الديارات للشابشتي

الشابشتي

دير درمالس

دير درمالس هذا الدير في رقة باب الشماسية ببغداد، قرب الدار التي بناها الديلمي أحمد بن بويه، بباب الشماسية. وموقعه أحسن موقع. وهو نزه كثير البساتين والأشجار. وبقربه أجمة قصب. وهو كبير، آهل برهبانه وقسانه والمتبتلين فيه. وهو من البقاع المعمورة بالقصف، والمقصود بالتنزه والشرب. وأعياد النصارى ببغداد، مقسومة على ديارات معروفة، منها أعياد الصوم: فالأحد الأول منه: عيد دير العاصية، وهو على ميل من سمالو. والأحد الثاني: دير الزريقية. والأحد الثالث: دير الزندورد. والأحد الرابع: دير درمالس هذا. وعيده أحسن عيد، يجتمع نصارى بغداد إليه، ولا يبقى أحد ممن يحب اللهو والخلاعة إلا تبعهم. ويقيم الناس فيه الأيام، ويطرقونه في غير الأعياد. ولأبي عبد الله بن حمدون النديم، فيه: يا دير درمالس ما أحسنك ... ويا غزال الدير ما أفتنك لئن سكنت الدير يا سيدي ... فإنّ في جوف الحشا مسكنك ويحك يا قلب، أما تنتهي ... عن شدة الوجد بمن أحزنك ارفق به، بالله، يا سيدي ... فإنه من حينه مكّنك وكان من خبر هذا الشعر، ما ذكره أحمد بن خالد الصريفيني، قال: كنا عند أبي عبد الله بن حمدون، في الوقت الذي نفاه فيه المتوكل. فتذاكرنا الديارات، وطيبها وحسنها في الأعياد، واجتماع الناس بها. فقال: قد، والله، شهيتني لحضور هذه المواضع، والتفرج فيها، والتسلي بها، فأي دير منها قد حضر عيده؟ قلت: دير درمالس، وغداً عيده! قال: فعلى بركة الله. فأعددت جميع ما يحتاج إليه ويصلح لمثله، وبكرنا إلى الدير، ونظرنا إلى اجتماع الناس وتعييدهم. وانصرف من انصرف، وأقمت معه في الدير ذلك اليوم ومن غده. وجلسنا منه مجلساً يشرف على تلك البساتين والمزارع. فشرب، وطابت نفسه وطرب، وحضره من أحداث الموضع من كان يقضي لنا الحاجة ويجيئنا بالطرفة والتحية. فشغف بهم، واستطاب وقته معهم، وقال الأبيات المتقدمة. وكان سبب نفي المتوكل له، أن الفتح بن خاقان، كان يعشق شاهك، خادم المتوكل، واشتهر الأمر فيه حتى بلغه. وله فيه أشعار، منها: أشاهك، ليلي مذ هجرت طويل ... وعيني دماً بعد الدموع تسيل وبي منك، والرحمن، ما لا أطيقه ... وليس إلى شكوى إليك سبيل أشاهك، لو يجزى المحبّ بودّه ... جزيت، ولكن الوفاء قليل وكان أبو عبد الله، يسعى فيما يحبه الفتح، فعرف المتوكل الخبر، فاستدعى أبا عبد الله وقال له: إنما أردتك وأدنيتك لتنادمني، ليس لتقود على غلماني! فأنكر ذلك، وحلف يميناً حنث فيها، فطلق من كانت حرةً من نسائه، وأعتق من كانت مملوكة، ولزمه حج ثلاثين سنة، فكان يحج كل عام. قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت، فأقام بها أياماً. ثم جاءه زرافة في الليل على البريد، فبلغه ذلك، فظن أنه يعني المتوكل لما شرب بالليل وسكر، أمر بقتله، فاستسلم لأمر الله. فلما دخل عليه، قال: جئت في شيء ما كنت أحب أن أجيء في مثله! قال: وما هو؟ قال: أمر أمير المؤمنين بقطع أذنك! وقال: قل له: لست أعاملك إلا كما يعامل الفتيان! فرأى ذلك أسهل مما ظنه من القتل. فقطع غضروف أذنه من خارج، ولم يستقصه، وجعله في كافور معه، وانصرف. وبقي منفياً. ثم حدر أبو عبد الله إلى بغداد، إلى منزله. فأقام به مدة. قال أبو عبد الله: فلقيت إسحق بن إبراهيم الموصلي، بعدما كف بصره. فسألني عن أخبار الناس والسلطان. فأخبرته ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني. فجعل يسليني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين والخاص من ندمائه؟ فقلت له: محمد بن عمر البازيار. فقال لي: ومن هذا الرجل؟ وما مقدار أدبه وعلمه؟ فقلت: أما أدبه، فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب: حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة، فدخل مروان بن أبي الجنوب بن أبي حفصة، فأنشده قصيدته التي يقول فيها: بيضاء في وجناتها ... وردٌ، فكيف لنا بشمه

فسر المتوكل بذلك سروراً شديداً، وأمر، فنثر عليه بدرة دنانير، وأن تلقط وتطرح في حجره، وأمره بالجلوس، وعقد له على اليمامة والبحرين. فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت كاليوم قط، ولا أرى، أبقاك الله ما دامت السموات والأرض! وقبل، قال له: فما تقول في أدبه؟ فقال: أأكثر من أن يقول كثير!. فقال لي إسحق: ويلك! جزعت على أذنك وغمك قطعها؟ ولم؟ حتى تسمع مثل هذا الكلام؟ ثم قال لي: ويلك! لو أن لك مكوك آذان، أيش كان ينفعك مع هؤلاء؟ قال: وأعاده المتوكل إلى خدمته. وكان إذا دعا به، قال على جهة المزاح: يا با عبيد. ولما رضي عنه، قال له: هل لك في جارية أهبها لك؟ فأكبر ذلك وأنكره. فوهب له جارية يقال لها صاحب، من جواريه، حسنة كاملة الأدب، إلا أن بعض الخدم رد السبطانة على فمها، وقد أرادت أن ترميه، فصدع إحدى ثنيتيها، فاسودت، فشانها ذلك عنده. وحمل معها كل ما كان لها: وكان شيئاً عظيماً كثيراً. فلما مات أبو عبد الله، تزوجت صاحب بعض العلويين. قال علي بن يحيى بن المنجم: فرأيته في النوم وهو يقول لي: أبا علي، ما ترى العجائبا ... أصبح جسمي في التراب غائبا واستبدلت صاحب بعدي صاحبا ولأبي عبد الله شعر جيد. ومن شعره يعاتب علي بن يحيى: من عذيري من أبي حسن ... حين يجفوني ويصرمني كان لي خلاً وكنت له ... كامتزاج الرّوح بالبدن فوشى واش، فغيّره ... وعليه كان يحسدني إنما يزداد معرفةً ... بودادي حين يفقدني قال: واتصل بنجاح بن سلمة، إن أبا عبد الله بن حمدون، يذكره ويتنادر به بين يدي المتوكل. فلقيه نجاح يوماًن فقال له: يا أبا عبد الله: قد بلغني ذكرك لي بحضرة أمير المؤمنين بغير الجميل، ولم يخف علي قولك! أتحب أن أنهي إليه قولك إذا خلوت به: أتراني أحبه، وقد فعل بي ما فعل؟ والله، ما وضعت يدي على أذني إلا تجددت له بغضة في قلبي. فقال ابن حمدون: الطلاق له لازم إن كان قال هذا قط، وامرأته طالق إن ذكرتك بغير ما تحبه أبداً! قال: كان إبراهيم بن محمد بن مدبر، يلاعب أبا عبد الله بالنرد. فإذا غلبه شيئاً، دفعه إلى كردية المغنية، جارية محمد بن رجا. فغلبه يوماً عشرين ديناراً، فأخذها منه ودفعها إليها. فكتب إليه أبو عبد اله بعد ذلك: تقضي الحقوق بمالي ... وأنت تعرف حالي إن دام هذا عليّ ... أفقرتني وعيالي! وكان أبوه إبراهيم وأظن أنه الملقب بحمدون بن إسماعيل، ينادم المعتصم، ثم الواثق بعده. وكان يعابث المتوكل في ذلك الوقت. وجاءه مرة بحية في كمه، وأخرج رأسها تعريضاً بأمه شجاع، وكان ذلك يعجب الواثق. قال: فلما مات الواثق، نادم حمدون المتوكل. قال: فلما كان في بعض الأيام، أمر المتوكل بإحضار فريدة جارية أخيه الواثق، وكانت من الحسن والاحسان على ما لم ير مثله. وقال للخدم. إن لم تجيء فجيئوني برأسها! فأحضرت مكرهة، ودفع إليها عود، فغنت غناء يشبه الندبة والمرثية، فأسمعها، وأمرها أن تغني غيره. فبكت وغنت غناء شجياً بحزن. فزاد ذلك في طيب غنائها، فوجم حمدون للرقة التي تداخلته! فغضب المتوكل، ورأى أنه فعل ذلك بسبب أخيه الواثق حزناً عليه، وكان يبغض كل من مالي إليه! فأمر بنفيه إلى السند وضربه ثلثمائة سوط! فسأل أن يكون الضرب من فوق الثياب لضعفه عن ذلك، فأجيب إلى ذلك. وأقام منفياً ثلاث سنين. وتزوج المتوكل فريدة بعد ذلك، فولدت له ابنه أبا الحسن. قال: دعا إبراهيم جماعة من المغنين، فيهم جحظة وقاسم بن زرزر، وكان فيها عمه أبو محمد بن حمدون. فجعل إبراهيم يحاكي واحداً واحداً من المغنين. فقال له عمه: لا تحاك جحظة، ولا يكن بينك وبينه عمل! فلم يقبل، وحاكاه. فلم يزل جحظة يحتال في شيء يكتب فيه، إلى أن وجد رقعة، فكتب فيها: حصلت على حكاية من يغني، ... فحاك لنا العجوز إذا تغنّت وحاك لنا لبيباً إذ أتاها ... فأعطاها القمدّ كما تمنّت فقال له عمه: ألم أقل لك: عقرب، لا تقرب!

دير سمالو

وحكى جحظة، عن إبراهيم بن القسم زرزر، إن لاكهكيفي كان حسن الغناء مجيداً، وكان يحسد إبراهيم بن أبي العبيس على غنائه وشجا صوته. فلما مات إبراهيم وكانت وفاته في أيام المكتفي، على لاكهكيفي والدموع في عيني. فقال: ما لك؟ قلت: مات إبراهيم! قال: بسلام! والله، لو لم يمت لقتلته! دير سمالو وهذا الدير شرقي بغداد، بباب الشماسية، على نهر المهدي. وهناك أرحية للماء، وحوله بساتين وأشجار ونخل. والموضع نزه، حسن العمارة، آهل بمن يطرقه، وبمن فيه من رهبانه. وعيد الفصح ببغداد، فيه منظر عجيب. لأنه لا يبقى نصراني إلا حضر وتقرب فيه، ولا أحد من أهل الطرب واللهو من المسلمين إلا قصده للتنزه فيه. وهو أحد متنزهات بغداد المشهورة، ومواطن القصف المذكورة. ولمحمد بن عبد الملك الهاشمي، فيه: ولربّ يوم في سمالو تم لي ... فيه السرور وغيّبت أحزانه وأخ يشوب حديثه بحلاوةٍ ... يلتذّ رجع حديثه ندمانه صافي الرّحيق من المدام شرابة ... والمحسنات من الأوانس شانه بكرت عليّ به الزيارة فاغتدى ... طرباً إليّ وسرّني اتيانه فأمرت ساقينا وقلت له اسقنا ... قد حان وقت شرابنا وأوانه فتلاعبت بعقولنا نشواته ... وتوقّدت بخدودنا نيرانه حتى حسبت لنا البساط سفينةً ... والدير ترقص حولنا حيطانه ولخالد الكاتب، فيه: يا منزل القصف في سمالو ... ما لي عن طيبك انتقال واهاً لأيامك الخوالي ... والعيش صاف بها زلال تلك حياة النفوس حقاً ... ولك ما دونها محال وهو أبو الهيثم خالد بن يزيد الكاتب. وكان مليح الشعر رقيقه، لا يقول إلا في الغزل، ولا يتجاوز الأربعة أبيات، ولا يزيد عليها. ولم يكن له شعر في مدح ولا هجاء. وذكر ميمون بن حماد، قال: دخل علي يوماً أبو عبد الله ابن الاعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله، سمعت من شعر هذا الغليم شيئاً؟ قال: من هو؟ قلت: خالد بن يزيد. قال: لا، وإني لأحب ذلك! فصح به. فجاء حتى وقف. فقلت: أنشد أبا عبد الله شيئاً من شعرك. فقال: إنما أقول في شجون نفسي، لا أمدح ولا أهجو. فقلت: أنشده، فأنشده. أقول للسقم عد إلى بدني ... حُباً لشيء يكون من سببك فقال ابن الاعرابي: حسبك يا غلام! فقد خيل إلي أن الرقة قد جمعت لك في هذا البيت. قال جحظة: حدثني خالد الكاتب، قال: كنت بدير سمالو، لم أشعر إلا ورسول إبراهيم ابن المهدي قد وافاني. فدخلت إليه، فإذا برجل أسود مشفراني قد غاص في الفراش، فاستجلسني، فجلست. فقال: أنشدني شيئاً من شعرك، فقلت: أيها الأمير، أنا غلام أقول في شجون نفسي، لا أكاد أمدح ولا أهجو. فقال: ذلك أشد لدواعي البلاء، فأنشدته: رأت منه عيني منظرين كما رأت ... من البدر والشمس المضيئة بالأرض عشية حيّاني بوردٍ كأنه ... خدودٌ أضيفت بعضهن إلى بعض وناولني كأساً كأن رضابها ... دموعي لما صدّ عن مقلتي غمضي وولى وفعل السّكر في حركاته ... من الراح، فعل الريح بالغصن الغضّ فزحف، حتى صار في ثلثي المصلى. ثم قال: يا بني، شبه الناس الخدود بالورد، وشبهت أنت الورد بالخدود! زدني، فأنشدته: عاتبت نفسي في هوا ... ك، فلم أجدها تقبل وأجبت داعيها إلي ... ك، ولم أطع من يعذل لا والذي جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل لا قلت أن الصبر عن ... ك من التصابي أجمل فزحف، حتى صار خارج المصلى، ثم قال: زدني! فأنشدته: عش فحبّيك سريعاً قاتلي ... والضنى إن لم تصلني واصلي ظفر الحبّ بقلبٍ دنف ... بك والسقم بجسم ناحل فهما بين اكتئابِ وضنى ... تركاني كالقضيب الذابل وبكى العاذل لي من رحمتي ... فبكائي لبكاء العاذل فصاح وقال: يا بليق: كم لي معك من العين؟ قال: ستمائة وخمسون ديناراً، قال: اقسمها بيني وبينهن واجعل الكسر كاملاً للغلام.

وذكر أحمد بن صدقة المغني، قال: اجتزت بخالد الكاتب يوماًن فقلت له: اعمل لي أبياتاً أغني فيها أمير المؤمنين، يعني المأمون. قال: فأي حظ لي في ذلك؟ تأخذ أنت الجائزة، وأحصل أنا على الاثم! فحلفت له، أنه إن وصلني بشيء، قاسمته إياه. فقال لي: أنت أنذل من ذاك! ولكن أذكره بي، فلعله يصلني بشيء. قلت: أفعل. فأنشدني: تقول سلا فمن المدنف ... ومن عينه أبداً تذرف ومن قلبه قلقٌ خافقٌ ... عليك وأحشاؤه ترجف فحفظت الشعر، وعملت فيه لحناً، وحضرنا عند المأمون من الغد مع المغنين. وكان بينه وبين بعض حظاياه هجرة. فوجهت إليه بتفاحة عنبر مكتوب عليها بالغالية: يا سيدي سلوت. وما علم الله أني عرفت شيئاً من الخبر. وانتهى الدور إلي وابتدأت أغني بشعر خالد. فلما غنيته إياه، احمر وجه المأمون وانقلبت عيناه، ودارتا في أم رأسه، وظهر الغضب في وجهه، وقال: لكم على حرمي أصحاب أخبار؟ فقمت إعظاماً لما شاهدت منه، وقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله أن يظن بعبده هذا الظن، وأنزه داره أن يكون لأحد عليها صاحب خبر! قال: فمن أين عرفت خبري مع جاريتي حين غنيت في معنى ما بيننا؟ فحلفت له أني لا أعرف شيئاً من ذلك، وحدثته حديثي مع خالد. فلما انتهيت إلى قوله: أنت أبذل من ذاك! قال: أشهد أنك كذاك، وأسفر وجهه. وقال: ما أعجب هذا الاتفاق! وأمر لي بخمسة آلاف درهم، ولخالد بمثلها. ومن مليح شعر خالد: كبد المستهام كيف تذوب ... ما تقاسي من العيون القلوب بدن المستهام كيف تراه ... شجنٌ ما له سواه طبيب أين أين الرقاد يا مقلتي من ... حرّ أحشائه عليه رقيب يا مكان الهوى خلوت من الصب ... ر، فما للسلو فيك نصيب ومن مليح شعره: ولم أدر ما جهد الهوى وبلاؤه ... وشدته حتى وجدتك في قلبي أطاعك طرفي في فؤادي، فحازه ... لطرفك حتى صار في قبضة الحب ومن شعره، وفيه لحن: قد استعار الحسن من وجهه ... والغصن الناعم من قدّه لقد تعاتبنا بأبصارنا ... فيما جناه الخلف من وعده حتى تجارحنا بتكرارنا ... للّحظ في خدّي وفي خدّه وله أيضاً: ما على الغضبان لو كان رضي ... ورثى لي من تمادي مرضي قال لي لما تشكّيت الهوى ... إحمد الله كذا قُضي قلت: حاشى الله أن يقضي بذا ... بل قضاه صاحب الوجه الوضي أنت شرّدت رقادي ظالماً ... فاجعل الانصاف منه عوضي وله أيضاً: رحلتم، فكم من أنةٍ بعد زفرةٍ ... مُبيّنةٍ للناس شوقي إليكم وقد كنت اعتقت الجفون من البكا ... فقد ردّها في الرق حزني عليكم وله أيضاً: زراني في مورّدٍ مثل خدي ... هـ وعقد فصوله الكافور ليلةٌ لم يكن سوى قصر اللي ... لة فيها عيبٌ ولا تقصير قال جحظة: كنت يوماً عند عبد اله بن المعتز، فطلبت نعلي، فلم أجده. فجعلت أقول: يا قوم من لي بنعلي ... أو في مصحّف نعل فسار هذا البيت حتى رواه الصبيان. قال: ودعاني عبيد الله يوماً، فأبطأت عنه، فكتب إلي: لا تهجر الأمراء من بعدوا على ... فرس الح قيراط فكتب إليه جحظة: من كان خادم مثلكم فجواده ... فرس الحفاء ودينه طسّوج قال جحظة: كنت أعشق جارية في القيان، يقال لها شروين. فسكرت عندي ليلةً، فخرئت في سطلي وحميديتي وانصرفت. فكتب إلي الهداهدي: قد زارني خلٌّ أسرّ به ... حلو الشمائل راجح العقل فبحقّ شروين التي خرئت ... في الطست والابريق والسطل إلا أتيت مبادراً عجلاً ... وأرحت من نكد ومن مطل حتى أراك إذا سكرت وقد ... شاركتها في ذلك الفعل! ولجحظة، إلى ابن طرخان يدعوه: لنا يا أخي زلةٌ وافره ... وقدرٌ معجّلة حاضره وما شئت من خبر طيب ... ونادرة بعدها نادره

دير الثعالب

وراحٍ تريك إذا صفّقت ... سنا البرق في الليلة الماطره ومحسنةٍ لم يخنها الصواب ... وزامرةٍ أيما زامره فايت ولو كنت يا ابن الكرام ... وحاشاك من ذاك في الآخره ألست أدري أين الفؤاد مقيماً ... يا مكان الفؤاد، أين الفؤاد؟ دفعته الأحشاء عما يليها ... فأذابته حرقةٌ واتقاد وله: نأيت فلم ينأ عنه الضّنى ... وعدت فعاد إلى نكسه وفارقه الصبر في يومه ... لما فاته منك في أمسه ومستوحشٍ آنسٍ بالبكاء ... على قلبه وعلى انسه يرقّ هواه لأحشائه ... ويرثي له الشوق من نفسه دير الثعالب وهذا الدير ببغداد، بالجانب الغربي منها، بالموضع المعروف بباب الحديد. وأهل بغداد يقصدونه ويتنزهون فيه، ولا يكاد يخلو من قاصد وطارق. وله عيد لا يتخلف عنه أحمد من النصارى والمسلمين. وباب الحديد، أعمر موضع ببغداد وأنزهه: لما فيه من البساتين والشجر والنخل والرياحين، ولتوسطه البلد وقربه من كل أحد. فليس يخلو من أهل البطالات، ولا يخل به أهل المتطرب واللذاذات. فمواطنه أبداً معمورة، وبقاعه بالمتنزهين مشحونة. وقد قالت الشعراء في الدير وباب الحديد وقبرونيا، فأكثروا، ووصفوا حسن تلك المواضع فأطنبوا. ولابن دهقانة الهاشمي، فيه: دير الثعالب مألف الضّلال ... ومحلّ كل غزالةٍ وغزال كم ليلة أحييتها ومنادمي ... فيها أثجّ مقطّع الأوصال سمحٌ يجود بروحه فإذا مضى ... وقضى سمحت له وجدت بمالي ونعم دين ابن مريم دينه ... غنجٌ يشوب مجونه بدلال سقّيته وشربت فضلة كأسه ... فشربت من عذب المذاق زلال وابن دهقانة هذا، من ولد إبراهيم ب محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ويعرف بأبي جعفر محمد بن عمر. وله شعر مليح. وذكر جحظة أنه أنشده: أحين قطعت لك الواصلين ... وجدت عليك ولم أبخل غدرت وأظهرت لي جفوةً ... وجرت عليّ ولم تعدل؟ أأطمع في آخر من هواك ... ولم ترع لي حرمة الأول؟ وذكر جحظة، أنه كان والي البصرة في أيام الزنج، وأنه أخذ من الناجم بها ثلاثين ألف دينار، وسلم إليه البصرة. وكان جحظة يكثر المكث عنده ولا يغبه. قال: فتأخرت عنه في وقت من الأوقات، لعارض عرض لي، فوجه إي يدعوني، فكتبت إليه: أنا والله عليل! وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه قد خالط اللحم والدما فوجه إلي بخمسين ديناراً وخلعة، وقال: هذا يزيل العلة، فبحياتي إلا جئتني! فمضيت إليه. وذكر جحظة، أنه كان ينادم المعتمد والموفق، وكان عظيم الخلق، ثقيل الجسم، وكان إذا قام الخليفة ورجع، وقام الندماء، نام هو، وقال: هذا عوض القيام لما لم يكن يقدر عليه. وكان أكولاً، فكان يقول: قد أكلت حتى زمنت، وأريد آكل حتى أموت! ومن شعره: فلو أن في جزعي راحةً ... لأصبحت أجزع من يجزع سأصبر جهدي على ما ترى ... وإن عيل صبري، فما أصنع؟ وللناشىء، يذكر باب الحديد وقبرونيا: ما جليدٌ يوم الندى بجليد ... بعدت والمزار غير بعيد خبّرت عن ضميرها عبراتٌ ... صرن عوناً على الفؤاد العميد يا ليالي اللذّات بالله عودي ... بين قبرونيا وباب الحديد بين تلك الربى وقد نسج الو ... بل بكف الربيع ريط البرود خدّه ضدّ صدغه مثل ما الوع ... د إذا ما اختبرت ضدّ الوعيد طلب الطبل طايلات من الزّم ... ر وعاد السرور إذ عاد عودي ومن رقيق شعره: لم أسل عنك ولم أخنك ولم يكن ... في القلب مني للسلوّ مكان لكن رأيتك قد مللت مودّتي ... فعلمت أنّ دواءك الهجران دير الجاثليق

وهذا الدير، يقرب من باب الحديد، وهو دير كبير، حسن، نزه، تحدق به البساتين والأشجار والرياحين. وهو يوازي دير الثعالب في النزهة والطيب وعمارة الموضع، لأنهما في بقعة واحدة. وهو مقصود مطروق، لا يخلو من المتنزهين فيه والقاصدين له. وفيه رهبانه وفتيانه ومن يألف من أهل الخلاعة والبطالة. وقالت الشعراء فيه ووصفته. ولمحمد بن أبي أمية الكاتب فيه، وفيه لحن خفيف رمل: لهفي على قمرٍ في الدير مسجون ... في صورة الانس، في مكر الشياطين والله ما أبصرت عيني محاسنه ... إلاّ خرجت له طوعاً من الدين وله في هذا الدير أيضاً: تذكرت دير الجاثليق وفتيةً ... بهم تمّ لي فيه السرور وأسعفا بهم طابت الدنيا وتم سرورها ... وسالمني صرف الزمان وأنصفا ألا ربّ يوم قد نعمت بظله ... أبادر من لذات عيشي ما صفا أغازل فيه أدعج الطرف أهيفا ... وأُسقى به مسكية الطعم قرقفا فسقياً لأيام مضت لي بقربهم ... لقد أوسعتني رأفةً وتعطفا وتعساً لأيام رمتني بينهم ... ودهرٍ تقاضاني الذي كان أسلفا ومحمد بن أمية هذا، أحد المتقدمين في الشعر، رقيق الطبع، حسن التصرف فيه، غريب المعاني. وأكثر شعره في الغزل. وكان هو وعلي أخوه يكتبان للفضل ابن الربيع. وهو عم أبي حشيشة الطنبوري. ومن مليح شعره: رأيتك حليتي دنيا ودين ... حياةً للضّجيع وللقرين بدا لي بعدما سبقت يميني ... بهجرك أن أكفّر عن يميني وله: لم أسل عنك ولم أخنك ولم يكن ... في القلب مني للسلو مكان لكن رأيتك قد مللت مودّتي ... فعلمت أن دواءك الهجران ومن رقيق شعره: يا غريباً يبكي لكل غريب ... لم يذق قبلها فراق حبيب عزّه الصبر فاستراح إلى الدّم ... ع، وفي الدمع راحة للقلوب ليت يوماً أراك فيه كما كن ... ت قريباً، فأشتكي من قريب وله: رب يوم منك لا أنساه لي ... أوجب الشكر وإن لم تفعل أقطع الدهر بظن حسنٍ ... وأجلّى غمرةً ما تنجلي وأرى الأيام لا تُدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي كلما أمّلت يوماً صالحاً ... عرض الهجران دون الأمل ومن نادر شعره: لأُقيمن مأتماً عن قريب ... ليس بعد الفراق غير النحيب أظلمتني فيك الخطوب فلم أق ... وعلى أن أردّ ظلم الخطوب ربّ، ما أوجع الهوى للقلوب ... لا ولا سيما فراق الحبيب لم أكن أعرف الفراق فأقدم ... ت عليه غرّاً بلا تجريب وله أيضاً: اليوم أثكلني صبري فراقكم ... كذاك أعظم شيء فقد معشوق قد كنت في فسحةٍ من قبل بينكم ... فاليوم صرت من الأحزان في ضيق واغتالني زمنٌ قد كنت آمنه ... تعساً لغدرته من بعد توثيق إني على العهد لم أنقض مودّتكم ... يا من يرى حسناً نقض المواثيق وله: ما ذاقت النفس على شهوةٍ ... ألذّ من ودّ صديق أمين من فاته ودّ أخٍ صالح ... فذلك المغبون حقّ اليقين وله، وهو من مليح شعره: فيا شوق لا تنفد، ويا دمع فض وزد ... ويا شوق راوح بين جنبٍ إلى جنب ويا عاذلي لمني، ويا عابد افتني ... عصيتكما حتى أغيّب في الترب إذا كان ربّي عالماً بسريرتي ... فما الناس في عيني بأعظم من ربي وله يصف روضة: في جنانٍ كأنما نشرت فو ... ق ثراها حريرة خضراء أعين النرجس الجنيّ نجومٌ ... واخضرار الرياض فيها سماء للثرى تحتها سباتٌ وللما ... ء خريرٌ وللغصون غناء وله: فها أنا مغضٍ في رضاك وصابرٌ ... على مثل مصقول الذبابين قاضب ومنتزح عما كرهت وجاعلٌ ... رضاك مثالاً بين عيني وحاجبي وله:

دير مديان

كم فرحةٍ كانت وكم ترحة ... تخرّصتها لي فيك الظنون إذا قلوبٌ أظهرت غير ما ... تضمره أنبتك عنها العيون وله: يُصعّد في الحشا نفسا ... ويسهر إن فتىً نعسا يظلّ يعالج الزفرا ... ت إن أغفى وإن جلسا غذا بالشوق مهجته ... وعلل نفسه بعسى محبٌّ صيّر الشكوى إلى جلسائه أُنسا وكان أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، يختم أماليه في مجالسه بمقطوع من شعر ابن أبي أمية، استحساناً له واستعذاباً لألفاظه، ويقرظه دائماً ويصفه. دير مديان وهذا الدير على نهر كرخايا ببغداد. وكرخايا نهر يشق من المحول الكبير ويمر على العباسية، ويشق الكرخ، ويصب في دجلة، وكان قديماً عامراً، والماء فيه جارياً، ثم انطم وانقطعت جريته بالبثوق التي انفتحت في الفرات. وهو دير حسن، نزه، حوله بساتين وعمارة، ويقصد للتنزه والشرب، ولا يخلو من قاصد وطارق، وهو من البقاع الحسنة النزهة. وللحسين بن الضحاك، فيه: حُثّ المدام فإن الكأس مترعة ... مما يهيج دواعي الشوق أحيانا إني طربت لرهبانٍ مجاوبةٍ ... بالقدس بعد هدوّ الليل رهبانا فاستنفرت شجناً مني ذكرت به ... كرخ العراق وإخواناً وأشجانا فقلت، والدمع في عيني مطردٌ ... والشوق يقدح في الأحشاء نيرانا: يا دير مديان، لا عرّيت من سكن ... ما هجت من سقم يا دير مديانا هل عند قسّك من علم فيخبرني ... أن كيف يسعد وجه الصبر من بانا سقياً ورعياً لكرخايا وساكنه ... بين الجنينة والروحاء من كانا قال: كان أبو علي بن الرشيد، يلازم هذا الدير ويشرب فيه. وكان له قيان يحملهن إليه، ويقيم به الأيام، لا يفتر عزفاً وقصفاً، وكان شديد التهتك! وكان من يجاور الموضع يشكون ما يلقونه منه. فانتهى الخبر إلى إسحق بن إبراهيم الطاهري، وهو خليفة السلطان ببغداد. فوجه إليه يقبح له فعله، وينهاه عن المعاودة لمثله. فقال: وأي يد لاسحق علي؟ وأي أمر له فيّ؟ أتراه يمنعني من سماع جواري، والشرب بحيث أشتهي؟. فلما أتاه هذا القول منه أحفظه وتمهل، حتى إذا كان الليل، ركب إلى الموضع، وأحاط به من جميع جهاته، وأمر أن يفتح باب الدير، وينزل به على الحال التي هو عليها. فأنزل وهو سكران في ثياب مصبغة، وقد تضمخ بالخلوق، فقال له: سوءة لك! رجل من ولد الخلافة على مثل هذه الحال؟. ثم أر، ففرش بساط على باب الدير، وبطح عليه، وضربه عشرين درة، وقال: أن أمير المؤمنين لم يولني خلافته حتى أضيع الأمور وأهملها، ولا حتى أدعك وغيرك من أهل تعرونه وتفضحونه وتخرجون إلى ما خرجت إليه من التبذل والشهرة وهتك الحرمة وإخراجهن إلى الديارات والحانات. وفي تأديبك صيانة للخلافة، وردع لك ولغيرك عن هذه الفضيحة. ثم أمر بعماريات كانت معه، فأركب فيها مع حرمه، ورده إلى داره. فبلغ ذلك المعتصم، فكتب إليه يصوب رأيه وفعله، ويأمره أن لا يرخص لأحد من أهل بيته في مثله.

وأم أبي على هذا، تعرف بشكل. وكان الرشيد قد اشتراها وصاحبةً لها تعرف بشذر في يوم واحد. فحملت شذر وولدت أم أبيها؛ فحسدتها شكل، وبلغ بها الحسد إلى أمر عظيم من العداوة؛ حتى اشتهر ذلك. وحملت شكل وولدت أبا علي. وماتت أماهما؛ وبقيت العداوة بين أبي علي وأم أبيها، حتى بلغ الأمر بها إلى أن تهاجيا بالأشعار، وشاع أمرهما في جميع آل الرشيد! فلما قتل الأمين، وورد المأمون إلى بغداد، جلس يوماً وعمه إبراهيم بن المهدي وأبو إسحق أخوه والعباس ابنه، وتذاكروا العداوة التي بين هذين. فقال: لقد سمعت بخبر عداوتهما بخراسان، ولقد هممت أن أصلح بينهما. ووجه فأحضر أم أبيها، وأقبل يعاتبها وهي مطرقة لا ترد جواباً. ثم أمر بإحضار أبي علي. فلما رأته أم أبيها، تنقبت وسترت وجهها. فقال المأمون: كنت مسفرةً، فلما حضر أخوك تنقبت؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين، لسفوري بين يدي عبد الله بن طاهر وعلي بن هشام أوجب من سفوري لأبي علي! فوالله، ما هو لي بأخ ولا للرشيد بابن! وقد قال الله عز وجل في قريش: الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. قال ابن عباس: آمنهم من البرص والجذام، وهو والله أبرص، وما هو إلا ابن فلان الفراش! فأمر المأمون أخاه أبا إسحق، فجلدها حداً. فقالت: سوءةً يا أمير المؤمنين أن تحد أختك لابن الفراش، وسننت على بنات الخلفاء الحد! فوالله، لقد ظننت أن أمره يستتر، فأما الآن فوالله ليتناقلنه الرواة وليتحدثن به إلى أن تقوم الساعة!. ونهضت فقال المأمون: قاتلها الله! فلو كانت رجلاً لكانت أقعد بالخلافة من كثير من الخلفاء! وقد أبا علي الصلاة على جنائز أولاد الخلفاء ليدرأ عنه العيب. ونرجع إلى ذكر إسحق بن إبراهيم، ونورد طرفاً من أخباره، في حزمه وضبطه، بقدر ما يليق بالكتاب. إسحق هذا، هو ابن أخي طاهر ابن الحسين، ويكنى أبا الحسن. وكان المأمون اصطنعه وولاه خلافة عبد الله بن طاهر بحضرته لما أخرج عبد الله إلى خراسان، وكان أشد الناس تقدماً عنده واختصاصاً به. فذكر عبد الله بن خرداذبه، أنه حضر مجلس المأمون يوماً، وقد عرض عليه أحمد بن أبي خالد رقاعاً، فيها رقعة قوم متظلمين من إسحق بن إبراهيم. فلما قرأها المأمون، أخذ القلم وكتب على ظهرها: ما في هؤلاء الأوباش إلا كل طاعن واش! إسحق غربي بيدي، ومن غرسته أنجب ولم يخلف، لا أعدي عليه أحداً. ثم كتب إلى إسحق رقعة، فيها: من مؤدب مشفق إلى حصيف متأدب. يا بني، من عز تواضع، ومن قدر عفا، ومن راعى أنصف، ومن راقب حذر. وعاقبة الدالة غير محمودة، والمؤمن كيس فطن. والسلام. وولي إسحق للمأمون، ثم للمعتصم، ثم للواثق، ثم للمتوكل. ومات في أيام المتوكل. فأقام محمداً ابنه مكانه، فلبث يسيراً ومات. فاستدعي محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، ورد إليه ما كان إلى إسحق. وذكروا أن بعض ولد الرشيد وكان له موضع من النسب ومكان من المعرفة والأدب مرض ببغداد مرضاً طال، ولم يقدر على الركوب واشتهى التفرج والتنزه في الماء. فأراد أن يبني زلالاً يجلس فيه، فمنعه إسحق، وقال: هذا شيء لا نحب أن يعمل مثله إلا بأمر أمير المؤمنين وإذنه. فكتب إلى المعتصم يستأذنه في ذلك، فخرج الأمر إلى إسحق بإطلاقه له. فكتب إسحق: ورد عليّ كتاب من أمير المؤمنين بإطلاق بناء زلال لم يحد لي طوله ولا عرضه، فوقفت أمره إلى أن استطلع الرأي في ذلك. فكتب إليه يحمده على احتياطه، ويحد له ذرع الزلال. قال: لما انتق المعتصم على سر من رأى، كان الناس في يوم الموكب يغشون دار المأمون، ويقعدون فيها على سبيلهم في حياته إجلالاً للسلطان وتعظيماً لأمره. فانصرف محمد بن إسحق في يوم من الأيام الحارة، وقد أطال الركوب. واجتاز بدار المأمون، وقد فتل قلنسوته على رأسه مستتراً بها من الشمس، فبلغ أباه ذلك، فضربه معاقباً له على اجتيازه بباب الخليفة متبذلاً!

وذكر عبد الله بن خرداذبه، أنه خرج يوماً من بين يدي المأمون في أثر إسحق بن إبراهيم، حتى إذا صار إلى الدهليز الثاني، وقف ووقف القواد والناس لوقوفه! ثم قال: أين خليفة علي بن صالح؟، وكان علي ذلك الوقت صاحب أمر الدار والموسوم بالحجبة. فأتي بخليفته، فضربه مائة مقرعة، ثم قال: الحبس!. ثم قال: هاتوا خليفة صاحب البريد. فأتي به، فضربه مائة مقرعة، ثم قال: الحبس!. ثم دعا بعلي بن صالح وبصاحب البريد، وقال لهما: تقلدان خلافتكما في دار الخليفة من يضيع الأمور ويهملها؟ كنتما بهذا الأدب أحق من هذين!. فقالا: وما كان من أمرهما الذي أنكرته، أيها الأمير؟ فقال: صاحب بريد يقعد في دار الخليفة، فيضحك ويقهقه، وصاحب الدار جالس لا ينكر؟ ثم خرج! قال: فكنت أدخل الدار بعدها، فلا أرى فيها ضاحكاً! قال: ودخل إسحق في يوم نوروز إلى المتوكل، والسماجة بين يديه. وعلى المتوكل ثوب وشي مثقل، وقد كثر أصحاب السماجة حتى قربوا منه للقط الدراهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيله! فلما رأى إسحق ذلك، ولى مغضباً، وهو يقول: أف وتف! فما تغني حراستنا المملكه مع هذا التضييع!. ورآه المتوكل وقد ولى، فقال: ويلكم! ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضباً! فخرج الحجاب والخدم خلفه، فدخل وهو يسمع وصيفاً وزرافة كل مكروه، حتى وصل إلى المتوكل. فقال: ما أغضبك، ولم خرجت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ما له من الأولياء! تجلس في مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو قد احتسب نفسه ديانةً وله نية فاسدة وطوية ردية، فيثب بك! فمتى كان يستقال هذا، ولو أخليت الأرض منهم؟. فقال: يا أبا الحسين، لا تغضب! فوالله لا تراني على مثلها أبداً. وبني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف، ينظر منه إلى السماجة. وذكر موسى بن صالح بن شيخ، أنه كلم إسحق بن إبراهيم في امرأة من أهله، وسأله النظر لها فقال: يا أبا محمد، من قصة هذه المرأة، ومن حالها، ومن بعلها، قال: فوالله إن زال يصفها حتى تحيرت. قال أبو البرق الشاعر: كان إسحق يجري علي أرزاقاً، فأنشدته يوماً، فسألني عن عيالي، وما احتاج إليه لهم، ثم قال لي: تحتاج عيالك في كل شهر من الدقيق كذا، ومن كذا كذا ... فما زال يخبرني بشيء من أمر منزلي جهلته وعلمه هو! قال: وورد على إسحق كتاب من المعتصم، وهو جالس يشرب، ومعه محمد بن راشد الخناق، وكان خصيصاً به أثيراً عنده. فما فرغ من قراءة الكتاب حتى قال: سياط وعقابين وجلادين! فأحضر ذلك. فأمر بمحمد بن راشد، فأقيم من مجلسه وشق عنه ونصب في العقابين، وهو يقول: أيها الأمير، ما حالي؟ ما قصتي؟. فقال: الحق الجوهر الذي كان لفلان، من صفته كيت وكيت، تحضرنيه الساعة، وإلا أتيت على نفسك!. فذهب يتلكأ فقال: أوجعوا! فلما أحس بالضرب، قال: أنا أحضره أيها الأمير. قال: وحق أمير المؤمنين، لا برحت مكانك أو تحضره!. فأحضره لوقته. فلما رآه إسحق، سري عنه وأسفر وجهه وقال: هاتوا ثياباً، فأتي بخلعة، فألبسها. ورده إلى موضعه. وأجاب عن الكتاب، وأنفذ الحق لوقته إلى المعتصم. فقال محمد: أيها الأمير، ما أبعد ما بين الفعلين؟. فقال: ويحك! وفيت الخدمة والنصيحة، ووفيت المودة بعد ذلك حقها. وذكر أبو حشيشة الطنبوري، قال: كنت يوماً في منزلي، إذ طرق الباب صاحب بريد، وقال: أجب! فلما قال أجب، علمت أنه أمر عال. فلبست ثيابي، ومضيت معه حتى دخلنا دار إسحق بن إبراهيم. فعدل بي إلى ممر طويل فيه حجر متقابلة، تفوح من جميعها روائح الطعام. فأدخلت حجرة منها، وقدم إلي طعام في نهاية النظافة وطيب الرائحة، فأكلت. وجاؤوني بثلاثة أرطال، فشربت. وأحضروا لي صندوقاً فيه طنابير، فاخترت طنبوراً منها، وأصلحته على الطريقة، وأخرجت من الموضع إلى حجرة لم أر أحسن منها. وإذا في مجلسها رجلان جالسان، على أحدهما قباء ملحم وقلنسوة سمورية، وعلى الآخر ثياب خز؛ وستارة مضروبة فيه. فسلمت وأمرت بالجلوس، فجلست. فقال لي صاحب السمورية: غنّ! فغنيت: ما أُراني إلا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران ملّني واثقاً بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالانسان

دير أشموني

فغنيته، فشرب رطلاً، ونقر الستارة وقال: غنوه! فغني الصوت أحسن غناء في الدنيا، وخلت أن البيت يرقص! فقال لي: كيف ترى؟ قلت: قد والله، يا مولاي، بغضوا إلي هذا الصوت وسمجوه في عيني. فضحك واستعادنيه ثلاث دفعات، يشرب في كل دفعة منها رطلاً. ثم قال: أتعرفني؟ قلت: لا! قال: أنا إسحق بن إبراهيم، وهذا محمد بن راشد الخناق. ووالله، لئن ظهر حديث هذا المجلس منك، لأضربنك ثلثمائة سوط! قم إذا شئت! فقمت من بين يديه، فلحقني الغلام بصرة فيها ثلثمائة دينار، فاجتهدت أن يأخذ منها شيئاً، فأبى! وذكر عمرو بن بانة، قال: وجه إلي إسحق بن إبراهيم في آخر النهار، فصرت إلى داره وأدخلت عليه، وهو جالس في طارمةٍ ملبسة بالخز، على دجلة، وقد انبسط القمر على الروشن وعلى دجلة، وهو من أحسن منظر رأيت قط! والمعينون جميعاً بين يديه، وبذل جالسة وراء مقطع في الطارمة. فلم يزل جالساً بموضعه، ونحن في يديه، إلى أن نودي بالفجر فقام وقمنا. وقال لنا الغلمان: انصرفوا! فنزلنا إلى الشط، ودعونا بسميرية، فجلسنا جميعاً، وقلت لهم: إن منزلي أقرب من منازلكم، فاجعلوا مقامكم اليوم عندي، ففعلوا. وحصلنا في المنزل، فطلبت فيه شيئاً يؤكل، فلم أجد! فأمرت بإحضار المائدة، فأحضرت فارغة، وطرحت في وسطها مائة درهم صحاحاً وقلت: يوجه كل واحد منكم، فيشتري له ما يريد. فما كان بأسرع من أن امتلأت بكل شيء! فأكلنا وشربنا، ومر لنا يوم طيب، وتفرقنا آخر النهار، وفي قلوبنا غصص مما فعله بنا إسحق، وما فاتنا من تلك الليلة الحسنة في ذلك الموضع الحسن! فمضيت بعد ذلك إلى بذل، وسألتها عن السبب فيما فعله، فقالت: قد سألته عن ذلك، فقال: ويحك! أنا أشتهي الشرب في مثل هذه الليلة منذ سنة، وأدافع نفسي به، فلما حصل لي جميع ما أريده وأشتهيه، أردت أن أري نفسي سلطاني عليها وقهري لها ومنعها مما تحبه، لئلا تقودني إلى ما تريد، ففعلت ما رأيت. وكان مع ذلك حسن المروءة، كريم النفس. فذكر أبو حشيشة، قال: دعاني في بعض الأيام، فصرت إليه وجلست أغنيه، وعليه دراعة خز خضراء لم أر أحسن منها قط. فجعلت أنظر إليها، وفطن بنظري، فدعا بالخازن وقال: كانوا جاؤونا منذ أيام بعشرة أثواب خز خضر، هذا أحدها، فجئني ببقيتها. فأحضر تسعة أثواب، يتجاوز حسنها كل وصف، فأعطانيها، فبعت من رذالها الثوب بمائة دينار! وقال: طرق أحمد بن يوسف الكاتب، إسحق بن إبراهيم، فقدم إليه كل شيء حسن من الأطعمة والآلة، وضربت الستائر، وأحضرت الفواكه والنبيذ، ومر يوم لم يكن مثله. ثم سأل أحمد أن يكون عنده من الغد، فقال أحمد: يفوتني الصيد. فأحضر جارية وغلاماً وفرساً لم ير أحسن منهم، وقال: هذا صيدك غداً. ثم تصنع له من الغد، فرأى أحمد شيئاً لم ير مثله قط. وقال له إسحق: أمس كان فتوة، واليوم مروة. وكان المأمون يصير إلى داره، فيقيم عنده الأيام هو وغلمانه وحشمه أنساً به وثقة بمكانه. واجتازت يوماً زبيدة في دجلة في حراقتها، فصعدت إلى دار إسحق لبعض حاجتها، فعرض عليها إسحق الطعام، فأمرت بإحضاره، فعجبت مما رأت ومما قدم. وقالت: والله ما كانت بي حاجة إليه، وإنما أردت أن أختبر مروءته، فوجدته أتم الناس مروءةً، هذا من غير تصنع لي ولا علم بمجيئي. دير أشموني وأشموني، امرأة بني الدير على اسمها، ودفنت فيه. وهو بقطربل، غربي دجلة. وعيده اليوم الثالث من تشرين الأول، وهو من الأيام العظيمة ببغداد، يجتمع أهلها إليه كاجتماعهم إلى بعض أعيادهم، ولا يبقى أحد من أهل التطرب واللعب إلا خرج إليه، فمنهم في الطيارات ومنهم في الزبازب والسميريات، كل إنسان بحسب قدرته. ويتنافسون فيما يظهرونه هنالك من زيهم، ويباهون بما يعدونه لقصفهم، ويعمرون شطه وأكنافه وديره وحاناته. ويضرب لذوي البسطة منهم الخيم والفساطيط، وتعزف عليهم القيان. فيظل كل إنسان منهم مشغولاً بأمره، ومكباً على لهوه؛ فهو أعجب منظر وأطيب مشهد وأحسنه! وهناك أيضاً دير يسمى دير الجرجوث وحوله بساتين ومزارع، ومن ضاق به دير أشموني، عدل إليه.

