير لئلا ينفرد بالمعرة، والله أعلم. قال عثمان: ودت الزانية أن النساء زنين، يريد: في الأغلب والأغلب من الأمور في أحوال الناس يقدح ريبته، كما قدحت في رد قبول شهادة الابن والأب في قول كثرة العلماء، وفي رد شهادة العدو أو الخصم في قول جميعهم وليس في ذلك إلا الظنة في أغلب الأحوال، من غر قطع ولا حتم.

فهذا كله يكشف بعضه بعضا، قال الله سبحانه: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} يقو [ل]: لن ينفعكم كون أمثالكم معكم في العذاب في خفته عنكم، كـ[ــما] تنتفعون بذلك في الدنيا فتتأسون بغيركم، فتصبرون. ومعـ[ــاني] مالك، رحمه الله، في أقاويله راجعة إلى الاحتياط، مع شواهد الأصول لها، ووجود الأدلة عليها لمن أنصف، والله الموفق برحمته.

باب في شهادة أحد الزوجين لصاحبه والأب والابن أحدهما للآخر

باب في شهادة أحد الزوجين لصاحبه والأب والابن أحدهما للآخر قال عبد الله وأنكر هذا الجل قول مالك، أنه لا تجوز شهادة أحد الزوجين لصاحبه، والأب والابن، أحدهما للآخر. واحتج بأن الله سبحانه أجاز شهادة العدل، ومن يرتضي من الشهداء، ولم يستثن زوجا ولا زوجة، ولا ولدا ولا والدا، وأنه إذا كان يقبل فيما شهد به للأجنبيين فكذلك يقبل في شهادته لابنه ولأبويه وزوجته، وكذلك المرأة. فالجواب عن ذلك: أن الظنين ليس ممن يرضى من الشهداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدلائل كثيرة من ظاهر القرآن، وإجماع العلماء وأن هؤلاء من ذوي الظنة.

قال الله سبحانه: {يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} فدل بذلك أن الوالدين ومن هو مثلهما في ضرب القرابة، يلحق فيهم ما يلحق في نفسه، ويدفع عنهم ما يدفعه عن نفسه، فجلعه كنفسه في نفعها وضررها. فلما جازت شهادته على ضر نفسه، فلزمه إقراره عليها جازت شهادته على أبويه وولده ونحوهم، ولم تجز شهادته لنفسه لأنه مظنون فيها، فكذلك لا تجوز لمن هو مظنون فيه من أقاربه، وقال الله سبحانه: {قال رب أوزعني أن أشكر نعمتي التي أنعمت علي وعلى والدي} [فجعل] النعمة عليه كنعمته عليهما، والنعمة عليهما كهي عليه. وقال: {وأصلح لي في ذريتي} فجعل صلاح ذريته من صلاحه، فدل بذلك أن ما يجر إلى أبويه وولده ويدفع عنهم كالجر إلى نفسه، والدفع عنها. وقال في الزوجة والذرية: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين} فجعل فيهم قرة عينه، هذا الأغلب من الناس، فكذلك منافعهم من قرة عينه، ومن حظه المظنون به فيه، كما يظن به في الشهادة لنفسه.

قال: {وجعل بينكم مودة ورحمة} فوصفهما من الرحمة بما جعل من الرحمة بين الأبوين والولد، وقال: {ليسكن إليها} وقال: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}. وإذا كان الغالب من أمر الناس أن الرجل مظنون في ولده وأبويه وزوجته، والمرأة مثل ذلك، لم يحم هذا الباب إلا بأن يساوي بين جميع الناس في ذلك، على ما دلت عليه الأصول، مما ذكرناه في باب الإقرار في المرض لوارثه، بما اأغني عن إعادته. وبعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين" فإن لم تقم الظنة في الولد والأبوين والزوجة فلا ظنة، وارتفع معني الحديث، وقد قرن معه الخصم، ولا

يشك أحد أنه لم يعن شهادته عليه فيما تداعي معه فيه، لأن تلك دعوى لا يشك فيها أحد، ويرتفع بذلك معنى الحديث. فإذا صح أنه إنما هي شهادته عليه في غير ما خاصمه فيه فهي الظنة التي قلنا، وهو مع ذلك عدل مقبول على غيره، وهذا لا خلاف فيه بين علماء الأمصار، فهذه الظنة، التي هي الأصل في رد شهادة من لحقته. أنا محمد بن عثمان الأندلسي قال أخبرنا - محمد بن أحمد بن الجهم المالكي، قال: نا موسى بن إسحاق قال: نا عبد الله - يعني ابن أبي شيبة - قال: نا حفص - يعني ابن غياث عن محمد بن يزيد، عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: أمر سول الله صلى الله عليه وسلم مناديا، فنادى حتى انتهى إلى الثنية: لا تجوز شهاد [ة خصم] ولا ظنين، وإن اليمين على المدعي عليه. نا أبو بكر بن محـ[ــمد، قال: نا] يحيى بن عمر قال: نا الحارث بن مسكين قال: نا ابن وهب، قال أخبرنا ابن أبي ذئب، عن الحكم بن مسلم عن عبد الرحمن الأعرج أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة والجنة. قال ابن وهب: وأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه. قال: ونا يحيى بن أيوب عن المثني بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام قال: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه.

فيقال لهذا الرجل: قد منع النبي عليه السلام من شهادة الظنين والخصم، وذلك ظنة التهمة، وليس لأنه ظنين في دينه، هذا معلوم بظاهر القرآن، وقد قرن معه الخصم، والمعنى فيه مكشوف، إنما هو للظنة به في الأغلب من شهادته على خصمه، في غير ما خامصه فيه، ولا أعلم فيه خلافا، ولا في شهادة العدو على من عاداه، وهما مقبولان على الأجنبيين. فهذا أمر ظاهر لا شبهة فيه أن رد شهادتهما للظنة المذكورة، بما دل عليه الكتاب وقاله الرسول عليه السلام، واجتمع علماء الأمصار على العلة من ذلك في الخصم والعدو، لا وجه لذلك غير التهمة والظنة، فكانت الظنة لها الحكم فيمن قامت فيه.

ولا يشك أحد أن الظنة في الولد اقوى من ذلك، وكذلك الأبوين ونحوهما، من الزوج والزوجة، بما دلت عليه الشواهد من الكتاب والسنة عن الرسول عليه السلام، من اشتراكهم في المنافع والمضار، والصلاح والفساد الموجب للظنة. وقد رد الرسول عليه السلام شهادة الظنين والخصم، وشهادة ذي الحنة، وهي العداوة وكذلك ذو الغمر، على أخيه، وهذه ابنية التهم والظنة اللاحقة في الأغلب من أحوال الناس، في أبنائهم وفي الأبوين وبين الزوجين. وقد يقع خصائص من الناس هم بخلاف ذلك، من عداوة تكون بين من ذكرنا أو تباعد، وذلك نادر وأمر يبعد، لا يرد بذلك الغالب الأعم، كما قد يقع في بعض الخصماء والأعداء من لا يحيف على خصمه أو عدوه، ولا يشهد عليه بباطل فلا ينظر إلى النادر في ذلك، ولابد من أن يحمي ذلك بأن يكون الناس فيه سواء، على ظاهر ما به تحمي الأمور، بما تقدمت دلائلنا فيه. كما أنه قد منع القاتل الميراث، وكان الأصل في ذلك التهمة بنيل الميراث ثم قد يقع قاتل قد علم أنه لم يقصد للميراث، فلا ينظر إلى ذلك النادر، وهكذا جرت الأصول في هذا وشبهه.

ونسأل هذا الرجل عن رجل شهد لنفسه ولغيره في مال بكتاب واحد، فإن أبطلها لنفسه وأجازها لغيره حكم في شهادة واحدة برد بعضها وقبول بعضها، والعلة فيما ردها فيه قائمة فيما قبلها فيه، للتهمة في تصحيح الأمر بعضه ببعض [] [وذلك] ظنه أوجبت رد جميع الشهادة. فإن كابر في ذلك، قيل له: أرأيت إن شهد مع غيره على شريكه في عبد أنه أعتق حصته منه فيلزمك أن تجيز شهادته في العتق للعبد، لأن ذلك نفع للعبد، ولا توجب له القيمة التي هي منافعه فتصير إلى عتق شقص، بغير تقويم، وذلك خلاف السنة. وإن ابطلت شهادته للعبد في منافع العبد بالظنة به في أن يأخذ القيمة التي هي منافعه، فهذا ما قلنا دون ما قلت.

ورد العلماء شهادة الخصم والعدو – وهما مقبولان على الأجنبي – دليل على إقامة أحكام الظنة في رد الشهادة بها. وليس الظنة بخصومة وعداوة وقرابة مبطلة لعدالة العدل، وهذا مكشوف يدل على ما ذهبنا إليه، وقد روى ابن وهب عن ابن سيرين وشريح، أنه لا تجوز شهادة المريب ولا الشريك لشريكه، ولا العبد لسيده، ولا السيد لعبده، ولا الخصم، ولا دافع المغرم، قال محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري: لا أعلم في هذه الجملة اختلافا بين اهل العلم الذين يعتمد عليهم. وهذا كله هو الذي قلنا من حكم الظنة، التي بها رددنا الشهادة، بين الزوجين والولد والأبوين. والشافعي يقول لا تجوز شهادة الأب للولد ولا الولد للأب كقولنا، وإن كنت نسبته إلى خلاف مالك في مسائل كتابك، فلا أنت – إن كنت عرفت قوله – نسبت إليه ما قاله، ورددته عليه، ولم تشر إلى أن كتابك لنصر مذاهبه، وإن كنت قد جهلت قوله، فالتوقف عن القول كان أولى بك.

ونسأل هذا الرجل عن شهادة المدبر، والموصي بعتقه، على سيده بما يو [جب] قتله، فإن أبطلها حكم برد الشهادة بالتهمة، لأنه ممن يجيز شهادة العبد، وإن أجازها انفرد بما لا أعلم له قائلا. وكذلك يسأل عن شهادة الوارث بمثل ذلك، ويسأل عن الغرماء إن شهدوا لغريمهم الذي أحاط به الدين وليس عنده له وفاء على رجل بدين، أو شهد بذلك واحد منهم، وقد يصير إلى من شهد له بعض ما يقضي له به، وقد لا يصير لهم، وقد يحدث له غني دون ذلك، وقد يهلك قبل قسمه، وهو لا يصل إليهم حتى يصير إلى ملكه. فإن رد هذه الشهادة أبطل الشهادة بالظنة والتهم، وهذا قولنا، ويلزمه أن يجيزها، ويمضي عزائمه فيما أصل فيه من الأصول التي لم يحكمها، فتداعت عليه فروعها. قال هذا الرجل فيما احتج به: وأنت تقطع أحد الزوجين فيما سرق من مال صاحبه،

والابن فيما سرق لوالديه، والعدالة غير زائلة عن من ذكرنا. فإن أراد أن عدالة من ذكرنا فيه بعد السرقة والقطع فيها، فهذا فاسد، ولا يكون السارق عدلا، وإن أومأ إلى أن من يقطعون في السرقة من امله ينبغي أن تجوز شهادتهم له فهذا لا يلزم، لأنا لم نقل إنهم – فيما عندهم من الظنة – قد صار كل واحد مالكا، لمال الآخر، وإنام قويت فيهم الظنة، لما ذكرنا من أن غنى زوجته غناه، وقد يزاد عليه في صداق التفويض لذلك، وكذلك غناه غني لها، وما كرنا في الأبوين والولد من الأمور التي هي أقوى من ذلك. ونراك لم تجد أصلا في الشهادات ترد إليه ما اختلفنا فيه منها، حتى خرجت إلى السرقة فجنفت في القياس، وينبغي على وزنك أن تسالمنا في شهادة الأب لابنه؛ إذ قلنا: إنه لا يقطع في سرقة ماله، وتناظرنا في قطعه في هذه السرقة التي جعلتها أصلا، فما الذي هو الأصل عندك، المرد [ود] إليه الفرع: الشهادة أم السرقة؟ إذا أقمت أحكام القيـ[ــاس]. وذكر هذا الرجل رواية عن عمر بإجازة شهادة الوالد للولد، والولد للوالد، والأخ لأخيه، إذا كانوا عدولا. فلنا عن عمر ما دل على خلافه: روى مالك عن عمر: لا تجوز شهادة خصم ولا

ظنين، وروى ابن وهب عنه أيضا: ولا ظنين في قرابة. وأنا ابو بكر بن محمد قال: نا يحيى قال: نا سحنون، عن ابن وهب قال: أخبرنا عبد الله بن عمر العمري، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور، أو ظنين في ولاء أو قرابة، فقد بين أن ظنة القرابة لا تقبل معها الشهادة.

وقال ابن شهاب: مضت السنة لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين. وأما روايته عن شريح أنه: أجاز شهادة زوج لزوجته، وذكر ذلك عن رجل مجهول، ولنا عن شريح خلافه. نا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد بن الجهم، قال: نا الأنصاري قال نا عبد الله قال نا وكيع قال نا سفيان عن جابر عن عامر عن شريح قال لا تجوز شهادة الابن لأبيه ولا الأب لابنه ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته. وبإسناده عن سفيان، عن منصور عن إبراهيم مثله، وزاد، ولا السيد لعبده، ولا العبد لسيده، ولا الشريك لشريكه، ونا الحسن ومنصـ[ـور] نحوه. فهذا ما ذكر العلماء من صحيح الحديث، وعليه عمل الحكام بكل بلد، ومثل هذا كثير عن تابعي أهل المدينة، وغيرهم من أهل العراقين والحرمين، يكثر علينا ذكره، وفيما ذكرنا في باب شهادة العبد من الحديث الثابت عن عثمان، في الشهادة ترد علي

العبد والصغير والكافر، ثم يؤدونها بعد زوال الرق والكفر والصغر أنها لا تجوز أتيت بالمعنى، فهذا مما يقوي أحكام الظنة. وما روى مما لم يذكره هذا الرجل عن أشعث عن الشعبي أنه أجاز شهادة الأب لابنه، والرجل لامرأته ولم يجز شهادة الابن لأبيه، ولا المرأة لزوجها. فهذا أشعث بن سوار، وليس الحداني، وهذا ضعيف ولنا عن الشعبي خلافه.

نا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد قال: نا الأنصاري قال: نا عبد الله قال: نا أبو معاوية عن عاصم، عن الشعبي قال أدنى ما يجوز من الشهادة شهادة الأخ لأخيه. فلو أجاز شهادة الأب ما قال: أدني ذلك الأخ. لأن الأب والابن أدنى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك، وقال الله سبحانه: {آباءكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا} وقد ذكرنا كثيرًا من مثل هذا فيهم وفي الزوجين. وأما ما ذكر عن ابن شهاب قال: سألته عن شهادة الوالد لولده، قال كان فيما مضى من السنة وسلف المسلمين يتأولون في ذلك قول الله {يا أيها الذين ءامنوا كونوا قومين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الولدين والأقربين} فلم يكن يتهم في سلف المسلمين والد لولده، ولا ولد لوالده، ولا أخ لأخيه، لا امرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، إذا رضي هديهم. فهذا حديث مختصر، قد بقي منه بيانه، حدثناه ابو بكر بن محمد قال: نا يحيى قال: نا سحنون [نا ابن وهب] [نا يونس]، عن ابن شهاب قال مثله وزاد: [ثم

دخل] الناس بعد ذلك، فظهرت منهم أمور، حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة، وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوجة والمرأة، لم يتهم إلا هؤلاء. ولا وجه لا [نتقاء] الأحاديث، والطرح منها ما بطرحه تستقيم حجة الخصم، هذا غير سائغ لفاعله، وقد ذكرنا هذه الآية في أول الباب، وإنما فيها الشهادة عليهم بقوله: {علي أنفسكم أو الوالدين} وقد جعلهم كنفسه، ولم يذكر الشهادة لهم، فكما لا يشهد لنفسه فلا تجوز شهادته لهؤلاء المذكورين معه، وفي بعض ما ذكرناه كفاية، وبالله التوفيق.

باب في نكاح المريض

باب في نكاح المريض قال عبد الله: وأنكر هذا الرجل قول مالك في نكاح المريض، أنه لا يجوز، واحتج بإباحة الله عز وجل للنكاح مطلقا، وذكر أن مالكا، قال: إن طلاقه لا يجوز. وهذا لم يقله مالك في الطلاق، بل الطلاق جائز عنده واقع ولها الميراث. وقال هذا الرجل: فما الذي أوجب هذا؟ أكتاب أم سنة أم اتفاق؟ ونحن ندله من الكتاب والسنة والاتفاق على صحة ما قال مالك رحمه الله. فيقال له: أرأيت لما أباح الله سبحانه البيع في كتابه مطلقا، اليس جائزا، للمتبايعين التبايع بأكثر من قيمة السلعة، وبأقل، لا خلاف في ذلك بظاهر القرآن.

أفرأيت إن باع المريض بأقل من القيمة أو اشترى بأكثر منها، فإن أجزت له ذلك في رأس ماله، فقد أبحت ما دل الكتاب والسنة على حظره، أن المريض ممنوع من الحكم في ثلثي ماله بما ينقصه. وإن منعته ذلك، وقلت: الزائد على قيمة السلعة التي ابتاع كأنه لم يأخذ له عوضا، قلت معنا بالمعاني، وانتقلت عن ظاهر إباحة البيع المطلق، إلى تخصيص ذلك بالدليل، ومنعت المحاباة بدليل ذلك، وبدليل ما منع النبي عليه السلام من الوصية، وجعلت المحاباة - وإن لم يذكرها - كالوصية التي ذكرها. فما الذي بعد عليك أيها الرجل منا، أن خصصنا نكاح المريض بدليل الكتاب والسنة؟

فإن قلت: إنه قد أخذ النكاح عوضا وهو البضع، كما أخذ السلعة عوضا، فأجز النكاح بصداق المثل، كما أجزت له البيع بالقيمة. قيل لك: وفقت بين معنيين من المسألتين غير متفقين، وذلك أن السلعة التي اشتراها أو باعها بالقيمة، قد أخذ مما أعطي عوضا نمي به ماله، وأبقاه لوارثه، والزوجة ليست هي بنماء للمال، ولا من ما يورث عنه، وأصل العلة تحصين المال على الوارث. فإن قلت: كما أبيح للمريض شراء مصالح عيشه وعلاجه في مرضه، فالزوجة من ذلك. قيل له: لا يشهه ذلك، لأن المريض به حاجة إلى الغذاء والدواء وشبهه، وليس به حاجة إلى النكاح، ومن صار من المرضى إلى ضرورة الحاجة إلى الباه فهو صحيح، تجوز هبته، وصدقته، ونكاحه. ويسأل عن هبة المريض وصدقته، فإن قال: في ثلثه، قيل له: ولم ذلك، وأنت تطالب ظاهر الأسماء، ولا ترد حكم المسكوت عنه إلى المذكور، الذي فيه من العلة ما في المذكور، ولا تقول بالعلل؟ والنبي عليه السلام إنما منع سعدًا من الوصية بأكثر من الثلث. فإن قلت: إن قوله: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة، دل أن المعنى الإبقاء على الوارث فدل أن كل فعل ينقص الوارث فقد منعه منه، إلا ما المريض إليه مضطر من قوام بدنه.

قيل له: هذا صحيح وليس بأصلك في رد المسكوت عنه إلى المذكور إذا ساواه في العلة، فإن صح ذلك عندك، فألا منعته من النكاح، وهو ينقص الوارث من ميراثه، بسبب صداق الزوجة وميراثها. فإن قلت مقتحمًا: إن صدقته وهبته جائزة، إذ ليست بمذكورة، قلت ما لا أعلم له قائلا، وظاهر الحديث يمنع من ذلك بقوله: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير. فجمع بهذا الكلام كل معنى يوجب النقص على الوارث أنه ممنوع. وقد أعتق رجل ستة مملوكين في مرضه لا مال له غيرهم، فرد النبي عليه السلام عتقه لجميعهم وأعتق ثلثهم، والعتق أقوى في الأحكام من الهبة والصدقة. فإن قلت - وما أستبعد أن تقوله- إن العتق والوصية أمنع منهما إلا في الثلث، وأجيز الهبة والصدقة من رأس المال، صرت إلى ما الإقرار به ينوب عن نقضه، لأنه إبطال للمواريث ولمعاني الأخبار، وما يفهمه الخاصة والعامة من معاني الأمر والنهي. وفي منع النبي عليه السلام للقاتل من الميراث دليل لمن يثبب المعاني، لأنه لم ترتفع قرابته بالقتل، إنما منع لطلبه - في الأغلب - أن يرث بغير ما أذن الله به ان يرث فكذلك

المريض ممنوع أن يدخل في ورثته وارثا بغير ما أذن الله ورسوله، أن يفعل فعلا ينقص به الوارث إلا ما به إليه الضرورة. وكل فعل له يشبه ما جاء فيه النص من الوصية، فيمنع منه إلا في ثلثه، من هبة وصدقة وعطية وعمري وحبس وعتق أوصى به ومحاباة بيع، وليس من هذا شيء مذكور بعينه، وهو مباح بظاهر الكتاب، فالمعنى الذي به منع من هذه الحوادث حتى ردت إلى الثلث هو المعنى الذي به منع من النكاح. فإن قال: فأجز النكاح، واجعل الصداق في الثلث وإن لم يدخل بها. قلت: هذا يفسد من وجوه، لأنا إن منعناها الميراث فقد صححنا لهذا عقدا يوجب وجهين، فأبطلنا أحدهما وجعلنا الآخر من الثلث، والعلة التي بها يبطل الميراث بها يبطل الصداق إذا لم يدخل بها، وإذا ثبت الصداق وجب لها الميراث، وإذا صارت وارثه بطل أن يكون صداقها من الثلث. فإن قلت: أجعل لها الميراث في الثلث، قلت: هذا أفسد، لأنه يصير وارثه يرث من بعض المال دون بعض، وليس هذا في الأصول، وربما استغرق الصداق الثلث، فتصير لا ميراث لها.

وإن لم تقدمها - على أصلك - على أهل الوصايا في الصداق أخذت منه ما ربما قل أو كثر وهي تبيح الآن نفسها بما لا تدري ما يحصل لها من بضعها وهذا اختلاط. ومما يفسد به عقد هذا النكاح غير وجه: منها ما تقدم دليلنا عليه، في منعه من إدخاله على ورثته وارثا ينقصهم الميراث. ومنها أنه عجل لها صداقا لم يأخذ عليها، عوضا يوفر به ماله، الذي عليه فيه معنى من الحجر في المرض، بسبب الإبقاء على الوراث ولعل صداقها ماله كله. ومنها أنه إن طلقها قبل المسيس ولم يفرض لها، أو بعد المسيس وقد فرض لها أو لم يفرض، أن عليه عنده أن يمنعها والمتعة في قوله واجبة بالقضاء فيؤديه إلى أن يعطيها متعة لا يأخذ عليها عوضا، وهي فرض عنده كالدين، فلا يحسن أن تكون من الثلث. ويقال له: إذا كان المريض له أن ينكح عندك مطلقا كما له ذلك في الصحة فهل تبيح له أن يتزوج بأكثر من صداق المثل في المرض كالصحيح؟ فإن قال: لا، قيل: ولم ذلك، والله سبحانه لم يفرق عندك بين ما أطلق من النكاح بين مريض أو صحيح؟ فإن فرقت بينهما لمعنى ما، كان ذلك المعنى هو دليلنا على منعه من جميع أحكام، النكاح، إذ العلة في الزائد على صداق المثل مثلها في النكاح بصداق المثل، لأن ذلك الزائد داخل فيما أخذ عليه العوض من بضعها وصارت العلة راجعة إلى حياطة الوارث في الإبقاء عليه.

وإن تقحم فأجاز أن يتزوجها في المرض بأكثر من صداق المثل، خرج إلى ما تخف به مؤنته، وتبطله حكايته، ويلزمه ذلك في البيع – وهو اقوى للعوض الذي يأخذ – وإن حابى، ولا يعجز أحد أن يتصدق ويهب في مرضه، ويجعله من رأس ماله، بأن يحدث شراء ما يساوي درهما بمائة دينار، ويتزوج من صداق مثلها ربع دينار بمائة دينـ[ـار]. فإن أبي من ذلك لزمه كل ما تقدم ذكرنا إياه. ويقال له: أرأيت ما زادها على صداق المثل، إذا منعته أن يكون من رأس المال، أيكون من الثلث؟ فإن جعلته من الثلث – وهي عندك وارثة – ابحث العطية والهبة لوارث، لإدخالك ذلك في باب العطايا، وخروجك به عن رأس المال، والأصول تدفع هذا. وإن قلت: أمنعها الزائد وأقصرها على صداق المثل، قيل لك، وما علة إبطالك لما أباحة ظاهر القرآن، بقوله وإن {ءاتيتم إحداهن قنطارا} الآية، فلا ترد ذلك بمعنى إلا لزمك مثله في بقية الصداق. ويقال له: فهبك منعتها من الزائد إن مات، أرأيت إن صح؟ فإن قلت: لا يكون لها، قيل لك: ولم، والعلة التي بها منعتها بها من ذلك وهي المرض – قد زالت؟ ولم رددتها إلى صداق المثل، دون ما تراضيا به؟ والعقد صحيح عندك، والصداق لا فساد فيه، وكيف تجبرها أن تبيح نفسها بما لم ترض به؟ أرأيت إن امتنعت من البناء الآن، إلا بما – رضيت به، أينقصها منه، والله سبحانه

ورسوله عليه السلام إنما أباح الفروج بما تراضيا به من الصداق فأولى بك فسخ هذا النكاح من بدء أمره، لما يدخل صداقه من هذا وغيره. فإن قلت: يقضي لها بجميعه إذا صح، ويكون لها إذا مات صداق المثل، إن كان هو أقل. قيل لك: هذا أفسد؛ لأنها تصير امرأة تزوجت بصداق، لا تدري أيقل أم يكثر لأنه تارة يكثر إن صح ويقل إن مات، فهذا مجهول وخطر، وقد نهي عن بيع الغرر، والغرر في الفروج أكثر. ويصير أيضا نكاحا مترقبا، لأنه إن دعاها إلى البناء في المرض، فامتنعت ألا تقبض جميع الصداق، وقالت: لا أبيح نفسي إلا بشيء معلوم ثابت لا يزول مات أو عاش، فأنا أمنعه نفسي حتى يصح فأخذ جميع ما راضاني عليه، أو يموت فآخذ ما أعطيتموني فهذا نكاح لم يوقف منه على معلوم، والأصول من كل وجه تدفعه [وتدل] على فساده، ولا يجوز عند أحد نكاح يكون صداقه على [وجه] تارة يقل وتارة يكثر.

وإن قضيت لها بتعجيل المثل وتأ [خير] الزائد، دخل في ذلك ما تقدم من العلل، مع إباحتك إياها ببعض ما رضيته عوضا، وهي من باقيه على خطر أن تأخذه، أو بعضه أو جميعه، أو يقرب منها أخذه، أو يبعد فبعضه عجلته بفساد، وبعضه مؤجل إلى أجل مجهول مع غرر في أخذه، وهذا أمر كلما قلبته لم تفقد فيه خلللا ومن ترك مطالبة العلل من الظواهر المذكورة، والاستدلال بها على ما لم يذكر، ضاقت مذاهبه، وهذا سبيل من عدل عن اختيار سلفه، وتلقي الأمور في أصول الكتاب والسنة بغير تلقيهم واستخراجهم، ولو افتقر إلى استنباطهم وقصر [نفسه على تـ]ـتبعه أفهامهم، لم يرد مورد المتكلفين. قال هذا الـ[ـرل: ز] عم مالك أن نكاح المريض يلزم فيه الطلاق إن طلق، فـ[ـالزوجة] يلزم فيها الطلاق، وهي لا ترثه قبل الطلاق. فيقال له: إن مالكا، رحمه الله، اختلف قوله في فسخ نكاح المريض، فقال مرة: بطلاق وقال: إنه يفسخ بغير طلاق، ولا يقع فيه الطلاق، وأنت غير خبير بأقاويله [ومذاهبه]. واختلف قوله أ [يضا إن] صح، فقال مرة: إن صح قبل الفسخ لم يفسخ ثم قال: يفسخ صح أم لم يصح، ولكل قول من قوليه وجه، لم يخرج فيه عن الأصول.

[فأما] قوله: يفسخ بغير طلاق، وإنه يفسخ بعد صحة المريض فلما [حصل] في عقدة النكاح من الفساد، والنكاح إذا فسد لعقده لم يثبت، وعلى هذا كثير من أصحابه. وأما قوله يفسخ بطلاق، فإنما احتاط على الزوج الثاني، إن تزوجت غيره، وعليها لما في نكاح المريض من الاختلاف، فجعل بذلك الاختلاف شبهة أوجبت الصداق بالمسيس , وألحق بها الولد، ثم احتاط بإيقاع الطلاق في فسخه، إذ لا ضرر يلحق الزوجين في ذلك، إلا ما فيه من الاحتياط لما عسى أن يكون في الاختلاف في ذلك من الاحتمال، وهذا شأنه رحمه الله أن يميل إلى الاحتياط الذي لا يغير شيئا من الأحكام، وهذا من توقي الشبهات. ويقال لك: هل تقيم من أحكام النكاح الفاسد حكما مثل حكم النكاح الصحيح؟ فإن قلت: لا، قيل لك، فأوجب الحد فيه، وأنف الولد، وأبطل الصداق. فإن أبيت ذلك، قيل لك، فألا اعتبرت بهذا أنك فسخته، وهي عندك غير زوجة ولا يلحقها طلاقه، ثم أوجبت الصداق، وألحقت الولد وأسقطت الحد، وهي ثلاثة أحكام من أحكام النكاح الصحيح. فلا تستبعد أيها الرجل لحاق الطلاق احتياطا، ولا تنكر بأول خاطرك على ذوي الرسوخ، الذين لا يتكلمون إلا عن أصول يرجعون إليها، ويتحرجون أن يقولوا [] إذا صح منه، ثبت النكاح، [فقد] أعلمناك أن أكثر قوله وقول أصحابـ[ـه] أن يفسخ وإن صح، وكان أولى أن تعرف أقاويله قبل إنكارك عليه. ولو تقلد قوله الآخر متقلد لوجد مسلكا من التأويل في أصوله، لأن غير نكاح يكون يفسخ لعلة، فإذا زالت ثبت أعني في قول مالك، كالعبد يتزوج بغير إذن سيده،

فإن أجازه ثبت، وإن شاء فسخه، وفي نكاح الحرة بغير إذن وليها، فيجيز الولي اختلاف من قوله. وسنجيبه على مسألة العبد بعد هذا، لأنها مما أنكر، ونجيبه على طلاق المريض بعد فراغنا من ذكر نكاحه، لأنه خلط ذلك بعضه ببعض. ثم قال هذا الرجل: وقد أجاز نكاح المريض جماعة من الصحابة، ورأيته ينضح من الحديث بشيء من كتاب أبي عبيد، فذكر رواية أبي عبيد عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: دخل الزبير على قدامة بن مظعون، فبشر الزبير بجارية صغيرة وهو عنده، فقال له قدامة، زوجنيها، فقال له الزبير، وما تصنع بجارية صغيرة، وأنت على هذه الحال؟ فقال: إن أنا عشت فابنة الزبير، وإن مت فأحـ[ـق] ورثتي، قال فزوجها إياه. ولو تأملت هذا الحديث لم تحتج به، لأنه ليس فيه أنه كان مريضا، وقوله: وأنت على هذه الحا [ل]، يعني في الز [ما] نة والكبر، وكذلك رويناه مفسرًا. ولو لم يكن لنا بذلك رواية لكان لا يشبه في المعنى ان يقول الزبير: ما تصنع بغيرة وأنت على هذه الحال؟ لأنه لا يصنع بصغيرة ش [ـيئا] لا في مرضه ولا في صحته،

فلا معنى أن [] من الكلام أن يقول: ما تصنع بصغيرة، وأنت في حال كبر سن وزمانة؛ لأنه الأغلب ألا يعيش إلى أن تصير هي تصلح للرجال. فهذا [أ] شبه وقد رويناه مفسرًا، نا محمد بن عثمان، قال: نا محمد بن أحمد المالكي، [قـ]ـال: نا أبو السري، عن حجاج، عن حماد، عن هشام عن ابيه أن الزبير نفست له جارية، فتزوجها قدامة بن مظعون، فقيل له: تتزوج جارية [قد] نفست وأنت شيخ كبير؟ فقال: ثم ذكر باقي الحديث، فلم يذكر فيه [مر] ضا ولا عيادة من مرض، ولا أصل لهذا. وقد رواه سفيان وحماد و [أبو] حاتم وجماعة فما ذكروا فيه مرضا. وهذا قول الفقهاء من [أهل] الحرمين والعراقين، من رواية ابن وهب وغيره. من مصنفي أصحابنا [وغي] رهم، وأكره تطويل ذكر الأسانيد.

ولم تذكر أنت من ذلك أسانيد [لك] تتكيء عليها، وتقابل ذلك بمثلها. فممن قال ذلك ابن شهاب و [يحـ]ـي بن سعيد وربيعة وعطاء وابن أبي ليلى، وحماد، وقضى به أبو [حفص] بن عمر بن حفص بالمدينة. أنا محمد بن عثمان قال: أنا محمد بن الجهم [قال]: أنا الحارث بن أبي أسامة عن ابي عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء [عـ]ـن المريض يتزوج فقال: حدث، وقد قال النبي عليـ[ـه السلام]: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. ثم ذكر هذا الرجل [خبرا لا إسناد له] أن معاذا [خطـ]ـب امرأة في مرضه،

وأنه كره أن يلقى الله عازبا، قال غير واحد [من] العلماء بالحديث، وهذا باطل لا أصل له، ولو ذكر إسناد لعللناه [له]، وهذا عندهم منكر لا يثب. والذي ذكر هذا الرجل أن قوله قول جماعة من الصحابة، ثم لم يحصل عليه مما ذكر شيء، ولا صح له ذلك مما ذكر عن واحد منهم. وما ذكر عن الشعبي وإبراهيم، فقد خالفهما، من التابعين من ذكرنا مع من ذكرنا من فقهاء الصحابة، مع ما ايد ذلك من الدلائل التي ذكرناها. ومن أعاجيب قوله أنه قال: ويدل على صحة نكاح المريض أنها إن ولدت منـ[ـه] أن الولد لاحق، وأنه إن اقر بولد لحق به، وإن نقص ذلـ[ك] الورثة. وهذا استدلال فاسد، ويلزمه أن كل نكاح فاسـ[ـد] يلحق فيه الولد، لا يفسده إذا ألحق فيه الولد، والولد يلـ[ـحق] بالشبهة، وهو لا يملك الإتيان بالولد، ذلك من

خلق الله [عز] وجل، وقد دللنا على فساد النكاح، فلا درك علينا بما يأ [تي] فيه من الولد. وأما قوله: قد يقر بولد فيلحق به، وينقص ذ [لك] الورثة، يقال له: إقراره بالولد ليس هو ابتداء في المبـ[ـاشرة] للفعل الذي كان عنه الولد، من نكاح، وهو من غير عقد ا [لنكاح] في مرضه، ومع ذلك إن الولد يلحق في كل نكاح فاسد، فـ[ـلا] يحسن أن يكون دليلك على إجازة النكاح لحوقه. والولد الذ [ي] لا يعرف له نسب لايتهم في استلحاقه، كما لا يتهم عـ[ـند] نفيه، ويتهم في النكاح في المرض، كما يتهم في الطلاق [فيه] واستلحاق الولد فرض عليه، وليس النكاح بواجب علـ[ـيه] وإقراره بالولد غير موجب حتما نقصان مال الوارث، لا [حتمال] موت الولد المستلحق قبله، والزوجة يتعجل فيها زوال [المال] حتما بالصداق، فليس ما ساويت بينه بمشتبه. ولو لم نستدل على إبطال نكاح المريض إلا بما أوجب الصحابة من الميراث لزوجته، إذا طلقها في مرضه، وهم عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وعائشة وابن عمر، لا مخالف لهم من الصحابة بنص يصح ويثبت، والله أعلم. فقد حصنوا الميراث فمنعوه أن يخرج بطلاقه وارثا، فكذلك لا يزيد بنكاحه وارثا، وما في ذلك أكثر، [وفي] بعض ما ذكرنا كفاية، ولله الحمد.

باب طلاق المريض

باب طلاق المريض قال [عبد] الله: وأنكر هذا الرجل قول مالك في المريض يطلق زوجته: [إنها] ترثه وإن خرجت من العدة، أو تزوجت غيره، ولا يرثها. [قال]: وهذا خلاف حكم الله في الميراث بين الزوجين، فإن اكنا [زو] جين توارثا، وإن لم يكونا زوجين فلا ميراث لها منه، وكيف [ينـ]ـكح غيره فرجها، وترث الأول، وهي لا تعتد منه إن مات، [وتـ]ــوريثها بعد إلزام الطلاق لها، وزوال العصمة مخالف [لظا] هر القرآن والسنة، ومن أكل المال بالباطل. قال: وإنما [حكمـ]ــت بالتهمة، والتهمة لا توجب حقيقة. أرأيت من لا عن [مـ]ـن الحمل في مرضه، هل يرثه ذلك الحمل والزوجة

[بالتهـ]ـــمة، أو أقر لغريم أجنبي بمال وعليه دين محيط، أتتهمونه [فـ]ـيه؟ ومن ذهب إلى هذا القول المخالف للتنزيل فإنما قلد [فيـ]ـه، عثمان، وقد خالفه في كثير من أحكامه وقضاياه، منها تخمير [المـ]ـحرم وجهه، فكان يخالف عثمان فيما هو خلاف ظاهر القرآن من طلاق المريض، لأنه خلاف كتاب الله. قال عبد الله: فإنا نقول: تأملوا، رحمكم الله، قوله في عثمان: إنه حكم بخلاف كتاب الله، وقال أيضا: إن قوله مخالف للتنزيل، وهذا كلام من لم يتبع الصحابة بإحسان. ولا يجوز لقائل أن يقول في أهل اللغة واللسان والفقه والبيان: إنهم اختلفوا في نص القرآن، فصار بعضهم مخالفا للتنزيل، وكأن لا وجه لاختلافهم من احتمال الظاهر، وهذا طعن شديد، هذا إن ثبت أنهم اختلفوا في ذلك، وهو لا يثبت له، ولكن لو صح اختلافهم في طلاق المريض لم يسع أن ينطق بهذا الـ[ـكلام].

ولا يتسع لأحد أن يقول: إن اختلافهم يقع فيما [لا يحتمل] غير وجه واحد، ولو لم يقل ذلك منهم غير عثمان ما [جوز] ذلك لذي دين ان يقول: إنه خالف نص التنزيل بما لا يحـ[ـتمل] غير ظاهر النص. فكيف وقد قاله مع عثمان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وابي بن كعب، وابن الزبير، إن كان [قد] حكى عن ابن الزبير خلاف ذلك، فإنا نوجده ما ذكرنا عن [ابن الزبير وعن غيره من] فقهاء الصحابة منهم ثـ[ـلاثة من] الخلفاء [] [قال] هذا الإنسان إنه خلا [ف قول ابن] الزبير، [قال به []ـهم، ولا نعلم

أحدا من الصحابة قال [] [الكتاب] [] من أن تقول: إن عبد الـ[ـرحمن] [] المطلقة في المرض لا ترث لأن هذا من الظن، ولا [] [بظن] عن عبد الرحمن أن [] طلاقه إياها في المرض دال على ذلك، ولا يخالف هؤلاء الصحابة بظن يظن بصاحب لم يقله. ونحن نقول بظاهر قول عبد الرحمن وغيره، إن الطلاق واقع، والميراث لها بما تأول هؤلاء الراسخون، ونذكر من الدلائل على صحة ذلك، ما نكشف به ما استتر عن هذا الرل. ولا نص لك عن عبد الرحمن أنها لا ترث، ولا دليل عليه من الحديث، بل دليل على خلاف ذلك، لأنه ذكر: انها كانت سألته الطلاق، ورغبت إليه فيه، ولا يجوز أن تتقول عليه، أو تقوله قولا بالظن. فليس لك أيها الرجل – فيما علمنا- سلف من الصحابة تنتهي إلى أن تنسبه إليه بيقين ولنا ثابت عن ابن الزبير مثل قولنا، فمن سلفك الذي تلجأ إليه فيما قلت من منعها الميراث؟

أنا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد المالكي، قال: نا محمد بن شاذان، قال: نا معلي قال: نا هشيم، عن حجاج، عن ابن ابي مليكة، عن عبد الله بن الزبير قال: طلق ابن عوف امرأته الكلبية، وهو مريض ثلاثا، فمات ابن عوف، فورثها منه عثمان بن عفان، قال ابن الزبير: لولا أن عثمان ورثها [لم أر لمطلقة] ثلاثا ميراثا. فقد بان لك بأن ابن الزبير قال بما قال عثـ[ـمان] [] [سلف] ولم تحك نصا إلا عن ابن الزبير، [ولا يثبت] عنه [ما قلـ]ـت، ولعله قال ذلك ثم رجع، ولم يصح تأويلك [عن عبد الرحمـ]ـن ، ورو [ى] [] [حديث] ابن الزبير، عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة كنص [ما] حدثتك، إلا [أن] فيه: فأما أنا فلا أورث مبتوتة.

[فقد] ثبت من رواية حجاج عن ابن أبي مليكة خلاف [روايتك عنه]، وذلك أثبت في الرواية، والله أعلم، لابن جريج، على [أنه في] كتبه ربما كنى عن قوم لا يثبت مثلهم، وربما دلس عن ابن أبي يحيى ولم يذكره، ولم يقل في حديثك حدثني ابن أبي مليكة، وقد رويناه عن ابن جريج، وليس فيه هذه الكلمة، التي في روايتك. نا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد قال: [نا الأنصـ]ـاري، قال: نا عبد الله قال: نا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي [مليكة قـ]ـال: سألت ابن الزبير عن رجل طلق امرأته وهو مريض، فقال: قد ورث عثمان بنت الأصبغ الكلبية، ولم يذكر هذه الزيادة التي في روايتك عن ابن جريج.

وكيف كان الأمر، فقد ثبت أن قول ابن الزبير كقول عثمان، وقد رجع عن غير ذلك إن كان قاله، فلم يبق لك ما تتعلق به من قول الصحابة مما أنت منه على ثقة، إلا تأويل على عبد الرحمن، الظن أملك به. وذكرت أنك رويت عن عمر وشريح أنها ترثه ما دامت في العدة، وهذا غير قولك، وفيه حجة عليك. ثم ذكر أنه قول سفيان والأوزاعي وابن شبرمة وأهل الـ[ــرأي]. فقد [بان خلافك لمـ]ـن تقدم، وأقررت بانفرادك بقـ[ــولك] ذلك [] [لم يقل] السلف فيه ما قلت. ولو تأملت هـ[ــذا] لم تطلق في سلفك من لسانك ما أطلقت [فيهم]، والحديث ثابت بتوريث عثمان امرأة عبد الرحمن بعد انقـ[ــضاء] العدة، من رواية مالك وغيره.

نا أبو بكر بن محمد قال: نا يحيى بن عمر قال: نا ابن بكير، عن مالك، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته وهو مريض فورثها عثمان بعد انقضاء عدتها. ونا أبو بكر قال: نا يحيى [بن عمر قال: نا] سحنون قال: حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة أنها: سألته الطلاق، فحلف ليفعلن إن آذنته بطهرها، فلما طهرت آذنته، فطلقها طلقة، هي آخر طلاقها، وكان طلقها قبل [ذلك] طلقتين. قال الزهري: وحدثني طلحة بن عبد الله أنه عا [ش حتى حلت ز] وجته تماضر وهو حي، ثم مات فورثها عثمان، فقيل له: قد عرفت أن عبد الرحمن لم يطلقها ضرارا، قال أردت أن تكون سنة ليهاب الناس الفرار من كتاب الله. قال ابن شهاب: وورث عثمان أم حكيم بنت قارظ من عبد الله بن مكمل، طلقها في مرضه ومات بعدما حلت، ورواه مالك.

نا أبو بكر بن محمد قال: نا [يحيى بن] عمر قال: نا سحنون عن ابن وهب قال: نا سفيان الثوري عن المغـ[ـيرة بن مقسم] عن إبراهيم بن يزيد أن عمر بن الخطاب قال في الرجل يـ[ــــطلق امرأته] وهو مريض فقال: ترثه ولا يرثها، وليس فيه ترثه في العدة. [وقد] [] [روى] بعض الناس أن عروة البارقي كتب إلى [شريح بجواب عـ]ـمر في المطلقة ثلاثا في المرض: ترثه ما كانت في العدة، فذكرته للشعبي فال: ما سمعنا به، وزاد هشيم مرة أخرى: ثم رجع، فقال كما قال إبراهيم. وليس في ذلك أن عمر كتب بذلك، ولا أمر به عروة، وقد ذكرنا ما ثبت عن عمر.

وقد حدثنا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد بن الجهم المالكي، قال: نا الأنصاري، قال: نا عبد الله قال: نا ابن مسهر، عن الشيباني، عن الشعبي أن هشام بن هبيرة كتب إلى شريح يسأله عن ذلك، فكتب إليه شريح، فار من كتاب الله ترثه. وهذا يضعف ما روى من طريق شريح عن عمر، لأنه ها هنا علله من نفسه، ولم يذكر عمر. وقد ثبت بالأسانيد الرفيعة من رواية مالك [بن أنس] وابن وهب وغيره ما قدمنا ذكره، من قضية عثمان بتوريثها بعد آخر طلقة بقيت فيها، وبعد انقضاء العدة، بمحضر الصحابة ومشورتهم، ورأي علي بن أبي طالب، وقاله أبي بن كعب. أنا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد المالكي، قال: نا محمد بن شاذان، قال نا معلي قال: نا وكيع، عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت، عن رجل من قريش عن أبي بن كعب في الرجل يطلق امرأته هو مريض ثم يموت، قال لا أزال أورثها ما لم تتزوج وإن مضت سنة. وهذا قول نافع، قال [محمد] بن أحمد أنا عبيد الله بن موسى عن ربيعة

وابن شهاب وبكير بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن ياسر والحسن البصري وعطاء. وقال مخرمة عن أبيه: إنهم كانوا يقولون ذلك، يعني: من قبله. وقال النعمان بن ثابت في المبتوتة: ترثه في العدة، وهذا يروى عن الشعبي وإبراهيم وشريح وابن سيرين، ترثه في العدة، لأنه فر من كتاب الله

فأدركه. وإذا كانت العلة فراره من كتاب الله فحكم الكتاب يدركه، كانت في العدة أو خرجت منها، لأن العصمة قد زالت، فلا معنى للعدة أن تكون علة. فأين قولك ايها الرجل الذي تعلقت به، وزعمت أن من خالفه خالف التنزيل، وأبديت وأعدت في قول مالك، إذ قال بما قال الخلفاء والصحا [بة]، ومن سبقه من التابعين؟ وما حصل بيدك من السلف فيما زعمت إلا ظنا تظنه عن عبد الرحمن، وقد بينا ذلك، ورجوع ابن الزبير. فلقد عز عليك أن تجد اتباع التنزيل على لسانك في الصحابة والتابعين، ولا تقدر أن تدعيه لأحد من الصحا [بة] يروى عنه، إلا ابن الزبير، وقد ذكرنا رجوعه، وما روينا عنه من خلاف ذلك. فلو كان قولك قولا قاله [طائفة من] الصحابة [و] قال بعضهم بخلافه، ما حل لك أن تقول [فيهم: إنهم] خالفوا التنزيل.

فكيف ولا صاحب معك يثبت لك عليه قولك ثباتا يصح، والله المستعان وقد كان قول الشافعي بالعراق كقول مالك، ثم استخار الله في أن قال بخلافه، ولا ادري بماذا رجع عن ذلك. وأما قولك: إنما ورثها عثمان بالتهمة، والتهمة لا تؤدي إلى حقيقة، فقد عرفناك بقوة منع الذرائع في الأصول. ومنع الذرائع وما أصله عن التهمة يساوي فه بين الناس فيمن يتهم ومن لا يتهم، كما منع النبي عليه السلام القاتل من الميراث، ثم الناس في المنع سواء من يتهم بطلب الميراث وغيره، وإن كان أصل ذلك التهمـ[ـة] على أن يرث. وكذلك من جمع بين مفترق، وفرق بين مجتمع، وكذلك شهادة الخصم والعدو والظنين، مما تقدم ذكرنا لكثـ[ـير] منه، في بابين قبل هذا. فأصل ذلك التهم، ثم لا يحمي ذلك إ [لا] بمساواة الناس في الحكم كما حمل أبو بكر نفسه محمل من يتهـ[ـم]، في رده في مرضه لما لم يقبض من عطيته. وقد خفف الله على المسافر فأباح له القصر والفطر، وأخبر أن ذلك للتيسير بـ[ـه] لمشقة السفر، هذا أصله، ثم كان الناس فيه سواء،

ممـ[ـن] تلحقه مشقة سفر وممن لا تلحقه، من مرفه أخفض عنـ[ــاء] من أكثر أهل الحضر. فهكذا جرت الأصول إذا حمي الأ [مر] حمي من جميع جهاته، وفي كل حال، لئلا يدعى كل أحد السلا [مة]، وتختلف الأحكام. وعلى مثل هذا جرى قول أهل المدينة [في] بيوع الآجال، وطلاق المريض ونكاحه وإقراره لوارث، وهذا مما تتسق به الأمور، ويحمي كتاب الله. فتأمل كيف جرت الأصول في صدر هذه الأمة، قبل أن تجري بما حسن في وهمك. ويقال له: أرأيت إن أقر المطلق في المرض أنه قصد بطلاقه منعها الميراث والفرار من كتاب الله في حين طلاقه وقبله وبعد إيقاعه، هل تورثها؟ فإن قلت: لا أورثها، قلت ما لا أعلم له قائلا. ويلزمك ذلك في نكاحه، إذ قال للبينة ـ أتزوجها لأنقص الورثة بميراثها مني، جنفا عنهم إليها، لا لحاجة إليها. وكذلك أشهدهم في الطلاق أنه ليمنعها الميراث، جنفا عنها إلى ورثته.

فإن لم تورث المطلقة على هذا، وورثت المنكوحة على هذا، انفردت وهذا لا أعلم من يقوله، وظاهر القرآن يبطله، لأن الله تعالى شرط في الوصية غير مضار، فكيف يعقد النكاح والطلاق ضرارا؟ وهو لو عقد عقد بيع بمحاباة كانت في الباب، فيكيف بهذا؟ وأنت إنما اعتذرت تقول: إن التهمة لا تؤدي إلى حقيقة، فسألناك، عنه إذا أفصح بالأمر الذي اتهمناه به، وكشف لنا مراده، فإن ساويت بين المتهم بالشيء والمفصح به، تفاحش قولك، وبطلت علتك في التهمة، وناقضت في الحجة. فإن قلت بما لا يحسن من القول غيره، فقلت: أورثها إذا أفسح بمقصده كما إذا أفصح المتبايعان في بيوع الآجال بما قصدا بالبيعة الثانية والأولى من الوصول إلى الربا، قيل لك، فهل وقع طلاقه عليها أو لم يقع؟ فإن قلت: لا يقع، خالفت الإجماع، لأن الطلاق يقع بسنته وبغير سنته، وإن قلت يلزمه، قيل لك: وكيف تورث امرأة مطلقة ثلاثا، أو واحدة، بعد انقضاء العدة؟ ودخل عليك كل ما ألزمتنا في المطلقة في المرض، وصرت خصم نفسك فيما تجاوزت فيه البناء، وقفت به سلفك من مخالفة التنزيل والمناقضة في القول، ولا مخرج لك مما ذكرنا إلا بمخالفة جميع العلماء أو الرجوع إلى قولنا. وإذا كان ذلك، كان ما دلّت عليه الأصول أولى أن تحمل التهم وغير التهم – فيما أصله التهم – محملا واحدًا. وقد منع النبي عليه السلام القاتل الميراث، بما أحدث من القتل، الذي الأغلب فيه أنه أراد به ان يتعجل الميراث بالقتل، والقتل لم يبطل قرابته من المقتول، وكذلك لا يمنع

الزوجة بما أحدث من الطلاق، إذ أصله التهمة بذلك.

ولا فرق بين وارثين، أحدهما يدخل في الميراث بوجه فيمنع من أجله، وآخر أخرج بمثل ذلك الوجه، فلا ينبغي أن يمنع به، فكما لم يصل بحوادثه إلى ما يوجه القتل من الميراث، كذلك لا يصل بحوادثه إلى ما يوجبه الطلاق، من رفع الميراث هذا نفس القياس، ولا درك لك علينا في مطالبتنا لما يوجبه القياس. وقد نهي النبي عليه السلام عمر عن شراء الفرس الذي تصدق به، وجعل ذلك كالرجوع في الصدقة، فهذا فيه وجهان، أحدهما: منع الذرائع التي تجر إلى ما يشبه المنهي عنه، وآخر أن يحمل من يتهم إلى قصد ذلك ومن لا يتهم محملا واحدا، لئلا تختلف الأحكام على ما بينا. ويقال له: أليس المريض عندك في معنى من الحجر في ثلثي المال، أن يحدث فيه حادثة، توجب على الوراث فيه نقصا؟ فإن قال: نعم قيل: فطلاقه للزوجة حادث، أوجب على أصلك منعها من جميع ميراثها، وأنت تمنعه، أن يحدث ما ينقصها بعضه، فقد أحدث حدثا أزال جميعه عنها.

وأما قولك: إنها قد بانت منه، ولا تعتد منه، ولو صح لم تحل له، فلا حجة لك بذلك، لما تقدم دليلنا به. ونزيد بذلك بيانا فنقول: أرأيت إن اعتق عبيده في مرضه، ولا يملك غيرهم، أليس إن صح عقتوا عليه، وإن مات ورث منهم الورثة الثلثين، بالميراث الذي لا تبطله حوادثه؟ فكذلك الزوجة مطلقة ترث، ولا يبطل ميراثها بحوادثه. فإن قلت: فلم لا أنفذت العتق كما أوقعت الطلاق؟ قلنا لك: إنما أبطلنا العتق إذا مات في ثلثي العبيد، لأن ثلثي العبيد [ملـ]ــك الورثة، الذي منع فيه من الحوادث، ولم نبطل الطلاق في نفسه إذا مات؛ لأن إيقاع الطلاق في نفسه لا يضر الوراث وهي الزوجة، وإنما يضرها منع الميراثن فورثناها، ولم نجعل دثه يمنعها ميراثها كما لم يكن عتقه لثلثي العبيد يزيل ميراث الورثة منهم، ولا يصل الوارث إلى الميراث بالعتق، والزوجة تصل إلى أخذ الميراث مع إيقاع الطلاق. فتأمل موضع اتفاق العلل واختلافها، ولا يبعد عليك أن ترثه ولا يرثها، إذ العلة التي في ميراثها منه كانت منه، وقد وقع طلاقه بإجماع، ولم تقم مثل تلك العلة في ميراثها.

