الدكتور علي جمعة إلى أين

طلحة محمد المسير

الطبعة الأولى 1432هـ - 2011م رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 14510/ 2011

مقدمة

مُقَدِّمَة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان .. أما بعد؛ فقد تعددت في السنوات الأخيرة أطروحات وأفكار الدكتور علي جمعة، وتتابع ظهورها واحدة تلو أخرى، خاصة في السنوات العشر الأخيرة بعد شغله منصب الإفتاء، وشغلت هذه الأطروحات كثيرًا من المهتمين والباحثين، ودار حولها النقاش في المجالس الخاصة والعامة، بين مؤيد ومعارض، ومادح وقادح، وأصبحت كثير من القضايا التي يطرحها قضايا رأي عام، تضطرب في خضمها حياة المجتمع الثقافية والفكرية بل والسياسية. وقد عمل الدكتور علي جمعة على الترويج والحشد لأطروحاته عبر عدد كبير من الوسائل؛ منها: أجهزة الدولة ممثلة في دار الإفتاء ووزارة الأوقاف ووسائل الإعلام الرسمية، ومنها: نخبة من المساعدين الذين يروجون له وينافحون عنه، ومنها: مجموعة من رجال الأعمال الذين يدعمون مشاريعه ومقترحاته، ومنها: كثير من المؤسسات والمنظمات الدولية والعالمية.

لكن المتأمل في المضمون العلمي لآراء وأطروحات الدكتور علي جمعة ووسائل الإقناع التي يتبعها، يجد وسائل عديدة قد تقنع طائفة من الناس وتأخذ بلُبهم، ولكن عند التحقيق والتمحيص لا تثبت كثير من هذه الوسائل على قدم راسخة، وتفتقد التأصيل العلمي، وتجانب المنهج الاستدلالي القويم. ومع الاستغراق في نقاش الجزئيات المتعددة التي يطرحها الدكتور علي جمعة، غاب في كثير من الأحيان التصور الشامل والعميق للروابط التي تربط بين هذه القضايا التي يطرحها، هذا التصور الشامل الذي يضع لنا ملخصًا للأسس التي اتكأت عليها هذه الأطروحات والقضايا، والهدف الذي يجمع بين شتاتها. ويأتي هذا الكتاب كدراسة مختصرة في فكر الدكتور علي جمعة، دراسة تجمع الأمور المتشابهة والجزئيات المتناسقة؛ ليقدم تصورًا لمحورين مهمين في نتاج الدكتور علي جمعة الفكري؛ هما: أولاً: بعض أساليبه في الإقناع. ثانيًا: رؤيته للتقريب بين الإسلام والوقائع المناقضة له. والمأمول أن تساهم هذه الدراسة في الوقوف على أرض صلبة، تميز بين الحق والباطل والمقبول والمردود، وتتخطى حالة البلبلة الفكرية التي تصيب المجتمع بين حين وآخر، على إثر نشر بعض الرؤى والأفكار الخاصة. طلحة محمد المسير [email protected] القاهرة في 28 رجب 1432هـ

الفصل الأول بعض أساليب الدكتور علي جمعة في الإقناع

الفصل الأول بعض أساليب الدكتور علي جمعة في الإقناع التطاول على المخالفين التناقضات تحريف النقول الكلام المحتمل والمصطلحات الفضفاضة ذكر صفات الباطل بدقة ثم التلبس ببعضها الركون للمبتدعة والأقوال الضعيفة والباطلة الإبهار القواعد والأصول المخترعة ذكر نتائج بلا مقدمات ملائمة الإكثار من الشبهات

بعض أساليب الدكتور علي جمعة في الإقناع إن الجدال والإقناع أسلوب من أساليب التواصل بين الأفكار، وطريق من طرق اختبارها وتمحيصها؛ والإسلام حريص على سلامة الحجة ونصوعها، بعيدًا عن أساليب التحريف والتزييف التي تحاول جاهدة أن تصد عن سبيل الله باستخدام البراهين المنقوصة والدلائل المطموسة؛ لذا كانت دعوة الأنبياء واضحة صادقة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، وكانت دومًا حجة الله جل وعلا بالغة ظاهرة، قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬2) وحجة أهل الباطل داحضة ساقطة قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} (¬3). وإن المطالع المتبصر لنتاج الدكتور علي جمعة يرى بوضوح عدة أساليب جدلية يحيط بها كلامه، وعموم هذه الأساليب فيه حيدة عن المطلوب، ومحاولة تأييد الرأي الخاطئ بحجج لا تصح عند أدنى تأمل. وقد افتُتن البعض بهذه الوسائل، وظن أن هذا دليل على رسوخ في العلم وصدق في التوجه، فتقبل كثيرًا من آرائه رغم مصادمتها للحقائق الظاهرة البينة. وهذا ذكر لبعض الأساليب التي انتشرت في كثير من نتاجه، مع الاستشهاد ببعض الأمثلة التي تدل على استعماله هذه الأساليب؛ لتتضح الحقيقة وتتجلى: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 111. (¬2) سورة الأنعام، الآية 149. (¬3) سورة غافر، الآية 5.

أولا: التطاول على المخالفين

أولا: التطاول على المخالفين من الآفات التي غالبًا ما يصطحبها المهزومون، ويتاجر بها المفلسون، أنهم عندما تضعف حجتهم، وتتهافت شبهاتهم، وتظهر حقيقتهم، يلجأون إلى رمي أصحاب الحق بما يقع تحت أيديهم، وما يخرج من ألسنتهم، وأحيانًا تتحول هذه الحالة النفسية للمهزومين إلى ديدن وطبع يصعب تغييره، حتى عندما يكون الحق معهم، فيرمون من أخطأ من مخالفيهم بما ليس فيهم، ويكذبون عليهم ويفترون. وهذه أمثلة من انتقاص د. علي جمعة لمخالفيه، واحتقارهم، والتطاول على أحيائهم وأمواتهم: أ- تهجم د. علي جمعة على صحابي جليل، وسبه سبًا فظيعًا، وبلغ تجاوز الحد مبلغًا مستبشعًا، فقال: "هذا هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سبه السفلة وأحدهم (قال في الهامش: هو عبد الله بن أبي السرح ... قال الحاكم: قد صحت الرواية في الكتابين أن رسول الله أمر قبل دخول مكة بقتل عبد الله بن سعد وعبد الله بن خطل، فمن نظر في مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وجنايات عبد الله بن سعد عليه بمصر إلى أن كان من أمره ما كان علم أن النبي كان أعرف به) جاءه مستشفعًا بعثمان رضي الله عنه ... دخل ذلك السافل مع عثمان وعثمان يتشفع له والنبي يكظم غيظه" (¬1). ولا أدري ما الداعي لهذا السباب المقذع لصحابي جليل، ومعلوم أن كثيرًا من الصحابة كانوا قبل إسلامهم من أعدى أعداء الدعوة الإسلامية، فلما شرح الله صدرهم للإسلام أصبحوا أئمة يقتدى بهديهم، وما خبر عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وخالد ¬

(¬1) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 145 - 146.

بن الوليد وغيرهم كثير بخاف. أما سيدنا عبد الله بن سعد بن أبي سرح فلن يضيره هذا التطاول المشين، فله من الفضائل ما اشتهر أمره وذاع خبره، وفتح الله على يديه الفتوح العظيمة في إفريقية وما حولها، قال عنه ابن الأثير: (وأسلم ذلك اليوم فحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعد ذلك ما ينكر عليه، وهو أحد العقلاء الكرماء من قريش، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين، ففتح الله على يديه إفريقية وكان فتحًا عظيمًا) (¬1)، وقال ابن كثير: (حسن إسلام عبد الله بن سعد جدًا) (¬2). أما الكلمة التي نقلها د. علي جمعة عن الحاكم النيسابوري وهي قوله: "فمن نظر في مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وجنايات عبد الله بن سعد عليه بمصر إلى أن كان من أمره ما كان علم أن النبي كان أعرف به" فهي كلمة موهمة، ولكن لم يبلغ فيها التطاول على الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن سبه الحاكم بأنه سافل مكررًا هذه البذاءة كما فعل د. علي جمعة، ورغم ذلك فإن الحاكم النيسابوري فيه تشيع، بل زاد البعض فاتهمه بأنه رافضي، ونقل الذهبي قول أبي بكر الخطيب: (كان أبو عبد الله بن البيع الحاكم ثقة، أول سماعه سنة ثلاثين وثلاثمائة، وكان يميل إلى التشيع) (¬3) ثم نقل الذهبي عن ابن طاهر: (أنه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي، عن أبي عبد الله الحاكم، فقال: ثقة في الحديث، رافضي خبيث) ثم علق الذهبي قائلاً: (كلا ليس هو رافضيًا، بل يتشيع) (¬4). ¬

(¬1) كتاب أسد الغابة، ج3, ص156, طبعة دار الفكر- بيروت. (¬2) البداية والنهاية، ج5 ص372. (¬3) سير أعلام النبلاء، ج17 ص168. (¬4) سير أعلام النبلاء، ج17 ص174.

ومن أجمل التعليقات على قصة إسلام عبد الله بن سعد بن أبي سرح في فتح مكة بعد أن أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه، وتشفع فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة، وعفا عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، قول ابن القيم: (وساعدَ القدرُ السَّابقُ لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح) (¬1). ب- قدر الله تعالى أن يموت بعض الحجيج عند رمي الجمرات، وبدلاً من أن يواسي أهالي الضحايا، قام بالتعريض بعقولهم؛ لأنهم لم يستمعوا لفتاوى أمثاله، ممن أفتوا بالفتاوى الشاذة والآراء الغريبة، ولأنهم اتبعوا مذهب جماهير علماء المسلمين عبر مر العصور، وبدلاً من أن يحاول تصحيح الفتوى ليجد علاجًا نابعًا من فقه جمهور العلماء، يتفادى مشكلة الزحام دون تغيير لأوقات الرمي، أصر على مسلكه، وقال عن الضحايا: "وهذه نسبة كبيرة، تشير إلى نوع من الخلل في عقلية المسلمين الذين يصرون على الإعراض عن الحلول والآراء المعتبرة التي تحفظ البلاد والعباد، متمسكين في ذلك بتلك الفتاوى التي لا تراعي الواقع" (¬2) فالتمسك برأي جماهير العلماء الذين يحددون أوقاتًا لرمي الجمار يعتبر خللا في العقلية!! وكان الأجدى له أن يقترح حلولاً تيسر التنقلات وتضع البدائل، بدل أن يحاول إقناع الجماهير التي تأبى سماع فتاواه، وتنفر عن هذه النوعية من الفهم، ثم يأتي ليسب الأموات والأحياء. ج- وهذا مثال آخر تعرض فيه لأحد مشايخ الأزهر المعروفين، ورماه بالنقائص واحدة بعد أخرى، وشنع عليه أشد تشنيع، وزاد أن نشر هذا التشنيع على صفحات صحيفة الأهرام، وهي صحيفة رائجة يكتب فيها مسلمون وكافرون وكثير من الزنادقة المنافقين، وذلك أن الدكتور عبد العظيم المطعني رحمه الله كتب مقالاً ينتقد فيه دار الإفتاء ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، ج3، ص464. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الجمرات وأزمة الفكر2، بتاريخ 23 - 1 - 2006م.

على نعيها الدكتور زكي بدوي، والدكتور زكي بدوي رجل مصري، عاش جل حياته في بريطانيا، وكان يركز في آرائه على أمور ومصطلحات معاصرة، يكثر فيها الغبش؛ مثل: الدعوة للتسامح، والحوار، والاندماج بين المسلمين والمجتمعات الغربية، وحوار الأديان، وحقوق المرأة السياسية، وطرح مفهومه عن الإسلام البريطاني، عندها قام د. علي جمعة بمهاجمة الدكتور عبد العظيم المطعني رحمه الله، علمًا بأن الدكتور عبد العظيم المطعني في مقام أساتذة د. علي جمعة، وقد نقل عنه د. علي جمعة نقولاً كثيرة عندما تحدث عن المجاز في كتابه البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، الشاهد أن د. علي جمعة طعن في الدكتور المطعني، واتهمه بنشر الكذب والافتراءات، ووصفه بالتهور، ونصحه بالاطلاع على أخلاقيات الإسلام، وإليكم بعض ما قاله: "لقد فوجئت وفجعت عندما رأيت مقالا غريبا في جريدة الآفاق العربية للأستاذ الدكتور عبد العظيم المطعني، يسب فيه الراحل زكي بدوي، ويتهمه بكل قبيح ... وكل هذا كذب وافتراء، وإذا كان لا يعرف الرجل، فكيف يسمح لنفسه أن يتقول عليه هذه المقالة بعد رحيله، أليس هذا من المفجعات؟! ... وقبل أن يتهور فكر المطعني في الرد على الأزهر كما تهور فطعن في أحد أبنائه الراحلين المجاهدين، نرشده إلى أن يتوثق وأن يطلع، فليطلع على خطاب الأمير، وليطلع على الواقع المعيش، وليطلع قبل ذلك على أخلاقيات الإسلام، وهو قادر على ذلك كله. لو صدر ما صدر من غيره لسكتنا، لكن أخطاء الكبار كبار، وهذه نصيحة نقوم بها لوجه الله تعالى، لا لتلك المقالة فقط، وإنما لهذه الحالة التي عمت فآذت الناس في أعراضهم وفي شعورهم. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" (¬1). ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: التوثيق يرحمكم الله، بتاريخ 20 - 3 - 2006م.