قال جحظة: خرجت في عيد من أعياد أشموني إلى قطربل، فلما وصلت إلى الشط، مددت عيني لأنظر موضعاً خالياً أصعد إليه، أو قوماً ظرافاً أنزل عليهم، فرأيت فتيين من أحسن الناس وجوهاً وأنظفهم لباساً، وأطرفهم آلة! فقدمت سميريتي نحوهما، وقلت: أتأذنون في الصعود إليكم؟ فقالوا: بالرحب والسعة! فصعدت وقلت: يا غلام، طنبوري ونبيذي! فقالا: أما الطنبور فنعم، وأما النبيذ فلا. فجلست مع أحسن الناس أخلاقاً وأملحهم عشرة. وأخذنا في أمرنا. ثم تناولت الطنبور، وغنيت بشعر لي: سقياً لأُشموني ولذاتها ... والعيش فيما بين جناتها سقياً لأيام مضت لي بها ... ما بين شطّيها وحاناتها إذا اصطباحي في بساتينها ... وإذ غبوقي في دياراتها فنعر القوم، وشربوا بالأرطال وشربت، وطاب لنا الوقت إلى آخر النهار. ثم قلت لأحدهما: جعلت فداك، ما أرى في هذا الجمع أرق منكما طبعاً، ولا أرق نبيذاً. فقال لي مجيباً: شرابي رقيقٌ كما قد رأي ... ت، ود بسهم بذباب يساط وأشار إلى القوم، ثم قال: فكيف أكون نظيراً لهم ... أين لي بعقلك أم ذا ضراط ثم قال: أزيدك؟ قلت: لا. ومر لنا أطيب يوم وأحسنه! قال محمد بن المؤمل الطائي: كنت مع أبي العتاهية في سميرية، ونحن سائرون إلى أشموني. فسمع غناء من بعض النواحي، فاستحسنه وطرب له. فقال لي: تحسن ترقص؟ قلت: نعم! فقال: قم بنا نرقص. قلت: نحن في سميرية، وأخاف أن نغرق! قال: وإن غرقنا نكون ماذا؟ أليس نكون شهداء الطرب؟ وللثرواني، فيه: إشرب على قرع النواقيس ... في دير أشموني بتغليس لا تخف كأس الشرب، والليل في ... حدّ نعيم لا ولا بوس إلا على قرع النواقيس ... أو صوت قسّان وتشميس فإنما الشيء بأسبابه ... ومحكم الوصف بتأسيس فهكذا فاشرب، وإلا فكن ... مجاوراً بعض النواويس قال: كتب يحيى بن كامل إلى عبد الملك بن محمد الهاشمي في يوم أشموني: اليوم أشموني أبا الفضل ... وهو عجيبٌ طيب الظلّ وأنت لليوم صريعٌ فما ... يصنع يحيى يا أبا الفضل فوجه إليه بما ركبه، وعرف الجماش الخبر، فكتب إليه: قولا لعبد الملك الماهر ... ولابن عم المصطفى الطاهر أما ترى اليوم، وأحواله ... تدعو إلى حثّك بالدائر عيدٌ وغيم زار في يومنا، ... فقم بحقّ العيد والزائر واليوم أشموني، فبادر بنا، ... تحثُّها في يومها الزاهر حبوت يحيى ثم أغفلتني ... أحلت عن جماشك الشاعر فوجه إليه وأحضره. ومر لهم يوم طيب. ولأبي الشبل البرجمي، فيه: شهدت مواطن اللذات طرا ... وجبت بقاعها بحراً وبرّا فلم أر مثل أشموني محلاً ... ألذّ لحاضريه ولا أسرّا به جيشان من خيل وسفن ... أناخا في ذراه واستقرا كأنهما زحوف وغىً ولكن ... إلى اللذات ماكرّا وفرا سلاحهما القواقز والقناني ... وأكواسٌ تدور هلمّ جرا وضربهما المثالث والمثاني ... إذا ما الضرب في الحرب استحرا وأسرهما ظباء الدّير طوعاً ... إذا أسد الحروب أسرن قسرا لقد جرّت لنا الهيجاء خيراً ... إذا ما جرت الهيجاء شرا وكان أبو الشبل هذا من الطياب، وله شعر مليح، وطبع رقيق. وكان منعكفاً على الشرب لا يفارقه ولا يوجد إلا سكران. وكان يتطرح في الديارات والحانات ومواطن اللهو، لا يغبها ولا يتأخر عنها. وكان بينه وبين محمود الوراق مودة، وكانا لا يفترقان. وذكر أبو الشبل، قال: صرت أنا ومحمود إلى قطربل، فدعونا الخمار، فقلنا: ايتنا ببنت عشر قد أنضجها الهجير. فجاءنا بها. فقلنا: اسقنا! فسقانا. فقلنا: اشرب واسقنا! فقال: أنا مسلم، وكان يهودياً قد أسلم. فقال لي محمود: قوم يكون الخمار عندهم مسلماً متحرجاً، وهم عند الخمار كفار، أترى لله فيهم حاجة؟.

دير سابر

قال: كان أبو الشبل يعابث خنساء قينة هشام الضرير النحوي، وكانت تقول الشعر؛ فعبث بها يوماً وأفرط، فغضبت وقالت: ليت شعري، بأي شيء تدل؟ أنا والله أشعر منك! ولئن شئت لأهجونك حتى أفضحك! فأقبل عليها، وقال: خنساء قد أفرطت علينا ... فليس منها لنا مجير تاهت بأشعارها علينا ... كأنما ناكها جرير فخجلت حتى بان ذلك عليها وانقطعت عن جوابه. ولأبي الشبل في جارية سوداء كان يهواها، فعوتب عليها، وكان مولعاً بالسودان: غدت بطول الملام عاذلةٌ ... تعذلني في السّواد والدّعج ويحك، كيف السلوّ عن غرر ... مقيّرات الوجوه كالسّبج يحملن بين الأفخاذ أسنمة ... تطير أوبارها من الوهج لا عذّب الله مؤمناً بهم ... غيري، ولا حان منهم فرجي فإنني بالسواد مبتهجٌ ... ولست بالبيض جد مبتهج وله في جارية كان يحبها اسمها تبر: لم تنصفي يا سمّية الذهب ... تتلف نفسي وأنت في لعب يا بنت عم المسك الذكي ومن ... لولاك يُجتب ولم يطب ناسبك المسك في السواد وفي الطي ... ب، فأكرم بذاك من نسب دير سابر وهذا الدير ببزوغى، وهي بين المزرفة والصالحية، في الجانب الغربي من دجلة. وهي عامرة، نزهة، كثيرة البساتين والفواكه والكروم والحانات والخمارين، معمورة بأهل التطرب والشرب، وهي موطن من مواطن الخلعاء. والدير حسن، عامر، لا يخلو من متنزه فيه ومتطرب إليه. وللحسين بن الضحاك، فيه: وعواتق باشرت بين حدائق ... ففضضتهنّ وقد حسن صحاحا أتبعت وخزة تلك وخزة هذه ... حتى شربت دماءهنّ جراحا أبرزتهن من الخدور حواسراً ... وتركت صون حريمهنّ مباحا في دير سابر والصباح يلوح لي ... فجمعت بدراً والصباح وراحا فاذهب بظنّك كيف شئت، فكله ... مما اقترفت تغطرساً وجماحا وكان الحسين بن الضحاك، من الأدباء الشعراء وأهل الخلاعة والمجون، وبالخليع يعرف. ونادم جماعة من خلفاء بني العباس، منهم: الأمين، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. فأما المأمون، فإنه لم يدخل إليه ولم يختلط به، وذاك أنه رثى الأمين، فقال فيه: هلا بقيت لسدّ فاقتنا ... فينا وكان لغيرك التلف قد كان فيك لمن مضى خلف ... فاليوم أعوز بعدك الخلف فلما ورد المأمون من خراسان إلى بغداد، أمر بأن تثبت له أسماء من يصلح لمنادمته من أهل الأدب، فأثبت له قوم ذكر فيهم الحسين بن الضحاك وكان من جلساء محمد المخلوع، فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم حسين فقال: أليس القائل في محمد: وكان لغيرك التلف؟ والله، لا حاجة لي فيه ولا رأى وجهي إلا على قارعة الطريق! فلم يحظ طول أيام المأمون بشيء! وكان وقت خدمته المتوكل، ضعف كبراً، فكتب إليه يستعفيه من الخدمة، فقال: أسلفت أسلافك فيما مضى ... من خدمتي إحدى وستينا كنت ابن عشرين وخمس فقد ... وفّيت بضعاً وثمانينا إني لمعروف بضعف القوى ... وإن تجلدت أحايينا وإن تحملت على كبرتي ... خدمة أبناء الثلاثينا هدت قواي ووهت أعظمي ... وصرت في العلّة عزّونا وخفت أن يعجل بي معجلٌ ... إلى التي تعيي المداوينا عزون هذا الذي ذكره، نديم كان للمعتصم، ثم نادم المتوكل. وذكر عزون هذا، قال: كمنا مع المعتصم في بعض متنزهاته. فاحتجنا أن نخوض نهراً، وكان معنا حسين بن الضحاك، فكاد أن يغرق. فقبض المعتصم على عضه، وحمله من السرج حتى عبر به النهر إشفاقاً عليه. وكان الحسين مستهتراً بالخدم جداً، ولم يقصر عن ذاك حتى مات. قال المتوكل: أنشدني حسين قوله: فلو شئت تيسرت ... كما سميت يا يسر ولا والله لا تبر ... ح أو ينصرم الأمر فأمّا المنع والذم ... وإما البذل والشكر فدعني من مواعيد ... ك إذ حيّنك الدهر فقل: أيهما كان ... فقال البذل والشكر

دير قوطا

قال أبو عبد الله بن حمدون: كنا عند المتوكل في يوم نوروز، والهدايا تعرض عليه، وفيها تماثيل من عنبر. وكان شفيع الخادم واقفاً، وعليه أقبية موردة ورداء مورد، وهو فيها من أحسن الناس وجهً. فجعل المتوكل يدفع إلى شفيع قطعةً قطعة من ذلك العنبر، ويقول: ادفعها إلى حسين، واغمز يده فيفعل ذلك. وكان آخر ما دفع إليه وردة حمراء حياه بها، فأنشأ يقول: وكالوردة البيضاء حيا بأحمر ... من الورد يسعى في غلائل كالورد له عبثات عند كل تحية ... بكفيه تستدعي الخليّ إلى الوجد تمنيت أن أُسقى بكفيه شربةً ... تذكرني ما قد نسيت من العهد سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلةً ... من الدهر إلا من حبيب على وعد فأمره المتوكل أن يسقيه، وقال: قد أعطيناك أمنيتك. وكان حسين ينادم صالح بن الرشيد، فشرب معه مرة في متنزه بباري، وهي من أعمال كلواذا. وكان له هناك بستان حسن جليل وسوره باق إلى الآن وآثاره. وقال يصف البستان وصبوحهم فيه، وهي من مليح شعره: أما ناجاك بالنظر الفصيح ... وإنّ إليك من قلب قريح؟ فليتك حين تهجره ضراراً ... مننت عليه بالقتل المريح بحسنك كان أول حسن ظني ... أما ينهاك حسنك عن قبيح؟ وما ينفكّ متّهماً لنصحي ... بنفسي نفس متهم نصيح أحبّ الفيء من نخلات باري ... وجوسقها المشيّد بالصفيح ويعجبني تناوح أيكتيها ... إليّ بريح حوذان وشيح ولن أنسى مصارع للسكارى ... ونادبة الحمام على الطلوح وكأس في يمين عقيد ملكٍ ... تزين صفاته غرر المديح صريح مدامة هويت صريحاً ... وهل تزري الصريحة بالصريح ألا يا عمرو، هل لك في الصبوح ... هلم إلى صفية كل روح فقام على تخاذل مقلتيه ... وسلسل بالسنيح وبالبريح وأتبع سكرةً سلفت بأُخرى ... وخلّى الصحو للّحز الشحيح وذكر عمرو بن بانة، قال: كنا عند صالح بن الرشيد في بستانه هذا، ومعنا الحسين بن الضحاك، وحولنا من النرجس أمر عظيم، وقد طلع القمر على الشجر والنور، ووقتنا من أحسن وقت رئي، وخادم لصالح كان يحبه يسقيه. فقال للحسين: قل في مجلسنا هذا شيئاً يتغنى به ابن بانة وأشار إلى الخادم، فقال: وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا وإذا ما تنفس النرجس الغ ... ض توهمته نسيم نشاكا خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا لأدومنّ ما حييت على الود ... لهذا وذاك إذ حكياكا قال عمرو: فغنيت فيه. ومر لنا أطيب وقت وأحسنه! قال الحسين بن الضحاك: كنت جالساً في داري يوم وشك، وقد أفطر المأمون، وأمر الناس بالافطار. فجاءتني رقعة الحسن بن رجاء، يقول فيها: هززتك للصبوح وقد نهاني ... أمير المؤمنين عن الصيام وعندي من بنات الكرخ عشر ... تطيب بها مصافحة المدام ومن أمثالهن إذا انتشينا ... نرانا نجتني ثمر الحرام فكنت أنت الجواب، فليس شيء ... أحب إلي من حذف الكلام فوردت علي رقعته، وقد أرسل إلي محمد بن الحرث بن بسخنر غلاماً له، نظيف الوجه كان يتحظاه، ومعه ثلاثة غلمان أقران حسان الوجوه، ورقعة منشورة قد ختم أسفلها مثل المناشير، فيها: سر على اسم الله يا أح ... سن من غصن لجين في ثلاث من بني الرو ... م إلى دار حسين أشخص الكهل إلى مو ... لاك يا قرّة عيني أره العنف إن استع ... صى وطالبه بدين ودع اللفظ وخاطب ... هـ بغمز الحاجبين واحذر الرجعة من وج ... هك في خفّي حنين فمضيت مع غلام بن الحرث، وتركت المضي إلى الحسن. دير قوطا

وهذا الدير بالبردان، على شاطىء دجلة. وبين البردان وبغداد بساتين متصلة ومتنزهات متتابعة. منها إلى بلشكر، ثم إلى المحمدية، ثم إلى الطولوني الصغير، ثم إلى الطولوني الكبير، ثم إلى البردان. كل ذلك بساتين وكروم وشجر ونخل. والبردان، من المواضع الحسنة، والبقاع النزهة والأماكن الموصوفة. وهي كثيرة الطراق والمتنزهين. وهذا الدير بها. وهو يجمع أحوالاً كثيرة، منها: عمارة البلد، وكثرة فواكهه، ووجود جميع ما يحتاج إليه فيه؛ ومنها أن الشراب هناك مبذول، والحانات كثيرة؛ ومنها أن في هذا الموضع ما يطلبه أهل البطالة والخلاعة من الوجوه الحسان، والبقاع الطيبة النزهة، فليس يكاد يخلو. ولعبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، فيه: يا دير قوطا، لقد هيجت لي طربا ... أزاح عن قلبي الأحزان والكربا كم ليلة فيك واصلت السرور بها ... لما وصلت لها الأدوار والنخبا في فتية بذلوا في القصف ما ملكوا ... وانفقوا في التصابي المال والنشبا وشادن ما رأت عيني له شبهاً ... في الناس، لا عجماً منهم ولا عرباً إذا بدا مقبلاً، ناديت: واطربا! ... وإن مضى معرضاً، ناديت: واحربا! أقمت بالدير حتى صار لي وطناً ... من أجله، ولبست المسح والصلبا وصار شماسه لي صاحباً وأخاً ... وصار قسيسه لي والداً وأبا ظبي، لواحظه في العاشقين ظبى ... فمن دنا منه مغتراً، بها ضربا إن سمته الوصل أبدى جفوة ونبا ... أو سمته العطف ولى معرضاً وأبى وإن شكوت إليه طول هجرته ... وما ألاقيه من إبعاده قطبا والله، لو سامني نفسي سمحت بها ... وما بخلت عليه بالذي طلبا وكان عبد الله هذا، من الأدباء الظرفاء، وكان صاحب غزل ومجون، كثير التطرح في الديارات والحانات، والاتباع لأهل اللهو والخلاعة! وله شعر مليح يغنى فيه ويتغنى هو أيضاً فيه وفي غيره. وقال له محمد بن عبد الملك الزيات يوماً: أنشدني من شعرك. قال: وما قدر شعري، أيها الوزير؟ قال: ألست الذي يقول: وشادن رام، إذ مرّ ... في الشعانين، قتلي يقول لي: كيف أصبح ... ت؟ كيف يصبح مثلي؟ من يقول هذا، يقول ما مقدار شعري؟ قال: وكان عبد الله تعشق عساليج، جارية عمته رقية، فقالت له بذل الكبيرة: أرني عساليج، فإما عذرتك وإما عذلتك! قال: فدعاها إلى منزله، وحضرت بذل، فابتدت عساليج، فغنت: أأن خنتم بالغيب عهدي فما لكم ... تدلون إدلال المقيم على العهد صلوا وافعلوا فعل المدلّ بوصله ... وإلا، فصدوا وافعلوا فعل ذي الصد فأتت فيه بكل شيء حسن. فقال لبذل: كيف ترين يا ستي؟ فقطعت عساليج الغناء، وقالت: يا عبد الله، تشاور فيّ؟ فوالله ما شاورت فيك حين وددتك! فنعرت بذل وقالت: ايه! أحسنت والله يا صبية! ولو لم تحسني شيئاً ولا كانت فيك خصلة تحمد، لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة؛ أحسنت والله؟ ثم قالت: أحسنت والله يا عبد الله، عذرتك! ومن شعر عبد الله: اسقني الراح، قد خلعت العذارا ... وتحملت فيك قالاً وقيلا اسقني طارد الهموم ولا تم ... زج منه الغداة إلا قليلا ومن شعره: يا حبذا يومي بالدالية ... نشربها قفصيّةً صافيه مع كل قرم متلفٍ ماله ... لم تبق في الدنيا له باقيه فخذ من الدنيا ولذاتها ... فإنما نحن بها عاريه قال: وكتب عبد الله إلى صديق له يدعوه: جعلت فداك، أنا وقلم، وأنت أعلم! وكان عبد الله يعشق جارية نصرانية ويهيم بها. فله فيها: فتنتنا صورة في بيعة ... فتن الله الذي صورّها زادها الناقش في تحسينها ... أنه إذ صاغها نصّرها وله فيه لحن. وكانت مصابيح، جارية الأحدب المقين، تغني بهذا الصوت، وتغني في كثير من شعره. وكانت أروى الناس له وأعرفهم بغنائه. وكانت موصوفة بالحسن والاحسان. وكان عبد الله يهواها. ومما غنت فيه من شعر عبد الله:

دير مرجرجس

ألا اصبحاني يوم الشعانين ... من قهوة عتقت بكركين عند أُناس قلبي بهم كلفٌ ... وإن تولوا ديناً سوى ديني ولعبد الله في مصابيح، وكان قال هذا الشعر وغنى فيه وهي حاضرة، فأخذته عنه، وغنت فيه أيضاً متيم الهشامية. إني عشقت عدوةً ... فسقى الاله عدوتي وفديتها بأقاربي ... وبأسرتي وبجيرتي جدلت كجدل الخيزرا ... ن وثنيّت فتثنّت واستيقنت أن الفؤا ... د يحبها فأدلّت قال: وغاضب مصابيح عبد الله بن العباس في شيء بلغها عنه. فرام أن يترضاها، فأبت. فكتب إليها رقعة، يحلف فيها أنه ما أتى شيئاً مما أنكرته، ويدعو على من ظلم. فلم تجبه عن شيء مما كتبه، ووقعت تحت الدعاء: على الظالم. آمين ولم تزد على ذلك. فكتب إليها: أما سروري بالجوا ... ب فليس يفنى ما بقينا وأسرُّ حرف فيه لي ... آمين ربّ العالمينا ومن شعره: ذهبٌ في ذهب را ... ح به غصن لجين فأتت قرة عين ... بيدي قرّة عين قمر يحمل شمساً ... مرحباً بالنّييرين الفا سكرين الفي ... ن معاً مؤتلفين لا جرى بيني ولا بي ... نهما طائر بين بل غنينا ما بقينا ... أبداً معتنقين في صبوح وغبوق ... لم نبع نقداً بدين دير مرجرجس هذا الدير بالمزرفة. وهو أحد الديارات والمواضع المقصودة. والمتنزهون من أهل بغداد يخرجون إليه دائماً في السميريات، لقربه وطيبه. وهو على شاطىء دجلة. والعروب بين يديه، والبساتين محدقة به، والحانات مجاورة له. وكل ما يحتاج إليه المتنزهون فحاضر فيه. والمزرفة، من أحسن البلاد عمارة، وأطيبها بقعة، وبها من البساتين ما ليس ببلد من البلدان. ولأبي جفنة القرشي فيه، وكان من الخلعاء ومدمني الشرب والمتطرحين في الديارات والحانات. ولم يكن يخلو من غلمان مرد، بعضهم يخدمه، وبعضهم يغنيه: ترنم الطير بعد عجمته ... وانحسر البرد في أزمّته وأقبل الورد والبهار إلى ... زمان قصف يمشي برمته ما أطيب الوصل إن نجوت فما ... يلسعني هجره بحمّته ومثل لون النجيع صافية ... تذهب بالمرء فوق همته نازعتها من سداؤه أبداً ... في العشق والفسق مثل لحمته في دير مرجرجس وقد نفح ال ... فجر علينا أرواح زهرته أريد منه وليس يمنعني ... من ذلك الشيء غير حشمته وفي بميعاده وزورته ... وكنت أوفى له بذمته ومن مليح شعره: ومعرّس طلب الصبوح وإنني ... لفتىً يوافقني الصبوح بكورا وقرعت صافيةً بماء سحابة ... فنتجن حين قرعتهن سرورا فشربت ثم سقيته فكأنما ... سبسبت فوق لهاته كافورا وفتىً يدير عليك في طرباته ... خمراً تولّد في العظام فتورا وإذا رشفت شفتيك رضابها ... كتب العقار بحسن وجهك نورا ما زلت أشربها وأسقي صاحبي ... حتى رأيت لسانه مكسورا مما تخيّرت التجار ببابل ... أو ما تعتّقه اليهود بسورا وله: ومزورّ وجهٍ لم ير الناس مثله ... أدرت عليه الكأس لما تغضّبا يؤاخذني إن رمت في الخد قبلة ... ويعرض عني كلما قلت: مرحبا ولولا الذي يرتجّ تحت إزاره ... لألسعته مني، إذ صد، عقربا أدرت عليه قهوة بابليةً ... تريك حميّاها على الكاس كوكبا إذا شجّها الساقي بماء تدرّعت ... على المزج سربالاً من الدرّ مذهبا وللنميري، فيه: نزلت بمرماجرجس خير منزل ... ذكرت به أيّام لهو مضين لي تكنّفنا فيه السرور وحفنا ... فمن أسفل يأتي السرور ومن عل

وسالمت الأيام فيه وساعفت ... وصارت صروف الحادثات بمعزل يدير علينا الكأس ظبيٌ مقرطق ... يحثّ بها كأساتها ليس يأتلي فيا عيش ما أصفى، ويا لهو دم لنا، ... ويا وافد اللذّات حيّيت فانزل وهو أبو الطيب، محمد بن القاسم النميري. وكان من أهل الأدب والفضل، مليح الشعر، رقيق الطبع. وكانت له حال ونعمة. وكان يكثر الشرب في الديارات والحانات، ويلذ له ذلك. وكان عبد الله بن المعتز، يأنس به ولا يفارقه، وكانت تجري بينهما مكاتبات ومناقضات في الشعر ومداعبات طيبة. ونحن نذكر منها: قال عبد الله بن المعتز: كتب إلي النميري يوماً، وقد دعوته: رأيتك تدعوني إلى الشرب معتماً ... وتقطع عني الشرب والليل ممتع فأما شربت الراح ليلك كلّه ... وإما شربت الراح والشمس تلمع فأيهما آثرت وفيت حقّه ... وذاك الذي تهواه شرب مخلع قال: وكتبت إليه في يوم عيد، ولم يكن جاءني ذلك اليوم: بأبي، هلا حلا بعينك شيء ... هو أسلاك، يا خليلي، بعدي طعم كأسي مرٌّ، إذا لم تزرني ... وهو حلوٌ، إذا رأيتك عندي فكتب إلي: سيدي أنت لم تردني فماذا ... حيلتي إذ بليت منك بصدّ يعلم الله ما أُقاسيه من شو ... قي ومن حسرتي وغمي ببعدي قال عبد الله، وكتبت إليه مرة أدعوه، فكتب إلي: عندي قوم، ولعلي أتخلص منهم. وعلق الوعد. فكتبت إليه: يا من يسوّف وعدي ... لو شئت جئت بمرّه فاسقط علينا سقوطاً ... ولا ترفرف لغدره فإن ضبطت بساقي ... ك بعد هذي المرّه لأحبسنّك عندي ... على أذىً ومضره قال عبد الله: وكتب إلي النميري في آخر شعبان: يا أبا العباس، قد ش ... مّر شعبان إزاره ومضى يسعى فما يل ... حق إنسان غباره فاغد نشرب صفوة الدّ ... نّ ونسلبه وقاره وإذا ما ذكر العق ... ل شربنا يا دكاره قال: وكتب إلي، وقد تأخر اجتماعنا: بكم الموت في الجماعة خيرٌ ... من حياةٍ في وحشة وانفراد عرّفوني اجتماعهم يومهم ذا ... واستبدّوا عليّ في الميعاد والحريري رأسهم وبحسبي ... بالحريري رأس كلّ فساد إن رأى قينةً تحرك للعش ... ق وأرخى جناحه للسفاد وتصدى لها وحرّك عطفي ... هـ وراقت لشهوة الأولاد فاعتذرت إليه، وسألته المصير إلينا، فجاءنا. قال عبد الله: وكتب إلي: إذا غبت لم أُطلب، وإن جئت لم أصل ... وللعتب أولى بي ولست بعاتب سأصبر للشوق المبرّح كارها ... وأرقب يوماً صالحاً في العواقب وما كل من صاحبته مثل قاسم ... فقسه وفكّر في سبيل الذواهب قال وكتب إلي في يوم خميس صمته: أبا العباس يا خير الأنام ... تصوم، وليس ذا يوم الصيام فهل لك في مدام أخ ظريف ... يساعد في الحلال وفي الحرام؟ قال: كتب إلي النميري، يستبطىء رسولي ويعتذر من تأخره عني ويذكر أنه اشتغل بعمارة بستانه. فأجبته: أما ما ذكرت من تأخر رسولي عنك للسؤال عن خبرك في هذه الأيام والتفقد لك، فإني رأيتك قلبت قول القائل: خذ اللص من قبل أن يأخذك! وإلا، فما قصرت في السؤال عنك والبعثة إليك. ولكن ما أقول لمن نكس عليله فلم يعده؟ واشتاق إليه فم يزره؟ مشتغلاً بطروق الحانات والديارات، وركوب الزلالات، ومغازلة القيان، ومعاقرة ابنة الدنان، جامعاً بين طرفي نهاره بغبوق لا يهدأ سامره، وصبوح لا يفتر باكره، في عسكري لهو: واحد يخبط الماء بمجاذيفه، وآخر يقرع الأرض بخببه ووجيفه. وسألت عن خبري في هذه الأمطار، فما عسيت أن أقول في المنة الواجب لله تعالى الشكر عليها، إذ تخطتنا بعد أن سلت سيفها وخفنا حيفها. قال عبد الله: وكتب إلي النميري: أميرٌ كنت أرجوه لدهري ... إذا ما ناب بالخطب الجليل

مرضت، فلم يعدني من سقامي ... وتاه عن العيادة والرسول وما بي حاجة تدعو إلى ما ... أذلّ به لذي النبل المنيل ولا لمتوّج بالملك يزهى ... إذا ما كنت أقنع بالقليل فكتبت إليه رقعة، في أخرها: في كل يوم طاعة وعصيان ... ومللٌ وملقٌ وهجران خلائق كأنهمّ غيلان قال: ودعوته ليوم أسميته، فتأخر رسولي عنه، فكتب إلي: دعوتنا وبدا لك ... نك في استه من وفى لك قال: وكتب إلي النميري: برّح بي الشوق إلى الشرب ... مع سيّد يهرب من قربي ولم أكن أعهده جافياً ... فصار يجفوني بلا ذنب والله، ما أعرف لي عنده ... ذنباً، سوى الافراط في الحب وأنني ما سؤته ساعةً ... في حاضر الجدّ ولا اللعب فكتب إليه: يا أيها الجافي ويستجفى ... ليس تجنّيك من الظرف إنك والشوق إلينا كمن ... يُؤمن بالله على حرف محوت آثارك من ودّنا ... غير أساطيرك في الصّحف وإن تجشمت لنا زورةً ... يوماً، تحاملت على ضعف قال، وكتب إلي: أتيتك مسروراً فطاب لي الشّرب ... ونالت مناها عندك العين والقلب فجارت عليّ الكأس حتى هجرتها ... ثلاثة أيام كما استوجب الذّنب فكتبت إليه: علام هجرت الكأس إذ جار حكمها ... ولا لهو إلا أن تكون، فما الذنب أدام لك الله السرور ودام لي ... بك العيش والنّعماء واتصل القرب قال عبدا لله: بعثت إلي النميري يوم جمعة رسولاً، وقلت له: إركب معنا إلى الصلاة، فوجده الرسول قد اصطبح. فقال له: قل له: أنا أصلي مذ صلاة الغداة. فكتبت إليه: يا من يصلي صلاةً ... فيها لابليس طاعه إن كنت تقبل شكري ... فالشكر في ذا رقاعه! قال: وكتبت إليه وقد اعتللت، فلم يعدني: الحمد لله حتى أنت تجفوني ... بعد الصفاء جفاء ليس بالدّون قد كنت منتظراً هذا فجئت به ... وليس خلقٌ على غدر بمأمون فكتب يعتذر بشغل له واعتلال مركبه. فكتبت إليه: لا تعتذر! قد عرفنا ... ك سوف تفعل فعلك ذكرت شغلاً، فهلاّ ... جعلتني بعض شغلك؟ أو لم يكن لك عيرٌ ... فكت تركب نعلك قال: فكتب إلي: إن كنت أذنبت ذنباً ... فقد وثقت بفضلك وقد أتيتك مشياً ... كما قضيت بعدلك وجاءني ماشياً. قال النميري: كان عبد الله بن المعتز، يعيب العشق كثيراً، إلى أن صار يقول: هو طرف من الحمق، وإذا رأى منا مطرقاً أو مفكراً، اتهمه بهذا المعنى ويقول: وقعت يا فلان، وقل عقلك وسخفت! إلى أن رأيناه قد حدث به سهو شديد وفكر دائم، إلى أن كانت تبدر منه الأبيات في معنى العشق. فمرة يقول: أسر الحبّ أميرا ... لم يكن قبل أسيرا فارحموا ذلّ عزيزٍ ... صار عبداً مستجيرا ومرة يقول: عقل المحبّ ساهي ... في قلبه الدواهي فقلت: جعلني الله فداك! هذه أشياء قد كنت تعيب أمثالها منا، ونحن ننكرها الآن منك! فيرجع تصنعاً، ثم لا يلبث أن تبدر منه بادرة. فقال مرة: مكتوم يا أحسن خلق الله ... لا تتركيني هكذا بالله ثم تنفس، فقلت: قد ظفر العشق بعبد الله ... وانهتك الستر بحمد الله فقل له: سمّ لنا، بالله، ... هذا الذي تهوى، بحق الله! فضحك وقال: لا، ولا كرامة، فكتبت إليه من غد: بكت عينه وشكا حرقةً ... من الوجد في القلب ما تنطفي فقلت له: سيدي، ما الذي ... أرى بك؟ قال: سقامٌ خفي فقلت: أعشقٌ؟ فقال: اقتصر ... على ما تراه، أما تكتفي؟ فكتب إلي: يا من يحدّث عنّي ... بظنّ سمع وعين إن كنت تخطب سري ... فارجع بخفّي حُنين فكتبت إليه: هيهات حظّك واللّ ... هـ أن تبوح بعشقك

دير باشهرا

دع عنك خُفي حنينٍ ... واحرص على حلّ ريقك تعال نحتال فيما ... تهوى برفقي ورفقك ثم صرت إليه. فأخبرني بقصته، فسعيت له بلطف الحيلة، وأعانني بحزم الرأي، إلى أن فاز بالظفر وأدرك البغية. دير باشهرا وهذا الدير على شاطىء دجلة، بين سامراء وبغداد. وهو دير حسن، عامر، نزه، كثير البساتين والكروم. وهو أحد المواضع المقصودة والديارات المشهورة. والمنحدرون من سر من رأى، والمصعدون إليها، ينزلونه. فمن جعله طريقاً، بات فيه وأقام به إن طاب له. ومن قصده، أقام الأيام في ألذ عيش وأطيبه، وأحسن مكان وأنزهه! ولأبي العيناء فيه، وكان نزله وأقام به أياماً، واستطابه، وقال فيه: نزلنا دير باشهرا ... على قسيسه، ظُهرا على دين أيسوع ... فما أفتى وما أسرا فأولى من جميل الفع ... ل ما يستعبد الحرا وسقّانا وروانا ... من الصافية العذرا وطاب الوقت في الدير ... فرابطنا به عشرا وسُقّينا به الشمس ... وأُخدمنا به البدرا وأحيت لذّة الكأس ... ولكن قتّلت سكرا ونلنا كل ما نهوا ... هـ من لذاتنا، جهرا تصابينا، وغنّينا، ... وأرغمنا به الدهرا فنكنا، وتهتكنا، ... ومثلي هتك السترا وقد ساعدنا ربّن ... طوعاً منه، لا جبرا جزاه الله عن خير ... به قابلنا خيرا فقد أوسعته شكرا ... كما أوسعنا برا وكان أبو العيناء من الطياب. وكان المتوكل يعجب بكلامه وسرعة جوابه ونوادره. وعمي على رأس أربعين سنة من عمره. ومما يدل على ذلك، قول أبي علي البصير، فيه: قد كنت خفت يد الزما ... ن عليك إذ ذهب البصر لم أدر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر وكان حسن الشعر، جيد العارضة، مليح الكتابة والترسل، خبيث اللسان في سب الناس والتعريض بهم. ونحن نذكر طرفاً من أخباره، بمقدار لا يخرج إلى الاطالة، ولا يخل بالشرط. قال المتوكل لأبي العيناء: ما أشد شيء مر عليك في ذهاب بصرك؟ قال: فوات رؤيتك يا أمير المؤمنين، مع إجماع الناس على جمالك. وقال له يوماً: يا محمد، إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ قال: ما أساءوا وأحسنوا. وقال له عبيد الله بن سليمان: قد أمرنا لك بشيء في هذا الوقت، فخذه واعذر. قال: لا أفعل، أيها الوزير! إذا كنت في النكبة تعتذر، وفي الدولة تعتذر، فتى لا تعتذر؟ وسأل صاعد بن مخلد كتاباً يكبه إلى مصر. فجعل يقول: إلى مصر يا أبا العيناء إلى مصر؟ فقال: وما استبعادك، أعزك الله، لي مصر؟ والله! لما في صناديقك أبعد علي مما في مصر! وخل إلى أبي الصقر، فقرب مجلسه وأدناه، فقال: أيها الوزير! تقريب الولي وحرمان العدو! ودخل عليه يوماً، فقال: ما أخرك عنا، أبا عبد الله؟ قال: سرق حماري! قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص، فأعرف كيف سرقه! ثم جاءه بعد مدة، فقال: ما أخرك عنا أبا عبد الله؟ فقال: من العواري وذلة المكاري. فأمر له بخمسين ديناراً. قال: دخل أبو العيناء يوماً إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فلم يرفع طرفه إليه، ولا كلمه! فقال: إن من حق نعمة الله عليك، لما أهلك له في الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك خلقاً، فإن من أوحش انقبض عن المسئلة، وبكثرة السؤال مع النجح يدوم السرور، وبقضاء الحاجات تدوم النعم. فقال له محمد: إني أعرفك فضولياً كثير الكلام. ترى، إن طول لسانك يمنع من تأديبك إذ زللت؟ وأمر به إلى الحبس! فكتب إليه أبو العيناء من الحبس: قد علمت أن الحبس لم يكن لذنب تقدم إليك، ولكن أحببت أن تريني قدرتك علي، لأن كل جديد يستلذ. ولا بأس أن ترينا من عفوك ما أريتنا من قدرتك! فأمر بإطلاقه. فلقيه بعد مدة طويلة على الطريق، فحبس محمد دابته وقال: ما أراك أبا عبد الله تواصلنا بحسب انجائنا لك! فقال أبو العيناء: أما المعرفة بعنايتك فمتأكدة، ولكنني أحسب الذي جدد استبطاءك لي فراغ حبسك ممن فيه، فأردت أن تعمره بي!