والعمة تورث ولا ترث، وبنت الأخ ومولى النعمة، وليس هذا بدافع لما ذكرنا من شواهد الأصول. وأما قوله: فاتهموا من نفي حملا، فلاعن منه في مرض وروثوا الحمل والزوجة، أو أقر بدين لأجنبي، وعليه دين محيط. فإنا نقول في الزوجة: إنها ترث، ولم يدر قولنا في ذلك، ولا في إقراره بدين لأجنبي وعليه دين محيط، فهذا يلزمه ولا تهمة فيه. وأما الولد المنفي فلا يتهم أحد في نفي ولده، إنما مجاري التهمة على الأغلب من الأحوال، ألا تراه لو أقر به بعد أن نفاه أنه يحلق به، وكذلك لو استلحق ولدا لأمته في مرضه لحق به، فكذلك إذا نفاه لم يتهم فيه، كما لم يتهم في استلحقاقه والزوجة إذا أحدثها في المرض لم يجز نكاحه. فكما افترق إحداثه للنكاح من استلحاقه للولد، كذلك يفترق نفيه إياه وطلاقه للمرأة في مرضه في الأحكام. وأما قولك: إن مالكا خالف عثمان في كثير من أحكامه وقضاياه، من ذلك تخمير [المحـ]ـرم وجهه، وأشياء يطول ذكرها، ثم لم تذكر منها شيئا، فهذا باطل من الدعوى بغير برهان.

وقولك: من ذلك تخمير المحرم وجهه، فهذا عجيب، وما مدخل هذا في الأقضية [و] الأحكام، وليس يخالف مالك أقضية الخلفاء، التي تكون [علـ]ـى المشورة من الصحابة، وإن كان أمرًا اختلفوا فيه، فلا [يخا] لف عثمان، إلا لقول غيره من الصحابة. ومع هذا إن عثمان [ر] حمه الله، استخف تغطية ما يمكن تغطيته من الوجه، [بمـ]ـعنى التوشح والإلتحاف، وهو غير مستدام، وليس [علـ]ـي أنه خمر ذلك برباط أو عقاص، وإنما يستدام ما [ربـ]ـط أو جعل من فوق الرأس، ولم ير عثمان تغطية الرأس، [و] إذا كان الرأس مكشوفا، لم يتأت تعطية الوجه إلا من ناحية الالتحاف الذي لا يدوم. وإنما كرهه مالك لقول غير عثمان من الصحابة، ابن عمر وغيره، ولما جاء أن الحاجة التفت الأشعث فأضحى الوجه هو من تناهي الشعث، وما له [] المحرم إليه من التفت والشعث، ولم ير مالك فيه [] عن عثمان ولأنه ليس بالانتفاع البين، ولا مما

يستدام بالتمكن، فهو شيء بعضه أفضـ[ـل] من بعض وأولى، وهذا من اتباع أحسن القول من قول الصحابة. فعرفنا أنت بقول من تعلقت في طلاق المريض، في منعها الميراث. وكل قول لا يوقن بأن لك فيه سلف، واجب عليك الانتقال عنه، إلى ما ثبت عن السلف، الذين ليس لأحد أن يقول قولا لا يعلم له قائل منهم، وإلى ما شهدت بصحته الأصول والدلائل. ولو أنصف خصومنا فيما يحكون عن مالك، أو ينكرون لتركوا كثيرا مما ينكرون، والله المستعان. تم الجزء الأول بحمد الله وقوته وتأييده، يتلوه في أول الثاني إن شاء الله: القول في شهادة الصبيان. وكتب محمد بن عبد الله بن محمد الأندلسي، من كتاب الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد بمدينة القيروان، وفي شعبان من سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة [و] إبراهيم بن بكر البرقي وبلغ بالسماع جعفر بن إبراهيم [البوني]. سمعه عبد الرحمن بن مروان الأندلسي القرطبي، وإبراهيم بن إسحاق التدميري، أبي محمد رضي الله عنه.

الجزء الثاني

الجزء الثاني من كتاب الذب عن مذهب الإمام مالك

الجزء الثاني من كتاب " الذب عن مذهب ملك في [غير] شيء من أصوله، وبعض مسائل من فروعه، وكشف ما لبس به بعض أهل الخلاف، وجهله من محاج الأسلاف" فيه: مسألة شهادة الصبيان، وفي المحرم يقتل الصيد خطأ، وفي نكاح العبد بغير إذن سيده والمرأة بغير إذن وليها، وفي إعطاء المرأة لزوجها من زكاتها، وفي العبد يباع لغرماء المفلس أو الميت، فيهلك الثمن بيد الأمين، ثم يستحق العبد، وفيمن وطيء أمة ابنه، والحكم في الزنيق، وفي الأب يتزوج بمال ولده، أو يعتق منه، وفي اغتصاب الأب ما وهب لابنه، وفي المطلقة ثلاثا، هل يحلها زوج نصراني، وفي طلاق أهل الكفر ونكاحهم وإحصانهم، وباب في طلاق الشرك، وباب في النفقة على الولد، وباب في الطلاق قبل النكاح، ثلاثة عشر بابا. [] [محمد] بن عبد الله بن محمد بن يوسف الأندلسي، وكتب بيده [بمدينـ]ـة القيروان، من كتاب الفقيه أبي محمد بن أبي زيد، أيده [الله] وذلك في صدر شعبان من سنة [إحدى] وسبعين وثلاثمائة.

في شهادة الصبيان

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وأهله في شهادة الصبيان أنكر هذا الرجل قول مالك، في إجازة شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح، ما لم يفترقوا ويخببوا. وقال: إنه مخالف لظاهر التنزيل، من قوله سبحانه: {ممن ترضون من الشهداء} وقال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، وهم غير مخاطبين ولا مأمورين ولا منهميين قبل البلوغ. قال: وهم لا يقبلون في الأموال ولو على حبة واحدة، ولا تجوز شهادتهم عنده لكبير على صغير، ولا لصغير على كبير، في الذي أجازها فيه بينهم.

قال هذا الجريء: وهذا اختلاط من القو [ل]، وخروج من المعقول، ومخالفة ظاهر القرآن، وقول ينقض بعضه بعضا، إذ فرق بين ما لا يفترق في خبر ولا نظر، ولا كتاب ولا سنة ولا اتفاق، إذ قبل شهادتهم في بعض الأشياء، ولقوم [دون] قوم، وفي وقت دون وقت، وهذا الحكم في دين الله، خالفه بما لم يأ [ذن به]. فأول ما نحن بادئون، به في جواب هذا الرجل، أن نعرفه بأ [ن] مالكا -فيما قال من ذلك- إنما قفا فيه أثر من قال ذلك قبله من الصحابة والتابعين، ثم نستدل بعد ذلك على صحة ذلك من النظر. و [إن] كنت أيها الرجل عنهم [تنبز] بالاختلاط في الذهن، والخر [وج] من المعقول ومخالفة القرآن والتناقض، وما انتهيت [إليه] من شهوة نفسك إلى الغمص فجرد القصد بذلك إليهم إن اتسع لك ذلك فيهم، ولئن ضاق عليك ذلك فيهم، ليضيقن عليك فيمن بعدهم، من الأئمة المتبعين لهم بإحسان. فممن أجاز ذلك علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان وعطاء والحسن وإبراهيم. وقال إبراهيم: كانوا يجيزون شهادة الصبيان فيما بينهم، بعضهم على بعض، يعني: التابعين.

قال الحسن: لا تجوز على كبير، وأجازها الشعبي. نا أبو بكر، نا يحيى بن عمر، نا أبو الطاهر، عن ابن وهب، أنا يونس، عن أبي الزناد، أن السنة أن تجوز شهادة الصبيان بينهم في الجراح، ويؤخذ بأول ما يسألون. قال ابن وهب: وأنا رجال من أهل العلم عن علي بن أبي طالب، وعروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وابن قسيط وأبي بكر بن حزم، وربيعة وابن شهاب وعمر بن عبد العزيز، ومروان بن الحكم وقاله مالك وعبد العزيز فيمن اتبعهما. نا محمد بن أحمد بن تميم، قال: أنا بكر بن حماد قال: نا مسدد نا إسماعيل بن إبراهيم، عن سعيد بن أبي عروة، عن قتادة عن الحسن قال: قال علي: شهادة الصبيان على الصبي جائزة. وأجازها معاوية بعضهم على بعض، ما لم يدخلوا البيوت فيعلموا. وقاله عطاء وإبراهيم: يجوز بعضهم على بعض. ورواه مالك عن هشام بن عروة عن ابن الزبير.

وقال مالك في موطئه: إنه الأمر المجتمع عليه عندهم، وهذا آكد شيء من الأمور. ومالك - فيما ذكر من ذلك - ناقل لاجتماع القوم على ما ذكر، فقد تنطعت في قولك من هؤلاء المر [ضيين] من خيار القرون، على أنهم اجتمعوا على خلاف القرآن، والاختلاف في القول، والتناقض، والخروج من المعقول في قولك، وإنك لغـ[ـائب] عن هذا التنطع. وبعد ذلك: فإن ما ذكر عن ابن عباس أمر لا حجة لك فيه، ولا لمن قال قولك، إنما روى ابن ابي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن شهادة الصبيان، فقال: قال الله عز و [جل]: {ممن ترضون من الشهداء} قال ابن أبي مليكة، فما رأيت القضا [ة] أخذت إلا بقول ابن الزبير. وبعد، فليس تجد في رواية أن: ابن عباس سئل عن شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح، فقال: {ممن ترضون من الشهداء} وهذا جواب عن سؤال، وإنما المسألة كانت فيما لا يجوزون فيه، وابن عباس أجل في العلم أن يحتج بحال المندوحة على حال الضرورة.

وذكر ابن عـ[ــلية] عن ابن سيرين، في شهادة الصبيان: فكتب: ويستثبتون و [روى] عن الحكم وابن أبي ليلى، ولم يذكر عنهم أنها في الجراح بينهم. قال أبو بكر بن الجهم: والتأويل في كل من ذكر عنه رد شهادة الصبيان ما تأولنا، أن ذلك فيما لا تجوز فيه شهادتهم، أ [ا] ما بينه أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، فإنا ما علمنا أحدا سبقهم إلى ذلك، فنص عليه نصا مفسرا، برواية عن أحد من المتقدمين. وكذلك ما ذكر عن القاسم وسالم سئلا عن غلام شهد، قالا: إن أنبت فشهادته جائزة، فهذا في سائر الأمور، ولم ينص على الجراح، وإنما ذكر هذا ابن وهب عند ذكر حد البلوغ، الذي تجوز به الشهادة في كل شيء، وغير ذلك من الأحكام. فماذا تعلقت أيها الرجل؟ ومن سلفك الذين لجأت إليهم بنص من الرواية عنهم حتى صغر عندك قول مالك في هذا، وخفّ لسانك في عيبه.

ونحن نسألك بعد هذا في إبطالك لشهادة الصبيان في الجراح بينهم، عند الاختلاف فيها، في زعمك، أبنص قلته أو باتفاق أم بقياس؟ ولا سبيل لك إلى دعوى الاتفاق. فإن قلت: بالنص، سئلت عنه، فإن تلوت ما نص الله في آية الدين: {ممن ترضون ن الشهداء} وما ذكر في آية الرجعة: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقوله في الوصية: {إثنان ذوا عدل منك أو آخران من غيركم}. قيل لك: لو كان ما ذكر في آية الدين ما يوجب استعمالها في كل شيء، لزم أن تجوز شهادة النساء في غير المال، وشهادة غيرنا - المذكورة في الوصية في السفر- في كل شيء على قولك. فأراك ذكرت آيات تقول: إن فيها خصوص في شيء دون شيء ووقت دون وقت. وبعد، فلو لم يكن فيها خصصو ما ساغ ذلك – على أصلك – أن تستعملها إلا فيما جاءت فيه، ولا تقدر أن تقول: إن معك في رد شهادتهم بينهم في الجراح نصن وأنت فغير قائل بالقياس، فترد ما لم يذكر إلى ما ذكر، [وأنت] قد رددت ما لم يذكر من شهادة الصبيان في الجراح، إلى ما [ذكر] من الشهادة في دين ورجعة ووصية.

وما أجمعوا عليه لهم، أن لا يقبل فيه إلا العدول البالغين فأنت تقول به وغيرك، وما اختلفوا فيه لم يجب على أصلك رده إلى أصل، من نص أو اتفاق، لأن ذلك عندك من القياس، والقياس لا يجوز عندك. ويلزمك أن لا تجيز في عتق الظهار، إلا مؤمنة، لما ذكر الله في آية كفارة القتل: {رقبة مؤمنة}، وأنت لا تدري ذلك يلزمك. فإما أن تقر أنه لا نص معك في شهادة الصبيان، في كتاب الله وسنة نبيه، أو ترجع إلى أصولنا في الاستدلال، أنه إذا ذكر الله تعالى حكما، فنص عليه، كان فيه وفيما يشبهه مما لم ينص عله، وهذا فيه نقض أصولك كلها. ونحن رأينا حال الصبيان حال ضرورة، فرددنا ذلك إلى ما أجمعوا عليه، من إجازتهم لشهادة النساء، في الضرورة، فيما لا يطلع عليه غيرهن. ثم ذكر أن مالكا قال: إن شهد صبيان لرجل بالغ، ولصبي على صبي: أن هذا الصبي فقأ عين هذا الصبي وعين هذا الرجل البالغ، أن شهادتهم للصبي جائزة، ويجب أن يحكم للصبي المفقوء العين على الصبي المشهود عليه بدية عينه أجمع، ولا تجوز شهادتهم للرجل البالغة بما جنى على البالغ.

فهذا الذي حكى باطل ليس بقول مالك، واراه على ظنه يتكلم إن سلم من التعنيد ففيما حكى وجهان من الخطا، أحدهما، أنه يحكم على الصبي بدية العين، التي فقأها [للصبـ]ـي ومالك يقول إن عمد الصبي كالخطإ، وهذا أيضا مما لا أعلم فيه خلافا. فكيف جعل دية العين على الصبي؟ فقول مالكا ما لا يقوله مالك ولا غيره. ووجه آخر: أن من قول مالك: إنه إذا كان كبيرا- قد خالط الصبيان- مشهود له أو مشهود عليه، أو داخل دخل بينهم، فلا تقبل مع ذلك شهادتهم للصغير لريبة، خلطة الكبير بهم، أن يكون يخدعهم في أمر. فقول مالك: لا تقبل شهادتهم للصغير ها هنا، لكون الكبير معهم، على ظاهر سؤال هذا الرجل، لأنه ذكر في الشهادة: أن الصبي فقأ عين كبير وصغير، ولم يل ذلك في وقتين، ولا شهادتين وظاهر هذا أنه في وقت واحد.

ثم أكد خطأه، فقال: وهو لا يجيزهم على حبة واحدة من الأموال، ويجيزها فيما قد يوجب دياتا كثيرة، من قطع اليدين والرجلين وفقء العينين وقطع اللسان، فيجب بذلك على المشهود عليه ديات كثيرة. فهذا أيضا وجه آخر من غرائب تأكيد الخطأ والباطل، ومالك لا يقول: على الصبي المشهود عليه شيء، وإنما عمده كالخطإ، وذلك على العاقلة. وهذا رجل ما يدري ما يقول ولا ما يحكي، والله المستعان. وأما قولك: واتفق علماء الأمصار أنه لا يجب حكم إلا بإقرار، أو شهادة عدلين، أو عدل واامرأتين في الدين خاصة، فهذه دعوى الاجماع، فيما فيه الاختلاف كثير. قد قال كثير من الناس بإجازة شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر، وقال آخرون، تجوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض في كل [شيء]،

وقال أهل المدينة: تجوز شهادة الصبيان بينهم في الجراح، وقال بعضهم: تجوز شهادة غير العدل في ما تستحق به القسامة. ففيم هذا الإجماع الذي ادعيت أنه لا يُحكم لأحد إلا بما ذكرت. وشيء آخر، لو كانت كل حال من ضرورة ومندوحة واحدة، ما أجمعوا على قبول شهادة النساء، فيما لا يطلع عليه غيرهن. ولو كان ما ذكرت من النص عليـ[ــيه] لكان قد أجمعوا على خلاف النص. ونحن فنرد الحوادث المختلف فيها إلى الأصول المجتمع عليها المشبهة لها، فلما رأيناهم أجمعوا على قبول شهادة النساء وحدهن في الضرورة لما يفوت، و [قد] لا يطلع عليه غيرهن، للحاجة إلى ذلك، أجزنا شهادة الصبيان في الضـ[ـرورة]، فيما بينهم، فيما يفوت من أمر الدماء، وما لا يوجد فيه الرجال. وفي الأصول شواهد لهذا مع القياس فيه، ألا ترى أنه تجري كثير من الأحكام بالدلائل، وبالأغلب من الأمور للضرورة. فمن الحكـ[ـم] بالدلائل: ما جعل الرسول عليه السلام في معرفة العفاص والوكـ[ـاء] في اللقطة، وجعل ذلك دليلا، يوجب الحكم لمدعي

اللقطة، للضرور [ة]، إذ لا يمكن أحدا أن يشهد على تلف شيئه، ولا يعلم ما عسى أن يتلف له، فيستعيد الإشهاد على أنه في يديه وملكه. وكذلك حكموا بالحائط لمن إليه القمط، روي عن علي بن أبي طالب، وعليه الحكام، فهذا من ذلك، لعدم البينات. ومن الحكم بالأغلب قبول دعوى المرأة في الوطء إذا خلا بها الزوج، إذ ليس موضع بينة، وإذ الأحكام في إلحاق ما يظهر من ولد بالزوج قائمة، ولحوق الولد حجة لنا على من خالفنا في قبول قولها.

ونحو ذلك من الحكم بالأغلب والأشبه، تصديق المرتهن في الدين إلى مبلغ قيمة الرهن، وحكمنا في متاع البيت - عند اختلاف الزوجين فيه – بالأشبه والأغلب من ملك كل واحد منهما. ونحن- وإن خولفنا في بعض ذلك – فإن من وافقنا في بعضه مخصوم في بقيته، مع دلائل لنا في ذلك نذكرها في موضعها مستوعبة. ومما جرى فيه مثل هذا من الضرورة، ما قلنا في القسامة مع شهادة الشاهد الواحد على معاينة القتل، وكذلك مع دعوى الميت، وهذا كله لأنه حال ضرورة، وبنا حاجة إلى حياطة الدماء. وكذلك الصبيان بنا حاجة إلى تعلمهم الثقاف والحراب تضرية للقتال والثقاف فلا بد من الاحتياط في دمائهم وجراحاتهم. فإن قيل: فأجز شهادة الفساق بينهم في الجراح، والنساء بينهم فيها. قلت: لا حاجة بنا إلى حفظ جراح الفساق ودمائهم، إذ لا يجوز اجتماعهم على ما يجتمعون عليه، وكذلك ما تجتمع له النساء لا ضرورة بنا إلى حفظ ذلك منهن، وبنا حاجة وضرورة، إلى حياطة دماء الصبيان فيما يجتمعون له.

وقصرناها في الدماء لما عظم الله من الدماء، ولأن ذلك يكون حيث لا تحضره البينات، فجعلت القسامة في الدماء لمثل ذلك، فلمثل لك أجزنا شهادة الصبيان، شهادة الضرورة. وقد قال الله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا وما} والصبي ممن يعلم الشيء، فلا يبعد أن يقبل في الضرورة، كما يقبل خبره. ولم نجزها على الكبير، لدليل منع من ذلك، وكذلك في قبولها في غير الجراح، والدلائل تؤيد قبولها [في الجراح] لما تقدم من الشواهد التي ذكرنا، ولا ضرورة [بنا] في قبولها للكبير في جراح ولا غيرها، ولا على كبير، ولما يعترض [فيه] مع ذلك، لأنه إذا دخل بينهم الكبير كان الأغلب منه أن يكلمهم ويخدعهم فيصير ذلك ظنة تقدم في شهادتهم. فإذا يدخل بينهم كبير مشهود له أو عليه، أو أجنب، لم تعلق بشهادتهم علقة توجب التوقف عن قبولها، للضرورة التي حيطت معها الدماء بأضعف من هذا من القسامة، مع دعوى الميت وشهادة الواحد، وشهادة النساء فيما يؤول إلى الأنساب والمواريث والحرية وقول غيرنا في القتيل في المحلة مع القسامة، وما تقدم ذكرنا إياه.

فلهذه المعاني فرق مالك بين شهادة الكبار والصغار، وعلى الكبار والصغار، وقال: إنها في الجراح دون ما سواها. وإنما آفة من يصدف عن قول مالك النكير بأول خاطر، وإجابة أول ناعق، والعجلة قبل الفكرة والتأمل، والله المستعان.

في المحرم يقتل الصيد خطأ

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وأهله في المحرم يقتل الصيد خطأ وأنكر هذا الرجل قول مالك، في المحرم يقتل الصيد خطأ: إن عليه جزاء، واحتج بأن الله سبحانه قال: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم} الآية. قال: فلما خصّ بالذكر المتعمد دلّ على أنه لايفكر ذلك المخطىئ، وأنه لوكان فيه كفا رة لم يكن في خصو صاالمتعمد بالذكر فائدة. وأعاد مثل هذا وكرره، وشاب كلامه بجهل من القول، لا فائدة لنا في مجازاته عليه.

وزعم أن قول مالك مخالف لظاهر القرآن، هذا وهو قول عليه السلف من الصحابة والتابعين ممن سنذكرهم بعد هذا. وإن كان هذا الرجل لم يذكر- في هذا الباب - لقوله سلفا من صاحب ولا تابع، كأنه يرى أن لأحد أن يقول بغير سلف، وسنذكر بعد هذا ما قيل في ذلك، وما انتهى له جمهور السلف. وهذا الرجل سمع أن ما خص بالذكر يخص بما ذكر له من الحكم، فظن أن هذا يجري في كل شيء، وإنما هذا فيما لا يقوم دليل يدل على معنى ما خص من ذلك الذكر، أو لا دليل يدل أن للمسكوت عنه حكم المذكور، وأما والأدلة قائمة بما له خص المذكور بالذكر فلا. وهذا الرجل أيضا، يبعده من هذا قوله في القياس: إنه لا يجب للمسكوت عنه حكم المذكور، ونحن نرد ما لم يذكر إلى ما ذكر، إذا أشبهه فيما له وجب الحكم، ونحن نريه ذلك فيما اشتبه من باب القياس، وما يدل من الخطاب في غير شيء، من الأصول، مما يكشف لك أن ما خص به المتعمد من الذكر لا يرفع الحكم عن من لم يذكر من المخطيء والناسي.

فأما من نفس الآية، فقوله سبحانه: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} فلم يكن ذكره لقتل المحرم للصيد - وإن خصه بالذكر- برافع ذلك عن قتل الصيد ممن ليس بمحرم في الحرم، مع ما أكد الرسول عليه السلام من ذلك وبينه، فلم يكن ما خص المحرم به من النهي برافع لمثل ذلك النهي عن الحلال في الحرم. وشيء آخر، أنه لم يكن إيجابه الجزاء على من ذكر من المحرمين، برافع ذلك عن الحلال [الذي يقـ]ـتل [صيدا] في الحرم، فقد أوجب عليه العلماء الجزاء، وإن اختلفوا في قدر ذلك، فإنما ردوه إلى معنى المذكور في الآ [ية]. أيضا ليس ذكر دية النفس في الخطإ بمانع أن تقبل في العمد صلحا، أو يعفو بعض الأولياء. وكذلك قوله: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} وقد يكون في غير المسجد، وهو معتكف لحاجة يخرج إليها، والمباشرة لا تحل له، فذكر أغلب أحوال المتعكف، وهو كونه في المسجد.

وقال سبحانه في المبتوتة: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} فخص إباحتها بطلاق الثاني، وهي تحل له بموت الثاني أيضا، وإن خص الطلاق بالذكر. وكذلك ليس قوله: وإن {كن نساء فوق اثنين} برافع حكم ذلك عن الاثنتين، وإن خص بالذكر ما فوقهما،- في قول أكثر العلماء - بل هو إجماع من القرن الثاني والثالث، وكل من يخرج ذلك من الإجماع. وكذلك قوله في الإماء: {فإذا احصن فإن آتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}، يريد الحرائر، فلم تكن خصوصيته لإيجاب نصف الحد على من تزوج منهن، برافع ذلك عن من لم تتزوج منهن، كما قال بعض الخوارج، وقال الرسول عليه السلام في الأمة: إذا زنت فاجلدوها.

ولم يكن أيضا ذكره في الكتاب وفي الحديث عن الرسول لإيجاب الحد على إناث الأرقاء، برافع ذلك عن ذكورهم. وقد يذكر الشيء من أعلى وجوهه، فيدل ذكره من أعلى وجوهه على حكمه فيما هو دون ذلك من وجوهه، وليحمي ذلك من بعيد التأويل. ولو ذكر الله سبحانه الحد مطلقا، من غير ذكر إحصانها، وذكر الكفارة في قاتل الصيد مطلقا، من غير ذكر المتعمد، احتمل أن يتأول متأول أن الكفارة مصروفة في الصيد إلى الخطإ، الذي كرت فيه الكفارة في [قتل] [النفس، وأن العمد ليس مما تكفره كفارة في القتل]، ولا متعمد الكذب في اليمين.

فلما قال: {متعمدًأ} – وهو أعلى وجوه قتل الصيد- دل أن ما دون ذلك مثله، تكفره الكفارة. ولو لم يقل في الأمة: {فإذا احصن} لاحتمل أن يكون ذلك على من لم تتزوج منهن، فيظن ظان أن المتزوجات كالحرائر في الرجم، فجمع بذكر، {فإذا احصن} رفع الرجم في إحصانهن، وأنه ذكر الحد فيهن في أعلى الأمور، ليدل أن ما دونه مثله، والله أعلم. وتأويل من تأول في قوله: {فإذا احصن} أنه يعني: أسلمن، يبعد لقوله سبحانه أول الآية: {من فتياتكم المؤمنات} فكيف يقول بعد ذلك: فإذا آمن؟ وأكثر العلماء في هذا على ما ذكرنا. ومن ذلك قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} فذكر حد القذف فيهن، ولم يذكره في قاذف الحر المحصن، فلم يكن ما خص بالذكر يرفع الحد عن من لم يذكر،

من قاذف الرجل، قال {ودرؤا عنها العذاب} ولم يذكر العذاب في نكول الرجل، فناب ذكره في المرأة عن من لم يذكر من الرجل إذا نكل. وقال: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [فذكر] النظرة إلى [ميسرة] بالمال في [الدين] أصله [عن ربا]، ولم يذكر ذلك في دين ولا ربا فيه، فكان له حكم ما ذكر، لتساوي علة ما لم يذكر مع ما خص بالذكر، وهي العسرة. والله سبحانه يذكر الشيء، فيخصه بالذكر لغير وجه، إما أن يذكره بأعلى وجوهه، ليدل بما ذكر على ما هو دونه، على ما بينا، أو ليدل بما ذكر على مثل ذلك فيما لم يذكر، مما يشبهه فيما له وجب الحكم، وقد يذكره ليخصه بذلك الحكم، بدليل يظهر في ذلك. ولا دليل لمن خالفنا، أن قاتل الصيد لما ذكر الجزاء في عمده أريد به الاقتصار على العامد، دون المخطيء. بل الدلائل تدل على خلاف ذلك؛ لأنه لما قال سبحانه: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} انعقد تحريمه محملا، ولم يأت نص بإباحة ولا معرة في عمد ولا خطأ، كالنهي عن قتل النفس.

فلو لم يذكر الله تعالى الكفارة في عمد، لم يجب ان يقال: إن الكفارة تكفر ذلك، كما لا تكفرة الكفارة عن متعمد قتل النفس، أو متعمد الكذب في اليمين، في قول أكثر العلماء، وللحقه الوعيد كما لق قاتل العمد، إذ كلاهما قتل ما نهي عن قتله. فلما خفف الله عمده، فجعل الكفارة تكفره، علم ان قصده لذكر العمد عبارة عن التخفيف، إذ كان الكفارة مكفرة للعمد، الذي هو أعلى وجوه القتل، فهي للخطإ الذي هو دونه أحرى أن تكفره، لأنه سبحانه قد جعل الكفارة تكفر خطإ قتل النفس، وقد قال جل اسمه: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فذكر التكفير في إماطة أذى الرأس وفي المريض، وذلك أعلى وجوه إماطة الأذى والتفث فاشتمل ذلك على ما هو دونه مما لم يذكر، من إماطة أذى الجسد، وتناول الطيب، ولبس ثوب، ونحوه، لمرض أو لعذر غير المرض المذكور، ولم يقصر حكم الفدية على ما ذكر دون ما لم يذكر.

و [قد] ذكر الهدي في المتمتع ولم يذكره فيمن انثلم من حجه شيء، أو قرن، فكان ذكر ذلك في المتمتع يدل على ما لم يذكر مما أشبهه، وهذا كثير، وهذا كله يؤيد أحكام القياس. وبعد، فليس يدعي مخالفي أن عنده نص، يرفع الكفارة عن المخطيء في قاتل الصيد، فإذا لم يكن نص، ولم يكن ذكر العمد فيه بمانع إيجاب ذلك على المخطيء، لا بينا من الأدلة في نفس الآية، وفي غير ذلك من الخطاب والأحكام، فأدنى منازل قاتل الصيد خطأ أنه لاحكم له منصوص بإيجاب كفارة أو رفعها. ولنا دليل يدل أن فيه الكفارة؛ لأنه قتل نفسا نهي عن قتلها، كما نهي عن قتل ابن آدم ملطقا، فكان في خطئه الكفارة بالنص. وأصبنا الجزاء في الصيد وسمه الله باسم الكفارة، بقوله: {أو كفارة طعام مساكين} فألحقنا حكمه بأحد المذكورين في شبهه به، إما بالمذكور من عامد قتل الصيد لشبهه به في أنه قتل وقتل، وأن ذكر العمد علم للتخفيف، وأن ذلك أولى من أن يدل على أن يخص بالتكفير، لما قدمنا ذكره، أو ألحقناه بما ذكر من قاتل النفس خطأ لأنه خطأ وخطأ، وكفارة وكفارة، فهذا وجه الاستدلال والقياس.

وما دل عليه القياس وشهدت له الأصول فقد قامت حجته، وللمناظرة في القياس موضع غير هذا، وقد رمينا بجملة منه في أول الكتاب، وما نضحنا منه في هذا الكتاب. وبعد فإن ذكر الشيء بحكم في أعلى وجوهه، لا يمنع أن يكون مثل ذلك فيما دونه وذكره بحكم في أدنى وجوهه يمنع من الحكم بمثل ذلك في أعلى وجوهه إلا ببيان ونص. ألا ترى لما ذكره الله الكفارة في قاتل المؤمن خطأ، لم يكن ذلك دليل أنها تكفر عن العامد، لأنه أعلى معنى من المذكور، ولا يساويه فيما له وقع التكفير؟ وكذلك تكفير اليمين للحانث، لا يدل أنها تكفر عن متعمد الكذب بيمينه – وهذا قول صحابك معنا – لأنه أعلى، ولا يساويه فيما له وقع التكفير. وذكر الكفارة في عامد قتل الصيد، قام دليل ظاهره أنه تخفيف، فدل أن ما دونه تكفره الكفارة، لشبه ذلك بما وقع فيه التكفير، وهو القتل، الذي ذكرت الكفارة في مثله في نفس المؤمن. فإن قال: فقد ذكر الله تعالى الدية في الخطإ، فلم جعلتها في العمد وهو أعلى وأبعد مما له وجبت الدية؟ قلت: إنما تلزم هذه المعارضة لو جعلتها في العمد بغير حادث، ينتقل به الحكم من عفو بعض الأولياء، أو صلح جميعهم فأما وأنا اقول: لا دية فيه إذا طلب الولي.

القتل – وهو السلطان الذي جعل الله له – فلا، حتى إذا سققط سلطان القود – الذي به جعل العمد أعلى مرتبة من الخطإ، إما بصلح أو عفو، تساوي حكم القتلين في الدية، في أن هذا قتل وهذا قتل، ارتفع القود فيهما، فأعطيتهما تساوي الحكم عند تساوي المعاني فتأمل. وبعد، ف إنا نقول – إن خالفنا في ذلك، واحتج بخصوص العمد في الصيد بالذكر – أرأيت المحرم يقتل صيدا ناسيا لإحرامه، ايؤكل؟ فإن قال: لا يؤكل – وهو قوله – قيل له: ولم حرمته؟ ولم لا كان ذكره متعمدا يدل على خصوص التحريم للأكل في التعمد المذكور كما خصصته في التكفير؟ فإن قال: حرمته لأن الله حرم صيد البر مطلقا، فلا يباح اكله بصيد المحرم عمدا، وخطا. قيل له: فلم لا دلك ذلك على وجوب التكفير، كما كان دليلا على وجوب التحريم، ولم يكن خصوص المتعمد بالذكر دالا على تحليل أكل صيد غير المتعمد، من الناسي من المحرمين، والصائد في الحرم من المحلين؟ فكما حرمته بظاهر النهي، فكذلك تجب الكفارة لهذا المعنى.

وأدنى ما يلزمك: أنه لا نص معك في رفع الكفارة، ولا دليل لك سالم من المعارضة، ولنا ما ذكرنا من الأدلة الموجبة لها. فلو دفعت هذا كله بمكابرة أو شبهة، لكان اقل منازلنا فيه الاستدلال من باب القياس، الذي لا وحشة علينا من دفعك إياه. فلا يعدو الجزاء في قتل الصيد عمدا، أن يكون كفارة أو دية، وأي ذلك كان ففي قاتل النفس خطأ مثله. والدليل أن ما في قتل الصيد من الجزاء المذكور كفارة، قوله تعالى - في سياق الآية في التخيير – {أو كفارة طعام مساكين} فجعل ما خيره فيه ينوب بعضه عن بعض، فالاسم الذي أعطاه [من] الكفارة يجب مثله لما ذكر معه، لأن بعضه بدل من بعض، والدية [] [عنها] فهو باسم الكفارة أولى. فإن قلت: إن قاتل النفس عليه دية وكفارة، والجزاء إنما هو كفارة [فقط]. قيل لك: الدية في النفس ليست عليه إنما هي على العاقلة، والذي عليه بينه وبين الله: الكفارة. والدية إنما جعلها الله للأولياء الذي ملكهم سلطان الدم، وجعلها على العاقلة تعظيما للدماء.

ولو أن القاتل للصيد قتله، والصيد مملوك لرجل، لكان عليه الكفارة لله، وعليه قيمته لربه، فأخذ الذي له الملك قيمة الصيد، كما أخذ الولي الدية وبقي التكفير على القاتل في الوجهين. ومن عجائب الأمور معارضة وقعت لهذا الرجل، وذلك قوله: ويلزم من قال هذا أن يحكم فيمن قتل مؤمنا خطأ، بما يحكم به فيمن قتله متعمدا، كما ساوي بينهما في قاتل الصيد. وهذا مما يخجل قائله، ولو دري ما يقول/ وهو لأحد بعد النصوص أن يخرج عنها؟ وهل لهذا في الأرض قائل؟ وكيف ألزمت خصمك لما أن رد حكم ما لم يذكر الله سبحانه في خطإ قتل الصيد إلى ما ذكر في عمده، بدليل استدل به، فألزمته، بذلك أن يغير نصا نصه الله في قتل النفس خطأ، فيدعه ويرده إلى ما نص من العمد، وأنت تقر بأنك لا تدعى في قتل الصيد خطا نصا، كما ألزمته أن يدعى في قتل النفس خطأ نصا، ويرده إلى قياس على نص، وهذا لا يجري على لسان عالم، ولا يخطر ببال ذي فهم حاضر. والكلام الذي يشبه كلام العلماء في رد حكم قتل الصيد إلى قتل النفس، على ما قتل، أن يقول قائل: أراد ما لم يذكر الله فيه نصا من قتل الصيد خطأ إلى ما نص عليه من قتل النفس خطأ، في أن هذا يكفر وهذا يكفر، كان هذا كلاما يشبه كلام العلماء وهذا الذي قاله مالك، واستدل في إيجابه قول من سبقه من الفقهاء من الصحابة والتابعين، وبهم اقتدى في ذلك. فهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.

قال الزهري - وكان من أعلم الناس بسنة ماضية - جاء القرآن بالجزاء على العامد في قتل الصيد، وجاءت السنن بالجزاء في المخطيء. وهو قول نافع بن عبد الحارث والنخعي والحسن وعطاء وطاووس وعكرمة وعروة بن الزبير والحكم والزهري وسعيد بن جبير، على أنه اختلف عنه فيه، وهذا اصح. وقاله مجاهد في الناسي لحرمه متعمدا لقتله، وقاله مالك وعبد العزيز في قاتل الخطإ فيمن أخذا ذلك عنه من التابعين. وقاله سفيان فيمن ذكرنا وممن لم نذكر من الكوفيين، وقاله الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي.

وإن كان هذا الرجل وسم كتابه بأن ما فيه [اختلف فيه مالك والشافعي، وهذا لا يخالفنا فيه الشافعي، وهو قاتل أكثر العلماء ومن ينتهي إليه في الفتيا من علماء الأمصار]. ورأيت الشافعي ذكر في مختصر المزني، في كتاب الأيمان، أنه إجماع، فقال: ودل إجماعهم أن الكفارة في قتل الصيد على العامد والمخطيء سواء على ان متعمد الكذب، في اليمن يكفرها، وإن كان قوله هذا غير مشتبه لما بيننا، من أن متعمد الكذب عليه الوعيد بقول النبي عليه السلام، والنهي في عامد الصيد تخفيف بالكفارة. وهذا الرجل يقنع بمذاهبه قناعة من لا يعد لمن خالفه وزنا، ومن استخف بالسلف خف وزنه وخفت مؤنثه.

وجرت لهذا الرجل معارضة ثانية تشبه التلاعب، فقال: [لو] تجاسر قائل فقال: توجب الكفارة في قاتل الصيد خطأ ولا توجبها في قاتله متعمدا، قياسا على العمد في النفس. فأنت أيها الرجل المتجاسر، الذي جسرت أن تعارض العلماء بهذا اللعب، أن تقول: لو أن رجلا جرد خلاف نص الكتاب، ما كانت حجتكم عليه، فكأنه قام عندك ما قال مالك في هذا – الذي اتبع فيه فقهاء الصحابة وهؤلاء الأئمة من التابعين – مقام من تجاسر على رد نص القرآن بلا تأويل ولا سلف. لقد عبرت بكلامك هذا عن موقفك وموقفهم عندك، وهل على وجه الأرض مسلم يتجرأ على رد النص في قاتل الصيد عمدا؟ وإنك لتتجاسر، إذ جعلت قول أئمة السلف كقول من رد النص مجردا، وهذا غمص شديد. ومن رد النص – وهو عالم بالنص، غير مغلوب على عقله – مرق من الدين، وهذه المعارة - مع ما فيها من التلاعب، لا معنى لها من كل باب، لأن قاتل النفس عمدا عليه القتل، وهذا لا يريد أن يوجب عليه بتعمد قتل الصيد شيئا، وما يجب من قود النفس للأولياء ولهم العفو عنه، والذي يجب على المتعمد، في الصيد لله عز وجل، لا خروج منه فكأنك رجل قلت: لو ان رجلا تجاهل أو تحامق أو مرق من الدين، ما حجتكم عليه؟ ومثل هذا أيدينا اقرب إليه من السنتا، حتى يتوب أو يعذر بعذر.

وإنما يجب أن تقول: القاتل يوجب، في قتل الصيد عمدا ما نص الله عليه، وتجعل في قتله خطأ – الذي لم يذكره الله – كفارة، مثل ما جعل في قتل النفس خطأ كفارة ودية لأهله، فإن كان للصيد مالك أخذ ربه قيمته، كما يأخذ الأولياء دية الخطإ في النفس. فهذا يشبه كلام العلماء والمستدلين لا كلام المتلاعبين، قال زيد بن ثابت: ما كنت لا عبابة فإياك أن تلعب بدينك، وهذا قول وفر الأئمة من الصحابة والتابعين. ولم يذكر هذا الرجل فيما تقلد هذا عن السلف قولا، ونحن نذكر ما قيل في ذلك، من ما لا يتعلق بمثله. فقد روى عن ابن عباس بإسناد ضعيف، ولنا عن ابن عباس خلافه بجيد الإسناد، نا إبراهيم بن محمد بن المنذر، نا أبي، نا علان بن المغيرة، نا عبد الله بن صالح، نا معاوية عن علي - يعني ابن أبي طلحة – عن ابن عباس قال: من قتل شيئا من الصيد خطا – وهو محرم، حكم عليه فيه كلما قتله. أنا محمد بن عثمان، أنا محمد بن الجهم، نا الأنصاري نا عبد الله يعني ابن أبي شيبة – نا حفص عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس، في صبي أصاب حماما من حمام الحرم، قال: اذبح عن ابنك شاة. ولا خلاف بين الناس أن عمد الصبي يجري مجري الخطإ، وهذا إسناد لا يشك في صحته.

وأما ما روى عن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطإ شيئا، فقيل: إن معناه: لا نرى فيه شيئا بنص القرآن، ولكن فيه بالدليل، وقد روينا ذلك عه. أنا محمد بن عثما نا محمد بن الجهم، نا الأنصاري نا وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: إنما جعل الجزاء في العمد، ولكن غلظ عليهم في الخطإ كي يتقوا. وذكر بعض الناس، عن جابر الجعفي عن عطاء وطاووس ومجاهد: لا شيء على المخطيء، ممن لا يعبأ بروايته، ولنا عنهم خلافه. أنا أحمد بن إبراهيم بن حامد، أنا إسماعيل القاضي، نا أبو بكر - يعني أبي شيبة – نا وكيع، عن سلمة بن محرز، قال أغلقت بابي بمكة، ثم فتحته فإذا طائران قد ماتا، فسألت طاووسا، فقال: اذبح شاتين، فهذا خلاف ما روي عن طاووس في الخطإ. نا إبراهيم بن محمد بن المنذر نا لأبي نا نا ابن أبي بكر، عن ابن جريج قال/: قلت، لعطاء، ومن قتله خطأ يغرم، [كما يجب] الغرم على من قتله متعمدا؟ قال: نعم، وتعظم بذلك حرمات الله، ومضت به السنن.

قال إسحاق عن معمر عن الزهري، يحكم عليه في العمد والخطإ، قال/ نا محمد بن الصباح، نا الوليد، عن ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار، رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطإ، فأخبرك أنه قول الماضين من السلف. قال بكر بن العلاء: ولم يتعلق أحد بترك ذلك في الخطإ، إلا بعض أهل القرن الرابع، وهذا نحو قول عمرو بن دينار. نا أبو بكر بن محمد، نا يحيى بن عمر، نا سحنون، نا ابن وهب، أنا إبراهيم بن نشيط، عن ابن أبي حسين النوفلي، عن عطاء أنه قال: يغرم في الخطإ والعمد، مضت بذلك السنن. وعن عمرو بن شعيب وابن قسيط مثله، قال: وأخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: زعموا أن الكفارة في الخطإ سنة، وكفارة العمد في القرآن، وما ذكرنا من قوله: رأيت جميع الناس على ذلك. وقال مالك: الأمر المجتمع الذي لا اختلاف فيه ان من أصاب الصيد خطأ حكم عليه.

فأين المذهب عن هذا من قول هؤلاء الأئمة: إنه قول السلف، وإنه السنة وإنه المجتمع عليه، وقد تقدم ذكرنا لمن حضرنا ذكره، ممن قاله من الصحابة والتابعين وذلك كله بالأسانيد الحسنة وأكره التطويل. فأما عمر وعثمان وابن عمر ونافع بن عبد الحارث، فمما أنا أحمد بن إبراهيم أنا إسماعيل القاضي، نا أبو بكر – يعني ابن أبي شيبة – نا يحيى بن سعيد القطان، عن محمد ابن أبي يحيى، عن صالح بن المهدي أن أباه أخبره قال: حججت مع عثمان، فرقد في بيت، فوقعت حمامة في كوة على فراشه، فأطرتها، فوقعت في كوة أخرى، فخرجت حية فقتلتها، فلما استيقظ [عثمان] أخبرته فقال: أد عنك شاة، قلت: إنما أطرتها من أجلك، قال: [وعني] شاة، مختصر. قال: ونا نصر بن علي، نا أبو أحمد نا عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عبد الله بن كثير الداري، قال حدثني طلحة بن أبي حفصة أن عمر دخل عليه عثمان ونافع بن عبد الحارث، فقال إني قلت في هذا البيت، فوقع على واقف آخر، فقتله ضرحان أخذ بحلقه، فوجدت في نفسي أني أطرته من

موضع كان عليه آمنا، إلى موضع كان فيه حتفه، فاحكما علي، فقالا، حكمنا عليك بعناق ثنية عفراء، فأمر بها عمر، مختصر. قال: نا إبراهيم بن حمزة، نا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله بن عمر، عن أبيه عن جده قال: كنت مع ابي بمكة، فأوطأ بعيري حمامة من حمام مكة، قال: فدعا أبي بكبش فذبح عني. والأحاديث بهذا كثيرة عن سلف، الصحابة والتابعين، ولم يحصل مع هذا الرجل في هذا الباب أثر، ذكره هو عن صاحب ولا تابع، غير الجرأة بلسانه، فيما انتهي فيه قول السلف إلى خلاف قوله، والله المستعان. ومن تعلقه في هذا الباب من الشاذ بشيء لم يذكره، هو، وهو قوله: إن من عاد ثانية إلى قتل الصيد متعمدا، فلا كفارة عليه، يتأول: {ومن عاد فينتقم الله منه}.

والذي قيل في هذا: عفا الله عما سلف في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام، فينتقم الله منه بالكفارة، قال عطاء: فينتقم الله منه وعليه الكفارة. أنا إبراهيم بن محمد بن المنذر، نا أبي نا علان بن المغيرة، نا عبد الله بن صالح، نا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم حكم عليه فيه كلما قتله. نا إبراهيم بن محمد بن المنذر، نا ابي نا موسى بن هارون نا ابن أبي شيبة، نا وكيع عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء [قال: {عفا الله عما] سلف} عن ما كان في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه وعليه الكفارة. ونا إسحاق عن عبد الرازق، عن هشام عن الحسن مثله. قال إسحاق: والظاهر أن معنى قوله – والله أعلم – {ومن عاد فينتقم الله منه} أي: من عاد بعد ما سلف قبل التحريم، ليس من عاد بعد ما قيل بعد التحريم، وذلك من قوله: {ليذوق وبال أمره} عند ذكره لما أوجب عليه والله أعلم.

ويحتمل الانتقام بشيء يصيبه به، والكفارة عليه، ولا يزل الكفارة تأول النص بتأويل لا يتبين وجهه. وهذا قول أهل المدينة ومالك وعبد العزيز وأصحابها، والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم، وما بعد هذا إلا الشذوذ، وفيما ذكرنا وفي بعضه كفاية.

باب في نكاح العبد بغير إذن سيده، او المرأة بغير إذن وليها، وكيف إن أجازا

باب في نكاح العبد بغير إذن سيده، او المرأة بغير إذن وليها، وكيف إن أجازا ومما أنكر هذا الرجل، قولا حكي أنه قول مالك، وفي المرأة توكل رجلا غير وليها على عقد نكاحها ففعل أنه لا يجوز، إلا أن يجيزه وليها. وكذلك، العبد يتزوج بغير إذن سيده، لا يجوز إلا أن يجيزه السيد. وأن المرأة الدنيئة أو الفقيرة، إذا تزوجت بغير ولي، فنكاحهما جميعا جائز.

قال: ففرق بين الغنية والفقيرة في الحكم، بلا دليل، من كتاب ولا سنة ولا إجماع. قال: وزعم أن التي زوجها غير الولي، إن قال الولي: لا يجيزه، فزعم مالك أنه نكاح لا يثبت ولا يجوز وأن لهذه المرأة أن تنكح غيره، إذا عقد نكاحها غير وليها، وزعم أن هذا الذي تزوجها فلم يجز له نكاحها، أنه إن طلقها ثلاثا، أن ذلك لازم، ولا تحل له إلا بعد زوج، وإن مات أحدهما قبل أن تتزوج هذه المرأة، أنهما يتوارثان، وكذلك إن افتدت منه هي كان له، وهو لم يجعله لها زوجا، ولا هي له بزوجة. فمرة جعله مقام الازواج، فجعل بينهما الميراث والطلاق والخلع، وهي في حال ثان عنده غير زوجة، إذ لم يجز نكاحها، وأباح لها أن تتزوج غيره، لأنها عنده غير زوجة.

قال: فهذا اختلاط وغفلة وتناقض، لا يخفي على ذي عقل، فإما أن يلزمها حكم الزوجاتا فيلزمها ما يلزمهن، أو بحكم الأجنبيات فلا يجعل بينهما ميراثا ولا طلاقا. فإن كانت عنده زوجة، فكيف أباح لها ان تتزوج غيره؟ وإن لم تكن زوجة فلم ألزمها طلاقه؟ وهذا مخالف لظاهر الكتاب والسنة وما اتفقت عليه الأمة. وذكر عنه في العبد يتزوج بغير إذن سيده مثل هذا سواء، وأنه إن لم يجز السيد نكاحه، أنه نكاح لا ينعقد ثم إن طلقها العبد بعد أن أبي السيد أن يجيز النكاح ورده، أن طلاقه واقع عليها. قال: فكيف يقع على امرأة طلاق من غير زوجها، وفرجها حينئذ مباح لغيره. وهذا مبلغ كلام هذا الرجل في هذا الفصل، وفي هذا الباب من اختلاط هذا الرجل عجب عجاب، وهذا رجل ينكر قبل أن يفكر ويحكي قبل أن يثبت ويحرف الكلم، ويقول خصه ما لم يقل. فإن كان قاصدا لذلك فقد عظمت نازلته، وإن كان ذلك عن غيية وغفلة، فقد تكلف ما لا يصلح لمثله أن يتكلفه، وإذا اجتمع التقصير مع الحمية عظمت الزلة، وأعوذ بالله من الخذلان.

فأما ما زعم أن مالكا يقول: إذا رد ذلك الولي، وأبي أن يجيزه، أن طلاق الزوج بعد ذلك يقع عليها، وهذا لم يقله مالك، لأن الولي لما لم يجيزه ورده [] فسخا [لأنه] عقد ذلك [] لا أن الولي ملك الفراق فلا طلاق للزوج فيها، إلا ان يطلقها قبل رد الولي لذلك. وزعم أن مالكا، يقول: إنهما بعد ردا لولي يتوارثان، ويكون له ما افتدت به منه، وهذا كله باطل، وإنما هذا كله قبل رد الولي للنكاح، إلا في الخلع، فإنه قد اختلف قوله فيه، إن خالعته قبل ردا لولي للنكاح، فقال: إن ما أخذ منها له، وروي عنه أن الزوج يرد ذلك، وقاله أكثر أصحابه. وقال هذا الرجل: إن مالكا قال: إن هذه المرأة التي زوجها غير ولي إن لها أن تتزوج غيره، وإن طلاق الأول يقع عليها. فهذا أيضا باطل، وإنما أباح لها مالك أن تتزوج غيره بعد رد الولي ذلك وفسخه، أو فسخ السلطان، وبعد الاستبراء بثلاث حيض عدة أيضا، إن كان دخل بها، وهي في تلك الحال - أعني بعد الرد والفسخ - لا يقع عليها طلاقه. وما نسب إلى مالك من وقوع الطلاق فيها بعد رد الولي النكاح، وفسخه تقول تقوله على مالك، وهذا الفعل منه أشبه بما نسب إلى غيره من الاختلاط، وما لا يرضي به ذو عقل، وخلاف الكتاب والسنة والتناقض والغفلة، إن سلم من القصد. وأما قوله: فإن كانت عنده زوجة، فلم أباح لها ان تتزوج غيره، وإن كانت غير زوجة، فلم ألزمها طلاقه؟

فهذا من قولك يدل أنك فهمت عن مالك أنه اباح لها ان تتزوج غيره في الحين الذي الزمها طلاق الأول فيه، وهذا لم يقله مالك، وليس علينا رد هذا بأكثر من نفيه، ولكنها عند مالك في نكاح شبهة تلحق منه الأنساب، وتدرأ فيه الحدود [] [فلم] يأذن لها أن تتزوج حتى يفسخ هذا النكاح، يفسخ الولي أو السلطان، أو برضى الزوج، وهو لو رفع إلى قاض، يرى غير قو [لنا فـ]ـحكم بإجازته، لم نفسخ حكمه نحن ولا هذا المنكر علينا. فيقال [له]: ما هي عندك؟ أبمقام الأجنبيات كما ذكرت أم بمقام الزوجات؟ فإن كانت كالأجنبيات، فلم لم تفسخ حكم من قضى بإجازته، وجعلت بينهما الميراث والطلاق بعد الحكم بغير إحداث نكاح، والحاكم إنما أبقي النكاح الأول، ولم يجدد لهما عقدا؟ وإن كانت عندك بمقام الزوجات حتى يفسخ النكاح، فكذلك قال مالك، فما الذي أنكرت [من ذلك]. ويلزمك إذا كانت مقام الأجنبيات توجب عليهما الحد [و] تنفي نسب الولد منهما. فإذا أقمت لها شبهة من عقود [الـ]ــنكاح، درأت بها الحد وألحقت بها الولد، وأجزت حكم الحاكم [بإ] جازته. فلم لا توجب هذه الشبهة عندك حكم الطلاق بينهما، [و] تحتاط على من

وإن كانت كالأجنبيات [عندك] لم يجز لك أن تجيز حكم من أجاز نكاحها، كما لو حكم حاكم [أن يبقى] رجلا مع امرأة أجنبية نكاح، لا يجيزه أحد من النكاح [الفاسد] [فافتر] قت بينها وبين الأجنبيات في أحكام كثيرة، فألزم نفسك [] [أحـ]ــكام هذا. وقال بعض أصحاب مالك ورواه عن مالك [في التي] تتزوج بعقد أجنبي: لا يقع عليها طلاق الزوج ويفسخ حكما بغير طلاق ولا يتوارثان، ولكن القول الأول أليق بالأصول والله أعلم، لأن شبهة ذلك النكاح قائمة، توجب أحكام [كثيرة]. وقد روي ذلك عن عائشة، حين زوجت بنت أخيها عبد الرحمن في غيبته، من المنذر ابن الزبير، ولم تل هي العقد، وإنما أمرت [من] يلي عقد النكاح، كذلك رواه ابن جريج وغيره، فلما قدم عبد الرحمن، قال: ما مثلي يفتات عليه مثل هذا؟ فكلم في ذلك، فأجاز ما صنعت، وبقيت على ذلك النكاح.