هذا رده على الدكتور الأزهري عبد العظيم المطعني، فكيف بغيره؟؟!! د- وهذا مثال تجاوز الحدود ورمى جماهير المسلمين بما هم منه براء فقال: "ما الفرق بين الصوفي وغيره؟ هو الفرق بين من سلك في طريق الله وبين من تزندق وخرج" (¬1). وأظنه سيقول الصوفية هي الإسلام، وعندها سنقول له: إن كانت هي الإسلام وجماهير المسلمين صوفية دون أن ينتموا لهذه الطرق، فقد كفينا وسرنا على الطريق دون حاجة إليها. هـ- وهذا مثال آخر يتحدث فيه عن دار نشر نسبت له كتابة مقدمة لكتاب بروتوكولات حكماء صهيون، فأنكر كتابة المقدمة وأنكر على دار النشر ما فعلت وقال: "وتذكرت ما ذكره العلماء من أن نسبة كلام لغير قائله هو كنسبة الولد لغير أبيه، وكأنهم يشيرون إلى ما يمكن أن نسميه بجريمة الزنا الفكري" (¬2) وما أغنى البلاغة عن هذا التشبيه الفج. وودافع بشدة عن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: "لا يبقى لمن له عقل وفهم وفكر سليم إنكار ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف" (¬3) أي أن العقل والفهم والفكر السليم من خصائص المحتفلين!!. إن هذه الأمثلة تجعل المرء لا يتعجب مما ينتشر من سب د. علي جمعة لكثير من الأئمة مثل ابن تيمية وابن القيم وغيرهم، لأنه لا يتورع عن سب صحابي جليل، ولا شيخ من شيوخه الأزهريين، ولا جماهير الأمة، ولكنه يتورع عن سب أمثال طه حسين الذي يقول ¬

(¬1) كتاب الطريق إلى الله، ص130. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: تحذير واجب، بتاريخ 1 - 1 - 2007م. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 170 - 171.

عنه في رده على جابر عصفور، والفرق بين جابر عصفور وطه حسين: "والفرق بينه وبين دعاة التنوير الأول ممن ضرب بهم المثل كطه حسين رحمه الله تعالى هو أن هؤلاء لم يشغلوا أنفسهم بما لا يتقنون، ولم نر في مرة طه حسين يتكلم عن الأحكام الشرعية أو يناقش فيها، ولكنه كان يتكلم عن ترتيب الفكر، وشروط الثقافة، وكيفية التعامل مع العصر، ونحو ذلك" (¬1) وهذا يدل على أن د. علي جمعة لا يعرف من هو طه حسين، أو يعرفه ولكن طه حسين له من يدافع عنه من المسئولين والصحفيين .. ، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أرضعوا أبناءكم.

ثانيا: التناقضات

ثانيًا: التناقضات التناقض في الفتيا المبني على غير القواعد العلمية، دليل على الحيدة عن الصواب، وقد يكون محاولة لاسترضاء الأطراف المتعددة، بإيهام الموافقة على مذهب كل فريق. ومن الظواهر الملفتة وجود كثير من الأقوال المتناقضة في نتاج د. علي جمعة، والأغرب أنها تتناقض بصورة عجيبة؛ فيكون القول باطلاً والحديث ضعيفًا، وبعد قليل يصبح القول قويًا والحديث صحيحًا، وكثير من هذه التناقضات ليست وليدة علم جديد، ولا إعادة نظر، بل ظهرت بعد منصب الإفتاء الذي ابتلي به. ومن أمثلة التناقضات ما يلي: أ- أفتى في قضية التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه مسألة خلافية، ولم يرد في السنة الصحيحة التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأرشد إلى التوسل بالعمل الصالح وهو حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "السؤال: ما حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء؟ الجواب: هذه مسالة اختلف فيها الفقهاء، ولذلك ونحن ندعو ينبغي علينا أن ندعو بما نجد قلوبنا عنده، ولم يرد في السنة الصحيحة التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد وردت بعض الأحاديث الضعيفة التي يستدل بها كثير من الناس على جواز التوسل بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصورة أخرى أن يدعو الإنسان الله سبحانه وتعالى ويتوسل إليه بحبه لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن حب الله للنبي صفة من صفات الله القديمة التي لا اختلاف بين العلماء في جواز التوسل بها، فإذا كان هو يريد أن يظهر علو مقام النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه وحبه إليه، فإنه يتوسل إلى الله بصفة من صفاته سبحانه وتعالى تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك نخرج من كل هذا الخلاف، ولكن

هذه مسألة خلافية، ولذلك أنا أنصح السائل ألا يجعلها قضية بينه وبين الآخرين، وأن يتوسل إلى الله بحبه لنبيه صلى الله عليه وسلم" (¬1). وفي فتوى أخرى يرد على ما ذكره هنا، ويصف الأحاديث بالصحة، ويشدد على المخالف، وكان مما قاله: "ولكل هذه الأدلة الصريحة الصحيحة من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، أجمع علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها على جواز واستحباب التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد انتقاله صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن ذلك لا يحرم قطعًا، وهو ما نراه؛ أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم مستحب، وأحد صيغ الدعاء إلى الله عز وجل المندوب إليها، ولا عبرة لمن شذ عن إجماع العلماء كابن تيمية ومن ردد كلامه من بعده" (¬2)!!!. ب- أفتى بحرمة نقل الأعضاء، وتتبع حجج المخالفين، ثم بعد ذلك عاد فنقض ما قاله، وها هي فتواه: قال: "بالنسبة لي أرى أنه لا يجوز نقل الأعضاء البشرية؛ لأن الإنسان لا يملك أعضاء نفسه، والتبرع والبيع إنما يكون بناء على الملك، والإنسان لا يملك أعضاء نفسه؛ لأنها ملك لله، ولذلك لا يجوز الانتحار؛ لأن نفس الإنسان ليست ملكه، وجسده ليس ملكه، ولا يجوز له أن يبيع رجله أو كبده أو كليته، كذا إلى آخره. الآن يقولون نقل العضو من الميت إلى الحي محال طبيًا إلا ما يتعلق بالعين، وما زال الطب لم يصل إلى القدرة على أن ينقل من الميت إلى الحي. ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ص 335، وكتاب فتاوى البيت المسلم، ص 420. (¬2) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص189.

والقضية الثانية: نقل من الحي إلى الحي، وهذا لا يجوز فيه التبرع أو البيع كما سلف. فماذا نفعل في هذه التي فقدت كليتيها ولا تجد المال الذي سوف تنفقه على الغسيل الكلوي، فنقول للسائل: لا بأس من عدم الغسيل الكلوي؛ لأنها سوف تموت أيضًا إذا نقلنا الكلية، ونسب النجاح بسيطة في نقل الكلية، وإذا استمرت تستمر عامًا أو عامين، ثم بعد ذلك تموت أيضًا، فالخوف من الموت لا يجعلنا نفعل الحرام من أجل درئه؛ ولذا لا أراه جائزًا. ولا يقاس هذا على مسألة أن كل إصبع من أصابع يد الإنسان له دية؛ لأن الدية إنما تكون عقوبة لفعل المجرم، ولضياع المنفعة، ولا تكون ثمنًا للعضو. ولا أرى أيضًا أن يقاس على أكل الميتة للمضطر؛ لأن أكل الميتة للمضطر أمر عارض، كما أنه يأكل ميتة غير مقدسة كحيوان أو طير، وما نحن بصدده هو التصرف في الأحياء بتحويلهم إلى قطع غيار بشرية؛ فهذا أمر يقدح في الأخلاق ابتداء ويقدح في الدين انتهاء، وهذا هو ما مال إليه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في فتواه، وإن خالف بعض أعضاء المجمع في هذا؛ لأن المسألة محل نظر، ولكن جمهور مشايخنا على أنه حرام، وأننا لا ينبغي أن نفتح هذا الباب. والذي حدث الآن أنهم يقتلون الناس، بل ويخطفون الأطفال والشباب الصغار، ويأخذون أعضاءهم، ثم يلقونهم في الطرقات، ثم يقومون ببيع هذه الأعضاء. وسد الذريعة أحد مصادر التشريع الإسلامي. إذًا أنا أرى والله تعالى أعلم وهذا رأي جمهور العلماء أن هذه المسألة حرام ابتداء، وأنه حتى القائلين بشيء من الجواز ينبغي عليهم أن يقولوا بالحرمة

سدًا للذريعة، والله أعلم. وهنا يُطرح سؤال: ماذا لو كان التبرع عن طيب خاطر وعن طيب نفس، كمن تبرع لابنه أو لأبيه أو العكس؟ نقول: هناك شروط شرطها الأطباء ذوو الاختصاص؛ منها أمن المريض على حياته، ونقول أيضا: هذه شروط وهمية، فالأطباء يقولون: إن الإنسان يمكن أن يعيش بكلية واحدة، فماذا يحدث لو تبرع شخص بإحدى كليتيه ثم فشلت الأخرى؟ إذًا، ومن باب سد الذرائع، ومن باب الواقع، ومن باب المفهوم للمسألة، سيتحول الإنسان إلى جزء من الكون كالخشبة والحديدة، يستطيع الآخر أن يتصرف فيه، وأن يقطع الجسد أجزاء، وأن يتبرع، وأن يبيع، وأن يتصرف، ويوصي، وكذا، إلى آخره. وأنا أظن أنه لا بد علينا أن نقف مع كل الأخلاقيين في العالم في سد هذا الباب" (¬1). ولكن المرء تشتد دهشته وعجبه حين يقرأ بعد ذلك فتوى للدكتور علي جمعة مضادة تمامًا لما سبق أن أفتى به؛ حيث يقول: "من الوسائل الطبية التي ثبت جدواها في العلاج والدواء والشفاء بإذن الله تعالى للمحافظة على النفس والذات نقل وزرع بعض الأعضاء البشرية من الإنسان للإنسان؛ سواء من الحي للحي أو من الميت الذي تحقق موته إلى الحي، وهذا جائز شرعًا إذا توافرت فيه شروط معينة تبعد هذه العملية من نطاق التلاعب بالإنسان الذي كرمه الله ولا تحوله إلى قطع غيار تباع وتشترى، بل يكون المقصد منها التعاون على ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص 297.

البر والتقوى وتخفيف آلام البشر، وإذا لم توجد وسيلة أخرى للعلاج تمنع هلاك الإنسان، وقرر أهل الخبرة من الأطباء العدول أن هذه الوسيلة تحقق النفع المؤكد للآخذ، ولا تؤدي إلى ضرر بالمأخوذ منه، ولا تؤثر على صحته وحياته وعمله في الحال أو المآل. وهذا حينئذ يكون من باب إحياء النفس الوارد في قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬1) ويكون من باب التضحية والإيثار أيضًا الذي أمر الله تعالى بهما وحث عليهما في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2)، وكما يجوز أخذ عضو من الحي إلى الحي لإنقاذه من هلاك محقق حالاً أو مستقبلاً، فإنه يجوز أيضًا الأخذ من الميت إلى الحي لإنقاذه من هلاك محقق أو لتحقيق مصلحة ضرورية له؛ لأن الإنسان الميت وإن كان مثل الحي تمامًا في التكريم وعدم الاعتداء عليه بأي حال لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬3)، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حيًا) رواه ابن ماجه، فإن هذا التكريم لا يؤثر فيه ما يؤخذ منه بعد موته من أجزاء تقوم عليها حياة إنسان آخر أو رد بصره بعده؛ لأن مصلحة الحي مقدمة على مصلحة الميت" (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية 32. (¬2) سورة الحشر، الآية 9. (¬3) سورة الإسراء، الآية 70. (¬4) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص310 - 311.