قال: ودخل يوماً على رجل قد عزل عن عمل كان يتولاه. فقال: لئن قبحت عليك النعمة، لقد حسنت بك النقمة! قال: ولم ذاك؟ قال: لأني سألتك أحقر من قدرك، فرددتني بأقبح من وجهك، ثم قال: قُل لزيد بن صاعدٍ ... جاءك العزل في لطف فاجرع الهمّ واصطبر ... فعلى ربّك الخلف أنت أيضاً إذا ولي ... ت فلا تُكثر الصلف قال: اجتاز ابن بدر بأبي العيناء وهو على بابه جالس. فقال: هذا منزلك أبا عبد الله؟ قال: نعم! فإن شئت أن ترى سوء أثرك فيه، فانزل! قال: ومر بدار عبد الله بن منصور يوماً وهو مريض وقد صح، فقال لغلامه: أي شيء خبر أبي محمد؟ قال: كما تحب! قال: فما لي لا أسمع الصراخ في الدار؟ قال: وذكر أبو العيناء ميمون بن إبراهيم، فقال: لو تأمل رجل أفعاله فاجتنبها، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها! قال أبو العيناء: قال لي محمد بن مكرم: أما تعرفني؟ قلت: بلى، ولكن معرفة أرثي لك منها! وقال له محمد بن مكرم يوماً: يا أبا عبد الله، كل شيء لك من الناس حتى أولادك! وقال أبو العيناء: رأيت ابن مكرم، فرأيت بطنه بطن حبلى، ونفسه نفس ولهى، ومخاطه مخاط ثكلى، وفي استه الداهية العظمى! وقال له ابن مكرم يوماً: يا أبا عبد الله، هو ذا تصوم معنا في هذا الشهر شيئاً، وكان شهر رمضان. فقال: وتدعنا العجوز نصوم؟ قال رجل لعبيد الله بن سليمن: إن رأيت، أعزك الله، أن تخرج لي رزقاً. فقال: ممن الرجل ليخرج الرزق على قدر ذاك. قال من ولد آدم! قال أبو العيناء: احتفظ، أعزك الله، بهذا النسب، فقد انقطع أصله! قال: اجتمع الجاحظ وأبو العيناء عند الحسن بن وهب، فقال له الجاحظ: علمت أن محمد بن عبد الله أحسن من عمرو بن بحر، وأبو عبد الله أحسن من أبي عثمان. ولكن الجاحظ أحسن من أبي العيناء. فقال أبو العيناء: هيهات! جئت إلى ما يخفى من أمورنا، ففضلتني عليك فيه، وإلى ما يعرف، ففضلت نفسك فيه. إن أبا العيناء يدل على كنية، والجاحظ يدل على عاهة! والكنية وإن سمجت، أصلح من العاهة وإن فلحت! قال أبو العيناء: عشقتني امرأة بالبصرة من غير أن تراني، وإنما كانت تسمع عذوبة كلامي. فلما رأتني استقبحتني، وقالت قبحه الله، أهذا هو؟ فكتبت إليها: ونبّئتها، لما رأتني، تنكّرت ... وقالت: دميمٌ، أحولٌ، ما له جسم فإن تنكري مني احولالاً فإنني ... أديب، أريب، لا عييٌّ ولا فدم فوقعت في الرقعة: يا عاض بظر أمه، لديوان الرسائل أردتك؟ ولأبي العيناء، في علي بن الجهم: أراد عليٌّ أن يقول قصيدة ... بمدح أمير المؤمنين، فأذّنا فقلت له: لا تعجلن بإقامة ... فلست على طهرٍ، فقال: ولا أنا قال أبو العيناء: أتيت عبد الله بن داود الخريبي، فسألته أن يحدثني، فاستصغرني، وقال: إذهب فتحفظ القرآن. قلت: قد حفظته. قال: إقرأ من رأس ستين من يونس، فقرأت العشر. فقال: أحسنت، إذهب فتعلم الفرائض. قلت: قد حفظتها. قال: فأيهما أقرب إليك: عمك أو ابن أخيك؟ قلت: ابن أخي. قال ولم ذاك؟ قلت: لأن هذا من ولد أبي وهذا من ولد جدي. قال: أحسنت. إذهب فتعلم العربية. قلت: قد فعلت وتعلمت منها ما فيه كفاية. قال: فلم قال عمر بن الخطاب، يعني حين طعن: يا لله، يا للمسلمين. قلت: لن الأول استغاثة، والثاني نداء. فقال: لو كنت محدثاً أحداً في سنك، لحدثتك!

قال أبو العيناء: دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان يوماً صائفاً، وقوم بين يديه يلعبون بالشطرنج. فقال: يا أبا عبد الله، إنا نلعب في ندب إلى أن يدرك طعامنا، ففي أي الحزبين تحب أن تكون؟ قلت: في حزب الأمير، أيده الله، فإنه أعلى وأبهى. فغلبنا! فقال أبو أحمد: يا أبا عبد الله، قد غلبنا! وقد أصابك بقسطك عشرون رطلاً ثلجاً. أحضره أيها الأمير. ووثبت، فصرت إلى أبي العباس بن ثوابة، فأقرأته السلام من أبي أحمد، وقلت له: إنه يتشوقك، وأراد أن يكتب إليك رقعة، فخاف مراوغتنك، فوجهني رسولاً، وحملني رسالة، ولسنا نفترق إلا بحضرته! فركب معي، وجئنا. فلما وقفت بين يديه، قلت: أيها الأمير، قد جئتك بجبل همذان ثلجاً، فاقتض منه ما قمرنا، والعب مع أصحابك في الباقي! فضحك حتى استلقى! وسأل ابن ثوابة عن القصة، فعرف الخبر، فلما وقف عليها، شتمني وانصرف! قال أبو العيناء: دخلت على المتوكل، ودعوت له، وكلمته. فاستحسن خطابي، وقال لي: بلغني أن فيك شراً! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله جل وعز، وذم. فقال في التزكية: نعم العبد إنه أواب. وقال في الذم: هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. فذمه، تعالى اسمه. وقد قال الشاعر: إذا أنا بالمعروف لم أثن دائباً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمّما ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع النبي والذمي بطبع لا يميز فقد صان الله عبدك عن ذلك. فقال لي: وبلغني أنك رافضي. فقلت: يا أمير المؤمنين، وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشأي في مسجد جامعها، واستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة. وليس يخلو الناس من إرادة دين أو دنيا. فإن أرادوا ديناً، فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وتأخير من قدموا. وإن أرادوا دنيا، فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك. أبوك مستنزل العيث، وفي يديك خزائن الأرض، وأنا مولاك. فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك فيك! فقلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرق ذاك بين الامام والمأموم والتابع والمتبوع، إنما ذاك حامل درة ومعلم صبية وآخذ على كتاب الله أجرة. فقال: لا تفعل لأنه مؤدب المؤيد. فقلت يا أمير المؤمنين، إنه لم يؤدبه حسبة وإنما أدبه بأجرة، فإذا أعطيته حقه قضيت ذمامه. فقام ابن سعدان فقال: يا أبا العيناء، لا، والله ما صدق أمير المؤمنين في شيء مما حكاه عني! ثم أقبل على المتوكل فقال: أي شيء أسهل عليك، يا أمير المؤمنين، من أن ينقضي مجلسك على ما تحب، ثم يخرج هذا فيقطعني! قال: فضحك المتوكل. فقال: كيف داري هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدنيا، وأنت جعلت الدنيا في دارك! فقال لي: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ فقلت: العبد لله ولك، منقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح رعيتك على كل لذة. فقال: ما تقول في صاحب البريد ميمون بن إبراهيم؟ وكان عرف أني وجدت عليه في تقصير وقع بي منه، فقلت: يا أمير المؤمنين: يد تسرق، واست تضرط! هو مثل يهودي قد سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى؛ ومعه إحجام لما بقى. إساءته طبيعة، وإحسانه تكلف! فقال: إني أريدك لمجالستي. فقلت: لا أطيق ذاك، ولا أقوى عليه. وما أقول هذا جهلاً بما لي في هذا المجلس من الشرف؛ ولكني رجل حجوب، والمحجوب تختلف إشارته ويخفى عليه إيماؤك، ويجوز علي أن أتكلم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان. ومتى لم أميز بين هذين، هلكت فأختار العافية على التعرض للبلاء. قال: صدقت! ولكن تلزمنا. قلت: لزوم الفرض الواجب. فوصلني بعشرة آلاف درهم. وقال لي يوماً، وقد دخلت إليه: يا محمد، ما بقي في المجلس أحد إلا اغتابك غيري، فقلت: إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها وهو أبو عبد الله، محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان. وأصله من اليمامة من بني حنيفة أنفسهم. وكان مسكنه بالبصرة. ثم انتقل إلى بغداد، وانتجع سر من رأى، ولقي الموكل، وأقام بها

دير الخوات

وكان حسن الكتابة، بليغ الخطابة، مليح الشعر، طلق اللسان بالذم والاستبطاء، سريع الجواب، حاضر النادرة، لا يقام له. وقال المتوكل: اشتهى أنادم أبا العيناء لولا أنه ضرير! فبلغ ذلك أبا العيناء، فقال: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة،! ونظم اللآلىء واليواقيت، وقراءة نقوش الخواتيم، فإني أصلح له. وحجب محمد بن مكرم أبا العيناء، ثم كتب يعتذر منه. فكتب إليه أبو العيناء: تحجبني مشافهة وتعتذر إلي مكاتبة! وأخباره كثيرة، ولكنا أوردنا بمقدار ما يحتمله الكتاب، ويقتضيه الشرط، ولا يخرج قارئه إلى الملل. وكتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: عندي سكباج ترعب المجنون، وحديث يطرب المحزون، وإخوانك المحازون؟ فلا تعلو علي واتون. فأجابه أبو العيناء: اخسئوا فيها ولا تكلمون. دير الخوات هذا الدير بعكبرا. وهو دير كبير عامر، يسكنه نساء مترهبات متبتلات فيه. وهو وسط البساتين والكروم، حسن الموقع، نزه الموضع. وعيده الأحد الأول من الصوم. يجتمع إليه كل من يقرب منه من النصارى والمسلمين، فيعيد هؤلاء، ويتنزه هؤلاء. وفي هذا العيد ليلة الماشوش، وهي ليلة تختلط فيها النساء بالرجال، فلا يرد أحد يده عن شيء، ولا يرد أحد أحداً عن شي. وهو من معادن الشراب، ومنازل القصف، ومواطن اللهو. وللناجم أبي عثمان، فيه: آح قلبي من الصّبابة آح ... من جوارٍ مزيّنات ملاح وفتاة كأنها غصن بان ... ذات وجه كمثل نور الصّباح أهل دير الخوات بالله ربي ... هل على عاشق قضى من جناح وكان أبو عثمان هذا، راوية ابن الرومي. وهو مليح الشعر، رفقي الطبع، جيد المعاني في وصف الخمر والأغاني والغزل. ومن مليح شعره: أدر يا سلامة كأس العقار ... وضاه بشدوك شدو القماري وخذها معتّقةً مُزّة ... تصبّ على الليل ثوب النهار ينازعها الخدّ جريالها ... فيهديه للعين يوم الخمار ومن مليح شعره: سلامة بن سعيدٍ ... يجيد حثّ الرّاح إذا تغنّى زمرنا ... عليه بالأقداح وله: ما نطقت عاتبٌ ومزهرها ... إلا وهمنا باللهو والفرح لها غناء كالبرء في جسدٍ ... أضناه طول السقام والترح تعبده الراح فهي ما نطقت ... إبريقنا ساجد على القدح وله: ما نطقت عاتبٌ ومزهرها ... إلاّ ظللنا بالرّاح نعملها تطلب أوتارهما الهموم بأو ... تار فما تستفيق تقتلها وله، وفيه لحن: ما دعاني الشّوق إلا ... أذرت العين دموعا إنما أبكي لأني ... صرت للحبّ رضيعا أحسن الناس وأولى الن ... اس بالحسن جميعا ما أرى لي عن حبيبي ... أبد الدّهر نزوعا دير العلث والعلث، قرية على شاطىء دجلة، في الجانب الشرقي منها، وبين يديها من دجلة موضع صعب، ضيق المجاز، كبير الحجارة، شديد الجرية، تجتاز فيه السفن بمشقة. وهذه المواضع تسمى الأبواب. وإذا وافت السفن إلى العلث، أرست بها، فلا يتهيأ لها الجواز إلا بهادٍ من أهلها يكترونه، فيمسك السكان ويتخلل بهم تلك المواضع، فلا يحطها حتى يتخلص منها. وهذا الدير راكب دجلة. وهو من أحسن الديارات موقعاً وأنزهها موضعاً، يقصد من كل بلد، ويطرقه كل أحد. ولا يكاد يخلو من منحدر ومصعد. ومن دخله لم يتجاوزه إلى غيره لطيبه ونزهته ووجود جميع ما يحتاج إليه بالعلث وبه. ولجحظة، فيه: أيها المالحان بالله جُدّا ... واصلحا لي الشراع والسكانا بلّغاني، هديتما، البردانا ... وانزلا بي من الدنان دنانا واعدلا بي إلى القبيصة فالزهر ... اء، علّي أفرّج الأحزانا وإذا ما أقمت حولاً تماماً ... فاقصدا بي إلى كروم أوانا وانزلا بي إلى شرابٍ عتيق ... عتّقته يهوده أزمانا واحططا لي الشراع بالدير بالعل ... ث، لعلي أعاشر الرهبانا

وظباء يتلون سفراً من الان ... جيل، باكرن، سحرة قربانا لابسات من المسوح ثياباً ... جعل الله تحتها أغصانا خفرات حتى إذا دارت الكأ ... س، كشفن النّحور والصلبانا رقّ حتى حسبته خدّ من أب ... دلني من وصاله هجرانا وللمعتمد: يا طول ليلي بفم الصّلح ... أتبعت خسراني بالربح لهفي على دهر لنا قد مضى ... بالقصر والقاطول والشلح بالدير بالعلث ورهبانه ... بين الشعانين إلى الدّنح وكان للمعتمد شعر جيد وشعر غير موزون، وربما قال الأبيات، فيصح بعضها ويفسد باقيها. وكان يعطيه المغنين، فيعملون عليه ألحانا، فيغيب عيبه في التقطيع والألحان، إلا على خاصة الناس. قالت بدعة: كان المعتمد يوجه شعره إلى عريب لتصوغ له الألحان. فكانت تقول: ويلي! كم أغني في حروف ألف، با، تا، ثا؟ قال الصولي: أنشدني عبد الله بن المعتز من شعره الموزون: الحمد لله ربي ... ملكت مالك قلبي فصرت مولى لملكي ... وصار مولىً لحبي ومن شعره، لما أكثر الموفق نقله، من مكان إلى مكان: ألفت التباعد والغربه ... ففي كل يوم أطا تربه وفي كلّ يوم أرى حادثاً ... يؤدي إلى كبدي كربه أمرّ الزمان لنا طعمه ... فما إن نرى ساعةً عذبه وهذا شعر جيد صحيح في معناه. ومن شعره الموزون: بُليت بشادن كالبدر حسناً ... يعذّبني بأنواع الجفاء ولي عينان دمعهما غزيرٌ ... ونومهما أقلّ من الوفاء وذكر الصولي، إن المكتفي أخرج إليهم مدارج مكتوبة بالذهب من شعر المعتمد. فكان فيها من الموزون: طال والله عذابي ... واهتمامي واكتئابي بغزال من بني الأص ... فر لا يعنيه ما بي أنا مغرىً بهواه ... وهو مغرىً باجتنابي وإذا ما قلت: صلني ... كان لا منه جوابي وكان فيها أيضاً: عجّل الحبّ بفرقه ... فبقلبي منه حرقه مالكٌ بالحبّ رقي ... وأنا ملك رقّه إنما يستروح الصبّ ... إذا أظهر عشقه وللمعتمد، شعر غنت فيه شارية، في طريقة الرمل: تأنّيت بالحب دهراً طويلاً ... فلم أر في الحب يوماً سرورا ومما غنت فيه من شعره: يا نفس، ويحك ما لك ... أني لأُنكر حالك وله: أصبحت لا أملك دفعاً لما ... أُسام من خسفٍ ومن ذلّه تمضي أُمور الناس دوني ولا ... يشعر بي في ذكرها قلّه إذا اشتهيت الشيء ولّوا به ... عني، وقالوا: ها هنا علّه قال: طلب المعتمد ثلثمائة دينار، يصل بها عريباً، وقد حضرت عنده، فلم توجد! فطلب مائتي دينار، فلم توجد..! فبكى، وقال أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قلّ ممتنعاً عليه؟ وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيءٌ في يديه! إليه تُحمل الأموال طُراً ... ويمنع بعض ما يجبى إليه! وكان، لما فوض الأمور إلى أخيه أبي أحمد، واستروح إلى كفايته للقيام بها، وتفريغه للهو والشرب واللعب، وترك النظر في شيء من أمر المملكة أو المسئلة عنه، طمع أبو أحمد، واستبد بالأمر، وغلب على المملكة. ورام المعتمد بعد ذلك تغيير الحال، فعزه وأعوزه وامتنع عليه وطمع الناس جميعاً فيه، إذ رأوه مغلوباً على أمره، ورأوا لا ضر ولا نفع في يده.

وذكر إسحق بن روح، أن مفلحاً وجهه إلى المعتمد، وقال: قل له: قد سمعت هزاراً جارية أمير المؤمنين، فأعجبتني وأحببت أن أملكها؛ ورأيت بدراً الجلنار فأعجبني، فأحببت أن أملكه. فليوجه بهما أمير المؤمنين إلي. فأديت الرسالة إلى المعتمد بعد أن استأذنته فيها. فلما سمعها غضب وخرق ثيابه وقال: هكذا يفعل العبيد بالموالي، يغصبونهم على حرمهم وغلمانهم؟ وتكلم بأشياء عظيمة، فخرجنا، فردنا وقد سكن، ثم قال: مثل أبي صالح لا يرد عن طلبته. قد أمرت بحمل هزار مع كسوتها وفرشها وجواريها وجميع ما لها. فأما بدر الجلنار فقد وقع على خدمتنا وله منا موضع. فقل له يسعفنا بتركه. فعدت إلى مفلح فأخبرته بطرف من الأول وبالآخر. وكان على الخروج إلى البصرة لحرب صاحب الزنج. فقال: يا أبا إسحق، قد حصلت هزار، وإذا رجعنا من هذه الحرب، أخذنا بدراً الجلنار منه، شاء أم أبى. فخرج، فأصابه سهم فمات. وكان المعتمد من أسمح آل العباس، وكان يمثل بينه وبين المستمعين ويقال ما ولي أسمح منهما. وكان جيد التدبير، فهماً بالأمور. فلما قوض أمره وغلب على رأيه، نقصت حاله عند الناس. قال محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: بعث بي أبي إلى المعتمد في شيء، فقال لي اجلس. فاستعظمت ذاك، فرد الأمر علي، فاعتذر بأنه لا يجوز لي. فقال لي: يا محمد، إن أدبك في القبول مني خير من أدبك في خلافي. قال: ظلم بعض أسباب موسى بن بغا محمد بن علي الكاتب المعروف بباذنجانة، فلما مات موسى، هجاه، فقال: مات قسّ الدير موسى ... لعن الرحمن موسى فلقد كان ضعيفاً ... في تُقى الله خسيسا فسروري مطلقٌ والحز ... ن قد صار حبيسا فبلغ هذا الشعر المعتمد، فنقضه فقال: مات خير الناس موسى ... رحم الرحمن موسى فلقد كان جليلاً ... عالي القدر رئيسا أطلق الحزن وخلّى ... فرحي وقفاً حبيسا ومن شعره المرذول، قوله: مالي وهذا الهوى مالي ... لو أمكنني افتديته بمالي وهذا الحبيب ما يواصلني ... فأن مع هجرانه في قتال بدا لي على ما أرى فيحبه ... وكنت والله ما بدا لي وله من هذا الفن: من قال إني أعشق لو صوّروا ... الحب لكان رجلاً أحمق أدور السطوح فلا أراه ... كأنني سنّورٌ أبلق تمنيت من شوقي إليه ... أن أطلع عليه فأكون لقلق هوى الناس مجتمعٌ عندي ... وهواهم عليهم مُفرّق قال: فكت الراضي بخطه، تحت هذه الأبيات: لم يقل ذا الشعر إلا ... جاهلٌ بالشعر أحمق أو مصابٌ ذو جنونٍ ... ضائع الفكرة أبلق ومن شعره: عجبت من هذا الحب لا ... يجارى به المحبوب أراك يا ظالم لا تريدني ... هذا والله هوىً مقلوب أنت في حسنك يوسف ... وأنا في ضرّي يعقوب لست أعني يعقوب الصفّار ... أنت الصفار مصلوب وله: عشقت إنساناً بكسكر ... وجهه كالقمر الأزهر فلما شكوت إليه هواه ... طأطأ رأسه وفكّر هو الذهب الابريز في حسنه ... وهو الياقوت الأحمر من دلّني عليه فله عندي ... كل ما تمنى وقدّر لما ظننته بيدي حاصلاً ... لا شك تركني وشمّر قال: ودخل يوماً الجوسق، فرأى طائراً، فصاده. فقال الموفق: ما رأيت أحسن منه، فهبه لي يا أمير المؤمنين، فأعطاه إياه. فلما حصل في يده، أفلت وجعل يصفق بجناحيه ويطير، فضحك المعتمد ضحكاً شديداً، وقال: دخلت يوما الجوسقا ... فاصطدت طيراً أبلقا أخذه مني الموفّقا ... فحين أخذه صفقا وطار منه فرقا قال: ولما شخص أبو أحمد إلى البصرة والجيش معه، وبقي المعتمد بسر من رأى، قال: مهمّ مهم مهم مهم ... وأمرٌ فظيع وأمرٌ صُرم أيحسن أن تذهبوا كلّكم ... أقعد في البيت كنّي حرم

دير العذارى

ويمضي الأمير أبو أحمدٍ ... ويضرب بالطبل كردم كدم قال: وخرجت بثرة على قدم بدر غلامه، فأخبر بذلك، فاغتم. فلما كان بعد عتمة، خرج إلى حجرته عائداً له، وقال: عدته بعد العتم ... لعلةٍ حادثة على القدم مضيت أمشي في الظلم ... وحدي فلا خلقٌ علم وله: رمضان أتاك بخزم مقر ... فاقعدن خلف بابكنّ وتكسر لنيتن ببستان سرهك فيه ... يأكل اللحم بارداً حين يشطر والرثيثا والجند معه دقوقا ... والطلعلع وقشر البيض الأحمر دير العذارى وهذا الدير أسفل الحظيرة، على شاطىء دجلة. وهو دير حسن عامر، حوله البساتين والكروم، وفيه جميع ما يحتاج إليه. ولا يخلو من متنزه يقصده للشرب واللعب. وهو من الديارات الحسنة، وبقعته من البقاع المستطابة. وإنما سمي بدير العذارى، لأنه فيه جوار متبتلات عذارى، هن سكانه وقطانه، فسمي الدير بهن. وذكر يموت بن المزرع، عن الجاحظ، قال: حدثني ابن فرج الثعلبي، أن قوماً من بني ثعلب، أرادوا قطع الطريف على مال السلطان فأتتهم المعانية، فأعلمتهم أن السلطان قد نذر بهم، فساروا ثم أزمعوا على الاستخفاء وقع حوافر الخيل في طلبهم. فلما أمنوا وجاوزتهم الخيل، خلا كل واحد منهم بجارية هي عنده عذراء، فإذا القس قد فرغ منهم، فقال بعضهم في ذلك: وألوط من راهبٍ يّدعي ... بأن النساء عليه حرام يحرّم بيضاء ممكورةً ... ويغنيه في البضع عنها غلام إذا ما مشى غض من طرفه ... وفي الدير بالليل منه عرام ودير العذارى فضوحٌ لهنّ ... وعند اللصوص حديث تمام وببغداد أيضاً دير يعرف بدير العذارى في قطيعة النصارى على نهر الدجاج. وسمي بذلك لأن لهم صوم ثلاثة قبل الصوم الكبير، يسمى صوم العذارى. فإذا انقضى الصوم اجتمعوا إلى هذا الدير فتعبدوا وتقربوا. وهو دير حسن طيب. ولابن المعتز في دير العذارى المقدم ذكره: خليلي قم حتى نموت من السكر ... بحانة خمار مماتاً بلا قبر ونشرب من كرخيةٍ ذهبيةٍ ... ونصفح عن ذنب الحوادث والدهر ألا ربّ أيام مضين حميدةً ... بدير العذارى والصوامع والقصر وكم من ليال مسعدات لذي الهوى ... جسرت على اللذات فيهن بالجسر خليلي فلا تطلب فلاحي وخلّني ... فما لي على لمتني فيه من صبر ولبعضهم، فيه: قام عذري في ظبي دير النصارى ... حين أبصرت عاشقيه حيارى فتنةٌ عمّت الخلائق واستو ... لت على مسلميهم والنصارى قال: ولما خرج عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من بغداد إلى سر من رأى، وكان المعتز استدعاه، نزل هذا الدير، فأقام به يومين واستطابه وشرب فيه، ثم قال هذه الأبيات: ما ترى طيب وقتنا يا سعيد ... زمنٌ ضاحكٌ وروض نضيد ورياضٌ كأنهنّ برودٌ ... كل يوم لهن صبغ جديد وكأن الشقيق فيها عشيق ... وكأن البهار صبٌّ عميد وكأن الغصون ميلاً قدودٌ ... وكأن النوار فيها عقود وكأن الثمار والورق الخض ... ر ثيابٌ من تحتهنّ نهود فاسقنيها راحاً تريح من اله ... م وتبدي سرورنا وتعيد واحثث الكأس يا سعيد فقد حثّ ... ك نايٌ لها وجرك عود وافترع عذرةً اللذاذات في دي ... ر العذارى، فعلّها لا تعود وعبيد الله من أحسن الناس أدباً وشعراً وتصرفاً في سائر العلوم، مع كرم نفس وحسن خلق. ولما وصل عبيد الله في سفرته المذكورة إلى المعتز، أمره بالمقام عنده في ذلك اليوم، فأقام. قال عبيد الله: فأرسل المعتز إلى شارية أن تخرج، فتعاللت عليه، فقال: عندي من يحب أن يسمعك وأحب لك وله ذلك، ولا بد من حضورك. فخرجت فجلست خلف الستارة، ثم قالت: لولا الزائر ما جئنا. فأول صوت غنته: غشيت المنازل بالأنعم ... كمنعرج الوشم في المعصم ثم غنت بعده:

لقد راعني للبين صوت حمامةٍ ... على غصن بانٍ جاوبتها حمائم فقال لي المعتز: كيف تسمع؟ قلت: أسمع شيئاً حظ العجب منه أكثر من حد الطرب. فاستحسن هذا الكلام مني. ثم أسمعني زمر زنام الزامر، وقد ضعف وأرعش وأزمنه النقرس. وأراني الآلة التي عملها أحمد بن موسى المهندس من صفر يرسل فيها الماء فيسمع لها زمر السرناي. ثم أدخلني إلى شباك، وأمر أن يجمع بين السبع والفيل، فرأيتهما كيف يتواثبان، ثم قال لي: أذكر أني أريتك اليوم أشياء طريفة. قلت: نعم يا سيدي. قال: أيها أظرف عندك؟ قلت: غناء شارية. فقال لي: صدقت! قال جحظة: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يوماً، فجاءه مشيخة، فأمرهم بالجلوس عن يمينه. وجاء كهول، فأمرهم بالجلوس عن شماله. ودخل أحداث فوقفوا بين يديه ولم يأمرهم بالجلوس. فسألته عنهم، فقال: هؤلاء بني، وأومأ إلى الشيوخ، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الكهول، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الأحداث. قلت: بنوك لأم أو لأمهات شنى؟ قال: أم جميعهم شاجي، وأنشد: زرعت وشاجي بيننا في شبيبتي ... غراس الهوى فاعتم بالثمر العذب فشاب بنو شاجي لظهري وأدركوا ... وشاب بنوهم وهي مالكة قلبي قال: وهي معي مذ سبعون سنة. وكان بعض المنجمين حكم بموته قبلها، فماتت قبله، فقال: فيا عجباً مني وممن رعيته ... بأوكد أسباب الهوى ورعاني وكنت أُرجّي أن أكون فداءه ... فلما أتى وقت الحمام فداني وذكر ابن قدامة قال: حضرت جنازة شاجي، فلما انصرفنا، دخلت مع عبيد الله مساعداً له ومؤنساً، وهو مطرق ودموعه تجري على خديه، فلم أر باكياً أحسن منه. ثم رفع رأسه وأقبل علينا، فقال: يميناً بأني لو بليت بفقدها ... وبي نبض عرقٍ للحياة وللنكس لأوشكت قتل النفس عند فراقها ... ولكنها مات وقد ذهبت نفسي قال: ثم حضرت معه لزيارة قبرها، فلما هم بالانصراف، قال: من زار دار أحبةٍ لحياتهم ... ولما يؤمّل من لقاء يقدر فليأت دار أحبةٍ سكنوا البلى ... كرماً وحفظاً واللقاء المحشر قال: ومات ابن لعبيد الله من شاجي، فزار قبره، ثم أنشد: أيا مجمع الأحباب بعد تفرقٍ ... أراك قريباً والتلاقي شاسعا فيا عجباً أني أزورك مكرهاً ... وفيك الأُلى أهوى وأجفوك طائعا قال الصولي: لما ماتت شاجي، جزع عليها عبيد الله الجزع الذي لم ير مثله. فرثاها جماعة من الأدباء، ورثاها عبيد الله بعدة قصائد. فكان أحسن ما مر بي في ذلك، رسالة لعبد الله بن المعتز إليه وجوابها من عبيد الله بن عبد الله. وكانت نسخة التعزية: اتصل بي، أعزك الله، خبر المصيبة. فوالله لقد أشركني الهم بها معك، وألمني منها ما ألمك. فصبراً يا أخي على حكم القدر، ونهضاً من عثرة الجزع، وثباتاً للمحنة، وشكراً لمفيد النعمة بتقديم الحرم وتحصيل الأجر على حسن الصبر وإن كانت: جليلة حظٍ من عفاف ومن تُقىً ... وقمريّةً في ذروة الغصن تسجع تولت ولو لم تطعم الأرض غيرها ... كفتها ولكن لا أرى الأرض تشبع وقد أطال لله إمتاعك بها منذ وهبها لك، وجعل فقده لمثوبتك التي هي أكبر منها إذ ارتجعها منك. ومثلك، أيدك الله، لا يحض على حفظ دينه، لأنك تعلمه وترغب فيه وتسارع إليه. لكن المصائب ربما عصفت بالجازع حتى يذكر أو يذكر، فيراجع الرضا بحكم من لا يجور، ويسبق الصبر على المصيبة مختاراً، للسلوة التي لا بد من أن يصير إليها اضطراراً. ورب خيرة مرة، وحميد في مكروه، وهو الدهر الذي نعرفه ولا تؤتى من غرةٍ به. هذه سجيته وبهذا تقدمت سيرته كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ولولا علة عائقة عن لقائك، أعزك الله، لصرت إليك بدلاً من كل كتاب ورسول، وقضيت بذلك حقك ورأيته من واجبك. ورب حاضر لم يحضر وده، وغائب لم يغب غمه عنا. وأعظم الله أجرك، وأجزل ثوابك، ودل على سبيل العزاء قلبك، وكفاك مكارهك، ووفقك لما يوافقك، ورحم التي توفيت، وجعل ما اتصلت به من الآخرة خيراً مما انقطعت عنه من الدنيا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فأجابه عبيد الله بن عبد الله: أطال الله بقاء السيد المؤمل للدنيا والدين، وابن السادة المنعمين، والخلفاء الراشدين، والآباء المنتجبين، وزاد الله السيد تشريفاً وتفضيلاً، وأدام له العز والسعادة والكرامة والغبطة والسلامة، وجدد له النعم الظاهرة والمنن المترادفة، وجعلني من كل سوء ومكروه فداه، وقدمني إلى كل مرهوب ومحذور قبله. وصل كتاب السيد، أطال الله بقاءه، مملوءاً بالبر والفضل والانعام والتطول وفرائد الأدب وجوامع المحاسن. فتلقيته بحقه من الاعظام والشكر والمعرفة بعلو قدره وارتفاع درجته وارتقاء رتبته في حسن التأليف واتفاق المعاني وجليل الصواب وجميل الخطاب. ولقد رفع الله الأدب والعلم ونواظر أهلهما بالسيد، أيده الله بعنايته وقدرته. فأما المشاركة فمعهودة من تفضله، حتى لو قلت أن التعزية بهذه المصيبة التي لحقتني لو شوفوه بها وعزى عنها جرى الأمر مجراه ووضع القصد في أحق مقاصده. وأما الصبر فهو الذي لا بد منه اضطراراً أو اختياراً. إذا ما أصابت ذا حياةٍ مصيبة ... فقابلها منه التحمل والصبر فما بعدت من أن تحوّل نعمةً ... يحق عليها الحمد لله والشكر وأما الجزع، فما أصاب وأوجع وألم وروع، فلا محيد عنه. وإذا لم يتعد العين والقلب إلى البدن واللسان فخطبه أسهل، وشكر المولى المخفف للمحن والمتمم للنعم، المفزع في النوائب والعصمة في المصائب. ولو كان طول الامتاع، أعز الله السيد، يسلى لا يسلو عنه إلا لمن ساعده ووهى عقده لما عمل عليه مميز نظار، ولو كان على أشد المضض وأمر الغصص ولوعة الأبد ودوام الكمد، وأقول: أسرّ أمور الدهر صار أغمّها ... وكل جديد صار بعدك باليا فأعجب من شهدٍ تحوّل علقماً ... ومن ضاحكٍ لم يعد أن ظل باكيا وأما السلوة، أعز الله السيد، فليست من فعل الأحرار المخلصين لا في محيا ولا في ممات، إنما هو اغتنام الاحتساب واتصال الأكساب والعياذ بالله من فقد العزاء وفقد أجره. وبالله يا سيدي، إن الشخص لخاشع وإن الطرف لدامع وإن القلب لحران موجع. ولقد صادفت هذه الحال بدناً ما فيه عضو صحيح، أسقام متطاولة ومصيبة موصولة بما بقي من الزمن. وبينا الفتى يبكي ويندب شجوه ... ومألوفه إذ صار يبكى ويندب وأما ما ذكره السيد، جعلني الله فداه، من أمر العلة التي لا كانت ولا سمع لها بذكر أبداً، فإنه لولاها لكان وكان مما لا ينطلق بذكره اللسان. وأنا أعيذه بالله العظيم الذي فضله بكل خلق كريم من تعنيف الفعل الذي لا يجزي أدناه أقصى الشكر ففيما سلف من المخاطبة والمشاركة ما يبلغ أقصى منازل الشرف، وحاول أعلى مآثر الفخر؛ وأنا أفاوض السيد، أطال الله بقاءه، الشيء بعد الشيء، مما نطق به الحزن، وأبثه إياه. فمن ذلك: وقعت على الأحباب والترب دونهم ... بنفسي وجوهٌ تحت تلك المقابر ومثل لي ما نال من حسنها البلى ... فسبحان ربّي عالماً بالسرائر ثم بعث إليه بعدة قصائد قالها فيها. قال: ولما اختلت حال عبيد الله، بعث إليه المعتضد يسأله أن يفسح لشاجي في زيارته، فشق ذلك عليه، واحتج بأنها عليلة ومختلة الهيئة. فلج في طلبها حتى ظهر منه تهديد له. فبعث بها إليه. فذكر عنها أنها قالت: احتقرت نفسي حين دخلت على جواريه، لما رأيت عليهن من حليهن وحللهن، وحقرنني هن أيضاً حتى غنيت وغنين، فانتقل إعظامي لهن إلي منهن. فلما خرجت، حمل معها المعتضد عشرة آلاف درهم وكسوة وطيب. فجاءت شاجي وعبيد الله واله. فلما رآها سري عنه، ثم قال لها: هل رأيت شيئاً لم تري مثله عندنا فاستحسنته؟ فقالت: لا والله، إلا عوداً من عود، وذلك أنه محفور لا مبني، فاستطرفته. قال جحظة: فما قولك فيمن يدخل دار الخلافة فلا يمد عينه لشيء يستحسنه فيها إلا عوداً. قال: وكان مما صنعته وغنته ذلك اليوم للمعتضد ماذا استعار الحسن من وجهه ... والغصن الناعم من قدّه لقد تعاتبنا بأبصارنا ... فيما جناه الخلف من وعده حتى تجارحنا بتكرارنا ... للّحظ في قلبي وفي خده فأدرك الثأر وأدركته ... وسرني بالصدّ عن صده وكان مما غنته أيضاً:

هو الدهر لا يعطيك إلا تعلّةً ... ولا يأخذ الموهوب إلا تغشّما عزاءً إذا ما فات مطلب هالكٍ ... وصبراً إذا كان التصبّر أحزما قال أبو علي محمد بن العلاء الشجري: لما تقلد عبيد الله بن سليمان الوزارة للمعتضد، دفع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إلي رقعة، سألني عرضها على عبيد الله بن سليمان، فكان فيها: أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نجلّ ونعظم فقلت له: نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا، إن المهم المقدّم فاستحسن عبيد الله بن سليمان ما كتب به، وقال: أما ترى كيف تلطف لشكوى حاله؟ ثم أخذ جميع رقاعه فوقع له فيها بجميع ما أحب. قال: وقال أبو العيناء يوماً لعبيد الله أسكت أيها الأمير أم أقول؟ قال: إن سكت كفيت، وإن قلت أصغي إليك، وإنك لتقر منا إذا احتجنا إليك، وتبعد عنا إذا احتجت إلينا. ومن شعره، قوله: لعمري لئن حدثت نفسي أنني ... أفوتك أن الرأي مني لعازب لأنك مني بالمكان المحيط بي ... من الأرض أني استنهضتني المذاهب ذكر أبو علي الأوارجي، أن أبا بكر محمد بن السري السراج النحوي، كان يحب جارية من القيان، فأنفق عليها مالاً جزيلاً. فلما ورد المكتفي من الرقة، خرج الناس ينظرون إليه. فخرجت أنا وهو وأبو القاسم عبد الله الموصلي، فجلسنا على روشن دار ابن جهشيار لنراه. فلما وافى ونظرنا إليه استحسناه كلنا. وكان أبو بكر بن السراج واجداً على هذه الجارية ومغاضباً لها. فقال: قد حضرني شيء، فاكتب، فكتبت: قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي والله لا كلمتها ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفى ثم مضى للحديث مدة طويلة. وكان أبو عبد الله محمد بن إسمعيل زنجي الكاتب، يهوى قينة، وهو إذ ذاك يكتب لأبي العباس ابن الفرات فكان يحدثه بحديثه معها ولا يحتشمه، وكان اجتماعها معه في كل يوم جمعة، لأنه كان يوم نوبته في داره. قال أبو علي: فحدثني زنجي، قال: غدوت يوم سبت على أبي العباس ابن الفرات، فقال لي: ما كان من خبرك أمس؟ فحدثته باجتماعنا، فقال لي: فما كان صوتك؟ فقلت: قايست بين جمالها وفعالها فقال لي أبو العباس: لمن هذا الشعر؟ قلت: لعبد الله بن المعتز. ثم ركب أبو العباس بن الفرات إلى الوزير القاسم بن عبيد الله، فحدثه بهذا الحديث، وأنشده الشعر، وسار معه إلى الثريا، ثم انصرف عنه جلس في ديوانه. فلما علم أنه قد قرب انصرافه، خرج فتلقاه، فلما لقيه، حدثه أنه انشد المكتفي الشعر وأنه سأله عن قائله، فعرفه أنه لعبيد الله بن عبد الله ابن طاهر. قال: فأمرني أن أحمل إليه ألف دينار. فقلت: إنما قلت لك أن الشعر لعبد الله بن المعتز، فنسبته إلى ابن طاهر. فقال: والله، ما وقع لي إلا أنك قلت إنه لعبيد الله. وهذا رزق رزقه الله عبيد الله، لا حيلة لأحد فيه. قال زنجي: فلما انصرف أبو العباس، حدثني بهذا الحديث وقال: خذ أنت الدنانير وامض بها إلى عبيد الله وقل له: هذا رزق بعثه الله إليك من حيث لم تحتسب! فحملت إليه الدنانير وحدثته الحديث، فحمد الله وشكر أبا العباس، فكان هذا من الاتفاق العجيب! وكان عبيد الله يقول: من صحب السلطان وخدمه، احتاج أن يدخل أعمى ويخرج أخرس. ومن شعره، قوله: إذا أنت لم تفضل على ذي مودة ... وكنت وإياه بمنزلةٍ سوا فلا تك ذا تيهٍ عليه فإنما ... يعاقب بالذنب الفتى لا على الرضا وقال أيضاً: ألا إن قلبي منك بعد الذي مضى ... لملآن من أمرين يختلفان هوى منك يتلوه أذىً لك والأذى ... عدو الهوى لن يوجدا بمكان وقال أيضاً: كفاك عن الدنيا الدنيّة مخبراً ... غنى باخليها وافتقار كرامها وإن رجال النفع تحت مداسها ... وإن رجال الضر فوق سنامها وقال أيضاً: وقالوا: غداً ينأى فما أنت صانع ... فما هو إلا أن تفيض المدامع بلى زفراتٌ بينهن تنفّسٌ ... يقطّعن قلبي والهموم النوازع

وذل وإطراقٌ وفكر وحسرةٌ ... وأعظم منها ما تجنّ الأضالع قال عبد الله بن المعتز: كتبت إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر حين ولي ابنه خلافة يونس على شرط بغداد: فرحت بما أضعافه دون قدركم ... وقلت عسى قد هب من نومه الدهر فترجع فينا دولة طاهرية ... كما بدأت والأمر من بعده الأمر عسى الله، إن الله ليس بغافلٍ ... ولا بد من يسر إذا ما انتهى العسر فأجابه عبيد الله بن عبد الله: فنحن لكم إن مسّنا ضيم جفوةٍ ... ومنا على لأوائها الصبر والعذر فإن رجعت من نعمة الله دولةٌ ... إلينا، فمنّا عندها الحمد والشكر ولعبيد الله شعر كثير وأخبار طريفة، اخترنا منها ما يليق بغرض الكتاب ولا يخرج إلى حد الاطالة. وكانت وفاة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ليلة السبت، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلثمائة. ولما توفي، وجهت شغب والدة المقتدر بالله بأم موسى القهرمانة إلى ولده وحرمه فعزتهم عنه، وكفنته بكفن حظيري، وتصدقت في جنازته بألف دينار وألف درهم، وقامت بجميع أمورهم. وأما أخوه محمد بن عبد الله بن طاهر، فكان كريماً سرياً جواداً سمحاً حسن الأخلاق مع أدب وحسن معرفة وافتنان في سائر العلوم، وضبط وسياسة وتقدم في التدبير. وكان المتوكل استدعاه من خراسان لما مات إسحق بن إبراهيم الطاهري ومحمد ابنه، وولاه خلافته ببغداد، فأقر أخاه طاهر بن عبد الله على خراسان، وكان أكبر أخوته. ذكر الشاه بن ميكال، أن بعض البزازين، عرض على محمد بن عبد الله بن طاهر ثوبي وشي، فعرفهما وعلم أنهما من ثيابه، فأحضر إبراهيم بن هارون النصراني قهرمانه، فأمره أن يحضر الثوبين اللذين من صفتهما كيت وكيت، فذكر أنه لا يعرفهما، وأنه رجع إلى الاحصاء، فلم يجدهما فيه، ورجع إلى الديوان فوجدهما ثابتين فيه، أبتيعا بألف وخمسمائة دينار. قال: فسألت عن الخبر، فأخبرت أن الكاتب في الخزانة باعهما وأسقط من الاحصاء عددهما. فأمر بحبس الكاتب. وقال لابراهيم: ويلك! تستكتب من يقدم هذا الاقدام؟ فحلف أنه ما وقف على مثل هذه الحال منه ولا عرف له مثل هذه الزلة. فقال: إن كان الأمر كذلك فليطلق، وأمر له بخمسمائة دينار، وقال له: تعفف بهذه، فإني أظن الخلة حملتك على ذلك، ورد الثوبين على التاجر وأطلقه. قال: وكنا يوماً عند إسحق بن إبراهيم بن مصعب، فقدمت المائدة، وكن قد تقدم بعمل هريسة، فقدمت إليه الهريسة، فنظر إليها، فرأى شعرة، فأومأ إلى بعض غلمانه بشيء لم نفهمه. فما لبث أن جاء بطيفورية عليها مكبة، فوضعها ورفع المكبة، فإذا يد الطباخ بدمها في الطيفورية. فرفعنا أيدينا، وتنغص أكلنا مما ورد علينا، وقمنا وليس منا أحد ينتفع بنفسه. ثم اجتمعنا بعد ذلك بدهر على مائدة محمد بن عبد الله بن طاهر، وكان قد تقدم بإصلاح لون اشتهاه، فعمل له، وجاء به الطباخ بنفسه حرصاً على التقرب من قلبه. فلما قرب منه، عثر لعجلته، فأفلت الطيفورية على محمد، فصارت ثيابه وما تحته من فرش آية، فقام للوقت، فغير ثيابه واغتسل وعاد إلينا بوجه طلق لم يؤثر فيه ما جرى، وجلس على المائدة، ثم قال: علي بفلان الطباخ، فجيء به وهو لا يشك في حلول النقمة. فقال له: أحسبنا قد رعناك، أنت حر لوجه الله جل وعز. وفلانة الجارية لك وقد زوجتكما، وأمر له بصلة وكسوة. فأقبلنا بالدعاء له، وتعجبنا من فعله وذكرنا فعل إسحق. قال: كان ابن أبي فنن، ويكنى أبا عبد الرحمن شاعراً مطبوعاً، وكانت له ضيعة في قطيعة محمد بن عبد الله بن طاهر. فكان الحاشر يصير إليه فيؤذيه، وربما أشخصه، فكتب إلى محمد يشكو الحاشر وما يلقى منه من الاعنات: أبني حسين أنني ... أصبحت في كنف الأمير ولنا معايش في قطي ... عته على الماء النمير وبنيت بيتاً وسطه ... سميته بيت السرور فإذا جلست إزاءه ... وشربت من حلب العصير قلت العفا لما روي ... ت على الخورنق والسّدير لولا تردد حاشرٍ ... كالكلب في يوم مطير غادٍ علي ورائح ... يصل الرواح إلى البكور