فهذا فعل عائشة وعبد الرحمن والمنذ [ر] بن الزبير، وكذلك قال مالك في أحد قوليه: إن أجازه الولي جاز، وإن رده فسخ، وهو خبر مشهور، رواه مالك وابن وهب، وغيره، مع ما روي عن عمر في إنكاح ذي الرأي من أهلها، وعن عثمان وعلي و [ابن] مسعود على ما ذكرنا بعد هذا، فهؤلاء سبعة من الصحابة. وما [روي] أن نكاحها باطل، محتمل أن يراد به: بإبطال الولي له [إلا] أنه قد اختلف عن الزهري فيه فأنكره في رواية ابن جريج عنه.

[وروى]: "لا نكاح إلا بولي، فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". والأو [لياء] بعضهم أخص من بعض، ولكل واحد من الولاية نصيب. وإذا زوجها من له فيها ولاية الإيمان كان لمن هو أقرب منه ولاية [من] عصبة أو سلطان بتسليم ذلك أورده، ولأن الولي الذي عقد المرأة له فيها أقل الولاية وهي ولاية الإيمان، وولاية النسب أخص وأكمل، فله من الولاية نصيب، وغيره أعلى منه ولاية، وهذا [لا] يدخل فيما أنكرت على مالك من إنكاح الدنيئة والمسكينة والـ[ـمهملة] التي لا تعرف ولا لها عصبة يعرفون ولا موالي، وتكـ[ـون في موضع لا يـ]ــتناوله السلطان، فتوكل ذا الرأي من أهلها كما [] أو يتو [لى] هذا رجل من قبيلها، وإلا وكلت جيرتها أو غيرهم من المسلمين ليزوجها، فأجاز ذلك لها مالك في هذه الرواية، ورأي أن لهذا المسلم فيها ولاية الإيمان. وقد علمنا أن ما أمرنا به ألا نكاح إلا بولي، أن ذلك ليحصنها الأولياء أن تضع نفسها في دناءة وفيمن ليس لها بكفء.

وكذلك ينظر السلطان في ذوات الحال كنظر الأولياء، وهذه قد انتهت من الدناءة وسقوط الحال إلى ما لأقل أهل [الو] لأية فيها مقنع من النظر لها والعقد عليها، وهي ولاية الإيمان، [و] لا يتقى في هذه ما يتحرز منه الأولياء. وإذا طالبنا علل الأمر [و] النهي وضعنا كل شيء موضعه، ونحن فنقول بالعلل، وأنت [ر] أيت الظاهر، ففي هذا الأصل نناظرك، وهو أصل إذا تمسكت [به] ما [حسن] عليك. وأما قوله: فرق مالك بين غنية وفقيرة [بغيـ]ـر دليل، فقد أعلمناه وجه قوله، وقد فرق الله سبحانه بينهما في غير شيء أرأيت من تزوج غنية على تفويض، وفقيرة على تفويض، وهام في الجمال والنسب سواء، أليس يتفاوت صداق [كل منهـ]ـما، وكذلك تختلف العطايا بالإنفاق عليهما. وكذلك ما على الغني من النفقة أكثر مما على الفقير في كتاب الله، ولكل شيء من أقاويل مالك وجه غاب عنك.

وقد روى أشهب عن مالك، أنه: لا يزو [جها] إلا السلطان إن كانت دنيئة أو غيرها، وكل قول من [له وجه] واحتمال في الأصول، وما القول الأول ببعيد من النظر [لـ]ـما ذكرنا؛ لأن في عقد النكاح بولي وجهان من الولاية، فولاية هي حق الله تعالى، لا يجوز تركها، وذلك ألا تزوج هـ[ـي] نفسها، بل غيرها من الرجال يزوجها، فإذا وليت هي عقد نكاح نفسها فسخ ذلك بكل حال بغير طلاق. وولاية أخرى [هي] حـ[ـق] للأولياء أن تطالع الولي بذلك، لما له فيها من التحصين. فإذا ولت غيره، فعقد، فلوليها النظر في ذلك، إلا أن النكاح قد عقد بولاية هي دون هذه الولاية، فلا تطلق عليه أنه غير نكاح. وهذا قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وابن عمر وغيرهم من الصحابة [و] من التابعين بالمدينة وتابعيهم، وقاله ابن سيرين وقتادة.

فأما عمر، فروى مالك وابن وهب وغيره قوله: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها، أو ذوي الرأي من أهلها أو السلطان. فجعل ذا الرأي من قومها مقام الأوليـ[ــاء] من العصبة، وليس بعصبة لها، وأخبرك أن للولاية منازل، بعضها أخص من بعض، وبقدر حال المرأة. وقد علمنا علة نظر الأولياء لها، ليزوجها إلى الأكفاء، فالمسكينة والدنيئة ومن لا عصبة لها، كل أحد لها كفؤ، ونظر أقل الناس ولاية فيها لها كا [ف]، وهي ولاية الإيمان، وقول النبي عليه السلام (لا نكاح إلا بولي)، فالأولياء في المرأة اسم جامع لأدنى الولاية وأعلاها، والابن عندنا أقرب من الأب، ولا خلاف أن الأب أقرب من الأخ، والأخ أقرب من ابن الأخ، وابن الأخ أقرب من العم، وهكذا أدنى العصبة أقرب من الموالي، والموالي أقرب من ذوي الرأي من أهلها. والسلطان ايضا له ولاية، وقد ذكر ولاية السلطا [ن في] حديث الزهري، فدل بذلك أن بعض الولاية أقرب [من] بعض، والمسلمون بعضهم [أولياء

بـ]ـعض، فهم يتوارثون [بهذا] [الولاء] [] [مـ]ـن لا وارث له، وكذلك يكون لهم به الولاية في النكاح فيمن لا ولي لها، ويبعد عليها تناول السلطان.

فهذا الذي د [لت عليه] الأصول. أنا محمد بن عثمان، نا محمد بن الجهم، نا معلي بن شاذان، نا وكيع عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل، أن امرأة زوجها خالها، فأجاز ذلك علي بن أبي طالب. وهذا مثل ما قال مالك: أن للولي أن يجيز ذلك، والسلطان [فهـ]ـو ولي، وليس الخال بولي. قال معلي: ونا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا كان ولي المرأة مضارًا، [فـ]ـولت رجلا، فأنكحها، فنكاحها جائز. وكذلك روينا نحو هذا [عن] علي وعثمان وابن مسعود. قال: ونا هشيم، نا إسماعيل بن سالم [قال]: بلغني في المرأة إذا تزوجت ووليها غائب، ثم قدم، فإن تزوجت [في كـ]ـفاف، فالنكاح جائز، وإن تزوجت في غير كفاف، فالأمر إلى الولي، إن شاء أجاز وإن شاء رد.

وقال القاسم بن محمد في المرأة تتزوج بغير إذن وليها: إن أجازاه الولي جاز. قال: ونا ابن شاذان، نا معلي نا أبو عوانة، عن قتادة، في المرأة ليس [لـ]ـها ولي، قال: تولي أمرها رجلا من المسلمين. وأما العبد يتزوج بغير إذن سيده، فهو ممن يعقد على نفسه، فلذلك، إذا أجازه السيد جاز، بخالف الأمة تتزوج بغير إذن السيد، لأنها لا تعقد على نفسها وإن أذن لها السيد في النكاح. وليست كالحرة تولي أجبيا يعقد عليها، فيجيزه الولي، فيجوز لأن الحرة لها ولاية الإذن في نفسها، فقد أذنت في ذلك، وإنما بقي نظر الولي، لئلا تضع نفسها في دناءة، فإذا رضيه مضى، ولا إذن للأمة في نفسها. وقد تجد في الأصول نكاح ينتظر به الرضا بالعيب، في المرأة وفي الرجل، فإما أن يرده من كرهه منهما، أو يرضى به فتبقي على العقد الأول، فلا يبعـ[ـد] مثل هذا في سيد العبد ولوي المرأة، ويلزمه في العبد مثل [ما] ألزمناه في الولي، في هذا الباب.

وهذا قول أكثر الفقهاء المتقدمين، قاله الحسنن وقاله مغيرة عن إبراهيم، وقاله ابن المسيب والشعبي، والحكم بن عتيبة، وعطاء وجابر بن زيد ويحيى بن سعيد في عدد من تابعي أهل المدينة. قال يحيى بن سعيد: وهذا هو القول عندنا بالمدينة، وقال مالك: إنه الأمر عندهم، وأكره التكثير بالأسانيد، وهذا كله مشهور. ومن جعل أقاويل هؤلاء السلف لا يرضى بها عاقل، فهو أقرب إلى النقص في عقله ودينه، و [كيف] لقائل أن يقول: إن النكاح في هذا العبد وقع فاسدا، إنما يقال: إنه نكاح حتى يرد، لما للسيد فيه من النظر، فقام مقام ما ذكرنا من العيوب في النكاح، والله أعلم. قال عطاء: ليس هو [بزني] ولكنهما أخطا السنة، وقد بينا أن العبد بخلاف الأمة [في ذلك].

فإن احتج أحد بحديث يروي في العبد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أيما عبد تزوج بغير إذن سيده، فهو عاهر، فليس يقوم بمثله حجة، وإنما رواه القاسم بن عبد الواحد، قالوا: وهو غير معروف، وقال: عن عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ممن ليس بحجة عند أهل الحديث إذا انفرد.

ورواه مندل، فرفعه، ومندل [] غيره، وإنما رواه الأثبات موقوفا على ابن عمر، أنه جلد عبدا له الحد تزوج بغير إذنه، ويحتمل أن يكون أنكر عليه فعزره، فظن نافع أنه الحد، على أن هذا لا اتباع [له] أنه يحد حد الزني. أنا محمد بن عثمان، نا ابو بكر محمد بن أحمد المالكي، نا إسماعيل القاضي، نا إسحاق البرقاني، نا عبد الله يعني العمري، عن نافع عن ابن عمر: إذا نكح العبد بغير إذن سيده، ثم أذن له ثبت نكاحه، فهذا يدل على ما تأولناه في الرواية الأخرى. وقوله في رد السيد أو الولي: إنه يفسخ بطلاق، فقال: كيف يقع عليها طلاق غير زوجها. فهو في هذا [غائـ]ــب عن الأصول، التي تأكدت عندنا، ففيها إن شاء فليناظرنا.

وذلك أن السلطان يوقع الطلاق على المولي، إذا امتنع أن يفيء أو يفارق، وكذلك في امتناع العنين، ومن لا يجد نفقة، وفيمن به جنون أو جذام [أو] برص أن يفارق، وفي الحكمين، إذا امتنع الزوج من الفراق واللدد من قبله. ففي هذه الأصول فناظرنا إن رددتها وفي دون ما ذكرنا مقنع لمن أنصف وبالله توفيقنا.

في إعطاء المرأة لزوجها من زكاتها

في إعطاء المرأة لزوجها من زكاتها ومما أنكر هذا الرجل من قول مالك، قوله: إن المرأة لا تعطي من زكاتها لزوجها. وتلا هذا الرجل قول الله سبحانه [في] الزكاة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين.} الآية.

قال: فقد دخل فيمن سمى الله من الفقراء، فلا يمنع إلا بنص أو اتفاق قال: فإن قيل: لما كان لها أن تطالبه بالنفقة إذا أعطته صار ما أعطته إليها راجع، فكأنها لم تعط شيئا. فنقض هو هذا فيما ظهر له بقول، نذكر معناه وندع منه ما شان كلامه به من الهذر وسوء المقابلة، التي لعله كان يوعب بمثلها عن أشكاله، وهذا فعله في كل باب، كأنه رجل ينطق عن ضغن شديد، أعوذ بالله مما زين له. ومن حجته أن قال: هي لا تقضي عليه بالنفقة، إلا وقد ملك ما أعطته من الزكاة، فإذا صح مـ[ـا] فرض لها عليه، وأجزتها الزكاة، لزوال ملكها عن ما اعطته. فيقال له: إنك لفي طرف بعيد عما قصد إليه مالك، وذلك أنه لا تختلف الأمة أن مخرج مال له من زكاة أو غيرها كولي للمساكين، وإذا كان ذلك فلا يجوز له أن يخرج ذلك إلا بالعدل مجتهدا، لا يميل به الهوي إلى تفضيل من لا يفضله إلا بحظ نفسه، إما لدفع نفقة عن نفسه، أو دفع مذمة، أو لرجاء ثناء، أو لغير ذلك، مما لا يصح مـ[ـعه] خالص النية، والله سبحانه لا يقبل، إلا ما اريد به وجهه، وإنما الأعمال بالنية. فإن أبحت له أن يخر ذلك على ما ذكرنا من ما شوب نيته في ذلك من هذه الأمور، قدت أصلك على مفار [] مالك للماضين والباقين

وهذا إنما يجيب فيه بما ذكرنا من سلك منهجنا، وليس مما تجري به الأحكام - كما أومأت إليه – أنه [قد] وجب له الملك بالعطية، ثم قضى لها بعد ذلك بالنفقة. ونحن نزعم لك أن القاضي يقضي لها برد ما أعطته من الصدقة، أو يقـ[ــــضي] عليها أن ذلك لا يجزئها. وإنما أمر بهذا من سألنا عن خلاص نيته فيما بينه وبين ربه، الذي يطالبه بخفيات نيته، كأنك غائب عن مطالـ[ـــبة] الناس لصحة فرائضهم، والإشفاق من ما يشوب نياتهم، وقد كان عمر بن الخطاب يعطي عطاء بقبضته فأتاه ابنه ليعطيه، فقال: أخاف أن تتسع قبضتي لابني، فنادى بمن قد كان أعطاه قبل ذلك، فأمره بدفع ما أعطاه إلى ابنه، ثم أعطاه بعد ذلك قبضة، [فـ]ــتوقي منها، وخاف أن يشوب عمله أمر يحرج فيه، وكذلك نطالب صحة النية فيما كان لله سبحانه. ونحن نسألك عن من ولي خراج مال الله، هل يسعه أن يعطي منه على اتباع الهوي فيمن تميل إليه نفسه، لقرابة أو دفع مغرم أو مذمة، أو غير ذلك [من] حظ نفسه، الذي يقيمه بمال الله؟ بل لا يسعه ذلك عند ذي دين [بل] يجتهد في أن يضع أمر الله موضعه. فكذلك المرأة التي تعطي لزوجها الفقير الذي لا يجد ما ينفق عليها، أو يجد ما يقصر فيه عن الاتساع عليها فتعطيه عطية من مال الله من ورائها مرافقها، وإقامة منافعها، فإن أجزت لها القصد إلى هذا لتجوزن لغيرها [ذلك] وغيره، وتصير النيات في مقاصد العاملين سواء، على [تبايـ]ــنها واختلافها.

ونحن نعارضك بمثل ما عارضت فيمن يلزم الرجل النفقة عليه، فيقال لك: أرأيت من اعطي والده الفقير [من] زكاته، أو زوجته الفقيرة من زكاته، هل تمنعه من ذلك؟ فإن أبحته [فقد] سهلت سبيلا إلى دفع الزكاة عن المزكين، لأن ما عليهم [من] النفقات أكثر مما عليهم من الزكوات. وما أعلم خلافا [أنه] لا يعطي الرجل زوجته من زكاته، وكذلك ذكر ابن المنذر، ,كذلك ينبغي في كل من تلزمه نفقته. فإن قلت: لا يجوز أن يعطي زكاته لمن تلزمه نفقته، سئلت عما سألتنا عنه، ولزمك ما ألزمتنا فقيل لك: لم منعته أن يعطي فقيرا داخلا فيمن سماه من جملة الفقراء، وهو إذا أعطاه ملك الآخر ما يعطيه. هذا، والزوجة – مع لزوم اسم الفقر لها – لا تزيل عنه عطيته لها ما يجب لها عليه من النفقة، فلم يمنع أن يعطيها من الزكاة فالعلة التي لها منعوه من أن يعطيها، منعناها بمثلها من عطيتها له، وكذلك في إعطائه لأبيه وولده الصغير. ولا حجة لك [علي] أصلك، فإنه تلزمه، نفقته فيصير عطاؤه إياه يزيل عنه ما عليه من النفقة.

فيقال لك مثل ما قلت: إنه إنما زالت عن المعطي النفقة بعد ملك الآخذ لما اعطاه، فإنما صار غنيا به بعد المـ[ــلك]، لا قبله، فلما ثبت له الملك بعد العطاء، سقط عن المعطي نفقته. فإن رجعت إلى أن تطالبه في أول عطائه بمقصده وأنه في د [فعه] العطية نافع لنفسه بعطيته، وأن عطيته لم تخرج من [أن] تكون منفعة له، فسم نفسك لمثل ذلك في الزوجة، وزن فهـ[ــمك] بهذا الميزان. وإذا كان الرجل لا يعطي زوجته الفقيرة من زكاته عند العلماء، وهي لا تنفق عليه، فإعطاؤها هي لزوجها الذي ينفق عليها أبعث في الاعتبار في أن لا يجوز ذلك، فكل ما دخل في [هذا] من العلل المانعة لعطية زوجها إياها فمثله، بل أكثر منه [يدخل فيه] [] لو نزلنا لك في ذلك عن باب الاستدلال والقياس إلى باب توقي الشبهاتن أما يحسن عندك توقي الشبهات، في تنظيف الفرائض، التي هي أعظم أمر الدين. وقد أمر النبي عليه السلام سودة أن تحتجب من أخيها في ظاهر.

الحكم لما خاف من خلاف ما ظهر [منه]. وحذر من الشبهات في حديث النعمان بن بشير وحمى باجتنابها حمى الله، وأخبر أن الراعي فيها يوشك أن يقع في الحرام. وكأنك عن سنن العلماء – في توقي الأمور، والتحذير من الشبهات والحذر من الريب، بمعزل. هذا والأدلة تدل على تأييد ما قال مالك من ذلك.

وأما قولك: فما تقول فيمن لك عليه دين وهو فقير، هل تعطيه من زكاتك؟ فإن قلت: لا، تركت النص، وإن قلت: أعطيه، قيل لك: [فاجعـ]ـل له القيام عليه في دينه إذا كان أعطاه إياها لا لهذه العلة، ولا ليرجع عليه بدينه في الذي أعطاه، فإن قال: له مطالبته، ولا يكون بما يأخذ منه كالمخرج زكاته إلى نفسه، فكذلك الزوجة. فجوابنا لك في هذا: [أني أراك] شرطت في هذا الرجل أنه لم يعتقد في حين إعطائه الزكاة لغريمه لعلة دينه، ول ليقوم فيه بدينه عليه، فهذا صحيح إذا كان هذا اعتقاده ثم حدثت له نية بعد ذلك في القيام بدينه، فلم لم تشترط في الزوجة هذا الشرط، من أنها لم تقصد في الزوج أثرة للزوجية ولا لما يصل منه إليها من مرافقها. وبعد، فإن الزوجة لا تشبه الغريم في هذا، لأن النفقة التي تجب لها إنما تجب [للز] وجة لا في الذمة، والغريم دينه في الذمة، فاعتقاده فيما يصدق به من الزكاة على

غريمه الا يطالبه [] غريمه أبين [] ما طلبها في الوجد لا تعدوه، فقد أقامت بعطيتها في حين عطيتـ[ـه] الوجد الذي به تقوم نفقتها، كما مال لأبيه في حين عطيته له غناه عنه، فما لزم في هذا لزوم في هذا. وحتى لو أعطت زوجها، ونوت [أن] تزيل عنه طلبها عنه بالنفقة في تلك العطية، التي أقامت بها وجده، لم يكن لها عليه في ذلك الوجد شيء، ولا في الذمة. وإن طالبته في ذلك الوجد فقد رجعت عن ما نوت، وأوجبت على نفسها، وكذ [لك] قال أشهب: إن لم يرجع ذلك إليها في مرافقها ونفقتها فذلك جـ[ـائز] والغريم ذمته عامرة وذمة الزوج خالية من النفقة في عـ[ـدمه]، فتامل مخارج الأصول، ولا تجمع بين ما في الوجد وما في الـ[ـذمة]. أرأيت لو عارضك معارض في قولك: إذا كان أعطاه لا يريد بالعـ[ــطاء الرجوع] عليه فيه بدينه، فقال لك: أرأيت إن اعتقد ذلك، ثم قام علـ[ـي] الغريم، فقضى له بأخذ ما بيده من ذلك، وهو كفاف دينه [ألاا] تخلو ذمة الغريم عندك ويغرم المعطي الزكاة ثانية، على مـ[ـا] يظهر من لحن قولك؟

فإن قال لك: ولم تأمرني بإخراجها ثانية، وأنت قد أخليت علي ذمة الغريم؟ فإذا وصل نفع ذلك إلى الـ[ـغريم] حتى خلت به ذمته، ألا يجزني إخراجها، وأنا إنما نويت أن أطالبـ[ـه] بما أعطيته؟ فأبطل على عطيتي، بأن تجعل الكفارة، لا تجزني، ولا تبطـ[ـل] علي ما في ذمة الغريم بأخذي منه لما أعطيته. فإن قلت: إن ذمة الغريم بظاهر [] دعواك بما ذكرته فأبطل بها براءة الغريم، قال لك: فإذا انتهى الأمر إلى براءة ذمة الغريم، فقد حصل من عطية ارتفق بها المعطي، ولم يحصل لي ما أردت أن أنفع به نفسي، فألا جعلت الزكاة تجزيني لزوال ديني عن الغريم، فبماذا كنت تنفصل منه؟ والزوجة إذا أقرت بهذا [وأبـ]ـــطلت عطيتها في الزكاة، لم يكن لها في الذمة شيء يبطل عليها، فهذا [مـ]ـما ذكرنا لك أن بين الزوجة والغريم فرق، في أكثر معاني ما ناظرناك فيه. فارفق في تأملك، وعود نفسك أن تظن بها التقصير عن فهم الراسخين من السلف المتقدمين فإن ذلك يثنيك عن الإعجاب بنفسك، والتقصير بسلفك، والله المستعان.

باب في العبد يباع لغرماء المفلس أو الميت، فيهلك الثمن بيد الأمين، ثم استحق العبد

باب في العبد يباع لغرماء المفلس أو الميت، فيهلك الثمن بيد الأمين، ثم استحق العبد أنكر هذا الرجل على مالك في هذه المسألة قوله، إلا أنه لم يحكه على وجهه، وذكر في بعضها ما لم يقله، وجهل الأصل الذي بني عليه مالك قوله هذا، ولم يدر أيضا ما روى عن مالك في هذا الأصل من اختلاف القول. ويسط من لسانه ما عبر به عن قلة تحفظه وضيق علمه، وزعم أن قول مالك في هذا خلاف حكم الكتاب والسنة بغير دليل. وليس جهله بموقع ذلك من الكتاب والسنة والدليل بحجة.

فذكر هذا الرجل أن مالكًا قال: من مات وعليه مائة دينار دين، وليس له إلا عبد يساوي مائة دينار، فرفع الغريم أو الوصي إلى الحاكم فأمره ببيعه، فباعه بمائه دينار، ليأخذ الغريم حقه فقبض الوصي الثمن ليدفعه إلى الغريم فهلك من يديه، ثم استحق العبد أن المبتاع يرجع على الغريم، الذي بيع العبد من أجله. ففي حكاية ما حكـ[ـاه] استحالة وخطأ. فمن ذلك قوله: فرفع الوصي أو الغريم إلى الحاكم، فأ [مره] ببيع العبد، فلم يذكر ما الذي رفع هذا الرافع إلى الحاكم. وقبله فأمـ[ـره]، بعد أن ذكر رجلين، فاحتمل أن يريد فأمر الوصي أو الغريم، وكـ[ـيف] يأمر الغريم ببيع العبد لنفسه، فلم يبين من المأمور، وليس قو [له] فقبض الوصي الثمن: بدليل على أنه المأمور بالبيع. ثم لم يذكر [أنه] بقي بيد الوصي بعد قبضه إياه، وليس ثم إلا غريم واحد قد ثبت دينه، ولم يذكر للمسألة وجه ما تثبت عليه. وإنما ق [ل] مالك في المفلس أو الميت، يأمر السلطان ببيع ماله، ليجمعه لقيام غرمائه، ويجعله بيد أمين من وصي أو غيره، ليتكامل جميعه، وليـ[ـجتمع] غرماؤه، فيقسمه عليهم، أو يتحاصون فيه إن ضاق عن دينهم، ولولا أنـ[ـه] يوقفه لهم بيد الأمين أو الوصي ليتكامل، ولاجتماع الغرماء ما [كان] [في] نفاقه بيد الأمين معنى، ولكان ذلك ظلم من الحاكم، [فلو] باع الوصي تركة الميت دون السلطان لقضاء

دينه قبل قيام الطالب للدين فضاع الثمن بيده، ثم استحق ما باع لم يضمن الوصي شيئا، ولا للمشتري ها هنا رجوع على الغريم، في قول مالك وقول غـ[ــيره]، لأن ذلك لم يبع عن إذنهم وقيامهم، وإنما العلة التي أوجبت قول مالك في رجوع المشتري على الغريم أو الغرماء هـ[ــي] في رواية ابن القاسم أن الغرماء إذا قاموا عند [السلطان] بدين لهم على مفلس أو ميت، نظر لهم في ماله، فحاطه وباعه وقسم ذلك بينهم، فإذا كان السلطان لهم يبيع، والثمن المقبوض في ذلك فلهم قبضه أمينه من وصي أو غيره، إذا كان عن أمر الحاكم وبعد طلبهم لذلك، فصار القابض للثمن، كوكيل للغرماء على قبض الثمن، إذ لم يبق فيه إلا قسمته بين غرمائه ودفعه إليهم. وكذلك إن كان غريما واحدا، [بـ] بأن تبين للقاضي أنه لا طالب لدين غيره، عجل له قبضه. فإذا لم يبق في الثمن المقبوض إلا دفعه إلى الغرماء، أو قيمته بعد تكامله، لم يبق للغريم الذي عليه الدين في بقاء الثمن سبب يخصه، وإنما إنفاقه لسبب الغرماء خاصة، وليس ذلك عن سبب للغريم، ولا ائتمار منه.

فإذا كان قبض الأمين لهم لا للغريم، كانت يده كأيديهم، وكان أشبه شيء بالوكيل لهم، لأن ذلك الذي طلبوا معه، ورغبوا فيه. فبهذا السبب صاروا ضامنين بقبض الأمين؛ لأن يده في القبض كأيديهم، أو كيد وكيلهم، فلما ضمنوا ذلك بقبض الأمين له وجب الرجوع في الاستحقاق عليهم. فهذا استنباط مالك [من] قول الكتاب والسنة. فما الذي ضاق عليك من هذه السعة، وخفي عليك من هذا الأمر البين، وما أدري هل تقدر أن سلفك يتكلمون في دين الله عن سعة علم وحسن استخراج ولطيف استنباط أو يخبطون العشواء كخبطك، ام على الحدس أو الهوي يتكلمون، أو لغير معنى يتنازعون؟ ولقد نظرت إليهم بعين قذية، وبصيرة عمية. وهذا الذي ذكرنا اختيار ابن القاسم وروايته عن مالك. وأما أشهب فروى عن مالك أن ضمان المال في الإنفاق من الغريم المديان كـ[ـان] عينا أو عرضا، ولا ضمان على غرمائه فيه، حتى تقبضه أيديهم.

ولابن الماجشون رواية أخرىن وهذا الرجل غير خبير بأقاويل مالك ومـ[ـخارج] قوله. ورأيت كلام هذا الرجل – على كثرته – خاليا من صحة المعاني والإ [نصاف] عامر من الغمص وقبيح المقابلة. فمن ذلك أنه قال: لو كان قولا يستحي من خلا [فه] الكتاب والسنة والإجماع، كان هذا القول. وهذا كلام من لم يخش مـ[ـن] كلامه، واستخفه بما لا يستخف به أهل الديانة. وإنك لجريء في منطقتك بمثل هذا في مثل مالك، ومحله عند صدر السلف محله من سعة العـ[ـلم] في الفقه والحديث والخشية لله فيما يقول. ثم لم تعد كلام مالك يقوم [في] اختلاف، إذ زعمت أنه خالف الإجماع في قوله هذا، وهذا كله [مما]، لا مدخل لنا للانتصار منك فيه بالكلام، والانتصار في مثل هـ[ـذا] إلى الحكام. ثم قال: أرأيت الطالب، أظالم متعد، فيما طلب؟ وهل فـ[ـعل] الحاكم ما يجوز له فعله؟ وهل الوصي ظالم في البيع وقبض الثمن؟ و [مثل] هذا.

والجواب عليه – على خروجه من المعنى الذي نحن فيه -: وما معنى ذ [كرك]: هل طالب الطالبب ما ليس له؟ أو هل حكم الحاكم بما يجوز له؟ أفتظن [أن] تعدي الحاكم يوجب الضمان على الطالب فيما قبض الأمين؟ أو تجـ[ـعل] الطالب فيما يطلب يـ[ـضمن عن الأمين] ما لم يقبض؟ كلامه ها [هنا] يحسن السكوت عنه. ثم قال: فإذ لم يتعد واحد منهم، فلم زعمت أن المال إذا تلف من يد الوصي بغير جنايته واستحق العبد، أن المبتاع يرجع على الوصي بالثمن، ثم يرجع به الوصي على الغريم الطالب. فالذي حكاه من هذا ليس بقول مالك. والذي عندنا من قول مالك: أن المشتري [إنما] يرجع على الغريم، وكذلك حكى هذا الإنسان أول الباب، [ثـ]ـم نسي ذلك بعد سطور يسيرة، فحكى خلافه: أن يرجع على الوصي، فلا هو تحفظ ان يحكي عن مالك ما لم يقل، ولا تحفظ من اختلاف لفظ نفسه، كأنه لا يلقي بالا لما ينطق به. ثم أخذ يحتج لبراءة الوصي، فأتعب نفسه فيما لم يقله مالك. ثم قال: أرأيت إن ابرأ الغريم الميت، ثم قبض الوراث، الحصة من يد الوصي إذ صارت له، ثم ضاعت من يده ثم استحق العبد على من يرجع المشترى؟ قال: فإن قال على الوارث ولا يرجع الوارث على الغريم، ترك قوله.

وهذا من هذا الرجل غفلة غامرة، فإن أراد أنه لما جعل الرجوع على الوارث هنا هنا دون الوصي، ترك قوله، لأن الوصي ضامن، فهذا القول قد عرفناه أنه ليس بقول مالك. وإن أراد أنه ترك قوله في الرجوع على الغريم، فهذا جهل شديد، إذ جعل قبض الوارث لنسه مثل قبض الأمين لغيره، فالوارث يا هذا إنمـ[ـا] قبض المائة لنفسه، كما حكيت أنت في قولك لأنها صارت ملكا له، فمن قبض شيئا على أنه ملكه، كيف لا يضمنه؟ وكيف ساويته بمن قبض شيئا على أنه فيه قبض الأمين وإن [أراد] [أنه ترك قوله] إذ لم يجعل الوارث يرجع بها على الغريم، الذي أبرأ الميت، قيل له إنما أرجع مالك المشترى على الغريم، إذ لم تكن المائة في ضمان أحد، فكانت أولىل أن تكون في ضمان من بيعت له السلعة، إذ لم يكن في إيقاف ملـ[ـكه] نفع للغريم المطلوب، ونفع ذلك للطالب وعن أدلة كان ذلك. فتأول مالك في رواية ابن القاسم تضمينه إياها، إذ جعل يد الأمين كيد [هـ] فلما تركها الغريم للميت، صار قبض ذلك الوارث لها على أنها بـ[ـراءة] للميت، وصار ضامنا حين قبض بنفسه. فكيف يطالب المشترى أحدا بـ[ـأنها] تركة قائمة، ولم تكن الهبة للوارث، وإنما ترك ما كان له للميت، فصـ[ـار] الوارث قابضا لنفسه، فضمن فإذا وجب ضمان الوارث إياها، لم يجـ[ــب] أن يضمنها الغريم ثانية.

فإن قال: فإن أداها الوارث لم [لا] رجع بها على الغريم الطالب. قيل له: لأنه عن نفسه أداها فـ[ـلم] يرجع بما أدى عن نفسه على غيره، وقد صارت بترك الغر [يم] إياها تركة للميت، قبضها وارثه، ثم ردها على المبتاع، فقـ[ـد]، حصلت الهبة تامة من الغريم للميت، إذ بقيت ذمته بريئة [من] الدين بعد ذلك كله، فصارت الجائحة على الوارث لما يطرأ [على] التركة. ثم أخذ هذا الرجل في معنى ما تقدم له في هذا البا [ب] من سفاهة القول، فقال: وهذه مقالة جورها مكشوف، وتعدي قائلها ظاهر، ولو أن فطنا استلطف الحيلة أن [يجد] جورة وتعديا لم يأت بجور أعظم من هذا. وهذا من الكلام لا يتصرف بمن قاله إلا متحامل إلى ما يعذر فيه بعذره، ليس له فيه لما ركبه من هذا السب والثلب قصد اعتقا [د] وتحامل أو متكلم نطق بحمية كحمية الجاهل وغضب الحا [ئر] ومن قام في احد هذين المقامين فقد خفت مؤنته، وصد [ف] مـ[ـن] نفسه، فاستفرغ الجهد في خفضها، واستوفر الحظ من [فسا] دها. ولو كان كل من خالف في العلم قول صاحبه جاز أن يسمى [فـ]ـيه جائرا متعديا، لكانت المناظرة سبابا والديانة تلاعبا، [ولا] يجب اسم الجور والتعدي إلا لمتعدي خلاف الحق، ولا [يجو] ز أن يسمى لهذا مجتهدا متأولا، ولا مدخل للتعدي والجور [في تـ]ـأويل أو غلط بعد اجتهاده. ولا يتصرف كلام هذا الرجل [إلا] إلى صريح السب وركوب المحذور، الذي يحسبه هينا، وهو [عـ]ـند الله عظيم، وما يجب على هذا الرجل في ثلب العلماء [الأقـ]ــوم به الحكام.

وأسأل الله السلامة من اشتغالنا بمعارضة مثل هذا الرجل، على ما ترى من كشف حاله، وما [ركـ]ـب من المحذور في مقاله، وإلى الله نرغب في توفيقه. ثم ذكر [هـ]ـذا الرجل نحو رواية أشهب عن مالك التي ذكرناها، فزعم [أن] هذا قوله، والله المستعان، وكل لمالك، وكل ذلك محتمل [للـ]ـنظر، وسائغ في التأويل، على ما بينا .. ثم قال فيما ذكر من قوله: [إن] باع الوصي، وقبض الثمن، واستهلك من يديه، ولا يرجع المشتري على ذمة الميت، أو تركته. فقوله: استهلك من يديه، عبارة قبيحة [بـ]ـل، قوله: استهلك من يديه، إشارة إلى أن مستهلكا استهلكه، [و] ذلك المستهلك كان أولى بالضمان، فلم يذكر ذلك، ولو قال: فهلك [في] يديه كان أشبه، ومثل هذه الاستحالات تشوب كلامه كثيرا [بسـ]ـبب استقصـ[ـائه] [] [والله] [المستعان].

في وطء الأب أمة ابنه

في وطء الأب أمة ابنه وأنكر هذا الرجل قول مالك في الأب يطأ أمة ابنه: أنه لا يحد، وزعم أن هذا خلاف ظاهر القرآن، وسأل عن الفرق بين من وطيء أمة ابنه [وبين] واطيء أمة والده أو زوجته؟ فالجواب عن ذلك: أن الأب له في و [لده] وفي ماله معنى من الملك، ليس لغيره، وقد خص فيه بخواص، وهـ[ـو] وماله من مواهب الله له، قال الله سبحانه: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} وقال تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب} فقال ابن عباس: {وما كسب} قالك ولد [خ مما كسب].

وقاله محمد بن سيرين وعطاء والحسن ومجاهد وغيرهم قال عطاء: فلا [بأس] أن يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء ما لم يضره. وقد جعل الرسول الولد ومال الولد من كسب الرجل، وأن له أن يأكل من ذلك. نا أبو بكر بن محمد، نا زيدان بن إسماعيل الواسطي، نا أبو همام وليد بن شجا [ع]، نا أبو معاوية نا الأعمش، عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة قالت: قال رسول الله عليه السلام: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده [من] كسبه. قال: أنا أبو همام، نا محمد بن فضيل، نا مغيرة عن الزهـ[ـري] عن عائشة في قوله سبحانه: كلوا من طيبات ما كسبتم، قالت: ولد الرجل من أطيب

كسبه. أبو همام نا قبيصة نا سفيان عن ليث عن [مجاهد] ماله وما كسب، قال: ولده. أنا أبو سعيد بن محمد الأعرابي: نا [أبو] داود السجستاني، نا عبد الله بن عمر بن ميسرة وعثمان بن أبي شيبة المعنى، قالا: نا محمد بن جعفر، عن شعبة عن الحكم عن عما [رة] بن عمير، عن أمه، عن عائشة عن النبي عليه السلام أنه قال: ولد الرجل من كسبه من أطيب كسبه، فكلوا من أموالهم. أنا ابن الأعرابي نا أبو داود، نا محمد بن المنهال، نا يزيد بن زريع، نا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي عليه السلام فقال: يارسول الله إن لي مالا وولدا، وإن والدي يحتاج مالي، فقال: أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم.

نا أحمد بن إبراهيم بن حماد، أنا إسماعيل القاضي، نا محمد بن المثني، نا يحي بن سعيد، عن ابن عون، قال: قلت للحسن: يأخذ الرجل من مال ولده؟ قال نعم. وقاله مسروق، وغيره، والحديث بمثل هذا يكثر لو تقصيناه. فلما كان الأب له من ولده هذه الخاصة التي ليست لغيره، لم يساو بغيره، في إقامة الحد عليه، فيما يملك ولده لهذه الشبهة، وقد قال الرسول عليه السلام، ادرؤوا الحدود بالشبهات. ولا شبهة أعظم من هذه الخواص التي خص بها الأب في ولده

وقد غلظ عمر عليه الدية، ولم يقتله فيما يقتل فيه غيره من الأجنبيين. والولد داخل في ولاية الأب، لا يحتاج في ذلك إلى رأي إمام وغيره. ومن خواصه أنه يزوج ابنته وابنه قبل بلوغهما، وأنه يعتصر ما وهب لهما بالسنة الثابتة. ولا خلاف أنه يبيع متاع ولده الصغير من نفسه، ويشتري متاعه لنفسه، وغير شيء مما ينفرد به الأب ولا يلام في الولد.

وقد ذكرنا قول النبي عليه السلام: أنت ومالك لأبيك، ورواه جابر بن عبد الله أيضا مع عبد الله بن عـ[ـمرو] []ـلا بـ[]، نا المنكدر بن محمد عن أبيه، عن جابر عن رسول الله عليه السلام. ولم يجمع الناس على إبطال معاني هذا الحديث كلها، وأجمعوا على رفع حكم بعض معانيه، فما خرج بإجماع أخرجناه، وما أختلفوا فيه من بقية معانيه كنا به متعلقين حتى يجمعوا على رفع المعاني كلها فيه.

فنحن ندرأ به الحد في الزني والسرقة، ولا توجب للأب تمليك ما بيده في كل وجه، لإجماع الناس على رفع هذا المعنى. ونحن ببقية معاني هذا الحديث متمسكون على أنه محتمل أن يراد به دراءة الحدود خاصة، والله أعلم بذلك وهذا والاختلاف ف دراءة الحد عن الوالد في ذلك شاذ لا اتباع له، والذي قال مالك من ذلك هو قول كل أئمة أهل المدينة، وقول أهل العراقين والشافعي، والمشهور من علماء الأمصار، المرجوع إلى قولهم. قال محمد بن الجهنم، هو قول الصحابة والعلماء وفيه من الأحاديث عن الصحابة والتابعين بالأسانيد المرضية ما يكثر على ذكرهان وكرهت التكثير بذلك، وشهرة هذا تنويه عن تسطيره، وقد رويناه عن أبي بكر الصديق وابن عباس وجابر وأنس بن مالك. قال ابن الجهم،: وهو قول الكافة من التابعينن ولا اختلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم. وإن من غرائب الأعاجيب أن يكون قولا هذا حاله من تطابق جمهور الماضين والباقين عليه، وهذا الرجل يتجرأ فيطلق فيه أنه خلاف القرآن، وإن مؤنة من انتهت جرأته إلى هذا لخفيفة.

أنا محمد بن عثمان، نا محمد بن الجهم، نا [أحمد] بن فرح، نا إبراهيم بن عبد الله، نا أبو معاوية، نا عبد الرحمن، عن إسحاق القرشي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله، قال: جاء رجل إلى عمر، بأبيه فقال: إن لهذا على ألف درهم، وليس معي مال، فأخذ يدا ابنه، فوضعها في يده، ثم قال هذا وماله من هبة الله لك، يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، ونحوه عن ابن عباس. نا بشر بن موسىن نا أحمد بن الوليد، نا الحباب بن فضالة بن هرمز الحنفي قال: قلت لأنس بن مالك: جارية لأبي وأنا شاب أعزب، احتجت إليها، قال هي عليك حرام، قال قلت جارية لي لم تخلط بمال ابي غلبني عليها، قال هي له حلال، قلت فماذا؟ قال أنت من كسبه، أنت ومالك له حلال وماله عليك حرام، إلا ما طابت به نفسه. وهذا يكثر علينا ذكره فلا جد في أحاديث السلف أن عليه الحد، وإن اختلفوا في ألفاظ ما اجتمعوا منه على معنى إسقاط الحدود فيه فذلك القصد الذي قصدنا اجتماعهم فيه، وإن اختلفوا في بقية معاني ذلك. وقد استدل غير واحد من العلماء- في هذا المعني بقوله سبحانه: {ولا على أنفسكم وأن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ابائكم} إلى آخر الاية، قالوا: فلم يذكر في ذلك بيوت الأبناء، وهو أقرب المذكورين قالوا: وإنما لم يفرده بالذكر، لأنه دخل تحت قوله: {أن تأكلوا من بيوتكم} فجعل بيت ولده كبيته، وماله كماله وذكر غيره من الأقارب. فهذه من الخواص التي انفرد بها الأبوان والله أعلم.

وأقل ما يوجب هذا كله الشبهة الموجبة لدرء الحدود التي تدرأ بالشبهات فهذه أكثر الشبهات. وشيء آخر: ان الأب لما تأول [ملك يمين] الابن، فقد حرمها عليه، فوجبت عليه، [قيمتها] وذلك مزيد في شبهة ملكه، ونحن نحرم بشبهة الملك كما نحرم لشبهـ[ـة] النكاح على الآباء والأبناء إلا ان التحريم بالشبهة بالملك أقوى في الأصول وأما قول هذا الرجل: كيف لا يحد وقد وطيء ما لا يحل له وطؤه، من ملك غيره؟ فيقال له: للشبهة التي دخلت في ذلك الملك، على ما ذكرنا أرأيت من وطيء أمة له فيها شرك أليس قد وطيء ما لم يملكه كمال الملك، وهو عليه حرام، وقوله: إذا كانت للابن ملكا فلم سمى الاب زانيا. فيقال: له ومن اقر لك انه يلزمه اسم الزني، ولكنه وطء شبهة. أرأيت الوطء في النكاح الفاسد او البيع الفاسد، أزنى هو؟ إن كان الأمر لا يتعدي عندك إلا حلال صريح، أو حرام صريح، فما الاسم في وطء النكاح الفاسد والملك الفاسد؟ هل هو زنا عندك؟ ونحن نفرد الشبهات باسم الشبهة كما أفرد النبي عليه السلام لها اسما، ونأمر باجتنابها حماية لحمي الله.

وقد ألحق النبي عليه السلام الولد بعبد بن زمعة، وقال لسودة: احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة، وهذا من توقي الشبهات فتعليق اسم الشبهة في الوطء الذي ذكرنا، يكشف لك ما سألت عنه من قولك: هل ذلك ملك للابن أو للأب أو لهما؟ فهذا السؤال يكشفه لك ما يلزمك من الجواب في الوطء المشتبه كله، من نكاح أو بيع او شركة فتأمل، ولا تحمل الكلام في العمل محمل كلام أهل الجدل، فإن الأصول في العلم ليس هذه مجاريها. وكذلك الأمة المشتركة توقف للاستبراء برضا المتبايعين فيطؤها أحدهما، هل يحد؟ وهل وطيء عندك ما هو له ملك، أو للآخر أو لهما؟ وكذلك واطيء [أمـ]ـة ببيع فاسد، أو الوراث يطأ أمة من التركة، والدين محيط بمال [الميـ]ـت، هل وطيء ما ملك، فلا يباع للغرماء؟ أو وطيء ما لم يملك فينبغي ان يحد؟ وهذا من الشبهات. فلا تتحامل في علم الشرائع بلسان أهل [الجد] ل الذين أقاموا معاني الديانة بأهوائهم، والتعلق بابتاع [السلـ]ـف في معانيهم أولى بك. وكذلك من اباح أمته لرجل، فوطئها، [فإن] ذلك شبهة من التمليك أوجبت على الوطيء القيمة ولم نحده [عليـ]ــه بالشبهة، ولا ترد الأمة إلى ربها، فتصير كعارية

الفروج، وبأول [الـ]ـتحريم دخلت في ضمانه، وعليه القيمة، وهذا يحلق بما تقدم، ذكرنا [له] من الشبهات والله أعلم. والأصول شاهدة لما قال مالك، في وطء [الأ] ب على ما ذكرنا، وهو قول الأئمة، والفقهاء من كل مصر. وإن من [شـ]ــرد عن هذه الجملة لفي وحشة، لا يجد لها أنسا بمثل من ذكرنا [وباللـ]ــه التوفيق.

باب في قتل الزنديق

باب في قتل الزنديق أنكر هذا [الـ]ـرجل قول مالك في الزنديق، إذا قامت عليه بينة أنه يسر الكفر: إ [نه] يقتل، ولا تقبل توبته. واحتج بقول الله سبحانه {قل للذين كفرو [إن] ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وقوله: إن الذين {كفروا [ثم] أمنوا ثم كفروا} وأعاب قول مالك، إذ قال: إنه يقتل ولا تقبل توبته.

[لأنـ]ـه على ما أظهر من التوبة عهدناه، فلم ينتقل عندنا إلى حال يعرف أنه انتقل إليها، واقتدي في ذلك بعلي بن ابي طالب، وابن عباس وغيرهما في الزنديق، وبما ثبت ايضا عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة في الساحر، وبما دلت عليه الأصول من الكتاب والسنة مع كثرة من قال ذلك من التابعين وغيرهم. ثم تحامل هذا الرجل فقال: إن مالكا إنما قال هذا برأيه واستحسانه، وإنه لم يسبقه إليه أحد علمته، وإنه خلاف ظاهر الكتاب وما ثبت من السنة، وما أجمع عليه أصحاب رسول الله عليه السلام والتابعون، في كلام من هذا، أقله يعظم على من عظم أمر الله. وإن هذا الرجل في ا [دعا] ئه وحرج صدره وتقحمه فيما لا علم له به، واسترسال لسانه بالمنكر من القول، قد سلك مسلكا لم يسلكه إلا مجان أهل الكلام وسفاهة الأحلام، ممن يغمص على متقدمي السلف، من الفقهاء والمحدثين، ويقفون عنده موقف الغفلة، والمتحلقين ممن سبق مثل هذا إليه، فأشربه قلبه، فأقام عليه قد حجب عن الواضح، وجمح عن الناصح.

وكأن هذا الرجل لم يلق إماما له هدي العلماء، فيهتدي بهديه، ويتأدب بأدبه، فيمسك عنانه، ويملك لسانه عن أن يطلقه بالباطل في امور الدين وفي أئمته، أعوذ بالله من سوء القربي، والركون إلى الهوى، وكيد الله بالإملاء. وكيف يجوز أن يقول: إن هذا خلاف إجماع الصحابة والتابعين؟ وإنه إنما هو رأي رآه مالك، لم يسبقه إليه احد، وهو قول السلف قبل مالك. ودفع الباطل لا يضر من دفعه، ويعر قائله، ويكشف مستور حاله، وسنذكر من قال ذلك من السلف، وندل على صحة قول مالك من كتاب الله وسنة نبيه، وقول الصحابة والتابعين، والدلائل الواضحة من حجة العقل. واحتج هذا الرجل، بأن النبي عليه السلام أقر المنافقين على علم بهم. ولو تدبر كلامه علم أن ما احتج [به] حجة عليه، لأنه اقر أن النبي عليه السلام أقرهم – وهو بهم عالم – ونحن إن ظهر إلينا من أهل النفاق مثل ما علم الرسول قتلناهم، فلا حجة لك بالمنافقين لما خصهم النبي عليه السلام، به من تركهم، وأخبر بعلة ذلك، بقوله: " لئلا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ".

وقد أمر الله سبحانه رسوله أن يجاهد الكفار والمنافقين، وقال سبحانه: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم} إلى قوله: {اخذوا وقتلوا تقتيلا}. قال قتادة: فكان هذا حكم من أظهر نفاقة أن يقتل. [نا] إبراهيم بن محمد بن المنذر، نا أبي نا علان بن المغيرة، نا عبد الله بن صالح، نا معاوية عن علي – يعني ابن أبي طلحة – عن علي، عن ابن عباس، في قول الله تعالى: {لنغرينك بهم} قال: لنسلطنك عليهم. نا إبراهيم بن المنذر، نا أبي، نا النجار محمد بن علي نا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، أن ناسا من المنافقين أرادوا أن يظهروا ما فيهم فنزلت فيهم: {لين لم ينته المنافقون} إلى آخر الآية. قال: وأنا أبي [عن] محمد [] نا نصر، نا عبد ن نا روح، عن قتادة، فذكر نحوه، وقال: أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم، فأوعدوهم الله بهذه الاية فكتموا ذلك، واسروا {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} قال: إذا هم أظهروا [الـ]ـنفاق، {سنة الله في الذين خلوا من قبل} يقول: هكذا سنة الله فيهم، إذا اظهروا النفاق.

أنا محمد بن أحمد بن نا موسى بن عبد الرحمن نا يحيى بن محمد بن الـ[] لئن لم ينتهوا مما في قلوبهم من النفاق [] لنسلطنك عليهم إلى قوله: {سنة الله في الذين} أي من أظهر الشرك قتل، وقد أمر الله سبحانه رسوله بمجاهدة الكفار والمنافقين فهذه مجاهدة من أظهر نفاقه منهم، فأما من ستره فلم يؤمر فيهم بذلك. وقد ذكر الرسول عليه السلام العلة في تركه إياهم بعد علمه بسرائرهم فقال: أولئك الذين نهاني الله عنهم، وقال: لئلا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. وهذا امر خاص في الذين كانوا على عهده عليه السلام، لأن الناس بحدثان كفر، ولا يعلمون المؤمن من المنافق، إلا بما [ظهر] لهم، ولو قتلهم بعلمه دون ظهور الأمر عليهم، لكان فيه تشريدا للناس عن الإسلام، كما قال عليه السلام: لئلا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. وقد روى جابر أن عبد الله بن أبي قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأراد عمر قتله، فقال النبي عليه السلام: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، فأخبر عليه السلام علة تركه لقتلهم، ولم يقل: لأني قبلت ظاهر دعواهم.

وأنت في قبولك لظاهر الزنديق في بدي أمره او في توبته، لا تعلم طويته، والرسول إنما اقر بعد علمه فيهم، بخلاف ظاهرهم فلا حجة لك بهم، ولو ظهر ذلك منهم في حياة الرسول ظهروا ظاهرا كما قال قتادة والحسن لقتلهم عليه السلام. وشيء آخر، أن الرسول عليه السلام هو الذي كان يعلم نفاق قلوبهم، وهو لم يؤمر ان يحكم بباطن علمه، وإنما مجاري أخذ [هـ] عليه السلام على الظاهر، لا على ما يعلم الله ورسوله من [الخفاء]. ولا خلاف أيضا أن لو علم الإمام من رجل ما يوجب التقل من كفر او غيره [وهو له] منكر أن لا يقيم ذلك عليه لعلمه. وهل بلغك أن منافقا قامـ[ـت عـ]ـليه البينة عند الرسول أنه عرف بالكفر، فاستتابه وتركه، فلا حجة لكم بالمنافقين لهذه الدعوى. [فإن قلت] [] منهم قائمة سئلت عن من ظهرنا على نفاقه اليوم، اتتركه كما ترك النبي عليه السلام المنافقين، [أو] تقتله؟

فإن قلت: نستتيبه، خالفت، ما فعل النبي عليه السلام في المنافقين، فإنه لم يستتبهم من شيء مما يعلم من طوياتهم. وإن قلت: [أثبته] على ما علمنا من نفاقه، ولا نستتيبه ولا نقتله، خرت من قول العلماء. فلا تجعل المنافقين أصلا لاستتابتك للزنديق، فإن هذا غلط فاحش، لا خفاء به، وقد قال النبي عليه السلام: من غير دينه فاقتلوه. نا به الحسن بن بدر، نا النسائي، نا قتيبة بن سعيد، نا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، قال، قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من غير دينه فاقتلوه. وهذا عام. فإن قيل: إن النبي عليه السلام قال للمقداد – حين قتل الكافر- ألا شققت عن قلبه، بعد أن تشهد.