ج- اختلاف تقدير الدية، فذكر في مقالة بالأهرام تقديرًا للدية المغلظة، وذكر في مواطن أخرى تقديرًا للدية يختلف تمامًا عن هذا التقدير، فقال: "المطالبة بدية هؤلاء الشهداء، والدية حينئذ مقومة بمائة من الإبل مغلظة الأسنان؛ لأنه قتل عدوان، وهو ما يسمى في القوانين الحديثة بالتعويض، وقيمته تزيد على نصف مليون دولار على الأقل" (¬1). ولكنه قال في موضع آخر: "عليه دية مسلمة إلى أهل المتوفى المقتول، والدية تقدر بـ 12 ألف درهم فضة، وهي في زماننا هذا تساوي 36 ألف جنيه مصري تقريبًا، وهذا يعني أنها في حدود 7 آلاف دولار، هذا أقل شيء؛ لأنه في الزمن الأول كان 12 ألف درهم يساوي ألف دينار ولو حسبناها بالدينار يصير 170 ألف جنيه أو مائة من الإبل فيصير 300 ألف جنيه" (¬2)!!. د- تناقض قوله في حكم دفع الزكاة في مصالح المسلمين العامة من إنشاء طرق وبناء مستشفيات .. فقال: "فمن المصارف في سبيل الله، والراجح ما عليه جمهور الفقهاء من عدم جواز صرفه إلى عموم مصالح المسلمين؛ من إنشاء الطرق، والمستشفيات، والمدارس، والمساجد، ونحو ذلك، بل هذه المصالح توقف لها الأوقاف أو يتصدق عليها بالصدقات المختلفة سوى الزكاة" (¬3). وقال: "لم يجوز الفقهاء صرف أموال الزكاة في غير مصارفها؛ فمصارف الزكاة محدودة محصورة في الأصناف الثمانية التي حددها القرآن، ولقد كان للزكاة بيت مال ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: قتل الأسرى، بتاريخ 26 - 3 - 2007م. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص 375 - 376. (¬3) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص123، وكتاب فتاوى البيت المسلم، ص 142 - 143.

خاص، أي ميزانية مستقلة، فقال الفقهاء: لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى؛ من بناء المساجد، والجسور، والقناطر، والسقايات، والمدارس، وتمهيد الطرق، وشق الأنهار، وسد البثوق" (¬1). ثم نراه يقول مخالفًا ذلك: "والفقهاء لهم تعريفات كثيرة لمصرف في سبيل الله، فأفضل ما قيل: كل مصلحة للأمة تتعطل لا يقوم بها بيت المال أو الحكومة ويصلح سدادها؛ لأن هذه المصلحة تخدم الفقير كما تخدم الغني، فإن وضعت في مستشفى كالتي أشير إليها، أو في ملجأ، أو في مكان يخدم الناس عامة؛ لكون جهات البر الأخرى أو جهات بيت المال الأخرى لم تف بهذه الحالة، فقد برئت الذمة وأدت ما عليها من الزكاة إن شاء الله" (¬2). هـ - تناقض قوله في حكم الزكاة على النقود المودعة بالبنك، فكان رأيه أولاً موافقا لرأي العلماء في وجوب الزكاة عليها إذا بلغت نصابًا وحال عليها الحول فقال: "وديعة البنك إذا بلغت النصاب الشرعي، بما يساوي خمسة وثمانين جرامًا من الذهب عيار 21، وحال عليه الحول الهجري، فإنه يجب إخراج الزكاة وهي ربع العشر، وبما أن السائل يقول بأن قيمة الوديعة تتناقص بمرور الزمن فكيف يقدر الزكاة؟ فنقول: يأتي في آخر العام وينظر المتبقي منها، فإن بلغت النصاب وجب فيها الزكاة، وإن لم تبلغ النصاب فلا زكاة فيها" (¬3). ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 259. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص105. (¬3) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص 103.

وقال كذلك: "إذا بلغ المال النصاب الشرعي أو أكثر؛ سواء أكان رأس مال، أو عائدًا، أو هما معًا، وجبت فيه الزكاة بعد استيفاء الشروط المنوه عنها سابقًا، بواقع 2.5 %، فإذا كان العائد يضم إلى رأس المال فيبلغان النصاب مع حولان الحول وجبت فيهما الزكاة بنفس النسبة، فإذا كان العائد يصرف على احتياجات صاحب المال ومن يعول فلا يبقى منه شيء يبلغ النصاب مع رأس المال فلا زكاة عليه" (¬1). وقال كذلك: "س: ادخرت مبلغًا من المال من مصروف البيت، وعندي سبعة أطفال، وقد ادخرتها لكي نبني لنا بيتًا، فهل تجوز الزكاة على هذه النقود المدخرة أم لا؟ الجواب: إذا كان هذا المال المدخر بلغ نصابًا، وهو ثمن حوالي خمسة وثمانين جرامًا من الذهب، ومر عليه حول ولم ينفق، فتجب فيه الزكاة، ما دام بلغ النصاب، ومر عليه الحول، وتجب الزكاة في آخر الحول، أما إذا لم يكن بلغ النصاب فلا زكاة عليه، وإذا بلغ النصاب ولم يحل عليه فلا زكاة عليه" (¬2). ثم في موضع آخر يميل عن هذا الرأي، فيفتي بتخيير السائل بين إخراج زكاة المال وعدم إخراجها، فيقول: "يقول جمهور الفقهاء أن هذا عليه زكاة تعادل اثنين ونصف بالمائة في السنة، وهناك رأي للشيخ عبد الله المشد رحمه الله بأن يزكي بعشرة بالمائة من إيراد الوديعة، فإذا كان التعويض مثلاً خمسين ألف ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص 114. (¬2) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 145.

جنيه، ويكون ريعها في السنة خمسة آلاف جنيه، وبالتالي فالعشرة بالمائة تساوي خمسمائة جنيه، أما الاثنان ونصف بالمائة فتساوي ألف ومائتين وخمسين جنيه، فالشائع والأكثر إجماعًا عليه هو الاثنان ونصف، وذلك من أجل مصلحة الفقراء، أما إذا ضاقت الظروف فلا مانع من العشرة بالمائة" (¬1). ثم أفتى في موضع آخر بعدم دفع الزكاة على الوديعة فقال: "الوديعة التي نضعها في الاستثمار يصعب فكها، فلو وضعنا 100 ألف، هذه الـ 100 ألف محبوسة، ولو سحبت فإنها تضيع، فشبهوا الوديعة الاستثمارية في حكاية الربطة بالأرض، لو بعتها قطعة قطعة تضيع؛ لأنها أصل من الأصول، والعقار أصل من الأصول، والله لم يفرض الزكاة على الأرض، بل فرض الزكاة على الذي يخرج من الأرض، الله لم يفرض الزكاة على العقار أو على البيت، بل فرض الزكاة على الذي يخرج من البيت وهو الإيجار ويمضي عليه سنة كاملة، وعندما جعل الأرض وفرض على الخارج منها فرض العشر، أي عشر ما ينتج من الأرض. وقد حدد الفقهاء الأشياء التي يجب إخراج الزكاة عليها؛ فقال أبو حنيفة: إنه تجب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض ... فنحن نفتي بكلام عمر بن عبد العزيز، ونفتي بكلام الجماعة العلمية المصرية؛ حيث اتفقت ليس كلها ولكن أيام الشيخ عبد الله المشد في لجنة الفتوى على أننا نخرج العشر تقليدًا لعمر بن عبد العزيز في هذه الحالة؛ لأن هذا هو الأوفق في هذه الحالة، حيث شابهت الوديعة وليس النقود السائلة ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص 131 - 132.

الثابتة، أي أننا نخرج الزكاة 10% من الإيراد، فيكون هذا أرفق بك" (¬1). وأكد هذا الكلام في نفس الكتاب فقال: "س: سمعت فضيلتكم تقول: إن الوديعة يصح أن تكون زكاة المال على الإيراد بدلاً من الوديعة نفسها، هل ما فهمته صحيح؟ الجواب: نعم ما فهمت صحيح، وهي فتوى عمر بن عبد العزيز، وأخذ بها الشيخ عبد الله المشد من شيوخنا رحمه الله، رئيس لجنة الفتوى، وأخذ بها كثير من الفقهاء" (¬2). وتناقض قوله في حكم النمص؛ فمرة يراه حرامًا موافقا لمذهب جماهير العلماء، ومرة يراه مباحًا بإذن الزوج، فيقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النمص، فعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، والواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والموشومة، والنامصة، والمتنمصة، ونهى عن النوح) (¬3) والنمص في اللغة كما أفاد أهل اللغة هو المتعلق بشعر الحاجبين، وعلى ذلك فاللعن والنهي الممنوع هو الاقتراب من شعر الحاجبين. وقد أجمع جمهور الأمة على أن هذا النهي عام، ولكن أبا حنيفة يرى أن هذا النهي متعلق بحق الزوج، بمعنى أن الزوج له أن يأذن في مثل هذا. والراجح هو ما عليه الجمهور، وهو أن النصوص جاءت مطلقة، والنهي جاء مطلقًا؛ فعن علقمة قال: لعن عبد الله الواشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وفي كتاب الله، قالت: والله لقد ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج 1 ص 77. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص 150. (¬3) الظاهر أن هذا جمع بين عدة أحاديث، وردت في كتب السنة.

قرأت ما بين اللوحين فما وجدته، قال: والله لئن قرأته لقد وجدته: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) (¬2) " (¬3). وقال: "هناك بعض الأخوات يردن أن يتزين لأزواجهن، هل هناك مانع في مثل هذه التصرفات؟ الجواب: لا تقترب من شعر الحاجبين، حتى لو كان هناك ما يستدعي ذلك، فقد ورد في الأحاديث البعد عن هذا، وعدت الشريعة هذا نوع من أنواع تغيير خلق الله، ولكن مذهب أبي حنيفة الذي يجيز هذا بإذن الزوج فقط، فهذا الحكم ينبغي أن يحذرن فيه غاية الحذر؛ لأن فيه لعن، وبعض العلماء جعل علامة الكبيرة هو وجود اللعن أو الخلود في النار، فينبغي عليها أن تبتعد عن هذا، وأن ترضى بحكم الله في هذا الشأن" (¬4). ثم نراه يقول: "لا تشتغل في الحواجب إلا بإذن الزوج، وكلمة بإذن الزوج هذا هو المذهب الفقهي، هكذا يرى أبو حنيفة والشافعي، أنه يجوز للمرأة أن تعمل حواجبها بشرط موافقة الزوج، أي أنهما جعلا الوارد في الحديث متعلقًا بالتجمل والمخادعة لغير الزوج" (¬5). وقال: "يجوز لك أن تزيلي شعر الوجه وتزجيج الحواجب، وهذا على مذهب الإمام الشافعي وأبي حنيفة" (¬6). ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية 7. (¬2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب وما آتاكم الرسول فخذوه، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة. (¬3) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص 343. (¬4) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 410. (¬5) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص 482 - 483. (¬6) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص411.

ز - تناقض قوله في حكم بقاء المعتمر في مكة من رمضان إلى الحج بدون تأشيرة؛ حيث قال: "هل يجوز الذهاب للعمرة في رمضان، ثم الانقطاع في الحجاز حتى يأتي وقت الحج؟ الإجابة: نعم يجوز هذا" (¬1). وقد يقول قائل: إن هذه الإجابة غير صريحة في الانقطاع دون تأشيرة، لكن قرائن الحال في المجتمع، تؤكد أنه يقصد بدون تأشيرة؛ حيث صرح في فتوى أخرى بوجود مائة ألف معتمر مصري تخفى بمكة إلى وقت الحج فقال مناقضًا هذه الفتوى: "ولقد أصدرت فتوى سنة 1426هـ حول هذا الموضوع، وكان المتخلفون بعد عمرة رمضان أكثر من 100 ألف، في حين أن الحجاج المصريين نحو 60 ألفًا، وبذلك فإن نحو ضِعف الحجاج الذين لهم مكان في الأماكن المقدسة يتواجدون في نفس الوقت من غير مكان، وذهبت هذه الفتوى من خلال فقه الأمة إلى تحريم هذا التخلف" (¬2)!!. ح- تناقض قوله في صوم أهل البلاد الذين يطول النهار عندهم إلى عشرين ساعة؛ فقال عندما سئل عن صيام رمضان في شمال أوربا؛ حيث تبلغ مدة الصوم تسع عشرة ساعة: "الصوم الشرعي يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة فإن مجرد طولها لا يعد عذرًا شرعيًا يبيح الفطر، وإنما يباح الفطر إذا غلب على ظن الناس بإمارة ظهرت، أو تجربة وقعت، أو بإخبار طبيب حاذق، أن صومه هذه المدة يفضي إلى مرضه أو إلى إعياء شديد يضره، كما صرح به أئمة الحنفية، فيكون حكمه حكم المريض الذي يخشى التلف، أو أن ¬

(¬1) كتاب تيسير النهج في شرح مناسك الحج، ص 104. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: ما بعد الحج، بتاريخ 7/ 1/2008.