فإذا بدا لي وجهه ... أُخرجت صفراً من سروري فهل الأمير بجوده ... من قبح طلعته مجيري؟ فلما قرأ محمد الأبيات، وقع تحتها: قد أجراك أبا عبد الرحمن، وأمرنا باحتمال خراجك، وكان مبلغه ثمانية آلاف درهم، ووجه إليه بألف دينار، وحلف عليه أن يقبلها، وكان ابن أبي فنن لا يقبل من أحد شيئاً، وكان حسن الحال مستقلاً. ولمحمد بن عبد الله من الأفعال الكريمة ما يطول الشرح بذكرها، وفيما ذكرنا كفاية. ومن مليح شعره، قوله: قالت بناظرها أقبل، فقلت لهما ... بالدمع: لبيك يا سمعي ويا بصري حتى إذا علمت أن قد كلفت بها ... أومت إلي بدمع غير مستتر يا كاتمي خيفة الواشي محبّته ... إني وعيشك أقراه من النظر قولي بطرفك ما تهوين أعرفه ... واستنطقي ناظري يخبرك بالخبر وكان مولد محمد بن عبد الله سنة تسع ومائتين، في الليلة التي فتحت في صبيحتها كيسوم، وفيها ولد عبيد الله بن يحيى بن خاقان وأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وكلهم ولي الوزارة. ومات محمد يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وسنة أربع وأربعون سنة. وكانت وفاته من بثرة خرجت في حلقه. وتوفي والقمر في الكسوف، وكان يقول: إذا تم الكسوف وبدأ في الانجلاء مت، فكان كذلك. واستخلف أخاه عبيد الله فأقره المعتز، ووجه إليه بالخلع مع مفلح خليفة باكياك. وكان طاهر بن محمد نازعه الأمر وأعانه مواليه والعامة حتى جاءت الرسل والخلع، فاستقر الأمر لعبيد الله. ولابن الرومي، يرثي محمد بن عبد الله بن طاهر: بات الأمير وبات بدر سمائنا ... هذا يودعنا وهذا يكسف قمرٌ رأى قمراً يجود بنفسه ... فبكى أخاه أخٌ مؤاس منصف فتكت به الأيام وهي عليمة ... أن سوف يتلف منه ما لا يخلف وقال فيه: وسألت عنه، فقيل: بات لما به ... قلت: الندى لا شك مات لما به وكأنا....... ... .......... به فلمن أصون مدامعي من بعده ... ولمن ترى تنهلّ من أسبابه لصوابه، لخطابه، لجوابه، ... لشبابه، للغرّ من آدابه ولعبيد الله أخيه، فيه. كسيف البدر والأمير جميعاً ... فانجلى البدر والأمير عميد عاود البدر نوره لتجلي ... هـ ونور الأمير ما لا يعود وقال: ذكرت أخي من غير نسيان ذكره ... ولكنها حالٌ تزيد وتنقص على حسب أخلاق الزمان وأنه ... ليصحبني عيشٌ عليه منغّص ولما مات محمد بن عبد الله بن طاهر، اشتد وجد المعتز عليه، وكان يرى أن الأتراك يهابونه من أجله ولمكانه، فقال فيه: ذهبت بهجة الخلافة عنّا ... حين أضحى محمد في القبور عن قليل تكون أحداث دهرٍ ... من سنا نارها يشب السّعير

وقال: وأما سليمان بن عبد الله بن طاهر، فكان ابن أخيه محمد بن ابن طاهر، أنفذه إلى العراق في سنة خمس وخمسين ومائتين خليفة له، فأمضى المعتز ذلك وخوله فأقره أياماً. وخرج إليه عبيد الله فخلع عليه وولاه شرطة بغداد وعزل سليمان بن عبد الله. فدخل عبيد الله إلى بغداد ومعه خلق عظيم من الأولياء والقواد، فتلقاه الناس وفرحوا بولايته. وخرج سليمان قبل وصول أخيه إلى البردان، فأقام بها إلى أن ورد موسى بن بغا من الجبل. فرد إليه أمر الشرطة ببغداد وسر من رأى وأمر السواد، وعزل سليمان، وذلك في سنة سبع وخمسين ومائتين، فتسلم عبيد الله الولاية في الأولى. ثم اضطرب أمر الطاهرية بخراسان ودخل يعقوب بن الليث نيسابور. فلما قرب منها، وذلك في سنة ثمان، وجه محمد بن طاهر إليه يستأذنه في تلقيه، فلم يأذن له. فبعث بعمومته وأهل بيته، فتلقوه، ودخل نيسابور ونزل طرفاً من أطرافها، فركب إليه محمد بن طاهر ولقيه في مضربه، فأقبل يوبخه على تفريطه في عمله. ثم وكل به وبأهل بيته وكتب إلى الحضرة يذكر أنه على السمع والطاعة والضبط لما يتولاه، ويطعن على محمد. فرد الموفق عليه أقبح رد، وأعلمه أنه لا يقاره على ذلك. ثم أقبل يعقوب بن الليث إلى بغداد، وسار المعتمد نحوه، فالتقوا وكان الموفق في المقدمة، وموسى بن بغا في الميمنة، ومسرور البلخي في الميسرة، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من رجب، وكان يوم شعانين، فقتل من الأولياء خلق كثير. واشتدت الحرب، وكشف الموفق عن رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي. ثم دارت الدائرة على يعقوب، فانهزم أقبح هزيمة، واتبعهم الموفق وموسى بن بغا فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، وأطلق عليهم الماء فغرق أكثر ممن قتل. وكان محمد بن طاهر معه مثقلاً بالحديد، فأطلق من حديده وخلع عليه وأنزل دار عمه محمد بن عبد الله ابن طاهر، ورد إليه عمله بخراسان وأطلق له خمسمائة ألف درهم. ورجع المعتمد إلى بغداد، وسار الموفق إلى واسط، وعقد لعبيد الله على الحرمين. وورد الخبر بموت يعقوب بن الليث وقيام أخيه عمرو، وأخذت البيعة على عمرو وقلد خراسان وفارس وكرمان وسجستان وأصبهان والسند. وكتب عمرو إلى عبيد الله بن عبد الله بتوليته الشرطة خلافة له، ووجه إليه بخلع وعمود ذهب، وأمضى الموفق ذلك وخلع على عبيد الله أيضاً. ومات سليمان بن عبد الله بن طاهر، سنة ست وستين ومائتين في المحرم. فوقف أخوه عبيد الله على قبره متكئاً على سيفه، وقال. النفس مني ترقى في مراقيها ... ودمعة العين تجري في مجاريها لبقعة ما رأت عيني كقلّتها ... ولا ككثرة أحباب ثووا فيها ثم استخلف صاعد بن مخلد أبا عبد الله محمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر على مدينة السلام، في سنة سبعين ومائتين، فقبض على عمه عبيد الله وحبسه. ثم استخلف المعتضد غلامه بدراً على مدينة السلام، وانقرض أمر الطاهرية منها ومن خراسان. وكان لسليمان شعر مليح وأدب وفهم ومعرفة. وأما عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر، فكان أصغر من أخويه، وكان له أدب وفهم وشعر مليح. فمن شعره إلى أخيه عبيد الله، وكان أخواه عبد الله وسليمان حساه. قد كنت أحسب أني منك إن نزلت ... إحدى النوائب بي آوي إلى جبل حتى إذا وقع الأمر الذي وجبت ... في مثله نصرتي من غير ما فشل أسلمتني لخطوب الدهر تلعب بي ... ما هكذا كان تقديري ولا أملي لو كنت في بلدٍ نائي المحل لما ... باليت عثرة أيامي ومثلك لي إني أخوك الذي قد كنت تألفه ... ما حلت عن عهدكم يوماً ولم أزل إني أخوك وإن الله مطّلعٌ ... على السرائر، فاقطع بعد أو فصل ومن شعره أيضاً إلى أخيه لما حبس، وكان تهم بأنه كاتب السجستاني، فكتب من الحبس يحلف على بطلان ذلك، وكتب آخر الرقعة بهذه الأبيات: تقول وقد ريعت سُليمى بمحبسي ... كما راع ثكلٌ فاجعٌ أم واحد أبى الدهر إلا أن ينوبك صرفه ... كعادته النكراء في كل ماجد فقلت لها: غضي عليك فإنما ... تصيب الرجال صائبات الشدائد ولا تعجبي للحبس ويحك واعجبي ... لانكر ما حدثته في المشاهد

حبست لحرب ما شهدت كفاحها ... وأصبح سجاني أخي وابن والدي ومن مليح شعره: يا أيها القمر المنير الزاهر ... المشرق الحسن البهي الباهر أبلغ شبيهتك السلام وهّنها ... بالنوم، واعلمها بأني ساهر وكان المعتضد يستحسن هذا الشعر، فغنى فيه في طريقة خفيف الرمل، وكان أحد أصواته. ذكر أبو عبد الله بن حمدون، أن محمد بن عبد الله بن طاهر، كان يحجب المتوكل بسر من رأى شهرين ثم ينحدر إلى بغداد فيقيم بها شهرين ويخلفه خلفاؤه بسر من رأى. فقدمها قدمة أخذ فيها معه أخاه عبد العزيز، وكان قد اشترى جارية، لها من قلبه محل. فاشتد عليه فراقها. قال: فسألني أن أستأذن أخاه له في الرجوع إلى بغداد على أن يعطيني شهرياً كنت رأيته تحته. ففعلت، فأذن له، فأعطاني الشهري. ثم أنشدني هذا الشعر: أقول لما هاج قلبي الذكرى ... واعترضت وسط السماء الشعرى كأنها ياقوتة في مدرى ... ما أطول الليل بسر من را يا ربّ فكّاً كفكاك الأسرى ... فإن تجد لي بنجاةٍ أخرى اجعل أدنى خطواتي بصرى ... حتى أؤوب بالمطايا حسرى كأنها من الكلال سكرى ... ثم أعيش مثل عيش كسرى ولم يدخل بغداد من ولد عبد الله بن طاهر غير هؤلاء الأربعة: محمد وعبيد الله وسليمان وعبد العزيز. فأما عبد الله بن طاهر، فكان من سروات الناس أدباً وفضلاً وسياسة وتدبيراً وسخاء وكرماً. وكان المأمون تبناه ورباه. وكان مولده سنة اثنتين وثمانين ومائة. فذكر أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله أن أبا عبد الله بن طاهر انصرف ليلة من دار المأمون وذلك بعد خروج طاهر إلى خراسان، وكان قد غلب عليه النبيذ، فبات في القبة الطاهرية من دار طاهر بمدينة السلام. فتعلق طرف من الخيش، وقد يبس، بالشمعة، فاحترقت القبة، واحتمل عبد الله فأخرج منها. واتصل الخبر بطاهر، فكتب إلى عبد الله يعذله ويؤنبه ويقول: لو ورد الخبر بوفاتك كان أسهل علي من وروده بفضيحتك، وأن يبلغ بك النبيذ مبلغاً لا تحس معه باحتراق موضع أنت فيه؛ ويأمره بالتجهز والخروج إليه. فأقلق عبد الله ذلك وكتمه عن جميع الناس وختم الكتاب وجعله تحت مصلاه وتبين الهم عليه. فسأله المأمون عن خبره فكتمه. ثم سأل من يخصه، فأعلمه أن كتاباً ورد عليه لا يعلم ما فيه، فأقسم عليه المأمون في إحضار الكتاب، فأحضره. فكتب المأمون إلى طاهر يعاتبه على ما فعل، ويعلمه منزلته عنده وإحلاله محل الولد، وأنه لا يد لطاهر عليه إلا بحق خلافته، فإن صرفه عنها فليس له أن يزعجه عن الحضرة. فأجاب طاهر بالشكر لتطوله إذ كان هذا محله عنده. وأعيد بناء القبة، فلم تزل إلى أن نقضت في سنة ثلاث وتسعين ومائتين. وخرج عبد الله إلى الشام في سنة تسع ومائتين، فحارب نصر بن شبث إلى أن ظفر به.

قال عبيد الله بن عبد الله: حدثني نصير وياسر وجماعة من مشايخ موالينا، إن أبا العباس عبد الله بن طاهر، لما أشرف على كيسوم، تحصن بها نصر بن شبت، فركب من الغد وقد عبأ جيشه للقاء، فوافى نصراً وقد خرج من الحصن، فصف بإزائه وواقفه إلى الليل على غير حرب، ثم أوقد نصر النيران، فشاور عبد الله قواده، فقالوا: هذا الليل، فننصرف ونبيت في معسكرنا، ثم نغاديه الحرب فقال: إن انصراف المحارب نكوص، ولست أبرح من موضعي. فنزل، وكان يحم حمى ربع، وكان نوبتها تلك الليلة، فوعك وعكاً شديداً، فالتمس ما يدفئه فلم يكن معهم، فقالوا: أحفروا حفيرة بأسيافهم، وأمر أن يجمع من مخالي الدواب التبن فيلقي في الحفيرة، ففعل ذلك، ثم جلس فيها. وجاءت السماء بهطل ووبق شديد. فقال: استروني بتراسكم، فلم نزل كذلك ليلتنا أجمع نستره حتى أصبح، وصلينا وصلى وأعاد سلاحه وركب فرسه وتطرف، ونحن معه، فنظر فإذا ليس خارج الحصن أحد. فقال: خدعنا الخبيث وأوهمنا أنه بإزائنا ودخل حصنه ووكل به من يوقد النيران، والساعة يخرج عليكم بحدته. فخذوا حذركم. ودعا العزيز فقال: إمض في ألفي فارس فأريحوا واستريحوا، وسمى لهم موضعاً يكونون فيه، ولا يبرح منكم أحد أو يأتيه طاهر بن إبراهيم بن مدرك برسالتي. فإذا أتاك، فإن قدرت أنت وأصحابك أن تكونوا في أجنحة الطير حتى توافوني فافعلوا، فمضى. ولم يستتم الكلام حتى خرج نصر وحمل عليهم، فبرز إليه عبد الله يقدم أصحابه، فلم تزل الكرات بينهم والجلاد، وعبد الله يفدي اصحابه ويعدهم ويرمي نفسه كل مرمى، إلى أن صارت الشمس في كبد السماء، وكل من معه وتبين فيهم الضعف والعجز، فأرسل طاهر إلى العزيز يأمره بالاسراع، فوافى. فلما رأى نصر ومن معه الرايات السود والأسود السود، وكان عبد الله من اتخذها، جزعوا وتبين فيهم الفشل، وقال عبد الله للعزيز: شأنك وأصحابك نحو القوم! فلم يكن إلا ساعة حتى انهزم نصر ولجأ إلى حصنه. فدعا أبو العباس بالنقابين وأمر بنصب العرادات والمجانيق والسلاليم، واطلعوا، فلم يروا في الحصن أحداً، وإذا نصر قد نقب نقباً من وراء الحصن وخرج منه؛ وأمر الرجال ففتحوا الباب، ودخل فغنم وأصحابه جميع ما في الحصن، وبشر في ذلك الوقت وهنيء بالفتح. فأنشده عوف بن محلم الخزاعي: أُشكر لربّك يوم الحصن نعمته ... فقد حباك بعز النصر والظفر وهي قصيدة طويلة. ومضى نصر، فلجأ إلى جبال لم تحصنه، فعاذ بالأمان. فكتب عبد الله إلى المأمون يخبره، فكتب إليه: أعطه الأمان على أن يطأ بساط أمير المؤمنين وينفذ فيه حكمه. فرضي بذلك، ووجه به عبد الله مع محمد بن الحسين بن مصعب إلى حضرة المأمون. قال: وكان نصر قد كبر، فرآه المأمون وغلامان له يحملانه على السرج: فقال: نصر يحمله اثنان! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ولا ينزله مائتان! ثم سار عبد الله بن طاهر إلى مصر في سنة عشر وفتحها واستأمن إليه ابن السري؛ وأقام بها إلى سنة إحدى عشرة. وقدم على المأمون وقد أصلح البلد وجبى أمواله واستقامت أحواله، فتلقاه أبو إسحق والعباس بن المأمون، وقدم معه بالمتغلبين على مصر. قال: وقال المأمون يوماً: هل تعرفون رجلاً يزيد على جميع أهل دهره نزاهة وحسن سيرة؟ فذكر قوم ناساً فأطروهم، فقال: لم أرد هؤلاء. فقال علي بن صالح، صاحب المصلى: ما أعلم يا أمير المؤمنين أحداً له مثل هذا النعت إلا عمر بن الخطاب. فقال المأمون: اللهم غفراً، لم أرد قريشاً، فأمسك القوم جميعاً. فقال المأمون: ذاك عبد الله بن طاهر، وليته مصر وأموالها جمة، فوجد لعبيد الله بن السري من الأموال ما تقصر عنه الصفة، فما تعرض منه لدينار ولا لدرهم، ولم يخرج من مصر إلا بعشرة آلاف دينار وثلاثة أفراس وحمارين؛ ولكنه غرس يدي وخريج أدبي. ولأنشدنكم أبياتاً في صفته، ثم أنشد: حليمٌ مع التقوى، شجاعٌ مع الرّدى ... ندٍ حين لا يندى السحاب سكوب شديد مناط القلب في الموقف الذي ... به لقلوب العالمين وجيب فتىً هو من غير التخلق ماجدٌ ... وعن غير تأديب الرجال أديب

فأقام قبل المأمون سنة، ثم سيره إلى بابك، وقد كان ظهر وعظمت شوكته، فأقام بإزائه سنة، وكان شرط على المأمون أنه إن ظفر ببابك رجع إلى الباب. فيكون مقامه بحضرة المأمون ويختار لخلافته على خراسان من أحب من أخوته. فأقام بالدينور تسعة أشهر يستعد لقتال بابك. فبينا هو كذلك، إذ ورد على المأمون كتاب صاحب نيسابور يذكر أنا لمارقة أغارت على قرية منها يقال لها الحمراء على طريق الجادة، وأنهم أحرقوا وسبوا وقتلوا النساء والأطفال. فعظم ذلك على المأمون، ودعا إسحق بن إبراهيم وهو خليفة عبد الله بن طاهر على الشرط، ويحيى بن أكثم، وبعث بهما إلى عبد الله وكتب معهما كتاباً بخطه إلى عبد الله يقسم عليه أن يحول مضربه من وجه بابك إلى وجه خراسان، فإن خراسان أهم من المملكة كلها بعد الحضرة، وأن يشير عليه بمن يبعث به إلى بابك، فامتثل ما أمره به، وأشار بعلي بن هشام، وكاتب من بخراسان بما أحب وقدم أخاه محمد بن طاهر على مقدمته ووافاه علي بن هشام فوافقه على الطريق في محاربة بابك، ومضى لوجهه إلى خراسان، حتى وافى نيسابور وكتب إلى المأمون أن أمير المؤمنين انهضني إلى هذا الثغر بسبب ما قد غلب عليه من أمر الحمراء، وما أحدثه المارقة بها. وإني وافيت نيسابور فوجدت ما حولها عش المارقة، ووجدتها أهم الكور، والمهم أبدى وآدى. قال: فأعجب المأمون من الكتاب بهذه اللفظة، ولم يزل الكتاب يتذاكرونها بينهم. وكان مقامه بخراسان، إلى أن توفى بها، خمس عشرة سنة. وذكر ابن جدان عن الجلودي، قال: جلس عبد الله يوماً بخراسان انصف فيه من وجوه القواد وأمراء الأجناد، وضرب الأعناق وقطع الأيدي والأرجل وعقد العقود، فلما زالت الشمس، دخل داره. قال الجلودي: وكنت أقرب من قلبه وأدل عليه. فتلقاه الخدم، فأخذ هذا قباءه، وأخذ آخر خفه، وآخر رانه، وبقي في غلالة وسراويل. فرفع الغلالة على كتفه وجعل يقول: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف البنيان عنم قال: فأغلظت عليه، ونزعت ثوبه عن عاتقه ورددته إلى حاله وقلت له: تجلس اليوم مجلس الاسكندر ودارا بن دارا، وتفعل الساعة فعل علويه ومخارق؟ قال: فنظر إلي نظر الصؤول، ورد ثوبه على كتفه وقال. لا بدّ للنفس إذ كانت مصرّفة ... من التنقل من حال إلى حال ولما مات المأمون، أقر المعتصم عبد الله بن طاهر على خراسان وإسحق بن إبراهيم على خلافته ببغداد وكان سيء الرأي فيه، فكتب إليه: أما بعد: عافانا الله معاً. فقد كانت في نفسي عليك حزازات غيرها بقاء الانتقام عليك لك. وقد بقيت منها هنات أخاف منها عليك، فلا تقدم، وحسبك مما أنا منطو عليه لك إظهاري إياك على ما في ضميري. والسلام. قال الفضل بن مروان: ذكر المعتصم يوماً عبد الله بن طاهر، فنال منه، وتابعته الجماعة ووصفوه بسوء الطاعة وأنا حاضر. فقمت وقلت: اكتب إليه في القدوم، فإنه لا يمسى حتى يشخص. فقال: اجلس واكتب إليه بالخبر. فكتب إلى المعتصم كتاباً، أنفذه درج كتابي إليه. وسألني أن أوصله من يدي إلى يده، ففعلت. فقرأه المعتصم وأقبل يسألني عن الحرف بعد الحرف، فأفتح عليه: فإذا هو قد كتب يحلف أن الكتاب لو ورد عليه بالشخوص لما أمسى حتى يشخص. قال أبو العميثل: دخل على عبد الله بن طاهر، فقال: إنك لناح الأدؤر قليلاً ما ترى، ومد يده إلي فقبلتها، فقال: ما عققتني به أكثر مما بررتني. قلت: بماذا؟ قال: بخشونة شاربك. قلت: إن شوك القنفذ لا يضر برثن الأسد. قال: هذا والله أحب إلي من مدح مائة قافية، وأمر لي بعشرة آلاف درهم. وكانت وفاة عبد الله بن طاهر في سنة ثلاثين ومائتين، في أيام الواثق.

وذكر أحمد بن أبي داود، أن محمد بن عبد الملك، أشار على الواثق، لما ورد الخبر بوفاة عبد الله ابن طاهر، أن يخرج إسحق بن إبراهيم بن مصعب إلى خراسان، مكان عبد الله، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يكتب كتبه وينظر تجهيزه. قال: ووجه إلي الواثق فحضرت الدار، فرأيت محمد بن عبد الملك وإسحق بن إبراهيم جالسين، ومحمد يكتب الكتاب. فلما رآني، قلبه. فتفاءلت أن الذي هما فيه سينقلب. ودخلت إلى الواثق، فذكر لي خبر وفاة عبد الله بن طاهر، وأنه قد عمل على إخراج إسحق إلى خراسان، وأن يضم إليه خمسة آلاف رجل من الجند ويطلق أرزاقهم، وأن يطلق لاسحق خمسة آلاف ألف درهم معونة. فقلت: يا أمير المؤمنين، إسحق رهينة القوم عندك، فإن أخرجته لم يكن في يدك من القوم شيء؛ والجند، فأنت محتاج إلى الزيادة فيهم، فكيف تفرقهم، لا سيما مع ما ينفق فيهم، وإخراج هذه الأموال لا وجه له. وها هنا ما هو خير من ذلك. قال: وما هو؟ قلت: طومار بدرهمين تكتب فيه إلى طاهر بن عبد الله بالتعزية عن أبيه وبتجديد الولاية له، وتربح ما تنفقه، وتكون قد أتممت الصنيعة عند عبد الله وولده وأحسنت الخلافة فيه. فقال: الصواب ما قلت! وأمر محمد بن عبد الملك بذلك والاضراب عما كان عمل عليه. وكانت مدة حياة عبد الله بن طاهر، ثمانياً وأربعين سنة. فأما طاهر بن الحسين، فكان من سروات الناس، وذوي الراي والبأس، سماه المأمون بذي اليمينين، فكان يكتب وكاتب بها. وسأل المعتصم جماعة من خواصه عن معنى تسمية طاهر بذي اليمينين فلم يعرفوه. فقال محمد بن عبد الملك: معناه: ذو الاستحقاقين، استحقاق بجده ودنو في الدولة، وكان أحد النقباء؛ واستحقاق بما له في دولة المأمون. قال الله تعالى: لأخذنا منه باليمين أي بالاستحقاق. وقال الشاعر: إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقّاها عرابة باليمين ذكر جبهان الشيعي، قال: كان الحسين بن مصعب جيد الرأي حسن الاصابة بالظن. قال: كنت يوماً في دار علي بن عيسى بن ماهان وقد أمر بطاهر بن الحسين، فشد بحبل إلى سارية، فقال لي الحسين: أما ترى هذا المشدود، يعني ابنه، ليقتلن صاحب هذا القصر. فجرى هذا القول عندي مجرى الهزل. ثم كان من أمرهما ما كان، فعجبت من قول الحسين. قال: ولما أنفذ الأمين علي بن عيسى بن ماهان في الجيوش إلى خراسان، لأخذ المأمون وإنفاذه إليه، عقد المأمون لطاهر بن الحسين على أربعة آلاف، ووجهه إلى الري لحرب علي بن عيسى. فكتب إليه علي بن عيسى أن يقيم له الميرة ولم يكن يظن أنه يحاربه. قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: فحدثني عبد الرحمن بن فهم، عن عمه، قال: شخصت أريد المأمون، فدفعت إلى عسكر طاهر يوم الوقعة، فرأيته يعبىء الصفوف، ويذهب ويجيء، وبيده كسر من خبز. ومع غلام له كوز من رصاص فيه ماء. فقلت: أيها الأمير، ليس هذا وقت أكل! قال: معذرة إليك وإلى من لا يعرف خبري. ما دخل جوفي طعام منذ ثلاث، لشغلي بهذا الأمر، وتخوفت أن أحتاج إلى نفسي فتخونني في هذا الوقت. ففعلت ما رأيت. فقلت: الأمير أخبر بما يعاني. قال عبيد الله: وحدثني جماعة من شيوخنا، قال: لما أقبل جيش علي، كان صاحب علمهم حاتم الطائي، وكان قد ضرب ثمانمائة سوط حتى ذهب لحم اليتيه. وكان عظيم الخلق شديد البأس، وكان له أربعة غلمان يحملونه حتى يقعد في سرجه، فإذا استوى في سرجه عد بألف فارس. قال طاهر: فجعلته وكدي وحملت عليه. فلما دونت منه، إذا به كفراً في الحديد لا تخلص إليه الضربة. فرأيت أمراً هالني. فقلت: ليس إلا أن أضربه على البيضة، فإن عمل السيف فيها، وإلا فهو التلف. فجمع يدي ثم ضربته على رأسه. فقددت البيضة والرأس، حتى نشب السيف بين ثناياه. قال: فلما قتل حاتم، اضطرب القوم. وكان علي بن عيسى راكباً في قبة، فنزل عنها وقدم إليه شهري أصدأ أرجل ليركبه، فطعنه داود سياه قبل أن يتمكن في سرجه فقتله وهو لا يعرفه. وصار إلى طاهر فقال: قد قتلت قاضي العسكر، ثم أتى برأسه. فنادى منادي طاهر: من أخذ شيئاً فهو له، وبرئت الذمة ممن سفك الدماء. وكتب إلى المأمون وذي الرئاستين: كتابي، ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي، والسلام. ثم سار طاهر إلى بغداد، فكان من أمره ما كان.

قال: وكان المأمون عند دخوله إلى بغداد قد سخط على محمد بن أبي العباس الطوسي، فاستعاذ بطاهر بن الحسين، وكان له صديقاً، وسأله سؤال المأمون في الصفح عنه وكان يحجبه على النبيذ فتح الخادم، وياسر يتولى الخلع، وحسين يسقي، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج. فركب طاهر إلى الدار، فدخل فتح، فقال: طاهر بالباب! فقال: أنه ليس من أوقاته، إيذن له. فدخل طاهر إلى المأمون وهو يشرب. فسقاه رطلاً وأمره بالجلوس. فقال: يا أمير المؤمنين ليس لصاحب الشرط أن يجلس بين يدي سيده. فقال المأمون: ذاك في مجلس العامة، فأما في مجلس الخاصة فالجلوس له مطلق ثم سقاه رطلين آخرين وبكى المأمون وتغرغرت عيناه. فقال له طاهر لم تبكي يا أمير المؤمنين، لا أبكى الله عينك، وقد دانت لك البلاد وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمورك؟ فقال: أبكي لأمر في ذكره ذل وفي ستره حزن. وما يخلو أحد من شجو. فتكلم بحاجة إن كانت لك! فقال: يا أمير المؤمنين، محمد بن أبي العباس أخطأ، فأقله عثرته وارض عنه. قال: قد رضيت عنه وأمرت بصلته ورد مرتبته، ولولا أنه ليس من أهل الأنس لأحضرته! فشكر ذلك، ودعا للمأمون وانصرف، وقد شغل قلبه بكاؤه. فقال لمروان بن جبغويه كاتبه: إن للكتاب لطافة، وأهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض. فخذ معك ثلاثمائة ألف درهم، فأعط الحسين الخادم مائتي ألف، أعط كاتبه محمد بن هرون مائة ألف، وتسأله أن يسأل أمير المؤمنين لم بكى؟ قال: ففعل ذلك. فلما خلا الحسين بالمأمون من غد، وطابت نفسه، سأله عن سبب بكائه. فقال له: ولم سألت عن ذلك؟ فقال: لغمي به وتنغصي من أجله. فقال: يا حسين هو شيء إن خرج من رأسك قتلتك! فقال: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سراً؟ فقال: لما رأيت طاهراً، ذكرت محمداً أخي وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الافاضة، ولن يفوت طاهراً مني ما يكره. قال: فأخبر محمد بن هرون طاهراً بذلك. فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد وهو الوزير فقال له: إن المعروف عندي غير ضائع والثناء مني ليس برخيص. فغيبني عن أمير المؤمنين. فقال له: بكر إلي غداً فإني سأفعل. فغدا عليه وغدا ابن أبي خالد على المأمون. فلما وصل إليه قال: إني ما نمت البارحة! قال: ولم ويحك؟ قال! لأنك وليت غسان بن عباد خراسان، وهو ومن معه أكلة رأس. فأخاف أن يخرج عليه خارجي فيصطلمه. قال: لقد فكرت فيما فكرت فيه. فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين. قال: ويلك يا أحمد، هو والله خالع. قال: أنا الضامن له. فلم يزل به حتى أجابه، ودعا بطاهر من ساعته، فعقد له وشخص من يومه. فنزل بستان خليل بن هشام، وذلك يوم الجمعة لليلة بقيت من ذي القعدة سنة خمس ومائتين. فلما حصل طاهر بن الحسين بخراسان، وكانت الشراة قد كثرت هناك واشتد أمرهم، فكتب إليه المأمون كتباً كثيرة يحثه على مناهضتهم وينكر عليه تضجعه في أمرهم. فكتب طاهر يذكر غلظ أمرهم وقوة شكوتهم، وإنه يحتاج إلى زيادة عدة في رجاله ليلقاهم. فأحفظ ذلك المأمون، فكتب إليه يغلظ له ويقول: لهممت أن أردك إلى حيث أبيك. فذكر كلثوم بن ثابت بن أبي سعد وكان يكنى أبا سعدة، وكان يتقلد البريد على طاهر بن الحسين بخراسان، أنه جلس يوم الجمعة بالقرب من المنبر لما تبين ما حدث من طاهر عند ورود ما ورد عليه. فصعد طاهر المنبر فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له وقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤونة من بغى فيها وحشد عليها من لم الشعت وحقن الدماء واصلاح ذات البين. قال: فعلمت أني أول مقتول، لأنني لم أكن أقدر على ستر الخبر ولم يكن يستتر كتابي عن طاهر. فانصرفت واغتسلت بغسل الموتى، وائتزرت بازار، ولبست قميصاً وارتديت رداء وطرحت السواد فحملت نفسي على أن كتبت إلى المأمون، فأتى الله من صنعه بقرب وفاة طاهر بما لم أحتسبه. ولما ورد الخبر على المأمون بذلك، شق عليه، ودعا أحمد بن أبي خالد وقال له: قد كنت قلت لك في طاهر لما أشرت بتقليده خراسان ما كنت أعلم به، فضمنت ما يكون. وبالله، لئن لم تتلطف لاصلاح أمره كما كنت ضمنت فساده، لأضربن عنقك، فأهدى ابن أبي خالد إلى طاهر هدايا وألطافاً، وفيها كامخ أبيض مسموم لعلمه بإعجابه به. فلما وصلت الهدايا إلى طاهر، أكل من الكامخ بتدارج مشوية، فمات بعد يومين.

دير السوسي

وكان مولد طاهر بن الحسين في المحرم، سنة تسع وخمسين ومائة. ووفاته سنة سبع ومائتين. ولما مات، شغب الجند بخراسان، وانتهبوا خزائن طاهر. فقلد المأمون مكانه طلحة ابنه، ووجه بأحمد بن أبي خالد إلى خراسان ليعاونه في إصلاح الأمر. فصار إلى هناك، وأصلح الأمور، وسكن اضطرابها. ووجه إليه طلحة بثلاثة آلاف درهم وعروضاً بألفي ألف درهم، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتبه خمسة آلاف درهم. دير السوسي وهذا الدير لطيف على شاطىء دجلة، بقادسية سر من رأى. وبين القادسية وسر من رأى أربعة فراسخ، والمطيرة بينهما. وهذه النواحي كلها متنزهات وبساتين وكروم. والناس يقصدون هذا الدير ويشربون في بساتينه. وهو من مواطن السرور ومواضع القصف واللعب. ولابن المعتز، فيه: يا لياليّ بالمطيرة والكر ... خ وجير السّوسي بالله عودي كنت عندي أنموذجات من الجنّ ... ة، لكنها بغير خلود والقادسية، من أحسن المواضع وأنزهها، وهي من معادن الشراب ومناخات المتطربين، جامعة لما يطلب أهل البطالة والخسارة. وبالقادسية بنى المتوكل قصره المعروف ببركوار، ولما فرغ من بنائه وهبه لابنه المعتز، وجعل أعذاره فيه. وكان من أحسن أبنية المتوكل وأجلها. وبلغت النفقة عليه عشرين ألف ألف درهم. قال: ولما صح عزمه على إعذار أبي عبد الله المعتز، أمر الفتح بن خاقان بالتأهب له، وأن يلتمس في خزائن الفرش بساطاً للايوان في عرضه وطوله، وكان طوله مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعاً. فلم يوجد إلا فيما قبض عن بني أمية، فإنه وجد في أمتعة هشام بن عبد الملك على طول الايوان وعرضه. وكان بساطاً ابريسماً غرز مذهب مفروز مبطن؛ فلما رآه المتوكل، أعجب به وأراد أن يعرف قيمته. فجمع عليه التجار، فذكر أنه قوم على أوسط القيم عشرة آلاف دينار. فبسط في الايوان، وبسط لخليفة في صدر الايوان سرير، ومد بين يديه أربعة آلاف مرفع ذهب مرصعة بالجوهر فيها تماثيل العنبر والند والكافور المعمول على مثل الصور، منها ما هو مرصع بالجوهر مفرداً، ومنها ما عليه ذهب وجوهر وجعلت بساطاً ممدوداً، وتغدى المتوكل والناس، وجلس على السرير، وأحضر الأمراء والقواد والندماء وأصحاب المراتب فأجلسوا على مراتبهم، وجعل بين صوانيهم والسماط فرجة. وجاء الفراشون بزبل قد غشيت بأدم مملوءة دنانير ودراهم نصفين، فصبت في تلك الفرج حتى ارتفعت. وقام الغلمان فوقها، وأمروا الناس عن الخليفة بالشرب، وأن ينتقل كل من يشرب بثلاث حفنات ما حملت يداه من ذلك المال. فكان إذ أثقل الواحد منهم ما اجتمع في كمه أخرج إلى غلمانه فدفعه إليهم وعاد إلى مجلسه. وكلما فرغ موضع أتى الفراشون بما يملأونه به حتى يعود إلى حاله. وخلع على سائر من حضر ثلاث خلع كل واحد، وأقاموا إلى أن صليت العصر والمغرب وحملوا عند انصرافهم على الأفراس والشهاري. وأعتق المتوكل عن المعتز ألف عبد، وأمر لكل واحد منهم بمائة درهم وثلاثة أثواب. وكان في صحن الدار بين يدي الايوان أربعمائة بلية عليهن أنواع الثياب، وبين يديهن ألف نبيجة خيزران، فيها أنوا ع الفواكه من الأترج والنارنج على قلته كان في ذلك الوقت والتفاح الشامي والليموه وخمسة آلاف باقة نرجس وعشرة آلاف باقة بنفسج. وتقدم إلى الفتح بأن ينثر على البليات وخدم الدار والحاشية ما كان أعده لهم وهو عشرون ألف ألف درهم، فلم يقدم أحد على التقاط شيء، فأخذ الفتح درهماً، فأكبت الجماعة على المال فنهب. وكانت قبيحة قد تقدمت بأن تضرب دراهم، عليها: بركة من الله، لاعذار أبي عبد الله المعتز بالله. فضرب لها ألف ألف درهم نثرت على المزين ومن في حيزه والغلمان والشاكرية وقهارمة الدار والخدم الخاصة من البيضان والسودان. وكان ممن حضر المجلس ذلك اليوم، محمد بن المنتصر، وأبو أحمد وأبو سليمان ابنا الرشيد، وأحمد والعباس ابنا المعتصم، وموسى بن المأمون، وابنا حمدون النديم، وأحمد بن أبي رؤيم، والحسين بن الضحاك، وعلي بن الجهم، وعلي بن يحيى المنجم، وأخوه أحمد. ومن المغنين: عمرو بن بانة، أحمد بن أبي العلاء، ابن الحفصي، ابن المكي، سلمك الرازي، عثعث، سليمان الطبال، المسدود؛ أبو حشيشة، ابن القصار، صالح الدفاف، زنام الزامر، تفاح الزامر.