قيل: ذلك كان كفره ظاهرا، فرجع إلى أمر ظاهر. ويقال له: أرأيت قول النبي عليه السلام: من غير دينه فاقتلوه، عام أم خاص، أم له معنى خلاف ظاهره؟ فإن قلت: معناه بعد الاستتابة، سئلت الدليل. فإن قلت لقول الله سبحانه: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. قيل لك: هذه الآية معناها ظاهر [] (فدل بذلك أنهم ينتقلون عن أمر ظاهر علمناه إلى امر ظاهر) [والأية] لا تطالب بالتكليف لأن ينتهوا عن ما في سرائرهم. فدل ذلك أنهم ينتهون عما سلف مما ظاهرونا به، إلى ما سواه، مما نعلمه عنهم، والزنديق بخلاف ذلك. هذا وقد اختلف الناس فيمن يعلم منه [الإيـ]ــمان فارتد مظهرا لردته، فقيل: يقتل ولا يستتاب، وتأولوا أن [ذ] لك حده القتل والحد لا تزيله التو [بة] [كما أن حد الزنى] لا تزيله توبة الزاني عند الحد، وتأولوا هذه الاية {قل للذين كفروا

إن ينتهـ[ـوا] يغفر لهم ما قد سلف} ممن لم يتقدم لهم إيمان قط، وأما من آمن ثم كـ[ـفر] فلم يدخلوه في الاية. وقد قال نحو هذا معاذ، وأشار به على [أبي] موسى في رجل ارتد، فقال: لا اقعد حتى يقتل فقتله أبو موسى، [وقد] تقلد ذلك عبد العزيز بن أبي سلمة. وقال مالك في الاستتابة من ظاهر إلى ظاهر بقول الصديق في استبقائه من تاب من أهل الردة، وبقول عمر وعلي وعبد الله وغيرهم.

وقالت طائفة بقول عبد العزيز هذا، واتبعه على ذلك من المتأخرين سعيد بن محمد بن الحداد، وأنت لا تقول بذلك. ولكن عجبت من تحامل هذا الرجل، في دعواه لإجماع الصحابة والتابعين على استتابة الزنديق، وهم لم يجمعوا على استتابة المرتد فضلا عن الزنديق، ولكن كلامه خرج عن حمية ونقص من العلـ[ـماء] شديد. ويقال له: أرأيت الذي علمناه بالإيمان، ثم ظاهرنا بالكفر مرتدا، أليس إنما نستتيبه مما أظهر إلينا من الكفر، ليرجع إلى الإيمان الذ [ي] كان يظهر إلينا فلابد من: نعم. فيقال له: فهذا الزنديق الذي ظاهرنا بالإيمان، ثم اطلع عليه رجلان أنه يسر الكفر، فهل نستتيبه مـ[ما] أظهر، أو مما يسره ويخفيه؟ فإن قلت: مما يسره، قيل لك: فكيف تطالبه بالانتقال عن سريرته ولا وصول لك إلى ذلك. فإن قلت: أصل إلى ذلك بقوله: إني مؤمن في سريرتي وعلانيتي. قيل لك: مازال قائل ذلك قبل ظهورك عليه وبعده، فما الذي تغير من حاله بعد شهادة البينة عليه بما يسر؟ أرأيت إن قال: كذبت البنية، وما أنا إلا مؤمن [في] السر والعلانية، أتجعل ذلك توبته وتبقيه على حاله، وتصير الـ[ــبينة] لا تغير منه معنى، ولا توجب عليه

حكما، فلما كانت التوبة مما يسر من الكفر لا يتوصل إليها معنى يساوي ما أسر، لم يكن لاستتابته وجه، وكان حده القتل، وكذلك فعل علي بن أبي طالب. نا الحسن بن بدر نا النسائي، نا محمد بن المثنى، نا عبد الصمد، نا هشام، عن قتادة عن أنس، أن عليا، أتي بناس من الزط، يعبدون وثنا، فأحرقهم، فقال ابن عباس: إنما قال رسول الله عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه. وهؤلاء إنما [ظهر] عليهم التستر بذلك، وإظهار الإيمان، فلذلك قال ابن عباس هذا في قبول توبة الزنديق وقتله، كالذي دل عليه الكتاب من قتل الساحر، لأنه كفر مستتر به، ويدل على ذلك، قول الله تعالى: {إنما نحن فتنة فلا تكفر}، وبقوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق} وبقوله {ولبئس ما شروا به أنفسهم} يقول: باعوا ومن خسر نفسه حتى لا يرى لها في الآخرة نجاة، فلا حظ له في الإيمان. فلا تقبل توبة الساحر إذ لا يظهر على أمره، ولا يعرف ما تاب منه، وقد قال النبي عليه السلام: حد الساحر ضربة بالسيف، فسماه حدا، والحد لا توجب دفعه التوبة.

[نا] محمد بن عثمان، نا محمد بن الجهم، نا ابو مسلم، نا سليمان بن داود، نا معاوية عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جندب الخير أن النبي عليه السلام قال: حد [السـ]ـاحر ضربة بالسيف. قال ابن الجهم: ومن قال في إسماعيل بن مسلم في [حديثه] يضعف، فإن إسماعيل ثقة مأمون، ولا يدفع بهذا حديث تشهد [عـ]ـليه الأصول. وحديث جندب مشهور من غير طريق، وروينا حديث [] [خبر] مشهور. [] إبراهيم [نا] أبي نا إسماعيل القاضي، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن سعيد الجزيري، عن ابي العلاء، أن النبي عليه السلام، ارتجز ذات ليلة، فقال: جندب وما جندب، والأقطع الخير، فسئل عن ذلك بعد أن أصبح، [فقال: أما] جندب

فرجل من أمتي يضر ضربة، يبعث بها أمة وحدة يوم [القيامة]، وأما الأقطع فرجل تقطع يده فتدخل الجنة قبل جسده ببرهة من الزمن، [فكـ]ـانوا يرون الأقطع زيد بن صوحان، قطعت يده يوم اليرموك، وقتل يوم [الجمل]، وأما جندب فهو الذي قتل الساحر. وفي الأصول أن كل مستتيب، في [أمر] يوجب عليه حدا فإن توبته لا تزيل حده، من ذلك السارق والزاني، وأما المحارب المجاهر فإذا جاء تائبا سقط عنه ما كان [عليه من] حد الحرابة التي ظاهر بها ولا يسقط عنه حق الآدميين، وهذا [كسائر] ما ذكرنا. وهذا الذي قال مالك في الزنديق والساحر قول علي بن ابي طالب، قال يجالد وابو موسى كتب إليه [عمر] أن اقتلوا كل كاهن وساحر. أنا محمد بن عثمان: قال: أنا [محمد] [بن الجهم] نا عبد الله بن أحمد، نا أبي نا هشيم، نا إسماعيل بن [أبي خالد،] عن ابن إدريس، قال: أتي بناس من الزنادقة

قد ارتدوا عن الإسلام وجحدوا فقامت عليهم البنية العدول فقتلهم ولم يستتبهم، [وأتي] برجل كان نصرانيا فأسلم، ثم رجع، فاستتابه فتركه. قال: نا [ابن الجهم] نا عبد الله، نا سفيان عن أيوب، عن عكرمة أن ابن عباس بلغه أن عليا [أخـ]ــذ زنادق فأحرقهم، قال: أما أنا [فلو كنت لم أعذبهم] بعذاب الله، ولو كنت لقتلتهم، بقول النبي عليه السلام: من غير دينه فاقتلوه، وقد [أقـ]ـتلهم ثم أحرقهم. نا أبو بكر بن محمد، نا يحيى بن عمر، نا الحارث بن مسكين، [نا ابن] وهب، نا الحارث بن نبهان، عن محمد بن عبيد الله، عن عون بن أبي جحيفة، [عن] علي بن أبي طالب أنه أتى بزنادقة يعبدون رأسا بالكوفة، فحفر [لهم] وأمر بضرب أعناقهم. فهذا يدل أنه بعد القتل أحرقهم، وذلك ليستفيض أمرهم، وتعظيما لجرمهم. فهذا قول أمير المؤمنين علي وعبد الله بن عباس وتأويلهما، وقد تأول ابن عباس قول النبي عليه السلام: من غير دينه فاقتلوه، أن ذلك في الزنادقة، فهذا الذي قال مالك.

قال محمد بن الجهم، نا يوسف بن يعقوب، نا ابن أبي بكر، نا موسى بن إسماعيل قال: سألت [إبراهيم] بن سعد بن إبراهيم: أيستتاب الزنديق؟ قال: علينا بالمدينة والٍ [قتل] زنديقا ولم يستتبه، فأسقط في يديه، فقال له أبي: لا يهيدنك ذلك، فإنه قول الله في كتابه: {فلما رأوا بأسنا قالوا أمنا}، قال السيف: {قالوا أمنا بالله وحده} وصل إلى قوله: {فلما يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}. والآثار في هذا كثيرةن وأكره التطويل، وفيما ذكرنا كفاية. وهو قول ابن شهاب وابن المسيب وربيعة وابي الزناد، وغيرهم من تابعي أهل المدينة، وقاله مالك وعبد العزيز والليث بن سعد فيمن اتبعهم. والعجب في جرأة هذا الرجل بقوله: إن هذا القول لمالك لم يسبقه إليه أحد وإنه قاله برأيه، وإنه خلاف الكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة والتابعون. وانت ترى ما في ذلك عن الصحابة والتابعين، وظاهر القرآن وحديث الرسول وكلام السلف. فهذا رجل هانت عليه نفسه، واستهان بمنطقه وهوي دينه، وأعوذ بالله من الجرأة على الأ [ئمة] والقول بغير علم في دين الله.

وأما الساحر فممن قال يقتل بغير ا [ستتابة] عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وجندب الخير وحفصة وعبد [الرحمن] بن زيد وقيس ابن سعد بن عبادة، وابن المسيب والزهري وعـ[ــمر بن] عبد العزيز وربيعة والحسن وخالد بن المهاجر، وأبو الزناد وعـ[ــثمان بن] الحكم وسنان بن سلمة وغيرهم. وهو قول أهل المدينة، وقاله ما [لك] وعبد العزيز فيمن اتبعهما، وهو قول الشافعي.

ويقال لهذا الر [جل على] معنى أصوله: أرأيت استتابتك للزنديق، أبنص قلته، أم [بقياس]؟ والقياس عندك باطل، ولا نص معك، والأحاديث بخلاف قولك، [لقول] النبي عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه، وقوله: حد الساحر [ضربة] بالسيف، وحديث جندب. وقول النبي عليه السلام في ذكره للعلة الـ[ـتي بها] أبى المنافقين، الذين ظننت أنت أنهم يشبهون من ظرهان نحن علـ[ــي كفرهم] فصار لهم أمرا خاصا، هذا والنبي عليه السلام لم يستتبهم. فبمـ[ـاذا] تعلقت – أيها الرجل- في استتابة الزنديق وجعلته إجماعًا ونـ[ــصا] من نصوص القرآن والسنة، وهذا كلام من ينطق عن الهوى؟ فإن قلـ[ــت: فإن في] ظاهر القرآن قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم [ما قد] سلف}.

فقد عرفناك أن ظاهر الآية أنهم إنما ينتهوا عما كانوا [له] مظهرين، ولا خلاف بين الناس أن هذه الاية لم تنزل في المنا [فقين]. فإن قست المنافقين على الكفار – الذين فيهم نزلة الآية – أ [خطأت] من وجهين: أحدهما: أن القياس باطل عندك، ووجه آخر لمن قاس: [إنـ]ــما يقيس على اصل يشبه الفرع، ويكون في الفرع علة الأصل، وهذان [يفتـ]ــرقان في العلة والمعنى، هذا مظهر غير مستتر، وهذا مستتر لما يظهر [علـ]ـــيه فبقي حكم الزنديق منفردًا، لا دليل معك على قولك فيه، من كتاب [وسنة] وقياس. وأما حجتك بقول الله تعالى: {إن الذين كفروا [ثم آمنوا ثم كفـ]ــروا} فلا حجة لك بذلك؛ لأن الله سبحانه وصف انتقالهم [من ظاهر] إلى ظاهر، وليس هذا مما اختلفنا فيه، واختلافنا فيمن أظهر [إيما] نا وأخفى كفرا. وهذا وقد قال قتادة في هذه الآية: هم اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة، ثم كفرت، وآمنت النصاري بالإنجيل، [ثم] كفرت، وكفرهم به تركهم إياه. ثم ازدادوا كفرًا، بالقرآن وبمحمد.

[نا إبراهيـ]ـــــم بن محمد بن المنذر، نا أبي، نا محمد بن عليى، نا محمد بن سليم، [نا] يزيد، نا سعيد عن قتادة. وقال نحوه الضحاك وأبو العالية، وقال مجاهد: [هـ]ـم المنافقون. فهذا تأويل السلف فيهم، ثم لم يذكر الله سبحانه من ما [صـ]ــرت إليه شيئا من قتل ولا استتابة، وإن غيرك ممن يرى قتل المرتد ولا يقبل توبته أشبه قولا منك، فيما أشكل عليه من معاني التعلق بظاهر الحديث، أو ما اشتبه من باب القياس، وإن كان [أكـ]ـثر، العلماء على ما قلنا، ودلائل ذلك ظاهرة. فقد انكشف لمن أنصف عدولك عن الإنصاف ودعواك لما لا يدعيه من تحري الصدقة وآثر القول بالحق، والقصد في القول، [] الجنف والله المستعان.

باب في الأب يتزوج من مال ولده، وذكر الاعتصار

باب في الأب يتزوج من مال ولده، وذكر الاعتصار وأنكر هذا الرجل قول مالك، في الأب يتزوج من مال ولده، بخادم أو ز [وجة]، فقبضت ذلك الزوجة، ثم بلغ الابن: إنه ليس له أخذ ذلك من المرأة، كان الأب مليا أو معدما، وليتبع الأب بذلك في عدمه. قال هذا الرجل: وهذا خلاف ظاهر القرآن، لقوله سبحانه: {ولا تأكلـ[ــوا] أموالكم بينكم بالباطل}، وخلاف السنة، من قول الرسول عليه السلام: ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. قال: ولا يعدو المال [أن يكون] لابنه، ولا يجوز أن يكون للأب، وهو يضمنه للابن، وليسا بشريكين، [فما] الذي أوجب هذا، ولو كان الابن يوم النكاح كبيرًا، لأخذ ذلك من الزوجة، ورجعت هي بقيمته على الأب، فما الذي فرق بين صغير وكبير؟

قال: ومن احتج بما روي: {أنت ومالك لأبيك} فإنه لم يثبت، ولو ثبت فـ[ــما] فرق فـ[ــيه] بين كبير وصغير. قال: ومن قول مالك: إن وهب من مال ابنه الصغير، أ [و] تصدق، فذلك مردود، إلا التافه الذي لا بال له، كان الأب مليا أو عـ[ــديما]، أو إن أعتق عبدا لابنه الصغير، فذلك نافذ، وعليه القيمة في ماله، وإن كـ[ــان] عديما لم يجز عتقه. قال: وهذا فاسد متناقض، وليس له أن يزيل ابنه عن ذلك إلا بكتاب أو سنة أو اتفاق، وفرق بين التافه [وغيره وهذا] تحكم في دين الله، وفرق بين العتق والصدقة، ولا فرق بين ذلك، وزعم [أنه] يعتصر ما وهب لابنه ما لم ينكح، أو يحدث دنيا وهذا تناقض، فإ [ما] أن يرجع على كل حال، أو لا يرجع بحال، وقد قال النبي عليه السـ[ــلام]: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.

والحديث: ليس لأحـ[ــد] أن يرجع فيما أعطى، إلا الوالد. مرسل، لا يحتج به. هذا منتهى [كلا] م هذا الرجل، إلا ما اختصرت من تكرير وتكثير، وكل ما أنكر من ذلك [تدل] على صحته دلائل واضحة، ولله الحمد، وما تناقض عنده فليس بمتناقض. و [من سأل] عن علل مذاهب مالك أهل العناية بها وقف على كثير مما أنكر. ويدل عـ[ـــلى] غفلته أنه أقام الأب في مال ابنه الصغير كالأجنبيين، حتى [استدل] بقول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وقول

الرسول عليه السلام: "ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" ولا خلاف أنه بخلاف الأجنبيين في ماله، وأنه تخصه منه خاصة الولاية عليه. وما الذي حرم عليه أن ينقل مال ولده إلى ملكه، بمبايعة أو معاوضة، يوجبها له قبله، أو يأكل منه إن كان فقيرا، والأجنبي لا مدخل له في هذا. فكيف أدخل الأب مد [خل] العموم في الآية وفي الحديث الذي ذكر. وقد أجمع علماء الأمصار- لا يختلفون – أن للأب الملي أن يشتري عبد ابنه الصغير لنفسه من نفسه، بحق ولايته، من غير غبن ولا سوء نظر، فيجوز له ذلك في الصغير، لا خلاف في ذلك، ولا يجوز له ذلك في الكبير، لزوال الولاية عنه. فما الذي استبعدت من تفريق مالك بين الصغير والكبير، وهذا نكير البدية قبل التأمل. أرأيت الأب، أليس له أن يبيع عبد ولده الصغير من رجل، بدين، يجعله له [في] ذمته؟ فإذا جاز ذلك، جاز له أن يبيعه من نفسه لولده بدين يكون ذمته، كذلك هو حين تزوج بهذا العبد فقد نقل ملك العبد إلى ملكه، أن أصرفه في مصالحه، وأعطا في بضـ[ــع] [] [مـ]ــن عقد [] غبن علـ[ــيه] فيه، وهذا كالذي أجمعوا عليه من شرائه لمال ولده، ثم إذا حدث على الأب عد [م] بعد كبر الصبي، لم يكن

حادث العدم يبطل ما جرى أولاً على الصحة، كما [لو أن] اجنبيا حدث عليه عدم بعد أن باع منه لابنه بيعا، فليس له إن كبر أخذ العبد من مبتاع ابتاعه من ذلك المشتري، الذي حدث عليه العدم، فكذلك الزوجة مبتاعة ببضعها لعبد أدخله الأب في ملكه با [بتياعها] له. فما الذي استبعدت من هذا؟ أو هو أقرب إلى أحكام الكتاب والسنة مما احتججت به، لإقامتك الأب في مقام الأجنبيين، ممن لا مدخل له في [ذلـ]ـك أولا بوجه ولا سبب، ولا يجري له عليه حكم في نفسه ولا في ماله ولا في عقد شيء عليه، وهذا كلام لا يقوله من ألقى السمع وهو شهيد. وقد جرى في باب الأب يطأ أمة ابنه دلائل تدل عى خصائص خص بها الأب في ولده، من الكتاب والسنة وقول السلف فليتأملها الناظر فيـ[ـما] [سلف] لبابين. ومع ذلك فإن الأب في هذا معاوض لولده ليس له [أن] يبيح ماله دونه؛ لأنه أشغل ذمة لولده بعوض ما أخذ من ماله، وهذا كالمبايعة، فليس في هذا فساد ولا تعد. ومساواتك للأب [في] ابنه الصغير بالأجنبيين عدول عن الحق، وجهل بالأصول، ومن خصائصه أن يده في مال ولده حاكمة بالمبايعة، والمعاوضة وغير ذلك، ويزوجه قبل بلوغه، ويعتصر ما وهب له، على حديث النعمان بن بشير

وغيره، ويكون مسلما بإسلامه، ويرميه بحديدة فيقتله فلا يقتل به، حتى [يضجعه] ويذبحه، ويأكل من ماله في عدمه، ويدرأ عنه الحد في وطئه أمته، [كما ذكرنا] في الباب الذي قبل هذا. وقوله فيما روى " أنت ومالك لأبيك": إنه لا يثبت، فليس كذلك، وقد ذكرناه في باب وطيء الأب أمة ابنه، [وهو حديث] ثابت من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال ابن معين: رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة.

وقد ذكرنا ما أخرجناه [من أحكام] هذا الحديث بإجماع، وما بقي من معانيه، بما يظهر لمتأمله أن [رأينا بين]. وقوله: لم فرق بين صغير وكبير؟ فأما في الأكل عند الحاجة من ماله [ودرء الحد عنه] في وطيء إمائه، ومن أخذه مستترا من ماله فذلك فيهما سواء، وأما البيع عليه والشراء، ونقله ما يملك إلى الأجنبيين أو إلى نفسه مما ينتهي إلى العاوضة، فهذا جائز فيمن يلي عليه من ولده لأن الولاية عـ[ـليـ]ـه أوجبت ذلك. ولا يجوز فيمن لا يلي عليه منهم، لأنه فيه متعد مضار، [ولا يحكم] [في ذلك] بحد، فيدرأ بشبهة قامت، ولا نفقة وجبت، فيعذر بها. وقولك: [إذا كان المال] للأب، فلم جعلتموه للابن؟ وإن كان للابن فلم جاز فعل الأب فيه؟ وأنت في هذا غائب عن المعنى، وذلك أن الملك – كما عرفناك – للولد، وإنما أخذه أبوه لمنافعه بمعنى المعاوضة لا على الفساد فألزمناه العوض [لما بيده] وأجزنا فعله عليه فيما عاوضه فيه، لأنه ممن لا تدركه ظنة في خاصة ولايته عليه، فهو يبتاع لنفسه من مال ولده، كما يبيع له من غيره. فإن قلت: أرأيت إن كان الأب غريمًا.

قيل لك: إن كان العدم حدث به، فهذه [] لا حجة لك بها، وإن كان [] واجبة مع ما فيه من الاختـ[ـلاف] [] [كان] مالك يذهب إلى أن على الابن – مع النفقة على والده – أن يزوجه وينفـ[ـق] على زوجته، ويتأول أن الزوجة من قوام أمره. ففي هذا التأويل لا ر [جوع] للولد فيما يزوج به الأب إذا كان نكاح مثله من غير سرف. والقو [ل] الآخر: أنه ليس عليه ان يزوجه. فمخرج هذا القول أن له أن يبتا [ع] من ماله بغير نقد، ويجعل ذلك له في ذمته، كما له أن يبيـ[ـع] له من الأجنبيين بغير نقد.

ولا يكون أسوأ حالا من الأجنبي، مع قوة أمره في ولده في غير شيء فلذلك لم يساو به الأجنبي في هذا. وقد روى عن مالك أنه إن تزوج به وهو عديم يومئذ، فللابن أخذه من الزوجة ما لم يدخل الأب [بها]، فلا يكون له ذلك، لأنه ها هنا قبض العوض فيه، فكأنه باع عبد ابنه بعوض أفاته وأتلفه بعد أن قبضه، فهو المتبع بذلك، دون المبتاع، هذا مخرج هذا القول، والله أعلم. وقد قال بعض أصحاب مالك وهو ا [بن] الماجشون: إذا كان الأب يوم تزوج به عديما، فالولد إذا بلـ[ــلغ يرجع] به دخل بها أو لم يدخل. فهذا ما في ذلك من اختلاف القول عن مالك وأصحا [به]، فيما علمنا، لما يتصرف به التاويل، من أمور الأب، وخصائصه التي ذكرنـ[ـا]. وأنت غير خبير بأقاويل مالك وأصحابه، وعلى ما بنوا [عليه]، أصولهم.

وقولك: إن أعتق عبدا لولده الصغير عن نفسه لم جاز ذلك، ولزمـ[ـته] قيمته، وإن كان كبيرا لم يلزمه؟ فهذا أيضا من باب البيع عليه من نفسه، لأن عتقه إياه عن نفسه إدخال له في ملك الأب ليملك ولاءه، وهـ[ـو] جائز أن ينقل من ملك ولده، إلى ملكه بعوض، لا خلاف في معاوضته ابـ[ـنه] [على ما] نقل إلى ملكه من هذا العبد بالعتق، الذي [عتق، فصار] إليه ولاؤه، ولزمته قيمته، لجواز بيعه وشرائه عليه وله. ولما لم يجز له ذلك [في ابنه الكبير] من بيعه عليه وشرائه لا لنفسه ولا لغيره، فكذلك عتقه لعبده لم نر ذلك له، فافترق الصغير من الكبير لهذه الوجوه. وأما قولك: ما الفرق بين عتق عبد ولده الصغير عن نفسه وصدقته ماله وهبته إياه للناس؟ فالفرق في هذا واضح إن شاء الله، وذلك أن العتق أدخل به الأب على نفسه تمليك شيء تعجله، وهو ملك الولاء وإنفاذه العتق عن نفسه، فذلك مثل [بيعه لنفسه] من مال ولده، وله أن يملك مال ولده الصغير بالمعاوضة، فأجزنا ذلك وألزمناه القيمة. وأما الهبة والصدقة، فإنما أخرج ذلك من ملك ولده إلى ملك غيره بغير عوَ، لولده ولا لنفسه عاجل ولا آجل [و] لا يستوي نقله لشيء إلى ملكه ومنافعه، فيكون عليه عوضه، وأن يهب شيئا من مال ولده لغيره، ممن لم يأخذ ذلك على عوض ولا رضية به، ولا هو اختار المعاوضة فيلزمه، ولا الأب ناقل له إلى ملك نفسه باختياره، فتلزمه القيمة. وقولك: إن جاز العتق لأنه يضمن عوضه، فضمنوه الصدقة وأجيزوها، وإن بطلت الصدقة لأنها ليس بشيء تافه فأبطلوا العتق، لأنه ليس بشيء تافه.

فقد عرفناك علة إلزامنا إياه العتق، لأنه تعجل تمليك شيء لنفسه من مال ولده، وقد دللناك أن للولد أن يدخل في ملكه من مال ولده ما يكون عليه عوضه. وأما ما تصدق به، فلم يتملك به شيئا فيشبه ذلك المبايعة [فيجب] عليه عوضه، وإنما أخرج شيئا من ملك ولده إلى ملك غيره [دون عوض]، والعبد ملك نفسه، فيملك منه رقه أو ولاؤه. فلا يتقارب ما ساويت بينه، فضلا عن أن يتساوي [معه]. وقولك في التفريق بين التافه وغيره: ولم جاز العتق وليس بتافه؟ فقد عرفناك عن العتق، والفرق بينه وبين الصدقة. وفي لحن قولك أن مالكا لا يرى على الأب شيئا في صدقته بالتافه من ماله. فالذي عندنا من قول مالك أنه روى عنه ابن القاسم، أنه قال: الذي أعرف من قول مالك، أن يجوز عقته من مال ولده إن كان موسرا، يريد عتقه عن نفسه، ويضمن القيمة، ويجوز بيعه وشراؤه عليه موسرا كان أو معسرا، ولا يجوز [هبته في] ماله كان معسرا أو موسرًا.

ولم يفرق في روايته بين تافه وغير تافه، ولم يرو ابن القاسم ما ذكر في الصدقة غير هذا، وقد ذكر عن مالك أنه قال في التافه: إنه يمضى في الصدقة ويتبع به الأب، وهذا يدخل مدخل الاستحسان في يسير ذلك. وأما على أن الأب لا يضمن ذلك، لا علم لنا بهذا الذي نسبت إليه. ولو صح ذلك لكان نحو ما يتصدق الوصي عنه لا عن نفسه، بالتمرة والكسرة، وهذا من باب الاستحسان، وقد استخف شربه للبن من غنمه و [صدقه] في أكله من ماله، إن كان الوصي فقيرا، وللأب والوصي في ماله خدمة وعنا [ية] غير قليلة. وبقي - من الإدخال علينا – سؤال لم يقع لك، ونحن نقيمه لك، فنقول: فإن قلت: ما الفرق بين ان يتزوج بعبد ابنه الصغير – والأب عديم – فيمضي ذلك، وبين أن يعتق عبد ابنه – وهو عديم – فيرد، والعتق آكد في الأحكام؟ قلنا: لأن من أصولنا أن من أعتق وعليه دين لا وفاء له أن عتقه رد. فالأب لما أدخل العبد في ملكه، وأعتقه عن نفسه، صارت ذمته بقيمته مشغولة، فقد وقع عقته، وعليه دين ولا وفاء له، فلذلك ردد [نا] العتق.

والمديان الذي أحاط به الدين يجوز له النكاح وإن أحاط به الدين، ولا يرد ما أمهر زوجته، لا أعلم في ذلك خلافا، [لأ] نه من قوام أمره، ولا حاجة به إلى العتق. وهذا وقد ذكرنا ما جرى من اختلاف أصحابنا في تزويجه بمال ولده، والأب عديم. وأما الاعتصار في هبة الأب وما تقدم من نكير هذا الرجل إياه، فهو قول مالك والشافعي معه، وإن كنت ترجمت كتابك بـ: " مسائل اختلف فيها مالك والشافعي". وقد جرى لك مثل هذا كثيرا، كأنك لم تدر ما اتفقا فيه واختلفا، وإن كنت رجلا يرهب الشافعي عن المواجهة بالرد، وخف عليك ذلك في مالك أن تجعله غرضا لتجاوزك في لفظك وبلوغ شهوة نفسك. فليتك تحريت الصدق في ألا تذكر أنهما مختلفان فيما هما في كثير منه متفقان، فقد جمعت إلى هذا عيب الجور والحيف في صيانة الشافعي عن ردك، بل عن المحذور من

قبيح لفظك، وقابلت مالكا بكل ما كرهته للشافعي، فجمعت معرتين ضارتين، لا نعلم من أهل العقول والإنصاف من يرضى بهما. وذكر الاعتصار مما جاءت به الآثار عن النبي عليه السلام، وقاله الخلفاء وكثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم. أنا محمد بن عثمان، أنا محمد بن أحمد المالكي، نا إبراهيم الحربي، نا مسدد، نا يزيد بن زريع، نا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاووس، عن ابن عباس وابن عمر، عن النبي عليه السلام، قال: لا يحل لأحد يعطي عطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي لولده. قال [مسدد] [نا عبـ]ــد الوارث، نا عامر الأحول، عمن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام نحوه، إلا أنه قال: يهب. قال ابن معين: ورواية عمرو بن شعيب، عن ابيه عن جده حجة. وقد ذكر [نا] روايته إياه، عن طاووس، عن ابن عباس وابن عمر، وأخذ بهذا مع الشافعي أبـ[ــو] ثور، واحتج بهذا الحديث، وهو حديث صحيح ليس بمرسل كما ذكر هذا الرجل. وفي الحديث الآخر، الذي رواه مالك وغيره، من قول النبي عليه السلام لأبي النعمان بن بشير، حين نحل بعض ولده دون بعض، فقال له عليه السلام: أكل ولدك نحلته مثل

هذا؟ قال: لا، قال: فارجعه، فقد أباحه الرجوع فيما وهب له، وهذا هو الاعتصار نفسه. أنا محمد بن عثمان، أنا محمد بن أحمد المالكي، نا إبراهيم الحربي، نا محمد بن عبد الملك، نا عبد الرزاق، نا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: كتب عمر بن الخطاب: يعتصر الرجل من ولده ما أعطاه، ما لم يمت أو يستهلك أو يقع فيه دين. نا أبو بكر بن محمد، نا يحيى بن عمر، [نا] سحنون، عن ابن وهب، نا ابن لهيعة، نا يزيد بن أبي حبيب، أن موسى بن سعيد حدثه أن سعدا مولى آل الزبير نحل ابنته جارية، فلما تزوجت أراد ارتجاعها، فقضى عمر: أن الوالد يعتصر ما دام يرى ماله ما لم يمت صاحبها، فتقع في ميراث، او تكون امرأة فتنكح. ومثل ذلك عن عثمان بن عفان. نا محمد بن عثمان نا محمد بن أحمد نا الحربي نا مؤمل بن هشام، قال/ نا إسماعيل عن إبراهيم بن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، أن أباهم حيدة كان له بنون لعلات أصاغر [وكان له مال كثير]، فجعله لبني علة واحدة، فقدم ابنه معاوية [عثمان]،

فأخبره، فخيره عثمان بين أن يرد إليه ماله، وبين أن يوزعه، بينهم فارتجع ماله، فلما مات تركه [الأكابر لإخوتهم]. وكذلك قضى عمر بن عبد العزيز، وعبد الملك بن مروان، وعليه الأمر والقضاء بالمدينة. وهو قول كثير من التابعين بالأسانيد المرضية، وأكره التطويل فيما في بعضه مقنع، وقد ذكرنا أنه ثابت للنبي عليه السلام وأنه قول عمر وعثمان. وقاله من التابعين ابن المسيب وعروة وسليمان بن يسار و [] بن حبيب وعمر بن عبد العزيز وأبو الزناد وأبان بن عثمان والزهري وعبد الملك بن مروان والقاسم وسالم وعطاء ومجاهد وابن أبي مليكة ومسروق والشعبي وإبراهيم والحسن ومحمد – يعني ابن سيرين – وخالد بن معدان وابن شبرمة.

هؤلاء وغيرهم يرون الاعتصار، ويفتون به. فهذه السنة الثابتة، وأقاويل الصحابة وتابعي الحرمين والعراقين، فأين المذهب عن هذا؟ واحتجاجك بحديث ابن عباس: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه "، فهو الراوي لحديث الاعتصار كما ذكرنا مع حديث النعمان بن البشير. وهذا لا يتعارض، ويصير الأب مخصوصا من سائر الواهبين، كما خص في ولده بأمور كثيرة، لا يساويه فيها أحد، قد ذكرنا كثيرا منها. وقولك: لم كان له أن يعتصر ما لم ينكح الابن على الهبة، أو يستحدث دينا؟ فإن كان له الرجوع، فذلك في كل حال، وإن لم يكن ذلك له، فلا رجوع له في كل حال. فقد أعلمناك أنه قول عمر بن الخطاب - كما رويناه لك – وكثير من السلف، وكتب بمثله عمر بن عبد العزيز، وقضى به مروان، وقاله عطاء ومكحول، إلا أن ينكح أو يموت، وقاله كثير من أهل المدينة. والاعتبار فيه بين، لأن الناس – في الأغلب – إنما يداينون ليسارهم، ويناكحون لذلك، ولو علنا [له] [الاعتصار بعد] أن اغتر به الناس في مداينة الابـ[ــن] ومناكحته، []ــق الخلابة في تلـ[ــف] أموال الناس، وفي ترك الأب للاعتصار حتى وقعت المداينة والمناكحة، كالتسليم للاعتصار، وإلا فهو من الخديعة، وقد نهي عن ذلك الرسول عليه السلام.

وهذا مما يحكم فيه بالعلامات الادلة [في] الأغلب على مقاسد الناس. وبمثل ذلك قضى عمر في تفصيل ما يراد به الثواب من الهبات من غيرها بالأغلب من أحوال الناس، في قوله: من وهب هبة يرى أنها للثواب، فهو على هبته ما لم يرض منها، ومن وهب هبة لصلة رحم أو على وجه الصدقة لله، فلا يرجع فيها. وكذلك قاله علي بن أبي طالب وابن عمر وغيرهم من الصحابة والتابعين. وقاله عطاء والنخعي وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبيب والحسن والزهري وربيعة وبكير والحسن بن صالح والمشيخة السبعة من فقهاء تابعي أهل المدينة في نظرائهم. وهذا المعروف من أقاويل العلماء، والأصول تشهد له، وهو قول الشافعي والعجب من قولك: وهذا غير مفهوم ولا معقول. ولعمري لو فهمت استنباط هؤلاء السلف للمعاني، وتكلمت في العلم بمعانيهم ما دفعته، ولكن سلكت في تلقي الأمور والاستخراج فيها غير طريقهم. والحكم بالأظهر من المعاني عليه جرت الأصول. منها أن من قتل وارثه لا يقبل منه أنه لم يرد ميراثه. وكذلك من جمع بين مفترق وفرق بين مجتمع بقرب مجيء الساعي، لا يصدق أنه لم يفعل ذلك خشية الصدقة.

وكذلك من وهب لولده هبة وأبقاها بيده إلى موته، لا يصدق أنه لم يرد الإزواء عن باقي ورثته. ومنه المطلق في المرض. وكذلك من قال لرجل: أعطني درهمين وخذ مني درهما على أن أحد الدرهمين يتجه بدلا والآ [خر] هبة منك لي، لا يقبل منهما انهما قصدا لغير الربي. وكذلك ما قلنا من بيوع الآجا [ل] من هذا المعنى. ومن الحكم بالأغلب الحكم بالقمط في الجدار، وبالعـ[ــفاس] في اللقطة وإن أمكن غير ذلك. ونحو هذا أجرنا الحكم بالأغلب في متاع [البـ]ـــيت، في تداعي الزوجين فيه عند الطلاق. ومن ذلك شراء الصدقة، جعلها [عمـ]ــر كالرجوع فيها، وإن كانت شراء. وإن خالفتنا في غير شيء من هذا، فإن هذه أصول السلف، وما دلت عليه السنن وشواهد الكتاب. ولا وحشة علينا بشذوذ من شذ عن هذه الأصول، والمتعلق بالشواذ يتفاحش عند التأمل، والله المستعان على القصد والاتباع، ولا قوة إلا به.

في المسلم يطلق النصرانية ثلاثا، هل يحلها الزوج النصراني، وفي طلاق أهل الكفر، ونكاحهم وإحصانهم

في المسلم يطلق النصرانية ثلاثا، هل يحلها الزوج النصراني، وفي طلاق أهل الكفر، ونكاحهم وإحصانهم وأنكر هذا الرجل قول مالك في النصرانية، يطلقها المسلم ثلاثا، ثم تتزوج نصرانيا، فيطؤها ثم يطلقها، إنه لا يحلها للمسلم. قال: وهذا خلاف ظاهر القرآن، لقوله سبحانه: {حتى تنكح زوجا غيره}، قال: وهو عنده زوج في حال دون حال، إذا أسلم أو أسلما ابقاه على نكاحه، فجعل نكاحهم نكاحا ولم يجعل طلاقهم طلاقا، وهما فرضان، أحل بها وحرم، فما بال أحدهما يلزم في حال الشرك والآخر لا يلزم؟ في فضول من الكلام وما لا يرضى أن ينطق به ذوو الأحلام، وربما تركت حكاية كثير منه. قال: لو أن قائلا جسر على ما جسر عليه مالك، فقال: إن عقد نكاح الشرك غير جائز وطلاقهم جائز، هل الحجة عليه إلا كهي عليه. وهذا كلام تجرأ به، يعبر به وبمثل هذا من نطقه، عن مكانه من التحفظ في دينه، ومن نسب مالكا إلى التجاسر في دين الله فقد خان نفسه في دينه.

ومالك مشهور في الأمة أنه أشد أهل زمانه ورعا في الفتيا، قال البهلول: لقد رأيت الرجال الذين يتمسكو [ن، سفيان] فدونه، فما رأيت أورع في فـ[ــتياه] من مالك، وقال مالك: ما تكلمت برأيي إلا ثلاث مسائل ذكرها. وهذا رجل يتكلم كلام من لا يراقب في منطقه. والذي قال مالك لا [يخالف] ظاهر القرآن والسنة، فأول ذلك أن في نفس الاية دليلا على ذلـ[ــك] في قول الله سبحانه: {حتى تنكح زوجا غيره}. فلا يعدو أشار بذلك عز وجل إلى زوج بنكاح جائز مباح، أو أشار إلى كل نكاح، جائز أو غير جائز. فإن قلت: إلى كل نكاح، لزمك أن تحلها بنكاح المتعة، ونكاح المحرم، والنكاح [في] العدة، وكل نكاح ووطء قد نهي عنه، وكذلك نكاح المحلل، وهذا كله خروج من قول العلماء.

هذا ونكاح المحلل وغير شيء مما لا يقرا [ن] عليه يقوم مقام الشبهة، فيلحق فيه الولد، ويسقط الحد، ويجب الصداق للوطء فيه. فإن قلت: بل أشار سبحانه بالتحليل بما رضي وأحل من النكاح، سئلت عن النصراني، هل يستحل في نكاحه ما حرم الله، من النكاح بالخمر أو الخنزير أو بالغرر وغيره، وسفاحا غير نكاح، وفي العدة والأخت على الأخت، والخامسة، وغير شيء مما لا يرضاه الله ورسوله.؟ فإن قلت: إن الرسول عليه السلام أبقاهم – بعد إسلامهم – على النكاح الأول، فدل أن نكاحهم جائز. قلنا: هذا موضع الغلط منك ونكتة ما به تحيرت. وذلك أنا إنما اختلفنا في نكاحهم قبل إسلامهم، فأقمت أنت ذلك كمقامه بعد الإسلام، وهذا فاحش من الغلط، لأنك مقر أنهما قد عقدوه على عقود فاسدة، ثم حدث الإسلام، وأصلح الله لهم بالإسلام ما تقدم من الفساد، وعفا عنه بحادث الإسلام، فالإسلام به صلحت [أنكحتهم التي كانت فا] سدة. فأنت قست حكم نكاحهم بعد الإسلام [على نكاحهم] قبل الإسلام، وذلك أنك لا [تعثر] على نص بصحة نكاحهم قبل الإسلام وإنما النص في نكاحهم بعد حادث الإسلام.

فبعد عنك النص وتعلقت بالقياس، والقياس عندك باطل وقد قست علي ما لا يشبه ما قسته عليه. ومما يزيد ذلك بيانا أن النبي عليه السلام أمر غيلان الثقفي – حين أسلم عن عشر نسوة – أن يختار أربعة، وهو حديث ثابت رواه الزهري عن سالم عن أبيه، وهو من غير رطيق ثابت. وأمر فيروز الديلمي، حين أسلم عن أختين، أن يختار واحدة. فلو كان نكاحهم عند الرسول عليه السلام بمحل النكاح الجائز قبل أن يسلموا كما ظن هذا الرجل لكان الرسول عليه السلام يأمر غيلان الا يختار إلا اربعة الأوائل، لأنهن الجائزات النكاح، والذين بعدهم غير جائز نكاحهن. فقد جعل له عليه السلام الخيار في الأوائل والأواخر وهذا يكشف كل ريب.

فإما أن تقول: إن نكاحه قبل الإسلام فاسد، وإنما صح بالإسلام، فترجع عن قولك في إيجاب الطلاق فيه، والحصانة به. أو تقول بقول أبي حنيفة، الذي قال: لايختار الخامسة، فهو أقود لقياسه وغلطه منك. والله سبحانه إنما غفر لهم بالإسلام ما قد سلف، من تلك العقود الفاسدة وغيرها، فكيف تكون تلك العقود الفاسدة – التي إنما غفرت بالإسلام – توجب أحكام الإسلام، قبل أن يكون الإسلام الذي به غفرت وصلحت وصحت؟ وإذا كانت قبل الإسلام غير موصوفة بصحة العقود، فأحكامها يومئذ ساقطة.

وقد أجمعوا أن الله سبحانه إنما اشار إلى ان تحل المتبوتة بالنكاح الصحيح الذي يرضاه. فكذلك ينبغي ان تكون إشارة الرسول في قوله: حتى تذوق العسلية، أنه الوطء الصحيح الجائز. ولا يجوز [أن يكون النبي عليه] السلام أشار إلا إلى الوطء الصحيح [لا الفاسد] [والصـ]ــحيح، [وصار] [منه عليه] السلام بيان عن مراد الله تعالى في قوله: {حتى تنكح زوجا غيره} أنه النهاية فيه بالوطء بعد العقد.

فكذلك تتكامل النهاية مع صحة العقد والوطء الصحيح، فلما قامت الدلالة بفساد نكاح المشركين، وهذا إنما يصح بالإسلام، فكذلك الوطء فيه، لأن الوطء فرع من فروع النكاح، وإذا لم يجب للأصل حكم فالفرع أبعد ان يجب به حكم التحليل. وكذلك الطلاق، لا يصح في النكاح الفاسد. ويقال له: أرأيت إن قيل لك – على معنى اصولك – هذه المرأة محرمة على الذي أبتها، حتى تنكح زوجا غيره؟ والآية ظاهرها أن الإشارة إلى زوج بعقد جائز، فهي على أصل التحريم حتى يُجتمع على إباحتها، أو يقول دليل لا إشكال فيه ولا ريب، ولا إشكال أقوى مما دفعته الأصول بظاهر القرآن والسنة. والدليل الذي لا ريب فيه يوجب ما قلنا، على ما شرحنا قبل هذا. ويقال له: أرأيت إن تزوج نصراني نصرانية في عدتها ثم أسلما – وعدتها بعد لم تنقض – فلا خلاف أنهما لا يقران على ذلك. فلو كان نكاحهما من يوم عقد جائزا لأقرا الآن على هذا النكاح، فهذا يدل [أنه] إنما أجبر بالإسلام.

فهذان لما أخذهما الإسلام على أمر فاسد، يبقى بعضه بعد الإسلام وليس مما هو جائز في الإسلام فسد. ولو كانت العدة قد انقضت قبل الإسلام لمضى النكاح، إذ لم يدرك الإسلام منه بقية مما فسد به النكاح. وكذلك لا خلاف أنه لو أسلـ[ـم] وقد تزوج خمسة في عقدة، أو أختين في عقدة، أنه لا يقر نكاحهـ[ــن] كلهن، ولا [] لا يدفعن عقد الشرك بما يبقى [] الإسلام. فهذا كله يكشف ما ذكرنا. وكذلك لو أسلم المتبايعان بالربا وقد تقابضا الربا لمضي ذلك وصح بالإسلام، ولو أسلما وقد بقي لم يتقابضاه لرد ذلك، ولم يجز أن يتمما بقيته بالتقابض بعد الإسلام. أو اشترى خمرا وقبضها قبل الإسلام. ولا يجوز أن يقال: إن عملهما فيما عقدا من الربا وبيع الخمر أنه كان جائزا قبل أن يسلما وإنما جوز بالإسلام. فأين أنت أيها الرجل عن تأمل هذا من استحراج السلف والافتقار إلى سعة علمهم، ولا ترضى نفسك للنكير عليهم، ثم تقنع بأول خاطر من بدية الفكر، قبل تأمل ما تسلك من الطرق ومن لم يستجد المسالك وقع في المهاوي. ولو سلكت سبيل من اتبع سلفه بإحسان حذرت من الزلل، واقتصدت في المنطق، وأنزلت الأئمة منازلهم.

والتحريم آكد في الأصـ[ــول] من التحليل، لأن الله سبحانه لما قال: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم} حرم علينا ما نكح الآباء بأقل ما لزمه الإسم، وهو عقد النكاح دون الوطء. وقال في المبتوتة: {حتى تنكح زوجا غيره}، فلم يبح ذلك الرسول إلا بنهاية الأمر، وهو العقد والطء. فكذلك لا يستباح إلا بالنهاية من عقد صحيح ووطء صحيح، لو لم يكن في ذلك بيان شاف لكان أدنى منازل ذلك الشبهة والإشكال. ولا يستباح المحرم بيقين إلا بيقين من الإباحة، وليس من يقف عن الشيء بالشبهة كم يواقعه بالشبهة، في يقين السلامة، فلا تستمريء مراتع الشبهات إن لو كانت شبهات فكيف وذلك كالصريح المحض. وأما قولك: النكاح والطلاق فرضان أحل بهما وحرم. فهذه عبارة قبيحة في قولك: فرضان، ولا يجوز هذا، إنما يقال: النكاح والطلاق مباح، وليس فرض على الرجل أن يتزوج، ولا إذا تزوج فرض عليه أن يطلق، ولا يجوز أن تكون أفعال النصراني لفعلها، بغير شريعة صحيحة، فتقيم بها للمسلم ما يحل له ويحرم من شريعة الإسلام. وقد قامت الدلالة بفساد نكاحهم، فلا يصح فيه طلاقهم، ولا تتم به الحصانة، وهو غير صحيح.

ولا يصح طلاق قبل صحة النكاح، ولا يصح إلا بالإسلام فتكون فيه بعد صحته، بالإسلام أحكام النكاح بالطلاق والحصانة به. ومن شرائط الحصانة الإسلام والوطء الصحيح في النكاح الصحيح، وما لزم في ارتفاع الإحلال بنكاحهم لزم مثله في الإحصان. وتجاسر هذا الرجل فقال: يقع بينهما الإحصان بمتقدم الوطء قبل الإسلام غير أن يحدثا وطئا بعد الإسلام، ونرجمهما بذلك إن زنيا. والنكاح إنما صح بالإسلام، فبه صح النكاح، وبقي عليهما أن يكون منهما وطء في نكاح صحيح، فلابد من الوطء بعد الإسلام لتكامل الوطء الصحيح بعد صحة النكاح، على ما تقدم من دليلنا. واحتج هذا الرجل برجم النبي لليهوديين، ونحن نجيبه عن ذلك. والذي ذكرنا من إبطال طلاق أهل الشرك، وأن أحكام نكاحهم لا تصح إلا بعد الإسلام وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله. نا أبو بكر بن محمد، نا يحيى، نا الحارث بن مسكين، نا ابن وهب، نا شيب بن سعيد عن يحيى بن أبي أنيسة الجذري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبيد الله بن جابر

عن عمر رحمه الله، وجاءه سائل، فقال: يا أمير المؤمنين إني طلقت امرأتي في الجاهلية ثنتين، ثم طلقتها منذ أسلمت تطليقة فماذا ترى؟ فقال عمر: ما سمعت في هذا بشيء [وسيدخل عليك رجلان فسلهما فدخل عـ]ــبد الرحمن بن عوف، فقال عمر: قص عليه قصتك، فقص عليه فقال عبد الرحمن: هدم الإسلام ما قبله، فهي عندك على [طلقتين] ثم دخل علي بن أبي طالب، فقص عليه، فقال علي مثل قول عبد الرحمن: هي عندك على تطليقتين بقيتا. نا محمد بن عثمان، نا ابن الجهم، نا محمد يعني ابن شاذان، نا المعلي نا ابن لهيعة، نا أبو الزبير، أنه سأل جابرًا عن ذلك بعينه، فذكر مثله. وقاله الحسن وربيعة: ليس طلاق الشرك بشيء. قال ربيعة: ولا يحل المبتوتة النصرانية وطء الكافر بنكاح. وهذا أمر قائم مشهور من قول التابعين بالمدينة، ومن أخذوه عنه من الصحابة، وما ذكرنا من دلائل الكتاب السنة عليه. ومن ذلك نهي النبي عليه السلام عن نكاح الملل. أنا محمد بن عثمان نا محمد بن الجهم، نا محمد بن شاذان، نا معلى، نا عبد الله بن جعفر المسوري، نا عثمان بن محمد، عن المقبري، عن ابي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن الله المحلل والمحلل له.

قال معلى: نا عبيد الله بن عمرو، نا عبد الكريم الجزري، عن أبي واصل، عن ابن مسعود، أن النبي عليه السلام لعن المحلل والمحلل له. ورواه أيضا عن النبي عليه السلام علي وابن عباس وأبو سعيد مولي ابن سباع وعقبة بن عامر، وأكره التكثير بالأسانيد. نا أبو بكر، نا يحيى، نا الحارث عن ابن وهب نا يونس، عن ابن شهاب أنا عبد الملك بن المغيرة، عن ابن عمر، ذلك السفاح. وقاله علي بن أبي طالب وعمر وابن عباس وابن مسعود وأبو هريرة، وعقبة بن عامر، وغيرهم من الصحابة.

وأما من التابعين فما لا أحصيهم كثرة من تابعي الحرمين والعراقيين. فهذا على أنه نكاح شبهة، يدرأ فيه الحد، لا تحل به المبتوتة. فلو كان ما يكون له أدنى أحكام النكاح يوجب الإحلال وجب الإحلال بهذا وهذا دليل أنها لا تحل إلا بالنهاية والكامل، من صحة العقد والوطء وأما قولك: هل هو زوج أم لا؟ فقد عرفناه معنى تلك الزوجية، وأنها إنما صححها الإسلام والمحلل قد وقع عليه اسم زوج قام به شبهة، من دراءة الحد، إلحاق الولد، وإيجاب الصداق وليس بأمر متكامل من الزوجي وأيـ[ــضا] ما يدخل فيه من نقص الزوجية لدى الطفل يزوج، أن به الاسم من النكاح والوطء، وهذا الصبي زوج ولا تحل بوطئه، وليس بمتكا [مل] الوطء. وكذلك النكاح الفاسد صار به للزوج اسم الزوجية ولا [يقع به] التحليل عند العلماء، فلا معنى لقولك: هل هو زوج أو غير ذلك. وشيء آخـ[ـر] لو كان نكاح الشرك نكاحا صحيحا قبل أن يسلموا، يجب به التحليل، ويجب الحصانة بعد الإسلام لوجب في الحربي يقتل أو يموت، ثم تسبي بعد ذلك زوجته أنه لا يجزيء في استبرائها حيضة.

وكذلك إن سبيت وهو حي، لأن السبي فسخ نكاح صحيح عندك، كما ذكرنا، فلا يجزيء فيها حيضة، والنبي عليه السلام قد أباحها بحيضة، وهذا من الدليل أنه لا يجب له أحكام النكاح. ولو كان كذلك، وجب فيه ما يجب في الطلاق من العدة لأن فسخه بالسبي كالطلاق عندك. ولا حجة لك بأنها انتقلت من النكاح إلى ملك، لأن انتقالها إلى ذلك الملك أوجب فسخ ذلك النكاح، فأقل ما يلزمها عدة الأمة من الطلاق على أصلك. ولو كان ما ذكرت له معنى لكانت، إذا خرجت من ملك إلى حرية، عليها ثلاث حيض. وتجاسر هذا الرجل، فقال يكونان محصنين بعقد الشرك والوطء فيه، واحتج بأن النبي عليه السلام رجم اليهوديين، قال: فكان ذلك منهما إحصان. وهذا منه ظن، والأمر على خلاف ظنه، وإنام أقام النبي عليه السلام بينهم حكم التوراة، حين رضوا بها، وكتموا ما فيها من آية الرجم، فاستخرج ما كتماو منها من الرجم، تقريعا لهم بما جحدوا، وقال: اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه.، وأقام عليهم ما رضوا بالتحاكم إليه فيه.

وكذلك روى مالك في الموطأ، والحد يومئذ عـ[ــلى المسلمين الجلد] قبل أن يفرض الرجم كذلك قال ابن عمر، وهو ناقل القصة، []. نا محمد بن عثمان، نا محمد بن أحمد المالكي، نا إسماعيل نا أبو الخطاب، نا حاتـ[ــم بن وردان نا] أيوب عن نافع، عن ابن عمر، أن اليهود جاؤوا برجل وامرأة إلى النبي عليه السلام فقالوا إن هذين زنيا [] وكانت الحدود بين المسلمين الجلد، فقال لهم: كيف تجدون التوراة؟ قالوا: نجد أن نفضحهم وكلمه [] ونجلد فقال النبي عليه السلام: إن فيها الرجم، ثم ذكر نحو حديث مالك. وفي حديث آخر: فقال عليه السلام: اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه، فدل أنه رجمهم توبيخا لهم، لجحدهم، وبان بما ذكرنا أن الرجم لم يكن يومئذ مفروضا. قال محمد بن الجهم: وما روى عن ابن عباس [بأنه رجمهما] وقد زنيا بعد إحصانهما، حديث لا يثبت.

وقد نا موسى بن إسحاق نا عبد الله نا وكيع عن شعبة عن عمرو يعني ابن دينار عن ابن عباس، قال: ليس على أهل الكتاب حد. وبعد، فإنما خوطب بتحريم الزنا المؤمنون، ولا يخاطب الكافر بتحليل ولا تحريم يكون قبل الدعاء إلى التوحيد، وأمرنا أن نقرهم على كفرهم، مع أخذ الجزية على بقائهم على الكفر، مع استحلال ما يستحلون بقوله تعالى: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} إلى آخر الاية. فهذا آخر ما نزل من حكم الكفار في غزوة تبوك، فلو كان شيء يشكل على أحد لكان هدانا [نسخ] كل شبيء أنهم أعطوا الجزية على إبقائهم على استحلال ما يستحلون، من ما حرم الله ورسوله، مما يعملونه بينهم، لا يصل به إلينا أذاهم، فليس لنا ردهم إلى حدودنا في ذلك.