يزيد مرضه، أو يبطئ شفاؤه إذا صام. هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر وفى التيسير على المكلفين، وكل امرئ بصير بنفسه، عليم بحقيقة أمره، يعرف مكانها من حل الفطر وحرمته، فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف وإعياء يقينًا أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أومأنا إليها، حلّ له الترخص بالفطر، وإذا كان لا يؤدى إلى ذلك حرُم عليه الفطر، والناس في ذلك مختلفون، ولكل حالة حكمها، والله يعلم السر وأخفى" (¬1). وبعد صفحة واحدة فقط توجد له فتوى مخالفة، فقال: "حيث إن النهار يطول في نيوزلاندا عن حد الاعتدال حتى يقارب تسع عشرة ساعة، مما يسبب إرهاقًا شديدًا للمسلمين في صيامهم؛ لذلك فإننا نرى أن يقدر أهل هذه البلاد للصيام وقتًا معتدلاً، فيصوموا قدر الساعات التي يصومها المسلمون في أقرب البلاد المعتدلة إليهم، أو يتخذوا من مواقيت البلاد المعتدلة التي نزل فيها التشريع الإسلامي (مكة والمدينة) معيارًا للصوم قدر الساعات التي يصومها المسلمون في واحدة من هاتين المدينتين، على أن يبدأ الصوم بالنسبة لهم من طلوع الفجر الصادق عندهم، حسب موقعهم في الأرض، دون نطر إلى طول النهار وقصر الليل بالنسبة لهم، وأيضًا دون نظر إلى غروب الشمس أو اختفاء الضوء لدخول الليل، أي يكون مدة صيامهم متساوية مع أقرب البلاد الإسلامية لهم أو مكة والمدينة" (¬2). ط- تناقض قوله في حكم مصافحة المرأة الأجنبية؛ فمرة يفتي بما يتوافق مع مضمون ¬

(¬1) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 98 - 99. (¬2) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 90 - 91.

الحديث الذي يحذر من مس امرأة لا تحل؛ فيقول: "لا تجوز مصافحة النساء الأجنبيات وهن من لسن بمحارم، والنساء المحارم هن من لا يجوز للمسلم التزوج بهن مطلقًا كالأم، والأخت، والبنت، والعمة، والخالة، والجدة، والأحفاد من البنات، وأم الزوجة، وزوجة الابن، وبنت الأخ، وبنت الأخت، والأم من الرضاع، وبنت الزوجة، وهن مذكورات في آية النساء رقم 23. لا تجوز مصافحة الأجنبيات في العمل أو في أي مكان أو زمان، والأجنبيات كالزميلة في العمل أو الدراسة أو الجارة أو ابنة العم أو العمة أو الخال أو الخالة، وغيرهن ممن لسن بمحارم كما أسلفنا. ومن صافح هؤلاء الأجنبيات فقد وقع في الحرام، وخالف سنة النبي العدنان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صافح امرأة قط، وعندما كان يبايع النساء كان يبايعهن بالإشارة بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم، ويقول محذرا وحاظرًا من هذه المصافحة: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) " (¬1) ومرة يفتي بخلاف ذلك فنجد السؤال التالي: "السؤال: أنا فتاة منتقبة هل يجوز لي السلام على الرجال بحائل؟ الجواب: قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (¬2) وبناء على ما سبق فإن سلام المرأة على الرجل إن كان لمجرد التحية دون أي غرض فهو جائز شرعا لدخول النساء في عموم الآية، أما إن كان السلام بالمصافحة بقصد التلذذ وإثارة الشهوة فهو حرام ويجب الابتعاد عنه" (¬3). ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2، ص17، 18. (¬2) سورة النساء، الآية 86. (¬3) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص24.

ثالثا: تحريف النقول

ثالثًا: تحريف النقول يستلزم النقل عن كتب أهل العلم فهمًا للكلام الذي يستشهد به، وفهما للقضية التي يستشهد عليها، ويستلزم أمانة في النقل، حتى لا تُتقول الأباطيل على الأموات، ويساء الظن بهم. ومن الملاحظ في نتاج د. علي جمعة أمور تخل بالنقول، وتحرفها عن مقصد أصحابها، وذلك بذكر نقول لا تدل على المعنى الذي يريد، وكذلك بنقل النص بالمعنى مع ذكر معنى لا يمت للنص المنقول منه بصلة، وكذلك بتر النقول حتى لا يتضح المعنى الأصلي للكلام، والبحث في كتب الحواشي عن بعض الكلمات الموهمة فيخرجها عن سياقها ويشرحها شرحًا يحقق مقصوده، أضف إلى ذلك الاختصار المخل، وتعميم القول، فينسب مثلاً قول أحد المالكية للإمام مالك والمالكية، ويصحب ذلك أحيانًا عدم ذكر مصدر النقل، أو نسبة النص لغير قائله، أو ذكر مصدر عام غير محدد بدقة، مما يصعب على الباحث مهمة التأكد من النقل، ومن أمثلة ذلك ما يلي: أ- أورد فتوى مطولة عن الوصية للوارث، في 4 صفحات (¬1)، والمنشور في كتاب فتاوى دار الإفتاء، أن السؤال والجواب بنصيهما من فتاوى دار الإفتاء المصرية عام 1985 للشيخ محمد مجاهد، وليست للدكتور علي جمعة، وهذا عمل مستغرب، لا أدري ما تفسيره؟ ب- قال: "يرى الإمام الشافعي أن حلق اللحية مكروه، وهذا معناه أنه يجوز حلقها ولكن مع الكراهة، ومعنى هذا أن الإنسان إذا أطلقها فهذا تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا حلقها فلا إثم عليه، وهذا نص كلام الشافعي" (¬2). ¬

(¬1) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 324 - 327. (¬2) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 406.

لا أدري أي نص هذا الذي ذكره؟!! لا يوجد البتة نص للشافعي يقول بكراهية حلق اللحية، بل يوجد نص على تحريم حلق اللحية، قال الشافعي في الأم: (ولو حلقه حلاق فنبت شعره كما كان أو أجود لم يكن عليه شيء، والحلاق ليس بجناية؛ لأن فيه نسكا في الرأس، وليس فيه كثير ألم، وهو وإن كان في اللحية لا يجوز فليس فيه كثير ألم ولا ذهاب شعر؛ لأنه يستخلف) (¬1) فصرح بأن حلق اللحية لا يجوز، وقصارى ما يستطيعه أن يحاول فهم نص من نصوص الشافعي على جواز تقصير بعض اللحية في الحج والعمرة، وشتان بين هذا وذاك. ج- ومن النقولات العجيبة، أنه رأى فتوى للشيخ عليش يرجح فيها فتوى العز بن عبد السلام بمنع الذكر بصيغة الله الله مقتصرًا عليها، فادعى أمورًا عجيبة؛ ليبرهن على أن العز بن عبد السلام والشيخ عليش رجعا عن ذلك فقال: "والشيخ عليش كان في بدايته وهو عنده 20 سنة، إذ كان لم يسلك طريق أهل الله، ولذلك تراه في هذه الفتاوى يسأل عن الذكر بالاسم المفرد يا الله يا الله يا الله، قال نقلا عن العز بن عبد السلام: إن هذا الذكر لم يرد، فقابل العز بن عبد السلام بعد ذلك أبو الحسن الشاذلي وأخذ عنه الذكر المفرد ... ، اقتنع العز بن عبد السلام؛ لأنه كان وقافا عند كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتنع بعد ذلك الشيخ عليش، وأصبح في سند الطريقة الشاذلية!!! " (¬2) العز بن عبد السلام توفي سنة 660هـ، والشيخ عليش ولد سنة 1217هـ! د- ومن الأمور العجيبة دعواه نقل الإجماع على استحباب قراءة القرآن عند القبر ¬

(¬1) كتاب الأم، ج6, ص82 - 83, ط دار المعرفة- بيروت. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص 227.

بتحريف عجيب للنقل؛ فقال: "أجمع العلماء على استحباب قراءة القرآن على القبر، كما نقل ذلك الشيخ العثماني في رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، وعبارته في ذلك: (وأجمعوا على أن الاستغفار، والدعاء، والصدقة، والحج، والعتق، تنفع الميت ويصل إليه ثوابه، وقراءة القرآن عند القبر مستحبة) " (¬1)، لكن المفاجأة أن ما حصل تحريف عجيب، فعند الرجوع لكتاب العثماني رحمة الأمة نجد قوله: (وأجمعوا على أن الاستغفار والدعاء والصدقة والحج تنفع الميت ويصل إليه ثوابه، وقراءة القرآن عند القبر مستحبة وكرهها أبو حنيفة) (¬2) فعبارة وقراءة القرآن عند القبر غير معطوفة على قوله وأجمعوا!!!. هـ- قال: "وفي مجموع فتاوى ابن تيمية في المجلد الثالث، وهو يحكي عن مناظرة صفي الدين الهندي إمام الأشاعرة لابن تيمية في صفحة 187: قال الصفي الهندي: (قلت له: أنتم ما لكم على الرجل اعتراض؛ فإنه نصر ترك التأويل وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري). ونقلُ ابنِ تيمية هذا وقبولُه له يدل على أنه كان أشعريًّا ورضي بذلك، ولكن بعضهم يحاول أن يجعله على مذهب ابتدعوه اسمه مذهب السلف" (¬3). وهذا الكلام فيه افتئات على ابن تيمية؛ لأمور: أولاً: موقف ابن تيمية من الأشعرية واضح، وكتبه مليئة بالرد عليهم، ومناقشتهم في كثير من القضايا، وهذا أمر ظاهر بيّن، وما أمر عداوة كثير من أشعرية عصره له، ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص188، ونقل قريبًا من هذا الكلام في نفس الكتاب ص 181، وفي كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل ص 284. (¬2) كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص70. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الأشعرية أهل السنة عبر العصور، بتاريخ 25/ 2/2008.

وسعيهم في حبسه، بخاف على من قرأ نتفًا يسيرة عن حياة ابن تيمية، فكيف يُترك هذا الأمر الجلي لمثل هذا الفهم. ثانيًا: نصر ابن تيمية لترك التأويل لا يعني أبدًا القول بما يسميه الأشعرية تفويضًا، بل معنى الكلام أنه لا يقول بالتأويل، وليس في الكلام المنقول هنا تعرض لذكر اعتقاد ابن تيمية، فكيف يجعل هذا دليلاً على أنه كان أشعريًا!! ثالثًا: ابن تيمية يفرق بين الأشعري والأشعرية المتأخرين، ويذكر أن آخر أمر الأشعري موافق لصحيح الاعتقاد، وينقل عن الإبانة تصريح الأشعري أنه يقول بما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ويخالف من خالف قوله، أما الأشعرية المتأخرون فيوضح ابن تيمية أنهم مع مرور الزمن اختلفوا وخالفوا إمامهم (¬1). رابعًا: هب أن ابن تيمية وافق الأشعرية في هذه المسألة، أيكون بذلك أشعريًا؟! فكم خالف ابن تيمية مذهب الأشعرية في مسائل كثيرة! ولا يكاد يخلو مذهبين من مذاهب المسلمين من اتفاق في مسائل من الاعتقاد، ويظل لكل مذهب أطره التي قام عليها. وقال: "ونرى فقهاء المسلمين ومنهم الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، يجعل الكافر العادل أقرب من دين الله من المسلم الظالم؛ لأن العدل أساس الملك" (¬2). تعبير أقرب من دين الله افتئات على الأئمة الذين يذكر قولهم؛ لأنه لا يمكن أن يكون الكافر أقرب من دين الله من المسلم، وعبارة ابن تيمية التي أشار إليها هي قوله: (الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة ¬

(¬1) انظر بيان تلبيس الجهمية، ج2 ص 334. (¬2) كتاب التربية والسلوك، ص 207.

الظالمة وإن كانت مؤمنة) (¬1) وهذا لا يدل من قريب ولا بعيد على القرب من دين الله، وقصارى ما فيه أنه يتحدث عن جزاء المعتدي في الدنيا، وأن الله قد يقوي أقوامًا من الكفار ويمدهم بمتاع من متاع الدنيا؛ لأن فيهم بعض أنواع العدل، وقد يعجل لبعض المسلمين العقوبة في الدنيا على ظلمهم. وقد وضح ابن تيمية ذلك بقوله في موطن آخر: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام) (¬2). ز- ومن التحريف تفسير النصوص بمعنى غير مقصود بتاتًا من النص، مثل قوله: "تحريم الدم المسفوح ليس من أجل أنه يسبب ضررًا من ناحية الطب، بقدر ما أنه يسبب ضررًا من ناحية الأخلاق، والتجرؤ على شكل الدم، وعلى رفع الحاجز النفسي بين الإنسان وبين سفك دماء البشر" (¬3) فلو كانت هذه علة التحريم لكان أكل اللحوم محرمًا من باب أولى؛ لأن فيه تجرؤ على تمزيق الحيوان والتهامه، ومثل ذلك قوله: "النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء) رواه الطبراني في الأوسط، وهو حديث مكون من مقطعين، الأول: أطب مطعمك، وهو أمر يطلب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيب الإنسان مطعمه، وذلك على مستويين: ... المستوى الثاني: هو أن يكون الطعام نفسه طيبًا في مذاقه، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، ج5 ص 63. (¬2) مجموع الفتاوى، ج30 ص 146. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الدم نجس عند المسلمين، بتاريخ 15 - 5 - 2006م.