ومن المغنيات: عريب، بدعة جاريتها، سراب، شارية وجواريها، ندمان، منعم، نجلة، تركية، فريدة، عرفان. قال إبراهيم بن المدبر: لما طهر المعتز، اجتمع مشايخ الكتاب بين يدي المتوكل. وكان فيهم يحيى بن خاقان وابنه عبيد الله إذ ذاك الوزير وهو واقف موقف الخدم بقباء ومنطقة. وكان يحيى لا يشرب النبيذ. فقال المتوكل لعبيد الله: خذ قدحاً من تلك الأقداح واصبب فيه نبيذاً وصير على كتفك منديلاً وامض إلى أبيك يحيى فضعه في كفه. قال: ففعل. فرفع يحيى رأسه إلى ابنه، فقال المتوكل: يا يحيى، لا ترده. قال: لا يا أمير المؤمنين، ثم شربه وقال: قد جلت نعمتك عندنا يا أمير المؤمنين، فهنأك الله النعمة ولا سلبنا ما أنعم به علينا منك. فقال: يا يحيى، إنما أردت أن يخدمك وزير بين يدي خليفة في طهور ولي عهد! وقال إبراهيم بن العباس: سألت أبا حرملة المزين في هذا اليوم، فقلت: كم حصل لك إلى أن وضع الطعام؟ فقال: نيف وثمانون ألف دينار، سوى الصياغات والخواتيم والجواهر العتيدات. قال: وأقام المتوكل ببركوارا ثلاثة أيام، ثم أصعد إلى قصره الجعفري. وتقدم بإحضار إبراهيم بن العباس، وأمره أن يعمل له عملاً بما أنفق في هذا الاعذار، ويعرضه عليه. ففعل ذلك. فاشتمل العمل على ستة وثمانين ألف ألف درهم. وكان الناس يستكثرون ما أنفقه الحسن بن سهل في عرس ابنته بوران، حتى أرخ ذلك في الكتب، وسميت دعوة الاسلام. ثم أتى من دعوة المتوكل ما أنسى ذلك. وكانت الدعوات المشهورة في الاسلام، ثلاثاً لم يكن مثلها. فمنها: دعوة المعتز هذه المذكورة. ومنها عرس زبيدة بن جعفر بن أبي جعفر. فإن المهدي، زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه، فاستعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة وصناديق الجوهر والحلي والتيجان والأكاليل وقباب الفضة والذهب والطيب والكسوة. وأعطاها بدنة عبدة ابنة عبد الله بن يزيد بن معاوية امرأة هشام، ولم ير في الاسلام مثلها ومثل الحب الذي كان فيها. وكان في ظهرها وصدرها خطان ياقوت أحمر وباقيها من الدر الكبار الذي ليس مثله. ودخل بها الرشيد في المحرم سنة خمس وستين ومائة، في قصره المعروف بالخلد. وحشر الناس من الآفاق وفرق فيهم من الأموال أمر عظيم. فكانت الدنانير تجعل في جامات فضة، والدراهم في جامعات ذهب، ونوافج المسك وجماجم العنبر والغالية في بواطي زجاج، ويفرق ذلك على الناس، ويخلع عليهم خلع الوشي المنسوجة، وأوقد بين يديه في تلك الليلة شمع العنبر في أتوار الذهب. وأحضر نساء بني هاشم، وكان يدفع إلى كل واحدة منهن كيس فيه دنانير وكيس فيه دراهم وصينية كبيرة وفضة فيها طيب، ويخلع عليها خلعة وشي مثقل. فلم ير في الاسلام مثلها. وبلغت النفقة في هذا العرس من بيت مال الخاصة، سوى ما أنفقه الرشيد من ماله، خمسين ألف ألف درهم. واسم زبيدة أمة العزيز. وزبيدة لقب. وكان أبو جعفر يرقصها وهي صغيرة، وكانت سمينة، ويقول: ما أنت إلا زبيدة، ما أنت إلا زبيدة. فمضى عليها هذا الاسم. ومنها عرس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، بفم الصلح. وكانت النفقة عليه أمراً عظيماً. وسأل المأمون زبيدة عن تقدير النفقة في العرس، فقالت: ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سعة وثلاثين ألف ألف. فبلغ الحسن بن سهل، فقال: كأن النفقة على يد زبيدة! أنفقنا خمسة وثلاثين ألف ألف، وكان يجري في جملة الجرايات في كل يوم على نيف وثلاثين ألف ملاح. وكان دخولها في المدينة التي بناها بفم الصلح على شاطىء دجلة، لثمان خلون من شهر رمضان سنة عشر ومائتين. قال: وأمهر المأمون بوران مائة ألف دينار وخمسة آلاف ألف درهم، وأوقد بين يديه تلك الليلة ثلاث شمعات عنبر وكثر دخانها. فقالت زبيدة: إن فيما ظهر من المروءة لكفاية، ارفعوا هذا الشمع العنبر وهاتوا الشمع. قال: ولما جليت بوران على المأمون، نثر عليها حباً كباراً كان في كمه، فوقع على حصير ذهب كان تحته. فقال: لله در الحسن بن هانىء، ما أعظمه من شاعر فصيح حيث يقول: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب قال: وامتنع من كان حاضراً أن يلتقط شيئاً. فقال المأمون: أكرمنها! فمدت زبيدة يدها فأخذت حبة، فالتقط من حضر الباقي.

دير مرمار

وكان اسم بوران، خديجة. وكانت وفاتها في سنة إحدى وسبعين ومائتين، في أيام المعتمد، ولها ثمانون سنة. ولبوران، ترثي المأمون: أسعداني على البكا مقلتيّا ... صرت بعد الامام للهمّ فيّا كنت أسطو على الزمان فلمّا ... مات، صار الزمان يسطو عليّا ذكر ابن خرداذبه: أن المتوكل، أنفق على الأبنية التي بناها، وهي: بركوارا، والشاة، والعروس، والبركة، والجوسق، والمختار، والجعفري، والغريب، والبديع، والصبيح، والمليح، والسندان، والقصر، والجامع، والقلاية، والبرج، وقصر المتوكلية، والبهو، واللؤلؤة: مائتي ألف ألف وأربعة وسبعين ألف ألف درهم. ومن العين مائة ألف ألف دينار. تكون قيمة الورق عيناً بصرف الوقت مع ما فيه من العين ثلاثة عشر ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار. قال: شرب المتوكل يوماً في بركوارا، فقال لندمائه: أرأيتم إن لم يكن أيام الورد لا نعمل نحن شاذكلاه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، لا يكون الشاذكلاه إلا بالورد. فقال: بلى. أدعوا لي عبيد الله بن يحيى. فحضر، فقال: تقدم بأن تضرب لي دراهم، في كل درهم حبتان. قال: كم المقدار يا أمير المؤمنين؟ قال: خمسة آلاف ألف درهم. فتقدم عبيد الله في ضربها، فضربت، وعرفه الخبر. فقال: اصبغ منها بالحمرة والصفرة والسواد، واترك بعضها على حاله. ففعل. ثم تقدم إلى الدم والحواشي، وكانوا سبعمائة، أن يعد كل واحد منهم قباء جديداً وقلنسوة على خلاف لون قباء الآخر وقلنسوته، ففعلوا. ثم عمد إلى يوم تحركت فيه الريح، فنصبت له قبة لها أربعون باباً، فاصطبح فيها، والندماء حوله. ولبس الخدم الكسوة التي أعدها، وأمر بنثر الدراهم كما ينثر الورد. فنثرت أولاً أولاً، فكانت الريح تحمل الدراهم فتقف بين السماء والأرض كما يقف الورد. فكان من أحسن أيام المتوكل وأظرفه. وكان البرج من أحسن ابنيته. فجعل فيه صوراً عظاماً من الذهب والفضة، وبركة عظيمة جعل فرشها ظاهرها وباطنها صفائح الفضة، وجعل عليها شجرة ذهب، فيها كل طائر يصوت ويصفر، مكللة بالجوهر، وسماها طوبى. وعمل له سرير من الذهب كبير، عليه صورتا سبعين عظيمين، ودرج عليها صور السباع والنسور وغير ذلك، على ما يوصف به سرير سليمان بن داود عليهما السلام. وجعل حيطان القصر من داخل وخارج ملبسة بالفسيفساء والرخام المذهب. فبلغت النفقة على هذا القصر ألف ألف وسبعمائة ألف دينار. وجلس فيه على السرير الذهب، وعليه ثياب الوشي المثقلة. وأمر ألا يدخل عليه أحد إلا في ثياب وشي منسوجة أو ديباج ظاهره. وكان جلوسه فيه في سنة تسع وثلاثين ومائتين. ثم دعا بالطعام، وحضر الندماء وسائر المغنين والملهين، وأكل الناس. ورام النوم فما تهيأ له. فقال له الفتح: يا مولاي، ليس هذا يوم نوم. فجلس للشرب. فما كان الليل، رام النوم، فما أمكنه، فدعا بدهن بنفسج، فجعل منه شيئاً على رأسه وتنشقه فلم ينفعه. فمكث ثلاثة أيام بلياليها لم ينم. ثم حم حمى حادة. فانتقل إلى الهاروني قصر أخيه الواثق، فأقام به ستة أشهر عليلاً، وأمر بهدم البرج وضرب تلك الحلي عيناً. دير مرمار وهذا الدير بسر من رأى، عند قنطرة وصيف. وهو دير عامر كثير الرهبان. حوله كروم وشجر. وهو من المواشع النزهة والبقاع الطيبة الحسنة. وللفضل بن العباس بن المأمون، فيه: أنضيت في سر من رى خيل لذاتي ... ونلت فيها منى نفسي وشهواتي عمّرت فيها بقاع اللهو منغمساً ... في القصف ما بين أنهارٍ وجنّات بدير مرمار إذ نحيي الصبوح به ... ونعمل الكاس فيه بالعشيات بين النواقيس والتقديس آونةً ... وتارةً بين عيدان ونايات وكم به من غزالٍ أغيدٍ غزل ... يصيدنا باللحاظ البابليات

وذكر الفضل هذا، أنه خرج ذات يوم مع المعتز للصيد. قال: فانقطعنا عن الموكب أنا وهو ويونس بن بغا. فشكا المعتز العطش. فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن في هذا الدير راهباً أعرفه له مودة حسنة خفيفة الروح. وفيه آلات جميلة. فهل لأمير المؤمنين أن نعدل إليه؟ قال: افعل. فصرنا إلى الديراني، فرحب بنا وتلقانا أجمل لقاء، وجاءنا بماء بارد فشربنا. وعرض علينا النزول عنده وقال: تبتردون عندنا ونحضركم ما تيسر في ديرا فتنالون منه؟ فاستظرفه المعتز وقال انزل بنا إليه. فنزلنا. فسألني الديراني عن المعتز ويونس بن بغا. فقلت هما فتيان من أبناء الجند. فقال: بل مفلتان من أزواج الحور! فقلت: هذا ليس من دينك ولا اعتقادك! قال: هو الآن من ديني واعتقادي! فضحك المعتز. ثم جاءنا بخبز وأشاطير وما يكون مثله في الديارات، فكان من أنظف طعام وأطيبه وأحسن آنية. فأكلنا وغسلنا أيدينا. فقال لي المعتز: قل له بينك وبينه: من تحب أن يكون معك من هذين ولا يفارقك؟ قال: فقلت له، فقال: كلاهما وتمراً فضحك المعتز حتى مال على حائط الدير من الضحك. فقلت: للديراني: لا بد من أن تختار. فقال: الاختيار في هذا دمار! ما خلق الله عقلاً يميز بين هؤلاء. ثم لحقنا الموكب، فارتاع الديراني. فقال له المعتز: بحياتي، لا تنقطع عما كنا فيه، فإني لمن ثم مولىً ولمن ها هنا صديق. فجلسنا ساعة، وأمر له المعتز بخمسين ألف درهم. فقال: والله لا قبلتها إلا على شرط. قال: وما هو؟ قال: يكون أمير المؤمنين في دعوتي مع من أحب. قال: ذاك إليك. فاتفقنا ليوم جئناه فيه على ما أحب. فلم يبق غاية، وأقام بمن كان معه، وجاء بأولاد النصارى فخدمونا أحسن خدمة. فسر المعتز سروراً ما رأيته سر مثله. ووصله في ذلك اليوم بمال كثير، ولم يزل يطرقه إذا اجتاز به ويأكل عنده ويشرب مدة حياته. قال: وكان المعتز سمح الأخلاق، واسع النفس، له أدب وفهم، ويقول شعراً صالحاً. وكان يحب يونس بن بغا ولا يصبر عنه. وكان هو ويونس بن بغا من أحسن الناس وجهاً وأجملهم، ولم يكن في خلفاء بني العباس أحسن وجهاً من الأمين والمعتز، وكان يضرب بهما المثل في الحسن والجمال. قالت عريب: كنت لمحمد الأمين وصيفة في عداد الوصائف، ألبس قباء ومنطقة وأقوم على رأسه وربما سقيته. وسني إذ ذاك سبع عشرة سنة. وكان أحسن خلق الله، لم نر ذكراً ولا أنثى مثله جمالاً وحسناً مع حسن خلق. قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي، وهو ابن مولاهما: أين كان المعتز منه؟ فقد رأيناه ولم نر الأمين. قالت: كان المعتز فيه لمحة منه، وأما مثله فلم يكن. قال: وكان إلف المعتز ليونس بن بغا إلف الصبا. فلم يكن يفارقه، ولا يصبر عنه. وله فيه أشعار كثيرة، فمن ذلك: إني عرفت دواء الطب من وجعي ... وما عرفت دواء المكر والخدع جزعت للحب والحمّى صبرت لها ... إني لأعجب من صبري ومن جزعي من كان يشغله عن إلفه وجعٌ ... فليس يشغلني عن حبكم وجعي وكان المعتز يشرب على بستان مملوء بالنمام، وبين النمام شقائق النعمان، فأقبل يونس بن بغا وعليه قباء أخضر، فقال المعتز: شبّهت حمرة خده في ثوبه ... بشقائق النعمان في النمام ثم قال: أجيزوا. فبدر بنان المغني، فقال: والقدّ منه إذا بدا متثنّيا ... بالغصن في لين وحسن قوام فقال: غنّ فيه الآن. فعمل فيه لحناً وغناه إياه. قال: وشرب المعتز يوماً ويونس بن بغا بين يديه يسقيه والجلساء والمغنون بين يديه. وقد أعد الخلع والجوائز، فدخل بغا، فقال: يا سيدي، والدة عبدك يونس في الموت، وهي تشتهي أن تراه فأذن له، فخرج. وفتر المعتز وتغير ثم نعس فنام، ونام الجلساء وتفرق المغنون. فلما كان وقت المغرب وعاد المعتز إلى مجلسه عاد يونس وبين يديه الشمع. فلما رآه المعتز دعا برطل فشربه وسقاه مثله. ثم عاد الندماء وغناه المغنون ورجع المجلس إلى أحسن مما كان فيه، فقال المعتز: تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرح وإن كنت عذّبتني ... بأنك لا تسمح فأصبحت ما بين ذي ... ن لي كبدٌ تجرح على ذاك يا سيدي ... دنوّك لي أصلح

دير مريحنا

ثم قال: غنوا فيه فجعلوا يفكرون. فقال المعتز لسليمان بن القصار الطنبوري: ويلك! ألحان الطنبور أصلح وأخف، فغن فيه أنت، فغناه فيه لحناً، فدفع إليه دنانير الخريطة وهي مائة دينار مكية فيها مائتان، مكتوب على كل دينار مها: ضرب هذا الدينار بالجوسق لخريطة أمير المؤمنين المعتز بالله. ثم دعا بالخلع والجواهر لسائر الناس. قال: واصطبح المعتز يوماً ويونس بن بغا. وما رثي وجهان قط مثلهما حسناً. فما مضت ثلاث ساعات حتى سكرا، فقال المعتز: ما إن ترى منظراً إن شئته حسناً ... إلا صريعاً تهاوى بين سكرين سكر الشباب وسكرٍ من هوى رشا ... تخاله والذي يهواه غصنين ثم أمر فتغنى فيه بعض المغنين. ومن شعره في يونس، وفيه لحن في طريقة الرمل: علّموني كيف أجفو ... ك على رغم من انفى وجفائي لك يا يو ... نس مقرونٌ بحتفي غير أن الله قد يع ... لم ما أُبدي وأخفي فوقاني الله فيك الده ... ر أن يأتي بصرف قال هرون بن عبد العزيز بن المعتمد: حدثني سعيد بن يوسف كاتب أبي، قال: كنت أتقلد خزائن الكسوة، وكان إذا أمر المعتز ليونس بشيء أخذت له أجل ما في الخزائن وأحسنه. وكان يبرني فلا أقبل بره. وربما دخل الخزانة فنجرته ومازحته. فقلت له يوماً يا سيدي، أنا عبدك وموفر لمالك، وأنت تشرف مسرور المعتصمي بالتحية الحسنة مما يكون بين يدي أمير المؤمنين، وأنا فلا تشرفني بمثل ذلك. فقال: الليلة نوبتك! فلما كان في الليل، بعث إلي بوصيف الخادم ومعه صينية ذهب فيها خوخ. فقل في نفسي ثم كبر إذ كان من مجلس الخليفة. فأخذت واحدة فنظرتها، فإذا هي قد شقت، وأخرج ما فيها وجعل مكانه ند معجون على مقدار ما كان فيها. فأجرت ما في جميعه، فكان شيئاً كثيراً. وللمعتز في يونس وقد خرج وعاد: الله يعلم يا حبيبي أنني ... مذ غبت عني هائمٌ مكروب يدنو السرور إذا دنا لك منزلٌ ... ويغيب صفو العيش حين تغيب وكانت البيعة للمعتز، يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وخلع لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. وقتل بعد الخلع بخمسة أيام، وسنه أربع وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة عشر يوماً. قال: وكانت قبيحة حرضت المعتز على الأتراك، وقالت: يا بني، أقتلهم في كل مكان. وأخرجت إليه قميص أبيه المتوكل مخضّباً بدمائه. فقال: يا أماه! إرفعيه وإلا صار القميص قميصين. وذكر أحمد بن حمدون، قال: بنى المعتز في الجوسق في الصحن الكامل بيتاً قدرته له أمه ومثلت حيطانه وسقوفه، فكان أحسن بيت رئي. قال: فدعانا المعتز إليه، فكنا في أحسن يوم رئي سروراً. وخلف الستارة مغنية تغني أحسن غناء ليس لي بها عهد. قال: فنحن في ذاك، إذ دخل علينا خادم في يده طبق عليه مكبة. فوضعه في وسط البيت، وكان في يد المعتز قدح فشربه وشربنا، ثم قال للخادم: إرفع المكبة، فإذا رأس المستعين في الطبق. فلما رأيته شهقت وبكيت. فقال لي المعتز: يا ابن الفاعلة، ما هذا؟ كأنك داخلتك له رقة. فثاب إلي عقلي وتماسكت وقلت: ما كان لرقة، ولكني ذكرت الموت! فأمر الغلام برد المكبة ورفع الطبق. فرفعه. وكأن المعتز داخلته فترة، وكذلك جميع من حضر، وافترقنا عن الحال التي كنا عليها من السرور. قال: فنحن كذلك، إذ سمعنا وراء الستر ضجة أفزعتنا، فإذا امرأة تصيح وامرأة أخرى تشتم الصائحة، والصائحة تقول: يا قوم، أخذتموني غصباً ثم تجيئوني برأس مولاي فتضعونه بين يدي. فسمعنا صوت العود قد ضرب به رأسها. قال: وكان الشاتم لها والضارب قبيحة، وكانت الجارية من جواري المستعين. قال: فانصرفنا عن المجلس أقبح انصراف وقد تنغص علينا ما كنا فيه. ولم تمض إلا أيام يسيرة حتى وثب الأتراك على المعتز فقتلوه، ثم دعى بنا لننظر إليه، فدخلنا عليه في ذلك البيت، فإذا هو ممدود في وسطه ميتاً. دير مريحنا

دير صباعي

وهذا الدير إلى جانب تكريب، على دجلة. وهو كبير عامر كثير القلايات والرهبان، مطروق مقصود، لا يخلو من المتطربين والمتنزهين ولا من مسافر ينزله. ولكل من طرقه من الناس ضيافة قائمة على قدر المضاف لا يخلون بها. وله مزارع وغلات كثيرة وبساتين وكروم. وهو للنسطور. وعلى بابه صومعة عبدون الراهب، رجل من الملكية، بنى الصومعة ونزلها فصارت تعرف به. وهو الآن المستولي على الدير والقيم به وبمن فيه. وقد بنى إلى جانبه بناء ينزله المجتازون، فيقيم لهم الضيافة ويحسن لهم القرى. وقد قيل في هذا الدير أشعار ووصف طيبه ونزهته. فمن ذلك قول عمرو بن عبد الملك الوراق: أرى قلبي قد حنّا ... إلى دير مريُحنا إلى غيطانه الفيح ... إلى بركته الغنا إلى ظبي من الأنس ... يصيد الأنس والجنا إلى غصنٍ من البان ... به قلبي قد جنّا إلى أحسن خلق الله ... إن قدّس أو غنّا فلما انبلج الصّبح ... بزلنا بيننا دنّا فلما دارت الكأس ... أدرنا بيننا لحنا ولما هجع السمّا ... ر نمنا وتعانقنا وكان عمرو هذا من الخلعاء المجان، المنهمكين في البطالة والخسارة والاستهتار بالمرد والتطرح في الديارات: وله شعر كثير في المجون ووصف الخمر. وقد ذكرنا منه ما يليق بالكتاب. فمن شعره قوله: وحظيّة فيها العطب ... غاليت فيها بالعطب أتلفت فيها ما كسب ... ت وما جمعت من النشب ما زلت حتى نلتها ... في بيت مضطرب الخشب ومدامةٍ كرخيةٍ ... حمراء من ماء العنب عاقرتها في فتيةٍ ... ليسوا على دين العرب في معشر مهروا المجا ... نة في اللذاذة والطرب جعلوا المجانة سترةً ... للعاذلين على الرتب تمضي الصلاة عليهم ... والسكر منهم في العصب فإذا تنبه من تنبّ ... هـ كان منها في الطلب وإذا مضت صلواتهم ... صلوا جمادى في رجب ومن شعره في المجون أيضاً: أيها السائل عني ... لست من أهل الصلاح أنا إنسانٌ مريبٌ ... أشتهي نيك الملاح قد قسمت الدهر يو ... مين. لفسق ولراح لا أُبالي من لحاني ... لا أطيع الدهر لاح ومن مجونه أيضاً: إذا أنت لم تشرب عقاراً ولم تلط ... فأنت لعمري والحمار سواء ولم تمل بيتاً من قحابٍ ولم يبت ... فراشك أرضاً ما عليه غطاء ولم تك بالشطرنج عبداً مقامراً ... وفي النرد عند الخصل منك وفاء ولم تك في لعب النوى متماحكاً ... فتسلب مالاً أو يكون نواء ولم تتخذ كلباً وقوساً وبندقاً ... وبرج حمام لم يصبك رخاء ولم تدر ما عيش ولم تلق لذة ... فأنت حمارٌ ليس فيك مراء فإن أنت لم تفطن لعيش جهلته ... فدونكه ما دام فيك بقاء وإياك أن تنفك من سكرٍ طافح ... مساؤك صبحاً والصباح مساء ونك من لقيت الدّهر منهم ولا يكن ... عليك إذا أعطوك منك إباء دير صباعي وهذا الدير شرقي تكريت، مقابل لها، مشرف على دجلة. وهو نزه عامر، له ظاهر عجيب فسيح ومزارع حوله على نهر يصب من دجلة إلى الاسحاقي، وهو خليج كبير. فيقصد هذا الدير من قرب منه في أعياده وأيام الربيع وهو إذ ذاك منظر حسن، فيه خلق كثير من رهبانه وقسانه. ولبعض الشعراء، فيه: حنّ الفؤاد إلى دير بتكريت ... بين صبّاعي وقس الدير عفريت دير الأعلى

هذا الدير بالموصل في أعلاها، يطل على دجلة والعروب. وهو دير كبير عامر، يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرف. ويقال إنه ليس للنصارى دير مثله، لما فيه من أناجيلهم ومتعبداتهم. فيه قلايات كثيرة لرهبانه. وله درجة منقورة في الجبل يفضي إلى دجلة نحو المائة مرقاة، وعليها يستقى الماء من دجلة. وتحت الدير عين كبيرة تصب إلى دجلة، ولها وقت من السنة يقصدها الناس فيستحمون منها، ويذكرون أنها تبرىء من الجرب والحكة وتنفع المقرعين والزمنى. والشعانين في هذا الدير حسن، يخرج إليه الناس فيقيمون فيه الأيام يشربون. ومن اجتاز بالموصل من الولاة نزله. وقد قالت الشعراء في هذا الدير، ووصفت حسنه ونزهته. وللثرواني، فيه: إسقني الراح صباحا ... قهوة صهباء راحا واصطبح في الدير الأعلى ... في الشعانين اصطباحا إن من لم يصطبحها اليو ... م، لم يلق نجاحا ثم قلّدني من الزي ... تون والخوص وشاحا في الشعانين وإن لا ... قيت في ذاك افتضاحا عظّم الأعلام والره ... بان والصلب الملاحا واجعل البيعة والقص ... ر جميعاً مستراحا لا كمن يمزح بالشهر ... ة والخلع مزاحا أو دع الشهرة والزم ... كل من يهوى الصلاحا والزم الجمعة والبك ... رة فيها والرواحا وكان المأمون، اجتاز بهذا الدير في خروجه إلى دمشق، فأقام به أياماً. ووافق نزوله عيد الشعانين. فذكر أحمد بن صدقة، قال: خرجنا مع المأمون، فنزلنا الدير الأعلى بالموصل لطيبه ونزاهته؛ وجاء عيد الشعانين، فجلس المأمون في موضع منه حسن مشرف على دجلة والصحراء والبساتين، ويشاهد منه من يدخل الدير. وزين الدير في ذلك اليوم بأحسن زي. وخرج رهبانه وقسانه إلى المذبح، وحولهم فتيانهم بأيديهم المجامر قد تقلدوا الصلبان وتوشحوا بالمناديل المنقوشة. فرأى المأمون ذلك، فاستحسنه. ثم انصرف القوم إلى قلاليهم وقربانهم، وعطف إلى المأمون من كان معهم من الجواري والغلمان، بيد كل واحد منهم تحفة من رياحين وقتهم، وبأيدي جماعة منهم كؤوس فيها أنواع الشراب. فأدناهم، وجعل يأخذ من هذا ومن هذه تحية، وقد شغف بما رآه منهم، وما فينا إلا من هذه حاله. وهو في خلال ذلك يشرب والغناء يعمل. ثم أمر بإخراج من معه من وصائفه المزنرات، فأخرج إليه عشرون وصيفة كأنهم البدور، عليهن الديباج، وفي أعناقهن صلبان الذهب، بأيديهن الخوص والزيتون. فقال: يا أحمد، قد قلت في هؤلاء أبياتاً، فغنني بها، وهي: ظباء كالدنانير ... ملاحٌ في المقاصير جلاهنّ الشعانين ... علينا في الزنانير وقد زرفنّ أصداغاً ... كأذناب الزرانير وأقبلن بأوساط ... كأوساط الزنابير ثم أخرج نعم جاريته، وكانت وصيفة، فغنت: وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في كبدي بسهم نافذ فنعم ظلمتك فاصفحي وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ وطرب وشرب واستعاد الصوت دفعات، ثم قال لليزيدي: أرأيت أحسن مما نحو فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تشكر من خولك فيزيدك منه ويحفظه عليك. قال: بارك الله عليك فلقد ذكرت في موضع الذكرى. ثم أمر بثلاثين ألف درهم. فتصدق بها للوقت. وإلى جانب هذا الدير، مشهد عمرو بن الحمق الخزاعي، ومسجد بنته بنو حمدان يتصل بالقبر. ولعمرو بن الحمق صحبة، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وشهد معه مشاهده كلها. وكان معاوية طلبه دهراً، وهو ينتقل من مكان إلى مكان، ثم ظفر به بالموصل، وكان قد سقي بطنه واشتدت علته، فدل عليه عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي وهو ابن أخت معاوية، فكسبه في غار بالموصل وقتله، وحمل رأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الاسلام من بلد إلى بلد، ودفنت جثته في هذا الموضع.

دير يونس بن متى

وكانت امرأته آمنة بنت الشريد بدمشق، فحبسها معاوية حبساً طويلاً. فلما حمل رأس عمرو إليه، وجه به إلى آمنة إلى السجن، وقال للرسول: ألقه في حجرها واحفظ ما تقول. فلما أتاها، ارتاعت له وأكبت تقبله. ثم قالت: واضيعتا في دار هوان، نفيتموه طويلاً وأهديتموه إلي قتيلاً. فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا له غير ناسية، قل لمعاوية: أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك! فعاد الرسول بما قالت، فأمر بها، فأحضرت، وعنده جماعة فيهم إياس بن شرحبيل وكان في شدقيه نتوء لعظم لسانه. فقال معاوية لها: يا عدوة الله! أنت صاحبة الكلام؟ قالت. نعم، غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له. وقد، لعمري، اجتهدت في الدعاء وأنا اجتهد إن شاء الله، والله من وراء العباد وإن الله بالنقمة من ورائك. فأمسك معاوية. فقال إياس: اقتل هذه، فما كان زوجها بأحق بالقتل منها. فقالت: ما لك، ويلك، بين شدقيك جثمان الضفدع، وأنت تأمره بقتلي كما قتل بعلي بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين. فضحك معاوية والجماعة وبان الخجل في إياس، ثم قال لها معاوية: أخرجي عني فلا أسمع بك في شيء من الشام! قالت: سأخرج عنك، فما الشام لي بوطن، ولا أعرج فيه على حميم ولا سكن. ولقد عظمت فيه مصيبتي، وما قرت به عيني، وما أنا إليك بعائدة ولا لك حيث كنت حامدة. فأشار إليها بيده أن أخرجي! فقالت: عجباً لمعاوية يبسط علي غرب لسانه ويشير إلي ببنانه. فلما خرجت قال معاوية: يحمل إليها ما يقطع به لسانها وعني ويخف به إلى بلدها. فقبضت ما أمر لها به، وخرجت تريد الكوفة، فلما وصلت إلى حمص توفيت بها. دير يونس بن متى وهذا الدير ينسب إلى يونس بن متى النبي صلى الله عليهن وعلى اسمه بني. وهو في الجانب الشرقي من الموصل، بينه وبين دجلة فرسخان. وموضعه يعرف بنينوى، ونينوى هي مدينة يونس عليه السلام. وأرضه كلها نوار وشقائق. وله في أيام الربيع ظاهر حسن مونق، وهو مقصود. وتحت الدير، عين تعرف بعين يونس. فالناس يقصدون هذا الموضع لخلال: منها التنزه واللعب، ومنها التبرك بموضعه، ومنها الاغتسال من العين التي تحته. وكان اليهود، في أيام الحسين بن عبد الله بن حمدان، دسوا واحداً منهم فدخل الهيكل وأحدث فيه، واتصل الخبر إلى ابن حمدان، فجمع كل يهودي بالموصل، فصادرهم على مال كثير أخذه منهم. ولأبي شاس منير، فيه: يا دير يونس، جادت صوبك الدّيم ... حتى تُرى ناضراً بالنور تبتسم لم يشف في ناجر ماءٌ على ظمأ ... كما شفى حرّ قلبي ماؤك الشبم ولم يحلك محزونٌ به سقمٌ ... إلا تحلل عنه ذلك السقم استغفر الله من فتك بذي غنج ... جرى علي به في ربعك القلم وكان أبو شاس هذا، من أطبع الناس، مليح الشعر، كثير الوصف للخمر، ملازماً للديارات، متطرحاً بها، مفتوناً برهبانها، ومن فيها. فمن شعره الذي وصف فيه الخمر وملح، قوله: أعارك الحلم والوقار ... ثوباً من الصمت لا يعار فقم إلى الخمر فامتحنها ... إذا استقرّت بك الديار وغنّت الطير في رياضٍ ... زيّن عيدانها اخضرار من التي صانها ملوكٌ ... هم هم السادة الكبار إذا بدت والدجى مقيمٌ ... صار مكان الدجى نهار كأنهم والمدام ركبٌ ... يؤمهم في الظلام نار ومن مليح شعره: قوله: لا تعدلنّ عن ابنة الكرم ... بأبي، ففيها صحة الجسم واعلم بأنك إن لهجت بغيرها ... هطلت عليك سحائب الهمّ وإذا شربت فكن لها متيقظاً ... حتى تبين طيبة الطعم لو لم يكن في شربها من راحةٍ ... إلا التخلّص من يد الغم وقال أيضاً: أعاذل، ما على مثلي سبيل ... وعذلك في المدامة مستحيل أعاذل، لا تلمنا في هواها ... فإن عتابنا فيها طويل كلانا يدعي في الخمر علماً ... فدعني لا أقول ولا تقول أليس مطيتي حقوي غلام ... ووصل أناملي كأسٌ شمول

دير الشياطين

إذا كانت بنات الكرم شربي ... ونقلي وجهه الحسن الجميل أمنت بذين عاقبة الليالي ... وهان علي ما قال العذول ومعتذرٍ إلي بشطر عينٍ ... له من كسر ناظرها رسول صرفت الكأس عنه حين غنّى ... وإن لسانه منها ثقيل أرحني قد ترفعت الثريّا ... وغالت كلّ ليلي عنك غول دير الشياطين وهذا الدير غربي دجلة، من أعمال بلد، بين جبلين، في فم الوادي. له منظر حسن وموقع جليل. وهواؤه رقيق لطيف، وقلاليه عامرة كثيرة الأشجار، وأرضه كثيرة الرياض. وله سور يحيط به، ومشترف على سطح هيكله يشرف على دجلة والجبل. والناس يطرقونه للشرب فيه، وهو من مطارح أهل البطالة ومواطن ذوي الخلاعة. وللخباز البلدي، فيه: رهبان دير سقوني الخمر صافية ... مثل الشياطين في دير الشياطين مشوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين وكان عبادة، لما نفاه المتوكل إلى الموصل، يمضي إلى دير الشياطين فيشرب فيه، ولم يكن يفارقه. فهوي غلاماً من الرهبان بالدير، وكان من أحسن الناس وجهاً وقداً، فهام به وجن عليه ولزم الدير من أجله، ولم يزل يخدعه ويلاطفه ويعطيه إلى أن سلخ الراهب من الدير وخرج معه. وفطن رهبان الدير بعبادة وما فعل من إفساده الغلام، فأرادوا قتله بأن يرموه من أعلى الدير إلى الوادي. ففطن بهم وهرب، فلم يعد إلى الموضع. وكان عبادة، من أطيب الناس وأخفهم روحاً وأحضرهم نادرة. وكان أبوه من طباخي المأمون، وكان معه، فخرج حاذقاً بالطبيخ. ثم مات أبوه، فتخنث وصار رأساً في العيارة والخلاعة. فوصف للمأمون، وهو إذ ذاك حدث، فاستحضره. فلما وقف بين يديه تنادر وحاكى ومازح، فاستطابه المأمون. فقال: أمضوا به إلى زبيدة لتراه وتضحك منه، فمضوا به إليها، فلما دخل عليها وجدها على برذعة تاختج وعلى رأسها جارية تذب بمذبة خوص. فقال عبادة: يا ستي، كأنك من ناطف البركة. فضحكت منه واستطابته، فأقام عندها أياماً، فوصلته وكسته وكانت لا تكاد تصبر عنه. قال جلس المأمون في بعض الأيام، وأمر بأن تحضر اللحوم والحيوان وما يحتاج إليه من آلة الطبيخ وقال للندماء: ليطبخ كل واحد منكم قدراً. وطبخ هو أيضاً قدراً وطبخ أخوه أبو إسحق قدراً، ففاحت لها روائح غلبت على روائح قدورهم طيباً وعطرية. فعجبوا من ذلك، وعبادة حاضر، فحسده. فقال: إن أردت أن تزيد في طيب قدرك، فصب فيها سكرجة كامخ. فأخذ سكرجة كامخ كبر وصبها في القدر، فساعة صب السكرجة، فاحت لها روائح منتنة. فقال المأمون: ويلكم! ما هذه الرائحة المنتنة؟ قال عبادة: رائحة قدر أخيك الطباخ! قال ماذا طرحت فيها حتى عادت بعد الطيب إلى هذه الرائحة؟ فقال سكرجة كامخ كبر أشار بها عبادة. فقال أما علمت أنك إذا أدخلت جسماً ميتاً على جسم حي أفسده؟ فحقدها المعتصم على عبادة. فلما ولي المعتصم، أمر بقتله، ثم قال: ما لهذا الكلب من القدر ما يقتل به، ولكن أنفوه. فنفي. فلما ولي الواثق رده، فكان معه ثم مع المتوكل بعده. ثم غضب عليه المتوكل فنفاه إلى الموصل. قال أبو حازم الفقيه، وقد جرى ذكر عبادة: ما كان أظرفه. قيل: وكيف؟ قال: كان المتوكل نفاه، فلما حصل بالموصل، تبعه غرماؤه وطالبوه، وقدموه إلى علي بن إبراهيم الغمري وهو قاضي الموصل، فحلف لواحد ثم لآخر ثم لآخر. فقال علي بن إبراهيم: ويحك! ترى هؤلاء أجمعوا على ظلمك؟ فاتق الله وارجع إلى نفسك. فإن كانت عسرة كان بإزائها نظرة. قال: صدقت، فديتك! ليس كلهم ادعى الكذب ولا كلهم ادعى الصدق، وإنما دفعت بالله ما لا أطيق. ثم رده المتوكل. وكان من أحضر الناس نادرة وأسرعهم جواباً. وقال المتوكل لعبادة ذات يوم: دع التخنث حتى أزوجك. قال: أنت خليفة أو دلالة؟ وقال له ابن حمدون: يا عبادة، لو حججت لاكتسبت أجراً ورآك الناس في مثل هذا الوجه المبارك. فقال: اسمعوا، ويلكم، إلى هذا العيار: يريد أن ينفيني من سامراء على جمل! وقال له دعبل يوماً: والله لأهجونك! قال: والله لئن فعلت لأخرجن أمك في الخيال! قال سعد بن إبراهيم الكاتب: قلت له يوماً: يكون مخنث بغير بغاء؟ قال: نعم. ولكن لا يكون مليح. يكون مثل قاضي بلا دنية!

عمر الزعفران

وقال يوماً لأبي حرملة المزين: حذقني. قال: يا مخنث، أضع يدي على وجهك وأنا أضعها على وجه أمير المؤمنين؟ قال: فأنت أيضاً تضعها على باب أستك كل يوم خمس مرات! قال: دخل عبادة يوماً الحمام بغير مئزر متبذلاً غير محتشم، وفي الحمام شيخ جليل. فقال: ويحك! أما تستحي؟ استتر بيدك! فقال: أيش أستر؟ إنما هي هدية مكة: مقلتان ومسواك! قال علي بن يحيى المنجم: قال عبادة يوماً للمتوكل، ويحيى بن أكثم القاضي حاضر: يا أمير المؤمنين، قل ليحيى يعلمني فرائض الصلب. قال المتوكل ليحيى: هو ذا تسمع. فقال، وقد علم أن المتوكل غمز عليه عبادة ليتنادر به: سأل محالاً يا أمير المؤمنين. قال: وكيف؟ قال: لأن الشاعر يقول: وإن من أدبته في الصبى ... كالعود يسقى الماء في غرسه وهذا شيخ لا ينجع فيه التعليم. ولكن إن كان له ابن حدث ذكر فليأتني به، أعلمه. فنظر إليه عبادة وقال: يا قاض، لو كنت من أهل صناعتنا، ما قوي بك أحد. فقال: لست من أهل صناعتك وما بأحد علي قوة. قال: وخرج عبادة يوماً في السحر إلى الحمام، فلقي غلاماً من أولاد الأتراك، فأعطاه عشرة دراهم وقال: إقطع أمر عمك! فبينا الغلام فوقه خلف الدرب، إذ أشرفت عجوز من غرفة لها، فرأتهما، فصاحت: اللصوص! فقال عبادة: يا عجوز السوء! النقب في استي، صياحك أنت من أيش؟ وذكر أبو حازم القاضي، قال كنت مقيماً بدمشق من ابن مدبر، وكان لا يرد عليه كتاب إلا أقرأنيه. فورد عليه كتاب سعيد الرسح خليفة له بسر من رأى، فقرأه وتبسم ولم يدفعه إلي. فسألته عما فيه؟ قال: كتب إلي سعيد يذكر أنه كان واقفاً بباب المتوكل، إذ خرج موسى بن عبد الملك وهو متغير الوجه، فقال لغلامه: احمل إلى عبادة ألف درهم وقل: لا تعاود أن تكثر فضولك. فسألت عن الخبر، فقيل: دخل موسى على المتوكل وهو جالس على بركة السباع، وعبادة بين يديه يتكلم ويعبث. فقال المتوكل: يا موسى، قد صدع رأسي عبادة، فما تريحني منه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إطرحه في بركة الأسد! فقال عبادة: نعم، إطرحني أنا في بركة الأسد، واحمله هو إلى أسد دمشق حتى يستخرج لك الأموال منه. فتغير موسى وقامت عليه القيامة، وبعث إلى عبادة يمال أسكته به. عمر الزعفران هذا العمر بنصيبين، مما يلي الجانب الشرقي منها، في الجبل، والجبل مشرف على البلد. وهو من الديارات الموصوفة والمواقع المذكورة بالطيب والحسن. وحوله الشجر والكروم، وفيه عيون تتدفق. وهو كثير القلايات والرهبان. وشرابه موصوف، يحمل إلى نصيبين وغيرها. وليس يخلو من أهل القصف واللعب، فهو وسائر بقاعه معمورة بمن يطرقها. وبهذا الجبل ثلاثة ديارات أخر، في صف واحد، أحسن شيء منظراً وأجله موقعاً، وهي: عمر الزعفران، ومر أوجي ومر يوحنا. والعمر الكبير بالموضع أحد متنزهات الدنيا. وأسفل الجبل الهرماس، وهو نهر نصيبين، وعيون تتدفق من أصل الجبل، ويعرف الموضع برأس الماء. وهذا الجبل أول طور عبدين، وهو على ثلاثة فراسخ من نصيبين. ويجري هذا النهر بين جبلين. وعلى حافته الكروم والشجر، فإذا وصل إلى نصيبين افترق فرقتين، فمنه ما يجتاز بباب سنجار، فيسقي ما هناك من البساتين ويصب في الخابور، ومنه ما يعدل إلى شرقي البلد فيدير أرحية هناك ويسقي البساتين أيضاً وما هناك. ولمصعب الكاتب، في دير عمر الزعفران: عُمرت بقاع عمر الزعفران ... بفتيان غطارفةٍ هجان بكل فتىً يحن إلى التصابي ... ويهوى شرب عاتقة الدنان بكل فتىً يميل إلى الملاهي ... وأصوات المثالث والمثاني ظللنا نُعمل الكاسات فيه ... على روض كنقش الخسرواني وأغصان تميل بها ثمارٌ ... قريبات من الجاني دواني تثنّيها الرياح كما تثنّى ... بحسن قوامه آوي جناني وأنهارٍ تسلسل جاريات ... يلوح بياضها كاللؤلؤان وأطيار إذا غنّتك أغنت ... عن ابن المارقي وعن بنان نجاوبها إذا ناحت بشجو ... بقهقهة القواقز والقناني وغزلان مراتعها فؤادي ... شجاني منهم ما قد شجاني وبنوهم ويوحنّا وشعيا ... ذوو الاحسان والصور الحسان