وأما السرقة، فمن الحرابة العام ضررها، فليس كالذي يخصهم في أنفسهم والقطع خزي ونكال، قال سبحانه في المحاربين، {ذلك لهم خزي في الدنيا}. ولما لم يعترض عليهم في نكاح الأم والبنت وجمع الأختين، فكذلك الزنا، وكل ذلك لم يبحه الله لهم. ومعنى آخر، أن الحد جعل تطهيرا للمؤمن، والكافر لا يطهره الحد في الزنا ونحوه، وليس لك حجة بإ [قامـ]ــة القذف عليهم، لأنه حق للأذى [للمقذوف، وكذلك] حد السرقة لأنه من الفساد في الأرَض فيقام للتناهي وللصلاح العام. وقال ابن الجهم: نا ابو معشر الدارمي، نا عبد الواحد، نا حماد بن سلمة، عن سماك، عن قابوس، عن أبيه، قال كتب محمد بن أبي بكر إلى علي بن أبي طالب أن نصرانية فجر بها مسلم، فكتب إليه، أن أقم الحد على المسلم، وادفع النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا. وروينا نحوه عن ابن مسعود، نا غيـ[ـر] واحد عن إسماعيل بن إسحاق، قال: قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: لم يكن ظهـ[ـر] على بني قريظة والنضير، فكيف يتوهم أن يأمره الله تعالى أن يحكم بين قو [م] لم يظهر عليهم وإنما السبب أنهم تحاكموا إليه طائعين وكان بينهم وبينه عليه السلام عهد الا يظاهروا عليه، فلما غدروا اجلاهم، ولم تكن في أيامهم جزية، وإنما نزلت الجزية بعد ذلك حين نزلت: {قاتلوا

الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية، وهذا حين خرج إلى تبوك آخر الأمر، فنسخ هذا كل ما قبله، وهذا يكشف كل ريب. وإذا ظهرنا منهم على ما سـ[ــتر] عنا من الزنى بينهم، كيف نحدهم عليه، من غير رضاهم.؟ وإنما رضوا بالجزية [على] شرط الله، على أن يبقوا على ألا يحرموا ما حرم الله ورسوله، ولا يد [ينون] دين الحق. ولو كان هذا لكان من أسلم وهو مع امرأته على زنى ألا يقـ[ـبل] وذلك حتى يفسخوه. وهو تارة يراه نكاحا صحيحا وإن كان زنى، ولا يحدهم عليه، وهذا تناقض، ويلزمه أن يفسخه إذا اسلما، وهـ[ـــو] من لم يدر مخارج السنن ومعاني الكتاب. واحتج في باب آ [خر] كرره، بأن الذمي إذا سب النبي عليه السلام، أنه يقتل، فأقام هذ [ا] مقام الزنا، وهذه غيبة ساترة. والذي سب رسول الله عليه السلا [م] ناقض للعهد، خرج إلى إباحة دمه، ولم تقبل منهم الجزية على هذا، و [إنما] قبلت منهم، على أن يقيموا على على ألا يحرمون ما

حرم الله ورسوله، وقد تأكد بيان هذا، وانكشف بما في بعضه كفاية إن شاء الله. وقول مالك: ترد النصرانية في الزنا إلى أهل دينها، قول علي كما ذكرنا [و] هو الراوي عن النبي عليه السلام: من أصاب حدا فأقيم عليه، فالله أكرم من أن يثني على عبد عقوبته مرتين، فأخبر أنه تكفير وتطهير، ولا حظ في هذا لكافر. وقد قال الصحابة قولا، في الذي يستكره المسلمة، فصلوا به بين حد المسلم والنصراني فقالوا يقتل بذلك الذمي، فلو كان الحد عليهم واحدا ما فصلوه، فعل ذلك عمر وأبو عبيدة وغيرهم، وكثير من التابعين. وممن قال: ترد النصرانية – إذا زنت – إلى أهل دينها، من التابعين الحسن وإبراهيم والشعبي وعطاء [و] قتادة وابن شهاب، ويحيى بن سعيد وعدد كثير، قالوا: وذلك من تمام ذمتهم.

والعجب من ترامي هذا الرجل، في دعواه ما لا برهان له به، من قوله: إن [كـ]ـافة العلماء يحلون المطلقة ثلاثا بالوطء في الحيض بنكاح. والمعلوم في هذا أنه لا يحلها إلا صحة العقد وصحة الوطء، وقد تقدم بياننا الأدلة على ذلك، وأن الرسول لا يشترط في التحليل بالوطء الوطء الحرام، [ولا غيـ]ــره، وهذا لا يجسر على إطلاقه متجاسر. وكذلك يلزمه أن يقول في قول الله: {حتى تنكح زوجا غيره} أنه دخل في هذا الأمر النكاح الذي حرم الله، وهذا لا يقوله سليم. ثم قال: فجعل مالك في هذا الوطء العدة والصداق، ولم [يحـ]ــلها به. فهذا كلام من لم يتأمل الأصول، والنكاح بشبهة والوطء به، [يو] جب العدة والصداق عندنا وعنده، ولا يوجب سائر أحكام النكاح. والنبي عليـ[ــيه] السلام لم يحلا بنكاح المحلل، وهو نكاح يجب فيه الصداق والعدة. فلا [تعجـ]ــــل، وتأمل دلائل مخارج الأصول، التي دلت على طِلْبة صحة العقد وصحة الوطء للتحليل، وليس التحليل كالتحريم على ما بيناه. ثم أتى هذا الرجل بأمر [شنـ]ــع به، وأوقفه بأخذ موقفين ليتحير، إما الجهل البريح، أو الكذب الصريح، فقال: [] العلماء في الصداق والإحصان، والإحلال للزوج الأول، حكم من [كان] حلالا.

فهذا مما درى متكلف الاختيار والرد على الأئمة، لقد كفى [غيره] مؤنة التكلف، لوصف حاله ومبلغه من العلم والتحفظ في الدين. وما يستهين بمثل هذا من لم يهن عليه دينه. والمدنيون وكثير من غيرهم على خلال كل ما ذكر في الإحلال، والإحصان بالوطء، الذي ذكر. وليس ما يوجب الصداق بحجة له أن يجب به إحلال وتحصين، ونكاح المحلل يوجب الصداق ولا يحصن ولا يحل به، وهذا غلط فاحش. وكلام هذا الرجل في العلم كلام من يهون عليه أن يقول في الدين قبل العناية، ويهجم بغير سعة من الرواية، وأعوذ بالله من الاستخفاف بما عظم الله، والقول في دينه بما لا علم لنا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

باب آخر ذكره في طلاق الشرك فكرره

باب آخر ذكره في طلاق الشرك فكرره وأنكر قول مالك: إن طلاق المشرك لا يلزمه. قال هذا الإنسان: وليس في قول الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلم} ثم قال: فلم يكن عاصيا في طلاقه، فيغفر له، لأن الله لم ينه المشرك عن الطلاق في شركه، وقد أبيح له. فهذا كلام خال من التأمل، مختل من كل جهة، لأنه أدخل الكافرين في الخطاب بالشرائع، والشرائع لا يؤمرون بها إلا بعد الإيمان ومعه، لا قبله، ولا يدخلون في تلك الأحكام قبل الإجا [بة] إلى الإسلام، ولا يجوز أن يقول: قد أبيح للمشرك الطلاق في شركه. ومعنى آخر [أنه ليس مما سلف]، لأنه لم يفعل معصية في طلاقه، إلى أن من طلق [] قوله، من طلق ثلاثا في كلمة لا تلزمه، وهذا إجماع أنها تلزمه. والثابت عن ابن عباس برواية جمال العلم أن الثلاثة في كلمة

لازمة، ورجوع طاووس إلى ذلك، وحديث ابن عمر حين طلق في الحيض، فألزمه النبي عليه السلام الطلاق، بقوله: مره أن يراجعها، ثم ليمسكها، ففرق بين اللفظين. ولو كان معنى قوله: فليراجعها، إنما هو الإمساك لكانت كلمة واحدة. وقوله: فليراجعها ظاهره الرجعة المتلوة في الكتاب، ومدعي غير هذا مكابر. وقد قال الله تعالى في الزجر عن الطلاق ثلاثا في كلمة، وأمره بالطلاق للعدة: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} فأخبر أن ما نهى عنه، إذا فعلوه [لز] مهم بقوله: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} لأنهم أجمعوا أن ذلك الأمر الرجعة. فعبارة هذا: لا توقعوا الثلاث في كلمة، فلعله يحدث لكم طلب الرجعة، وقد فاتكم ذلك بما أوقعتم الثلاث في كلمة. ولو كانت الثلاث في كلمة إذا وقعت لا تلزمه لما كانت الرجعة فائتة، ولم يكن لقول الله تعالى معنى، فيما نص من العلة، التي لها أمر بالطلاق للعدة أنه لئلا تفوته الرجعة.

فإما أن تجعل الرجعة فائتة بذلك فيصح للكلام معنى، أو ترفع المعنى من الخطاب، لتقيد أصلك الذي خطر ببالك، وهذا لا يدفعه إلا مكابر. وبعد هذا كله، فيما أومأ هذا الرجل إليه من أخذه الكافر بطلاقه، كأنه نائم عن أصل نكاح المشركين، الواقع بكل فساد، ثم يصلحه الله لهم بالإسلام. وقد تقدم في الباب الذي هذا الباب عقيبه كشف [] وذلك في إبطال طلاقهم، لفساد نكاحهم، وإذا كان فاسدا فلا يقع فيه الطلاق، لأ [نه] يصح بالإسلام، وأبين شيء يظهر للعميان، أن نكاح الشرك إن [كان] عن زنا بلا صداق ولا ولي أنهي ثبت بالإسلام، فانحل كل ما تمنيت من أن طلاقه في شركه لزمه قبل يؤمن ثم أبقاها لنفسه زوجة، وأقامت هي معه زوجة، هل هو إلا نكاح، إما مستأنف وإما على الأمر القديم، فأبعد منازله - على اصلك في إيقاع طلاقه - إنهما مؤتنفين بالإقامة عليه إلى أن يكونا زوجين. وهذا إن لم يكن كـ[ــنكاح] الزنا من بدء أمرهما، فهو أعلى مرتبة وأوجب عقدا من كل وجه. وهذا كلام من ينطق بطيش البداية قبل الروية ويحجبه، عن استرسال الفكر الحمية، والله نسأل السلامة.

باب في النفقة على الولد

باب في النفقة على الولد وأنكر هذا الرجل قول مالك: إن الأب ينفق على ذكور ولده حتى يبلغوا، وعلى الإناث حتى يتزوجن ويدخل بهن أزواجهن. وزعم أن بالبلوغ تسقط النفقة عن الذكور والإناث وأن قول مالك في هذا يخالف ظاهر القرآن، وأنه لم يلج إلى كتاب ولا سنة. وتلا آية، رأي أنها دالة على إيجاب النفقة على الأب، فقال قال الله سبحانـ[ـه]: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد ان يتم الرضاعة وعلى المولولد له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}. قال: فأوجب على الوالدات الرضاع، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن. وهذه الاية ليس بها وجبت النفقة للولد، وإنما ظاهرها إيجاب النفقة للزوجات بالعصمة، ولو كان ما ذكر فيها يعني به نفقة الأولاد، لقال: وعلى المولود له رزقهم وكسوتهم. والنون ها هنا للتأنيث، وهذا ظاهر [أن] نفقة الزوجة واجبة، كان لها ولد او لا

ولد لها، والرضاع عليها بغير أجر ما دامت في عصمته، وإنما لها أجر الرضاع بعد الطلاق، وهذا ظاهر القرآن. فقد انكشف أن الآية في نفقة الزوجات، لا كما ذكر هذا الرجل. وإنما الاية التي فيها إيجاب نفقة الولد، وأجر رضاعة فأية لم يذكرها هذا الرجل، وذلك قول الله سبحانه في سورة الطلاق: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن}. فأوجب على الأب النفقة للحامل، لعلة الولد وما يصل إليه من الغذاء، وأوجب عليه اجر رضاع الولد، وهذا هو الإنفاق عليه، فكان ذلك لازما للأب، لعلة فقر الولد وتخلفه عن أسباب السعي والتصرف. فما دامت العلة قائمة، فالنفقة للأب لازمة، وإذا زالت العلة إما بمال يحدث للولد، أو يصير إلى إمكان السعي والتصرف، أو بانتقال الأنثى إلى زوج تلزمه نفقتها. وحد ذلك في الذكر الاحتلام، لا اختلاف بيننا في ذلك، وقلنا ذلك أنه ساقط بالبلوغ، لأنه حينئذ مخاطب قوي على السعي والتصرف، وقد زال عن درجة العجز عن ذلك. وأصبنا العجز عن ذلك قائما في الأنثى بعد بلوغها، وهذا عيان لا يحتاج به برهان، وقد جعل النبي عليه السلام سكوتها بعد بلوغها كالكلام من الذكر بعد بلوغه لما بها من التحفز والحجاب.

فإذا عذرها في الكلام الذي هو أضعف تصرفاتهان كان العذر لها في أكثر من ذلك من التبذل وطلب الرزق أولى، [فلما كان العجز عن الكسب] فيها قائما، وهي العلة التي دل ظاهر القرآن أنها الموجبة للنفقة على الأولاد، أبقينا للأنثى النفـ[ــقة] حتى يجتمع على زوال العجز عنها. ولا تصل إلى ذلك إلا ببروز وجهها ودخول بيتها، وهي قبل ذلك تخاطب من وراء حجاب. وجعل الرسول عليه السلام صمتها كالخطاب فلا يشك ذو فهم أنها في هذه الحال أضعف من الذكر حيلة قبل بلوغه وفي حد مراهقته وقرب المراهقة، لا شك انه أقوى حيلة وأمكن سعيا وأقدر على الأسباب. فلما عذر على ما عنده من قليل الاحتيال، حتى بولغ به إلى أكمل ما يترقب من نهوضه وتبسطه وقوة حيلته، في تصرفه، وذلك بالبلوغ، كانت الأنثى أولى أن يتربص بها إلى كمال الحال التي تقوى به على ما قوى عليه الذكر، من التبسط والسعي والتصرف. ولا يذهب [عـ]ـن هذا إلا مكابر عادل من معاني الخطاب وحقائق الأسباب. وقد ثبت أن النبي عليه السلام قال: اليتيمة أحق بنفسها من وليها، فدل بذلك أن ذات الأب لا مقال لها مع الأب، ولا سلطان لها في نفسها.

فإذا كان سلطانه عليها بعد البلوغ، وجب أن تكون نفقتها عليه، حتى يصير لها سلطان على نفسها تملك به التصرف والسعي وغيره، أو تصير إلى زوج ينفق عليها أو يحدث لها مال. وقول هذا الرجل: لا يعدو أوجبت النفقة للولد لأنهم ولد أو لأنهم صغار محتاجون، فإن كان لأنهم ولد، وجبت النفقة على الأكابـ[ــر] منهم ومن له مال منهم، وإن كان لأنهم صغار محتاجـ[ــون]، فقد خرج الإناث بالبلوغ عن []. فيقال له: ليتس العلة في النفقة ما [ذكرت من الصغر]. ولو كان لأنهم صغار محتاجون لكان من بلغ منهم ذا زمانة لا حراك به أن نفقته تزول عنه، لأنه خرج عن الصغر بالبلوغ الذي جعلته علة. ولو زالت عن البالغ زمنا لا حراك به لبطلت فائدة الخطاب، لأنه سبحانه إنما أوجب النفقة للولد العاجز عن المكسب والتصرف، بالصغر وغيره مما هو علة العجز، وهذه هي العلة الظاهرة وهي قائمة في البالغ الزمن. فتأمل موضع الفائدة في سياق الآية في إيجاب النفقة. ولا تجد معك نصا ولا خبرا ولا دليلا واضحا يؤديك إلى أن العلة الصغر خاصة، لأن الصغر إن كان هو العلة لأن مع الصغر العجز عن التكسب، فتلك العلة قائمة في البالغ زمنًا.

وإذا كان ذلك، فقد بطل أن يكون الصغر وحده علة، ولكن العجز عن الأمور بالصغر والزمانة وغيرها مما يوجب العجز. ألا ترى ان من كان له مال من صغير أو زمن، أن النفقة تزول عنه. فدل أن الصغر والزمانة إنما هي على النفقة للعجز القائم بها، فإذا زال العجز عن التكسب والاحتيال والسعي بوجود ذلك في الولد أو بوجود المال زالت النفقة. وأما قوله: فإن قال: إنما تجب النفقة للولد الزمن، قيل له: فلا ينفق على النساء ولا زمانة بهن. فجوابنا له: أنه حائد عن الإنصاف، لأن الزمانة إن كانت علة فإنما ذلك لأن بها العجز عن السعي فإن تكن فيها هذه العلة قائمة فلا نبالي إذا قامت علة العجز عن التكسب لصغر أو زمانة أو منع من التصرف [أو عجز عن السعي في جميع] هؤلاء. وأما قوله: لم سقطت النفقة عن الذكر بالبلوغ؟ إن اكن لأن البلوغ [علة] الاستغناء فقل ذلك في النساء، وإن كان ليس البلوغ علة دون الاستغناء بالمال، فكذلك الذكر إذا بلغ، لأن الكسب [يمنع] النفقة، فلم قلت في البالغ القوي على الكسب من ذكر وأنثى، لا نفقة له؟ فيقال له: إنماحكمنا في الذكر والأنثى بالعلة التي هي أغلب أحوالها في رفع العجز عنهما، فالأغلب من ذلك ما ذكرنا، من بلوغ الذكر ومصير المرأة إلى زوج. ويلزمـ[ــــــنا] فيما ألزمنا أن نقول: إذا قوي الذكر قبل البلوغ عن التصرف والتكسب، أن النفقة تزول عنه، وإن لم يجد في تحركه شيئا.

فلما لم نقل ذلك، وألحقناه بأغلب أحواله في تكامل حيلته وتصرفه، وذلك في بلوغه كذلك بلغنا بالمرأة إلى الأغلب من أحوالها، في استمكان التصرف أو قيام الكفاية. وإذا لم تجعل هذه علة، صرت إلى أن تجعل البلوغ علة لغير معنى، فيلزمك أن تزيل النفقة عن ولد اكمه مقعد يبلغ كذلك، وهذا نفس الإحالة وإفلات الأمور عن وجوهها. وصرت أيضا لجعل البلوغ علة، بغير نص ولا دليل منه. بل الدليل الظاهر ما ذكرنا من حال العجز والتصرف، والاكتساب فهذه علة تصح معها معاني الخطاب. وأما قوله: فإن قال: الفرق أن هذا ذكر وهذا امرأة، قيل له: فلو جعل غيرك النفقة على الذكور دون النساء وجعل هذه علته؟ فإن جوابنا له: ان هذا كلام خال من التحصيل، يشبه كلام الهازل، ومن هذا الذي يتلاعب في الدين حتى تكون هذه فروقه؟ وإن كنت قد تلاعبت بإدخالك لمثل هذا الذي لا يقوله احد، كأنك تجيز لمن يقول بما لا قائل له، أو تقيم قول مالك كقائل [بما لا] قائل له. إنك لتملي على حافظيك ما يبقى دركه، وتشغل الزمان والصحف بما لا يفيد دينا ولا دنيا. وأما قوله في قول الله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} / وإن قائلا قال:

معناه في ألا يضاره، وقائل قال: يعني النفقة، ثم لم يذكر في ذلك مذهبه، فتعرف موافقته لنا أو مخالفته، إلا أنه قال: لا تحتمل الآية غير أحد هذين القولين، فكأنه في ريب مما يرتضى من ذلك. وقولنا في ذلك ما تأوله ترجمان الكتاب عبد الله بن عباس: إن ذلك في الا يضار، مع أن عطف ذلك على ما هو متصل به في اللفظ أولى من أن يعطف على ما تقدم، مع ما في ظاهر الآية من ذكر النفقة إنما جرت للزوجات، بذكر نون التأنيث على ما ذكرنا أولا، ونسأل الله التوفيق برحتمه.

باب الطلاق قبل النكاح

باب الطلاق قبل النكاح وأنكر هذا الرجل قول مالك فيمن قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق/ إنه يلزمه الطلاق إذا تزوجها. وقال: هذا خلاف ظاهر القرآن، لقول الله سبحانه: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} وهذا طلاق قبل النكاح، وقال النبي عليه السلام: لا طلاق قبل نكاح.

قال: وقيل لمالك فيمن قال لزوجته: إن طلقتك فقد ارتجعتك، قال: فلا يكون مرتجعا بذلك إذا طلق حتى يأتنف الرجعة بعد الطلاق. فيسأل عن الفرق، [فـ]ـــكما لزمه الطلاق قبل النكاح، لأنك زعمت توقعه بعد النكاح، فكذلك [] كون الطلاق، ويصير كمن ارتجع بعد الـ[ـــطلاق] قد أتيت بمعنى كلام هذا الرجل. فالحجة لمالك في ذلك، أن الطلا [ق] قبل النكاح كالطلاق بصفة، إذا كانت تلك الصفة وقع الطـ[ــلاق] بمتقدم العقد، وليس بطلاق قبل نكاح. وإنما حقيقة هذه الكلمة في [قوله]: " لا طلاق قبل نكاح" أن يوقع الطلاق قبل النكاح، فيقول لأجـ[ــنبية]: أنت طالق أو لعبد غيره: انت حر، فهذا حقيقة هذا الكلام. و [هذا] الآخر إنما قال: إذا انعقد ملكي للعصمة أو للرق فقد أوجبت حل تلك العقدة، بالطلاق والعتاق. أرأيت إن قال: إن شفاني ا [الله] من مرضي وملكت فلانا فهو حر، أو قال: إن رزقني الله مـ[ــالا] فنصفه صدقه، أو جميعه.

فيلزمك أن تقول: إنها صدقة قبل ملك، وعـ[ـــــتق] قبل ملك. فإن أوجبته ذلك ناقضت، وإن لم توجبه خالفت ظاهـ[ــر] القرآن، قال الله سبحانه: {ومنهم من عهد الله لئن ائتنا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما أتاهم من فضله بخلو به وتولوا وهم معرضـ[ــون]} فذمهم حين أخلفوا الله ما وعدوه. وظاهر هذا إيجاب إنفاذ ما أ [برم] عقده قبل الملك، وأنه يلزمه بعد الملك. ولا فرق بين قوله: إن ملكـ[ــت] هذا الدرهم فهو صدقة، أو لله على صدقة درهم، ولا بين قوله: [إن] ملكت هذا العبد فهو حر، أو قال: علي عتق عبد. فإن أوجبت ذلك [في] الصدقة والحرية لزم مثله فيما يستقبل ملكه، وإذا كان [ذلك] لزمك مثله في الطلاق. فإن قلت: إن الصدقة التي ذكر الله تعالى أنه ذم من عاهد الله عليها، إنما يستأنف إحداث صدقتها بعد الملك والطلاق والعتق يلزمه عندك بالملك بغير إحداث عـ[ــتق] أو طلاق [] في الصدقة [] أوجبه عندك بقوله إن ملكت درهمًا فلله

علي صدقته، أو عبد فلان فلله علي عتقه، لأنه نذرة لله وعقد من البر، وقد أمر الله أن يوفي بالعقود. وكذلك ينبغي أن يلزمه من التبرر ما هو أقوي من ذلك في العقد، وهو قوله: إن ملكت هذا العبد فهو حر، فأوجب عتقه بعد الملك متصلا به، بأضيق وقت مقدور عليه. وكذلك في الصدقة كما أن الذي قال: فلله على عتقه، أو في المال: صدقته أن عليه ذلك عندك متصلا بعقد الملك، لا يسعه عندك تأخير ذلك، بأسرع وقت يقدر عليه. ويلزمك أن تقول - إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق بطلاق أحدثه - إن ذلك يلزمه، وكذلك العتق والصدقة. فإذا لزمه عندك النذر بقوله: إن ملكت دينارا فلله على صدقته، أو عبدا فلله علي عتقه، فيلزمه، أن يحدث عندك صدقة الدينار، وعتق العبد بعد الملك، وإن كان أصل النذر فيما لم يكن يملكه. فإذا لزم النذر فيما لا يملك بما عقد قبل الملك لأنه تبرر، فكذلك التبرر بقوله: إن ملكته فهو حر، وإن ملكت كذا فهو صدقة. ولا فرق بين عقدين قبل الملك، فألزته أحدهما والآخر أقوى مما الزمت، لأن العقد الأول أوجب عتقه بعد الملك، كما اوجب عندك العقد الأول أن يحدث له ذلك بعد الملك. ولا فرق بين ما عقد من هذين العقدين، في عتق وصدقة، فكذلك يلزم بهذا المعنى ما عقد من الطلاق، بقوله: إن تزوجت فلانة فهي طالق.

فإن قلت: العتق والصدقة يقعان للتبرر والتقرب، فأوجبتهما. قلنا: فقد [وقعت الصدقة] في قولك قبل الملك [للتبرر]، [ولا يلزمه] صدقة قبل ملك، ولا عتق قبل ملك، و [ليس] هو إيجاب عقدـ، أن يكون وقوعه بعد الملك. ثم نصير معك في الطلاق إلى باب آخر، فنقول لك: فإذا لم يكن هذا من البر في الطلاق فأنت ممن يقول: إن الطلاق يقع بسنته وبغير سنته، أو لا يقع إلا بسنته؟ فإن قلت: يقع بسنته وبغير سنته، فأوقعه ها هنا وإن كان [ن] على غير سنته وبأمر منهي عنه. وإن قلت: لا يقع إلا بسنته، سئلت عن من طلق امرأته وهي حائض، أو طلقها ثلاثا في كلمة. فإن لم توجب طلاق الحائض، خالفت نص الخبر، وصارت الرجعة المذكورة في حديـ[ـــث] ابن عمر غير رجعة، في قول النبي عليه السلام: (مرة فليراجعها ثم ليمسكها)، ففرق بين اللفظين.

وإن قلت: إن إيقاع الثلاث في كلمة واحدة لا يلزمك، انفردت وخالفت ما دلت عليه آية الطلاق، قال الله سبحانه: {فطلقو [هن] لعدتهن وأحصوا العدة} ثم قال آخر الآية: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}. هذا وقد علمهم سبحانه أن الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف بعد الاثنين، أو تسريح بإحسان بالثالثة. فنهي بظاهر القرآن عن إيقاع الثلاث في كلمة، وأخبرنا العلة التي نهانا من أجلها عن ذلك، بقوله: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا}. فأجمعوا أنها الرجعة، فلو كانت الثلاث التي وعظنا أن نوقعها في كلمة لا تلزمنا إذا وقعت، ما كانت الرجعة بفائتة لنا، ولا كان لقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} معنى، لأن الرجعة غير فائتة. فكيف يحسن في زعمك أن تقول: لا تطلقوا ثلاثا لئلا يحدث لكم مراد الرجعة، والثلاث غير لازمة لنا. وهذا لا يجوز أن يتأوله أحد مع ما ثبت عن الرسول عليه السلام من حديث مالك وغيره [أن فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها البتة ذكرت للنبي عليه السلام، فقال: ليس] لك عليه نفقة.

وأما قول هذا الرجل: ثبت الحديث أنه " لا طلاق قبل نكاح. فيقال له: هذا الحديث قد تكلم في إسناده، وليس عندهم بالقوي، وقيل: إن أصح ما فيه رواية طاووس أناه مرسلا: لا طلاق فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك، مع احتماله أن يكون جوابا على سؤال. ويقال له: أرأيت إن كان حديثا ثابتا عندك في النقل، فظاهره بقولنا أشبه، لأنا نقول فيمن قال لعبد غيره، إن شفاني الله في مرضي فعبد فلان حر: إنه لا يلزمه ذلك وإن اشتراه وإن له ملكه. وكذلك: فثوب فلان صدقة، أو ديناره صدقة، لا يلزمه إن ملكه، وكذلك نقول: إن قال: فلانة الأجنبية طالق، فلا يلزمه ذلك إن تزوجها. ثم نسألك/: من قال إن شفاني الله وملكت دينارا فهو صدقة، أو بعضه صدقة؟ فإن الزمته ذلك، رجعت إلى معنى الحديث ما تأولنا: أن يتصدق قبل الملك، وإن قلت: لا يلزمه، خالفت ما دل عليه القرآن. وتسأل عن من قال: إن رزقني الله الحج، فكل عبد لي يومئذ أملكه حر، وليس له الآن عبد، ويقـ[ـع] ألا يلزمه هذا عندك، وهو قد نذر نذرا، والوفاء بالنذر واجب؟

وبعد، فلو صح الحديث ثم احتمل أن معناه ما تأولت، أنه لا يلزم طلاق، ولا عتق بعقد يمين قبل الملك، لكان يحتمل أن يكون أيضا معنى الحديث مصروفا إلى من عم النساء أو العبيد، فيدخل في الضيق والحرج المرفوع عن هذه الأمة، مما يضيق على نفسه من قوله: كل عبد [أملكه] حر، أو كل مال أكسبه صدقة، أو كل امرأة أتزوجها طالق. وهذا في أداء يمين لا يلزمه، وفي الحديث إذا ثبت محتمل. ثم قلنا في قوله: إن ملكت دينارا فهو صدقة لله، ما ذكرنا، فمن فرق بين هذين قال بقولنا، أو خالف ما دل عليه القرآن. وإذا احتمل الحديث ما قلت وقال خصمك لم تكن أولى بتأويلك فيه منا، ورجعنا إلى الاستدلال على أشبه القولين بالأصول. وقد دللنا على صحة ما تأولنا وأنه أشبه بالقرآن والسنة، مع قول عمر وابن عمر وابن مسعود، وغيرهم، وكثير من التابعين مع تأويلهم لمثل ما تأول مالك من هذا. أنا محمد بن عثمان، نا محمد بن أحمد المالكي، نا عبد الله بن أحمد نا ابن حنبل، نا أبي نا عبد الرزاق نا معمر، قلت للزهري: أليس قد جاء عن بعضهـ[ـم] أنه: لا طلاق ولا عتق قبل الملك؟ قال: إنما ذلك أن يقول: امرأة فلان طالق، وغلام فلان حر.

قال: ونا يزيد بن هارون، نا عبد الملك، عن عطاء، في رجل قال لعبد، يوم يشتريه فهو عتيق، قال: يوم يشتريه فهو عتيق. قال: ونا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن السدي عن سعيد بن جبير مثله. وكذلك قال سعيد بن جبير في الطلاق، وقاله الشعبي وإبراهيم. قال: ونا ابن شاذان نا معلي، نا حماد بن زيد، نا هشام، عن ابيه قال: كل امرأة أتزوجها فهي على كظهر امي، أنه يكفر عن اول امرأة يتزوجها، ثم يتزوج [إن] شاء. نا الهيثم بن حميد، نا المعلي بن الحارث بن مكحول، قال قوله: لا طلاق فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك، هو الرجل يقول لامرأة لا يملكها: فلانة طالق، ولعبد لا يملكه، هو حر. ونا أبو بكر بن محمد، نا يحيى بن عمر، نا سحنون، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن المنذر بن علي قال: خطب رجل منا امرأة، فقال: هي طالق إن

تزوجتها، حتى آكل القضيض – يريد الطلع الذكر – فانطلقت إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: ما أرى أن يتزوجها، جتى يأكل القضيض. ووافقه على ذلك القاسم، وسليمان بن يسار وابن شهاب، وقاله رجاء بن حيوة وأبو بكر بن حزم. وقد رواه املك في موطئه، عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر، ورواه غير مالك عنهما، قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت، ورواه مالك أيضا عن القاسم وسالم وغيرهما. أنا محمد بن عثمان، نا محمد بن الجهم، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا أبي، نا عبد الرحمن، عن سفيان، عن محمد بن قيس، عن إبراهيم عن الأسود قال قلت: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فسألت ابن مسعود فقال: بانت منك اخطبها إلى نفسها، يعني بعد ما عقد عليها. قال ونا محمد بن شاذان، نا معلي، نا أبو عوانة، عن محمد بن قيس، قال: سألت إبراهيم عن ذلك، فحدثني عن علقمة والأسود عن ابن مسعود انه قال: هي كما قال: فرجعت إلى الشعبي، فأخبرته، فقال: صدق.

ونا أبو بكر بن محمد، نا يحيى بن عمر نا يحيى بن عبد الله بن بكير، نا مالك، عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي، أنه سأل القاسم عن رجل طلق امرأة إن هو تزوجها، فقال: القاسم [بن محمد إن رجلا جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها] فأمره عمر بن الخطاب أن يتزوجها ولا يقربها، حتى يكفر كفارة الظهار. وهذا يكثر إن تقصيناه، وفي بعضه كفاية. ويحتمل ما روي عن النبي عليه السلام، وعن علي رحمه الله ما تأولنا، مع احتماله فيمن عم النساء، وعم العتق والصدقة، وأوجبنا ذلك فيمن خص، على ما قدمنا من الدلائل، وفيما ذكرنا لمن أنصف مقنع. فأما قول هذا الرجل في معارضته بالقائل لزوجته: إن طلقتك فقد ارتجعتك، وألزمنا مناقضة، لتفريقنا بين القائل لامرأته: إن تزوجتك فأنت طالق. ولا يلزمنا بذلك مناقضة بحمد الله، لأنه قرن شيئا بغير نظيره. وذلك أن القائل: إن طلقتك فقد ارتجعتك، إنما أوجب لنفسه عقد ما يستأنف حله، والمطلق إنما الزم نفسه حل ما يستأنف عقده، وهذا غير مستبه. وهو أشبه بما شبهناه به، ممن لم يملك ما لا فعقد على نفسه صدقته، بشرط الملك. فهو كمشتر [ط] حل الشيء بعد عقده، فيما ذكرنا من الحل بالطلاق، ما انعقد من النكاح، وبالعتق والصدقة ما انعقد من الملك.

وقياس الشيء بالأشبه به أولى، وذلك إيجاب الصدقة فيما يستأنف ملكه، وما دل عليه القرآن من إيجاب ذلك. فقياس الطلاق الذي هو حل شيء بعد عقده أولى أن يشبه بإيجاب الصدقة بعد عقد الملك. وكلفنا القياس على ما لا يشبه [] هذا []. [فـ]ـإن قيل: فألا جعلته كقول الأمة [] [أن أعتقت]: اخترت [الرق]، ومن قولك: إن ذلك لا يلزم، وهذا حل شيء بعد عقد متقدم بما انعقد لها من الحرية التي لم تكن بعد؟ قلت: إن هذا لا يلزم، لأن الذي قال: إن تزوجتك فأنت طالق قد حلف على فعل نفسه، فهو يعقد بفعله النكاح، الذي أوجب على نفسه به الطلاق. وهذا إنما جعلت فعلها فيما هو بيد غيرها، ففعلت فيما لم يجب لها، وهي لا تملك منه عقدا ولا حلا، وليس بيدها وقوع العتق، الذي به يجب الخيار لها. وكذلك كل من اسقط ما لم يجب له، ولا له في عقده فعل بحال. مثل أن يقول: إن قتل فلان وليي فقد عفوت عنه، أو إن اشترى فلان هذا الشقص، فقد اسقطت عنه شفعني، فهذا لا يلزمه، وهو كقول الأمة في الاشتباه. وعقد الشيء آكد في الأصول من حله، والأمور الموجبة لعقود الأشياء أقوى من الأمور التي توجب حلها، وهذه أمور تفترق عند التامل، مع موجبة التوفيق.

وفي الأصول أيضا، أنا ندع الشيء بالشك ولا نأخذه بالشك، ويحنث الحالف بالأقل ولا يبر إلا بالأكثر، ويفرق بالشك ولا يعقد النكاح على الشك. والحياطة في الإشكال أولى في الديانة، وأقرب إلى السلامة إ [ن] شاء الله، والتوفيق بيد الله سبحانه. تم الجزء الثاني من كتاب: الذب عن مذهب مالك، في شيء من أصوله، وبعض مسائل من فروعه، ولله الحمد في عونه وتأييده، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليما. يليه الجزء الثالث إن شاء الله [أوله] [باب: أقل] ما يكون صداقا.

الجزء الثالث

الجزء الثالث من كتاب الذب عن مذهب الإمام مالك

[] عبد الله بن محمد بن عبد الـ[ـله بن محمد] [] [ـاري] المالـ[ـكي]، عارضته بكتا [ب الشيخ]، فصح محمد القيروا [ني]. الجزء الثالث من كتاب الذب عن مذاهب مالك بن أنس في غير شيء من أصوله وبعض مسائل من فروعه وكشف ما لبس به بعض أهل الخلاف وما جهله من مخارج الأسلاف. تأليف أبي محمد عبد الله بن أبي زيد رضي الله عنه. سماع لمحمد بن عبد الله بن محمد بن يوسف الأندلسي. لمحمد بن عتاب نفعه الله به آمين

باب أقل ما يكون صداقا

بسم الله الرحمن الرحيم باب أقل ما يكون صداقا قال أبو محمد: ومما أنكر هذا الرجل قول مالك في الصداق: إنه لا يكون أقل من ربع دينار. واحتج بقول الله تعالى: {وأتوا النساء صدقاتهن نحلة}، وقال: {فأتوهن أجورهن}، وقال تعالى: {أو تفرضوا لهن فريضة}، وبقوله: {فنصف ما فرضتم}، ولم يحد قليلا من كثير، وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم النكاح على نعلين، وعلى خاتم من حديد، ولم تجتمع الأمة على حد ولا يقصر دونه. فلما كان هذا جاز أن يكون صداقا، كل ما تراضيا مما له نصف، لقوله سبحانه {فنصف ما فرضتم}.

فالجواب عن ذلك: أن ما احتج به من هذه الآيات، نحن أسعد بالتعليق بها، إذ جعلنا الصداق المذكور والنحلة والفريضة، التي أباح الله بها الفرج، الذي عظم أن يباح بغير صداق، أن تكون الآيات المتلوات مصورفة إلى ما له بال من الأموال، بقوله سبحانه: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} فجعل الصداق يفرق بين النكاح والسفاح، وقال في الموهوبة: {خالصة لك من دون المؤمنين}. فإذا كان أقل ما يستباح به الفرج حق لله لا يجوز للمرأة أن ترضى بإباحة نفسها بغيره، وجب علينا حياطة هذا الفرج المحرم الا يباح إلا بيقين. والآيات المتلوات متحملة لما قلنا، ونحن أولى في الاحتمال لما تأولنا ممن خالفنا، إذ صرف ذلك إلى كل شيء، فلما رأينا كل شيء منه ما يقل ويحتقر مما لا يعجز عنه عاجز، علمنا أن المراد من الصداق شيء له بال. وقد جعل الله سبحانه الصداق مما فرق به بين الموهوبة والزانية وبين الزوجة، وفرق بين النكاح وبين الزني، بأن الزني يستتر به، والنكاح يعلن به، والزانية تبذل نفسها والنكاح تولي من يزوجها والزانية تبيح نفسها بغير شيء، وبما يقل ويكثر، فلابد أن يكون إباحة النكاح بصداق تخرج به عن حكم الزانية والموهوبة.

واختلف الناس في حد ذلك، للاحتمال الظاهر، فلما حد بعضهم حدا لا يرجع به إلى أصل، كمن حد درهما وسوطا ونحوه، كان من حد حدا رجع به إلى اصل أولى. فإن قلت: لا أحد في مقداره حدا إلا ما له نصف، قلنا: فإنا نجد شيئا لا قيمة له وله نصف مثل الحبة أو فلقة العود وسواك من اراك، هذا وقد جاء الوعيد فيمن اقتطع سواكا من أراك من مال أخيه بيمينه، او من غل من المغنم خيطا أو مخيطا، وأخبر الله ان حبة خردل يحاسب بها، فدل أنها لا يجب ان يؤخذ من صاحبها إلا بطيب نفس منه.

فإن أبحت النكاح بحبة الخردل وفلقة العود والورقة والتبنة، لم يكن بينك وبين من أباح النكاح بغير صداق فرق، إذ لا يعجز عن هذا عاجز أن يرفعه من الأرض فيملكه، ثم يعطيه إياها فترضى به. فإما أن تقيم فرقا بين الزني وبين النكاح يعلم ويفهم، فيقصر الصداق على حد معلوم، ولا تحد في ذلك حدا ترجع به إلى أصل، كما رجعنا نحن – بما حددنا فيه – إلى أصل، إذ كان لابد لنا أن نبيح الفروج إلا بما له بال، مما دل عليه ظاهر الخطاب. ولو كان مثل الحبة والنواة وورقة البقل يكون صداقا، ما جاز لأحد نكاح الإماء، وكان كل أحد واجدا للطول فكان ذلك دليلا أنه لا يكون الصداق كل ما قدر عليه. ثم رأينا الذين تركوا أن يحدوا في الصداق حدا، فيدوا ذلك بأن يكن متمولا له قيمة، فصار خروجه عن حد القليل اتفاقا. فلما حصل خروجه عن اليسير التافه كان الرجوع إلى ما ليس بتافه، ومما له بال من الأموال، بأصل يرجع إلى أولى، إذ كان ذلك مقدارا منصوصا عليه، له من الحرمة ما قطعت به اليد.

فلما كان أقل ما له حرمة، وجب أن يكون مثله أقل ما يكون صداقا، وأن يستباح بما له حرمة من الأموال أولى أن يستباح بما لا حرمة له. ولما لم يكن لها أن تبح نفسها بغير شيء كان أقل الصداق من حقوق الله، وإنما يتراضي الزوجان فيما يجاوز ذلك، فتكثر الزيادة عليه أو تقل بمرضاتهما، ودل أن بعد ذلك مرتبة هي حق الله، لا يجوز لأحدهما النزول عنها، فلابد من الاستدلال على حد ذلك ضرورة، وإلا لزمك أن تقول إن [الاختيار] لهما في قلته وكثرته وتركه أجمع. فلما لم يكن لهذا قائل، دل أن ثم حالة لا صنع لهما في التخلف عنها، فلابد من الاجتهاد في حدها. فلما تفاحش أن يكون الحد في ذلك الشيء لا بال له ولا حرمة له ولا يعجز عنه عاجز، استدللنا على ما له البال والحرمة، فأصبنا ربع دينار دل القرآن أنه مما له بال وحرمة من الأموال، إذ أباح به قطع اليد في السرقة فكان ذلك بكتاب الله وسنة رسوله المبين عن الله مقدار ما له البال مما تقطع فيه اليد، ولولا ذلك لكنا – على ظاهر الآية – نقطع في الحبة من الخردل والشعيرة.

فلما دلنا عليه السلام أن المقصود بالقطع في الشيء الذي له البال بما حد من ربع دينار، كان ذلك أدل دليل لنا على ما أجمل الله لنا من آية الصداق، كما أن ما نص عليه الرسول من مكيال كفارة الأذى أنه مدان لكل مسكين، دليل على ما أجمل الله من إطعام الظهار لكل مسكين. وكذلك نصه على رقبة مؤمنة في القتل، يغني عما أبهم من عتق الظهار، ولا وحشة علينا في قود أصلنا في القياس الذي تأباه. ثم لم نعلم ولا سمعنا في الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، أن أحدا منهم تزوج على أقل من وزن نواة من ذهب. وهو حديث عبد الرحمن بن عوف، حين قال له عليه السلام: كم سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب، وذلك نحو ربع دينار، وإن كان قد اختلف في تقديرها.

وحديث النعلين لا يعلم به التوقيت، إذ النعلان قد يجاوزان ذلك، وكذلك الختم الحديد. وإذا أباح الله تعالى ورسوله عليه السلام زوال عضوها بسرقة ربع دينار، لم ينبغ أن يستباح فرجها من الصداق بأقل من ذلك، والله أعلم. واحتج هذا الرجل بحديث رواه عاصم بن عبيد اللهن في التي تزوجت على نعلين، فقال النبي عليه السلام: أرضيت من نفسك ومالك بهذين النعلين؟ وهذا إذا ثبت لا حجة لك فيه، وإن كان عاصم بن عبيد الله قد تكلم فيه، وهذا إذا صح لم يكن أسعد به منا، إذ ليس فيه ذكر لقيمة النعلين. واحتج غير الرجل بما روي عن النبي عليه السلام، قيل: ما العلائق؟ قال: ما تراضي عليه الأهلون، فهذا حديث واه، لا حجة في ظاهره لو ثبت.

فأما وَهْيُ الرواية فرواية الحجاج بن أرطاة له، ورواه أيضا عن ابن المغيرة رجل مجهول عن ابن البيلماني وابن البيلماني لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. ولو ثبت للزم من تعلق به أن يجيز النكاح، إذا تراضيا على حبة خردل وتبنة وحصاة ما لا بال له، لما تقدم دليلنا عليها، وأن الأصول تدفع هذا وليس ما يتراضيان، عليه يجب أن يكون عاما، أرأيت إن تراضيا على ما لا يجوز به الرضا؟ فالمقصود إذا تراضيا على ما دل على مقداره الكتاب والسنة، مما يخرج من الهبة والسفاح.

وكذلك حديث الحارث بن نبهان عن أبي هارون العبدي، عن الخدري عن النبي عليه السلام" لا يضر أحدكم إذا تزوج بقليل أو كثير، إذا تراضيتم وأشهدتم، احتج به غير هذا الرجل، فأردت ذكر ما احتج به غيره من أهل سعة الرواية والاستقصاء. وهذا حديث لا يعتمد عليه، لأن رواية الحارث وأبي هارون عند أهل الحديث لا يحتج بها. ثم هذا من ذلك المعنى أنه لا توقيت فيه، وذلك مصروف إلى ما دلت عليه الأصول من التوقيت الذي لابد منه وإنما هذا إباحة للتقليل والتكثير. ولكن للقليل نهاية لا يجوز دونها، لا علم عليها ولا دليل إلا من غير الحديث، هذا ولو كان ثابتا. وحديث آخر: من استحل بدرهم فقد استحل، قال أهل الحديث: هو حديث منكر لا يصح. فإن احتج غيره بحديث مالك، في التي وهبت نفسها للنبي عليه السلام، فلم يرجع إليها شيئا، وسأله رجل تزويجه إياها، فقال هل معك من شيء تصدقها إياه فقال: لا

إلا إزاري هذا، قال: إنك إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، التمس ولو خاتما من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا فقال: هل معك من القرآن شيْ؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، قال قد زوجتكها بما معك من القرآن. فهذا حديث من أنكر أنه خصوص في أكثر نصه فقد كابر. من ذلك أنها وهب نفسها للنبي عليه السلام فهذا خاص. ومنها أنه عليه السلام زوجها، ولم يظهر لنا أنه سألها هل تحب نكاح غيره عليه السلام، ومنها أنه زوجها عليه السلام ولم يستأمرها. ومنها أنه لم يسلها في الحديث هل رضيت بذلك الرجل، أو بالنكاح، بما معه من القرآن أو لم ترض، ومنها أنه لم يسألها هل تعلم تلك السورتين أولا تعلمها. فكان ظاهره أني زوجتكها لأن معك قرآنا، بقوله: (بما معك منه)، إذ لم يأمره أن يعلمها إياهما. ومن ادعى أن المعنى في كل ما ذكرنا شيئا يذكره ليس في نصه، كان ما يدعيه ظنا يظنه، ليس في ظاهر الحديث. وأجمعوا أن لا يجوز أن يتزوج امرأةً رجلٌ بما معه من القرآن.

وإنما قال من تقلد تأويل هذا: إنما يجوز على أن يعلمها، وهذا فخارج من لفظ الحديث ومن معناه، وليس في الحديث أنه أمره أن يعلمها تلك السورة، ولا هي لتلك السور حافظة أم لا، ولو كان ذلك على أن التعليم لها للسورة صداقها، لكان إنما يعلمها ما لا تعلمه، وهذا غير معلوم من الحديث. وفي الحديث أنه لم يبح له النكاح بخاتم الحديد، إن كان تقل قيمته – كما يتأول مخالفنا – حتى لم يجد شيئا، ومن خالفنا يبيح للموسر النكاح بذلك، هذا لو كان الخاتم خاتم الحديد، لا تكون قيمته إلا أقل من ربع دينار. وكذلك لم يذكر أنه زوجها بقرآن من الرجل حتى لم يجد الرجل شيئا، ولا خاتم حديد، ومن خالفنا يجيز كذلك للغني، وهذا خلاف ظاهر الحديث. وليس في ظاهره أيضا تعليم السور، وإنما ظاهره أنه زوجه إياها لما معه من القرآن. فظواهر الحديث كله ناطقة بالخصوص، ولو كان الأمر من قول النبي عليه السلام: التمس ولو خاتما من حديد، مصروفا إلى تقليل قيمة الصداق، لاحتمل أن يكون ضرب بذلك مثلا للتقليل لا على الاقتصار على ما ذكر، كما قال في الأمة تزني

فتجلد، فقال في الثالثة أو الرابعة: بيعوها ولو بضفير، ولم يرد أنها تبدل فتباع بحبل، ولكن ذكره مثلا للقليل. ولو احتمل عند مخالفي التحديد لزمه أن يجعله حدا، لا يجيز النكاح بأقل من قيمة خاتم حديد، وهذا وقد يكون الخاتم حديد يجاوز ثمنه ربع دينار، فليس في الحديث عند التأمل بالإنصاف حجة لمخالفنا، إلا أن يريد منا أن يجعل تأويله حجة، ويمنعنا من تأويل مثله [] من ظاهر فيه، يدل على صحة قولنا. ومن قال: النكاح بكل ما تراضينا به، لم يصح هذا، إذ قد يتراضيان بما لا بال له. فإن قلت: بما له قيمة وبال، صرت إلى تحديد شيء ضرورة لا ترجع بـ[ـه] إلى أصل. فإن قلت: إنك لا تقول بالقياس، فترد ذلك إلى أصل، قيل لك: فألزم نفسك ما أصلت: أن الفروج في الأصل محرمة، فلا تستباح إلا بما لا شك فيه، إذ لم يأت في الصداق توقيت يرجع إليه نصا، وقامت الأدلة أن لابد فيه من توقيت، ليخرج عن الموهوبة، وأن لا تجعل ما لا بال له صداقا.

ومن قال بالقياس لزمه ألا يحد حدا إلا أن يرجع به إلى أصل، فيكون ذلك اولى ممن يحد بغير أصل. ولما امتنع كل من خالفنا من إجازة النكاح بالحبة والورقة وما لا بال له مما له نصف، ورجعوا إلى توقيت فوق هذا، كنا بالتوقيت بأصل رجعنا إليه أولى أن يكون قولنا أصح، ولما في ذلك من تحصين الفروج بما لا إشكال فيه، لما عظم الله من أمرها.

وليس تشبيهنا ذلك بالمقدار الذي نص الله على قطع اليد فيه ببعيد، لاشتباهه به في غير وجه مما يشبه ما اختلفنا فيه. منها: أنا استدللنا أنه مقدار له بال وحرمة. ومنها أنه مقدار استبيح به عضو في البدن، وانتهكت به حرمته، فأشبه عندنا أن هذا المقدار المنصوص يستباح به في النكاح معـ[ــني] في البدن، لم ينص على مقداره، وليس لأن هذا مطيع وهذا عاص يمنعنا من التشبيه في ذلك، والغاصب للمرأة عاص وعليه الصداق كهو، مثل المطيع الناكح، قياسا على حكمه في النكاح الحلال. فإن قيل: فإلا رددت ذلك إلى دية اليد، قلت: هذا فاسد لغير وجه. منها: أنه لم يرد إلى هذا التشبيه احد، والإجماع يمنع من ذلك. ومنها / أن النكاح يحتاج إلىه الموسر والمعسر، فلابد أن يجري فيه الأمر على ما فيه صلح الجميع، وقد علم أن إباحة النكاح رحمة ورفقا ونعمة، فلا ينصرف إلى دية اليد فيما دل عليه القرآن من أنه رحمة عم بها عباده.

وهذا الذي قلنا قاله اكابر من علماء السلف، أنه لا يكون الصداق بما لا حرمة له ولا بال. أخبرنا محمد بن عثمان، أنا محمد بن أحمد المالكي: قال: نا ابن شاذان قال: انا معلي عن هشيم قال: أنا مغيره، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يكون مهر الحرائر كأجور البغايا، أن تنكح المرأة بالدرهم والدرهين. قال وأنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم مثله. وقوله: كانوا يكرهون يدل أنه من فوقه من الصحابة وأكابر التابعين. وقوله: والدرهمين، يدل أنهم لا يكرهون الثلاثة. قال ابن شاذان: نا معلى، قال: أنا يزيد بن زريع، قال أنا صالح بن مسلم سألت الشعبي عن الرجل يتزوج المرأة بدرهم، قال: لا يصلح إلا بثوب أو شيء. ومن روى ان إبراهيم استحب النكاح بعشرين وأربعين، فهذا من باب الاستحباب غير مرجوع به إلى أصل. وقوله عن سلفه: كانوا يكرهون النكاح على الدرهمين، أبين فيما ينهى عنه وأولى، لأن ثلاثة دراهم يرجع بها إلى أصل كما ذكرنا. وما ذكر هذا الرجل عن إبراهيم ما تراضوا عليه فهذا الذي حكينا عن إبراهيم خلافه، هذا وروايته ذلك عن أبي معشر والرواية التي ذكرنا أثبت، وما روى إبراهيم عن سلفه أيضا.

وأما روايته عن الحسن: ما ترضوا عليه، فقد روينا خلافه. أنا محمد بن عثمان، قال: أنا محمد بن الجهم، قال: أنا ابن شاذان قال أنا معلى قال: أنا يزيد، قال أنا ابن عون، قال / قلت للحسن ما أدنى، أو ما أهون ما يتزوج عليه الرجل المرأة؟ قال: وزن نواة من ذهب. وكذلك روى مالك أن عبد الرحمن بن عوف تزوج على وزن نواة من ذهب، واعلم بذلك النبي عليه السلام، وقد روي أن النواة التي تزوج بها قومت ثلاثة دراهم وربع. قال محمد بن الجهم، نا ابن شاذان، عن ابي معاوية قال: أنا حجاج، عن قتادة عن أنس، قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة على وزن [نواة مـ]ــن ذهب، قومت ثلاثة دراهم وربع. فهذا صداق [علمه النبي عليه السـ]ـلام. وقد قيل في وزن النواة خمسة دراهم، ولعل النواة منها ما يصغر ويكبر، ومحال أن يقوم بثلاثة دراهم وربع، ووزنها خمسة دراهم فهذا يدل أن النواة مختلفة المقادير.