وفي إعداده، والذي يطلب هذا النوع من الطعام هو رقيق القلب، رهيف الحس، الذي لا يدفعه الجوع لملء البطن دون تلذذ بالتذوق والاستحسان" (¬1) وهذا فهم بعيد كل البعد عن نص الحديث الذي يتحدث عن آداب الدعاء، وأسباب إجابته، ومثل ذلك قوله: "يظهر من أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم تخصيصه بالأسود البهيم ثم نسخه أن الأمر كان يتعلق بمراعاة التوازن البيئي، وأن العلة التي دار معها الأمر هي زيادة أعداد الكلاب في المدينة، بالشكل الذي كان يهدد أمن الإنسان وحياة غيره من الحيوانات" (¬2) وهكذا يكون التعليل بالتخمين. ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أطب مطعمك، بتاريخ 28 - 8 - 2004. (¬2) كتاب البيئة، ص118.

رابعا: الكلام المحتمل والمصطلحات الفضفاضة

رابعًا: الكلام المحتمل والمصطلحات الفضفاضة ينبغي على المتكلم أن يتحرى نفع طلابه، وتوضيح المشتبه، والإفصاح عن مراده، حتى يتسنى فهم حقيقة دعوته ورسالته. والمؤمن يتجنب الألفاظ التي تحتمل التشويش، خاصة عندما يقف في مقام الفتيا والوعظ، حتى لا يضل الناس بقوله. أما تعمد الإغراب، وتعمية المصطلحات، فهو سبيل للخلط والتخليط. وهذه نماذج للكلام المحتمل، والمصطلحات الفضفاضة، التي توهم غير الحق: أ- إطلاق لفظ المتدينين والمؤمنين على المسلمين والكفار؛ فقال: "ولقد دعا الأستاذ عبد الأحد داود في آخر كتابه (الإنجيل والصليب) العالم كله أن يتحد ضد هذا البلاء، وإن من المصلحة على جميع المتدينين والمؤمنين أن يقفوا ضد الإلحاد الأسود" (¬1). ب- بل إنه وصف الأديان الموجودة الآن بأنها أديان تأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الظلم والعدوان، وافترى على الإسلام أنه يساوي في المعاملة الدنيوية بين أتباعه وأعدائه، وهذا افتراء على الإسلام الذي يعامل أعداء الإسلام بأحكام مفصلة مذكورة في كتب الفقه، تخالف كثيرًا معاملة المسلمين الموحدين، فقال: "في الوقت الذي اجتاحت الجيوش المختلفة أرض الله، تنشر الدمار والخراب والدماء، فلا تفرق بين الطفل والمرأة والكهل، كان الدكتور دراز ينادي بتوحيد الصفوف بين الأديان المختلفة، ويدعو إلى التقائها عند قاعدة واحدة هي أساس التعاون، وذلك أنها تأمر ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الدين بين الحقيقة والأوهام، بتاريخ 13 - 4 - 2009م.

جميعها بالعدل والإحسان، وتنهى عن الظلم والعدوان، وكلها تساوي في هذه المعاملة الدنيوية بين أتباعها وبين أعدائها، وهو نفس ما يدعو إليه علماؤنا في العصر الحالي، تحت شعار: تعالوا إلى كلمة سواء" (¬1). ج- قضية أمة الدعوة وأمة الإجابة، استغلها من أجل أن يروج لمفهوم مخترع، يقوم على أن الكفار جزء من الأمة الإسلامية؛ لأنهم من أمة الدعوة، وهذا تلاعب بالمصطلحات الشرعية، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬2)، وقال جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (¬3). يقول: "أمة الإسلام إنما هي الخلق أجمعون، ولكن بعض الخلق آمن وهناك منهم من لم يؤمن" (¬4). وقال: "وهذا المبدأ تولدت منه عدة مسائل منها: مفهوم الأمة الإسلامية، وهو أن هناك أمة إجابة، وهم الذين صدقوا بالقرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم واتبعوه، وأمة دعوة وهم الناس أجمعون حتى أولئك الذين لم يخلقوا بعد، ومن هنا يشعر المسلم بالأخوة للإنسانية" (¬5). وتكلم عما أسماه بالأمة الإنسانية، مطلقًا على الكتابين اللذين أوحاهما ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الدكتور دراز وتراثه العلمي، بتاريخ 4 - 5 - 2009م. (¬2) سورة النحل، الآية 93. (¬3) سورة الشورى، الآية 8. (¬4) كتاب تيسير النهج في شرح مناسك الحج، ص 9. (¬5) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أسئلة الأمريكان2، بتاريخ 3 - 4 - 2006م.

الله جل وعلا لموسى وعيسى عليهما السلام اسم العهد القديم والعهد الجديد، وهي تسمية باطلة، تدل على الكتب المحرفة عند أهل الكتاب، المشتملة على أنواع من الكفر، تاركًا تسمية ما أوحاه الله إليهما باسم التوراة والإنجيل، فقال: "الأمة الإنسانية أمة واحدة، ويتوج حدث الإسراء والمعراج هذا المعنى، إذ التقى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بإخوانه الأنبياء، وصلوا صلاة واحدة، يؤمهم فيها صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى أن هذه الأمة تتبع جميع الأنبياء وتؤمن بهم، وذلك باتباعهم لنبيهم الخاتم. إن الله سبحانه وتعالى كما أرسل الرسل بالعهد القديم والعهد الجديد، فقد ختمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل معه العهد الأخير، وجعل الله سبحانه وتعالى الأمة واحدة من لدن آدم إلى يومنا هذا" (¬1). د- ومن أغرب طرق تلبيس الأمور، أنه كان يتكلم عن حديث لعن اليهود؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فكتب في الهامش تعليقًا غريبًا لا أدري، من المخاطب به؟ فقال: "وما ورد من لعن اليهود إنما يعني من انحرف منهم وعبد الوثن، والله أعلم" (¬2) فهل اليهود المعاصرون يندرجون تحت اللعن أم لا؟!! هـ- ومن التلاعب بالألفاظ قوله: "يجب علينا أن نعلم أن الإسلام جاء بالحد من تعدد الزوجات، ولم يأت بتعدد الزوجات كما يظن الآخرون" (¬3) ما معنى هذا الكلام؟ الإسلام أتى بتشريع تعدد الزوجات وفق أوامر الشرع المطهر التي تحل الطيبات وتحرم الخبائث، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الإسراء والمعراج، بتاريخ 28 - 7 - 2008م. (¬2) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 262. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 45.

الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1)، وهل نصدق من يقول: إن الصدق والأمانة كانتا في الجاهلية ولم يأت الإسلام بهما؟!!، وإذا دعونا أمة تدين بتحريم تعدد الزوجات فهل سنقول لهم: إن تعدد الزوجات محرم عليكم بعد إسلامكم؛ لأن الإسلام لم يأت بتعدد الزوجات وإنما أتى بالحد منه على من يكثرون منه!!. وأما المصطلحات المعاصرة التي انتشرت في الثقافة الغربية ولها مدلولات تخالف أحكامًا إسلامية قطعية؛ مثل المساواة بين البشر وحرية العقيدة ... ، فالإسلام دين العدل ولكنه لا يساوي بين المختلفين؛ فهناك فرق بين الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعالم والجاهل، والتقي والفاجر، فضلاً عن المسلم والكافر، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬2) وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬3) فهذه أحكام شرعية حتى وإن ادعى الكفار الغربيون أنها تخالف المساواة وأنها تسمح بالتفرقة العنصرية، وهكذا حرية العقيدة، فالإسلام لا يسمح للمرتدين والملحدين بالعيش في بلاد الإسلام، وأما الكفار من يهود ونصارى فلهم أحكام تحدد لهم المسموح وغير المسموح، وتفاصيل هذه الأمور معلوم في الشريعة الإسلامية، ولا يمكن أن نقبل بهذه المصطلحات التي يمرر تحتها كثير من المخالفات؛ ولكن د. علي جمعة يقول: "هناك مساواة بين البشر، فأصلهم ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية 157. (¬2) سورة ص، الآية 28. (¬3) سورة الجاثية، الآية 21.

واحد، ومصيرهم واحد، وهو الموت، والخطاب الإلهي إليهم واحد" (¬1) ويقول: "الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة، والنبي صلى الله عليه وسلم يأتي ويؤكد هذه المساواة فيقول: (النساء شقائق الرجال) (¬2)، يعني في التكاليف وفي الواجبات وفي كل شيء" (¬3) ويقول: "حرية الرأي والاعتقاد مكفولة لكل أحد" (¬4) ويقول: "قبول المعيشة مع الآخر الذي أختلف معه في توصيف فعل المكلف، فأنا أرى أن هذا الفعل منهي عنه، وهو حرام، وهو قد لا يرى أنه حرام، أو قد لا يرى أن هناك ما يسمى بالحرام أصلاً؛ لأنه يؤمن بالله ولا يؤمن بالوحي، أو لأنه لا يؤمن لا بالله ولا بالوحي، مع أنه أيضًا وهو في هذه الحالة الإلحادية يجعل هذا على نطاق نفسه، ولا يدعو إليه، ولا يضغط على المجتمع من أجل أن يسير وراءه في هذا الهراء، بل إن ذلك يمثل محض رأي شخصي يحتفظ به لنفسه" (¬5) ويقول: "يطالب المسلم المجتمع الإسلامي وغيره أن يكفل للإنسان حق المعتقد وحق التعبير عنه بحرية ودون قهر أو إكراه" (¬6) ويقول: "يعتقد المسلمون دائمًا أن الإنسان مهما كان معتقده له الحق في العيش في أمان وسلام داخل وطن المسلمين" (¬7). ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مفهوم الأمة، بتاريخ 22 - 5 - 2004م. (¬2) رواه من حديث عائشة - رضي الله عنها - أبو داود في سننه، باب في الرجل يجد البلة في منامه، والترمذي في سننه، باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللاً ولا يذكر احتلامًا، وأحمد في مسنده، مسند عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) كتاب فتاوى عصرية، الجزء الأول ص 424. (¬4) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أزمة الدنمارك1، بتاريخ 6 - 2 - 2006م. (¬5) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: شعب الإيمان4، بتاريخ 12 - 6 - 2006. (¬6) كتاب البيئة، ص13. (¬7) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 86.

خامسا: ذكر صفات الباطل بدقة ثم التلبس ببعضها

خامسًا: ذكر صفات الباطل بدقة ثم التلبس ببعضها من الأمور الغريبة التي قد تشوش ذهنية بعض المتتبعين لنتاج د. علي جمعة أنه أحيانًا يتكلم عن الأدواء والأباطيل بكلام حق صريح، فيُظن به أنه نجا من هذه الفتن التي يحذر منها، ولكن الحقيقة أنه أحيانًا يقع في عين ما حذر منه، ولله في خلقه شئون، ومن أمثلة ذلك ما يلي: أ- قال: "وفي هذا العصر نجد أن بعض العلماء قد اضطر تحت وطأة إصرار النساء على وضع المانيكير والباديكير وترك الصلاة بأن يفتي بأن حكم المانيكير مثل حكم المسح على الجورب، يعني أنه لا يمنع المرأة من الصلاة، وهذه في الحقيقة مصيبة كبرى في البيت وعلى الأولاد وعلى الزوج وعلى البركة وعلى كل شيء، فهذا عبث لا يمكن أن يفتى به" (¬1). فهذا الذي ينكره من وقوع بعض الدعاة تحت ضغط الواقع والإفتاء بأمور مستغربة بحثًا عن مخرج ولو كان باطلاً، هو ما وقع فيه د. علي جمعة كثيرًا تحت نفس الضغط، فمثلاً يسأله شخص عن حكم الاتفاق على عدم وقوع الطلاق إلا عند المأذون، فيرد بأن هذا مخالف لنصوص الشريعة، ولكن يمكن الاجتهاد الجماعي فيه؛ لعل هذا الاجتهاد الجديد يغير ما استقرت عليه الفتوى، وإليكم نص الفتوى: "هل هناك مانع شرعي من الاتفاق في بلد ما على ألا يتم الطلاق إلا كما تم الزواج، يعني لو تم عند المأذون لا ينتهي إلا عند المأذون؟ الجواب: هذا في الحقيقة سؤال وجيه، ولكن ينبغي ألا نتسرع فيه، بل ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص 14.