رضيت بهم من الدنيا نصيبي ... غنيت بهم عن البيض الغواني أُقبل ذا وألثم خد هذا ... وهذا مسعد سلس العنان فهذا العيش لا حوضٌ ونوى ... ولا وصف المعالم والمغاني وكان مصعب هذا، من أشد الناس تهتكاً، وأكثرهم خلاعة ومجوناً واستهتاراً بالمرد، وتطرحاً في الحانات والديارات. وأشعاره كلها في الغلمان، لا تعدو هذا المعنى إلى غيره. ونحن نورد من ذلك ما يستطرف ويستملح من معانيه. ومن شعره، قوله: أنا الماجن اللّوطي ديني واحد ... وإني في كسب المعاصي لراغب ألوط ولا أزني فمن كان لائطاً ... فإني له حتى القيامة صاحب أدين بدين الشيخ يحيى بن أكثم ... وإني عن دين الزناة لناكب ومثل قضيب البان في زي شاطرٍ ... إذا ما بدا للطرف فالعقل عازب له نخرةٌ، إن قلت: صلني بزورة ... تشيب لها يا ابن الكرام الذوائب دعوت له من قوم لوطٍ عصابةً ... تذل لهم في النائبات المصاعب فقال، وقد غصّ الزيار بحلقه ... مقالة من أعيت عليه المذاهب كريمٌ أصابته من الدهر نبوةٌ ... وأي كريم لم تصبه النوائب ومن شعره أيضاً: نصيحة من حوى أُذناً وطرفاً ... أتتك، وسوف تسعد إن فعلتا عليك إذا لقيت بحسن بشر ... وكن من أكثر الثقلين سمتا ولا تخل الأصابع من عقودٍ ... وغتّ الناس بالآثار غتّا وعظهم وانههم عن منكرات ... ولا تدع البكاء إذا وعظتا وواخ أبا الذي تهواه كيما ... يقال أخو أبيه وقد ظفرتا وإن أبصرت شرطك بين قوم ... ولم تصبر، فسارق إن نظرتا وإن فطنوا، فأطرق ثم فكّر ... كأنك لم تكن نظراً أردتا ودار المرد منك بحسن لطفٍ ... ولا تدع الدبيب إذا سكرتا وصاتي، يا سعيد، فلا تدعها ... فأنت من الفلاسف، إن قبلتا وقال أيضاً: هجرت مجوني فاسترحت من العذل ... وكنت وما لي في التمادي من مثل فيا ابن يمان هل سمعت بعاشق ... يُعدّ من النساك في من مضى قبلي ألم تراني حين أغدو مسبحاً ... بسمت أبي ذرّ وفسق أبي جهل وأخشع في مشيي وأصرف ناظري ... وسجادتي في الوجه كالدرهم البغلي وآمر بالمعروف لا من تقية ... وكيف وقولي لا يصدّقه فعلي أقول إذا لاقيت قوماً ألا اتقوا ... ولو عرفوا حالي لحلّ لهم قتلي ومحبرتي رأس الرياء ودفتري ... ونعلي بالأسحار أو رائحاً رجلي أؤمُّ فقيهاً ليس همي فقهه ... ولكن لديه المرد مجتمعي الشمل فيا ربّ مغرور غررت بدفتري ... فلما ثناه الحزم عارضه فعلي وكم أمرد قد قال والده له: ... عليك بهذا إنه من ذوي العقل يفرّ به من أن يعاشر شاطراً ... كمن فرّ من حر الجراح إلى القتل فأوسعته نيكاً ولم ألف عاجزاً ... وكنت له في الخفض واللين كالبعل ولينته بالرفق من بعد عزةٍ ... كما ليّن الرواض مستصعب الابل وقال أيضاً: وقائلة، ترجو صلاحي، إلى متى؟ ... فقلت لها: ما دام في الأرض أمرد فقالت: لقد أنضيت في الغيّ جاهداً ... ركائب فسق أنت فيها تردد أتبكي لنشءٍ بعد نشءٍ فما أرى ... بكاءك حتى ينفد الدهر ينفد أعاذل، لولا المرد أصبحت عابداً ... هم أهلكوا ديني عليّ وأفسدوا دعاني أناسٌ زاهداً حين أبصروا ... خشوعي ألا في الزهد أصبحت أزهد نصبت لهم تحت الخشوع مكايدي ... وللرفق أحياناً عواقب تحمد تشّبهت بالزّهاد والحرب خدعة ... وراءيت بالتسبيح والكفّ تعقد وقال أيضاً:

عمر أحويشا

كل حياةٍ بلا دين ففاسدةٌ ... والمرد يا ابن يمان أفسدوا ديني كم توبةٍ بعدها أخرى استتبت بها ... فليس دهري على ديني بمأمون لو امنتني الذي نفسي تخوّفه ... منهم ببغداد يوماً عذت بالصين وقد سألت خبيراً من تجارهم ... فظلّ منه بحسن الوصف ينبيني فقال: بالصين ألوانٌ تلين لها ... صلب القلوب وأمرٌ ليس بالدون وقائل: عذ ببيت الله، قلت له: ... من لي من المرد في الاحرام ينجيني إذا بدت كثبٌ ليثت بها أزرٌ ... وقفت نصباً لمن باللحظ يرميني من لي إذا زاحموني في طوافهم ... هناك يبدي ضميري كل مكنون ما لي من المرد إلا الله يعصمني ... ربّ المثاني وطه والطواسين قد كنت في النسك قبل اليوم منغمساً ... يشوب حبي لهم سمت ابن سيرين أدنوا بعين تقي حشو مقلتها ... حبٌّ لكل نقي الخد ذي لين فالآن تبت، فحسبي منهم نظري ... استغفر الله، والتقبيل في الحين وقال أيضاً: إني بكيت لجسمي في تنقُّصه ... لم أبك رسماً ولا ربعاً ولا دارا وشاطر ذي اختيالٍ في تكرّهه ... كالغصن يألف فسّاقاً وشطارا ما زلت عنه بمكري والخداع إلى ... أن صار عرفانه للحق إنكارا فاتلت عقل الفتى بالكأس أقرعها ... بالخمر أتبعها شعراً وأسمارا حتى إذا ما استعار الليل مهجته ... وقبض النوم أسماعاً وأبصارا دببت أمشي على الكفين ألمسه ... كمشي مسترقٍ للسمع أسرارا وكرّ يمشق في قرطاسه قلمي ... والليل ملق على الآفاق أستارا فقال لما انجلى عن عينه وسنٌ ... وقد رأى تكة حلت وآثارا: يا راقد الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا وله أيضاً: ومغفٍ على الكأس من سكره ... تبذّلت ما صان من ظهره وقبلته مائتي قبلة ... ولم أرض إلا على ثغره وأعزز علي بما سرني ... من الاقتدار على أمره فلما تنبّه أبصرته من ... الغيظ يخرج من قشره وقد كان في سقيه كادني ... ولكنه رد في نحره وله أيضاً: يا أيها المرد قد نصحت لكم ... خافوا من الله فضل نقمته إذا سطا أمرد وتاه على ... عاشقه كان غبّ سطوته ان يبعث الله في محاسنه ... شعراً فيطفي ضياء بهجته عقوبة الأمرد الذي كثرت ... ذنوبه في خروج لحيته ينكره الناس بعد معرفةٍ ... وقد تواصوا بطول جفوته هذا نبيّ الاله قبلكم ... قد أنكرته عيون إخوته وبعده أين حسن وجه أبي ... بكر وألحاظه بفتنته قد عقرب الصدغ فوق وجنته ... على بياضٍ من تحت حمرته صار على الناس بعد عزته ... مثل قعيس بباب عمته عمر أحويشا وتفسير أحويشا بالسريانية الحبيس. وهذا العمر بسعرت، وسعرت مدينة كبيرة من ديار بكر، بقرب أرزن، والعمر مطل على أرزن. وهو كبير عظيم، فيه أربعمائة راهب في قلالي. وحوله بساتين وكروم. وهو في نهاية العمارة وحسن الموقع وكثرة الفواكه والخمور. ويحمل منه الخمر إلى المدن المذكورة. وبقربه عين عظيمة تدير ثلاث أرحاء. وإلى جانبه نهر يعرف بنهر الروم. وهذا العمر مقصود من كل موضع للتنزه فيه والشرب. والخلعاء والمتطربون أغلب عليه من أهله. وللبادي الشاعر، فيه: وفتيان كهمّك من أُناس ... خفافٍ في الغدو وفي الرواح نهضت بهم، وستر الليل ملقىً ... وضوء الصبح مقصوص الجناح نؤمُّ بدير أحويشا غزالاً ... غريب الحسن كالقمر اللّياح

وكابدنا السُّرى شوقاً إليه ... فوافينا الصباح مع الصباح نزلنا منزلاً حسناً أنيقاً ... بما نهواه معمور النواحي قسمنا الوقت فيه لاغتباق ... على الوجه المليح ولاصطباح وظللنا بين ريحانٍ وراح ... وأوتار تساعدنا فصاح وساعفنا الزمان بما أردنا ... فأبنا بالفلاح وبالنجاح وكان هذا اللبادي يكنى أبا بكر أحمد بن محمد، من طياب الناس وملاحهم، وذوي المجانة والخلاعة. وسمي اللبادي، لأنه كان يلبس أبداً على ثيابه لباداً أحمر. ذكر أبو علي الأوارجي، أنه كان يتقلد أردبيل. قال: فقسطت في وقت من الأوقات عشرين ألف دينار بالعدل فيهم على قدر أحوالهم. فكان في من لحقه التقسيط اللبادي هذا. فكتب باسمه عشرون ديناراً. قال: فبينا أنا جالس في الديوان استخرج، إذ دخل على رجل قد طين وجهه بطين أحمر، وعليه لباد أحمر وعمامة حمراء وبيده عكاز أحمر وفي رجليه خفان أحمران. فسلم ووقف، وبدأ ينشد في قصيدة عملها، وقال فيها: لئن كان الأمير به افتقارٌ ... إلى الشعراء في كرم النصاب لقد أودت به الأيام حتى ... لقد رام العراق من الكلاب فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو بكر اللبادي الشاعر. فرفعته ثم سألته عن قصيدته في أحمد بن الحسن الماذرائي وخبره معه. فقال لي: قصدته، فوجدته سائراً نحو قزوين، فوقفت له على طريقه خلف حجر، بهذا الزي الذي تراه عليّ. فلما أن دنا مني خرجت إليه. فقلت: كما ترى صيرني. فقال: ماذا؟ فقلت: ........... ... قطعي قفار الدّمن أقطعها طوراً وطو ... راً بالسرى تقطعني أسري على سبّاقة ... في سيرها لم تخن لا تعرف الذلّ ولا ... قيدت بثني الرسن أسعى بها معتسفاً ... إليك يا ابن الحسن مستعدياً فأعدني ... على صروف الزمن فقد، وربّ الرّكن ... أوهى لي مشيي ركني كم جرعة جرّعني ... وغصةٍ غصّصني كأنما يطلبني ... في مرّه بالاحن فالحمد لله الذي ... أدال من دهري الدّني يا ذا الذي منه ثما ... ر الجود يجني المجتني جودك من أعلى الذرى ... يدعو بصوتٍ معلن حيّ على ابن الحسن ... حي على البدر السني حي على من جوده ... كصوب ماء المزن فجئت أسعى والذي ... من عرشه وفّقني لحبّ آل المصطفى ... وحبهم أنقذني دونكها قوافياً ... أجلت فيها فطني لبسكها أحسن من ... لبس نسيج عدني قال: فأمر لي بعشرة آلاف درهم، وحملني على دابة بسرجه ولجامه. قال أبو علي: فوقعت إلى المستخرج بإعطائه براءة بما قسط عليه، فأخذ البراءة وشكرني وانصرف. ومدح اللبادي أبا القاسم يوسف بن ديوداذ بن أبي الساج، فصار إلى داره، فلما دخل الدهليز، قال له الحاجب، وأنكر زيه ولباده: أي شيء أنت؟ قال: شاعر، وقد مدحت الأمير. فقال لبعض من بين يديه: زبطره! فزبطره، وانصرف، وكتب إلى أبي بكر محمد بن أحمد كاتب الأفشين: مدحت الأمير أبا قاسم ... ونفسي لجدواه مستنظره بمدح كوشي رياض الربيع ... غلّسه الطلّ إذ باكره وقالوا: همام جزيل البناء ... جزيل الأيادي ولما أره فلما انتهيت إلى داره ... جزيت على مدحه زبطره فأنكرت جائزتي منهم ... وكانت، لعمر أبي، منكره وأمكنت نفسي من الحادثات ... وأيقنت أني صريع الشره فبكّ على الشعر والمكرما ... ت وناد بهنّ من المقبره فقد أسخن الله عين امرىء ... يقال له اليوم ما أشعره فهل، يا محمد، من نائل ... يبل اللهاة أو الحنجره فمن يفعل الخير خيراً يره ... ومن يفعل الشر شراً يره

دير فيق

فقل أبو بكر: أي والله وكرامة! ووجه إليه توقيعاً بخمسين ديناراً إلى الجهبذ. فأبى الجهبذ أن يقبض التوفي إلا أن يقيم عنده، فأقام عنده ودفع إليه الخمسين ديناراً وخمسة من عنده، ثم أوصله أبو بكر إلى أبي القاسم يوسف، وحدثه حديثه. فضحك منه وسمع شعره، وأعطاه وحمله وكساه. دير فيق وهذا الدير في ظهر عقبة فيق فيما بينها وبين بحيرة طبرية، في جبل يتصل بالعقبة، منقور في الحجر. وهو عامر بمن فيه ومن يطرقه من النصارى لجلالة قدره عنده، وغيرهم يقصده للتنزه والشرب فيه. والنصارى يزعمون أنه أول دير عمل للنصرانية، وأن المسيح صلى الله عليه، كان يأوى إليه، ومنه دعا الحواريين. وفيه حجر ذكروا أن المسيح كان يجلس عليه. فكل من دخل الموضع كسر قطعة من ذلك الحجر تبركاً به. وعمل هذا الدير في الموضع على اسم المسيح عليه السلام. ولأبي نواس، يذكره: بحجّك قاصداً ماسرجسان ... فدير النوبهار فدير فيق وهي قصيدة طريفة، يخاطب فيها غلاماً نصرانياً كان يهواه. أولها: بمعمودية الدير العتيق ... بمطرنيّها بالجاثليق بشمعون بيوحنا بعيسى ... بما سرجيس بالقس الشفيع بميلاد المسيح بيوم دنحٍ ... بباعونا بتأدية الحقوق بأشموني وسبع قدّمتهم ... وما حادوا جميعاً عن طريق بمارت مريم وبيوم فصح ... وبالقربان والخمر العتيق وبالصّلبان ترفعها رماحٌ ... تلألأ حين تومض بالبروق بحجك قاصداً ما سرجسان ... بدير النوبهار فدير فيق بهيكل بيعة الله المفدّى ... وقسان أتوه من سحيق وبالناقوس في البيع اللواتي ... تقام بها الصلاة لدى الشروق بمريم بالمسيح وكل جرٍ ... حواريّ على دينٍ وثيق برهبان الصوامع في ذراها ... أقاموا ثم في جهدٍ وضيق بإنجيل الشعانين المفدّى ... وشمعلة النصارى في الطريق وبالصّلب العظيمة حين تبدو ... وبالزنّار في الخصر الدقيق وبالحسن المركّب فيك إلاّ ... رحمت تحرّقي وجفوف ريقي أما والقرب من بعد التنائي ... يمين فتىً لقائله عشيق لقد أصبحت زينة كل دير ... وعيداً مع جفائك والعقوق وأذّن عاشقوك إلى النصارى ... من الاسلام طرّاً بالمروق دير الطور والطور، جبل مستدير مستطيل، واسع الأسفل مستدق الأعلى، لا يتعلق به شيء من الجبال، وليس إليه إلا طريق واحد. وهو فيما بين طبرية واللجون، مشرف على الغور ومرج اللجون والدير في نفس القلة، وعين تنبع بها، وحوله كروم تعصر، فالشراب عندهم كثير. ويعرف أيضاً بدير التجلي، لأن المسيح، صلى الله عليه، على زعمهم تجلى لتلامذته بعد أن رفع، حتى أراهم نفسه وعرفوه. والناس يقصدونه من كل موضع فيقيمون به ويشربون فيه. فموقعه حسن، وهو من المواضع الطيبة. ولمهلهل بن يموت بن المزرع، فيه: نهضت إلى الطور في فتيةٍ ... سراع النهوض إلى ما أُحب كهمّك من فتيةٍ أنفقوا ... تلادهم في سبيل الطرب كرام الجدود، حسان الوجوه ... كهول العقول، شباب اللّعب فأيّ زمانٍ بهم لم يسرّ ... وأيّ مكانٍ بهم لم يطب أنخت الركاب على ديره ... وقضّيت من حقه ما يجب وأنزلتهم وسط أعنابه ... أُسقيهم من عصير العنب وأحضرتهم قمراً مشرقاً ... تميل الغصون به في الكثب نحثّ الكؤوس بأهزاجه ... ومزموم أرماله بالعجب وما بين ذاك حديثٌ يروق ... وخوضٌ لهم في فنون الأدب فما شئت من مثل سائر ... ومن خبر نادرٍ منتخب فيا طيب ذا العيش لو لم يزل ... ويا حسن ذا السّعد لو لم يغب

وكان مهلهل، من المطبوعين في الشعر، والمنهمكين في الخلاعة واللعب والتطرح في مواطن اللهو والطرب، ملازماً للحانات والديارات. ونحن نورد من شعره ما يليق بكتابنا هذا. فمن مليح شعره في وصف الرياض والحث على الشرب، قوله: لجون الهوى وهبت جناني ... فدعاني، يا أيها العاذلان طربي زائد ففي حرّ من قد ... لامني في خلاعة أو نهاني قد أبانت لي الرياض من الزه ... ر غريب الصنوف والألوان وبدا النرجس المفتح يرنو ... من جفون الكافور بالزعفران كعيونٍ قد حدّقت باهتاتٍ ... ناظراتٍ إلى وجوهٍ حسان ينثنى زبرجد القضب منه ... طرباً للّجين والعقيان وقف الطلّ في المحاجر منها ... ثم مات فانهلّ مثل الجمان يا غلام اسقني فقد ضحك الو ... قت وقد تمّ طيب هذا الزمان أدن مني الدنان، صف الأباريق، استحث الكؤوس، صف القناني بادر الوقت واغتنم فرص العيش ولا تكذبن فالعمر فاني ومن مليح شعره في هذا المعنى، قوله: زمان الرياض زمانٌ أنيق ... وعيش الخلاعة عيشٌ رقيق وقد جمع الوقت حاليهما ... فمن ذا يفيق ومن يستفيق أيا من هو السّؤل لي والمنى ... ومن هو بالحبّ مني حقيق أدر لحظ عينك أمرجه في ... مروج الرياض فكلٌّ يروق فقاعٌ نثير وماءٌ نمير ... وروضٌ نضيرٌ وزهرٌ أنيق له نسخٌ حّررت فاستنارت ... فخطٌّ جليل ومعنىً دقيق يضاحك وجهك وجهٌ عشيق ... ويلقى مشمك مسكٌ فتيق إذا ضاحك الزهر زهر الرياض ... فكيف الخلاص وأين الطريق بهارٌ بهرت به غيره ... على نرجس وشقيق شفيق فذا عاشقٌ وجلٌ خائفٌ ... وذا خجلٌ وكذاك العشيق تروقك منه عيون تروق ... بألحاظها وخدود تشوق مدان يحملن طل النّدى ... فهاتيك تبرٌ وهذي عقيق تضمّن أوراقها درّه ... وينثر منه الذي لا يطيق يميل النسيم بأغصانها ... فبعضٌ نشاوى وبعض مفيق فبادر بنا حادثات الزمان ... فوجه الحوادث وجهٌ صفيق ومن مليح شعره، قوله: أعد شربك الكأس فيما تعيد ... وساعد فقد شملتنا السعود وحثّ الصبوح لضوء الصباح ... فإن الحوادث عنا رقود أما نشكر الفعل من يومنا ... ونبهى بما نحن فيه خلود سماءٌ تجود وروض نضيد ... وزهر جديدٌ وغصن يميد وندٌّ يفوح وراح تريح ... وساقٍ مليحٌ وناي وعود وصوت يشوق وزمر رفيق ... وعيش أنيق وجدٌّ سعيد أدام الاله لنا عيشنا ... ولا نال منّا مناه الحسود وقال في هذا المعنى، وتغني فيه: قد قدمت للسرور أثقال ... وحثّ شهر الصيام شوال وأقبل الغيم لابساً حللاً ... مسكية ما لهنّ أذيال ودبّج الأرض روضها فغدا ... ينشر فيها والأرض تختال واهتز عودٌ وحنّ من طربٍ ... نايٌ وعبّت بالراح أرطال وبوعد الخوف من محاذرةٍ ... وقربت للقلوب آمال أيامنا في الحياة عارية ... تحثها للفناء آجال فاغتنموا فرصة الزمان ولا ... تفرّطوا فالزمان مغتال ومما ملح فيه، قوله: زمن كالشباب أو كالتراضي ... بعد طول الصدود والاعراض ألقح الغيث كل أرضٍ فأضحت ... في ولادٍ وبعضها في مخاض يا غلام اسقني فقد ضحك العي ... ش إلينا وهش بعد انقباض وأرى لؤلؤ الحباب يباري ... لؤلؤ الطلّ فوق زهر الرياض وقال أيضاً: استودع الله من لم يزر عن نظري ... لما مضى خاطراً والردف يجذبه

دير البخت

يحكيه من حركات الغصن أشكلها ... ومن نسيم ذكي المسك أطيبه وقال أيضاً: وبديع يكلّ عن وصفه العق ... ل لافراط حيرة الأبصار فهو كالخاطر الذي دقّ معنا ... هـ فأضحى يجول في الأفكار وقال أيضاً: كأن أجفانه من جسم عاشقه ... قد ركبت فهي في الأسقام تحكيه في صدغه عقربٌ للجسم لادعة ... درياق لدغتها في الريق من فيه وقال في غلام نصراني يحبه: شدّ زنّاره على دقة الخص ... ر وشدّ القلوب في الزنّار وأسال الأصداغ فوق عذارٍ ... أنا من عشقه خليع العذار وبدت منه طرة تذكر النا ... ظر ليلاً يلوح فوق نهار وهو أبو نضلة مهلهل بن يموت بن المزرع بن يموت بن موسى بن حكيم بن جبلة العبدي. وحكيم هو الشهيد بالبصرة الذي منع عائشة وطلحة والزبير الدخول إليها وحرابهم حتى قتل. وكان من خبره ومقتله، أنه لما تمكن طلحة والزبير من البصرة، وقتلوا حرس بيت المال وهم سبعون رجلاً من غير ذنب ولا سبب، وأخذوا عثمان بن حنيف الأنصاري، عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه، ونتفوا لحيته وأرادوا قتله، قام حكيم في قومه خطيباً فقال لهم: يا قوم، إن ابن حنيف دم مصون وأمانة مؤداة. والله لو لم يكن علينا أميراً لمنعناه لحق الجوار ومكانه من رسول الله صلى الله عليه. فكيف وله الحق والولاية. إلا أن الحي ميت والميت مسؤول، فأما أن تموتوا كراماً وإما أن تعيشوا أحراراً. فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وقال في ذلك أبو أمية الأصم، وكان فارس القوم: معاشر عبد القيس موتوا على التي ... تسرّ علياً واحذروا سبة الغدر ولا ترهبوا في الله لومة لائم ... وموتوا كراماً فهو أشرف للذكر وغدا حكيم في ثلاثمائة رجل من أصحابه إلى العدو وهو عائشة. فخرج طلحة والزبير، وحملا عائشة على الجمل، وذلك اليوم يسمى يوم الجمل الأصغر. فقاتل حكيم قتالاً شديداً، وجعل يقول: إنما تريدان أن تصيبا من الدنيا حظاً، اللهم اقتلهما بمن قتلا، ولا تعطهما ما سألا، ولا تبلغهما ما أملا، ولا تغفر لهما أبداً. وحمل عليهما وهم في اثني عشر ألف ألفاً وهو في ثلاثمائة، فهزمهم حتى أدخلهم سكة، وشد رجل من الأزد على حكيم وهو غافل، فضربه على ساقه فقطع رجله. فأخذ حكيم رجله فضرب بها الأزدي فصرعه، ثم جاء فقتله، وأنشأ يقول: يا نفس لا تراعي ... إنّ معي ذراعي إن قطعت كراعي وقتل هو وثلاثة اخوة له، وأخرجوا ربيعة من البصرة وأجلوهم عنها. ومن شعر يموت بن المزرع في ابنه مهلهل: مهلهل سبقني صغرك ... وأسبل أدمعي عسرك لدى أكناف شامهم ... أموت فيمحى أثرك ولو سومحت في عمري ... لجلّ لديهم خطرك فوا أسفي على لمةٍ ... يطول إليهم سفرك وإن أهلك فإن الله ... دون الخلق لي وزرك وشعره وشعر ابنه مهلهل كثير في سائر فنون الشعر. وإنما ذكرنا ما احتمله الكتاب واقتضاه الشرط. دير البخت وهذا الدير بدمشق، على فرسخين بمنها. وهو دير كبير حسن، وكان يسمى دير ميخائيل، فسمي بهذا الاسم، لبخت كانت لعبد الملك بن مروان مقيمة هناك، فعرف بها. وكان لعلي بن عبد الله بن عباس بذلك الموضع جنينة مقدارها أربعة أجربة. فكان يخرج إليها ويتنزه فيها أيام مقامه بدمشق.

فذكر علي بن محمد بن أبي سيف المدائني، عن رجاله، قال: اشترى عبد الله بن عباس بالمدينة أمة صفراء بربرية، فولدت في منزل عبد الله غلاماً، فسماه سليطاً، ونشأ في منزله، فخرج جلداً ظريفاً. ثم شخص مع علي بن عبد الله إلى الشام، فلم يزل في خدمته حتى مات عبد الملك، وولي الوليد ابنه، فأظهر التحامل على علي بن عبد الله، وعيبه بحضرة الناس، وسعى قوم من حسدة علي وأهل البغي، فأفسدوا سليطاً وزينوا له ادعاء ولادة عبد الله بن عباس، وقالوا: أنت شبيهه في جمالك وهيئتك. فادعى سليط أنه ابن عبد الله بن عباس وخاصم علياً إلى الوليد. فأمر الوليد برفعهما إلى قاضي دمشق، فأحضر سليط قوماً شهدوا له على نسبه، وانهى ذلك إلى الوليد، فألحقه بعبد الله بن عباس. فخاصم علياً في الميراث وطالت منازعته إياه حتى قاربه علي وصيره في عياله. فكان يقوم لعلي بحوائجه وأموره. فخرج علي يوماً إلى جنينته بدير البخت، وكان له فيها قوم يعملون، منهم أبو الدن، من ولد أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه، فوقعت بينهم وبين سليط مشاجرة، فوثبوا عليه فقتلوه، بعد أن انصرف علي بن عبد الله إلى دمشق واحتفروا له حفيرة بالجنينة فواروه فيها. فاحتبس سليط على أمه، فاسترابت، فخرجت في طلبه فخبرت أنه دخل الجنينة ولم يخرج منها. فأتت باب الوليد صارخة، فقال: من تتهمين؟ قالت علي بن عبد الله. فقال: أحضريني من يشهد على دخوله معه الجنينة. فأحضرت شهوداً على ذلك. فأرسل إليه الوليد إلى الجنينة ينظرون هل يرون شيئاً أو أثراً. فأثاروا منها عدة مواضع، فلم يروا شيئاً. فقال لهم أكار كان في الجنينة: أمخروا عليها الماء حتى يتبين لكم. فمخروها فانخسف الموضع، فأثاروه، فاستخرجوا سليطاً. فبعث الوليد إلى علي فعنفه وأغلظ له، وقال: والله، لئن صح عندي أنك قتلته لأقتلنك به! فحلف أنه ما قتله ولا أمر بقتله. فحبسه الوليد. وكتب إلى أمراء الأمصار وفقهائهم بقصته وما أتهم به وما شهد عليه. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز من المدينة: بأن يضرب ويلبس جبة صوف ويطاف به. فدعا الوليد بعلي بن عبد الله، فضربه أحداً وستين سوطاً، ويقال مائة، ثم أطافه، وأقامه في الشمس، وألبسه جبة شعر، وصب على رأسه ماء فبلغ ذلك عباد بن زياد، وكان صديقاً لعلي بن عبد الله، وكان أثيراً عن الوليد. فجاء، فألقى ثيابه على علي، ودخل إليه فكلمه فيه وقال: يا أمير المؤمنين، علي يتهم بالقتل؟ علي أتقى لله وأفضل من أن يقتل أحداً! فأمر به الوليد، فسير إلى دهلك. فلما أخرج عن دمشق، تكلم فيه سليمان بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين، رده واحتبسه! فعبث رسولاً، فحبسه حيث أدركه. وكان أدرك بالفرعاء، فحبس هناك في قرية منها حتى مات الوليد وولي سليمان، فرده. فنزل الحميمة بالشراة من البلقاء، وباع على بستانه بدير البخت من فاطمة بنت عبد الملك. قال: وكان عبد الملك عند وفاته، وصى الوليد بثلاثة نفر: قال له: علي بن عبد الله في نسبه وقرابته وانقطاعه إلينا: أكرمه واعرف حقه. وأخوك عبد الله: أقره على مصر ولا تعزله عنها. وعمك محمد بن مروان: أقره على الجزيرة واعرف له موضعه. فأول ما بدأ بأخيه: عزله عن مصر بقرة بن شريك. وعزل عمه عن الجزيرة. وضرب علياً بالسوط مرتين! وكانت بنو العباس لما ولوا الأمر، وجدوا في خزائن بني مروان كتاباً من سليمان بن عبد الملك إلى الوليد، يسأله في علي بن عبد الله ويعرفه حقه، فكان هذا الكتاب سبباً لترك سليمان في قبره بدابق، ولم ينبشوا عنه كما نبشوا عن اخوته وبني حرب.

دير زكى

وكان أبو مسلم، صاحب دعوتهم، يدعي أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس! فكان مما قرعه به أو جعفر: وادعيت أنك ابن سليط ابن عبد الله ابن عباس فكان هذا أول ما بدأ به من خطابه، ثم تعريفه إياه بذنوبه فكتبت إلى أبي العباس تقول: إن إبراهيم الامام أقر بما استودعه إياه محمد بن علي من نسبك وولادة عبد الله ابن عباس إياك، وانك عبد الرحمن بن سليط بن عبد الله بن عباس، وأنه وعدك إذا تمم الله هذه الدعوة وقتل الكفرة من بني أمية، أن يزوجك أم علي بنت علي بن عبد الله. فما كنت قائلاً لرسول الله، صلى الله عليه، وأنت المجهول النسب: علج من علوج أصبهان. قال: يا أمير المؤمنين، أخبرني بهذا أخوك إبراهيم بن محمد. وكان هذا القول جرى بينهما في خطاب طويل قبل قتله إياه. دير زكى وهذا الدير بالرقة على الفرات. وعن جنبيه نهر البليخ. وهو من أحسن الديارات موقعاً وأنزهها موضعاً. وكانت الملوك إذا اجتازت به نزلته وأقامت فيه، لأنه يجتمع فيه كل ما يريدونه من عمارته ونفاسة أبنيته وطيب المواضع التي به. ونزهه ظاهره، لأنه له بقايا عجيبة. وبناحيته من الغزلان والأرانب وما شاكل ذلك مما يصطاد بالجارح من طير الماء والحبارى وأصناف الطير. وفي الفرات، بين يديه، مطارح الشباك للسمك. فهو جامع لكل ما تريده الملوك والسوقة. وليس يخلو من المتطربين لطيبه، سيما أيام الربيع: فإن له في ذلك الوقت منظراً عجيباً. وللصنوبري، فيه: أراق سجاله بالرّقتين ... جنوبيٌّ صخوب الجانبين وأهدى للرصيف رصيف مزن ... يعاوده طرير الطّرتين معاهد بل مآلف باقياتٌ ... بأكرم معهدين ومألفين يضاحكها بالفرات بكل فج ... فيضحك عن نضارٍ أو لجين كأن الأرض من صفر وحمر ... عروسٌ تجتلى في حلتين كأن عناق نهري دير زكّى ... إذا اعتنقا عناق متيّمين وقت ذاك البليخ يد الليالي ... وذاك النيل من متجاورين أقاما كالسوارين، استدارا ... على كنفيه أو كالدّملجين أيا متنزّهي في دير زكّى ... ألم تك نزهتي بك نزهتين أردّد بين ورد نداك طرفاً ... يردّد بين ورد الوجنتين ومبتسم كنظمي أُقحوان ... جلاه الطلّ بين شقيقتين ويا سفن الفرات بحيث تهوى ... هويّ الطير بين الجانبين تطارد مقبلاتٍ مدبراتٍ ... على عجل تطارد عسكرين ترانا واصليك كما عهدنا ... وصالاً لا ننغّصه ببين ألا يا صاحبيّ خذا عناني ... هواي سلمتما من صاحبين لقد غصبتني الخمسون فتكي ... وقامت بين لذاتي وبيني وكان اللهو عندي كابن أُمي ... فصرنا بعد ذاك لعلّتين ومن مليح شعره في وصف الرقتين: أما الرياض فقد بدت ألوانها ... صاغت فنون حلّيها أفنانها رقّت معانيها ورقّ نسيمها ... وبدت محاسنها وطاب زمانها نظمت قلائد زهرها كجواهرٍ ... نظمت زمردها إلى عقيانها هذا خزاماها وذا قيصومها ... هذا شقائقها وذا حوذانها لو أن غدران السحاب تواصلت ... سحاً إذا لتواصلت غدرانها تبكي عليها عين كل سحابةٍ ... ما أن تمل من البكا أجفانها منقادةٌ طوع الجنوب إذا بدت ... فكأنها بيد الجنوب عنانها واهاً لرافقة الجنوب محلة ... حسنت بها أنهارها وجنانها يا بلدة ما زال يعظم قدرها ... في كل ناحية ويعظم شأنها أما الفرات فإنه ضحضاحها ... أما الهنيّ فإنه بستانها وكأن أيام الصبا أيامها ... وكأن أزمان الهوى أزمانها مهما نصد غزلانها يوماً فقد ... ظلت تصيد قلوبنا غزلانها حثّ الكؤوس فإن هذا وقتها ... وصل الرياض فإن ذا إبّانها وله: إن الزمان غدا بوجهٍ كالح ... من بعد ما كنا نراه طليقاً

أيام أسحب فضل أيام الصبا ... في ظل عيش لا يزال أنيقا بالرقة البيضاء إذ ترعى المها ... حقي ولا أرعى لهنّ حقوقا أغدو على اللذات غير مراقب ... منعاً ولا متخوف تعويقا في فنيةٍ خلعوا أعنّتهم فما ... يألون في طرق السداد مروقا نازعتهم كأسهاً كأنّ نسيمها ... مسك تضوعّ في الاناء فتيقا شقت قناع الليل لما غادرت ... كفّ النديم قناعها مشقوقا صبغت سواد دجاه حمرة لونها ... فكأنها سبجٌ أعيد عقيقا ولقد أقول لصاحبيّ ألا صلا ... لي بالصبوح على الفرات غبوقا إن الفرات هو الرحيق وإنما ... تتعاطيان على الرحيق رحيقا وله: قد أحدق الورد بالشقيق ... خلال بستانك الأنيق كأنه حوله وجوهٌ ... مستشرفات إلى حريق فاشرب على ذا الشقيق كأساً ... تشرب عقيقاً على عقيق وقال أيضاً: أنّ شوقاً وللمحبّ أنين ... حين فاضت على الخدود الجفون آه من زفرة ينشئها الشّو ... ق وداءٌ بين الضلوع دفين كيف يسلوا الشجيّ أم كيف ينسى ال ... صبّ أم كيف يذهل المحزون لا تلمني بالرقتين ودعني ... إن قلبي بالرقتين رهين يا نديمي أما تحنّ إلى القصف ... فهذا أوان يبدو الحنين ما ترى جانب المصلّى وقد أشر ... ق منه ظهوره والبطون أُقحوان وسوسن وشقيقٌ ... وبهارٌ يجنى وآذريون أُسرجت في رياضه سرج القط ... ر وطابت سهوله والحزون إن آذار لم يذر تحت بطن ... الأرض شيئاً أكنّه كانون وبدا النرجس البديع كأمثا ... ل عيونٍ ترنو إليها عيون ما ترى جانب الهنى وقد أشر ... ق فيه الخيريّ والنسرين صاح فيه الهزار، ناح به القم ... ريّ، غنّى في جوّه الشفنين فلهذا قيصومه وخزاما ... هـ وذا الورد فيه والياسمين وكأنّ الفرات بينهما عي ... ن لجينٍ يعوم فيها السّفين كبطون الحيّات أو كظهور المشر ... فيات أخلصتها القيون ما أتى الناس مثل ذا العام ... عامٌ لا ولا جاء مثل ذا الحين حين بلدٌ مشرق الأزاهير موع ... وسحابٌ جمّ العزالى هتون تتلاقى المياه: ماءٌ من المز ... ن وماءٌ يجري وماء معين كم غدا نحو دير زكّي من قل ... بٍ صحيح فراح وهو حزين لو على الدير عجت يوماً لألهّ ... ك فنون وأطربتك فنون لائمي في صبابتي قدك مهلاً ... لا تلمني، إن الملام جنون كم غزالٍ في كفه الورد مبذو ... لٌ وفي الخدّ منه وردٌ مصون فإذا ما أجلت طرفي في خدّ ... يه جالت في القلب مني الظنون لا سعيد من ليس يسعده ... جدّ سعيدٌ وطائرٌ ميمون ولسانٌ مثل الحسام وقلبٌ ... صادق عزمه ورأي رصين وقال أيضاً: من حاكمٌ بين الزمان وبيني ... ما زال حتى راضني بالبين فأما وربعيّ اللذين تأبدا ... لا عجبت بعدهما على ربعين ما لي نأيت عن الهني وكنت لا ... أسطيع أنأى عنه طرفة عين يا دير زكّى كنت أحسن مألفٍ ... منّ الزمان به على إلفين وبنفسي المرج الذي ابتسمت لنا ... جنباته عن عسجدٍ ولجين

لو حمّل الثقلان م حمّلت من ... شوقٍ لأثقل حمله الثقلين وقال أيضاً: وإلى الرقّتين أطوى قرى البي ... د بمطوية القرا مذعان حبذا الكرخ، حبذا العمر، لا بل ... حبذا الدير، حبذا السّروتان قد تجلى الربيع في حلل الزه ... ر وصاغ الحمام حلي الأغاني ألبستها يد الربيع من الأل ... وان برداً كالأتحمي اليماني يا خليليّ هاتما علّلاني ... عاطياني الصهباء لا تدرأاني أبعدا الماء، أبعدا الماء، قوما، ... أدنيا، أدنيا بنات الدنان سقّياني من كلّ لونٍ من الرا ... ح على كل هذه الألوان أخضر اللون كالزمرد في أح ... مر صافي الأديم كالارجوان وأقاحٍ كاللؤلؤ الرّطب قد ... فصّل بين العقيق بالمرجان وبهار مثل الدنانير محفو ... ف بزهر الخيري والحوذان وكأن النعمان حلّ عليها ... حللاً من شقائق النعمان وللرشيد، يذكر هذا الدير: سلامٌ على النازح المغترب ... تحية صبٍ به مكتئب غزالٌ مراتعه بالبليخ ... إلى دير زكى فقصر الخشب أيا من أعان على نفسه ... بتخليفه طائعاً من أحب سأستر، والستر من شيمتي ... هوى من أحب بمن لا أُحب وكان عند مسيره من الرافقة إلى بغداد، خلف بها ماردة أم أبي إسحق المعتصم، فاشتاقها، فكتب إليها بهذه الأبيات. قال: فلما ورد كتاب الرشيد عليها، قالت لبعض من يقول الشعر: أجبه! فقال عن لسانها: أتاني كتابك يا سيدي ... وفيه مع الفضل كل العجب أتزعم أنك لي عاشقٌ ... وأنك بي مستهامٌ وصب ولو كان هذا كذا، لم تكن ... لتتركني نهزةً للكرب وأنت ببغداد ترعى بها ... رياض اللذاذة مع من تحب فيا من جفاني ولم أجفه ... ويا من شجاني بما في الكتب كتابك قد زادني صبوةً ... وأسعر قلبي بحرّ اللهب فهبني نعم قد كتمت الهوى ... فكيف بكتمان دمع سرب ولولا اتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي ناجيات النجب قال: فلما قرأ كتابها، وجه من يحدرها من وقتها إليه: وذكر صالح التركي، وكان المعتصم في حجره، قال: عشق الرشيد ماردة عشقاً مبرحاً، فقال فيها: وإذا نظرت إلى محاسنها ... فلكلّ موضع نظرةٍ نبل وتنال منك بحدّ ناظرها ... ما لا ينال بحدّه النّصل شغلتك وهي لكل ذي بصرٍ ... لاقى محاسن وجهها شغل فلقلبها حلمٌ يباعدها ... عن ذي الهوى ولطرفها جهل ولوجهها من وجهها قمرٌ ... ولعينها من عينها كحل وللرشيد شعر صالح، وأبيات مفردات، كان يتمثل بها. وأكثر شعره في جواريه وعشقه لهن. فمن شعره: ملكت من أصبح لي مالكاً ... لكنه في ملكه ظالم لو شئت لاستاقته لي قدرةٌ ... ولكنّ حكم الحب لي لازم أحببت من بين هذا الورى ... وهو بحبي خبرٌ عالم قبيح فعل حسنٌ وجهه ... يعذر في أمثاله اللائم أحسن من أبصره مبصرٌ ... لو أنه في حسنه راحم وله: صيّرني الحبّ إلى ما ترى ... أنحل جسمي ولقلبي كوى قد كتب الحبّ على جبهتي: ... هذا قتيلٌ في سبيل الهوى قال: وكان الرشيد قد استخص هيلانة، جارية أخيه الهادي. وأحبها حباً شديداً. فخلفها في بعض أسفاره ببغداد، ثم اشتاقها، فقال هذه الأبيات: أهدى الحبيب مع الجنوب سلامه ... فاردد عليه مع الشمال سلاما واعرف بقلبك ما تضمّن قلبه ... وتداولا بهواكما الأياما مهما بكيت له فأيقن أنه ... ستفيض عيناه الدموع سجاما فاحبس دموعك رحمةً لدموعه ... إن كنت تحفظ أو تحوط ذماما