قال محمد بن عبد الحكم: ثم لا يحفظ أن أحدًا من الصحابة تزوج على أقل من نواة من ذهب. وكر هذا الرجل أنه لا يعلم أحدًا سبق مالكا إلى هذا من أهل المدينة، ولا من غيرهم، فليس جهله بمن قال ذلك من السلف حجة، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك من السلف، وما عضد ذلك من الكتاب والسنة والاستدلال. وما حكي عن ابن أبي ذئب أنه لا يعلم من قال ذلك من أهل المدينة غير مالك، فقد يعلم ذلك غيره من نظرائه هذا إن صح عن ابن أبي ذئب، ولم يحك ابن أبي ذئب في ذلك توقيتا يرجع به إلى أصل، وعلم مالك أنه لابد من توقيت، فأخذ بأقل ما بلغه عن السلف من نكاح عبد الرحمن، الذي أخبر به النبي عليه السلام فاقتصر على ذلك مع الاستدلال عليه وقول من ذكرناه من السلف.

وقوله عنه: إنه أخذ ذلك من قول أبي حنيفة، إذ لا يجيزه إلا بما تقطع اليد فيه، فلعمري لقد وافق أبو حنيفة مالكا في هذا، ولهما في هذا سلف، وأما أن يأخذ مالك قوله من رأي أبي حنيفة فهذا بعيد، وكان بعيدًا من الأخذ عن الكوفيين الحديث، فكيف برأي أبي حنيفة، قال مالك: لم يأخذ أولونا عن أوليهم، فكذلك آخرونا، وهذا مما لم يكن لذكرك إياه وجه. وأما قوله: إن مالكا قال: إن تزوج بأقـ[ــل] من ربع دينار إنه لا ينعقد، إلا أن يتم لها ثلاثة، وإن طلقها قبل البنـ[ـاء] فلها نصف ما سمى، وقد ألزمه، فيها الطلاق، وهو لم يجعله صداقا، ولا النكاح منعقد، وأباح لها أن تنكح غيره، إذا لم يكمل لها ثلاثة دراهم، فكيف يقع الطلاق في نكاح لم ينعقد؟ وأن لها أن تنكح إن لم يتم لها ثلاثة دراهم. وما ذكرته عن مالك ليس بقول مالك، أو لعلك رأيت قوله فظننت أن ما حكيت مثله، أو قبلته ممن عنده من التحامل والجهل ما حرف به القول. وإنما قول مالك أنه نكاح انعقد بشبهة، للاختلاف فيه، فلا يفسخ إلا بقضية أو برضى الزوج بالفسخ دون السلطان، فلذلك ألزم فيه الطلاق وجعل فسخه بطلاق للشبهة التي في صداقه بالاختلاف، وإذ لو حكم حاكم بإجازته لم ينقض حكمه. وقوله: إذا طلق وقد نكح بدرهمين فلها درهم، فهذا قول ابن القاسم، وإنما قال

ذلك فلأن الزوج لم يرض بأكثر من درهمين، فيؤخذ منه أكثر منهما، ولم يقره على النكاح للدلائل التي ذكرنا، وقام عنده مقام الشبهة، وهذا باب من الاحتياط غير مستنكر. وأما رواية ابن القاسم: إنه إن لم يتم لها ثلاثة دراهم فسخ، وإن أتمها ثبت، فقد اختلف في ذلك أصحاب مالك. فوجه رواية ابن القاسم فلأنه لا يبقى نكاحا بأقل مما دلت عليه الأدلة من الصداق، وأجازه إذا تم ذلك، لأنه لو نكح بتفويض فرضيت بما لا يكون صداقا لقلته لم يجز حتى يتم لها ذلك، فإن طلقها قبل البناء فلها المتعة، ولو دخل يجبر على تمامه، هذه رواية ابن القاسم. وذكر عبد الملك في النكاح على درهمين، أن ذلك كالنكاح بما لا يصح من الصداق، فيفسخ قبل البناء ويثبت بعده ويكون لها صداق المثل. وكل محتمل لأن ما دل القرآن عليه من نكاح التفويض إذا بذل أقل من صداق المثل فلم ترض به فسخ النكاح، وإن أتمه مضى ذلك، وإن دخل أجبر على تمام صداق، المثل إن كان لم يفرض شيئا. فأقام ابن القاسم ثلاثة دراهم مقام صداق المثل، لما في النكاح بدرهمين من الاختلاف وهذا وجه من الاستحسان وهو التوسط في القول عند تعلق الشيوخ بغير أصل واحد في التشبيه، وهذا غير بعيد. ومن أقامه مقام الفساد في الصداق، أجازه بعد البناء، وأوجب عليه صداق المثل، بالبناء، وكل محتمل للنظر، وبالله التوفيق.

باب وطء الصغير للكبيرة

باب وطء الصغير للكبيرة قال أبو محمد: ومما أنكر هذا الرجل قول مالك: إن الصغير إذا وطيء كبيرة وهي طائعة إنه لأحد عليها، وتلا ما أوجب الله سبحانه على الزانية. قال في خطل له أرغب عن حكايته ما الفرق بين كبير وطيء صغيرة فصار بوطئه إياها زانيا يحد وإن لم تكن هي بوطئه زانية، وبين صغير وطيء كبيرة لم لا كانت هي بذلك زانية وإن لم يكن هو بذلك زانيا؟ فإنا نقول لهذا الرجل: ألزمتنا القياس وهو باطل عندك، ثم كلفتنا أن نقيس شيئا على ما لا يشبهه. وذلك أن الرجل الكبير إنما سميناه زانيا بفعله، لا بفعل غيره فيه، وسميناه أيضا زاينا بفعله فيمن معها آلة الوطيء متكاملة له، فيكون فعله بها يلزمه، بذلك أحكام ويوجب عليه أحكاما. فمن ذلك أن وطأه إياها يوجب عليه الحد، ويوجب عليه في النكاح والغصب الصداق، ويحلها بالنكاح لزوج كان طلقها ثلاثا، ويوجب أن يكون هو بذلك محصنا.

وذلك أن آلة الوطء منها لواطئها متكاملة، لا يزيد فيه بلوغها على الواطيء لها معنى من الأحكام ولا ينقصه. ورأينا الصغير يطأ الكبيرة ليس متكامل الفعل فيها كما تكاملت آلات الوطء من الصغيرة مع الكبير فكان الصغير لا يحصنها وطؤه، ولا يحلها لزوج كان أبتها، ولا يوجب لها صداقا في نكاح ولا غصب، ولا يوجب عليها عدة وليس هي له في النكاح بفراش يوجب عليه لحوق الولد به، ولا إيجاب الصداق، ولا إحصان الموطأة ولا إحلالها فدل رفع أحكام فراشه في نكاحه من هذه الأحكام على رفع الحد عنها بوطئه في غير نكاح، ومعنى آخر: أن الصبي فمعدوم القصد، فلا يصح منه الزنى، فقام ذكره مقام الأصبع في أحكام الوطء وكذلك قال النخعي ويحيى بن سعيد: إنه مثل الأصبع في عدد من التابعين. ولما كان فعل الصبي فيها بذكره لا يوجب من هذه الأحكام شيئا، دل ذلك أن فعله ذلك فيها بغير نكاح لا يوجب حكم الوطء بغير نكاح من تسميتها بذلك زانية، حتى ترجم هي بذلك، أو تجلد، أو يسقط الحد بذلك عن قاذفها، وصار الفعل الموجب لما ذكرنا - من أحكام الوطء الحلال وغير الحلال - غير موجود من الصبي، وصار إدخال ذكره في فرجها، كإصبع استدخل في فرجها فأوجب لها لذة أو لم يوجبها، فتأمل مخارج الأصول قبل النكير.

وقد قال الله سبحانه: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فلم يكن عقد النكاح ها هنا محلا، لها حتى يكون نكاحا فيه الوطء المتكامل فلما لم يكن وطء الصغيرة متكاملا منه حتى صار لا يحلها فكذلك لا تكون به زانية. ولو كانت العلة في إحلالها وكونها زانية باستدخال كل ما ينزلها وتلذ هي به للزمها اسم الزني باستدخالها لإصبع صغير أو كبير حتى تنزل بذلك، وكان يحلها ذلك فبطل هذا الوجه، وصح ألا تكون موطأة توجب عليها اسم الزنى إلا بتكامل أوصاف الوطء من واطئها. ودل الكتاب والسنة أن وطء الصبي غير متكامل في نفسه، ولا فيما يؤثر في الموطأة من إيجاب صداق وإحلال وإحصان، فيه ولا فيها، وقد قال الله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} وقال في اللعان: {ويدرؤا عنها العذاب} فدل الرسول عليه السلام أن العذاب في المحصنة الرجم، وقال سبحانه: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} إلى قوله: {فنصف ما فرضتم} فأخبر أن المسيس يوجب جميع الصداق، وقال في التي لم يدخل بها: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}.

فلما كان الصبي إذا وطئ زوجته، ثم زالت عن عصمته بقضية أو بمبارأة الأب عنه - على قول من يرى ذلك - أو لم يطأها بعد ذلك حتى بلغ وطلقها لم يكن عليها بذلك الوطء عدة، ولا على الزوج به جميع الصداق، دل أن ذلك المسيس لم يوجب أحكام المسيس المنصوص. وإذا لم يوجب لها حكم المسيس في الصداق والعدة، كان أبعد أن يوجب عليها مثل ذلك المسيس حد الزني، وهذا أعظم وإذا لم يجب الأدنى من الأحكام به كان الأعظم أولى ألا يجب. فإن كان مسيسا فأوجب به ما نص من الأحكام للمسيس، وإن لم يكن مسيسا فارفع عنها فيه جميع أحكام المسيس. فلما لم يوجب وطؤه فيها ولها من الإحلال والإحصان والصداق والعدة ما يوجبه وطء الكبير، دل ذلك أنه لا يوجب فيها الحد، لنقان وطئه عن مراتب أحكام وطء الكبير، فلم يجب أن تسمي هي بوطئه زانية لهذه العلل، ووجب أن يسمى الكبير زانيا بوطء الصغيرة، لتكامل أحكام وطئه، فإنه هو بوطئه للصغيرة محصن بإجماع، وأن عليه به الصداق وسائر ما يلزم بوطئها من الأحكام. والتي يطؤها الصبي لا تؤثر فيه إحلالا ولا إحصانا، ولا يوجب لها صداقا، فلما ارتفع هذا الوطء من الصغير أن يكون وطءا متكاملا في هذه الأحكام، وجب أن لا يلزمها به اسمها زانية.

واسم الزنى آكد حكما من هذه الأشياء في أنه لا يجب ويجب حكمه إلا بما لا ريب فيه ولا شبهة إذ الحدود في الأصل مدروءة بالشبهات. فهذا أولى ألا يقام بمشكلات الأمور والشبهات ولا تقام الحدود إلا بتكامل أوصاف الوطء ومعانيه. وهذا ظاهر كتاب الله وسنة نبيه ينبئك عن نقصان مرتبة فعل الصبي في الوطء للكبيرة، وينبئك بتمام ما يؤثر الوطء للصغيرة في الكبير، وإن بعد ما بينهما لمكشوف في الافتراق، لا يرد إلا بمكابرة أو تقصير إدراك، والمساوي بين هذين - على بعد ما بينهما - أولى أن يكون قد جمع ما لا يجتمع، وشبه ما لا يشتبه في نظر، ولا يستقيم في عقل ولا أتى به أثر، كما رميت مالكا. وليس في المجازاة لك على سوء المقابلة منك لمثل مالك شفاء، وإن لمن اراد الله بنكير ذلك عزاء فيما يرجو من ثواب الله في تحامل الغامطين وتعدي المتكلفين، وبالله نستعين على تأييده وتوفيقه.

باب فيمن قذف صغيرة بالزني إنه يحد

باب فيمن قذف صغيرة بالزني إنه يحد قال: وهو يرفع الحد عن قاذف الكبيرة المجنونة، إذ لا يكون من مثلها زني. قال: وهذا تناقض. مع ما ضم إلى هذا من لغوه وفضول كلامه. واحتج بقول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} قال: فإن وجب الحد على القاذف لأنه ممن أمر ونهي، فأوجبه في قذف المجنونة، وإن كان لأن المقذوفة في حال القذف كما قذفت، فلا حد على قاذف الصغيرة. وإنما قال مالك، رحمه الله، بحد قاذف الصغيرة، يعني: التي يوطأ مثلها، وإن كان

لم يفسر ذلك هذا الرجل. وذلك لأن معرة القذف بذلك تلحقها وتعرها، ولا يعر ذلك الصبي الصغير، وإن كان ليس بزنى منه ولا منها، إلا أن وطء الصبي ليس بوطء منه، ولا في الموطأة، ولا يوجب حكما. والواطيء في الصبية يؤثر الحد في واطئها، ويوجب الصداق والإحلال، ويمكن معه الولد منهما للمراهقة للبلوغ، لاختلاف الأسنان في البلوغ، فهو ممكن منها، والعدة منه واجبة فهو في الأنثى أقوى، والمعرة به لها ألصق من الذكر. وأصل ما جعل الله سبحانه على القاذف لما يلحق معرة القذف بالقذوف والله أعلم. ولا يشك أحد أن المصيبة دون البلوغ تلحقها بذكل معرة غير قليلة، فدخلت مدخل من تحلقه معرة القذف، والله أعلم. ولو كانت علة ما وجب بالقذف أن يكون المقذوف ممن يلحقه بالفعل اسم الزني، دون أن تكون معرة ذلك لاحقة به، لكان قاذف المحدودة في الزنى يحد، لأنه رمي من يلحق به اسم الزنى، فلا يحد حتى يرمي عفيفة، يعرها ما رميت به من الزني، وذلك لا يعر التي زنت فالحد لمعرة القذف. وأما ما اتحج به من قول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} فهن الحرائر المسلمات العفائف. وقوله: إن مالكا يقول: لا حد على قاذف الكبيرة المجنونة، إذ لا يكون من مثلها زنى، فالذي عندنا عن مالك أنه قال: يحد قاذفها، وإنما قال ذلك لما يلحقها من

معرة القذف والوطء ممكن فيها. وقولك: فإن وجب الحد على القاذف لأنه مأمور ومنهي، فأوجبه في قذف المجنونة، فقد أوجبناه، وبطـ[ــل ما] تعلقت به من المناقضة، وإلزامك فيه [اختلال] لو حتى سلمنا لك ما ذكرت لكان قولك: لأنه ممن أمر ونهي إنما يحسن معه الإلزام، فأوجب الحد في قذفه للأمة والنصرانية، والمجوسية لأنه مأمور [ألا يقذفهن] ولا غيرهن. وقولك: وإن كان لأن المقذوفة حال [القذف] كما قذفت، فلا حد على قاذف الصغيرة، فهذا فيه إحالة، وإنما الذي يحسن أن يقال: فإن كان لأن المقذوفة في حال القذف ليست كما قذفت، فلا حد على قاذف الصغيرة. وبعد فلو كانت المجنونة حدث بها الجنون لكان الحد منها أبين شيء، لأنها قد أخذها زمان تكون به لو زنت زانية، ولو حتى قال: أردت في جنونك لم يصدق، وكان أدنى منازله التعريض.

ولو حتى كانت لم تزل مجنونة منذ بلغت فكانت هذه لا تسمى بزناها زانية، لزوال القصد منها في وقت من الأوقات، فقد قال بعض أصحابنا، إن مثل هذه لا حد على قاذفها، وهي مع هذا الوصف تخالف معنى الصبية المراهقة، إذ الحمل من هذه ممكن، وما ظهر بها من ولد فبزوجها لاحق. وإن كان ذلك منها ممكن متخوف، كان اسم الزنى بفعلها مثل ذلك، إذا صح ذلك، من حمل وبلوغ يخفي منها، وربما أظهره حمل يحدث منها قبل أن يعلم منها ظاهر بلوغ، فكانت لهذه الوجوه متأكدة الحال في معرقة القذف فقوي بذلك إيجاب الحد على قاذفها. ومما يقوي معرةا لوطء في الصغيرة التي مثلها يوطأ: أنها يجب عليها العدة بذلك الوطء من زوج، أو الاستبراء من زنى الزاني بها، وأن الحمل منها ممكن إذا كانت توطؤ مثلها. ويلزمك أن لو قذفت - وهي قد أنبتت وراهقت - ألا حد على قاذفها، ومعرة الوطء فيها حيئنذ أقوي معرة تلحق [بها بالقذف]. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رموا عائشة رضي الله عنها، بالإفك، وهي إذ ذاك بنت ثلاثة عشرة سنة، قد أوفتها، والله أعلم هل بلغت المحيض حينئذ أم لا، وما

تسمعنا بذكر ذلك في حديث الإفك، وسنها حينئذ إلى الصغر ما هو محتمل للبلوغ وغيره. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: إن كنت أحدثت فتوبي، محتمل أن يأمرها بالتوبة وهي مراهقة كما تؤمر بالصلاة والله أعلم بذلك. وإنه ليلزمك أن من رمى زوجته المراهقة بالزنى أن لا يلتعن لأنه عندك لا يحد بنكوله، ولا يكون منها ولد عندك فتنفيه، والأخبار تدل على خلاف هذا. وإذا كان يلاعن على ظاهر القرآن، فلا يخرج اللعان من أن يكون لنفي ما ينفي من ولد، وليدرأ عن نفسه حد القذف، فإذا كانت عندك لاحد في قذفها ولا ينفي منها ولد، فلا معنى للعان منها. فإن قلت: لأن الحمل منها ممكن، فينفي باللعان ما يمكن من ولد إن كان، لا لأن الحد يجب عليه برميها. قيل لك: فأوقف اللعان حتى يظهر الحمل، فإذا ظهر الحمل فاجعل له نفيه، وكيف ينفيه وهو مقيم على وطئها، ولم يظهر منها محيض يكون به استبراء لرحمها، وهو لا

يدعي استبراء، فلما كان اللعان فيها لا يتأخر عندك فكذلك لا يتأخر الحد عن قاذفها، لأن الحمل منها ممكن، ولأن الوطء منها ممكن، وقد تحمل عند أوائل البلوغ قبل ظهور الحيض عليها، فهذا كله يقوي إيجاب الحد على قاذفها، مع معرة القذف فيها، كمعرة الكبيرة، والصغير الذكر بخلاف ذلك كله

باب ما يوجب الأحكام في المولود من الاستهلال

باب ما يوجب الأحكام في المولود من الاستهلال قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك في الصبي يولد فلا يستهل إنه [لا يجب له حكم] في الميراث له [ومنه] والصللاة عليه وغير ذلك. وحرف ما حكى فيه عن مالك، فقال: إن مالكا قال: إذا اقام الصبي يوما ويومين يرضع ويعطس ويبول ويتحرك، إنه لا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا. قال وهذا خلاف كتاب الله لأنه حي بما ظهر من تحركه وعطاسه، ورضاعه، والحركة معدومة من الموتى، وكيف يشرب اللبن ميت؟ أرأيت إن أقام أربعين سنة لا ينطق أيكون ميتا؟ وقد نجد من لم ينطق ولا ينطق يأكل ويشرب. فجمع هذا الرجل في عبارته إحالة في القول وخطأ في العلة التي جعلها دليلا، وباطلا من القول إذ أصرف معنى الصراخ إلى النطق والكلام. ولم يقل مالك ولا غيره: إن النطق دليل الحياة، فيحتج عليه بأن يقول: أرأيت إن أقام أربعين سنة لا ينطق، فهذا من الباطل.

ومن هذا الذي زعم له أن لا يكون حيا متكامل الحياة حتى ينطق؟ هذا ما لا خفاء به، والصراخ فيه اختلفنا لا في الكلام، وكل أخرس فله صراخ وصوت ما. وأما الاستحالة فيما أدخل وحكى عن مالك، مما حرف فيه القول مع الاستحالة، فقوله عن مالك: إنه قال: إن اقام يومين يرضع ويعطس أنه لا يرث ولا يورث بذلك، فهذا - مع ما فيه من الاستحالة - غير موجود، أن يقيم يومين أو ثلاثة يرضع ولا يسمع له صوت يقل أو يكثر خفي أو غير خفي، هذا باطل غير موجود. وأما قوله: يعطس ويتحرك ويبول، فهذه الأشياء لو كانت دليل الحياة لكان []، وذلك أن الميت يبول، لأن ذلك يكثر من استرخاء المواسك. وأما الحركة، فلا خلاف أنه متحرك في البطن قبل خروجه، فاعمل على أن له بها حكم الحي، ولا يحتاج إلى دليل حياة بعد الولادة، لأنه حي بالحركة عندك، وهذا لم يقله احد فلما لم تكن الحركة توجب له حكم تكامل الحياة، لم تكن حركته بعد الولاة علة، حتى يكون منه أمر بعد الولادة لا يشك في تكامل حياته به، وحركة فيه للمص هو من الحركات التي تقدمت في البطن، وكذلك حركة سائر جسده، وقد يتحرك المذبوح، فأميت هو أم حي؟ وأما العطاس، فقد يكون لريح دخل رأسه، وتكامل الحياة يطلب منه، لأنا اجتمعنا أن فيه حياة قبل الولادة، فلابد من أمر أزيد من ذلك تتكامل بها حياته، وإلا فهو على ما عهدناه في البطن من الحياة الناقصة.

والدليل على ان الصراخ هو أقوى دليل على الحياة البينة المتكاملة، ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك يقضي على ما اختلفنا فيه. أنا محمد بن عثمان قال: أنا ابن الجهم، قال: أنا الأنصاري قال: أنا عبد الله قال أنا عبد الأعلى، عن معمر عن الزهري، عن سعيد عن ابي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخا من نخسته، إلا ابن مريم وأمه " وفي رواية أخرى: ثم قرأ {إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}. ونا أبو بكر بن محمد قال: نا يحيى بن عمر، قال نا نصر بن مرزوق، نا أسد بن موسى، نا ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه. وقال فيه أبو هريرة: أرأيت هذه الصرخة التي صرخها الصبي حين تلده أمه، فإنه منها، وهو خبر مشهور ثابت.

وإذا خص رسول الله صلى الله عليه وسلم عيسى عليه السلام [] له بذلك، فلا جائز أن يشاركه أحد في ذلك، ولا يكون حيا سواه إلا صارخا، كما قال عليه السلام، وإلا لم يحكم له بحكم الحياة. قال محمد بن الجهم: أنا عبد الله قال: أنا أبي قال: أنا عبد الرحمن قال أنا إسرائيل، عن سماك عن عكرمة، عن ابن عباس قال ليس من مولولد يولد إلا استهل، والاستهلال أن يغمزه الشيطان فيصيح، إلا عيسى بن مريم. قال أنا عبد الله بن أحمد قال: أنا أبي قال: أنا عبد الرزاق، قال أنا ابن جريج قال أنا أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: المنفوس يرث إذا سمع صوته. وقاله عروة والحسين بن علي والمسور بن مخرمة، وابن المسيب، وابن شهاب وشريح الكندي، والشعبي وإبراهيم وعطاء والحسن وابن سيرين وربيعة والقاسم في فقهاء التابعين بالمدينة وهو الأمر القائم المشهور بها.

قال ابن شهاب وابن المسيب، إن ذلك هو السنة عندهم، وهما في العلم بالسنن وما تطابقت عليه القرون بالمدينة، وأخذه آخرهم عن أولهم، وهذا أقوي شيء في كافتهم. وأقاويل من ذكرنا ثابت بالأسانيد المرضية، من رواية ابن وهب وغيره. وإذا لم يصرخ صارت حياته غير متيقنة فلا يورث ولا يرث بالشك في حياته. وأجمعوا أن المرأة إذا قتلت، وولدها يتحرك في بطنها، أنه لا حكم له في قود ولادية، واتفقوا أنه إذا لم يظهر له بعد أن وضعته حركة أنه لا يرث ولا يورث. واحتج غير هذا الرجل بما روى عمرو بن عبيد عن الحسن أنه: إذا تحرك وعلم أن الحركة من الحياة ليس من اختلاج ورث. فعمرو بن عبيد لا يحتج بروايته لفساد دينه، وقد قال يزيد بن هارون: إنه يكذب في [الحديث]، هذا ولم يطلق للحركة أنها دليل الحياة حتى يوقن بأنها عن حياة، فلا تمنعن الاختلاج فقد جعل مع الحركة دليلا آخر فيه [ويطلب إلى] أن يوقن أنها حركة حياة، فعرفك أن ليس كل حركة تدل على الحياة. ولو كان على ما تمنى مخالفا، لكان لنا عن الحسن خلافه.

أنا محمد بن عثمان، قال أنا محمد بن أحمد قال: أنا عبد الله قال أنا أبي قال انا أبن إدريس، سمعت هشامًا عن الحسن وابن سيرين قالا: لا يورث المولود حتى يستهل. قال محمد بن أحمد: أنا يوسف بن الضحاك، قال: نا أبو سلمة قال أنا حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا تم خلق الصبي وصاح صلى عليه وورث، فهذا قول الصحابة والسلف والأمر المعلوم المتيقن الذي لا شك فيه. وما ذكر عن مالك أنه: وإن رضع وعطس فلا يحكم له بالحياة حتى يستهل، فهذا مثل قول ربيعة، لو أخذ الرمح بيده، لم يجب له حكم الحياة حتى يصيح. فهذا ونحوه، استدفاع لما يذكر على مبالغة في الوصف، وعلى أن ذلك لا يكون إلا بعد الصراخ، والله أعلم. وهذا هو المعهود المشهور، لا تجد النساء يذكرون انه يقصد إلى الرضاع ونحوه إلا بعد صراخ، فليس إدخال ما لم يقع يحيل الأمور عن وجهها، وقد دللنا على ضعف الحركة، وما كشف الريب من الدلائل وأقاويل السلف، وما بعد هذا إلا الشذوذ. وأما قوله: فإن قيل: روي أن النبي عليه السلام قال: إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه، فعلل هو ذلك، فيما ذكر، بأن أبا الزبير رواه عن جابر

ولم يقل سمعه. ومن رواية أخرى موقوفة على جابر، ولم يسنده إلا شبابة عن المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ولو كان ثابتا لكان معناه، إن الإستهلال أغلب أموره، لأنه لم يقل: لا يصلي عليه حتى يصبح. فهذا الذي ذكر من العلل لا حجة له بها، وقد تقدم ذكرنا لحديث جابر من ما سمعه منه أبو الزبير موقوفا وما ذكرنا عنه عن الر [سول] صلى الله عليه وسلم. فأما على لفظ هذا الحديث الذي علل هذا الرجل، فقد رويناه مبينا من غير هذه الطريق على اللفظ الذي هرب منه، وأقرب أنه به مخصوم. أنا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد قال نا أبو إسماعيل الترمذي قال: نا القعنبي قال أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، عن جابر بن عبد الله والمسور بن خرمة وسعيد بن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يرث الصبي حتى

يستهل، والاستهلال الصياح والبكاء، قال سعيد ولا يصلي عليه، وهذا خارج من علل هذا الرجل. ولو لم يكن ذلك، لكان فيما تقدم من قول السلف والدلائل مقنع، فكيف وما ذكرنا من السنة من هذا الحديث، وما تقدم قبل هذا. وقوله في لفظ الحديث الذي حكي إذا استهل ورث، ولم يقل: لا يرث حتى يستهل فقد أتينا بقوله: لا يرث حتى يستهل. ولنا عليه مطالبة في قوله: " إذا استهل ورث" أن هذا - إن ثبت - على أن الأغلب من أحواله الاستهلال، يقال له: فألا قلت مثل ذلك في قول الله في قاتل الصيد: {ومن قتله منكم متعمدا} أن هذا على الأغلب والأوكد من وجوهه، وقد أتينا على جواب ذلك في باب قتل الصيد، وهذا الباب، وأسأل الله التوفيق برحمته.

باب القاتل يعفي عنه يجلد ويحبس، وفي دية المعاهد وفي الولي يطلب الدية في العمد ويأبي ذلك القاتل

باب القاتل يعفي عنه يجلد ويحبس، وفي دية المعاهد وفي الولي يطلب الدية في العمد ويأبي ذلك القاتل قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل، قول مالك في القاتل عمدا يعفي عنه، إنه يجلد مائة ويحبس سنة. وقال: وقد عفا الله عنه بعفو الولي، يقول الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان} وقال: {فقد جعلنا لوليه سلطانا} وجعل العفو وقبول الدية تخفيفا. قال: فهذا خلاف ظاهر القرآن، وأوجب حدا لم يوجبه الله سبحانه ولا سنة رسوله،

قال: {فدية مسلمة إلى أهله} وقال في الكافر - بيننا وبينه عهد - ": {فدية مسلمة} فلم يفرق في الدية بين مسلم وكافر، وهذا توقيت لا يكون إلا للخالق. قال: ثم قال الحجازي إن القاتل إن طلب منه الأولياء الدية أن له أن يأبي ذلك، وليس لهم إلا القتل.

قال: فخالف ظاهر القرآن وثابت السنة، قال الله سبحانه: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} فأوجب للأولياء إذا عفوا الدي على القاتل، وروى الشافعي عن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ئب عن سعيد بن ابي سعيد عن ابي شريح الكعبي، فذكر في الحديث تحريم مكة، ثم قال: ثم إنكم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله، من قتل بعده قتيلا فأهله بين خيريتن إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل. فينبغي أن يوجب ما أوجب الله ورسوله. فالجواب عن ذلك: ان القاتل - وإن كان لولي الدم عليه سلطان بحقه في دم وليه - فإن لله عليه حقا في انتهاك محارمه وفساده في أرضه فإذا عفا الولي عن حقه - بعوض أو بغير عوض - بقي حق الله. وفي إفادة حق الله في ذلك صلاح للعباد، لإقامة التناهي عن الفساد، فجعلنا عقوبته في ذلك ضرب مائة وحبس سنة، بدليل كتاب الله سبحانه وبما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء وغيرهم من السلف.

وذلك أنا رأينا القتل قرين الزني في كتاب الله في عقوبة الآخرة، فكان في ذلك دليل على تساويهما في حق الله في عقوبة الدنيا. قال الله سبحانه {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وابن جبر وقتادة، أثاما واد من أودية جهنم. ورأينا الزنا لا ينفك فاعله من أحد عقوبتين: إما الرجم وهو القتل، أو جلد مائة وتغريب عام، فجلعنا في قتل النفس - الذي بقي فيه حق الله - ما جعله الله بدلا من القتل في الزنا، إذ لا بد لنا من أن نجعل عقوبة عليه، في حق الله في ذلك، مع ما فيه من المصلحة العامة للتناهي، فكان رجوعنا بذلك إلى أصل أولى بنا من أن نجتهد في عقوبته بغير أصل يرد إليه. فإن قيل: فاجعل فيمن كفر بالله كذلك، إذ هو مذكور في أول الآية. قلت: هذا غير لازم، لأن الكافر منصوص على عقوبته إذا كفر بعد إيمانه بالقتل، وليس في عقوبة القاتل يعفي عنه نص، ومع أن الكافر لا يترك، ولا يمكن

عنه العفو إلا أن يسلم، فيزول عنه بالإسلام ما كان لله فيه من العقوبة بالقتل، لأن القتل الذي أمر الله به إنما فيه حق الله وحده. وشيء آخر: أن عقوبة المرتد في الآخرة إذا قتل الخلود في النار، والزاني المؤمن غير مخلد، فلم يتساويا في عقوبة الآخرة، لأن هذا - وإن كان في واد من أودية جهنم - فهو [غير] مخلد، ومن زعم أنه لا حق لله على القاتل قال بخلاف ما دل عليه الكاتب وإذا كان لله حق في ذلك مع الحاجة إلى إقامة الزجر للتناهي، كان علينا إقامة ذلك الحق، وقد أقمناه بدليل من كتاب الله. ألا ترى أن الله سبحانه جعل لنا في القصاص حياة، فجعل الولي إذا قام بالقتل - الذي هو حق له وحق لله- كان في ذلك صلاح لنا أجمع وحياة لمن بقي، إذ يتناهي الناس عن الفساد الذي هو اعظم فساد في الأرض، فلما عفا الولي بقي حق التناهي الذي جعل الله فيه لعباده حياة، أي تحصينا لهم عن القتل، فلابد من إقامة ذلك، وهذا من خفي الاستدلال من كتاب الله، وقد روي عن النبي عليه السلام. أنا محمد بن عثمان قال: أنا محمد بن الجهم، قال أنا محمد بن عبدوس، قال نا أبو بكر- يعني أبن ابي شيبة - قال انا إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله عن أبيه عن علي قال أتي النبي عليه السلام برجل قتل عبده متعمدا فجلده،

مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقد منه. وبإسناده عن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، عن النبي مثله. وبإسناده عن إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن ابيه، عن جده، عن النبي عليه السلام مثله، وأمره أن يعتق رقبة. وفعل مثل ذلك أبو بكر بقاتل عمد. أخبرنا أبو بكر بن محمد قال أنا يحيى قال أنا سحنون قال: انا ابن وهب قال أنا محمد بن عمرو، عن ابن جريج عن العباس بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قال: على الذي يقتل عمدا ثم لا يقع عليه قصاص جلد مائة وسجن عام، قال ابن جريج: قلت لعطاء، كيف؟ كان الحر يقتل العبد وشبه ذلك. وعن التابعين من أهل المدينة من هذا كثير، وفي بعض ما ذكرنا كفاية. إلا هذا الرجل يبعثه إليها الجهل بأقاويل السلف وضيق عمله عن استخراجهم من كتاب الله وسنة نبيه، إلى أن يحرج صدره على سلفه ويطلق فيهم لسانه، ولو اتسع

علمه، وأحسن بسلفه ظنه لا تسع عن هذا الحرج صدره، وأعوذ بالله من الحمية في الدين. ثم أنكر [هذا] الرجل ما حكي عن مالك، في أولياء المقتول إذا طلبوا الدية أن [للقاتل] أن يأبي ذلك وأنه ليس لهم إلا القتل، إلا أن يتفق معهم على ذلك. قال: وهذا خلاف ظاهر القرآن والسنة، ثم لم يحك عن مالك غير هذا، وقد جهل هذا الرجل أن قول مالك قد اختلف في هذا. فروى ابن القاسم ما ذكر، وروى أشهب عن مالك، أنه يجبر القاتل على غرم الدية، إذا طلب ذلك الولي. ورواية ابن القاسم التي أنكر هذا الرجل أحج وأشبه بما دل عليه ظاهر القرآن، بقوله سبحانه: {كتب عليكم القصاص في القتلي}، وقال: {النفس بالنفس} فلم يجعل على القاتل غير القتل، فلا يلزمه غير ما ألزمه الله. وأما قوله سبحانه: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} فهذه الاية دليل أن العافي عن ذلك الشيء هو القاتل، وذلك أنه يترك شيئا من ماله ويترك له القود، ويتبع بالمال لأنه أخبر أن الذي عفي له هو الذي يتبع بالمعروف بقوله: {فمن عفي له} إلى قوله {فاتباع} يقول: فليتبع بالمعروف، فلو كان الذي عفي له هو القاتل، استحال أن يكون هو المتبع، لأنه هو المطلوب.

ودليل آخر: أن الدية معلومة موقتة، والله سبحانه لم يذكر ها هنا دية، وإنما قال: {فمن عفي له من أخيه شيء} وشيء نكرة ليس فيه ألف ولام، والدية معروفة فدل بهذا أن ذلك الشيء المذكور به يكون الاتباع فلما لم يوقته سبحانه دل أن الأمر فيه إلى اتفاقهما. ولو كان كل ما بله مما يقل أو يكثر يجب قبوله منه استحال هذا، والعمد ليس فيه دية منصوصة بكتاب الله ولا سنة رسول الله، إلا التراضي على شيء يجتمعان عليه، فإذا لم تدل هذه الآية على توقيت معلوم لم يبق إلا ما يتراضيان [به]، وكان ذلك أقوى دليل أن المعفو له لذلك [] هو الذي يطلب ذلك الشيء ويتبعه، وهو ولي المقتول به، والعافي على هذا القاتل بتركه للمال الذي بذل، والعفو الترك. وأما احتجاجه بالحديث الذي ذكر، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل. فالمعنى في قوله: وإن أحبوا أخذوا العقل، يعني: إذا بذل لهم، لا على أنه يكره على غرم الدية، بدليل ما ذكرنا من ظاهر معنى الاية. ولولا ما دلت عليه الآية والحديث ما جاز للولي أخذ الدية إذا بذلت له لما كان يمنع من ذلك من قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ففي القصاص نفع عام، غير أنه خفف عنا، فجوز لنا اخذ المال بدلا من الدم، وقد روينا للنبي عليه السلام مفسرا، على هذا المعنى الذي تأولنا في الحديث الذي ذكر هذا الرجل.

فرويناه عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من قتل له قتيل فهو بين خيرتين، بين أن يقتلوا أو يفادوا. أناه الحسن بن بدر قال: أناه النسائي، قال أنا العباس بن الوليد بن يزيد، قال أنا أبي قال أنا الأوزاعي. قال النسائي: ونا محمد بن عبد الرحمن بن أشعث، قال: أنا أبو مسهر قال: نا إسماعيل، قال: نا يحيى قال أنا أبو سلمة، قال أنا ابو هريرة قال قال النبي عليه السلام من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقاد أو يفادي قال محمد: وأما يفادي فمعنى المفاداة المفاعلة، وهي تكون من فاعلين كالمبايعة وغير ذلك، إلا في أحرف يسيرة يعرفها أهل اللغة، فدل بهذا أن الدية إنما تؤخذ باتفاق ولي المقتول مع القاتل، وهذا اشبه بظاهر القرآن. وشيء آخر: أن ذكر الفدية انه شيء للقاتل يفدي به نفسه، ولو كان شيء يملكه الولي دون القاتل، ما كان يحسن ذكر الفدية.

وأما إنكاره أن تكون دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم، وأراد [منـ]ــا أن نقول: إن دية الكافر والمؤمن سواء، فهذا من الغلط الفاحش، والنبي صلى الله عليه وسلم، قال: المسلمون تتكافؤ دماؤهم، فخص المسلمين بتكافؤ الدماء، وقال: لا يقتل مؤمن بكافر. أناه الحسن بن بدر أنا النسائي قال: أنا محمد بن منصور أنا سفيان عن مطرف بن طريف عن الشعبي، قال: سمعت أبا جحيفة، يقول: سألنا عليا، هل عندكم من رسول الله سوى القرآن؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يعطي الله عبدًا فهما في كتابه، أو ما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: فيها العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. نا أبو بكر بن محمد أنا يحيى بن عمر قال: أنا سحنون، قال: أنا ابن وهب قال: أنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يقتل مؤمن بكافر.

وإذا لم يتكافآ في الدماء فكذلك فيما هو من الدماء عوض، وهي الدية، وإذا لم يتكافآ في الأعظم كان أن يتكافآ فيما دونه أبعد، وكذلك لا يتكافآن في الحد في القذف. وشيء آخر، أن دية الرجل المسلم تجب بوصفين أحدهما: الإسلام، والآخر: الحرية فلما زال أحد الوصفين، وهو الإسلام وجب أن تكون الدية على النصف من دية من فيه الوصفان. وشيء آخر: أنا لما ثبت عندنا في الأصول في الكتاب وما ذكرنا من السنة أن لا تتكافأ دماؤهما، وأن حرية الكافر أخفض، ورأينا الديات إذا انحطت لانخفاض حرمة انحطت إلى النصف، كدية المرأة من دية الرجل، فحططناها إلى النصف هذا كله قائم بدلائل الكتاب والسنة وما ذكرنا من با الاعتبار بالدليل. ومع ذلك إنه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء من الصحابة والتابعين. أنا أبو بكر بن محمد قال: أنا يحيى بن عمر قال: أنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو قال أنا ابن وهب [قال: نا] أسامة بن زيد عن عمرو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عقل الكافر نصف عقـ[ـل] المؤمن.

أنا محمد بن زياد بن بشر - هو ابن الأعرابي - قال: أنا أبو داود السجستـ[ــاني] قال: أنا يزيد بن خالد بن موهب قال: انا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دية المعاهـ[ـد] نصف دية الحر. قال أبو داود: رواه أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن الـ[ـحارث] عن عمرو بن شعيب. وقد روى نحوه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. فـ[ــهو] قول السلف، ثابت عن غير واحد من الخلفاء، وغيرهم من الصحابة ومن التابعين، ما يكثر علينا ذكرهم، وهو قول الفقهاء السبعة، وغيرهم من تابعي أهل المدينة، يكثر علينا ذكرهم. أنا محمد بن عثمان، قال أنا محمد بن الجهم، قا [ل]، أنا إسماعيل قال نا ابن ابي أويس، قال أنا عبد الرحمن عن أبيه قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في خلافته، وخالفني ناس من أهل العراق في ديـ[ــة] المعاهد، زعم بعضهم أنها مثل دية المسلم، فكتب إليه: إني لا أظن أحدا يجعل دية صاحب الذمة كدية الرجل من أهل الإسلام، وإن د [ية] المعاهد كنصف دية المسلم، خمس مائة.

فهذا عمر بن عبد العزيز عظم عنـ[ـده] أن يظن هذا بأحد، لما قوي عنده مما علم عليه صدر الأمة وكفي به إما مـ[ــا] ضخما، عالما بما يقوي ويضعف من الاختلاف، والنكير في هذا الأمر البـ[ــين] لا حاجة بنا إليه، والله المستعان.

في من أوصى بزكاة عليه

في من أوصى بزكاة عليه قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك، فيمن أوصـ[ـى] في مرضه بزكاة عليه، فرط فيها: إنها من الثلث مبدأة على الوصايـ[ــا] والمدبر مبدأ عليها، لأنه قبل الإقرار، وإن ذلك بخلاف ما أقر به من دين للناس، وإن الزكاة إن حلت عليه في مرضه فأمر بها، فهي من رأس ماله، [و] إنما يكون في الثلث ما فرط فيه، وهـ[ـذا] تناقض لأنه [] هي واجبة عليه أم لا، فإن كانت واجبة فلم تكن من

الثلث؟ ولم تكن واجبة لم تبدأ على الوصايا، ولم صارت تارة كالدين وتارة كالوصايا؟ فالجواب عن ذلك: أن كل ما جرى من الوصايا يكون الأغلب فيها أن فيها ضرارا فلا يجوز، لقول الله سبحانه: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار} وهذا إنما يعلم بالأغلب في الأمور والدلائل التي تدل على الضرر. والتهمة والجنف ليس على أن للميت يوصي وصية أو يقر إقرارا، يعترف هو فيه أنه يريد به الضرر، هذا بين أن المراد فيه طلب الدلائل بالأغلب من الأمور، فيما يقر به المريض ويوصي به، والله أعلم. أنا إبراهيم بن محمد بن المنذر قال: أنا أبي قال: أنا علي بن عبد العزيز قال أنا أحمد بن يونس قال أنا زهير قال نا داود بن أبي هند، قال أنا عكرمة عن ابن عباس كان يقول: الضرار في الوصية من الكبائر، قال: ونا محمد بن المنذر، قال: أنا زكريا قال: ونا محمد بن رافع قال: نا شبابة قال نا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: {غير مضار}، قال: في الميراث أهله. فأصبناه في وصيته بالزكاة، إنما هو شيء آثر به نفسه في إبقاء ماله بيده، يستمتع به في حياته، ثم يزويه عن وارثه إلى نفسه عند وفاته، وقد دللنا في باب " إقرار المريض لوارثه " بما دل على إبطال ذلك.

فإذا بطل إقراره للوارث بالدين للتهمة، كانت الوصية بالزكاة أضعف لأن إقراره بما يخص به نفسه أقوى في التهمة لما يخص به وارثه والله أعلم. فكل شيء يوصى به يتهم فيه بالميل إلى نفسه، فإن الوارث فيه خصمه، وفا [رق] إقراره بالدين للأجنبيين، لأن إقراره بالدين للأجنبيين منافع ذلك لغيره، فلا يتهم أن يميل إلى الأجنبيين دون ورثته. والدليل أن الوصية بالزكاة بخلاف إقراره بالدين، أن المفلس لو فلس وقام غرماؤه، فقال: علي زكاة ثلاثين سنة أنه لا يقبل منه، ولا يضر ذلك غرماءه. ويلزم القائل أن يقول: إقرار [هـ] بالزكاة وبالدين سواء، أن يقول أحد قولين: إما أن يحاص بذلك الغر [ماء] أو يقول: تبدأ الزكاة، بل يلزمه أن يقول: الزكاة أولى من الغرماء [ولا] يقول: إنه يحاص الغرماء بالزكاة، كمقام دين عليه، لأنه عند مقا [م] الغاصب، وهو غصب مال بعينه. وأنت تعلم أنه لو غصب لرجل ما [لا] بعينه، أنه من يوم الغصب قد صار في ذمته، وإن كان قد قامت بينة بأنه بعينه قائم بيده، فإن ذمته بالغصب مشغولة لو أتى

على الـ[ــمال] هلاك بيده، ولو قام عليه غرماء، لكان رب هذا المال المغصوب الذي قامت البينة أنه بعينه له أحق به من الغرماء. وأنت إذا أ [قمت] إقراره، بالزكاة مقام ما يثبت بالبينة، فاجعل الزكاة أملـ[ـك] بماله من الغرماء، لأن الزكاة بعينها باقية بيده كالغصب، لـ[ــأنها] دخلت في ذمته بالتعدي، وهي بعينها بيده كما ذكرنا في الغصب. ويلزم خصومنا أن يقولوا: لو أقر عند التفليس: أنـ[ـه] قد تصدق بماله هذا بعينه قبل مداينة غرمائه، وأن المال الذي داين به غرماءه قد ذهب وهلك، أو أقر أنه جرت منه في مالـ[ـه] هذا نذور بعد نذور مما يأتي عليه، وأن ذلك قبل مداينته لغرما [ئه]، وأن مالهم قد ذهب بعد أن حصلت عليهم هذه النذور في هذا الما [ل]، أنه لا شيء لغرمائه منه، لأنك ترفع التهم. وكذلك لو أقر أنه قد كان تصدق به على ولده قبل معاملته لهم - كما ذكرنا - أنه يلزمه أن يقول: إن ولده أحق به منهم، لأنه لا يحكم با [لتهم، ولا بإ] قراراته لوارث ولا غيره، وهذا يتفاحش عند طرده. وقد دللنا في غير باب من كتابنا هذا على قوة التهم والريب في الأصول، وإذا كانت تهمته في وارثه تبطل إقراره له، فتهمته في نفسه أكثر.

وشيء آخر، إنه لو كان كل من اقر في مرضه بأن عليه زكاة ماله في سائر عمره مقبول القول، كان ذلك ذريعة إلى فساد عظيم. منها: أن ذلك يبعث كثيرا من الناس على ترك أداء الزكاة، لأنهم على ثقة من إنفاذها عنهم بعد الممات من رأس المال، فيؤخروا لذلك إخراجها، ويكون داعية إلى إبطال الميراث لمن شاء إبطاله بمثل هذه الإقرارات، ويصير الميت قد استأثر بماله عن أهله الميراث، فاستمتع به في حياته، وأخرجه عليهم بعد مماته. وكذلك يلزم في الحج، فكل إقرار تشوبه ظنة وتهمة يبطل معه الميراث وينقص به على أهل الميراث ميراثم من يلي المال، فذلك ضرر على ما تقدم دليلنا عليه في باب إقرار المريض، ما اغني عن إعادته. فإن قال: فلم جعلت إقراره بالزكاة في الثلث دون أن تبطلها، كما أبطلت إقراره، للوارث في الثلث وفي غيره. قلت: لغير وجه منها أنه لا يجوز له أن يخص وارثه، لا من ثلثه، ولا من سائر ماله بشيء، وأصبته له أن يخص نفسه بمنافعه في ثلث بما أحب فأصرفت ما أتهمه فيه لنفسه إلى ثلثه. وشيء آخر أني أصبت العلماء أحد رجلين: قائل قال: يكون إقراره في المرض بالزكاة في ثلثه، وقائل قال: من رأس ماله، ولم أعلم قائلا، قال: يبطل من الثلث ومن رأس المال، فأخرجت هذا القول، إذ لا أعلم له قائلا، وقلت من الثلث، إذ هو أقرب الأقوال إلى القياس وإلى الدليل، على ما بيناه.

وكذلك قال غير واحد من تابعي أهل المدينة: إنه من الثلث منهم ربيعة وغيره من رواية ابن و [هب و] غيره. وأما من غير أهل المدينة، فمما أنا محمد بن عثمان، قال أنا محمد بن أحمد المالكي قال: أنا الأنصاري قال أنا عبد الله قال أنا إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبد الله عن الشعبي في الرجل يموت ويوصي أن يحج عنه، أو يتصدق عنه كفارة رمضان أو كفارة يمين قال من الثلث، فهذا من الواجبات وقد جعله الشعبي من الثلث. قال: وأنا هشيم عن ابن سيرين، في الرجل يوصي بالحج والزكاة تجب عليه قبل موته، قال: من الثلث. وأنا جرير عن حماد عن مغيرة عن إبراهيم مثله. ولو كان يكون الحج والكفارات التي عليه والنذور، وغير ذلك من الواجبات من زكاة وغيرها، من رأس ماله إذا أخرها إلى حين وفاته لكان مال المرء قد استأثر به لنفسه في حياته وبعد وفاته، فصارت له منافعه كلها دون وارثه، وهذا ذريعة إلى الفساد وإبطال الميراث على ما ذكرنا. وفارق الدين يفرط في أدائه، أن الدين أقوى، لأن له طالبا يطالبه

وهو لو أقر بدين لرجل وبزكاة، ثم قال: قد كنت قضيت الدين وقد كنت أخرجت الزكاة ونسيت، أنه مصدق في الزكاة، ولا يصدق في الدين فافترقا. ويلزم من يرى الحج عليه في المال، أن ن مات ولم يحج ولا أوصى بالحج، أن يخرج ماله في الحج، ويمنع وارثه ويمنع غرماءه، أو يخاصموا بذلك، ويصير كالحج عمل عنه بغير نيته، لأنه لم يوص به، وأعمال الأبدان لا تجزيء إلا بنية. فإن قال: لم يجعلت زكاته من رأس ماله، إذا حلت في مرضه فأمر بها؟ قلت: لأنه وقت محلها وعليه إقامة فرائضه في مرضه وصحته، ولم يكن يتهـ[ــــــم في المرض] فيه أو يصير قد سلك بها مسلك الضرر و [المشاقة] و [الذريعة] إلى الفساد فإن قيل: لم بديتها إذا أوصى بها في الثلث، وهو فرط فيها؟ قلت: لأن مالكا يقدم الأوكد في الثلث، من عتق وشبهه، لدلائل أوجبت ذلك، فلما كان له إدخال منافعه في الثلث بدأنا منها الأوكد فالأوكد والله أعلم. وأما قوله: يبدأ المدبر عليها، فلم يدر هذا الرجل أي مدبر، إنما قال مالك: يبدأ المدبر في الصحة، فلم يذكر هذا الرجل في الصحة، وذلك أن المدبر صار خصما له، يدافعه عن ما ينقص عتقه، كالوارث الذي دافعه بما ذكرنا من التهمة. هذا وقد يكون المدبر في الصحة سابقا لما فرط فيه، قد سبق إلى الثلث بما لا رجوع عندنا له فيه، مع ما قدمنا ذكره من التهمة، الذي يحتج بها المدبر.

وقد جاء في الحديث: من مات ولم يحج فليمت يهوديا أو نصرانيا، فلو كان يقام الحج بعده، أوصى به أو لم يوص، وينفذ وينوب عنه، كما ينوب عنه إذا فعل هو ذلك بنفسه ما فرط فيه في حياته، لم يقل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمن مات ولم يؤد فريضة الحج، ودل بذلك أن حاله بعد الموت حال لا يساوي حاله قبل الموت في إقامة فرائضه، سيما فيما لم يوص به، والله أعلم بذلك.

باب في التي تنكح في العدة فيفرق بينهما فتأتي بولد هل تنقضي به العدة

باب في التي تنكح في العدة فيفرق بينهما فتأتي بولد هل تنقضي به العدة قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك، في المرأة تتزوج في عدتها من طلاق، قال ففارقها الآخر وظهر بها حمل فوضعته، أنه يبريها من عدتها من الزوجين. قال وهذا خلاف ظاهر القرآن، بقول الله سبحانه: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وهذا على أصله خطأ، لأنه يقول: إذا تزوجت في العدة إن

عليها أن تبني العدة من الأول، و [تأ] تنف عدة من الثاني، قال وهذا تناقض يدل على ضعف روية [قائـ]ــله. فما ذكر هذا الرجل في هذه الباب فيه اختلاط واستحالة وتحريف، [يد] ل على غلو الحمية وتخلف الروية. فأول ذلك قوله: ففارقها الآخر، [فظهر] بها جمل، فأوهم بقوله: ففارقها الآخر أن الطلاق باختيار منه، وأ [نه يقع] عليها طلاقه، وأنه لا يفرق بينهما بالـ[ـفسخ، بل بطلاق] ووجـ[ـه] القول أن يقول: ففرق بينهما. ثم قال: وظهر بها حمل ثم وضعته، أنه يبريها من الزوجين جميعا، فلم يذكر الحمل ممن هو، من الأول أو من الآخر، وهذا يختلف وجهه، فإذا كان من الأول فقد علمنا أن عدتها تنقضي من الأول بوضعه، لقول الله سبحانه: {واولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ولا يحسن في هذا أن يحتج بالاية الأخرى، من قوله: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. فإن قال: إنه وإن كان انقضى عدتها من الأول وضع الحمل، فإنما أوجبت أن تأتنف ثلاث حيض من الثاني، فلذلك ذكرت أنه الأقراء. قلنا: إنها من الثاني ليست في نكاح صحيح، ولم يكن ممن وقع عليها طلاقه، وليست من المطلقات اللواتي قال الله سبحانه فيهن ما ذكرت، وإنما يؤمر من كان مثلها ممن يفسخ نكاحه بغير طلاق بتربص بثلاث حيض، ليكون ذلك براءة لرحمها،

فلما كان الغرض في المحيض منها براءة الرحم، وكان الوضع لولد الأول يبري رحمها، برئت. ألا ترى أن لو مات الثاني لم تعتد منه لوفاة، فدل ذلك أن المبتغي منها في الثاني أن يبرأ رحمها بما تبرأ بمثله الأرحام، فلا معنى لائتناف الحيض بعد الوضع من الأول، لخروجها من المطلقات، ولحصول براءة الرحم فيها. فإن قال: إنما أردت في وجه المسألة أنه ظهر بها حمل من الآخر. قلنا: هذا في ضميرك وظاهر لفظك يدل على خلافه، حين قلت: وإنما أصلها أن تتم عدتها من الأول، ثم تأتنف عدة الثاني، وأنت مقر أن عدتها من الثاني الوضع. ثم طلبت من مالك أن يقول: تبدأ فتتم عدتها من الأول، وأنت قد جعلت عدتها الحيض بالآية التي احتججت بها، فكيف تكون عدتها من الأول، وأنت قد جعلت عدتها الحيض بالآية التي احتججت بها، فكيف تكون عدتها من الأول بالحيض سابقة إن صح الحمل من الثاني، إن كنت أردت ان الحمل من الثاني. هذا وأنت تقلو إنه لا تحيض الحامل فهذا كله اختلاط. وهبنا سالمناك في هذه المناقضة، واستقام قولك، أنك أردت أن الحمل من الثاني، فقولك، إنها تعتد بالحيض، أتعني من الأول أو من الثاني؟ فإن كان من الأول [وحلت] عندك سابقة، فينبغي أن تأتنف بعد الوضع عدة الأول، ثم بعد ذلك عدة الثاني.