ينبغي أن يتم هذا الاتفاق من خلال جماهير علماء المسلمين والمجامع الفقهية. قد نرى نوعًا من المهازل التي تحدث في الطلاق، فكل شخص يفرط في لفظ الطلاق مرة بلا وعي ومرة بلا معنى ومرة يقول: قصدت التهديد، ومرة يقول: قصدت الطلاق، ومرة يقول: والله لا أعرف ماذا قصدت، فهذه صور مختلفة، وهذا التفريط حرام، وفي الحقيقة قد شاهدنا أشياء عجيبة الشكل وألفاظ أخرى تتعلق بقضية الطلاق، ونسمع حالات أخرى، مرة يكون غضبان وهو لا يدري لماذا غضب، ومرة يكون يائسا، وهذه قضية مهمة ينبغي على علماء المسلمين أن يلتفتوا إليها وأن يجتمعوا عليها، فهي مسألة اجتماعية مهمة لا ينبغي لأحد من الناس أبدا أن ينفرد بالفتوى فيها، ولا أن يدعو إليها إلا من خلال مجامع الفقه، وهي: هل نحن نريد أن نسلب الرجل حقه في التطليق كما فعلت شرائع أخرى غير شرائع الإسلام، أم نريد أن نجعل الطلاق هو الأصل ولكننا نريد أن نوثق الطلاق وأنه لا يعتد بالطلاق إلا إذا كان موثقا وبشهود، والشهود عند أهل السنة إنما هو على سبيل الندب وليس على سبيل الركنية، وهذا الطريق لا يحتاج إلى نية، وإذا قال لها شيئا آخر يفيد الطلاق مثل: انفصلنا خلاص، انتهى الذي بيننا، فنريد أن نعرف إذا كان يريد الطلاق أن يقع أم لا كما فصلناه من قبل. إنما السؤال الآن: هل يجوز لمجمع فقهي أن يجتمع ويقرر هذا في البلد ويشيع هذا في الناس ويقول لهم: عليكم بالتزام المأذون تطليقا كما ذهبتم إلى المأذون زواجا، أي ترغبون في الزواج وأن أي شيء صدر في ثورة الغضب أو في ثورة التعليق أو في كذا إلى آخره لا ينظر إليه ولا يعتد به، فهذا في

الحقيقة أمر يحقق مقاصد ويحقق مصالح، إلا أنه ليست نصوص الشريعة التي بين أيدينا ولا فهم الأئمة عبر العصور يساعد على تحقيق هذه الصورة، فهذا يحتاج إلى اجتهاد جديد، ولا يتم هذا الاجتهاد الجديد من شخص بعينه بحيث لا يحدث ذلك نوعا من الفتنة في البلاد، فنحن نحتاج إلى مراجع فقهية تتفق على مثل هذا الحال، وبذلك ينتهي حال الطلاق السيئ وننتقل إلى طلاق الذي هو عقد فسخ والذي هو عقد قد جعله الله سبحانه وتعالى بداية حياة جديدة وتجربة جديدة: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬1) وطلب السعادة للطرفين، إذًا فهي مسألة جديرة بالبحث بين العلماء، ومسألة تحقق المصالح التي لا يمكن الإفتاء بها مستقلة، لكن ينبغي أن تكون من خلال فكر العلماء وفكر الفقهاء وفكر المجامع الفقهية" (¬2). ونراه يقع تحت ضغط هجوم الغرب على الإسلام فيتكلم بانهزامية عن بعض أمور الإسلام كالحجاب والاختلاط وتأديب الزوج زوجته؛ فيقول: "قضية الحجاب، وقضية الاختلاط بين الجنسين، وقضية جواز ضرب المرأة للتأديب، ونحو ذلك، ولقد كان الشيخ عبد الرحمن عليش في بدايات القرن العشرين يرى أن هناك فقهًا للأقليات المسلمة، وأن العقلية الغربية يمكن لها أن تفهم الإسلام فهمًا موازيًا للعقلية الشرقية، وأنه يمكن لعلماء الغرب المسلمين أن يكونوا مدرسة جديدة قد تكون غريبة على علماء المشرق، وهذا الذي تطور فيما بعد فيما أطلق عليه بفقه الأقليات، ونرى محاولات جيدة فيه ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 130. (¬2) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 302 - 303.

عند فتحي عثمان في كتابه (مفاهيم القرآن) بالإنجليزية وكتاباته في فقه الأقليات، وطه جابر في كتبه المعرفية المتعددة حول فهم القرآن الكريم، وفيه كتابه عن قضية الردة وهي إحدى القضايا التي يهتم بها أيضًا الفكر الغربي، وعبد الحميد أبو سليمان في كتابه عن تفسير ضرب المرأة الوارد في القرآن، وهم من المعاصرين ... ، وأنا أقترح عمل مؤتمر يجمع جميع الأطياف لعلماء المسلمين في الغرب؛ كنوح كلر، وعبد الحكيم وينتر، وخالد بلانكشير، وحمزة يوسف، وسيد حسين نصر، مع من ذكرنا سابقًا، على برنامج موسع لمثل هذه القضايا وغيرها؛ للبحث وإبداء الرأي الذي ليس بالضرورة يكون مجمعًا عليه، فإن الواقع يحتاج إلى الآراء المتعددة" (¬1). ب- قال: "نرى الآن محاولة لتبرير أحكام الإسلام، نرى وصفًا لها بأن الإسلام يدعو إلى الديمقراطية والتعددية، ويحافظ على حقوق الإنسان، ويرعى حقوق المرأة وينصفها، من أجل أن نقول للغرب وللمهيمنين على العالم: الإسلام يقول ما تقولون مما لا تفعلون فأسلموا، نتوسل إليكم أن تسلموا، نرجوكم، نقبل أيديكم وأرجلكم!! " (¬2). فلننظر إلى هذا الإنكار الشديد على هؤلاء المهزومين، ثم لننظر إليه وهو يفعل ما ينكره، فيزعم أن الإسلام وإن اختلف مع العلمانية إلا أنه يؤيد التطبيق العملي للغرب لما يسمونه بحرية الاعتقاد فيقول: "حرية الاعتقاد التي سمحت للمسلمين أن يعيشوا في الغرب، ولم يكن هذا متاحًا في الماضي، بل كان التعصب الديني يمنع ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أسئلة الأمريكان3، بتاريخ 10 - 4 - 2006م. (¬2) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 43.

وجود التعدد الديني والثقافي، وقد حدثت حروب كتهجير وإبادة من أجل وحدة الدين، ونعرف ما حدث في الأندلس كمثال لا نقف عنده كثيرا الآن، وهذه الحقيقة قد تغيب عن كثير من المسلمين، ولا بد من إيضاحها واستقرارها في أذهانهم، وهي إحدى مميزات العلمانية التي يجب تفهمها بالرغم من رفض كل المتدينين المسلمين وغير المسلمين لعقائد العلمانية، إلا أنها نجحت في إقرار التعددية التي سمحت للمسلمين بالانتشار في العالم، وقد لا يقبل كثير من المسلمين هذا بسبب أن دينه قد قبل الآخر، وقبل التعددية الملية والمذهبية عبر تاريخه وفي كل أقطاره، فلديه تجربة وصلت إلى نفس النتيجة دون حاجة إلى تنحية الدين، وحصره في نطاق الاعتقاد الشخصي، إلا أن هذا لا يزال في نطاق التجربة التاريخية أما الواقع المعيش، فهو كما ذكرنا" (¬1). والحقيقة هي أن مصطلح حرية الاعتقاد الغربي يعني السماح لأهل الأديان المختلفة بنشر أديانهم ودعوة مخالفيهم للدخول في أديانهم، وهذا ما لا تسمح به الشريعة الإسلامية، وتجعل من يدعو المسلمين للردة ناقضًا لعهده إن كان معاهدا، والشريعة الإسلامية لا تعقد عقد الذمة إلا لأهل الكتاب، والشريعة الإسلامية تقف موقفا حازما من الردة والمرتدين. ج- يقول: "أُمِرنا في الشريعة بألا نتلاعب بالأسماء في مقابل المسميات والمعاني" (¬2) ويقول: "الآن يكتبون أنه لا بد من الشفافية، يتكلمون بألفاظ لا نعرفها، ويفسرونها لنا كما يحلو لهم، فتملأ قلوبنا وتحتل ما أراده الله ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أسئلة الأمريكان5، بتاريخ 1 - 5 - 2006. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الأسماء والمسميات، بتاريخ 9 - 7 - 2007م.

ورسوله، فاحتلال القوات الأجنبية لأرض المسلمين من قبل، فهذا فيه احتلال للحقول وهذا فيه احتلال للعقول، وكلاهما من الاحتلال الذميم" (¬1). وإليك هذا المثال للتلاعب بالأسماء في مقابل المسميات والمعاني؛ يقول: "فلو تأملنا آخر سورة المطففين، والله يتكلم عن جماعة من المجرمين يسخرون ويستهزئون بالدين، لوجدنا نفس المعنى، وهو ترحيل الأمر إلى الآخرة، مع النشاط الاجتماعي، والمحاورة، والجوار، ووصف الأمور بأوصافها الصحيحة، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬2) " (¬3). فهذه محاولة توهم القارئ بأن الإسلام يقف أمام الباطل موقف الضعيف، ذاكرًا ترحيل الأمر إلى الآخرة، والنشاط الاجتماعي، والمحاورة، والجوار، دون ذكر مصطلحات تراثنا الأصيلة التي لا تحمل غبشًا، ولا تحتمل غير صحيح المواقف وصريحها. ومن الأمثلة كذلك أنه يستخدم مصطلح الشفافية الذي كان ينكره، ويستدل له من القرآن، تاركا توضيح الحق من الباطل في استخدام هذه الكلمة، فتراه يذكرها في حديثه ¬

(¬1) كتاب التربية والسلوك، ص384. (¬2) سورة المطففين، الآيات 29 - 36. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: شُعب الإيمان5، بتاريخ 19 - 6 - 2006م.

عن شروط الدعوة فيقول: "ومن شروطها أن تكون شفافة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (¬1) " (¬2) فهل الدعوة الشفافة تنافي مخاطبة الناس على قدر عقولهم؟ وهل الدعوة الشفافة تنافي إسرار المستضعفين بالدعوة خوفًا من بطش الطواغيت؟. د- قال: "إن أسباب الاشتغال بالخرافة خاصة عند بعض الكاتبين، وليس في عموم الناس، هو تبسيط المركب، وكذلك الاستسهال، والاستهانة، وشيء كثير من الكبر، والوهم، وهذه الصفات صفات نقص لا تؤدي أبدًا لا إلى الخير ولا إلى النجاح" (¬3). لكنه لا يبالي بذكر الخرافات مثل قوله: "سيدنا عبد القادر الجيلاني كان يأكل بطة، فدخلت عليه امرأة، قالت له: أتحرم ابني من النوم والأكل والشرب حتى ضعف، وتأكل بطة! فأشار إلى البطة فقامت! قال لها: عندما يكون ابنك هكذا" (¬4). ونحن لا ننكر ما يجريه الله على يد أوليائه، لكن نحن لا نخترع القصص لنثبت قدرة الله، وعندنا يقين بأن الله قادر قوي جل وعلا، ونحن لا نصدق كل غاد ورائح، بل التثبت هو سبيلنا، والنظر إلى من نأخذ عنه الحديث، فمن أين أتى بهذا الكلام؟ وهل ناقلوه ثقات أم معروف عنهم الكذب وتصديق الدجل والخرافات واختراعها؟ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 159. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أزمة الدنمارك2، بتاريخ 13 - 2 - 2006م. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: العقل العلمي عند المسلمين، بتاريخ 25 - 6 - 2007م. (¬4) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 158.