دير ماسرجيس

ومن شعره في جواريه الثلاث: إنني وزّعت حبي طائعاً ... بين شجو وضياءٍ وخنث يتنازعن الهوى من ذي هوىً ... آمناتٍ عقدةً لا تنتكث وإذا شجوٌ أتت زائرة ... كشفت عني شجو كل بث قال: وكان مولد الرشيد بالري، أول سنة ثمان وأربعين ومائة. وولد الفضل بن يحيى قبله بسبعة أيام، فأرضعته أم الفضل. وبويع له بالخلافة، ليلة السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وولد في هذه الليلة عبد الله المأمون، من جارية تسمى مراجل. ففي هذه الليلة مات خليفة، وولي خليفة، وولد خليفة. وهذا من الاتفاقات الطريفة. وتوفي الرشيد بقرية تدعى سناباذ، من عمل طوس. وله خمس وأربعون سنة، يوم السبت لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً ونصفاً. دير ماسرجيس وهذا الدير بعانة. وعانة مدينة على الفرات عامرة، وبها هذا الدير. وهو كبير حسن كثير الرهبان. والناس يقصدونه من هيت وغيرها للتنزه فيه. وهناك كروم ومعاصر وبساتين وشجر. والموضع في نهاية الحسن، جامع لما يحتاج إليه أهل التطرب والتفرج. ولابن أبي طالب المكفوف الواسطي، فيه: ربّ صهباء من بنات المجوس ... قهوةٍ بابليةٍ خندريس قد تحسّيتها بناي وعودٍ ... قبل قرع الشماس للناقوس وغزالس مكحّل ذي دلالٍ ... ساحر الطّرف سامري عروس دينه معلنٌ لدين النصارى ... وإذا ما خلا، فدين المجوس قد خلونا بظبيه نجتليه ... يوم سبت إلى صباح الخميس بين ورد ونرجسٍ وبهار ... وسط بستان دير ما سرجيس يتثنّى بحسن جيد غزال ... ذي صليبٍ مفضّض آبنوس كم لثمت الصليب في الجيد منه ... كهلال مكلّل بشموس وبهذا الموضع، قبر أم الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك. وكان الرشيد، لما أشخص من الرقة إلى بغداد يريد الحج شخص معه البرامكة، فتوفيت أم الفضل. وكانت أرضعت الرشيد بلبن الفضل. وكان يحبها ويجلها. وكان مولد الفضل قبل مولد الرشيد بسبعة أيام. فأمر الرشيد، فاشتريت لها عشرة أجربة من بستان عند وادي القناطر، على شاطىء الفرات، فدفنت هناك وبنيت عليها قبة. فهي تعرف بقبة البرمكية. دير ابن مزعوق وهذا الدير بالحيرة، في وسطها، قريب دير الحريق. وهو دير كثير الرهبان، حسن العمارة، أحد المتنزهات المقصودة والأماكن الموصوفة. ولمحمد بن عبد الرحمن الثرواني، فيه: قلت له والنجوم طالعةٌ ... في ليلة الفصح أول السحر: هل لك في مار فاثيون وفي ... دير ابن مزعوق غير مختصر يفيض هذا النسيم من طرف ... الشام ودرّ النّدى على الشجر ونسأل الأرض عن منابتها ... وعهدها بالربيع والمطر يا لك طيباً وشمّ رائحةٍ ... كالمسك يأتي بنفحة السحر في شرب خمرٍ وسمع محسنةٍ ... تلهيك بين اللسان والوتر والثرواني هذا كوفي من المطبوعين في الشعر، والمنهمكين في البطالات، والمتطرحين في الحانات، والمدمنين لشرب الخمر، والمغرقين في اتباع المرد. لا يعرف شيئاً غير ذلك. ولا يوجد في شيء من أمر الدنيا إلا فيه. وكان آخر أمره أن أصيب في حانة خمار بين زقي خمر وهو ميت! ومن مليح شعره، قوله: أتاك على الدخول المهرجان ... تشيّعه المعازف والقيان وزقّت نحوك الصهباء صرفاً ... تسير بها وتحملها الدنان لهذا اليوم فضلٌ مستبينٌ ... على الأيام تعرفه وشأن إذا وقّرته عظّمت كسرى ... وأكرمك الشريف الهرمزان وأصفاك الهوى بهرام جورٍ ... وسارع في رضاك الفيرزان لتعظيم الذي قد عظّموه ... ودان به أوائلهم ودانوا فدع عنك الخلاف ولا وحتى ... وسوف أجيئكم ونعم والآن خلافك لا يجوز على الندامى ... ولا يرضى بذاك المهرجان وقال أيضاً:

دير سرجس

تقلّب طرف عينك من بعيدٍ ... شبيهاً بالمودّة والوعيد تقرّ بطرف عينك لي بوصلٍ ... وفعلك لي مقرّ بالجحود تشككني وأعلم أن هذا ... هوىً بين التعطف والصدود هواك هوىً تجدّده الليالي ... ولا يبلى على مرّ العهود ومن شعره أيضاً: كرّ الشراب على نشوان مصطبح ... قد هبّ يشربها والديك لم يصح والليل في عسكر جم بوارقه ... من النجوم وضوء الصبح لم يضح والعيش لا عيش إلا أن تباكرها ... صهباء تقتل همّ النفس بالفرح حتى يظلّ الذي مذ بات يشربها ... ولا مراح به يختال كالمرح دير سرجس وهذا الدير كان بطيزناباذ، وهو بين الكوفة والقادسية، على حافة الطريق، وبينها وبين القادسية ميل. وكانت أرضه محفوفة بالنخل والكروم والشجر والحانات والمعاصر. وكانت إحدى البقاع المقصودة والنزه الموصوفة. وقد خربت الآن وبطلت وعفت آثارها وتهدمت آبارها، ولم يبق من جميع رسومها إلا قباب خراب وحجر على قارعة الطريق، تسميه الناس معصرة أبي نواس. ولأبي نواس، فيها: قالوا: تنسك بعد الحج! قلت لهم: ... أرجو الاله وأخشى طيزناباذا أخشى قضيّب كرم أن ينازعني ... رأس الخطام وأن أسرعت إغذاذا فإن سلمت، وما نفسي على ثقةٍ ... من السلامة لم أسلم ببغداذا ما أبعد الرشد من قلبٍ تضمّنه ... قطرّبل فقرى بنّا فكلواذا وكان هذا الدير من أحسن الديارات عمارة وأنزهها موضعاً. وللحسين بن الضحاك، فيه: أخويّ حيّ على الصبوح صباحا ... هبّا ولا تعدا النديم رواحا مهما أقام على الصبوح مساعدٌ ... وعلى الغبوق فلن أُريد براحا عودا لعادتنا صبيحة أمسنا ... فالعود أحمد مغتدى ومراحا هل تعذران بدير سرجس صاحباً ... بالصحو أو تريان ذاك جناحا إني أُعيذكما بأُلفة بيننا ... أن تشربا بقرى الفرات قراحا عجّت قواقزنا وقدّس قسّنا ... هزجاً وأصخبنا الدجاج صياحا للجاشرية فضلها فتعجّلا ... إن كنتما تريان ذاك صلاحا يا ربّ ملتبس الجفون بنومةٍ ... نبّهته بالراح حين أراحا فكأن ريّا الكأس حين ندبته ... للكأس أنهض في حشاه جناحا فأجاب يعثر في فضول ردائه ... عجلان يخلط بالعثار مراحا فهتكت ستر مجونه بتهتكي ... في كل ملهيةٍ وبحت وباحا ما زال يضحك بي ويضحكني به ... ما يستفيق دعابةً ومزاحا ديارات الاساقف هذه الديارات بالنجف، بظاهر الكوفة، وهو أول الحيرة. وهي قباب وقصور تسمى ديارات الأساقف. وبحضرتها نهر يعرف بالغدير. عن يمنيه قصر أبي الخصيب مولى أبي جعفر، وعن شماله السدير، وبين ذلك الديارات. وقصر أبي الخصيب هذا، أحد متنزهات الدنيا. وهو مشرف على النجف وعلى ذلك الظهر. ويصعد من أسفله على درجة طولها خمسون مرقاة إلى سطح حسن ومجلس، فيشرف الناظر على النجف والحيرة من ذلك الموضع، ثم يصعد منه على درجة أخرى طولها خمسون مرقاة إلى سطح أفيح ومجلس عجيب. وأبو الخصيب هذا، مولى أبي جعفر المنصور وحاجبه. والسدير، قصر عظيم من أبنية ملوك لخم في قديم الزمان. وما بقي الآن منه فهو ديارات وبيع للنصارى. ولعلي بن محمد الحماني العلوي، يذكر هذه المواضع: كم وقفةٍ لك بالخور ... نق لا توازى بالمواقف بين الغدير إلى السدي ... ر إلى ديارات الأساقف فمدارج الرّهبان في ... أطمار خائفةٍ وخائف دمنٌ كأن رياضها ... يكسين أعلام المطارف وكأنما غدرانها ... فيها عشورٌ في مصاحف وكأنما أنوارها ... تهتزّ بالريح العواصف طرر الوصائف يلتقي ... ن بها إلى طرر الوصائف تلقى أوائلها أوا ... خرها بألوان الزخارف بحريةٌ شتواتها ... بريةٌ فيها المصايف

قبة الشتيق

درّيّة الحصباء كا ... فورية فيها المشارف ثم انبرت سحّاً كبا ... كيةٍ بأربعةٍ ذوارف ولأبي نواس، يذكر أيامه بالسدير: عدن لي بالدير أيام قصفٍ ... وسرورٍ مع الندامى وعزف وعيون الظباء ترنو إلينا ... منعماتٍ بكلّ بر ولطف ورخيم الخطا يكاد من الر ... قة يدمي أدميه كلّ طرف حلّ منه الصليب في موضع الجي ... د فقد خصّه على كل إلف قد أدرنا رحى النعيم ثلاثاً ... ووصلنا النعيم كفاً بكف قال: ولما نزل الرشيد الحيرة، وقت منصرفه من الحج، ركب جعفر بن يحيى إلى السدير، فطافه ونظر إلى بنائه. ثم وقعت عينه على كتاب في أعلاه فأمر من صعد إلى الموضع فقرأه. فقال في نفسه: قد جعلته فألاً لما أخافه من الرشيد. فقرىء، فإذا هو: إن بني المنذر عام انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب أضحوا ولا يرجوهم راغب ... يوماً ولا يرهبهم راهب وأصبحوا أكلا لدود الثّرى ... وانقطع المطلوب والطالب فحزن جعفر لذلك وصار ينشد الأبيات ويقول: ذهب والله أمرنا! ومن هذه الأبنية: المسقطات. وهو قصر فيه آزاج مستطيلة مسقطة شرقي الحيرة على طريق الحاج. ثم القصر. ثم كوة البقال. ثم قصر العدسيين. ثم الأقصى الأبيض. ثم قصر بني بقيلة. وكان هذا القصر لعبد المسيح بن بقيلة الغساني. وإنما سمّي بقيلة، لأنه خرج يوماً على قومه في حلتين خضراوين قد اتّزر بإحداهما واشتمل بالأخرى، فقال قومه: ما هو إلا بقيلة. فسمي بذلك. وعبد المسيح هذا، هو ابن أخت سطيح الكاهن. وكان كسرى أنفذه إلى سطيح بسبب الرؤيا التي رآها. فجاءه وهو يجود بنفسه، فقال: أصم أم يسمع غطريف اليمن، في أبيات. ففتح سطيح عينه وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، من قبل ملك بني ساسان، لارتجاس الايوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. والخبر مشهور تركناه لشهرته. فلما نزل خالد بن الوليد الحيرة، خرج إليه عبد المسيح، فقال له خالد: من أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي! قال: ما عن هذا سألتك! قال: ولا أجبت إلا عما سألت عنه! قال: ما أنتم؟ قال: عرب استنبطنا! قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها نتحرز بها من الجاهل إلى أن يجيء العاقل فيردعه! قال: أتعقل؟ قال: نعم، وأقيد! قال: فما سنك؟ قال: عظم! قال: كم أتى عليك؟ قال: لوى أتى علي شيء لقتلني! قال: كم مضى من عمرك؟ قال: أربعمائة سنة! قال: فما رأيت من العجائب؟ قال: رأيت السفن وهي ترفيء في هذا الموضع، ورأيت المرأة وهي تخرج من الحيرة إلى الشام بمغزلها في يدها ومكتلها على رأسها لا يروعها أحد، وهي الآن خراب يباب، وذلك دأب الله في خلقه. وكان في يده شيء يقلبه. قال خالد: ما هذا الذي في يدك؟ قال: سم ساعة! قال: وما تصنع به؟: قال: إن أعطيتني ما أحب وإلا قتلت نفسي به. ولم أكن أول من أدخل الذل على قومه وساق إليهم ما يكرهون. قال خالد هلمه إلي. فناوله إياه، فطرحه في فيه، وقال: بسم الله، وازدرده. فأخذته غشية، ثم أفاق، كأنما نشط من عقال. فرجع عبد المسيح إلى قومه فقال: جئتكم من عند رجل شرب سم ساعة وما ضره. وحمل إليه مالاً صالحه عليه، وانصرف عنهم. ومن بعده: دار عون، ثم قبة عصر كذا وهي ما يلي النجف. فهذه قصور الحيرة الباقية الآن. قبة الشتيق وهي من الأبنية القديمة بالحيرة، على طريق الحاج. وبإزائها قباب يقال لها الشكورة، جميعها للنصارى. فيخرجون يوم عيدهم من الشكورة إلى القبة، في أحسن زي، عليهم الصلبان، بأيديهم المجامر، والشمامسة والقسان معهم يقدسون على نغم واحد، متفق في الألحان، ويتبعهم خلق كثير من متطربي المسلمين وأهل البطالة، إلى أن يبلغوا قبة الشتيق. فيتقربون ويتعمدون، ثم يعودون بمثل تلك الحال. فهو منظر مليح. ولبعض الشعراء فيه: والعذارى مشدّدي الزّناني ... ر عليهنّ كل حلي وثيق يتمشّين من قباب الشعاني ... ن إلى صحن قبة الشتّيق يا خليلي فلا تعنّفني يوم ... ترى اللهو فيه بالتحقيق ولبكر بن خارجة:

دير هند بنت النعمان بن المنذر

يا خليليّ، عرّجا بي إلى الحيرة كم كم تراقبان النجوما واسقياني من بيت سجوم را ... حاً قهوةً لا تماكسا سجوما حانةٌ حشوها ظباءٌ ملاحٌ ... هيجوا بالدّلال قلباً سقيما وإذا ما سقيتماني شرابا ... خندريساً معتقاً مختوما فاقصدوا قبّة الشتيق وظبياً ... سكن الدير قد سباني رخيما عقد زناره توصل بالقل ... ب فأمسى بين الحشا مخزوما وبكر بن خارجة هذا، من أهل الكوفة. وكان من المنهمكين في الخمر، والمستهترين بالتطرح في الحانات والديارات. وكان أكثر شعره في ذلك. فمن شعره أيضاً: راح من الحانة سكرانا ... فزادني همّاً وأحزانا حانة سجوم التي صيّرت ... من حبها في القلب نيرانا يرنو بعيني شادن أحورٍ ... تخاله للسكر وسنانا ما رأت العينان شبهاً له ... إنساً إذا عدّ ولا جانا معاقد الزنار في خصره ... عذّبنني بالحبّ ألوانا كتمت حبي وهواي له ... دهراً وأحوالاً وأزمانا حتى توّلى جسدي للبلى ... فما أُطيق اليوم كتمانا دير هند بنت النعمان بن المنذر بنت هند هذا الدير بالحيرة، وترهبت فيه وسكنته دهراً طويلاً، ثم عميت. وهذا الدير من أعظم ديارات الحيرة وأعمرها. وهو بين الخندق وحصراه بكر. ولما قدم الحجاج الكوفة، في سنة أربع وسبعين، قيل له إن بين الحيرة والكوفة ديراً لهند بنت النعمان، وهي فيه، ومن رأيها وعقلها. فانظر إليها فإنها بقية. فركب والناس معه حتى أدير. فقيل لها: هذا الأمير الحجاج بالباب. فاطلعت من ناحية الدير، فقال لها: يا هند، ما أعجب ما رأيت؟ قالت: خروج مثلي إلى مثلك! فلا تغتر يا حجاج بالدنيا، فإنا أصبحنا ونحن كما قال النابغة: رأيتك من تعقد له حبل ذمّةٍ ... من الناس، يأمن سرحه حيث أربعا ولم نمس إلا ونح أذل الناس. وقل إناء امتلأ إلا انكفأ. فانصرف الحجاج مغضباً، وبعث إليها من يخرجها من الدير ويستأديها الخراج فأخرجت مع ثلاث جوار من أهلها، فقالت إحداهن في خروجها: خارجاتٌ يسقن من دير هندٍ ... مذعناتٌ بذلةٍ وهوان ليت شعري، أأوّل الحشر هذا، ... أم محا الدهر غيرة الفتيان؟ فشد فتى من أهل الكوفة على فرسه، فاستنقذهن من أشراط الحجاج، وتغيب. فبلغ الحجاج شعرها وفعل الفتى: فقال: إن أتانا فهو آمن، ون ظفرنا به قتلناه! فأتاه الفتى، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الغيرة! فوصله وخلاه. وكان سعد بن أبي وقاص حين فتح العراق، أتى هنداً إلى ديرها، فخرجت إليه، فأكرمها وعرض عليها نفسه في حوائجها فقالت: سأحييك بتحية كانت أملاكنا تحيا بها: مستك يد نالها فقر بعد غنىً ولا مستك يد نالها غنى بعد فقر. ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة. ولا نزع الله عن كريم نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه. ثم جاءها المغيرة، لما ولاه معاوية الكوفة، فاستأذن عليها، فقيل لها: أمير هذه المدرة بالباب. فقالت: قولوا له: من أولاد جبلة بن الأيهم أنت؟ قال: لا! قالت: فمن ولد المنذر بن ماء السماء؟ قال: لا! قالت فمن أنت؟ قال المغيرة بن شعبة الثقفي. قالت: فما حاجتك؟ قال جئتك خاطباً! قالت: لو جئتني لجمال أو حال لأجبتك. ولكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب، فتقول: نكحت بنت النعمان بن المنذر! وإلا، فأي فخر في اجتماع أعور وعمياء؟ فبعث إليها، قال: كيف كان أمركم؟ قال: سأختصر لك الجواب. أمسينا مساء وليس في الأرض عربي إلا وهو يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه! قال: فما كان أبوك يقول في ثقيف؟ قالت: اختصم إليه رجلان منهم، في شيء، أحدهما ينتمي إلى إياد والآخر إلى بكر بن هوازن. فقضى به للايادي، وقال: إن ثقيفاً لم تكن هوازنا ... ولم تناسب عامراً ومازنا فقال المغيرة: أما نحن فمن بكر بن هوازن، فليقل أبوك ما شاء! دير زرارة

وهو دير حسن، بين جسر الكوفة وحمام أعين، ناحية عن الطريق على يمين الخارج من بغداد إلى الكوفة. وهو موضع نزه حسن، كثير الحانات والشراب، عامر بمن يطرقه، لا يخلو مما يطلب اللعب ويؤثر البطالة. وهو من المواطن المستصلحة لذلك. قال: خرج يحيى بن زياد ومطيع بن إياس حاجين. فلما قربا من دير زرارة، قال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نقدم أثقالنا ونمضي إلى زرارة، فنشرب في ديرها ليلتنا ونتزود من مردها وخمرها ما يكفينا إلى العودة، ثم نلحق بأثقالنا؟ ففعلا. وسار الناس، وأقاما. فلم يزل ذلك دأبهما إلى أن انصرف الحاج. فلما وصل إلى الكوفة. حقا رؤوسهما وركبا بعيرين ودخلا مع الحاج. فقال مطيع: ألم ترني ويحيى إذ حججنا ... وكان الحجّ من خير التجاره خرجنا طالبي حجّ ودينٍ ... فمال بنا الطريق إلى زراره فآب الناس قد غنموا وحجّوا ... وأبنا موقرين من الخساره ثم قال فيه أيضاً، وفيه لحن. وقيل أن الأبيات لأبي علي البصير: خرجنا نبتغي مكة ... حجّاجاً وزوّارا فلما قدم الحير ... ة حادي جملي حارا وقد كاد يغور النج ... م للاصباح أو غارا فقلت: احطط بها رحلي ... ولا تحفل بمن سارا فجدّدنا عهوداً س ... لفت منّا وآثارا وقضّينا لباناتٍ لنا ... كانت وأوطارا وصاحبنا بها ديراً ... وقسيساً وخمّارا وظبياً عاقداً بين ... النقا والخصر زنّارا شرحنا لك أخباراً ... وادمجناك أخبارا ولأبي نواس، في هذا المعنى: وقائل: هل تريد الحج؟ قلت له: ... نعم، إذا فنيت لذات بغداذ أما وقطربل منها بحيث نرى ... فقبة الفرك من أكناف كلواذي فالصالحية، فالكرخ الذي اجتمعت ... شذّاذ بغداد لي فيه بشذاذ وكيف بالحج لي ما دمت منغمساً ... في بيت قوّادةٍ أو بيت نبّاذ وهبك من قصف بغداد تخلّصني ... كيف التخلص لي من طيزناباذ وممن فعل فعل مطيع، سليمان بن محمد الأموي، وكان قد أعد البخاتي للحج وصنعها طول سنته. فلما وصل إلى الكوفة، بدا له وأقام وقال: حرصي على الحج أفسد الحجا ... إذ لم أجد مهرباً ولا منجا تبت إليه من الذنوب ومن ... عرضٍ برىءٍ بمنكر يهجا فردّني خاسئاً إلى قدحي ... وقول شعر وعفوه يرجا بحيث تضحي الزقاق خاضعةً ... تحسبها من سوادها زنجا إذا وضعنا للزقّ باطيةً ... وحلّ عنه رباطه مجّا زادي إلى الحج صار منتقلاً ... لما احتسيت المدامة الزلجا ومضجعي زكرتي نعمت بها ... مملوءةً ما تفارق الخرجا كذاك من يطلب الثواب ولا ... ينهض إلا بنيّةٍ عرجا وخرج أبو المضرحي وسلام بن غالب بن شماس وأبو البصير الشاعر، يريدون الحج. فلما قدموا الكوفة، بدا لأبي البصير ولسلام، ثم مضى أبو المضرحي. فقال أبو البصير يخاطب سلاماً خذ برأس القطا واستخر ... الله إلى دار قينة الرمّاح حيث لا تنكر المعازف والخمر ... ووضع الأيدي على الأحراح وكان مطيع بن إياس، من أظرف الناس وأحسنهم شعراً وأكثرهم نادرة وأشدهم مجوناً وخلاعة. وكان لا يغب الشرب واللعب والانهماك في الخسارة والتطرح في مواضع اللذات. وكان مطيع ويحيى بن زياد وحماد عجرد وحماد الراوية، لا يفترقون. وكان جميعهم على منهاج واحد في الخلاعة، وكلهم متهم بالزندقة! فذكر العتبى عن أبيه، قال: قدم علينا شيخ من أهل الكوفة، لم أر قط أحسن منه حديثاً. فكان يحدثني عن مطيع والحمادين وعن ظرفاء أهل الكوفة وعجائبهم، فلم يكن يحدث عن أحد منهم بأحسن مما يحدثني به عن مطي بن إياس. فقلت له: كنت والله أشتهي أن أرى مطيعاً. فقال: والله لو رأيته للقيت منه بلاء عظيماً! فقلت: وكيف؟ قال: كنت ترى رجلاً لا يصبر عنه العاقل إذا رآه، ولا يصحبه أحد إلا افتضح به!

وذكر ابن حبيب، قال: رأيت رجلاً من أهل الكوفة، فسألته عن مطيع، وكان قد صحبه، فقال: لا ترد أن تسأل عنه. قلت: ولم ذاك؟ قال: ما سؤالك عن رجل إذا حضرك ملكك، وإذا غاب عنك شاقك، وإذا عرفت بصحبته فضحك! وكان مطيع بن مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. فقد مدح الوليد بن يزيد ونادمه ومدح أخاه وخص به. قال: حضر مطيع بن إياس وشراعة بن الزندبوذ ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب وعبد الله بن عياش المنتوف وحماد عجرد مجلس بعض الأمراء بالكوفة. فاجتمعوا كلهم على مطيع فكايدوه وهجوه، فغلبهم كلهم، ثم بدههم فقال: وخمسةٍ قد أبانا لي عداوتهم ... وقد تلظّى لهم مقلى وطنجير لو يقدرون على لحمي تقسّمه ... قردٌ وكلبٌ وجرواه وخنزير فقطعهم وأقروا له. قال: واجتمعوا يشربون، فأقاموا على ذلك أياماً. فقال لهم يحيى بن زياد ليلة، وهم سكارى: ويحكم! ما صلينا منذ ثلاثة أيام. فقوموا بنا حتى نصلي. فقالوا: نعم! فقام مطيع فأذن وأقام. ثم قال للمغنية: تقدمي فصلي بنا. فتقدمت، وكانت بلا سراويل، وعليها غلالة رقيقة. فلما سجدت انكشف متاعها، فوثب إليه مطيع فقبل، ثم قال: ولما بدا هنها جاثماً ... كرأس حليق ولم تعتمد سجدت له ثم قبّلته ... كما يفعل العابد المجتهد فقطعوا صلاتهم بالضحك، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه. قال: كتب يحيى بن زياد يوماً إلى مطيع: أنا نشيط للشرب، فإن كنت فارغاً فصر إلي. وإن كان عندك نبيذ طيب وغناء جئتك! فجاءته الرقعة وعنده حماد الراوية وحكم الوادي وغلام أمرد، فأجابه: نعم، لنا نبيذٌ ... وعندنا حمّاد وعندنا وادينا ... وهو لا عماد وخيرنا كثيرٌ ... والخير يستزاد ولهونا لذيذٌ ... لم تلهه العباد أو تشتهي سفاد ... فعندنا فساد أو تشتهي غلاماً ... فندنا زياد ما إن به التواءٌ ... عنّا ولا بعاد فلما قرأ الرقعة، صار إليهم، فتمموا بقية يومهم. وقال يحيى بن زياد له: انطلق بنا إلى فلانة المغنية، وكان يهواها، فإن بيننا مغاضبة، فلعلك أن تصلح بيني وبينها، وبئس المصلح، والله، أنت! فدخلا إليها، فأقبل يحيى يعاتبها، ومطيع ساكت. فقال له: ما يسكتك، أسكت الله نأمتك؟ فقال مطيع: أنت معتلّةٌ عليه وما زا ... ل مهيناً لنفسه في هواك فأعجب يحيى ما قاله، وهش له، وقال: هيه! فقال: فدعيه، وواصلي ابن إياسٍ ... جعلت نفسه الغداة فداك فقام إليه يحيى بالوسادة يجلد بها رأسه، وقال: ألهذا دعوتك يا ابن الفاعلة؟

عمر مر يونان

قال: وكان بالكوفة مقين، يقال له أبو الأصبغ. وكان له ابن يقال اصبغ، أحسن الناس وجهاً. وكان مطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحماد عجرد يغشون منزله ويعشقون ابنه ولا يقدرون عليه. فعزم أبو الاصبغ على أن يصطبح يوماً مع يحيى بن زياد. فأهدى إليه يحيى من الليل جداء ودجاجاً وفراخاً وفاكهة وشراباً. فقال أبو الاصبغ لجواريه: إن يحيى بن زياد عندنا، فأصلحوا له ما يشتهيه. فلما فرغ من الطعام، لم يجد رسولاً يبعث به إليه سوى ابنه اصبغ. فقال له: لا تبرح إلا ويحيى معك. فلما جاءه اصبغ، قال للغلام: أدخله: وتنح أنت واغلق الباب، فإن أراد اصبغ الخروج فامنعه. فلما دخل إليه اصبغ وأدى الرسالة، راوده يحيى عن نفسه، فامتنع. فثاوره يحيى، فصرعه، ورام حل تكته، فلم يقدر على ذلك، فقطعها يحيى: فلما فرغ، أعطاه أربعين ديناراً كانت تحت مصلاه. فأخذها. وقال له يحيى: امض، فإني على أثرك. فخرج اصبغ من عنده، واغتسل يحيى، وجلس يتزين ويتبخر. فدخل إليه مطيع، فرأى ما هو فيه، فقال له: كيف أصبحت؟ فلم يجبه، وشمخ بأنفه، وقطب حاجبه! فقال له: أراك تتزين وتتبخر، أين عزمت؟ فلم يجبه. فقال: ويحك! ما لك؟ نزل عليك الوحي؟ أو كلمتك الملائكة؟ أو بويع لك بالخلافة؟ وهو يومىء برأسه: لا، لا! قال: فأراك قد تهت علينا فما تتكلم، حتى كأنك قد نكت اصبغ بن أبي الاصبغ! فقال: أي والله! الساعة، وأعطيته أربعين ديناراً. قال: فإلى أين تمضي؟ قال: إلى دعوة أبيه. فقال مطيع: إمرأته طالق إن فارقتك أو أقبل أيرك؟ فأبداه يحيى له. فقبله. ثم قال له: كيف قدرت عليه؟ فحدثه حديثه، وقام ليمضي إلى منزل أبي الاصبغ، فاتبعه مطيع، وصبر ساعة، ثم دق الباب واستأذن. فخرج إليه الرسول، فقال له: إنه اليوم على شغل لا يتفرغ لك، فتعذر! قال: فابعث إلى دواة وقرطاس. فكتب مطيع إلى أبي الاصبغ بهذه الأبيات: يا أبا الاصبغ، لا زلت على ... كل حالٍ عالياً ممتنعاً لا تصيّرني في الودّ كمن ... قطع التكّة قطعاّ شنعا وأتى ما يشتهي لا ينتهي ... خيفة أو حفظ حقٍّ ضيعا لو ترى الاصبغ ملقىّ تحته ... مستكيناً خجلاً قد خضعا وله دفعٌ عليه عجلٌ ... شبقاً ساءك ما قد صنعا فادع بالاصبغ فاعرف حاله ... سترى أمراً قبيحاً فظعا فقال أبو الاصبغ ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية؟ قال: لا! فضرب بيده إلى تكة ابنه، فوجدها مقطوعة، فأيقن بالفضيحة! فقال يحيى: قد كان الذي كان، وسعى إليك مطيع ابن الزانية. وهذا ابني، وهو أفره من ابنك. وأنا وهو عربي ابن عربية، وابنك نبطي ابن نبطية. فنك ابني عشراً مكان المرة التي نكت ابنك، فتكون قد ربحت الدنانير، وللواحد عشرة. فضحك أبو الاصبغ، وقال لابنه: هات الدنانير يا ابن الفاعلة! فرمى بها إليه، وقام خجلاً. فقال يحيى: والله، لا دخل مطيع ابن الزانية! فقال أبو الاصبغ وجواريه: والله، ليدخلن إلينا، فقد فضحنا! فأدخل وجلس يشرب معهم، ويحيى يشتمه بكل لسان، ومطيع يضحك! ولمطيع أخبار كثيرة ظريفة، منع من إيرادها خوف الاطالة وما تدعو إليه من الملالة. وله شعر حسن مليح، ويتغنى في شعره. فمن ذلك، قوله: واهاً لظبي رجوت نائله ... حتى انثنى لي بوده صلفا لانت حواشيه لي وأطمعني ... حتى إذا قلت نلته انصرفا وقال أيضاً، وله فيه غناء. خليلي مخلفٌ أبدا ... يمنّيني غداً فغدا وبعد غدٍ وبعد غدٍ ... كذا لا ينقضي أبدا وليس بلابثٍ جمر ال ... غضا أن يحرق الكبدا ومن مليح، قوله: إخلع عذارك في الهوى ... واشرب معتقة الدنان وصل القيان مجاهراً ... فالعيش في وصل القيان لا يلهينك غير ما ... تهوى فإن العمر فاني وكان مطيع يبغض أباه ويهجوه. وهو من بني كنانة. وكان يوماً يذكر قبائل قريش والعرب ويصف قوماً قوماً. فقال له بعض من حضر: فأين بنو كنانة؟ فقال غير متمهل: بفلسطين يسرعون الركوبا، أراد قول الشاعر: حلق من بني كنانة حولي ... بفلسطين يسرعون الركوبا عمر مر يونان

وهذا العمر بالأنبار، على الفرات. وهو عمر حسن كبير، كثير القلايات والرهبان. وعليه سور محكم البناء، فهو كالحصن له. والجامع ملاصقه. ولا يخلو من المتنزهين والمتظرفين. وله ظاهر حسن ومنظر عجيب، سيما في أيام الربيع: لأن صحاريه وسائر أراضيه تكون كالحلل لكثرة طرائف زهره وفنون أنواره. ومن اجتاز بالأنبار من الخلفاء ومن دونهم ينزله مدة مقامه. وقد وصفته الشعراء وذكرته في أشعارها. وللحسين بن الضحاك، فيه: آذنك الناقوس بالفجر ... وغرّد الراهب في العمر واطّردت عيناك في روضةٍ ... تضحك عن حمر وعن صفر وحنّ مخمورٌ إلى خمره ... وجاءت الكأس على قدر فارغب عن النوم إلى شربها ... ترغب عن الموت إلى النشر ولكشاجم، فيه: أُغد، يا صاحبي، إلى الأنبار ... تشرب الراح في شباب النهار واعمر العمر باللذاذة والقص ... ف حث الكؤوس والأوتار ما ترى الدهر قد أتاك بوجهٍ ... طلقٍ بعد نبوةٍ وازورار لابساً حلّةً من الزهر كانت ... قبل محجوبة عن الأبصار نرجسٌ كالعيون يرقب من يه ... واه من غير رقبةٍ أو حذار وإذا ما بدا الشقائق فيها ... خاله الناظرون شعلة نار أو كما نشرت مطارف حمر ... لأميرٍ في جحفل جرّار وكأن البنفسج الغضَ فيها ... أثر القرص في خدود الجواري وتراءى الخزامى السمائي فيها ... كاليواقيت نظمت في المذاري وكأن المنثور حلّة وشيٍ ... مثلها ما حوت تخوت التجار في طرار الربيع حيكت ولكن ... نمّقت وشيها يد الأمطار أقحوان وسوسنٌ حسن النو ... ر وشيحٌ منمنمٌ مع بهار فاغتنم غفلة الزمان وبادر ... وافترص لذّة الليالي القصار وكشاجم، أبو الفتح محمود بن الحسين الكاتب، مليح الشعر، رقيق الطبع، حسن الوصف. له كتب كثيرة وتأليفات طريفة. فمن شعره في بعض ما كان يألفه: قوله: من عذيري من عذاري رشأٍ ... عرّض القلب لأسباب التلف قمرٌ جال نعيم الحسن في ... ماء خدّيه على ماء الترف وله خطّ عذارٍ خطّه ... رونق العزّ بأقلام الشرف حكمةٌ في نعمةٍ قد طرزت ... بطرازٍ لم يجز حدّ الشّنف جمّشا خديه ثم انعطفا ... آه ما أحسن ذاك المنعطف علم الشعر الذي عاجله ... أنه جار عليه فوقف فهو في وقفته معترفٌ ... بالتناهي في التعدي والسّرف وله في صفة عود: جاءت بعود كأن نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى محفّفٌ حفّت النفوس به ... كأنما الزهر حوله نبتا دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف الكفين شبّكتا لو حركته وراء منهزم ... على بريدٍ لعاج والتفتا يا حسن صوتيهما، كأنهما ... أختان في صنعةٍ تراسلنا وهو على ذا ينوب إن سكتت ... عنها، وعنه تنوب إن سكتا وله في ذلك: ومسمعةٍ تحنو على مترنم ... له زجلٌ عالٍ وليس له سحر إذا ما تأملت الحشى منه خلته ... تضمّن شبعاً وهو منخرقٌ صفر له نغمٌ يفضين من كل سامع ... إلى حيث لا تفضي بشاربها الخمر إذا طرقته بالأنامل والتقى ... على جسمه من جسمها النحر والصدر بكى طرباً فاستضحك اللهو نحوه ... وفضّت عرى الاسباب واستلب الصبر وتمنحه اليمنى حساباً مفصّلاً ... فتحمل فيه الخمس والستّ والعشر فمتّ صريع السكر أطيب ميتةٍ ... وما الحلم إلا أن يسفهك السكر ومن مليح شعره: يقولون: تب، والكأس في كفّ أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي

دير قنى

فقلت لهم: لو كنت أضمرت توبةً ... وأبصرت هذا كلّه لبدا لي وله يصف معزفة: معلقة الأوتار صخّابة ... لها حنينٌ كحنين الغريب زادت على المزهر طيباً وقد ... تاهت عن الناي بخلقٍ عجيب مكسوةٌ أحشاؤها جلدة ... بيضاء من جلد غزالٍ ربيب كأنما تسعة أوتارها ... نصبن أشراكاً لصيد القلوب وله في مضراب: يا أيها الصلف المدل بحسنه ... جد للمحبّ، فأنت أهل الجود بقبول مضراب حكاك بحسنه ... حسن التعطّف مخطف مقدود متشبّه بك حين تخطو لاهياً ... وتميس بين مجاسد وعقود لا تشمتنّ بي الحسود بردّه ... يفديك كلّ حسودةٍ وحسود لم أهده لك يا مناي وإنما ... أهديته متقرباً للعود وله يرثي قدحاً له كان انكسر: وعندي فجائعٌ للنائبات ... وليس كفجعتنا بالقدح وعاء المدام وتاج البنان ... وخدن السرور ومقصي الترح يردّ على الشخص تمثاله ... فلو تتخذه مراةً صلح يكاد مع الماء إن مسّه ... لما فيه من شبهه ينسفح فأفقدنيه على ضنّةٍ ... به للزمان غريمٌ ملح كأنّ له ناظراً ينتقي ... فما يتعمّد غير الملح فلا تبعدنّ فكم من حشىً ... عليك كليمٍ وقلبٍ قرح وله في النيل: كأن النيل حين أتى بمصرٍ ... وفاض بها وكسرت التراع وأحدق بالقرى من كلّ وجهٍ ... سماوات كواكبها ضياع وقال في البطيخ: وطيّبٍ أهدى لنا طيّباً ... فدلّنا المهدى على المهدي يا جاني البطيخ من غرسه ... جنيت منه ثمر الحمد لم يأتنا حتى أتتنا به ... روائح أغنت عن الندّ كأنما تكشف منه المدى ... عن زعفرانٍ ديف في شهد كأنما في جوفه قهوةٌ ... ينقع فيها مندلٌ هندي وفيما أتينا به من طريف شعره وغريب صفاته، كفاية تفي بالشرط ولا تتجاوز الحد. دير قنى ويعرف أيضاً بدير مر ماري السليح وهذا الدير، على ستة عشر فرسخاً من بغداد، منحدراً في الجانب الشرقي، بينه وبين دجلة ميل ونصف، وبينه وبين دير العاقول بريد. وهو دير حسن، نزه، عامر. وفيه مائة قلاية لرهبانه والمتبتلين فيه، لكل راهب قلاية. وهم يتبايعون هذه القلالي بينهم من ألف دينار إلى مائتي دينار إلى خمسين ديناراً. وحول كل قلاية بستان، فيه من جميع الثمار والنخل والزيتون. وتباع غلته من مائتي دينار إلى خمسين ديناراً. وعليه سور عظيم يحيط به. وفي وسطه نهر جار. وعيده الذي يجتمع الناس إليه عيد الصليب. وقد وصفته الشعراء. ولابن جمهور، فيه: يا منزل اللهو بدير قنّا ... قلبي إلى تلك الربى قد حنّا سقياً لأيامك لما كنا ... نمتار منك لذّة وحسنا أيام لا أنعم عيشٍ منّا ... إذا انتشينا وصحونا عدنا وإن فنى دنٌّ نزلنا دنّا ... حتى يظنّ أننا جننّا ومسعدٍ في كل ما أردنا ... يحكي لنا الغصن الرطيب اللّدنا أحسن خلق الله أدّى لحنا ... وجسّ زير عوده وغنى بالله، يا قسيس يا ما قنّى ... متى رأيت الرشأ الأغنّا متى رأيت فتنتي يوحنا ... آهٍ إذا ما ماس أو تثنّى يا منية القلب إذا تمنّى ... فتكت بالصبّ بك المعنّى ثم قلبت في الهوى المجنّا ... عذبته بالحبّ فناً فنّا وصارت الأرض عليه سجنا ... فما يلاقي الجفن منه جفنا أفديك لا تهجر صباً مضنى ... قد كان من غدرك مطمئنا أسأت إذ أحسنت فيك الظنّا ... وصار قلبي في يديك رهنا وقال فيه أيضاً:

وكم وقفةٍ في دير قنّى وقفتها ... أُغازل فيه فاتن الطّرف أحورا وكم فتكةٍ لي فيه لم أنس طيبها ... أمتّ بها عرفاً وأحييت منكرا وهو أبو علي محمد بن الحسين بن جمهور القمي. وكان أبوه من رواة أهل البيت، صلوات الله عليهم، وحاملي الأثر عنهم. وكان أبو علي ظريفاً، متأدباً، مليح الشعر والكتابة. وقد سافر في طلب العلم، وتطرح في مواطن اللعب، وعاشر أهل الخلاعة، وطرق الحانات والديارات. ثم أقام بالبصرة وحسنت حاله بها، وصارت له نعمة كثيرة. ومن شعره في جارية كانت في القيان تعرف بزاد مهر جارية المنصورية، وكانت له معها في القيان أحاديث طريفة، ثم تأتى له أن اشتراها، قوله: ربما استصعب واستب ... عد أمرٌ وهو داني يأتي الانسان ما يه ... واه في صفو الزمان فيرى المستخذىء الآ ... يس من نيل الأماني قد حوى ما كان يرجو ... في اغتباطٍ وأمان وقال أيضاً: كم قد أرتنا صروف الدهر من عجب ... ومن محبّ شديد السقم والوصب صفا له الدهر حتى نال بغيته ... ممن تعشّقه في أيسر الطلب وأخباره معها ومع غيرها من القيان عجيبة. قالت له زاد مهر هذه مرة، وهي في القيان، وقد دعاها: خذ لي الطالع في شيء قد أضمرته. فأخذ الطابع وزرقها فقال: سألت عن رجل عليل القلب، شديد الكرب، دائم الفكرة، طويل الحيرة، قد أشفى على أمر عظيم في طاعة إنسان عزيز. فضحكت، ثم قالت مسرعة: على بظر أم الكاذب! والله ما سألت إلا عن الثوب المصمت الذي وعدتني به، متى تبعث به إلي. فخجل، وبعث به إليها. وطرز مرة منديلاً بهذه الأبيات، وأنفذه إليها: أنا رسولٌ من فتىً عاشق ... آدمعه في خدّه جاريه هذا ابن جمهورٍ فجودي له ... منك بما يهواه يا قاسيه وليست النفس وإن شفّها ... حبّك يا مولاته ساليه فردت المنديل، وقد طرزت في وسطه: أم من يسخر بنا حتى ينيكنا زانيه! وكتب إليها، وقد كانت هجرته: يا سيدة عبدها، والله، إن الذي بلغك باطل، لكنني أعترف به طاعةً لك، وأقول كما قال ربيعة الأسدي: هبيني امرءاً أذنبت ذنباً جهلته ... ولم آته عمداً وذو الحلم يجهل عفا الله عما قد مضى لست عائداً ... وها أنا ذا من سخطكم أتنصل وقد قلت أيضاً: أملي إن كنت أخطأ ... ت رشادي في هواك فلقد أسهرت عيناً ... أرقت عند كراك فاصفحي عني وجودي ... جعلت نفسي فداك فوقعت على ظهر الرقعة: ما لك تغم نفسك، وتتنطع في كتب الأشعار؟ وجه إلي بالغلالة، وقد اصطلحنا! وله فيها. باتت عداك كما أبيت ... ولقي حسودك ما لقيت يا من شقيت بحبّه ... صل، لا شقيت كما شقيت لا خنت عدك ما حييت ... ولا قطعت ولا نسيت كن كيف شئت فإنني ... أرعى ودادك ما بقيت وقال لها يوماً: يا قحبة! قالت له: يا ابن القحبتين! فقال لها: ويلك أقول لك يا قحبة، فتقولين لي يا ابن القحبتين؟ فقالت: نعم! أنا شموس، أرد بالزوج! وكنا نحضر مجلسه بالبصرة، فيملي أخبار أهل البيت، عليهم السلام. فإذا فرغ من الاملاء، ابتدأ جواريه فقرأن بألحان ثم قلن القصائد الزهديات. فإذا فرغن من ذلك، انصرف من انصرف واحتبس عنده من يأنس به، وعمل الغناء والشرب. قال: وكان عبدون بن مخلد، أخو صاعد بن مخلد، عند وفاة أخيه وإطلاقه من الحبس، صابر إلى دير قنى، فأقام فيه وتعبد. وكان عبدون هذا، ناقص الصنعة شديد التخلف. وبلغ مع ذلك مبلغاً عظيماً في أيام أخيه. قال: فأهدت ريق المغنية إلى عبدون فاكهة مبكرة، فيها تين ورمان وغيرهما. فقال لكاتبه: اكتب إليها جواب رقعتها بشعر. فحلف أنه ما قال شعراً قط! فغضب عبدون غضباً شديداً، وقال: أنت بين يدي منذ سنين لا تحسن القصائد السبع؟ يا حمار، أكتب إليها: قد أتتنا هديّتانك ... في يوم مهرجانك وأكلنا من رمّانك ... لأنك جانجانتنا ونحن جانجانك