وإن كان لا عدة عليها من الثاني فقد جعلت عدة الثاني سابقة لعدة الأول، وأنت رجل هجمت على نكير قول لم تحصلـ[ـه] والله أعلم. وهذه المسألة في كون الحمل من الثاني، اختلف فيها أصحابنا، فقيل فيها: إن عدتها من الأول تأتنفها بعد وضعها للولد من الثاني لأن طلاق الأول وعدته سبق حمل الثاني، فكان الحمل كمرض أو رضاع تأخر به حيضها، فهي تأتنف ذلك بعد الوضع. وقيل فيها: إن وضعها لحمل الثاني يبريها من الزوجين، وروى ذلك عن مالك، لأنها لما فقدت الحيض بالحمل كان وضع الحمل لها بدلا من الحيض، لأن رحمها قد بريء بذلك كما بريء بالحيض، وصار ذلك لها عوضا من الحيض، كما الشهور للآيسة من الحيضة بدلا من الحيض في براءة الرحم، والقولان محتملان، والله أعلم. فأنت لم تحصل ما الذي أنكرت، ثم لم تدر ما معاني قول مالك، ولا وجوه أقاويله، ولا ما قال أصحابه، ولا كيف جرت أصولهم، وخلوت بنفسك تخبط العشواء.

وقولك: وهذا على أصله خطأ، لأنه يقو: تتم عدتها من الأول، وتأتنف عدتها من الثاني: فهذا لم يقله مالك في كل امراة تعتد من زوجين، وهذا إنما يجري على غير هذا اللفظ في بعضهن. ومن ذلك المعتدة من الوفاة تتزوج في العدة، ويدخل بها فيفرق بينهما، [] الوفاة ائتنفت ثلاث حيض من الثاني، فتم لها أقصى الأجلين. وكذلك إن حملت من الثاني، تتربص الوضع فهو أقصى الأجلين. وإن كان تزوجت بعد وفاة الأول بأيام يسيرة، ودخلت ولم تحمل فإذا حاضت من يوم فراق الثاني ثلاث حيض تمت عدتها منه، فإن كان بقي من عدة الوفاة من الأول شيء فعليها التربص إلى تمامه. فهذا معنى عدة التي يجري فيها أقصى الأجلين، لا على ما غيرت بلسانك وخلطت في عبارتك، وهو إن شاء الله معنى ما جاء عن عمر في هذا فهذا معنى ما تأول مالك في قول عمر، ومعنى أصوله، التي بينها، وفروعه التي أفادها.

وإنك لجريء في قولك فيه: إنه ضعيف الرواية، وإن من ضعف الديانة أن تطعن في عقل إمام جليل مثل مالك، وفي فهمه، وما يجسر على مثل هذا إلا مثل هذا الرجل، في قلة تحفظه في منطقه، وما هان عليه في ذلك من ديانته، وبعد فهمه عن غامض علم سلفه، وتصغيره لما عظم أئمة المسلمين من قدر مالك وحظفه وفهمه وفقهه، واستخفا [فه] بالعظيم من الغمص على أئمة هذا الدين والله أسأل العصمة وأحمده على العاقبة.

باب فيمن قال: إن لم أكن من أهل الجنة فامرأته طالق

باب فيمن قال: إن لم أكن من أهل الجنة فامرأته طالق قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك فيمن قال: إن لم أكن من أهل الجنة فامرأته طالق ثلاثا، إنه يفرق بينهما. قال هذا المتحامل: وهذا يدل على إغفاله، لأن عقد النكاح ثابت ثم فرق بينهما بغير يقين، وهذا إنما طلق على صفة وهو لا يعلم أنه من غير أهل الجنة. قال: فإن كان إنما فرق بينهما لأنه علم أنه من أهل النار، فقد ادعى غيبا، وإن كان لأنه يجهل حاله، فليفرق بين كل زوجين يجهل حالهما.

وكذلك إن قال لزوجته: إن لم يكن بك حمل فأنت طالق، قال تطلق عليه ولا ينتظر، وقد تضع بعد ذلك، فيعلم أنها ممن لا طلاق عليه، وهذا فاسد. فالجاوب عن ذلك: ان قول مالك هذا هو قول ابن عمر وغيره من الصحابة ومن التابعين ما يكثر ذكرهم، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة قال الله سبحانه {يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} يقول من النوم، ثم ذكر سبحانه ما أوجب من الوضوء، وذلك لما يتوقع أن يكون كان في النوم من الحدث. وقول النبي عليه السلام فيمن قام من نومه: إنه لا يدخل يده في إنائه حتى يغسلها، فهذا من هذا المعنى والله أعلم، لما عسى أن يكون أصاب يده أو وقعت عليه يده، والله أعلم. وقال الرسول عليه السلام في تمرة وجدها، ولو أعلم أنها ليست من تمر الصدقة لأكلتها، فلما استراب أمرها تركها.

وكذلك من شك في بسط يده إلى مال أو فرج أو غيره، أن يكون لا يحل له فلا يقدم إلا على ما يوقن حلاله. والنوم في نفسه ليس بحدث يوجب الوضوء، وإنما يوجب الوضوء منه لما يتوقع أن يكون حدث في النوم من الحدث، فأوجب ذلك ريبا وشكا، ولزم بذلك الانتقال عن الريب، بائتناف الوضوء. ولا يجوز في الأصول أن يطأ فرجا لا يدري حين الوطء أحلال هو أم حرام. ويقال له: أرأيت شاتين، إحداهما ميتة والأخرى ذكية، لا يدريهما، أو امرأتين إحداهما أمه أو أخته، والأخرى زوجته أو أمته أليس لا يجوز له وطء واحدة منهما؟ إذ لعله يصادف المحرمة عليه. فإن قلت ذلك، فلا يبعد عليك أن يفرق بينه وبين زوجته بالشك، للذي حدث عليه فيها من الطلاق، وكذلك في أمته إذا شك في عتقها. فإن قلت: العتق والطلاق أمر حادث، قد يكون وقد لا يكون والمرأتان إحداهما أمه أو أخته بيقين، والشاتان، إحداهما ميتة بيقين. قيل لك: فلما كانت إحداهما محرمة بيقين، أرأيت إن تناول إحداهما، أعلى يقين هو من أنها المحرمة عليه؟ فلا تجد بدا من أن تقول: إنه لا يوقن منها بتحليل ولا تحريم.

فيقال لك: وكذلك التي شك في طلاقها، إن تناولها لم يدر حيئنذ أهي محرمة عليه بطلاق قد وقع أم غير محرمة فاتفق الحال في قيام الشك. وشيء آخر: أنه بعد شكه في طلاقها، لا يقدر أن يقول: أنا موقن أنها غير مطلقة، وقد كان قبل شكه يوقن أنها غير مطلقة، فلا يحتج بأن النكاح بيقين فإن ذلك اليقين قد أقررت أنه قد قدح فيخ الشك، وأن اسمها الذي كان لا يشك فيه أنها زوجته بيقين لا يقدر أن يسميها به، إلا أن يقول: إنها زوجتي على شك فصار الشك الحادث كالشك في الأصول. فلو شك في امرأة أنها أمه أو أجنبية، أكان له أن يتزوجها؟ أو شك في شاة هل ذكاها أو لم يذكها، أكان يأكلها؟ ويقال له: أرأيت من له امرأتان، فطلق واحدة ثلاثا ثم نسيها، فلم يدر أيتهما هي، ونكاح كل واحدة صحيح بيقين؟ فإن قلت: يفارقهما، رجعت عن قولك إلى قولنا، ولا أعلم خلافا في هذه أنه يفارقهما. وإن قلت: يطؤهما، كنت مقرا أنه يطأ امرأة محرمة عليه بيقين في علم الله، ويلزمك [] امرأتين إحداهما [أخته]، وقلتين إحداهما نجسة.

وكذلك يلزمك في قلتين من ماء، أيقن أن إحداهما صب فيها مقدار من الخمر، فغيرها، أو لم يغيرها، وصب في الأخرى شراب حلال، غيرها أو لم يغيرها، ولا يعلم التي وقع الخمر فيها منهما، أيجوز له شربهما لأن أصلهما كان حلالا، ثم حدث الشك، فلا ينتقل من اليقين الأول - على أصلك – إلا بيقين؟ فهذا ما يؤديك إليه قود قولك. وكذلك يلزمك في زوجتين له، أرضعت واحدة منهما امرأة له طفلة، هو من ذلك على يقين ثم لم يدر من هي منهما فواحدة من أمهات نسائه يقينا، أفتجوز له المقام عليهما؟ وهذا يؤديك إلى أكل الميتة وما ذكرنا من الخمر والفروج المحرمة بيقين، فتأمل برفق في تأملك. ولا فرق بين قوله: طلقت هذه أو هذه وبين قوله: لا أدري طلقت امرأتي، أو لم أطلقها، لأن كل واحدة من المرأتين لا يدري أيضا أطلقها أو لم يطلقها. ويقال له: أرأيت إن كانت له زوجة، وهو موقن أنها زوجته حلالا، ثم حدث عليه شك في أنها أمه أو أخته، من نسب أو رضاع، أيقيم علها بعد ذلك؟ وهذا كله تشهد الأصول لصحته، لأن التحريم يحتاط فيه، ويكون غالبا على التحليل، ويقع التحريم بأقل الأمور، ولا يقع التحليل إلا بأكثرها. ألا ترى لو طلق بعض امرأته حرمت عليه بذلك، وكذلك إن طلق بعض

طلقة تامة، تعتد منها، وتحرم بذلك، ولو تزوج بعضها لم تحل له بذلك. ولا تحل التي قال الله فيها: {حتى تنكح زوجا غيره}، إلا بالغاية من العقد والوطء، وقوله سبحانه {ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء} فالتحريم بذلك بالعقد، وهو أقل ما لزمه الاسم فالتحريم آكد وأغلب. وهذه المسألة التي ذكر آكد في إيجاب ذلك، والله أعلم، لأن الحالف لم يدخل عليه الشك بغير قصد منه لذلك، بل هو قاصد إلى إدخال الشك على نفسه في حين يمينه، بقوله: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق، وهذا قاصد إلى الدخول في الشك. والعجب من قول هذا الرجل وهذا إنما طلق على صفة. وهذا منه حيرة، والمطلق على صفة إنما هو امر يستقبل كونه، يقول: إن فعلت كذا وكذا أو كان كذا فأنت طالق، وذلك الفعل والأمر مستقبل كونه، قد يكون وقد لا يكون. وهذا إنما حلف على حاله في وقت يمينه، هل هو من أهل الجنة، أم من غيرهم، وإنما حلف على أمر قد كان، وسبق فيه علم الله أنه من أهلها، أو غيرها

فليس هذا من الطلاق على صفة، يجب الطلاق بكون تلك الصفة، فهذا تمثيل من لا يدري ما يقول. ثم تكلم بكلام سأل عنه وجعله من إلزام المناظرة، ما يحسن أن يجري على لسان من ألسنة الجهال ولا الصبيان وذلك قوله: فإن كان وإنما فرق بينهما لأنه قد علم أنه من أهل النار، فقد ادعى غيبا. وهذا كيف خطر بباله، أن يكون إنما فرق مالك بينهما لأنه علم أن الزوج من أهل النار، وما يشبه هذا إلا التلاعب ممن ذهنه وعقله حاضر، ومن غاب منه هذان سقط خطابه. وكذلك قوله: وإن كان لأنه يجعل حالهما فليفرق بين كل زوجين يجهل حالهما، فهذا ايضا عجيب، وما علينا من زوجين – في ظاهر الأحكام – ليس بينهما حادثة تغير من امرهما شيئا، ولا توجب بينهما شكا، ما معنى التفريق بينهما بجهل حالهما؟ وما هذه الحال التي جهلناها منهما؟ فإن كان يعني لعل أحدهما من أهل النار، قيل له: ولعل لآخر كذلك، {وكل حال} دخلت في أحدهما [فلعل] الآخر مثله، وما هذا مما نحن فيه من اليمين والشك فيما أوجبت تلك اليمين من الطلاق، والاعتلال على هذا وهن شديد. وقوله: وكذلك القائل زوجته: إن لم يكن بك حمل فأنت طالق.

وهذا مختلف فيه في مذاهب مالك، والتحريم فيه ألوى للشك في التربص بها إلى اختبارها ولعل أحدهما يموت، فكيف يتوارثان بالشك ومع ذلك فلا يشبه المسألة الأولى، لأنه لها حال، يرتقب كشفه، والأول لا يرتقب منه كشف حال، وهو أبين وأقوى من هذا، والله المستعان على توفيقه.

باب في امرأة المفقود

باب في امرأة المفقود قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل، ما حكى عن مالك في امرأة المفقود، فقال: قال الحجازي، إن الواجب عنده أن تتربص بنفسها أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة.

فأوجب غير واجب لأن الله سبحانه لم يجعل عدة أربع سنين، لا على مطلقة ولا على متوفي عنها، فلم نجد الله سبحانه أوجب ما أوجب مالك من أربع سنن ثم أربعة أشهر وعشرا، وهي ذات بعل بيقين، فلا يزول، يقين بشك، ولا يباح فرجها بالشك. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يخيل له – وهو يصلي – أنه أحدث – فلا ينصرف حتى يسمع صوتا بأذنه، أو يجد ريحا بأنفه، فلم ينقله من يقين الطهارة إلا بيقين الحدث. قال هذا الجريء، فإن قلت: قلدت في ذلك عمر بن الخطاب قيل لك، وإذا كان قول عمر مخالفا لظاهر الكتاب لم يلزمنا استعماله، كيف وقد خالفه علي بن أبي طالب فقال: لا تنكح حتى يأتيها الخبر بيقين موت زوجها؟ فإذا تنازعا رجعنا إلى كتاب الله تعالى فالكتاب والسنة أوجبا ألا يباح ألا بموت أو طلاق، ثم قال: بعد ان يحكم لها بالعدة والنكاح، فإنه لا يورث مال المفقود لزوجته تلك ولا غيرها حتى يأتي بيقين موته فحكم فيها بحكم الموتى وفي ماله بحكم الأحياء فخالف ظاهر الكتاب والسنة واتفاق الأمة.

فلو تجاسر متجاسر فقال: نحكم فيه في ماله بحكم الموتى، وفي زوجته بحكم الأحياء، وهذا تناقض وما لايتصرف في وهم ولا نظر. فجوابنا عن ذلك أن ما قاله مالك من ذلك، إنما اتبع فيه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، ومن التابعين ما لا أحصىى وأدلة الكتاب تدل على صحته والسنة والاعتبار. وهذا رجل قليل العلم، كثير الجرأة لا يهاب أن يتجرأ بلسانه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم سرج البلاد وائمة العباد فمن ذا يعذره في قوله: إذا كان قول عمر مخالفا لظاهر كتاب الله لم يلزمنا؟ وما علمت أن أحدا من اهل السنة تجاسر على أن صاحبا لرسول الله خالف ظاهر كتاب الله. وهذا الرجل يقول: إن ما ذهبت إليه من ظاهر القرآن في كل شيء لا يحتمل غير ما ذهبت إليه. فقد جرد القول فيمن يدع قوله من الصحابة انهم يخالفون ظاهر القرآن بما لا يحتمل إلا خلاف القرآن، وهذا لا عذر له فيه وأعوذ بالله مما يسير إليه. وعمر إنه حكم في المفقود برأي المهاجرين والأنصار، وهو المرء الموفق الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، كما قال الرسول عليه السلام.

وبعد فلم يحك قول مالك على وجهه، بقوله: قال مالك: إن الواجب عنده أن تتريض بنفسها أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة. ولم يقل مالك: إن واجبا على كل امرأة فقدت زوجها ما ذكر إنما ذلك لمن لم تصبر وطلبت حقها في نفي الضرر في انتظاره فإنه يضرب السلطان لها أجل أربع سنين ثم تعتد. وقوله: لأن الله سبحانه لم يجعل أربع سنين عدة، لا على المطلقة ولا متوفي عنها، وهذا لم يقله مالك ولا قاله عمر: أن أربع سنين إنما هي عدة، وإنما أجل لها عمر اجل أربع سنين – والله أعلم – لاحتمال أن تأتي بولد، فطالب بها أقصى ما تقيم المرأة حاملا، وليكون ذلك أبلغ في الإعذار للغائب ولها، في نفي الضرر اللاحق لها بغيبته عنها، ثم تعتد بعد ذلك عدة الوفاة، إذ الغالب عليها فيه عدة الوفاة، وإن احتمل أن يكون حيا. وقول هذا الرجل / هي ذات بعل بيقين، فلا يزول يقين بشك، واحتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يخيل إليه في الصلاة انه أحدث: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا. وهذا لا يشبه ما نحن فيه، لأن ما قضي به لزوجة المفقود لم يجعل على أنه ليس يجيء حينئذ، فنكون قد حكمنا بالشك، إذ لعلنا لم نصادف موته، ولكن لما لحقها ضرر غيبته ونفي ذلك عنها.

فكانت على إحدى منزلتين: إما ميت زالت عصمته، أو حي يجب لها أن تزول عن عصمته للضرر، كما أزيلت عصمة العنين للضرر اللاحق بها، ومن لا يجد ما ينفق، والمولي، ثم أخذ فيها بأحوط الأمرين في الأجل والعدة، فليس هذا شبيها بما مثله به من الشك. وحجته لعلي بن أبي طالب أنه قال: لا تنكح حتى يأتيها الخبر اليقين، ثم لم يذكر له إسنادا، وهذا غير ثابت عن علي، ولنا عن علي خلافه.

أنا محمد بن عثمان قال: أنا محمد بن الجهم، قال أنا يوسف بن الضحاك، قال أنا أبو سلمة قال: أنا حماد، عن قتادة عن خلاس أن عليا، قال في امرأة المفقود، تربص أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا، فإذا جاء المفقود خير بين امرأته أو الصداق. وهذا نحو ما روي عن عمر، ولم يذكر في [حديثه] عدة ولا دخل [بها]، و [روى] عن عمر، فشهرتها كافية لنا عن ذكر الإسناد من رواية مالك وابن وهب وغيره. ورواه عن عمر ستة نفر من أصحابه، وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعن عثمان. قال محمد بن الجهم، أنا بشر بن آدم، قال نا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس وابن عمر قال: تتربص امرأة المفقود أربع سنين.

وقد روي عن عثمان وعن ابن الزبير نحو ما روي عن علي. وهذا الرجل لم يذكر إسنادا عن علي، ونحن نذكر ما روي عن علي مما لم يثبت. فروى عباد بن عبد الله عن علي في امرأة المفقود، لا تتزوج وهي امرأته، قال أهل الحديث، وعباد هذا غير معروف لا تثبت روايته. وروى نحوه الحكم عن علي، قالوا: وهذا مرسل عن علي، ويحتمل إن لو ثبت أنها لا تتزوج وهي امرأة، إذا لم يحكم بتأجيلها حاكم، على ما روي عنه، مما تقدم ذكرنا له. وذكر ابن الجهم أن محمد بن كعب روى عن علي نحو رواية خلاس، وعن سهبة الشيبانية عن علي وعثمان نحوه، ويكثر علينا أن نذكر من قال ذلك من التابعين.

فهؤلاء ستة من الصحابة، منهم ثلاثة من الخلفاء، جرى ذلك منهم مجري الأقضية ثم لم يرو عن احد من الصحابة خلاف ذلك، برواية تصح، فيما قال أهل الحديث فأين المذهب عن هذا؟ وبه قال ابن حنبل، على علمه بما ثبت من الأحاديث عن الصحابة في ذلك، وتمييزه لصحيح الرواية. ولو روى عن علي من طريق تصح، لكان ما روي عنه من خلافه يوهن ذلك، فكيف لأحد أن يتعلق بقول لا سلف له فيه يصح قوله، ثم يتجاسر فيجعل قولهم خلاف كتاب الله. وهذا قول من لم يتحفظ في دينه، ولا تحرج في تعزير سلفه، وأعوذ بالله من الكلام على الحمية في الدين. وقوله: لما اختلفوا رجعنا إلى كتاب الله، فالكتاب والسنة أوجبا ألا تباح إلا لموت أو طلاق. فنحن نقول له: لو لم يكن غير ما ذكرنا من أنه المحفوظ عن الصحابة وهم القائمون، بالكتاب والسنة، لكان فيه كفاية، ومع ذلك ففي الكتاب والسنة دليل عليه.

من ذلك المولي يفرق بينهما للضرر وإن كره الزوج وأبي الطلاق، ومن ذلك المتلاعنان وحكم الكتاب والسنة بالفراق بينهما، ومن ذلك العنين حكم فيه الصحابة، وكذلك في العيوب بالمرأة من الجنون والجذام والبرص وداء الفرج، وكذلك من لم يجد النفقة، فما الذي بعد عليه أن يفرق بين هذين للضرر اللاحق؟ والعجب قوله: فخالف ظاهر كتاب الله والسنة واتفاق الأمة، وهذا يحسن عند حكايته السكوت وتسقط مناظرة من انتهى إلى مثل هذا من دعوى الباطل. فهذا رجل يدعى الإجماع فيما لا يصح عن الصحابة فيه إلا خلاف قوله، وهذه عظيمة، وما لا يعذر فيه بعذر. ثم قال: وفرق بين ماله وزوجته، فجعل ماله لا يورث، وقد حكم في زوجته بحكم الموتى. فهذا منه حيرة، ومن قال له: إن مالكا حكم في المفقود أنه ميت؟ إنما فرق بينه وبين زوجته للضرر اللاحق بها وعمل في تربصها على آكد الأحوال، ولم يحكم وبوفاته، وحكم فيما قامت الضرورة فيه، ولم تقف بنا ضرورة في توريث ورثته لماله، فأبقيناه

حتى يصح موته، وهذا فلا خلاف بين الأمة في ماله أنه موقوف، إلى صحة موته، وإلى أقصى عمره في قولنا. والعجب في قول هذا الرجل ما يشبه اللعب من قوله: فلو تجاسر متجاسر فحكم في ماله بحكم الموتى وفي زوجته بحكم الأحياء، وكيف يجري هذا في الإسلام أن ينطق في دين الله ناطق بخلاف إجماع الأمة، فيعني بقوله أو يلتفت إليه بنقض؟ فجعل هذا الرجل من قال بخلاف الإجماع كقول مالك، الذي قاله ستة من الصحابة لا يعلم لهم مخالف من الصحابة، وهذا من الجرأة والستخفاف بالعظيم، حتى لو كان بين الصحابة فيه اختلاف ما شابه ما أجمعت الأمة عليه. فهذا وجه ما عمل عليه مالك مما اتبع فيه قضية سراج اهل الجنة، ومن وافقه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أيد ذلك من الدلائل، وأسأل الله التوفيق برحمته.

باب فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام

باب فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام، وقال قد بين الله في كتابه تحريم ما أراد تحريمه، وقال: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}، وقال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم} الآية، وقال: {قال

أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحللا}، فما سكت الله عنه فهو عفو ورحمة، ولم يكل التحريم والتحليل إلى خلقه. وزعم الحجازي أن من قال: كل ما أحل الله علي حرام، أنه لا يحرم عليه، إلا زوجته. ولا يكونا لحرام حراما إلا بتحريم الله له، فليس لأحد أن يحرم ما أحل الله له، كما ليس له أن يحل ما حرم الله عليه. ولا فرق بين الزوجة وغيرها، ولو كان للخلق أن يحرموا ويحللوا، لم يكن لله على خلقه شريعه، وإذا كان لهم أن يحرموا ما أحبوا، [ويحللوا ما أحبوا لم يكن لله دين] [] [لامرأته أنت] [] أنه لو قال: ما حرم علي حلال أنه لا يحل له، فكذلك في تحريمه ما أحل له، لا يحرم عليه. ومن حرم الزوجة فلا دليل له من كتاب الله ولا سنة ولا إجماعن وما من دقيقة ولا جليلة إلا وبيانها في كتاب الله سبحانه. وكرر هذا الرجل من الكلام وأطال اللفظ في قلة المعاني، وكان كلامه كلام رجل يرى الدعوى حجة وقذع اللسان إفلاجا.

واحتج علينا بآيات أنزلها الله في المشركين، الذين يحرمون ما لم يحرم الله عليهم من السوائب وغيرها، وفيمن ألحد في دينه من بني إسرائيل، الذين حرموا ما لم يأذن الله به، وبدلوا ما عندهم من كتاب الله. فاحتج بهذا على من حرم بدلائل كتاب الله فيما لا نص فيه، من الصحابة والتابعين وأئمة هذا الدين، فأين حبس عن هذا الرجل عقله وفهمه؟ فالذي قال مالك من ذلك، هو قول علي بن أبي طالب وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة، وغيره، ومن التابعين ما يكثر علينا ذكرهم، وكتاب الله يدل على صحته.

وذلك أن الله سبحانه لما ذكر الطلاق الذي حل به عقد النكاح، وحرم به الزوجة بعد أن حلت، سماه بغير اسم فسماه طلاقا وفراقا وسراحا، وسمى فراقهما بعطية فدية، فدل أن المقصود المعنى المفهوم في ذلك، مما يؤدي اللفظ إليه. فكل ما جرى من اللفظ الذي يتشابه ويتفق فيه المعنى المقصود وجب له حكم المنصوص عليه من اللفظ، فقوله لزوجته أنت علي حرام، كأنه كشف وتفسير لما يوجبه لفظ الطلاق ولفظ السراح والفراق. فلم يكن اختلف هذه [الألفاظ] يوجب غير معنى واحد، وهو أن تحرم بذلك، وإذا كانت هذه الألفاظ إنما تحتها التحريم [كان لفظ] [التحـ]ــريم الذي كنى عنه بهذه الألفاظ أقوي في إيجابه، والله اعلم. ونحن نطالب العلل والمعنى وأنت في أصولك تطالب اللفظ ولا تراعي العلل، فهذا فرق بيننا وبينك

أرأيت من قال لامرأته: أنت خلية أو برية أو مبتوتة أهذه الألفاظ في كتاب الله؟ فإن أعطيتها معنى ما ذكر في كتاب الله، فلا تمنع من ذلك في مثل الحرام. والعجب من قولك، ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله، كما لا يحلل ما حرم الله، فأين وجدت أيها الرجل في كتاب الله امرأة قال لها زوجها، أنت علي حرام، أنها له حلال؟ وإنما هي له حلال بكتاب الله قبل هذا القول، فإذا قال هذا، فلا يعذر أحد أن يقول: إن في النص أنها له حلال، ولا يختلف الصحابة في النص. وكذلك قولك: وإذا كان للخلق أن يحرموا ما أحبوا ويحللوا ما احبوا لم يكن لله دين فإنك لمفتون متجاسر وكيف يظن، أن الصحابة وعلماء الأمة إنما يحرمون ما أحبوا؟ وكيف لهم أن يحبوا ما لم يأذن به الله؟ أو يتقدموا بين يدي الله ورسوله؟ وكأنهم عندك على الهوى نطقوا، وعلى ما اشتهوا في الديانة تكلموا، ولو رماك أنت أحد بهذا لأخرت نفسك عن هذا المقام الذي قاموا عندك فيه فما أعظم ما ابتليت به. ثم تقول: ومن حرم الزوجة فلا دليل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع. ولقد رضيت لنفسك بما لا يرضى به من يتدين بالإنصاف، أفيعجز عاجز – ممن يستحل ما استحللت – أن يقول: من حللها أولى أن يقال له هذا؟ والدعوى أضعف سلاح الخصم.

وقد دللنا على صحة تأويل مالك من كتاب الله وقد قام ما فهم من الفدية والخلع بين الزوجين والقصد للفراق بذلك مقام الطلاق وإن لم يلفظ به، بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان تأويلك في الخلع أنه فسخ بغير طلاق، فقد دللنا على أن ذلك طلاق عند ذكرنا لمسألة الخلع. ولا خلاف أن الكناية بالطلاق توجب ما يوجب الصريح منه إذا أريد به ذلك، وإذا كان قوله: قد فارقتك- يريد الطلاق، - طلاقا، فكذلك خليتك وسرحتك وحرمتك وأبنتك وبتتك. وإذا قال: انت حرام أو حرمتك – يريد الطلاق، لا نجد بدا بإلزام ذلك له، لأنه يشبه ألفاظ الطلاق المنصوصة، مع ما أيده من نية الطلاق، فذكلك لو قاله ولا نية له، كما لو قال: فارقتك، ولا نية له، أو: سرحتك، ولا نية له. وإذا حرمت بقوله: فارقتك، فكذلك ذلك فراقا بقوله ذلك، من غير فراق تقدم، فكذلك قوله: حرمتك، ترحم بقوله ذلك، من غير تحريم تقدم. وهذا كالنص مع ما أيده من الدليل الواضح، ولله الحمد، وهو قول أئمة من الصحابة.

أنا أبو بكر بن محمد قال: أنا يحيى عن سحنون بن سعيد قال: أنا أنس بن عياض، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليا كان يقول في قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام: إنها ثلاث. قال سحنون: ونا به ابن وهب، عن أنس بن عياض. أنا أبو بكر قال: أنا يوسف بن يحيى قال: أنا عبد الملك بن حبيب قال: أنا مطرف بن عبد الله، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عمر بن دلاف. وفي الموطإ في غير هذا الحديث: عمر بن عبد الرحمن بن دلاف عن أبيه، أن عليا قال: الحرام والبتة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. أنا أبو بكر قال: انا يحيى قال: أنا سحنون عن ابن وهب قال: أنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي هريرة مثله في الحرام. قال ابن وهب: أنا عبد الله بن عمر ومالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول في الخلية والبرية: البتة.

وقاله في الحرام من الصحابة من ذكرنا ومن لم نذكر، ومن التابعين عدد كثير، ومن تابعيهم منهم الحسن والحكيم وربيعة وابن شهاب وابن [] [وكثير مـ]ــمن يكثر علينا ذكرهم. والعجب في تجاسر هذا الرجل على رد أقاويل الصحابة، حيث لم يحك ما تقلد عن أحد منهم، ولا يجد عن أحد من الصحابة أنه قال في القائل لامرأته: أنت علي حرام، إنه لا شيء عليه. وإن كان قد روي فيه اختلاف عن بعض الصحابة، فلا يجد عن احد منه أنه لا شيء على قائل ذلك، حتى لا يلزمونه شيئا من طلاق واحدة، ولا أكثر منها، ولا ظهار، ولا كمقام يمين، بشيء من ذلك ولا بغيره، فلا يجد ذلك عن صاحب، وفيما قال العلماء العالمون بما اختلف فيه الصحابة. وإنما هذا يحكي عن رجل من التابعين، الله أعلم بصحة ذلك عنه، على كثرة من خالفه من التابعين. ولا أعلم من فقهاء الأمصار من يرى أن يتقلد قولا، لا يحفظ فيه عن أحد من الصحابة إلا خلافه. ومن تقلد مثل هذا القول الذي رغب عنه صدر الأمة انبغي له أن يستحي من ذكره، فضلا عن أن يطلق فيه هذا الإطلاق على من خالفه.

وكأنه رجل يرى أن له أن يقول بما لم يسبقه إليه سلف، وهذا لا يراه العلماء، وإنما يجسر على مثل هذا الخوارج. وإذا كان لنا أن نختار من أقاويل الصحابة بما يظهر لنا من الدلائل، فإن القول الذي أخذنا به من قول الصحابة قد ذكرنا ما تظاهر من الدلائل عليه. ومن قال: وهي واحدة، أو قال هي ما نوى من الطلاق أو قال: ظهارا، لم يعط الكلمة حقيقتها، لأنها لا تحرم بالواحدة، ولا بالظهار ولا بدون الثلاث. ومن قال: ييمن، فلم يحلف القائل بذلك على فعل، وقد أجمعوا أن من حلف بالطلاق أن ذلك لا تكفره كفارة، وهذا أشبه بصريح الطلاق أو بمكني الطلاق منه باليمين بالله، فلما كانت الأدلة تدفع هذا، ولم يكن لقول هذا الرجل الذي تقلد سلف من الصحابة سقطت المناظرة عليه، إلا أنا مع ذلك قد تكلفنا رده، وذلك في صدر المسألة على [إبطال] ذلك من ناحية الاعتبار وما دل عليه الكتاب والسنة و [].

باب في المرأة تشتري بالصداق جهازا ثم تطلق قبل البناء

باب في المرأة تشتري بالصداق جهازا ثم تطلق قبل البناء قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك، في المرأة تشتري بالصداق طيبا وشوارا، ثم يطلقها الزوج قبل البناء: أنه ليس له إلا نصف ما اشترته من شوار وطيب. قال: وهذا خلاف ظاهر القرآن، لقوله سبحانه: {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفوان أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح}. قال: وهو الزوج فلا يجب أن ترد غير المفروض، كان دنانير أو دراهم، فأسقط عنـ[ــها] واجبا بلا كتاب ولا سنة ولا اتفاق.

قال: فهو في ذلك مغفل بَيِّنُ الإغفال، ولا يعدو المفروض ما دفع إليها أو ما اشترت، فإن قال: ما اشتريت كابر، وإن قال: ما دفع ترك قوله. فالجواب عن ذلك: أنه ليس بخلاف ظاهر كتاب الله ولا سنة رسوله، بل في الكتاب والسنة دليل ذلك. وذلك أن علي الزوجة أن تتجهز بالصداق، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بصداق فاطمة بغير إذنها، فكأنه أمر عليها، ولما كانت لذلك أخذته كانت كالمأمورة بذلك، فلا حجة للزوج في إنكار ذلك بعد الطلاق، لما كان له فيه من الإذن وصار له فيه بالطلاق من الشركة. وهو ايضا فله سلطان في تحصين مالها، وهو في ذلك قيم عليها، قال الله سبحانه: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} فالرجل بما فضله الله وبما أنفق من ماله عليها، وهذا على ظاهره إلا أن يخرج شيء عن ذلك بإجماع أو دليل. ولما رد الله إليه نصف الصداق بالطلاق، دل ذلك أن ما يشتري له فيه معنى يخصه، وقد اشترت به ما اشترت، لأنها لذلك أخذته وهي مأمورة بذلك، وكان ذلك كإذنه لها فيه. وقد دل القرآن أن إذنه في ذلك إذن لما جعل له نصفه بالطلاق وقد دل على ذلك فعل الرسول عليه السلام، وما جرى من عرف المسلمين. وللزوج سلطان في منعه إياها من تلاف ما لها، الذي هو جمال له ولها، وله

الاستمتاع منه بما جرت به العادة والعرف، مما قامت به السنة وتعارفه المسلمون. وكذلك ما تعارفه المسلمون أن على المرأة أن تشتري بصداقها أو بما يصلح منه ما يصلحها، من طيب وكسوة وفرش. ولما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق فاطمة، وهو ثمن درع علي التي أتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يشتري منه طيب وكسوة وما يفترشان فامتثل الناس ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يشاور رسول الله عليه السلام في ذلك فاطمة. فدل ذلك أن ذلك أمر لابد منه، وأن على ذلك مجاري النكاح، وأنه مع ذلك من المكارمة التي جرت عليها معانى النكاح، ولم يجر على المكايسة، لما أجاز الله سبحانه من نكاح التفويض في الصداق. وقد تعارف المسلمون في كل بلد من بلدانهم أن تشتري بالصداق أو ما قبضت منه شوارا وطيبا، والعرف القائم كالأمر اللازم. فلو تزوج رجل امراة بألف دينار، فرفعتها وأتته في درع وخمار، لأنكر هذا عامة الناس وخاصتهم. والعرف بين الناس في الأصول أمر يلزمونه في غير شيء، ألا ترى أن في الصداق نفسه، أنا نلزمهم في التفويض فيه عرف ذلك البلد منه وعادتهم فيه وإن كان

ببلد آخر يكون ذلك – فيمن هو في مثل حال تلك المرأة – أكثر من ذلك أو أقل وصنف سواه. وكذلك يؤخذ بالعادة والعرف في الأكرية، في مقدار السير وسرعته وجلسائه، ومواضع نزول المسافر من []، وفي كنس مرحاض الدار وقمامتها، وفي زيادة ولد للساكن، وزيادة رقبـ[ـة]، وفي غير ذلك كثير، والله سبحانه يقول: {خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. وإذا كان عليها أن تشتري بذلك ما جرى عرف الناس به، كان ذلك كالأمر والإذن لها، ولا يجوز أن يؤذن لها في شراء شيء ثم يطالب إذا طلق بغيره، لأن شراء ذلك له كان وبسببه وعن إذنه، وهو إن لم يطـ[ـــــلق] فله جماله والاستمتاع منه، بما جرت العادة بالاستمتاع به. فإن قيل: كيف تكون هي مالكة، وهو حاكم عليها، فيما هي له مالـ[ــــــكة]؟ فيمنعها من إتلافه، ويحول بينها وبين الإجحاف به، ويشاركها في الاستمتاع ببعضه؟ قلت: الكتاب والسنة دلا على ذلك، لأن الله سبحا [نه] لما أجاز نكاح التفويض في الصداق فأجمعوا أن امرأة لو تزوجت بتفويض ولها جمال ومال، وأخرى تزوجت

كذلك، ولها جمال ولا مال [لها] ثم دخل بهما، أن على زوج ذات المال من صداق مثلها أكثر مما عليه للتي لا مال لها. فمن حجة زوجها أن يقول: إن كان مالها وصداقها لا مـ[ــدخل لـ]ـي فيه ولا نفع لي به، ولا لي أن اقوم ببقائه في ملكها، ليكون لي جما [لا] ورجاء عواقبه، ولا أتمتع به، وليس في شيء من مالها لي سبب نفع بوجه، ولا بسبب، فزيادتكم علي في الصداق ومن أجله، لم؟ وهذا ظلم تظلموني [به]؟ فليس تكون حجته حجة، على ماذهب إليه من خالفنا، وقد قال الرسو [ل] عليه السلام للتي تزوجت بنعلين، أرضيت من نفسك ومالك بهذيـ[ــن] النعلين؟ وقال: تنكح المرأة لمالها ولجمالها ولدينها فعليكم بذوا [ت] الدين. وأجمعوا أنه لا يملك ذلك ملكا تاما، فلم يبق إلا ما تعارفه النا [س].

جعله قد قام مقام الغفلة، لأنه قال بأثر هذا: فهو في ذلك مغفل بين الإغفال. فهذا ما أدته إليه يقظته وانتباهه، وإن يقظة أدت صاحبها إلى أن مالكا مغفل لتزيد على النوم في التمثيل، وما بنا حاجة إلى رد هذه إلا لحكايته. وذوو الألباب من أئمة الأعصار يعلمون نهاية مالك في اليقظة والنباهة والحفظ ولطيف الفهم والاستخراج [ولهـ]ـــذا، امتدت له هذه الإمامة التي لا يدفعه عنها مخالف ولا موالف، وما غير هذا إلا من باب التلاعب، ونعوذ بالله من اللعب في دينه.

باب في المطلق يرتجع زوجته وهي لا تعلم، والوليين يزوجان جميعا

باب في المطلق يرتجع زوجته وهي لا تعلم، والوليين يزوجان جميعا قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك، في الرجل يطلق زوجته واحدة، ثم يرتجعها في سفره في العدة وهي لا تعلم، حتى حلت وتزوجت، أن الأول أحق بها إن قدم، ما لم يدخل بها الثاني. واحتج هذا الرجل بقول الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن}، قال: فأباح امرأة لرجل، وهي زوجة لغيره، وهو يقول: إن نكاح الثاني باطل، فكيف تحل بالدخول. قال: وكذلك زعم مالك في الوليين يزوجان امرأة واحدا بعد واحد بإذنها، أن نكاح الأول صحيح ونكاح الثاني غير منعقد ولا جائز، وأن الثاني غير زوج، وإن مات الأول قبل بناء الثاني ورثته وورثها إن ماتت.

قال: ثم ناقض، فقال: إن دخل الثاني قبل الأول، فالثاني الداخل بزوجة غيره أولى بها، فصار دخوله بزوجة غيره موجبا أنها له زوجة، وحرمها على الأول بغير طلاق، فأباح محظورا بغير دليل ولا سنة ولا اتفاق. وذكر حديثا عن ابن جريج عن عبد الكريم عن أبي موسى أن وليين أنكح أحدهما عبيد الله أولا، وأنكح الآخر بعده جارا له، فجامعها الثاني، فقضى بها لعبيد الله. فالجواب عن ذلك، أن ما قال مالك من ذلك فالأصول تدل عليه، من الكتاب والسنة والإجماع. وقد حرف هذا الرجل قول مالك، وبدله إلى ما تتم له به المناقضة التي تمناها في قول مالك، وليس لكل واحد ما تمنى، وكان حكمه في الديانة أن لا يحرف قول الرجل، ولا يرد عليه ما لم يقل. فمما ما حرف فيه وحكى ما ليس بقوله قوله: إن نكاح الثاني غير منعقد، ولا جائز، وأنه ليس بزوج، وأن الثاني إذا دخل بزوجة غيره أولى بها، فهذا تعد، وتحريف في القول وحكاية ما لم يقله مالك. وليس يقطع في الثاني بفساد حتى يعلم آخر ذلك، لأن الزوج له أن يرتجع، والزوجة التي لم تعلم بالرجعة لها في إجماع المسلمين أن تتزوج، فلما لم يكن عليها أن تقيم أبدا، لإمكان أن يكون زوجها قد ارتجعها وكان [] إذ لم يعلم بها، فكان

كالحاكم يجتهد بما أبيح له، فيمضي ثم يتبين له أن غير ذلك هو الصواب فلا ينقض ما نفذ من قضائه. وهو أيضا بمنزلة حاكم حكم بما تبين له من دلائل على غائب، فله أن يبيع عليه فيه ربعه، ولا يتوقف عن ذلك لإمكان أن يكون عند الغائب حجة، فبعد أن باع وقضى الدين قدم الغائب، وقد أبقاه على حجته في الدين، فأقام بينة بقضاء الدين، أن له الرجوع بالثمن، على المقضي له بالدين، ولا يرد بيع الدار، لوقوعه بأمر جائز. وكذلك أمرأة المفقود يضرب لها الأجل، وتتزوج زوجا، ثم يأتي زوجها. وكذلك امرأة النصراني يسلم، فتعتد وهو غائب، وتتزوج انه إن قدم زوجها وأقام بينة أنه أسلم قبلها، أو أسلم في العدة بعدها، فلا سبيل له إليها. وقد اختلف قول مالك في هذه الثلاث مسائل، في امرأة المفقود، والتي لا تعلم بالرجعة، والتي تسلم ثم يسلم زوجها في عدتها وهو غائب ولا تعلم. فقال: لا سبيل للاول إليها إذا تزوجت، وقال: هو أحق بها ما لم يدخل بها الثاني، وهذا في التي لم تعلم بالرجعة مروي عن عمر بالإسناد الجيد، من رواية

مالك وابن وهب وغيره. وكذلك نكاح الوكيل أو الأب يزوج ابنته، ويزوجها رجل قد وكله الأب أيضا، فهذا لم يختلف قول مالك فيها، أن الأول أحق بها ما لم يدخل الثاني. والأصل في هذا: أنه لما كان لكل واحد أن يفعل ما فعل فقد تساويا في أمرهما، فلا يكون أحدهما أولى بما فعل، إلا أن يزيد مرتبة على صاحبه، فإن تساويا في أنهما لم يدخلا كان الأول أزيد مرتبة منه، فيسبق فإن دخل الثاني كان الدخول أقوى من السبق إلى العقد. ولا يجوز أن يقال: إن العقد الثاني كان فاسدًا، وهذا من العقود التي يكشف صحتها ما يظهر بعد ذلك، كالذي يتيمم، فلا يجوز أن يقال: إنه إن أصاب الماء قبل أن يدخل في الصلاة أن تيممه في حين ما تيمم باطل، إنما ظهر لنا بوجوده الماء الآن أن تيممه باطل، حتى إذا دخل في الصلاة قبل أن يجده، ووجده في الصلاة، ظهر لنا الآن أن تيممه صحيح.

وكذلك القاضي يحكم بما ذكرنا، ثم يظهر له خلاف ذلك على ما بينا. وكذلك ما أتى من السنة، فيمن وجد بعيره في المغنم، أنه إن وجده قبل دخوله في المقسم، أخذه بغير ثمن، وإن وجده قد قسم لم يأخذه إلا بالثمن. فلا يجوز أن يقال: لما كان له مالكا قبل القسم، فلا يزيل عنه القسم، وذلك أن للمشركين فيه شبهة ملك، بما دل عليه هذا الحديث والحديث الاخر: من أسلم على شيء فهو له، يريد: وإن كان أصله للمسلمين. فهذه الغنيمة، لما كان لأهل الغنم أن يقسموا، ولا يترقبوا تمييز ما منه لمسلم او غيره، ثم افاتوا ذلك بالقسم الذي لهم فعله، لم يكن لمالكه إليه سبيل. وكذلك كل من له أن يفعل فعلا، فلا ينقض فعله إلا إلى ما هو أقوى منه فالمطلقة لها أن تتزوج بعد العدة ولا تترقب، لما يظن انه قد ارتجعها، فلا يرد لها فعل أباحه لها ظاهر الكتاب والسنة، وذلك أن الزوج عقد رجعة مباحة له، وعقدت هي نكاحا مباحا لها، وزادت الدخول فكان فعلها أقوى ألا يرد لما زاد من أحكامه.

كما أن الجيش لما غنموا مال هذا الرجل وهم لا يعلمون، فملكوا ذلك بأمر جائز في الظاهر مباح، وقد سبق لربه ملك فيه، وهذا أقوي من ملك المشركين، ولهؤلاء فيه شبهة ملك، لشبهة ملك المشركين فلما كان لهم أن يفعلوا فيه، وبسطوا أيديهم في قسمه فقسموه، جعل النبي عليه السلام قسمهم إياه يمنع صاحب الملك القديم منه، ويقوي الملك الثاني الذي كان ضعيفا وكان الملك الأول أقوى منه. فكذلك ما يسبق به العقد ويتأخر بالأمر الجائز، فيرد الأمر فيه إلى من قوي سببه على ما شرحنا، لتساويهما في الإباحة، فأحقهما أقواهما سببا فيما أبيح لهما فيه أن يحكما وأن يفعلا، وعلى هذا دلت السنن والأصول، وهو قول الخلفاء التابعين. أنا أبو بكر بن محمد قال: أنا يحيى قال: أنا سحنون عن ابن وهب عن يونس عن أبي الزناد عن عمر. وذكره ابن شهاب ومالك عن عمر، بمثل ما ذكرنا من قول مالك، في التي لا تبلغها الرجعة حتى تنكح.

أنا محمد بن عثمان، قال أنا محمد بن الجهم، قال أنا محمد بن شاذان، قال أنا معلي قال نا عبد الله بن عمر، ونا عبد الكريم الجزري، عن سعيد أن عمر قال في رجل طلق امرأته، قم خرج في سفر، فأشهد على رجعتها ولم تعلم بذلك فتزوجت، قال: إن رجع قبل أن يدخل بها زوجها الآخر فهي امراته. وروى مثله ابن وهب عن عمر، في الوليين يزوجان، وهو خبر ثابت. وروى مثله عن معاوية، وقاله عطاء، نا أبو بكر قال نا يحيى قال: أنا سحنون، عن ابن وهب، قال أنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عن ابن المسيب: ان السنة مضت في الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها فيكتمها الرجعة، حتى تحل فتنكح زوجا غيره، أنه ليس له من أمرها شيء، ولكنها من زوجها الآخر. وقاله عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، وقاله ابن شهاب، وهو قول عطاء ومكحول وربيعة ويحيى بن سعيد، وقاله مالك والليق، وقضى به شريح في التي لم تعلم بالرجعة، وقال جابر بن زيد، إذا دخل بها الثاني فلا شيء للأول [وإلا] [فهي للأول].

وقاله ابن الزبير والحسن بن علي. وهذا كله بالأسانيد الجيدة، تركنا [هنا] إيعابها كراهية التطويل، إذ فيما ذكرت وفي بعضه مقنع، و [الله] المستعان على توفيقه. ولم يذكر هذا الرجل في مسألته هذه اثرا صحيحا ولا شيئا عن أحد من السلف، إلا أنه ذكر عن أبي موسى في الوليين يزوجان فأعوزه أن يجد ذلك إلا عن رجل واحد، في غير المسألة التي احتج لها، فجعل ذلك أصلا، ثم قاس عليه التي لا تعلم بالرجعة فإن لم يرد ذلك قياسا عليه، فلا معنى لما ذكره عن أبي موسى في غير مسألته. والذي ذهبنا إليه مروي ثابت عن ستة من الصحابة، ثلاثة من الخلفاء وعن عشرين من التابعين بالحرمين والعراقين والله المستعان.

باب قضاء ذات الزوج في مالها

باب قضاء ذات الزوج في مالها قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك في ذات الزوج: إنه لا يجوز فعلها في مالها، من صدقة وعتق وهبة إلا قدر الثلث. قال: فحذر غير محذور، وحد ما لم يحد الله ولا رسوله ولا اجتمت عليه الأمة، وجعل من لا يملك المال يحكم في مال غيره. واحتج بقول الله سبحانه: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وبقوله: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه} وقول النبي عليه السلام: ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. وكل ذي مال أحق بماله.

فوجب بذلك ألا يحكم أحد في مال غيره، وجعل مالك للزوج رد عتقها، وهو يقول: يقطع إن سرق من مالها فجعله كأجنبي ثم جعل له رد ما أعتقت، وهو لا يجوز له عتقه، ولا المال له ثم أجاز هبتها لزوجها جميع مالها، فما الفرق، ولا دليل له على ذلك من كتاب ولا سنة؟ قال: وإذا لم تحكم إلا في الثلث من يحكم في الثلثين، لا هي ولا زوجها ولا غيره، فيكون مال لا حاكم فيه، لا مالكه، ولا غيره. ثم قال: إن تصدقت بجمع مالها فللزوج رد جميعه، فلم يجز هاهنا حكمها في الثلث [] [في غيره]. وقال: إن أصدقها صداقا فقام عليها الغرماء، فلا يقضي لهم فيهب شيء، وتشتري به الجهاز للدخول على زوجها، فمنع الحق من أهله، إذ هي ملية، تقضي دينها بالصداق الذي ملكته بأوجب واجب. وقد امتنع النبي عليه السلام من الصلاة على الذين عليه الدين، فكيف بمن يجد قضاءه ويمنع منه غرماءه، لشراء طيب وجهاز، فلما ضمن أبو قتادة الدين، صلى عليه النبي عليه السلام، فهذا يدل أن من ضمن عن رجل دينا أن المديان يبرأ منه لرب الدين.

وقال مالك: لا يبرأ المضمون عنه بذلك، ولا يؤخذ به الضامن إلا في عدم الغريم أو موته، ولو كانت ذمته مشغولة ما صلى عليه الرسول عليه السلام بعد أن امتنع. فالجواب عن ذلك: أن الله سبحانه قال: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من أموالهم} فدل بقوله: {وبما أنفقوا من أموالهم} أن المراد الزوج، فإذا كان بظاهر القرآن هو قيما على زوجته وواليا عليها، وجب أن يكون له في المال معنى خص به، ولا يزيل قيامه عليها بهذا العموم إلا بدليل يقوم. وقام الدليل من كتاب الله وسنة نبية عليه السلام ان للزوج في مال المرأة معنى، يجب له معه القيام بحفظه [وقيامه] عليها، وذلك أنه زيد عليه في الصداق من أجله إذ لو نكحها على تفويض، وبني بها وكانت ذات مال، ان صداق مثلها اكثر من صداق مثلها لو كانت فقيرة، ولو حتى أتلفت مالها قبل النكاح، لم تأخذ في صداق مثلها عشر ما يأخذ في ملائها. فدل ذلك أن ما زيد على الزوج من الصداق لسبب مالها، أن تلك الزيادة عليه لسبب مالها، لمعنى أن في المال الذي لها، فوجب علينا أن نستدل على ذلك المعنى، لما رأينا [] منها لم يبق إلا أن له جماله ببقائه عندهما لما له في ذلك من تعجل نفعه بذلك، من جمال ذلك عليه، ومن جاء عواقبه ومن غير ذلك.

فجعلنا له أن يمنعها ما يزيل ذلك عنه، مما يتلف به المال أو يجحف به ويزيل أكثره، [و] قوانا على ما تأولنا في ذلك من كتاب الله، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو هريرة: تنكح المرأة لمالها وجمالها، فجعل للمال ما جعل للجمال، الذي به يستمتع فكان له أيضا معنى في المال يستدل عليه، وعلى ما أشار النبي عليه السلام إليه، وكذلك قوله عليه السلام لتلك المرأة، اتي تزوجت بنعلين/ أرضيت من نفسك ومالك بهذين النعلين. نا به عبد الله بن سعيد الحداد، قال نا أبو عمران موسى بن الحسن البغدادي قال: نا عاصم بن علي بن عاصم قال: نا شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت رجلا على نعلين، فرفعت إلى النبي عليه السلام، فقال: [أ] رضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت نعم: فأجازه. قال شعبة: فكان في نفسي من الحديث شيء فلقيته فسألته أيضا فحدثني، فقال لها: أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت نعم، قال رأيت ذلك، قال: وأنا أرى ذلك.