عقلية الخرافة هي التي تنكر المحسوس وتدعي الإنجازات الضخمة، مع أن الواقع لا يكاد يخفى على أحد، فمثلاً يقول: "المتأمل في الأخبار المتداولة يجد أن الكيان العبري أصبح ظاهرة صوتية، وأن هناك تطورًا ملحوظًا في الخطاب العربي الذي كان يوصف بذلك في الستينيات؛ حيث تعلم من الدروس وتحول من الكلام إلى العمل، ومن التوهيم إلى الصدق والشفافية وواقعية الهدف، وإمكانية التغيير، وتحول الخطاب الإسرائيلي إلى تصريحات كاذبة تستعمل الأوهام وتقدم الرغبات على الوقائع" (¬1) وكأنه يتكلم عن نظام عربي غير الذي تعرفه وتمقته الجماهير العربية في مجملها. عقلية الخرافة هي التي تفتخر بالمثالب والأخطاء، وتجعل الأمور المستغربة المستشنعة فخارًا ونبراسًا للقدوة والأسوة، فمثلاً يحكي قائلاً: "ويروى عن أحد الصالحين وكان يقال له بهلول، وبهلول في لغة العرب كريم؛ لأنه كان كريمًا محبًا رحيمًا بالناس، وكان لأنه ينكف عن الدنيا وسلطاتها وشهواتها يراه بعض الصبيان وكأنه يستحق الاستهزاء فيضربونه بالحجارة، فيقول لهم: وإن كان ولا بد فبصغارها حتى لا أغسل الدم، فعابوه في ذلك، وقالوا له: ألا تضربهم؟! قال: أحب أن آتي يوم القيامة ولم أمنعهم من فرح أرادوه! لا يريد أن يصد الأطفال حتى ولو دخل الفرح على قلوبهم بأذيته" (¬2) نعم هكذا فلتكن عقلية الخرافة. ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: جريمة مذبحة قانا، بتاريخ 7 - 8 - 2006م. (¬2) كتاب الدعاء والذكر، ص 120.

سادسا: الركون للمبتدعة والأقوال الضعيفة والباطلة

سادسًا: الركون للمبتدعة والأقوال الضعيفة والباطلة والنقل من مصادر غير معتمدة ليس كل خلاف معتبرًا، وليس كل مخالف يعتد بقوله في الخلاف، وليس كل ما ذكر في مصدر من المصادر تصح نسبته، ولا بد من التحري عن المخالف هل هو من أهل العلم الثقات أم لا؟ وهل ثبت هذا النقل عنه أم لا؟ وهل مخالفته تستساغ أم أنها من أخطاء الكبار الذين يعرف قدرهم ولا يلتفت لمخالفتهم في هذه المسألة بعينها؛ لأنها شطط لا يقبل؟ والتأمل في هذه الأمور يساعد على تمحيص القضايا، دون ممارسة التخويف الفكري، بدعوى أنك ترد على فلان وتخطئ فلانًا. وقد ينقل البعض ما يخالف ظاهر الشريعة، وينأى عن الصحيح المشهور من أقوال العلماء، ثم ينسب هذا القول الباطل لإمام من الأئمة، وعند التحقيق تجد أن النقل مشكوك فيه أصلاً، ولم يثبت يقينًا قول هذا العالم بذلك القول، ولو زعم أحد الناس رواية حديث نبوي بمثل هذا النقل لحكمنا على الرواية بالضعف الشديد، ومع ذلك يعتد هذا الناقل بهذا القول المنسوب للإمام، ويقدمه على أدلة الشريعة. ومن أمثلة ذلك: أ- ينقل عن محيي الدين بن عربي، الذي اشتهر بالمقولات الفظيعة، وله كتاب فصوص الحكم الذي قال عنه الذهبي: (ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله) (¬1)، أما د. علي جمعة فيعظمه وينقل عنه الغرائب؛ فيقول: "وسيدي محيي الدين عنده حكم غريب جدًا يقول فيه: ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء، ج23 ص 48.

التصديق بنا ولاية، يعني إذا صدقت بهذا الذي يقال وبكل هذا الذي لم تجربه أو لم تدخل فيه بعد أو كذا، إلى آخره، التصديق في ذاته ولاية" (¬1). ب- وينقل عن البسطامي عبارة ظاهرها الضلالة ويحاول تفسيرها بمعنى صحيح، ولكن هيهات هيهات، قال: "قال أبو يزيد البسطامي وكان فيه جذبة: خضنا بحرًا وقف على شاطئه الأنبياء، فظنوا أنه يتعالى على الأنبياء، وهو كان رجلاً مجذوبًا يقول أشياء ظاهرها غير مقبول وحقيقتها لطيفة لا شيء فيها، خضنا بحرًا وقف الأنبياء بشاطئه، قالوا: أي بعدما ذهبوا ورجعوا، يعني هو ذهب وتاه في البحار يتمتع بها ويشاهد هنا وهناك، لكن الأنبياء لكمال حالهم مع الله ذهبوا ورجعوا، وهناك من لم يذهب ولم يعد وهم العوام" (¬2). د- امتدح ابن الفارض وامتدح من ينشد قصائده، وقد قال الذهبي عن ابن الفارض: (فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله) (¬3) يقول د. علي جمعة: "هناك ظاهرة تحتاج إلى دراسة وإلى تعامل حضاري معها، هذه الظاهرة اسمها (يس التهامي) أحد المغنين بالمدائح النبوية، والذي بدأ في تخصص الغناء بقصائد ابن الفارض، وإذ به يشيع عند عمال التراحيل وبسطاء القرى في الصعيد، وبدأ الناس يزدادون يومًا بعد يوم لسماع صوته الرخيم، وهو يؤدي قصائد الحب الإلهي ¬

(¬1) كتاب الطريق إلى الله، ص81. (¬2) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 78. (¬3) سير أعلام النبلاء، ج22 ص368.

والرؤية الكونية العاشقة لسلطان العاشقين ابن الفارض، أليس هذا غريبًا يحتاج إلى دراسة؟ كيف انصرف المثقفون إلى الهراء السمعي والكلامي، والذي أضيف إليه الهراء المنظور في Video Clip وانصرف البسطاء إلى (يس التهامي) في قصائد ابن الفارض ... كان الناس يتلقون قصائده ويترنمون بها، وقد جرى فيها على طريقة الحب والغرام، والتصوف في حقيقته حب وحنين إلى الذات الإلهية من ذلك قوله: ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرق من النسيم إذا سرى وأباح طرفي نظرة أملتها ... فغدوت معروفًا وكنت منكرا فدهشت بين جماله وجلاله ... وغدا لسان الحال مني مجهرا ولقد اهتم بديوانه كثير من الأدباء العرب والمستشرقين، ومن هؤلاء المستشرقين الإيطالي جوزيبي سكاتوليني، والذي ربط بينه وبين ديوان ابن الفارض علاقة قوية تزيد عن أربعين عامًا، حيث إنه فرغ نفسه وعكف على دراسة هذا الديوان العظيم طيلة هذه الفترة، حتى أنتج ثمرة جهده من تحقيق لهذا الديوان في نهاية شهر يونيو عام 2004، حيث أقام المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة حفلاً بمناسبة صدور الديوان عنه" (¬1). هـ- ومن أمثلة ذلك ما يورده من مواقف دون نسبتها إلى مصدر من المصادر، ويبني مسائل وقضايا على هذه المواقف التي هي في أغلب الظن من تأليف أصحاب الخيال الواسع؛ مثل قوله: "يذكر في الآثار أنهم ذكروا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: ظاهرة ثقافية، بتاريخ 14 - 5 - 2005م.

اليهود في المدينة قبل أن يجليهم عن الجزيرة، يخبر من وراء الكثيف وكأنه لطيف، يعني يعرف ما وراء الحائط، فأخذ سيدنا عمر رضي الله عنه السيف وذهب إليه، فلما ذهب وطرق الباب، قال اليهودي: علام جئت تقتلني يا عمر؟ من وراء الباب عرف أنه عمر، وعرف أيضًا أنه جاء يقتله، قال له: افتح ولك الأمان، فلما فتح قال له: كيف وصلت إلى هذا؟ قال: ما عرض علي شيء قط إلا عرضته على نفسي، فإن اشتهته أبيته، وإن أبته فعلته، قال له: هذا الذي وصلت إليه من مقاومة نفسك، لما قاوم نفسه منحه الله خوارق العادات وليس الكرامات، هناك فرق بين الكرامات وخوارق العادات، فالكرامات لا تطلق إلا على الأولياء والمؤمنين، خوارق العادات تكون لغير المسلمين، فهي ليست دليلاً على شيء، وإنما نعمة من نعم الله مثل الغنى والبصر .. إلخ. في الأديرة أناس يطيرون في الهواء، وفي التبت ينظر إليك، يقول لك فيم تفكر أو أين كنت بالأمس، هذه نعمة لكنه كفرها أو حصلها كنعم الله كلها، لكنه لم يقم بشكرها؛ لأن أول الشكر الإيمان، فقد يطير في الهواء ويمشي على الماء، لكنه قد يكون كافرًا أو عاصيًا؛ لئلا تخدع بمثل هذه الأمور الخوارق، فليس هذا دليلاً على الولاية، ولا هو لب الدين، ولا هو أصل طريق الله، وإنما طريق الله: الذكر والتربية والخلوة، في أثناء هذا يمكن أن تطير في الهواء، لا مانع، فنحن نطير بالطيارة، ماذا حدث؟ ويمكن أن تمشي على الماء برجليك، وماذا يعني هذا؟ لا شيء، فأنت تمشي بالسفينة، فلا داعي لهذا الخبل الذي يحدث في الدماغ، سيدنا المرسي أبو العباس سمع ضجة، فقال: ما هذا؟ قالوا: ضبطنا

أحد العباد يفعل الفاحشة ومع امرأة متزوجة، فلما أردنا أن نمسك به جرى، فأخرج منديلاً من جيبه وفرشه على الماء ومشى عليه بعيدًا، قال: هذا رجل فاسق، قالوا: أفهمنا ما هذا؟ قال: إن الكريم إذا وهب ما سلب، ربنا عرفه كيف يمشي على الماء، فلا يسلبها منه لأنه عصى وزنا، وأصبح فاسقًا، إذًا فالفاسق يصدر منه الخارقة، والكافر يصدر منه الخارقة أشد من الفاسق، فهذه الخوارق لا تساوي عند الله شيئًا، طريق الله ليس هذا، وإنما طريق الله الذكر والتربية والخلوة، ولذلك قال أهل الله: لو رأيت الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فاعرض أمره على الشرع، فإن وافقه فهو على جادة الطريق، ولكن ليس لأنه طار أو مشى، ولكن لأنه وافق الشرع، وإن خالفه فهو شيطان، شيطان طيره معه في الهواء، فيجب عليك أن تؤمن بالغيب في الشهود. فسيدنا عمر قال له: أسلم فأنت رجل صالح، لو أسلمت ستكون في مرتبة عالية، ولذلك فإن ربنا وهو يتكلم عن هؤلاء في القرآن يقول: (ومن أهل الكتاب) وهذا إنصاف، ولم يقل كلهم، بل قال: ومنهم، وهذا منهم، هذا يدل على أن القرآن من عند الله؛ لأنه منصف إنصافًا لا يرد على خاطر البشر، فقال له اليهودي: أعطني ثلاثة أيام أفكر، ثلاثة أيام ثم جاء وقال له: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قال له: ماذا حدث؟ قال له: عرضت الإسلام على نفسي فأبت إباء شديدًا، فأسلمت، إذًا صدقُ التربيةِ نجاه، وهذه هي الرياضة، هذا هو الصدق مع النفس، وكان سبب إسلامه أنه عرف المفتاح، فلما جاءت في هذه القضية كان منصفًا، فقد سأل

نفسه: لماذا أنت ضد الإسلام؟ العنجهية العرقية الحقد والحسد، كشف أمام نفسه، فقال: أنا أهرب من كل هذا، وإذ بي ملآن في قلبي منه؛ من الحقد، ومن الحسد، ومن التفاخر والتعالي إلخ، إذًا أنا رجل شرير، تبنا إلى الله، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأسلم فنجا" (¬1) أما قوله إن الكريم إذا وهب ما سلب فيراد منه التلبيس؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} (¬2). وكثيرًا ما يغتر بمخالفات بعض المتأخرين، ويتتبع الشاذ والمهجور من الأقوال؛ محتجًا مثلًا بأن هذا قول السيوطي، أو ابن عابدين، أو عليش، أو محمد عبده، أو شلتوت، ظنًا أن ذكره لهم ينفي عن بعض هذه المخالفات الشذوذ والاضطراب. ¬

(¬1) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 183 - 186. (¬2) سورة هود، الآية 9.