عمر كسكر

وكان صاعد، من رجالات الناس حزماً وضبطاً وكفاية وكرماً ونبلاً. وكان كثير الصدقات والصلوات ليلاً ونهاراً. وكان في أيام وزارته للموفق، يركب إلى دار الموفق، فيقيم بحضرته أربع ساعات ثم ينصرف إلى منزله، فينظر في حوائج الناس وأمور الحاضر والغائب إلى الظهر، ثم يتغدى وينام، ثم يجلس بالعشي فينظر في الأعمال السلطانية إلى عشاء الآخرة، لا يبرح أو يحصل جميع الأموال ما حمل منا وما أنفق وما بقي. ويعمل له بذلك عملاً في كل يوم ويعرض عليه، وما يخفى عنه شيء مما يجري في الأعمال كل يوم. ثم يأمر في أمر ضياعه وأسبابه، ويتقدم إلى وكلائه وخاصته بما يحتاج إليه. ثم يتشاغل بعد ذلك مع نديم يتشاغل بحديثه ويأنس به. ثم ينام، ويقوم في آخر الليل فلا يزال يصلي إلى طلوع الفجر، ثم يأذن للناس فيسلمون عليه، ثم يركب إلى دار الموفق. قال: ولما انصرف صاعد من فارس، شكا إليه الموفق أمر عمرو بن الليث وقلة الأموال وما يحتاج إليه لانهاض العسكر. والتمس منه احتيال مال يخرج به راشداً إلى الصفار. فقال والله ما لي حيلة أكثر من حظر النفقات ومنع المرتزقين. فقال الموفق: أين يقع ذلك مما أحتاج؟ والذي أريد أن تأخذ من التجار قرضاً وتوظف عليهم وعليك وعلى الكتاب والعمال مالاً نستعين به على إخراج راشد. فإذا اتسعنا رددناه عليهم. فاستوحش صاعد من ذلك وأراد إعمال الحيلة في التباعد عنه. فقال: أما بواسط، فلا يتهيأ لي. ولكن إن أذن لي الأمير في المصير إلى مدينة السلام، رجوت أن أحتال على ما يريد. فقال: إعزم على ذلك. وكتب إلى أبي العباس ابنه بالقبض على ما لصاعد بسر من رأى وبغداد وجميع أسبابه. قال إسحق بن إبراهيم الكاتب: فرأيت صاعداً في اليوم الذي قبض عليه فيه متثاقلاً عن المصير إلى الموفق. فلم أزل به إلى أن قعد في الطيار وهو على غاية الكراهة، ووصل إلى حضرة الموفق، وقد واقف الموفق راشداً أن يسير إلى دار صاعد عند حصوله بين يديه، فيقبض على ما فيها وعلى ابنه وأسبابه. فلما رأى صاعد عند مسيره الجيش على الجسر، قال: ما هذا، أعز الله الأمير؟ قال: استأذنني راشد في عرض رجاله الذين يخرجون معه إلى فارس، وقد مضى لعرضهم. قال فأقوم وأمضي نحوهم واحضر عرض الجمال معه. قال: إفعل. فوثب صاعد ليمضي، فعدل به إلى الحجرة التي أعدت له، ووكل به، وقبض على ما كان له بواسط، وعلى عبدون أخيه وجميع أموالهما في يوم واحد. وحصل مما قبض عنه وعن أخيه وابنه من الضياع ما مقدار ارتفاعه ألف ألف دينار. ووجد لهم من المتاع والكسوة والطيب والجوهر والفرش والآلات ما لا قيمة له كثرةً، ونحو أربعة آلاف رأس من الدواب والبغال، وأربعة آلاف غلام بين فحل وخادم. ولم يوجد له ما ظهر من المال إلا نحو مائتي ألف دينار. ثم وضع يده في كشف أموالهم وودائعهم ومصادارت أسبابهم، فكان ذلك أمراً عظيماً. ولم يزل محبوساً إلى سنة خمس وتسعين ومائتين، ثم نقل إلى دار ابن طاهر، فمات هناك من خلفة أصابته. فدفن بإزاء الدار المعروفة به. ومات أخوه عبدون، وهو مترهب بدير قنى، في سنة عشر وثلثمائة. عمر كسكر وهو أسفل من واسط، في الجانب الشرقي منها، بالقرية المعروفة ببرجوني. وفيه كرسي المطران. وهو عمر كبير عظيم حسن البناء محكم الصنعة. حوله قلايات كثيرة، كل قلاية منها لراهب، وسبيلها سبيل القلايات التي بدير قنى. ويحيط بالموضع بساتين كثيرة فيها الشجر والنخل وسائر الثمار. فكل ذي ظرف يطرقه وكل ذي شجن يسلى به. ولمحمد بن حازم فيه، وكان قصده أيام مقام الحسن بن سهل بواسط، ومدح الحسن بن سهل، وله معه حديث نذكره بعقب الشعر: بعمر كسكر طاب اللهو والطرب ... واليادكارات والأدوار والنخب وفتيةٍ بذلوا للكأس أنفسهم ... وأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب وأنفقوا في سبيل القصف ما وجدوا ... وانهبوا ما لهم فيها وما اكتسبوا محافظين إن استنجدتهم دفعوا ... وأسخياء إن استوهبتهم وهبوا نادمت منهم كراماً سادة نجباً ... مهذّبين نمتهم سادةٌ نجب فلم نزل في رياض العمر نعمرها ... قصفاً وتغمرنا اللذات والطرب والزهر يضحك والأنواء باكيةٌ ... والناي يسعد والأوتار تصطخب

والكأس في فلك اللذات دائرةٌ ... تجري ونحن لها في دورها قطب والدهر قد طرفت عنّا نواظره ... فما تروعنا الأحداث والنّوب وكان محمد بن حازم، أحد الشعراء المطبوعين، يجيد كل فن يركبه ويأتي بالمعاني التي تستغلق على غيره. وكان أكثر شعره في القناعة ومدح التصون وذم الحرص والطمع. وذكر محمد بن حازم هذا، قال: عرضت لي حاجة في عسكر الحسن بن سهل، فأتيته وقد كنت قلت في السفينة شعراً. فدخلت إلى محمد بن سعيد بن سالم الباهلي، فانتسبت له فعرفني وأنزلني وأكرم مثواي. ثم قال لي: ما قلت في الأمير؟ قلت: لم أقل بعد شيئاً. فقال رجل كان معي في السفينة: بلى، قد قال أبياتاً. فسألني أن أنشده إياها، فأنشدته: وقالوا لي مدحت فتى كريماً ... فقلت: وكيف لي بفتىً كريم بلوت الناس مذ خمسين عاماً ... وحسبك بالمجرّب من عليم فما أحدٌ يعدّ ليوم خيرٍ ... ولا أحدٌ يعود على حميم ويعجبني الفتى وأظن خيراً ... فأكشف منه عن رجل لئيم تقيل بعضهم بعضاً فأضحوا ... بني أبوين قدّاً من أديم فطاف الناس بالحسن بن سهل ... طوافهم بزمزم والحطيم وقالوا سيدٌ يعطي جزيلاً ... ويكشف كربة الرجل الكظيم فقلت مضى بذمّ القوم شعري ... وقد يؤتى البرىّ من السقيم وما خبرٌ ترجّمه ظنونٌ ... بأشفى من معاينة الحليم فإن يك ما تنشر عنه حقاً ... رجعت بأهبة الرجل المقيم وإن يك غير ذاك حمدت ربي ... وزال الشك عن رجل حليم وليس المال يعطفني عليه ... ولكن الكريم أخو الكريم فلما أنشدته الشعر: قال: بمثل هذا تلقى الأمير؟ والله لو كان نظيرك لما جاز لك أن تخاطبه بهذا. قلت: صدقت، ولذلك قلت أني لم أمدحه. ولكني سأمدحه مدحةً تشبهه. قال: إفعل! ودخل إلى الحسن، فأخبره الخبر، وأنشده الشعر وعجبه من جودة البيت الأخير. فأمر بإدخالي عليه لغير مدح. فأدخلت. فأمرني أن أنشده الشعر، فاستعفيته: فلم يعفني، وقال: قد قنعت بهذا العذر، إذ لم تدخلني في جملة من ذممت! ومع هذا، فعلينا حسن مكافأتك. فأنشدته، فضحك وقال: ويحك! مالك وللناس تعمهم بالهجاء؟ حسبك الآن من هذا النمط وأبق عليهم. فقلت: قد وهبتهم للأمير! قال: قد قبلت، وأنا أطالبك بالوفاء مطالبة من أهديت له هدية فقبلها. ثم وصلني فأجزل. فقلت فيه، وأنشدته: وهبت القوم للحسن بن سهلٍ ... فعوّضني الجزيل من الثواب وقال: دع الهجاء وقل جميلاً ... فإن القصد أقرب للصواب فقلت له: برئت إليك منهم ... فليتهم بمنقطع التراب ولولا نعمة الحسن بن سهلٍ ... عليّ لسمتهم سوء العذاب أكيدهم مكايدة الأعادي ... واختلهم مخاتلة الذئاب وما مسخوا كلاباً غير أني ... رأيت القوم أشباه الكلاب فضحك ثم قال: ويلك! الساعة ابتدأت بهجائهم ما أفلتوا منك بعد. فقلت: هذه بقية طفحت على قلبي، وأنا كاف عنهم ما أبقى الله الأمير. قال: وكان محمد بن حازم قد نسك وترك شرب النبيذ. فدخل يوماً على إبراهيم بن شكلة، فحادثه وأكل معه، وجلس إبراهيم للشرب، وسأله أن يشرب معه، فامتنع، وقال: أبعد خمسين أصبو ... والشيب للجهل حرب سنٌّ وشيبٌ وجهلٌ ... أمرٌ، لعمرك، صعب يا ابن الامام فهلاّ ... أيام عودي رطب وشيب رأسي قليلٌ ... ومنهل الحبّ عذب وإذ سهامي صيابٌ ... ونصل سيفي عضب وإذ شفاء الغواني ... منّي حديثٌ وقرب فالآن لما رأى بي ... العذّال ما قد أحبّوا وآنس الرشد منّي ... قومٌ أُعاب وأصبو آليت أشرب كأساً ... ما حج لله ركب

وذكر حمدان بن يحيى، قال: آخر ما فارقت عليه محمد بن حازم أنه قال لي: لم يبق علي شيء من اللذات إلا بيع السنانير! قال: فقلت له: أسخن الله عينك! أيش لك في بيع السنانير من اللذة؟ قال: تعجبني العجوز الرعناء تخاصمني، وتقول: هذا سنوري سرق مني، فأقول لها: كذبت، ثم تشتمني وأشتمها وتخاصمني وأخاصمها! قال: وأنشدني: صل خمرةً بخمار ... وصل خماراً بخمر وخذ بحظّك منها ... زاداً إلى حيث تدري فقلت: إلى أين، ويحك؟ فقال: إلى الهاوية، يا رقيع! ومن مليح شعره، قوله: أيا ابن سعيد جزت بي غاية البرّ ... وحمّلتني ما لا أطيق من الشكر وإن امرءاً أعطاك مجهود شكره ... وفتّ ولم يبلغ مداك لفي عذر تقلّب حال للفتى بعد حالةٍ ... وتبقى أيادٍ حرةٌ لفتىً حرّ ومن جيد شعره، قوله: وإني لذو ودّ لمن دام وده ... وجافٍ لمن رام الجفاء ملول وإن امرءاً يأوي إلى دار ذلةٍ ... تعبّده فيها الرجاء ذليل وفي اليأس من ذلّ المطامع راحةٌ ... وفي الناس ممن لا تحبّ بديل وقال في القناعة: الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسنٌ جميل أصبحت مستوراً معافى ... بين أنعمه أجول خلواً من الأحزان خفّ ... الظهر يقنعني القليل لم يشقني طمعٌ ولا ... حرصٌ ولا أملٌ طويل سيّان عندي ذو الغنى ال ... متلاف والرجل البخيل ونفيت باليأس المنى ... عني فطاب لي المقيل والناس كلّهم لمن ... خفّت مؤونته خليل قال محمد بن حازم: بعث إلي بعض الطاهرية، وكنت قد بالغت في هجوه وأفرطت، بألف درهم وتخت ثياب، وقال: أما ما قد مضى، فلا سبيل إلى رده، ولكني أحب ألا تزيد عليه شيئاً. فرددت الدراهم والثياب، وكتبت إليه: لا ألبس النعماء من رجلٍ ... ألبسته عاراً على الدهر ثم أمسكت عن هجائه. قال: وكان سعيد بن مسعود القطربلي صديقاً لي، فسألته حاجة فردني عنها، فانقطعت عنه، فبعث إلي بألف درهم وترضاني، فرددتها، وكتبت إليه: متسع الصدر رحيبٌ لما ... يضيق عنه الحوّل القلّب راجع بالعتبى فاعتبته ... وربّما أعتبك المذنب أجل وفى الدهر على أنه ... موكّلٌ بالبين مستعتب سقياً ورعياً لزمان مضى ... عني وسهم الشامت الأخيب قد جاءني منك مويل فلم ... أعرض له والحرّ لا يكذب أخذي مالاً منك بعد الذي ... أوليتنيه مركبٌ يصعب أبيت أن أشرب عند الرضا ... والسخط إلا مشرباً يعذب أعزّني اليأس وأغنى فما ... أرجو سوى الله ولا أرهب قارون عندي في الغنى معدمٌ ... وهمّتي ما فوقها مذهب فأي هاتين تراني بها ... أصبو إلى مالك أو أرغب ومن شعره في القناعة، قوله: من أعمل اليأس كان اليأس جاعله ... معظّماً أبداً في أعين الناس ومن رماهم بعين الطامعين رأى ... ذلاًّ وحسّوه مرّ المنع في كاس اليأس خيرٌ وما للناس من ثمرٍ ... هات امرءاً ذلّ بعد اليأس للناس وقال في هذا المعنى: جعلت مطيّة الآمال يأساً ... فآواني إلى كنفٍ وسيع فتلك مطية الآمال غفلٌ ... بلا رحلٍ يشدّ ولا نسوع لعمرك، للقليل أصون وجهي ... به في الأوحدين وفي الجميع أحبّ إلي من طلبي كثيراً ... تمدّ إليه أعناق الخضوع فعش بالقوت يوماً بعد يوم ... كمصّ الطفل فيقات الضروع ولا ترغب إلى أحدٍ بحرصٍ ... رفيع في الأنام ولا وضيع وقد رحل الشباب وحلّ شيبٌ ... فهل لك في شبابك من رجوع

ديارات مصر التي تقصد للشرب فيها والتنزه بها فمنها: دير القصير

قال محمد بن حازم: دخلت على المأمون، فلما مثلت بين يديه، قال: كيف بصرك بأيام الناس وأخبار العرب؟ قلت: أنا على الميدان، فليطلق من عناني! قال: أنشد ما بدا لك. فتركت ما أومأ إليه وعملت في صلاح شأني، وقلت: مجلس خلافةٍ ولست آمن نبوة، فأنشدته: رزقت عقلاً ولم أُرزق مروءته ... وما المروءة إلا كثرة المال إذا أردت مساماةً تقاعد بي ... عمّا ينوه باسمي رقّة الحال قال المأمون: الشيخ يشكو رقة الحال، فليدفع إليه ألف درهم، وتبسم. فقلت: ما وراء التبسم إلا خير، فأنشدته: أنت سماءٌ ويدي أرضها ... والأرض قد تأمل غيث السما فازرع يداً عندي محمودةً ... تحصد بها في الناس حسن الثنا قال: هذا المعنى أقوى من الأول، وأمر لي بألفي درهم، ثم قال: خدعتني! قلت: قد حضرني بيتان في الخديعة، فقال: وما هما؟ فأنشدته: وإذا الكريم أتيته بخديعةٍ ... فرأيته فيما تروم يسارع فاعلم بأنك لم تخادع جاهلاً ... إن الكريم بفعله يتخادع فقال: هما والله أحسن من الأول. وأمر لي بمثل ما أمر به. وسألني أن أنشده، فأنشدته: لا ترهقنّك ضجرةٌ من سائلٍ ... فلخير دهرك أن ترى مسؤولا لا تجبهنّ بالمنع وجه مؤمّل ... فبقاء عزّك أن ترى مأمولا واعلم بأنك عن قليل صائرٌ ... خبراً، فكن خبراً يروق جميلا يلقى الكريم فيستدل ببشره ... وترى العبوس على اللئيم دليلا فقال: لله درك، ما أحسن معانيك! يا غلام، صك له بمثل ما أعطيناه. وله من هذا الفن وغيره كل شيء حسن. ولولا خروج الكتاب عن حده المرسوم وخوف الاطالة، لأوردت من غرر شعره ومحاسنه ما يلتذ به سامعه. وفي ما أوردنا كفاية. ديارات مصر التي تقصد للشرب فيها والتنزه بها فمنها: دير القصير دير القصير وهذا الدير في أعلى الجبل، على سطح قلته. وهو دير حسن البناء، محكم الصنعة، نزه البقعة. فيه رهبان مقيمون به. وله بئر منقورة في الحجر يستقى الماء له منها. وفي هيكله صورة مريم في حجرها صورة المسيح عليه السلام. والناس يقصدون الموضع للنظر إلى هذه الصورة. وفي أعلاه غرفة بناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، لها أربع طاقات إلى أربع جهات. وكان كثير الغشيان لهذا الدير. معجباً بالصورة التي فيه، يشرب على النظر إليها. وفي الطريق إلى هذا الدير من جهة مصر صعوبة. فأما من قبليه فسهل الصعود والنزول. وإلى جانبه صومعة لا تخلو من حبيس يكون فيها. وهو مطل على القرية المعروفة بشهران وعلى الصحراء والبحر. وهذه القرية المذكورة، قرية كبيرة عامرة على شاطىء البحر، ويذكرون أن موسى، صلى الله عليه، ولد فيها، ومنها ألقته أمه إلى البحر في التابوت. فدير القصير هذا، أحد الديارات المقصودة لحسن موقعه وإشرافه على مصر وأعمالها. وقد قال فيه شعراء مصر وذكروا طيبه ونزهته. ولأبي هريرة ابن أبي العصام، فيه: كم لي بدير القصير من قصف ... مع كل ذي صبوةٍ وذي ظرف لهوت فيه بشادنٍ غنج ... تقصر عنه بدائع الوصف وقال فيه أيضاً: أذكرتني يا دير من قد مضى ... من أهل ودّي ومصافاتي كم كان لي فيك وفيهم معاً ... من طيب أيام وليلات أشكو إلى الله مصابي بهم ... وفقدنا أهل المروءات ولمحمد بن عاصم، في هذا الدير: إن دير القصير هاج ادكاري ... لهو أيامي الحسان القصار وزماناً مضى حميداً سريعاً ... وشباباً مثل الرداء المعار عرفتني ربوعه بعد نكرٍ ... فعرفت الرّبوع بالانكار فلو أن الديار تشكو اشتياقاً ... لشكت جفوتي وبعد مزاري ولكادت نحوي تسير لما قد ... كنت فيها سيّرت من أشعاري فكأني إذ زرته بعد هجرٍ ... لم يكن من منازلي ودياري إذ صعودي على الجياد إليه ... وانحداري في المعنقات الجواري بصقورٍ إلى الدماء صوادٍ ... وكلابٍ على الوحوش ضواري

دير مر حنا

منزلاً لست محصياً ما لقلبي ... ولنفسي فيه من الأوطار منزلاً من علوّه كسماء ... والمصابيح حوله كالدراري وكأن الرهبان في الشعر الأسود ... سود الغربان في الأوكار غربه ذو البحار والأنهار ... في ثيابٍ من سندسٍ ذي اخضرار غردت بيننا الطيور فطارت ... بفؤاد المتيّم المستطار كم خلعت العذار فيه ولم أر ... ع مشيباً بمفرقي وعذاري كم شربنا على التصاوير فيه ... بصغارٍ محثوثةٍ وكبار صورةٌ من مصورٍ فيه ظلّت ... فتنةً للقلوب والأبصار أطربتنا بغير شدوٍ فأغنت ... عن سماع العيدان والمزمار يفتر الجسم حين ترميه حسناً ... بفنونٍ من طرفها السحّار وإشاراتها إلى من رآها ... بخضوع وذلةٍ وانكسار لا وحسن العينين والشفة اللمي ... اء منها وخدها الجلّناري لا تخلّفت عن مزاري لدير ... هي فيه ولو نأى بي مزاري فاقصرا عن ملامي اليوم إني ... غير ذي سلوةٍ ولا اقصار فسقى الله أرض حلوان فالنخ ... ل فدير القصير صوب القطار كم تنبّهت من لذاذة نومي ... بنعير الرهبان في الأسحار والنواقيس صائحاتٌ تنادي ... حيّ يا نائماً على الابتكار قبل أن يبلي الجديد الجديدا ... ن بليل معاقب لنهار إنما هذه الحياة عوارٍ ... وعلى المستعير ردّ المعار ولابن الزنبقي المصري، في دير القصير، من شعر طويل: يا حسرةً في القلب ما أقتلها ... كأنها في القلب أطراف الأسل كم كم وكم من ليلةٍ أحييتها ... يا صاحبي بالدير في خير محل دير القصير الفرد في صفاته ... يا من رأى الجنّة في رأس جبل أشربها راحاً شمولاً قرقفاً ... تدبّ في الجسم صباحي والأصل يديرها ذو غنج بظرفه ... يحيي من شاء، ومن شاء قتل كأنه غصنٌ من البان وقد ... زاد عليه بالقوام المعتدل ألثغ، حتف النفس في لثغته ... تاه بها على الورى تيه مدل إن قال نارٌ قال ناغٌ أو يقل ... نورٌ يقل نوغٌ بدلّ وغزل وضرب الناقوس فيه راهبٌ ... ضرباً على ريثٍ وضرباً بعجل فاحثث كؤوس الراح يا ساقينا ... واغتنم الدهر فللدهر دول من قبل أن يطرقنا بينٌ فلا ... ينفع عند البين ليتٌ ولعل دير مر حنا وهذا الدير، على شاطىء بركة الحبش، قريب من البحر، وإلى جانبه بساتين أنشأ بعضها الأمير تميم أخو أمير المؤمنين العزيز بالله عليهما السلام. ومجلس على عمد حسن البناء مليح الصنعة مصور، أنشأه الأمير تميم أيضاً. وبقرب هذا الدير، بئر تعرف ببئر نجاتي، عليها جميزة، تجتمع الناس إليها ويشربون عندها. فهذا الموضع، من مواضع اللعب ومواطن اللهو والطرب، نزه في أيام النيل وزيادته وامتلاء البركة، حسن المنظر، نزه البقاع، وكذلك في أيام الزرع والنوار. ولا يكاد يخلو من المتطرحين والمتنزهين. وقد ذكرت الشعراء حسنه وطيبه. ولابن عاصم، فيه: يا طيب أيام سفحت مع الصبى ... طوع الهوى فيها بسفح المنظر فالبركة الغناء فالدير الذي ... قد هاج فرط صبابتي وتفكّري فاحثث كؤوسك يا غلام وأعفني ... فلقد سكرت وخمر طرفك مسكري وأرى الثريّا في السماء كأنها ... تاجٌ تفصّل جانباه بجوهر فاشرب على حسن الرياض وغنّني: ... أُنظر إلى الساقي الأغنّ الأحور فلعلّ أيام الحياة قليلةٌ ... ولعلّني قدّرت ما لم يقدر وقال أيضاً: عرّج بجمّيزة العرجا مطيّاتي ... بسفح حلوان والمم بالتويتات

دير نهيا

والمم بقصر ابن بسطام فربّتما ... سعدت فيه بأيامي وليلاتي واقرأ على دير مر حنّا السلام فقد ... أبدى تذكّره مني صباباتي وبركة الحبش اللاتي ببهجتها ... أدركت ما شئت من لهوي ولذّاتي كأن أجبالها من حولها سحبٌ ... تقشّعت بعد قطرٍ عن سماوات كأن أذناب ما قد كان صيد لنا ... من أبرميس وراي بالشبيكات أسنّةٌ خضبت أطرافها بدم، ... أو دستج نزعوه من جراحات منازلاً كنت أغشاها وأطرقها، ... وكنّ قدماً مواخيري وحاناتي وقال أيضاً: أأيامي بشاطي البركتين ... سقاك الله نوء المرزمين لقد أذكرتني طربي ولهوي ... ووكّلت الفؤاد بلوعتين ترى أيامنا فيك المواضي ... يعود وصالها من بعد بين سقى الله البقاع ملثّ قطرٍ ... وأعطش منزلاً بالجلهتين وطلّ الطيلسان بصوب طلٍ ... إلى النخلات فالجمّيزتين ودار على المدار وهام مزنٍ ... تسير إلى جنان السروتين وخصّ الربوتين فكم غزالٍ ... ربيب بين تلك الربوتين منازل قد شهدنا اللهو فيها ... بأكرم معهدين ومألفين فكم من بيعة عقدت لقصفٍ ... وعزف في رياض البقعتين وكم من مدنفٍ قد حاز وصلاً ... ونال مناه وسط المنيتين وللعباس بن البصري، من قصيدة: يا حامل الكأس أدرها واسقني ... قد ذعر الشوق فؤادي فانذعر أما ترى البركة ما أحسنها ... إذا تداعى الطير فيها فصفر أما ترى نوّارها أما ترى ... حسن مسيل مائها إذا انحدر كأنما صفر الدنانير بها ... مبذولةٌ ليس بها من متّجر كأنما الجوهر في ألوانه ... نثّر في تلك النواحي فانتثر كأنما كفّ جوادٍ ولعت ... في ذلك الروض بتبديد البدر وأبيض النرجس في أجفانه ... دمع الندى لولا التشاجي لقطر ونظرة الورد إلى أترابه ... نظرة معشوقٍ بلحظ منكسر دعني فما أهلك إلا بالجوى ... ما عيشة العاشق إلا في كدر ولصالح بن موسى مولى تميم، يذكر البركة: وحسبك البركة مرأىً لا يمل تبذل وشياً لم يكن بمبتذل متصل الأطراف غير منفصل من شاطىء النيل إلى سفح الجبل أكرم بتلك منزلاً لمن نزل قد نشطت أطياره بعد الكسل وسجعت ورجعت على مهل بين الثقيل والخفيف والرمل كأنهن في مراءٍ وجدل ينحن لا للحزن لكن للجذل يذكرننا أيامنا الغرّ الأول وقال أيضا، يذكر الدير والبركة: إني لمثلك ناصحٌ ... فاجنح إلي ولا تغر بكّر إلى دير المعا ... فر، آن أوقات البكر أو ما ترى حسن الريا ... ض وما اكتسين من الزهر وجه الربيع، وحبّذا ... وجه الربيع إذا ظهر الوشي ينشر، والملا ... حف والمطارف، والحبر هذا البنفسج في الحدا ... د بغير حزنٍ قد ظهر وأتى البهار بصفرةٍ ... فلكلّ حسن قد بهر وكأن آذريونه ... كاسات خمرٍ تبتدر وكأنما المنثور عق ... دٌ في جوانبه انتشر والأقحوان فضاحكٌ ... عن عسجدٍ فيه درر وشقائق النّعمان كال ... أعلام ثمّ لمن نظر وتورّد الورد الذكيّ ... وفاح مسكاً في السحر وتجاوبت طير الغصو ... ن بكلّ لحنٍ مشتهر فمغرّدٌ حسن الغنا ... ء شدا وآخر قد زمر وتسرّقت أنفاسنا ... بنسيم أنفاس السحر دير نهيا

ونهيا بالجيزة. وديرها من أحسن الديارات وأنزهها وأطيبها، عامر برهبانه وسكانه. وله في النيل منظر عجيب، لأن الماء يحيط به من جميع جهاته. فإذا انصرف الماء وزرع، أظهرت أراضيه غرائب النوار وأصناف الزهر. فهو من المتنزهات الموصوفة والبقاع المشهورة. وله خليج يجتمع إليه سائر الطيور، فهو أيضاً متصيد حسن. وقد وصفته الشعراء وذكرت حسنه وطيب موضعه. ولعباس بن البصري، فيه: يا من إذا سكر النديم بكأسه ... غريت لواحظه بسكر الفيّق طلع الصباح فسقّني تلك التي ... ظلمت فشبّه لونها بالزنبق والق الصباح بنور وجهك إنه ... لا يلتقي الفرحان حتى يلتقي قلبي الذي لم يبق فيه هواكم ... إلا بقية نار شوقٍ قد بقي أواما ترى وجه الربيع وقد زهت ... أنواره بنهاره المتألق وتجاوبت أطياره وتبسّمت ... أشجاره عن ثغر زهرٍ مونق لم يغذها طلّ الرذاذ ببرده ... حتى تفتّح كل جفنٍ مطبق والبدر في وسط السماء كأنه ... وجهٌ مليحٌ في قناع أزرق يا للديارات الملاح وما بها ... من طيب يوم مرّ لي بتشوّق أيام كنت وكان لي شغلٌ بها ... وأسير شوق صبابتي لم يطلق يا دير نهيا، ما ذكرتك ساعةً ... إلا تذكرت الشباب بمفرقي والدهر غضٌّ والزمان مساعدٌ ... ومقامنا ومبيتنا بالجوسق يا دير نهيا إن ذكرت فإنني ... أسعى إليك مدى الخيول السبّق وإذا سئلت عن الطيور وصيدها ... وجنوسها فاصدق وإن لم تصدق فالغرّ، فالكروان، فالفارور إذ ... يشجيك في طيرانه المتحلّق أشهدت حرب الطير في غيطانه ... لما تجوّق منه كلّ مجوّق والزمّج الغضبان في رهط له ... ينحطّ بين مرعّدٍ ومبرق ورأيت للبازي سطوة موسر ... ولغيره ذلّ الفقير المملق كم قد صبوت بغرّتي في شرّتي ... وقطعت أوقاتي برمي البندق وخلعت في طلب المجون حبائلي ... حتى نسبت إلى فعال الأخرق ومهاجرٍ ومكابر ومنافرٍ ... قلق الفؤاد به وإن لم يقلق لو عاين التفاح حمرة خدّه ... لصبا إلى ديباج ذاك الرونق يا حامل السيف الغداة وطرفه ... أمضى من السيف الحسام المطلق إرفق بعبدك لا تطل أشجانه ... وإرفق به يا صاحب الثغر النقي وقال أيضاً: أتنشط للشّرب يا سيدي ... فيومك هذا دقيق الدّروز فعندي لك اليوم مشوّيتان ... سرقتهما من دجاج العجوز وخمسون بيضةً مثل النجوم ... خبتهنّ مني في جوف كوز فغافلتها وتناولتهنّ ... ولم تنتفع بالمكان الحريز أتنشط عندي على نبقتين ... على لوزتين على قطرميز ونقصد نهيا وديراً لها ... به مطرح الورد والمرنجوز ونشرب فيها برطلٍ وجام ... وكبرّةٍ وانخابٍ بكوز فأما الطيور لفرط السرور ... فبين الرياض وبين الغروز فهذا يصيح على الحادثات: ... تنحّي، وهذا بنا: لا تجوزي وخشف أتانا رخيم الدلال ... نشا في النعيم ولبس الخزوز يحب الندامى وأشعارهم ... ويخبى ودائعهم في الكنوز ويظفر مني بشيخ مليح ... ظريفٍ أديبٍ ضحوكٍ طنوز فزرني تجدني وفي المقال ... وإلا أفي، فاكسع اليوم طيزي!

دير طمويه

وكان ابن البصري هذا من الخلعاء المجان. وله شعر يجري مجرى الهزل والطيب. وخدم أبا القاسم أونوجور بن الاخشيد، فأحسن إليه وكساه وصار يركب معه. وكان يلبس طيلساناً أزرق يتشبه بالقضاة. وكان أونوجور قد حمله على برذون أصفر غليظ بطىء السير، فكان إذا سار مع أقوام من إخوانه، قال لهم: صفوا لي موضعكم حتى ألحق بكم! وكان مليح المجالسة، كثير النادرة. وكان يبيع الصيدلة في مسجد عبد الله بمصر. دير طمويه وطمويه في الغرب بإزاء حلوان. والدير راكب البحر وحوله الكروم والبساتين والنخل والشجر. فهو نزه عامر آهل. وله في النيل منظر حسن. وحين تخضر الأرض، فإنه يكون بين بساطين من البحر والزرع. وهو أحد متنزهات مصر المذكورة ومواضع لهوها المشهورة. ولابن عاصم، فيه: أقصرا عن ملامي اليوم أني ... غير ذي سلوةٍ ولا إقصار فسقى الله دير طمويه غيثاً ... بغوادٍ موصولةٍ بسواري كم ليالٍ نبهت من نوم سكري ... بنعير الرهبان في الأسحار والنواقيس صائحات تنادي ... حيّ يا نائماً على الابتكار وقال فيه أيضاً: واشرب بطمويه من صهباء صافيةٍ ... تزري بخمر قرى هيتٍ وعانات على رياضٍ من النوّار زاهرةٍ ... تجري الجداول منها بين جنات كأن نبت الشقيق العصفري بها ... كاسات خمرٍ بدت في إثر كاسات كأن نرجسها في حسنه حدقٌ ... في خفيةٍ تتناجى بالاشارات كأنما النيل في مرّ النسيم بها ... مستلئمٌ في دروع سباريّات منازلاً كنت مفتوناً بها يفعاً ... وكنّ قدماً مواخيري وحاناتي إذ لا أزال ملحاً بالصبوح على ... ضرب النواقيس صبّاً بالديارات الديارات المعروفة بالعجائب، على ما ذكره أهلها ووصفوه عنها. فمنها: دير الخنافس وهو بين الموصل وبلد، كبير، كثير الرهبان، له يوم في السنة يجتمع الناس إليه من كل موضع، فتظهر فيه الخنافس ذلك اليوم حتى تغطي حيطانه وسقوفه وأرضه، ويسود جميعه منها. فإذا كان اليوم الثاني، وهو عيد الدير، اجتمعوا إلى الهيكل فقسوا وتقربوا وانصرفوا وقد غابت الخنافس حتى لا يرى منها شيء إلى ذلك الوقت. دير الكلب وهو بين الموصل وبلد. يعالج فيه من عضه كلب كلِب. فمن عضه كلب كلب بادر إليه فعالجوه منه برىء. ومن مضت له أربعون يوماً من العضة لم ينجع فيه العلاج. دير القيارة وهو لليعقوبية، على أربع فراسخ من الموصل، في الجانب الغربي، من أعمال الحديثة، مشرف على دجلة، تحته عين قير، وهي عين تفور بماء حار تصب في دجلة ويخرج منه القير. فما دام القير في مائه فهو لين يمتد، فإذا فارق الماء وبرد جف. وهناك قوم يجتمعون فيجمعون هذا القير يغرفونه من مائه بالقفاف، ويطرحونه على الأرض. وله قدور حديد كبار وينخل له الرمل، فيطرح عليه بمقدار يعرفونه ويوقد تحته حتى يذوب ويختلط بالرمل، وهم يحركونه تحريكاً دائماً. فإذا بلغ حد استحكامه قلب على الأرض قطعاً مجمدة ويصلب ويحمل إلى البلدان. فمنه تقير السفن والحمامات وغير ذلك مما يستعمل فيه القير. والناس يكثرون القصد لهذا الموضع للتنزه فيه والشرب، ويستحمون من ذلك الماء الذي يخرج معه القير، لأنه يقوم مقام الحمات في قلع البثور. وله قائم. وكل دير لليعقوبية والملكية فعنده قائم. فأما ديارات النسطور فلا قائم لها. دير برقوما وهذا الدير بميافارقين، على فرسخين منها في جبل عال، له عيد يجتمع الناس إليه وهو مقصود لذلك. وتنذر له النذور وتحمل إليه من كل موضع. ويقصده أهل البطالة والخلاعة للشرب فيه. وتحته برك يجتمع فيها ماء الأمطار. وبرقوما هذا، هو الشاهد الذي فيه يزعم النصارى أن له سبعمائة سنة، وأنه ممن شهد المسيح. وهو في خزانة خشب، لها أبواب تفتح أيام أعيادهم، فيظهر منه نصفه الأعلى، وهو قائم وأنفه وشفته العليا مقطوعان. وذلك أن امرأة احتالت حتى قطعت أنفه وشفته ومضت بهما، فبنت عليهما ديراً في البرية في طريق تكريت. دير باطا

دير مار شمعون بنواحي السن

وهذا الدير بالشرق. وهو دير حسن، عامر في أيام الربيع. ويسمى أيضاً دير الحمار. وشاهده يعرف بمريكس. وهو ناء عن دجلة وعن المدينة. وله باب حجر، ذكر النصارى أن هذا الباب يفتحه الواحد والاثنان حتى يتجاوز السبعة. فإن تجاوزوا السبعة لم يقدر أحد منهم على فتحه، ولا يفتحه حينئذ إلا سبعة. وذكروا أيضاً، أن فيه غرابين، تتناسل هناك، لا يخلو منها. فربما طرقه اللصوص فدخلوه. فإن حصل فيه أحد، صعد الغرابان على مرج الدير، فإذا أقبل إليه أحد ممن يطرقه أو يقصده تلقاه الغرابان يصيحان في وجهه كالمنذرين له، فيعلم أن في الدير قوماً، فيرجع. فإن لم يكن في الدير أحد لم يفعلا شيئاً من ذلك. دير مار شمعون بنواحي السن في هذا الدير كرسي الأسقف، وفيه أيضاً بئر. فمن لحقه بهق، قصده واغتسل من البئر، لم يبرح حتى يزول عنه. دير العجاج وهذا الدير بين تكريت وهيت، عامر كثير الرهبان وخارجه عين ماء تصب إلى بركة هناك. وفي البركة سمك أسود وهو طيب عذب الطعم. وحوله مزارع وخضر تسقى من تلك العين. دير الجودي والجودي هو الجبل الذي استقرت عليه السفينة. وبين هذا الجبل وجزيرة ابن عمر سبعة فراسخ. وهذا الدير مبني على قلة الجبل. يقال أنه بني منذ أيام نوح عليه السلام، ولم يتجدد بناؤه إلى هذا الوقت. وزعموا أن فيه أعجوبة. حدثني بها بعض نصارى الجزيرة، وهي أن سطحه يشبر فيكون عشرين شبراً. ثم يعاود قياسه فيكون ثمانية عشر شبراً. ثم يعاود فيكون اثنين وعشرين شبراً، في كل دفعة يشبر يختلف عدده. وأنه اعتبر ذلك وقاسه فوجده كما ذكر. كنيسة الطور وطور سينا، هو الجبل الذي تجلى فيه لموسى عليه السلام وصعق فيه. والكنيسة في أعلى الجبل، مبنية بحجر أسود. وعرض حصنه سبعة أذرع، وله ثلاثة أبواب حديد. وفي غربيه باب لطيف قدامه حجر لهم، إذا أرادوا رفعه رفعوه، وإن قصدهم أحد أرسلوه فانطبق على الموضع فلم يعرف مكان الباب. وداخله عين ماء وخارجه عين أخرى. وزعم النصارى أن بها ناراً من نوع الجديدة التي كانت بالبيت المقدس، يوقدون منها في كل عشية، وهي بيضاء ضعيفة الحر لا تحرق ثم تقوى إذا أوقد منها السرج. وهو عامر بالرهبان، والناس يقصدونه لأنه من الديارات الموصوفة. ولابن عاصم، فيه: يا راهب الدير، ماذا الضوء والنور ... فقد أضاء به في ديرك الطّور هل حلّت الشمس فيه دون أبرجها ... أو غيّب البدر فيه فهو مستور فقال: ما حلّه شمسٌ ولا قمرٌ ... لكن تقرّب فيه اليوم قورير بيعة أبى هور وهذه البيعة بسرياقوس من أعمال مصر، عامرة، كثيرة الرهبان، لها أعياد يقصدها الناس. وفيها، على ما ذكره أهلها، أعجوبة وهي إن من كانت به خنازير، يقصد هذا الموضع ليعالج به. فيأخذه رئيس الموضع فيضجعه ويأتيه بخنزير فيرسله على موضع الوجع، فيأكل الخنزير الذي فيه، لا يتعدى ذلك الموضع. فإذا تنظف الموضع، ذر عليه من رماد خنزير فعل مثل هذا الفعل من قبل ومن زيت قنديل البيعة فيبرأ، ثم يؤخذ ذلك الخنزير فيذبح ويحرق ويعد رماده لمثل هذه الحال. دير يحنس هذا الدير بدمنهور، من أعمال مصر. إذا كان يوم عيده، أخرج شاهده من الدير في تابوت، فيسير التابوت على وجه الأرض لا يقدر أحد أن يمسكه ولا يحبسه حتى يرد البحر فيغطس فيه ثم يرجع إلى مكانه. بيعة اتريب وعيدها اليوم الحادي والعشرين من بونة. يذكرون أن حمامة بيضاء تجيئهم في ذلك العيد. فتدخل المذبح، لا يدرون من أين جاءت، ثم لا يرونها إلى يوم مثله. وبنواحي اخميم دير كبير عامر، يقصدونه من كل موضع. وهو بقرب الجبل المعروف بجبل الكهف. وفي موضع من الجبل شق، إذا كان يوم عيد هذا الدير، ولم يبق من الطير المعروف ببوقير شيء في ذلك المكان، وهم به كثير حتى يجيء إلى الموضع فيكون أمراً عظيماً لكثرته واجتماعهم وصياحهم عند ذلك الشق، ثم لا يزالون واحداً بعد واحد يدخل رأسه في ذلك الشق ويصيح ويخرج ويجيء غيره فيفعل كفعله إلى أن يعلق رأس أحدهم وينشب في الموضع، فيضطرب حتى يموت. فحينئذ يتفرق الباقون ويرجعون إلى مواضعهم، فلا يبقى منها طائر. والله أعلم. خاتمة المخطوط

تم كتاب الديارات بحمد الله وعونه وقوته وحسن توفيقه. ووافق الفراغ منه، في ليلة صباحها يوم الخميس، السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة. كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله: عبد الحليم بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن عربي الدمشقي المعروف جده بالنحوي. وهو يسأل الله أن يغفر ذنوبه ويستر عيوبه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

§1/1