فقرن النفس مع المال في عوض الصداق فذلك يدلك أن له في المال معنى، كما له في البدن معنى التمتع به، فنظرنا سبب ما وجب له في المال بذلك، فلم نجد غير هذا المعنى، فأقمنا ظاهر الكتاب والسنة فيما وجدنا قيام ذلك فيه لئلا يتعطل ذلك، وأخرجنا من ظاهر ذلك ما أجمع الناس على إخراجه من تمليك الزوج لمالها حقيقة الملك، وكذلك أخرجنا من ذلك ما أجمعوا عليه أنه ليس له منعها من إتلاف اليسير الذي لا يجحف بالمال من الثلث فأقل، وما وقع فيه الاختلاف أصرفناه إلى ما أقمنا، به ظاهر الكتاب والسنة، وهكذا يجب علينا، وإلا أبطلنا المعاني بأسرها. وإقامة الأمر إلى ما يستعمل به ما أمكننا استعما [له] من الكتاب والسنة أولى بنا. وهذا وقد روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن المرأة لا تحكم في مالها إلا بإذن زوجها. أنا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد المالكي، قال: نا ابو مسلم قال نا ابو عمر الضرير، قال نا حماد عن داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلىى الله عليه وسلم قال: لا يجوز لامرأة في مالها أمر، إذا ملك زوجها عصمتها.

ورواه حماد بن سلمة وحبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام. نا أبو بكر بن محمد قال: نا يحيى بن عمر قال نا سحنون، عن ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه أبيه سمع عمرو بن شعيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما رجل ملك عقدة امرأة تزوجها، فليس لها أن تعطي شيئا من مالها إلا بإذن زوجها ". قال: وأنا سليمان بن أيوب عن عطاء بن دينار وغيره. وقاله طاووس وربيعة وعمر بن عبد العزيز وغيره من التابعين. قال: وأنا يزيد بن عياض، عن عمر بن عبد العززي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، وأنا مخرمة، عن أبيه، عن ابن المسيب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مثله. وأنا يونس عن ابن شهاب قال: أدركت أهل العلم يقولون: ليس للمرأة أن تعطي من مالها عطاء ذا بال إلا بإذن زوجها.

وهذا الذ [ي نص] ابن شهاب أنه الذي سمع العلماء بالمدينة يقولونه، رواه ابن الماجشون بإسناده له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يجوز لامرأة أن تقضي في مال ذي بال إلا بإذن زوجها. والحديث الذي تقدم ذكرنا له لا يخالف هذا، ومعنى الأول في الشيء الكثير الذي يجحف المال، بدليل ما أجمع الناس عليه أن فعلها في القليل جائز، فخرج ذلك مما جاء في الحديث ودل عليه القرآن. نا [انب] وهب، عن شمر بن نمير، عن حسين بن عبد الله عن أبيه عن جده، عن علي بن أبي طالب قال: يجوز للمرأة ما أعطت من مالها والديها في غير سرف، إذا احتاجا إلى ذلك، فمنعها من السرف. وعلي هذا جاءت الأحاديث كثيرا عن السلف. وكانت [صفية] بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر – وهي بنت ستين سنة – لا تعتق رقبتها حتى تستأذن زوجها. نا به أبو بكر بن محمد قال: نا يحيى بن عمر، نا سحنون، عن ابن وهب، عن الليث، عن نافع. وقد روي عن عمر بن الخطاب ما يقرب من هذا.

ويكثر علينا تقصي ما روي عن السلف في هذا. وهذا - مع شهرته وتأكده في سلف الأمة من صاحب وتابع – الذي قال هذا الرجل فيه: إنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة وهذا من التنطع، والله المستعان على اتباع سبيل المتقدمين. وقوله: تقطع يده إن سرق مالها، ورأى هذا خلافا لقوله: إنه يمنعها فيه الحوادث، وأن هذه مناقضة. وهذا أمر غاب عنه، لأنا لم نقل: إنه مالك لماله منعها من إتلافه، فلما أراد أن يتملك مالها بالسرقة قطعناه، لسرقته ما غيره مالك له وإنما له فيه سلطان المنع من إتلافه، ليبقى بيدها لما قام دليلنا به. وقد يمنع المريض من الحكم في ثلثي المال وارثه، ولو سرقه الوارث في مرض المريض لقطع، فما الذي استبعد من هذا؟ وقوله: فمن يحكم بالثلثين؟ فيقال له: ومن يحكم في الثلثين من مال المريض؟ لا هو ولا ورثته ولا غيرهم. وهذا إدخال غافل، والمرأة والمريض يحكمان في الثلثين في ملكهما لما ينميه ولا

يتلفه، كما أن المديان يحكم في ماله لما ينميه، ولا يجوز عندنا أن يتلفه والدين محيط بماله. وقوله: بم أجاز هبتها لزوجها جميع مالها؟ فما الفرق، ولا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة؟ وقد دللناه على ما غاب عنه من الكتب والسنة، وأما الفرق بين الزوج وغيره، فإن منعنا للزوجة من إتلاف مالها من أجل الزوج، فإذا كانت الهبة له، زالت العلة التي كان لها المنع. وإنما تكون مناقضة لو منعناها الحوادث من مالها لأن لها زوج، لا لأن للزوج حجة في ذلك ومنفعة له حق القيام بها، كما كان للورثة منع المريض من إتلاف ماله وإعطائه لغيرهم أو أن يخص به أحدهم، فحتى لو أعطاهم أنفسهم ماله كله بينهم سواء وهم بنون ذكر أو إخوة لجاز ذلك. وكذلك لو أوصى بماله لوارثه وهو وارث واحد، أو لورثته على حسب مواريثهم. وكذلك الزوج الذي كان له المنع هو الموهوب، لم يبق لأحد حجة، ونحن فلم نمنعها من مالها أن تتلفه لأن لها زوج، وإنما قلنا: للزوج منعها من ذلك، لمعنى هو له

في ذلك المنع، فإذا زال منعه زالت العلة، التي لها منعناها، وكذلك قال من قال قولنا من السلف. أنا محمد بن محمد قال: أنا يحيى بن عمر قال: أنا سحنون، عن ابن وهب، عن رجال من أهل العلم، عن الأوزاعي، عن عمر بن عبد العزيز كتب في المرأة تعطي لزوجها العطية والصدقة: إن كان عن طيب نفس منها، فهو مما أحل الله أن يأكله هنيئا مريئا، وإن كان عن استكراه أو ضرار أو تخويف، فليرد عليها ما أعطته. وقاله يحيى بن سعيد وأبو الزناد وابن شهاب وربيعة وغيره. وأما قوله عن مالك: إن تصدقت بجميع مالها فللزوج رد جميعه، فلم يجز ثلثا، ولا غيره، فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة. فقال المغيرة وغيره: يجوز منه الثلث، وقال مالك وغيره: يبطل جميعه، وهو قول محتمل للنظر، لأن تجاوزها في الكثير عمل بالضرر، الذي لا يباج لها، وفما جرى على وجه الضرر أبطلنا جميعه، وما جرى على الإصلاح نفذ إذا لم يكن ذلك مجحفا بالمال، الذي للزوج الحجة في بقائه.

وشيء آخر: أنَّا متى رددنا فعلها لما يتبين لنا من الضرر، كان لها أن تأتنف فعل ما أراد [ت] مما لا يرد من فعلها، والمريض إذا جاوز الثلث، وفات بنفسه، فقام الورثة برد ذلك، لم يكن للميت من يأتنف له الوصية بالثلث، أو غير ذلك مما كان هو يأتنف لو رد عليه فعله قبل فوات نفسه. فليس ردنا لما زاد على الثلث من فعل الميت كردنا لفعل المرأة؛ لأن هذه قادرة على ائتناف ما أرادت، والميت يفوت ذلك منه، فلم يتساو هذا. وأما قوله: إذا قام الغرماء عليها لم يقض لهم بأخذ الصداق في دينهم، وتشتري به الجهاز أولا، فهذا قد دلت عليه الأصول، لأن الصداق قد تعارف الناس أنه إنما يدفع إليها لتصرفه فيما يتجملان به ويستمتعان به، فكأنه كالأمر المشترط، لأنه عرف قائم، فقضاؤه في دينها يمنع الزوج مما عليه بذل الصداق، ولو علم أنه إنما يصدقها لتصرفه في دينها، وتأتيه فقيرة، ما بذل لها ما بذل، وهذا ظاهر في التعارف. وقد ذكرنا في باب الرجوع بنصف الصداق في الطلاق ما دل على كثر من معاني الخلاف في هذا الباب، وإن كان إنما بذل الصداق لأمر، فله القيام به والرفع لكل ما منع منه والله أعلم. وليس لها أن تقطع عنه ما عليه أعطي الصداق كما لا تمنعه ما اشترط. وقوله في امتناع النبي عليه السلام من الصلاة على المديان، حتى ضمن عنه أبو قتادة، فقد قيل: إنه منسوخ بقوله عليه السلام: من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلي.

وهو قول ابن شهاب، قال: وكل من مات وعلي دَيْنٌ فدينه على الأمير، وهو ظالم إذا لم يقض عنه. وقوله: إن بضمان الكفيل، برئت ذمة الميت، ولولا ذلك ما صلى عليه النبي عليه السلام بعد امتناعه، [] لأنه لو مات مليا، والطالب على ثقة من قبض ماله، [أو قبض كثيره إذا لم] []، والله أعلم. وقد مات عمر وغيره من أكابر الصحابة عن دين عليهم ولهم وفاء به، فأظهر المعاني أنه لما قام صلى كان من الدين على ثقة أنه يقضى عنه، كما لو مات مليا، فصلى عليه عليه السلام، لما تأكد من إمكان قضاء دينه. والدليل على ذلك: أنه لو دخلت ذمته من الدَّين الأول لكانت عامرة بِدَين أبي قتادة أيضا، فقد حصل أن عليه دينا، لأن لأبي قتادة طَلَبَه بما يؤدي عنه، وليس في الحديث أن ذلك هبة ولا صلة، وإنما فيه الضمان، ومن ادعى براءة الذمة بالضمان، أو أن أبا قتادة تصدق بذلك، ادعى ظنًا لا تقوم به حجة، وأسأل الله توفيقه برحمته. وإن قال: إن أبا قتادة رضي بالقضاء عنه على علم بأنه لا يجد في تركته وفاء، فإن لم يكن هبة وصدقة فهو على طيب نفس من تأخيره عليه، لرجاء ما يقضي عنه آخر ذلك، أو بشيءٍ يرجى.

قيل له: فإن كانت ذمته مشغولة بدَين أبي قتادة بطلت علتك: أن النبي عليه السلام لم يصل عليه إلا وهو خالي الذمة، وإذا صلى عليه النبي عليه السلام مع عمارة ذمته، كان ذلك دليلا أن التوقف عن الصلاة لفقد قضاء الدين، فلما صار في أمن من قضائه بالضمان صلى عليه، وكذلك لو كان مليا لم يتوقف علـ[ـــيه] السلام من الصلاة عليه، والله أعلم، فبطلت العلة التي ظننت أن الضمان يبريء الذمة. وإن قلت: ذلك صدقة من أبي قتادة، لم يحصل معك غير الدعوى التي لا يجوز أن تدعيها بالظن، وهذا من التمني، والله المستعان على توفيقه.

في التظاهر من الأمة

في التظاهر من الأمة قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك، فيمن ظاهر من أمته: أنه يلزمه، وحكى أن مالكا قال: وإن آلى من أمته لا يلزمه. قال: وهذا خلاف ظاهر القرآن لقوله سبحانه: و {الذين يظهرون منكم من نسائهم} الآية، وقال: {للذين يولون من نسائهم} الآية، وقال: {وإن عزموا الطلق}.

فأوجب أن الظهار والطلاق لا يكونان إلا من الأزواج دون الإماء، بقوله: {من نسائهم} والنساء المقصود إليهن في هذا الأزواج دون ملك اليمين، ولم يوجب علينا ظهارا، ولا إيلاء فيما ملكت أيماننا. فقال مالك: لا يلزمه الإيلاء من أمته، فلم تكن الأمة عنده من نسائنا، ثم نقض ذلك فقال: يلزمه الظهار منها، والآيتان في الظهار والإيلاء، قال الله سبحانه في كل آية: {من نسائهم} ففرق بين ما لا يفترق في خبر ولا نظر، ولا أتى به خبر، وظاهر الآية: إنما وجب الظهار فيما وجب فيه الإيلاء ولم يوجبه إلا في الأزواج، فقائل هذا مغفل، غير سالك طريق النظر. أرأيت لو جسر غيره، فقال: يلزمه الإيلا في أمته ولا يلزمه فيها ظهار، هل الحجة عليه إلا كهي على مالك؟ ولم يفرق بين ما فرقت كتاب ولا سنة ولا اتفاق. وإذا كان الاختلاف في ذلك، فظاهر القرآن يدل على أن المراد النساء اللاتي يظاهر منهن أزواجهن، وكذلك الإيلاء. فالجواب عن ذلك: أن هذا الرجل غافل فيما حكى عن مالك في هذا وفيما أنكر، وذلك أن مالكا يقول: إن ظاهر من امته لزمه الظهار، ولم يقل: إن من آلى من أمته إلا يطأها ان اليمين لا تلزمه، وإنما لا يلزمه ضرب الأجل لأمته، لأنه ليس لها حق في الوطء إذا امتنع منه.

والزوجة لها ذلك حق من حقوقها، وهذا في ظاهر القرآن أن كلمة الإيلاء إنما هي اليمين، وإجماع الأمة أن الأمة لا طلب لها على السيد في الوطء، حلف أو لم يحلف. وأظن هذا الرجل ظن أن ضرب الأجل هو الإيلاء، وهذا بعد شديد، وإنما الإيلاء اليمين التألي ألا يفعل الوطء. قال النبي عليه السلام في الذي باع التمر فأصاب المبتاع فيه ما وضع به من الثمن، فحلف ألا يضع عن المشتري شيئا، فقال عليه السلام: " تأتي ألا يفعل خيرا "، أتيت بالمعنى. قال النابغة: وآليت لا آتيك إن جئت مجرمًا ... ولا أبتغي جارا سواك مجاورا قال أهل اللغة: {للذين يولون من نسائهم} أي: يحلفون، يقول: آليت أولي، إذا حلف ألا يجامعها، والاسم الأَلِيَّة، قال جرير: ولا خير في قول عليه أَلِيَّةٌ ... ولا في يمين عُقدت بالمآثم

وأظن هذا الرجل لم يعلم أن الإيلاء اليمين، وإذا كان الإيلاء اليمين فكيف يحكي عن مالك، أنه قال: إذا آلى في أمته أنه لا يلزمه الإيلاء؟ فهذا قول غير محصل، وإنما لا يلزمه عند مالك ما يجب في الإيلاء للزوجة من ضرب الأجل، لحقها في طلب الوطء. ولا خلاف أنه لا حق للأمة في الوطء، فيضرب لها في يمين السيد على ذلك أجل. فإن كان هو يقول: إذا آلى ألا يطأ أمته، إنه لا إيلاء عليه، يعني لا يمين عليه تلزمه، فقد خرج من أقاويل العلماء. وإن قال: تلزمه اليمين، ولا يضرب فيه أجل، فهو ما قلنا. وإن قال: إن الإيلاء المذكور في القرآن إنما عُنِي به الزوجاتُ في سياق الآية. قلنا: هو كذلك، بدليل آخر الآية، بقوله سبحانه: {وإن عزموا الطلاق}، فدل أن أول نص الآية في الزوجات، ولكن كلمة الإيلاء في اللغة هي اليمين، على ما بينا. فإن قال: فلم لا قلت في الظهار: إنما عني به الزوجات، بظاهر قوله: {يظاهرون من نسائهم} كما قال في الإيلاء: {يولون من نسائهم} فكان ذلك الحكم في ضرب الأجل مقصورا على الزوجات، دون ملك اليمين؟

قلت: لا يلزمني هذا، لأن في آخر الآية في الإيلاء ما كشف أن المراد بالحكم الزوجات، بقوله: {وإن عزموا الطلاق}، ولا طلاق في ملك اليمين، وآية الظهار على عمومها، كما كانت آية أمهات النساء والربائب من النساء. فلما كان قوله: {وأمهات نسائكم} عامة في أمهات الزوجات وأمهات السراري، وكذلك قوله في الربائب: {من نسائكم التي دخلتم بهن} فكانت بنت السرية محرمة بهذا العموم، فكذلك آية الظهار. ومعنى آخر أن الكفارة في الظهار جعلت لما قالوا من الزور والمنكر فلا يبالي قالوا ذلك في الزوجة أو الأمة. ألا ترى أن الكفارة عندك في اليمين على ترك الوطء في الزوجة والأمة واجبة، فلما تساوت الأمة والزوجة في إيجاب كفارة يمين الإيلاء، فألا ساويت بنيهما في إيجاب الكفارة في الظهار، وأخرجت الأمة من الأجل في الإيلاء للدليل الذي قلنا: إنه لا حق لها في الوطء، وهذا بيان إلا أن يكابر مكابر. وهذا الرجل لا يقول برد ما ذكر إلى ما لم يذكر، فكيف رد حكم الظهار إلى ما

ظهر له من البيان في الإيلاء؟ فإن كان لأنها يمين ويمين، فليساو بينهما فيما ذكرنا، مع ما يلزمه من نقض أصوله، وذلك أنه يلزمه أن يجعل الكفارة بالعتق في الظهار رقبة مؤمنة، كما ذكرت {مؤمنة} في كفارة القتل، إذ هي كفارة وكفارة، ففسرت هذه، وأجملت هذه، وهذا خلاف أصلك. والعجب في قولك: لأن الله سبحانه قال في كل آية: {من نسائهم} ثم فرق مالك بين ذلك. وقد أريناه أن مالكا ساوي بينهما فيما يمكن فيه التساوي، وإنما فرق بينهما فيما لا يمكن التساوي فيه كما بينا. وكيف لم تلزم نفسك مثل هذا في شهادة العبد، فتقول كما قلنا، لما قال الله: {وأشهداو ذوي عدل منكم} {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} أن المخاطبين ها هنا الأحرار، كما قال الله في الآية الأخرى: {وأنكحوا الأيامى

منكم}، فكان المخاطبين في ذلك الأحرار، لقوله: {والصالحين من عبادكم}، يقول: عبيدكم. فلما تساوى قوله في هذه الآية: {منكم} وفي هذه الآية: {منكم} كان ما كَنَّى في إحداهما يكشفه ما ذكر في الأخرى، كما كان [] قوله في آية الإيلاء: {من نسائهم}، وعقب بذكر الطلاق دالا على أن قوله في آية الظهار: {من نسائهم} إنهن الزوجات. فهذا يلزمك، مع ما فيه من نقض أصولك، وآية التحريم في أمهات النساء والربائب أبين أن تكشف كل ريب. هذا على أن الأمة والحرة في إيجاب اليمين في الوطء سواء، أن اليمين لازمة، فتأمل معاني ما تقول قبل القول. ومن أخرج آية الظهار من العموم إلى الخصوص بغير دليل خُصِم. ولا يجوز أن يقال: لما كان ضرب الأجل في الإيلاء للحرائر، دل ذلك أن آية الظهار يراد بها الحرائر.

لأنا إنما اعتبرنا في آخر الآية ما بين أن ذلك للزوجات بذكر الطلاق، وليس في آية الظهار ذكر الطلاق، ولا ما يدل على ان المراد الزوجات، والإيلاء أصل والظهار أصل، فردُّ ذلك إلى آية الإيلاء لا يلزم، ولأن ما في آية الإيلاء مما خصصت به الزوجة إنما هو ضربُ الأجل، وأما اليمين فلازمة في الحرة والأمة. هذا مع أن هذا الرجل لا يقول بالقياس، فكان الغلط عليه في ذلك أَبْيَنَ. وجائز أن تأتي العبادة بالظهار في الإماء والإيلاء بضرب الأجل للحرائر، فلا في معاني القياس يصحّ هذا ولا فيما تقلد من نفي القياس، فما الذي حسن عنده من هذا؟ وهذا أبين من أن يشكل ولله الحمد. وقوله: وإنما أوجب الله الظهار فيما وجب فيه الإيلاء، وفرق مالك بينهما، وقائل هذا مغفل غير سالك طريق النظر. فهذا كلام رجل يشبه أن يكون غائبا عن الفهم في هذا القول، لأن قوله: إنما أوجب الله الظهار فيما أوجب فيه الإيلاء، إن أراد إلزام اليمين، فهو قول مالك: أن اليمين تلزمه في الأمة والحرة، في الظهار والإيلاء، وإن أراد ضرب الأجل فلم يوجب الله ذلك في الإيلاء الأمة، وإنما أوجبه فيما فيه الطلاق، ولا طلاق في الملك، فأين النص بأن ما ذكر الظهار إنما هو فيما يكون فيه الطلاق.؟ فدعواه للنص في ذلك باطل ودَعوى على الله، وإن كان ظنا فالظن لا يغني من الحق شيئا، وإن قياسا فذلك لا يجوز لما بينا انهما أصلان، وليس يتساويان فيما فيهما من المعاني، والقياس فباطل عنده، فلا وجه لما تعلق به هذا الرجل، وإلا ما كشف من غفلته وسوء رويته وخفة لسانه في ان مالكا عنده مغفل في هذا.

فهذا من طوام الحوادث، أن مالكا مغفل في يقظة هذا الرجل وفطنته، والله المستعان. وقد كشفنا ما أدَّته إليه فطنته، التي تقرب من نوم أهل اليقظة، وما يرضى من له تحفظ بما رضي به هذا الرجل. والعجب من قوله: ولو تجاسر متجاسر، فقال: يلزمه فيها الإيلاء، ولا يلزمه الظهار، فإن أراد اليمين، فنعم تلزمه فيها اليمين بإجماع، وإن أراد ضرب الأجل فلا قائل لذلك، وهو خلاف النص. وهذا الرجل يكثر من هذا أن يقول في مناظرته: لو قال أحد بكذا بخلاف النص، وخلاف الإجماع. فهذا ما لا يناظر بمثله من سلك في العلم طريقا، وكيف يناظر من جرد رد النص والإجماع. وكيف يكون من قال بقول من أقاويل السلف، أنه كمن رد النص والإجماع، وإنا في عناء معن في تكلفنا لنقض مثل هذا التلاعب. والذي قاله مالك من ذلك، هو قول علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيره، ومن التابعين فيما حفظنا نحو ثلاثين رجلا، منهم السبعة الفقهاء من فقهاء تابعي أهل المدينة. وهذا كله مروي من رواية ابن وهب وغيره.

ومن ذلك أيضا ما أنا محمد بن عثمان، قال: أنا محمد بن أحمد المالكي قال: نا الأنصاري، قال: نا عبد الله قال: نا يزيد، عن حبيب، عن عمرو عن جابر قال: الظهار من الحرة والأمة سواء، [] [] [سويد]، بن عبد العزيز، عن يزيد بن أبي مريم. قال محمد بن أحمد: ونا محمد بن شاذان قال: نا معلي قال: نا ابن لهيعة قال: نا موس ابن أيوب، عن إياس بن عامر قال: سألت علي بن طالب، فقال: تحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم ما يحرم عليك من الحرائز. وقاله عمار بن ياسر. وما ذكر في ذلك عن ابن عباس فمختلف في صحته، واختلف فيه عن مجاهد وعن الشعبي. نا أبو بكر بن محمد قال: نا يحيى، قال: نا سحنون، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الزهري، عن سعيد وسالم، يفتدي من الأمة في الظهار كما يفتدي من الحرة. وقاله سليمان بن يسار والحسن.

قال ابن وهب، عن سليمان بن يسار وعبد الله بن أبي سلمة والزهري والقاسم وسالم وغيرهم من السبعة الفقهاء من تابعي أهل المدينة وغيرهم. وقاله عطاء ويحيى بن سعيد وطاووس وعكرمة، وجابر أراه ابن زيد، وغيره. وقد ذكرنا ما أيد ذلك من الدلائل، مع من قال ذلك من السلف، وأسأل الله التوفيق برحمته.

باب في ظهار العبد وإيلائه

باب في ظهار العبد وإيلائه قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك في إيلاء العبد، فقال: إن قال: إن إيلاء العبد على النصف من إيلاء الحر، وإن عليه من كفارة الظهار مثل ما على الحر، ففرق بين ما لا يفترق، والله سبحانه لم يفرق بين العبد والحر في الإيلاء ولا في الظهار، وما كان الله بغافل. فالجواب عن ذلك: أن العبد لما كان إيلاؤه يجر إلى الطلاق، وكان طلاقه عندنا على النصف من طلاق الحر، وكان الأجل في الإيلاء يقربه إلى الطلاق، فكان الأجل فيه على النصف من ذلك، كما كان طلاقه وحدوده والعِدَّة في الأمة. ولما قال الله سبحانه: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.

[و] كان العبد في حدوده على النصف من حدود الأحرار، كان كذلك [فيـ]ـما لحقه مما يشبه الحد، لأن حرمته أخفض من حرمة الحر، والطلاق [ممـ]ــا تصل إليه به المشقة والضرر في منع الوطء، الذي هو سبب الحد، فهو مخفوض الحرمة فيه كالحد. وكذلك إيلاؤه، لأنه إلى الطلاق يجرّه، وتقريب الأجل فيه من دخول المشقة عليه، ومع أن الحدود والطلاق وأجل الإيلاء وعدة الأمة، أمر يكون الحكم فيه على العبد أو الأمة، وليس مما هو لهم، بل هو مما عليهم، كما كانت الحدود عليهم. ويبعد أن يشبه ذلك بالأعمال التي هي لله عبادة في بدنه، كالصلاة والصوم، ومنها عبادة في كفارة يمينه بالله أو بظهار أو غيره، فهو في ذلك كالحرّ، لبعد اشتباه ذلك بالحدود، التي هي مشقة تناله في بدنه، والله أعلم، وأمر يُقام عليه لغيره، لقول الله سبحانه: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.فكل أمر يكون على الأرقاء، مما يشبه الحدود التي عليهم فهو على النصف مما على الحرّ، وما كان لهم مما يخصهم فهم والأحرار فيه سواء.

وكذلك ما كان من عمل أبدانهم، على ما دلّ عليه القياس على الأصول، من كتاب الله من الحدود في انخفاض حرمتهم فيها، وألزموا بإجماع مثل ما على الحرّ، من صوم وصلاة يقدر عليها، وكفارة يمين وكفارة صوم وظهار وقتل نفس. والظهار ففيه صوم، فهو أشبه بما أجمعوا عليه، من إيجاب صوم رمضان وكفارة اليمين بالصوم، وما أعلم قائلا: إن صومه في الظهار دون صيام الحرّ. واحتلف في أجل الإيلاء والمـ[ـفارقة] فلم يجز أن يشبهوا بالصوم، وهو أشبه بمعاني الطلاق، ورده إلى ما هو أقوى شبها به من الأصول أولى. ولا وحشة علينا في أخذنا بالقـ[ـــياس في] ذلك، وقد نضحنا بحمل من الكلام على القياس أول الكتاب. وهو قول [عمر] بن الخطاب وابن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم من التابعين كثير. [نا محمد بن محمد قال: نا يحيى بن عمر، قال: نا أبو الطاهر أحمد بن عمرو، عن ابن وهب قال: أنا عمرو بن الحارث والليث، عن أيوب بن موسى، عن طلحة بن عبيد الله ابن كريز أن عمر بن الخطاب قال: إيلاء العبد شهران.

قال: وأنا أبو يحيى بن سلمان الـ[]، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد [قال]: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: يقولي العبد بشهرين. وقاله ابن شهاب والخعي وعدد من التابعين. وقاله مالك والليث.

باب في رضاع المرأة ولدها

باب في رضاع المرأة ولدها قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل قول مالك، في رضاع المرأة ولدها: إنها ترضعه، إلا أن تكون لا ترضع مثلها، لشرف وغني فلا تجبر، الوضيعة على رضاعه. واحتج هذا الإنسان بقول الله سبحانه: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}، قال: وجعل الزوجة أجيرة للمولود، بقوله: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن} فأوجب أن يرضع الوالدات أولادهن فعم كل والدة.

ففرق مالك بين ما لا يفترق بدلائل من كتاب الله ولا سنة ولا اتفاق، وخالف ظاهر القرآن. فالجواب عن ذلك: أن هذا الرجل ذكر اثنين، فجعل حكمهما واحدا، وليس الأمر فيهما سواء فيما أدى إليه ظاهر القرآن، وما تأويل مالك بتأويل من سبقه في قول الله تعالى ذكره: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن}. فإنما ذكر الله سبحانه ذلك في آية الطلاق، فإنما تأخذ إجارة الرضاع المطلقة، قال الله سبحانه: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى}، وجعل هذا الرجل أن من العصمة كذلك، وليس الأمر كذلك. ولو كان الأمر على ما ذهب إليه، إنما ترضع بإجارة كانت في عصمته أو فارقها - وقاله بعض الناس - لكان للمرأة أن تأبيى الرضاع إذا كانت شريفة أو وضيعة، إذا كان يقبل الصبي غيرها، فأين يستقيم قوله: إن الله سبحانه أوجب أن ترضع الوالدات أولادهن، كانت شريفة أو وضيعة. وقوله: وجعل الزوجة أجيرة للمولود، غلط إنما هو للمولود له لا على المولود، وهذا في الطلاق، إلا أن يكون الابن له مال، فذلك في ماله. وأما قوله الله سبحانه: {والوالدات يرضعن أولدهن حولين كاملين} فهذه في التي عصمة الزوج، على ظاهر القرآن وأبين في التأويل، فعم كل والدة، وأوجب الرضاع عليها، ولم يذكر لها أجرا كما قال هذا الرجل، لأن الزوجة بعد في

نفقة الزوج، قال الله سبحانه في سياق الاية: {وعلى المولولد له رزقهن وكسوتهن}، فأوجب على الزوج رزق الزوجة وكسوتها، وكان الرضاع عليها، إلا أن يخرجها من ذلك دليل، كما أخرج الأب من أن يلزمه في الطلاق أجر رضاعة الولد إذا كان الولد له مال بدليل، وذلك أن العذر الذي تعذر به الزوجة في عصمة الزوج يرفع الرضاع عنها، وذلك أن تكون مريضة أو قليلة اللبن، أو ممن يكربها ويشقق عليها الرضاع والسهر ومؤونة ذلك، وهي ممن لا محمل لها به ولا غلبة، من صغر سنة أو سقم بدن أو رفاهة يبلغ ذلك بها مبلغ المشقة الذي يعذر بمثلها. وإذا عرف أن مثلها لا يقدر على الرضاع، ولا تتكلف مؤونة الصبيان، لموقع ذلك منها من رفاهة أو زمانة، كان لها عذر تخرج به عن اللواتي لا يبلغ ذلك منهن ما أيبلغ منها. وذلك أن الله سبحانه يقول: {وسعها لا تضار والدة بولدها}، وهذا من الضرر، أن يبلغ منها أن يخرج بها إلى تحمل ما يشق عليها وما ليس من شأنها ولا من معرفتها، وما لا تقوم مثلها بمثله، ولا يقـ[ـــوم] مثلها على إمساك الصبيان وتعاهدهم، والقيام عليها، فلا تكلف ذلك؛ لأن ذلك من الضرر المرفوع.

والعرف الجاري في الناس مأخوذ به، مرجوع إليه في كثير من الأحكام، قال الله سبحانه: {وعاشروهن بالمعروف}، وقال: {خذ العفو وأمر بالعرف}. وأما إذا كانت تقدر على تحمل هذه الأمور، ومثلها لا يضعف عن ذلك وتقوم بذلك، ولا يشق عليها في عادة مثلها لذلك، وأنه من شأن مثلها، فلذلك عليها، إن شاءت فعلته بنفسها أو آجرت من تقوم فيه مقامها، وهذا مستدل عليه بما ذكرنا من معاني الكتاب، والله أعلم. وقد تأول مجاهد في قوله سبحانه: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} أنها في المطلقة، ولها الأجر. وذهب سفيان إلى أن الأجر عليه كانت في عصمته أو طلقها، وإلى نحو هذا أشار هذا الرجل. فقد أجمعوا أن المطلقة لها الأجر، فإذا كانت تأخذ الأجر فهي المخيرة في نفسها، وإذا كان من قولك: إن التي في عصمته كذلك تأخذ الأجر، فهي مخيرة في نفسها أيضا.

فإذا قالت الشريفة: لا أرضعه ولا آخذ عليه أجرا على أصلك، أليس لها ذلك عندك، ولا تجبر؟ فما الذي بعد عليك، من قول مالك في الشريفة، وأنت قائل: إنك لا تجبرها، وإنما قال مالك: لها أن تمتنع من الرضاع، وهو قولك فيما ظهر إلينا. وإن قلت: إن الصبي لا يقبل غيرها، فهذا قول مالك فيها: إنها تجبر لو أنها بنت الخليفة، فما الذي أبديت فيه وأعدت من هذا، والناس أحد رجلين: قائل إن المطلقة والتي في العصمة تأخذ الأجر، كما نحوت إليه، وقائل قال: لا أجر للتي في العصمة، والأجر للمطلقة، وقال مالك في التي في العصمة: لا أجر لهان على ظاهر القرآن إلا أن تكون مثلها لا ترضع لعذر يقوم تعذر بمثله. فقد أجمع هو وغيره في هذه المرأة: إنها لا تجبر وبقي من سواها من ذوات العِصَم، فأوجب مالك عليها الرضاع بلا أجر، وقال: عليه بأجر، فخرجت تلك المرأة التي

امتنعت من الرضاع لشرفها، باجتماع من الفريقين. فأي درك على مالك في قول أجمع معه عليه مخالفه، فتأمل أقاويلك، واعتبر ما تقول الأئمة، بانخفاض إلى سعة علمهم وقلة تكلفهم، والله المستعان.

باب في العدة وعدة الأمة وحكم الأرقاء في الطلاق، وغيره

باب في العدة وعدة الأمة وحكم الأرقاء في الطلاق، وغيره قال أبو محمد: وأنكر هذا الرجل ما حكي عن مالك في عدة الأمة، فقال: قال مالك: عدتها من وفاة الزوج شهران وخمس ليال، ومن الطلاق قرءان أو حيضتان. وقال هذا الرجل: قد عم الله النساء في العدة، فلم يخص أمة من حرة، ولا مسلمة من كافرة، كان الز [وج] حرا أو عبدا أو كافرا، فقال في الزوجات في الوفاة، {يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}، وقال: {والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء}، وقال: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}. فجعل عدة الحوامل [في الوفاة] أن يضعن حملهن، وجعل على المطلقة التي مثلها تحيض ثلاثة قروء، وعلى التي ارتابت نفسها من كبر أو صغر ولا تحيض ثلاثة أشهر.

فجعل مالك على الأمة في الوفاة نصف عدة الحرة، وفي الطلاق ثلثي عدتها، والتي يئست من المحيض إن إرتابت نفسها ثلاثة أشهر، وكذلك على التي لم تحض وهي ممن توطأ، ففرق بين ما لا يفترق، وحدد حدودا [لم] يحدها الله، وفرق بين ما لم يفرق الله بينه. فإن قال الذاهب إلى ذلك: قلت ذلك في الأمة قياسا على ما أوجب الله سبحانه عليها في الحدود نصف حد الحرة. وقيل له: لا تقاس شريعة على شريعة أخرى، وإنما يقاس ما لم يأت فيه خبر، والعدد قد نص الله عليها ولم يخص الإماء، فإن أوجبت على العبيد في كل فرض نصف ما وجب على الحر، فاقطع نصف يده إذا سرق، أو لا تقطعه حتى يسرق مرتين أو يسرق مثلي ما يجب فيه القطع، والقطع أشبه بالحدود من العدة، واجعل عليه في كفاراته نصف كفارة الحر، أو لا يكفر حتى يحنث مرتين وهذا لا يقوله أحد من الأمة. فجعلت بعض الخطاب على ظاهره وبعضه خاصا، وجعلت آية الظهار عامة في العبد والحر وآية كفارة قتل الصيد، وقلت: آية العدد خوطب بها الأحرار، وقلت في قوله: {إذا نكحتهم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}، عامة في العبيد والأحرار، فكذلك قوله: {فطلقوهن لعدتهن} الآية، فلم يفرق الله سبحانه بينهما في ذلك، ولا ثبت عن الرسول عليه السلام.

وجعل في استبراء الأمة في البيع حيضة، والتي لم تحض ثلاثة أشهر، وأم الولد في موت السيد حيضة. فمرة كعدة الحرة، ومرة النصف، ومرة أكثر، ومرة ترد إلى ما تعرف النساء. فمن أباح لك إيجاب ما أوجبت، وتفريق ما فرقت؟ وجعلت قوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} خاصة، والله عم بها ألا تبين زوجة إلا بالطلقة الثالثة، وقال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زواجا غيره}، إلا التي لم يدخل بها وحدها تبين بالواحدة، إذ لم يجعل عليها عدة بقوله: {فما لكم عليهن من عدة} وهذه جعلتها عامة. وقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} عندك للأحرار خاصة، لأن طلاق العبد عندك طلقتين، ولم يفرق الله بين الأحرار والعبيد في شيء من ذلك ولا سنة ولا إجماع.

وروى عن ابن عباس: ألا تبين امرأة العبد إلا بثلاث تطليقات، ورواه عن النبي عليه السلام، وقال ابن ابن المسيب، قال الحسن وقتادة: إيلاؤه أربعة أشهر. وروى يزيد بن هارون عن ليث عن مجاهد، قال: قدمت المدينة فوجدتهم قد أجمعوا في عبد زنى وهو محصن أن عليه الرجم، إلا عكرمة. وروينا أن عمر بن عبد العزيز أنه حدّ العبد في القذف ثمانين، وهو ظاهر القرآن. أرأيت لو قال قائل: أنا أوجب على العبد النصف في كل ما أوجبه الله، إلا فيما أوجبت أنت النصف، فنحن نكلمك عليه. ويلزمك إذا رمي زوجته بالزني، [أ] لا تكلف إلا شاهدين لأنه كلف الحر أربعة، ويشهد في اللعان مرتين فيما قال الله فيه للحر: {أربع شهادات بالله} وهذا لا يقوله أحد.

فالجواب عن ذلك: أن إنكاره أن تكون عدة الأمة نصف عدة الحرة في الطلاق، والوفاة، فالذي قال مالك من ذلك، في الكتاب دليل عليه، وهو قول السلف، قاله عمر بن الخطاب وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعدد غيرهم من الصحابة وابن المسيب، والحسن وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن عتبة وسالم والقاسم وابن شهاب ونافع وقتادة، وزيد بن أسلم وسليمان بن يسار، وبكير بن الأشج وربيعة ويزيد بن عبد الله ويحيى بن سعيد وعمر بن عبد العزيز وكثير يكثر ذكرهم من التابعين وغيرهم.

وقاله مالك والليث والشافعي، وهو قول أئمة الأمصار. وكذلك طلاق العبد طلقتين، إذ لا تنقسم الطلقة الواحدة، وكذلك أكثر السلف في طلاق العبد. قال عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وعائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة، مما تغني شهرته عن ذكر إسناده، فمنه رواية مالك في موطئه، وابن وهب في موطئه وفي غيرهما من المصنفات. وأنا محمد بن عثمان قال: نا محمد بن أحمد قال: نا يوسف بن [الضحاك] نا أبو سلمة قال: نا حماد عن عبيد الله، عن [أبيه عن] ابن عمر مثل ما قال مالك والليث في ذلك.

قال محمد بن أحمد: ونا أحمد قال: نا معلى قال: نا ليث عن أيوب بن موسىى عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب عن عائشة مثل ذلك. قاله سعيد والقاسم وسالم وأبو سلمة ويحيى بن سعيد وسليمان بن يسار ومحمد بن عبد الرحمن وعمرو بن شعيب وعبد الرحمن بن عبد الله بن الهدير ويزيد بن قسيط، وربيعة وأبو الزناد وعكرمة، ومكحول وإبراهيم والشعبي. وما روى عن الشعبي وعكرمة، خلاف ذلك فليس من طريق يصح. وكثير يكثر علينا ذكرهم من التابعين. وقولنا: في عدة الأمة في الطلاق حيضتان القول المتعارف المشهور عن العلماء في السلف والخلف. وإنما يذكر شيء عن ابن سيرين، الله أعلم بصحته، أنه قال: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون في ذلك سنة، فإنها تتبع.

فابن سيرين لم يقو في ذلك قوله، وكأنه منه في ريب، وإن ما تظاهر وقوي بالمدينة في علمائهم وأعصارهم لا يدافع بمثل هذا. وكذلك أجمع العلماء على أن عدتها من الوفاة شهران وخمس ليال، إلا هذا الأمر الضعيف المذكور عن ابن سيرين. وأجمعوا أنها – إن كانت حاملا – فإن عدتها تنقض بالوضع، لا خلاف في ذلك. واختلفوا في الأمة التي لم تحض، ومثلها تجامع، وفي اليائسة من المحيض. فاختار مالك للأمة في الطلاق ثلاثة أشهر، لأن الحمل لا يكاد يبين ويظهر في أقل من هذا المقدار. وأصل العدة طلب براءة الرحم، وإن كان في العدة للحرة زيادة في الحيض على الأمة فما زاد فيها على حيضة فهو عبادة والله أعلم. ومع ذلك، فهي أعظم حرمة من الأمةن ولا ينفي نسب ولدها إلا بلعان، الامة ينفي ولدها بادعاء السيد الاستبراء، فقد عظم أمر الحرة وزيد في أحكامها. إلا أن قد علمنا أن ما تكشفه الحيضة من براءة الرحم ليس يساوي من مرور الزمان فمن لا تحيض، لكبر أو صغر [] [شهرين] [وأقل في استبراء الأرحام] [] ثلاثة أشهر فيمن لا حيض لها، لا تجد في الأصول غير هذا.

وكذلك في أم الولد يموت سيدها، وقد قعدت عن المحيض. فإن قلت: فما بال الأمة تبرأ بشهرين وخمس ليال في الوفاة في الزوج؟ قلت: هذا على أنها ممن تحيض، فأتاها في الشهرين وخمس ليال حيضتان التي تعرف، فأما لو فقدتها فلم ترها في وقتها، لصارت مسترابة ترفع إلى تسعة أشهر، إذ هو الأغلب من حمل النساء، فهذا ما دلت عليه الأصول والاعتبار من دلائل الكتاب. والعجب في تجاسر هذا الرجل على ردّ قول قد تعارفه السلف والخلف من العلماء في عدة الأمة في الوفاة، ثم يرى أن ذلك بخلاف ظاهر القرآن. وكذلك في عدتها في الطلاق بحيضتين في شهرته في السلف والخلف، يدفعه من الشاذ بما لا اتابع له، ثم لا يزعه ذلك عن التوقف عن القول بخلافهم، ولا عن هفوات لسانه في القول فيهم. وقال في أول كلامه كلاما فيه استحالة، حين قال: فلم يخص أمة من حرة، ولا مسلمة من كافرة كان الزوج حرا او عبدًا أو كافرا. فيكف يكون الزوج كافرا وامرأته مسلمة؟ لأنك سميت المسلمة أولا. وإن قلت: أعني لا تكون تحته مسملة، قلنا: هذا في ضميرك، وقد ظهر من لسانك ما لا يحسن معه ما نويت. ثم حتى لو حسن ما نويت، لكان أعجب في غلطك، وما علينا نحن من النصاري في عددهم وطلاقهم، وكيف يجوز أن تقول: إن الكافر والكافرة دخلا في هذه الآية، ولا يدخل تحت أعمال الشريعة إلا من أجاب إلى أصلها، ولا يأمر الله الكفار شرائع

الإسلام، على أن يبقوا كفارا. فكيفما أصرفت كلامك كان خطأ، والله سبحانه قد قال في آية عدة الوفاة مادلّ على أن الخطاب للأحرار بقوله آخر الآية: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فما فعلن في أنفسهن} فجعلهن يفعلن في أنفسهن ما أحببن من النكاح، والأمة لا تحكم في نفسه ما تريد من النكاح إلا بإذن السيد. والله سبحانه قد جعل على الإماء إذا زنين نصف ما على المحصنات، يعني الحرائر، فدلّ بذلك ان كل ما على العبيد مما يشبه الحدود أنه على النصف من ما على الحر، إذا كان شيئا يمكن فيه التصنيف. فلما كانت الحيضة الثانية لا تنقسم، ولا ينقسم الطهر الذي قبلها، إذ لا يعلم نهايته، أكمل عليها وكذلك الطلقة في طلاق العبد. ولأن العدة والطلاق من معاني الحدود، لأنه من حماية الفروج وتحصينها لتستباح بما يجب من الإباحة، دون حماها الله عنه من الزنا، وكان ذلك أن يرد إلى ما ذكر الله من الحدود، أولى من أن يرد إلى ما عليها من صلاة وصوم وكفارة. ورددنا إلى الصوم والصلاة ما يشبهه من عمل البدن، من صوم ظهار العبد وكفاراته، وأكملناه عليه.

وجعلنا إيلاءه شهرين لأنه مقرب إلى الطلاق، الذي دللنا أنه بالحدود أشبه، فكان في الاشتباه به أقرب، ولا أعلم في صوم الظهار خلافا أنه مكمل على العبد. وأما قوله: فألا قطعت نصف يد العبد، أو لم تقطعه حتى يسرق مرتين، أو مثلي ما يجب فيه القطع. قلت: هذا فاسد من غير وجه، منها: أنه لا خلاف في هذا فيحتاج فيه إلى القياس. فإن قلت: فلم لا قست عليه العدة والطلاق، دون أن تقيس ذلك على الجلد، وهذا حدّ وهذا حدّ؟ قلت: لأن الحدود نص الله عليها أن عليهن نصف ما على الاحرار منها، وأصبنا القطع مخصوصا من الحدود بإجماع لا اختلاف فيه، فلم يجز لنا خلاف ذلك، ورددنا المختلف فيه من العدة والطلاق وشبهه إلى ما يشبهه مما ذكر من النص. ومعنى آخر، أن حدّ الفساد في الأرض الذي عم ضرره يستوي فيه الحرّ والعبد والكافر والمرأة في [النفي والقتل] والصَّلب، ممن علت حرمته أو انخفضت، لعموم ضرره وسائر الحدود التي تخص بخلاف ذلك. وشيء آخر، أن اليد لا تنتصف كما لا تنتصف النفس، ومن الفساد أن يؤخر حتى يسرق مرتين كما لا يؤخر في القتل، حتى يقتل مرتين. وإنما يفترق العبد من الحرّ في عقوبة بدنه، لا في المقدار الذي هو السرقة التي يجب بها القطع، كما لا يفترق منهما السبب الذي يسمى زنا، وإن كان الحدّ فيه مفترقا.

وأما قوله: لا تقاس شريعة على شريعة، فهذا منه غفلة، ولو كان في عدة الأمة، نص، لم يسع أحدا خلافه. وقد دللنا أن خطاب عدة الوفاة نصه في الحرائر، وأما عدة الطلاق فلم يَقُل أحد: عدة الأمة فيه منصوصة. وقد اجتمع من تقوم الحجة باجتماعه – مما لاينقضه الشذوذ – أن عدتها في الطلاق حيضتان، ولو حتى كان في ذلك اختلاف فاش كثير، ما جاز أن يقال: إنهم اختلفوا في النّص، كما ظنّ هذا الرجل. ولو أجمعوا في العدة كما أجمعوا في الآيات التي ذكرت، من القطع والطلاق للعدة ورفع العدة عن من لم يدخل بها لسلمنا إلى ذلك. ومع أن إصراف هذا عن ظاهره فساد، لأنا لو أصرفنا الطلاق لغير الحـ[ــــدود]، لم ينصرف ذلك إلا إلى امر لا ينبغي، من الطلاق في الحيض المنهي عنه بالنص. والتي تطلق ولم تدخل بها، متى عدلنا بها عن هذا، لم نجد أصلا نردها إليه يوجب عليها عدة، ولا على الحرة في ذلك عدة فيكون على الأمة نصفها، وإنما نرد ما أشكل علينا إلى أصل واضح يشبهه، إلا كان على عمومه، هذا والإجماع كفانا مؤنة التكلف، وهذا رجل متكلف، يسومنا أن نغير أشياء وجبت بإلحاق، ثم لا يساويها للمعنى الذي أراد منا أن نردها إليه، وهذا حجاج من ضاقت مذاهبه. وقوله: جعل في استبراء الأمة حيضة، وإن كانت لا تحيض فثلاثة أشهر، وأم الولد حيضة.

قال: فمرة كعدة الحرة، ومرة النصف، ومرة أكثر ومرة ترد إلى ما تعرف النساء. فأما قوله: فمرة أكثر، فكلام فاسد، فأين وجد لنا أنا جعلنا على أمة في العدة أكثر مما على الحرة؟ وأما قوله: ومرة إلى عرف النساء، وعرف النساء لا ينتهي به إلى اكثر مما قلنا في الحرة، لأنه لما تعارف النساء أن الرحم لا تبرأ في أقل من ثلاثة أشهر، لم نطلق لها البراءة في أقل من ذلك. وأنت لا تخالفنا في ذلك، وإنما تخالفنا في التي تحيض، وقد يتفقان في الحمل في النكاح، وفي بيع الأمة، أن وضع الحمل براءة رحمها، فلم يوجب هذا تسوية حكم الامة في البيع والنكاح مع الحرة، ولكن لا براءة للرحم إلا بذلك. ونحن فلم نقل ترد إلى ثلاثة أشهر التي لم تحض أو قعدت عن المحيض لأنها وجبت لها بذلك مساواة أحكام الحرة، ولكنا إنما نخفضها عن مرتبة الحرة لما يتغير فيه الأصل، الذي له جعلت العدة. فلما علم أن العدة لبراءة الرحم، وكان الرحم لا يبرأ في أقل من ثلاثة أشهر بالعيان، وبدليل القرآن في اللواتي لم يحضن، أو يئسن منه من الحرائر، فقصرناها على ذلك في العدة والاستبراء ليكمل الغرض المقصود في العدة من براءة الرحم. ولما كان الرحم يبرأ بالحيض، أقمنا فيه ما يمكن من انخفاض أحكام الأمة في ذلك. ولو تأملت الأصول هذا التأمل، أمسكت عن كثير من كلامك، واقتصدت في مالك. وأما عداوه أنه قول ابن عباس وابن المسيب، أن طلاق العبد ثلاثا، وأنه رواه عن النبي عليه السلام، ثم لم يذكر لذلك إسنادا، ونسبه إلى ابن المسيب.

فالذي عندنا خلاف ذلك [عن ابن] عباس وابن المسيب، وقد رواه مالك عن عثمان [وزيد، ورواه ابن و] هب وغيره عن من قدمنا ذكره من الصحابة والتابعين، منهم [عثمان] وابن عمر وعائشة، وغيرهم من التابعين من يكثر ذكرهم منهم سعيد ابن المسيب، الذي تنسب إليه قولك، وقد نسبه غيره إلى علي وابن عباس بإسناد واه لا يثبت، من رواية إبراهيم بن أبي يحيى، وهو عندهم كذاب أو لعله وجد ذلك من رواية مثلها في الضعف. أنا محمد بن عثمان، قال: أنا ابن الجهم، قال: نا ابن شاذان قال: نا معلي قال: نا سليمان بن بلال قال: نا جعفر، عن أبيه أن عليا قال: الطلاق بالرجال والعدة بالنساء. قال: ونا الأنصاري قال: نا عبد الله؟ قال: نا وكيع، عن هشام، عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الطلاق بالرجال والعدة بالنساء. ففرق بين أحكام الأحرار والأرقاء، ولو كان الطلاق فيهم واحدا والعدة واحدة لم يفرق بين حكمهما.

وما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا غير ثابت، ولا ذكر له إسنادا فنعلله. قال محمد بن الجهم: وقد نا أبو قلابة، عن أبي عاصم عن ابن جريج، عن مظاهر ابن أسلم، عن القاسم عن عائشة أن النبي عليه السلام قال: طلاق الأمة تطليقتان، وتعتد حيضتان. قال أبو عاصم: ثم لقيت مظاهرا فحدثني به. قال ابن الجهم: ونا محمد قال: نا معلي قال: نا عمرو بن شعيب، قال نا عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه [وسلم]، مثله. وعبد الله بن أبي عيسى، هو ابن أبي ليلى. وتأولوا هذا على أن [] الصحابة من الخلفاء وغيرهم، من كشف هذا [] المشهورة [] إسناد ذلك [] أسانيد أهل المدينة في [] في العدة وإنما [] يزيد بن هارون عن ليث عن مجاهد قال: قدمت المدينة فوجدتهم [قد] أجمعوا في عبد زنا وهو محصن أن عليه الرجم، إلا عكر [مة].

[وأما] قوله: ليث ومجاهد، فهو غلط، وإنما هو ليث، عن مجاهد وهذا قد قال فيه محمد بن الجهم، وغيره: إنه باطل لا شك فيه، قالوا: ومـ[ــكث في] المدينة حتى سمع هذا الإجماع، الذي لا يذكر فيه عن صاحب ولا تابع إلا خلافه. ثم ما باله ترك إجماع أهل المدينة إلى قول عكرمة؟ ولنا [عن] عكرمة خلافه. أنا محمد بن عثمان قال نا محمد بن الجهم، قال: نا جعفر الـ قال: نا محمد بن سابق قال: نا زائدة، عن ليث قال: قال مجاعد في مملـ[ــوك] فجر قد كان أحصن بحرة، قال عكرمة، ليس عليه رجم، إنما هو بمثل الأمة {فإذا أحصن فإن آتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات [من] العذاب}، وقال مجاهد: وسألوني، فقلت مثل قول عكرمة. والـ[ــعجب] في ذكر هذا الرجل لهذا الذي ذكر، وهو خلاف الإجماع – ما أعـ[ــلم] من يقوله إلا أن يذكره عن من لا يقوم به خلاف ولا سلف له عنه. وقيل عن بعض الخوارج: إنه يجلد العبد مائة، ولا حد على الأمة حتى تتزوج فإذا تزوجت وزنت، حدت خمسين جلدة. وهذا كـ[ــــلام] من عند غير الله، ومما لا أصل له، ولا سلف لقائله.

ولم يذكر هذا الر [جل] مذهبه في رجم العبد، وذكر هذا كما ترى، ولم يفصح أنه يقوله [] وقد جلد عمر بن عبد العزيز عبدًا في القذف ثمانين، فهذا شيء ذكرنا فيه هذا وغيره، وأهل المدينة على خلاف هذا، وقد أنكروا ذلك على ابن عبد العزيز، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى [عدي] بن أرطاة [] [إني كنت جلدت] في عملي على المدينة أربعين [] من عمله عمله بالمدينة هو المعروف فيهم [].

§1/1