سابعا: الإبهار

سابعًا: الإبهار الإبهار وسيلة تستخدم أحيانًا في الإقناع؛ بذكر أمور عجيبة، توهم القارئ بسعة علم واطلاع المتكلم، ولكن عند التأمل نجد أن هذه الأمور لا تفيد الاستدلال شيئًا، وقد تكون محاولة لإظهار التفوق، وهذه المعلومات تفتقد أحيانًا كثيرة للمصداقية؛ لأنه لا يمكن التأكد منها، أو يمكن التأكد منها بمشقة وصعوبة. وهذه نماذج لبعض المعلومات العجيبة التي يذكرها د. علي جمعة، وقد تأخذ بلب البعض، ويسلم له في بقية آرائه، مع ظهور خطأ بعضها بأدنى تأمل: أ- قال: "وكنت أسمع مشايخي يتكلمون عن حالة (الانضباع)، وتلقيت منهم شفويًا أنها مشتقة من الضبع وتصرفاته، وذلك أنه إذا أراد افتراس فريسته نظر إليها، وأحدث لها ما يشبه التنويم المغناطيسي، ثم يسير فتسير وراءه حتى مكمنه، ثم يقتلها هناك، بعد أن يعلو ظهرها ويبول عليها، وفي بوله مخدر، فيوفر على نفسه مقاومتها ونقل جثتها إلى بيته، وتقال هذه الكلمة لمن يسير إلى حتفه بقدميه وظاهر إرادته من شدة جهله بما حوله، ولقد بحثت كثيرًا عن هذا المعنى في الكتب التي تحت يدي، فلم أجده؛ لا في المعاجم ولا في كتب حياة الحيوان، وآمل ممن عنده توثيق لذلك الخبر الشفوي أن يمدني به" (¬1). فهذه معلومات غريبة، قد تستهوي بعض المعجبين بالغرائب، ولكنها لا تعني أبدًا أن نسلم له فتاواه الشاذة والباطلة. ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الانتحار العرقي، بتاريخ 27 - 8 - 2005م.

ب- قال: "هناك نحو مليون ومائتي ألف مسألة فقهية" (¬1) ولا أدري ما هذا العدد؟ ومن قام بعده؟ وما ضابط العد؟ أهي مسائل وقعت أم مفترضة؟ ولكن الأعداد الكبيرة لها رونقها. ج- قال: "وحبة الخردل حبة خفيفة الوزن، حبة الشعير أو القمح تساوي نحو 6000 من حب الخردل" (¬2) وقال: "حب الخردل أخف البذور؛ فالستة آلاف منه تساوي جرامًا" (¬3). د- قال: "إن المسلمين قد قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءًا، وهذه الأجزاء متساوية في عدد الحروف، ولذلك أمكن في طبعات القرآن أن يكون كل جزء في عشرين صفحة" (¬4). هـ- قال: "أبو الوفاء بن عقيل كان يسف الأرز ... وكان عندما يدخل دورة المياه يحضر اثنين من العبيد يقومان بالقراءة بصوت مرتفع، حتى لا يضيع الوقت" (¬5). وقال: "إن آخر الأبحاث ترى أن أشد الناس التزامًا بالصدق يقع في الكذب مرتين على الأقل يوميًا" (¬6) وبعد سنتين كرر كذلك أن آخر الأبحاث تقول هذا الكلام في مقال بجريدة الأهرام، بعنوان الكذب حرام، بتاريخ 23 - 7 - 2007م. ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مصادر التشريع الإسلامي 9، بتاريخ 4 - 12 - 2006م. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: من صلى الليل لا يفوته الفجر، بتاريخ 21 - 7 - 2008م. (¬3) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 79. (¬4) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: آداب تلاوة القرآن، بتاريخ 29 - 6 - 2009م. (¬5) كتاب الكامن في الحضارة الإسلامية، ص 31. (¬6) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مردود الكلمة، بتاريخ 30 - 4 - 2005م.

ز- قال: "هذا التاريخ الذي نرى فيه أكثر من تسعين امرأة وصلت إلى الشأن العام إن صح التعبير، شجرة الدر تولت الحكم، ثمن تولت القضاء، بل تولت القضاء أكثر من تسعين امرأة في تاريخ المسلمين" (¬1) ولا أدري أي قضاء هذا وأية مفخرة هذه؟. ح- قال: "الجن نوع من المجردات؛ أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفية عن حاسة البصر والسمع، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السموات، بل هي في أجواء غير محصورة، وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات، أي ليست أجسامًا ولا جسمانيات، بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري" (¬2) وهذا كلام قد ينبهر به من لا يعرف حقيقته، ويغتر بهذه الأماكن التي ليست على سطح الأرض ولا في أجواء السموات!!!. ¬

(¬1) كتاب الكامن في الحضارة الإسلامية، ص 7. (¬2) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص111.

ثامنا: القواعد والأصول المخترعة

ثامنًا: القواعد والأصول المخترعة القواعد والأصول تبنى على الاستقراء، وتتوخى تحقيق المقاصد، ويحتاط في إطلاقها حيطة كبيرة، ويهتم بتحرير حدودها وضوابطها، ويحذر من تعميمها على غير أفرادها. لكن الملاحظ عند د. علي جمعة أنه يكثر من القواعد في أثناء أحاديثه، دون مبالاة بتحريرها، ثم يعممها، فيخرج بنتائج تصادم الأصول الصحيحة، وتلبس على الناس كثيرًا من الأمور. ومن أمثلة ذلك ما يلي: أ- تتكرر الأحاديث المشكلة التي يلقيها د. علي جمعة، وتطير أخبارها في كل مكان، وتتعدد طرق فهم أحاديثه، ثم نجده لا يصحح مفهوم كلامه، ويترك الناس على أفهامهم، وإذا لامه أحدهم أخرج من جيبه قاعدة رماها في وجه من يلومه، ألا وهي: لا ينسب لساكت قول، تاركًا التبيين والتوضيح، كما وضح هذه القاعدة في قوله: "وقال بعضهم: إن هناك أشياء لا يمكن إلا وأن تكون قد صدرت منكم، فقلت له: كيف هذا؟ فقال: لقد نشرت مرات. وهذه عقلية مرفوضة مع ما نراه ونعرفه من أن أغلب الناس لا يتوثقون التوثق الذي تعلمناه" (¬1) وقال كذلك: "الأصل أنه لا ينسب لساكت قول .. ؛ فالناقل قد يقع في شيء من العوارض البشرية، فإذا سكت المنقول عنه لا ينسب له قول ذلك القائل، ولا بد من التحري" (¬2). ب- عندما يظهر الطعن في فتاوى بعض الناس؛ لفقدهم العدالة المشترطة في المفتي، يأتي قوله مروجًا لفتاواهم، فيقول: "من العبارات الشائعة في كتب الفتوى قولهم: (خذ بفتواه ولا تلتفت إلى تقواه) وهي قاعدة جليلة تنبه إلى الفرق بين علم ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: المؤسسة الدينية في مصر 3، بتاريخ 6 - 8 - 2005م. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: لا ينسب لساكت قول، بتاريخ 19 - 2 - 2005م.

الدين وبين التدين العملي" (¬1) ويقول: "كل المسلمين يستطيعون أن يكونوا من علماء الدين دون شرط من جنس أو نوع أو لون أو حتى تقوى" (¬2). مع أنه هو الذي يقول: "لا تصح فتيا الفاسق عند جمهور العلماء؛ لأن الإفتاء يتضمن الإخبار عن الحكم الشرعي، وخبر الفاسق لا يقبل، واستثنى بعضهم إفتاء الفاسق نفسه، فإنه يعلم صدق نفسه، وذهب بعض الحنفية إلى أن الفاسق يصلح مفتيًا؛ لأنه يجتهد لئلا ينسب إلى الخطأ، وقال ابن القيم: تصح فتيا الفاسق، إلا أن يكون معلنا بفسقه وداعيا إلى بدعته، وذلك إذا عَمَّ الفسوق وغلب؛ لئلا تتعطل الأحكام، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح" (¬3). ج- وضع قاعدة، أخطأ صياغتها وتطبيقها، وجعلها مستنده في كثير من فتاواه العجيبة، وهي قوله: "من ابتلي بشيء مما اختلف فيه، فليقلد من أجاز" (¬4) فما معنى الابتلاء بالشيء؟ أهو الوقوع فيه، أم الرغبة فيه، أم الاضطرار إليه؟ وما الاختلاف المراد؟ أهو أي خلاف، أم الخلاف المعتبر؟ د- يكثر الاستدلال بالأحاديث الضعيفة في فتاواه، ووضع لها قاعدة أنه يؤخذ بها ما لم تخالف أصول الدين؛ فقال: "الحديث الضعيف يؤخذ به في فضائل الأعمال، الحديث الضعيف يؤخذ به ما لم يخالف أصلاً من أصول الدين" لذلك لا نستغرب عندما يعارض الأحاديث الصحيحة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان أصحابه يعظمونه، ويهابونه، ويقومون لهذا الجمال ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: خذ بفتواه، بتاريخ 19 - 3 - 2005م. (¬2) كتاب الحكم الشرعي، ص 122. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 158. (¬4) كتاب البيان لما يشغل الأذهان، فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص167.

والجلال تأدبًا منهم، وعجزوا عن ترك القيام، برغم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك القيام، أخرجه أبو داود في سننه؛ لشدة جماله وبهائه صلى الله عليه وسلم، فقال حسان: قيامي للحبيب علي فرض ... وترك الفرض ما هو مستقيم عجبت لمن له عقل وفهم ... ويرى ذاك الجمال ولا يقوم" (¬1) فعارض الحديث الصحيح بشعر لا يكاد يوجد في كتب التراث عامة، وكتب الحديث خاصة، إلا حكاية ذكرها بعض الفقهاء المتأخرين في بعض كتبهم بلا سند أصلاً. هـ- المبرر لكثير من فتاواه التي تسارع إلى العمل بالأمور المشتبهة دون تحر أو تحقيق قاعدته في أن العصر ليس عصر الورع؛ لأن الأخذ بالورع سيعطل الحياة على حسب تعبيره؛ فيقول: "جدد حياتك مع الله، التزم بالحلال والحرام، لا تلجأ إلى محاولة الورع وأن تتمسك به، فالعصر ليس عصر ورع" (¬2)، ويقول: "عصرنا هذا هو عصر الحلال والحرام وليس عصر الورع، لو أخذنا بالورع فإن حياتنا سوف تتعطل، والله سبحانه وتعالى لم يأمرنا بذلك، فقد أمرنا بالورع على قدر المستطاع، لكن لو جعلنا الورع هو الأساس كما كان قديمًا لم نستطع أن نحيا بصورة نقوم فيها بواجب الوقت" (¬3). وعندما يصدر الأحكام التي تخالف المستقر والثابت، يدعي أن هذا نتاج ما يسميه فقه الأمة الذي يستوعب ما لا يستوعبه ما يسميه فقه الفرد؛ فيقول: "إن كثيرا مِن مشكلاتهم تتمثل في تعاملهم مع فقه الأمة من خلال منظور فقه الفرد، مما ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: وصف النبي كما جاء في السنة، بتاريخ 5 - 12 - 2009. (¬2) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 96. (¬3) كتاب فتاوى عصرية، الجزء الأول ص 477.

قد يسبب في كثير من الأحيان ضياعَ المقاصد الشرعية، أو ضياع مصالح الخلق، أو عدمَ إدراك مراد الشارع مِن شرعه، أو أن يَكِرّ التصرفُ الذي يحسبه أحدهم مِن الدِّين بالضرر على الدِّين نفسه، وكل هذا من التناقض الذي يسببه فقدانُ الفهم الدقيق للفرق بين فقه الفرد وفقه الأمة" (¬1) وقال: "وقد شغل فقه الفرد مساحة كبيرة جدًا على مناهج تعليمنا، وعلى أسئلتنا اليومية الحياتية، وعلى خطابنا الديني، بشكل غطّى على فقه الأمة، وكاد أن يجعله في الهامش، بدرجة أن بعض المفكرين والمهتمين بالدراسات الإسلامية من غير الإسلاميين يكادون لا يعرفون عن مجهودات العلماء السابقين في فقه الأمة" (¬2). ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: فقه الأمة، بتاريخ 14 - 1 - 2008م. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: ما بعد الحج، بتاريخ 7 - 1 - 2008م.

تاسعًا: ذكر نتائج بلا مقدمات ملائمة يقوم البعض بذكر مقدمات طويلة، يصول فيها ويجول، ويحاول أن يدلل وأن يرد، ثم تأتي الخاتمة بأمر عجب، وهو الوصول إلى نتيجة أخرى غير التي جادل من أجلها، وغالبًا ما تستخدم هذه الطريقة لكسر حاجز المعارضة لأمر ما، وعندما يظن المؤلف أن الحاجز قد كُسر، وأن القارئ قد تهيأ وسلم للنتائج، يقوم بذكر هذه النتائج، التي لا تتعلق بالمقدمات بقدر تعلقها بحالة الانقياد التي يحاول إيصال القارئ لها، وكثيرًا ما تكون في هذه النتائج مصادمة تامة لكثير من الحقائق والثوابت المعلومة، ومن أمثلة ذلك: أ- تكلم عن الضرائب، وحاول إيهام القارئ أن هذه الأموال التي تستولي عليها الحكومات ظلمًا وعدوانًا بحجة الضرائب مباحة، ثم كانت النتيجة أن جعل أخذ الضرائب واجبًا فقال: "ولا ريب أن تحكيم هذه القواعد الشرعية، لا يؤدي إلى إباحة الضرائب فحسب، بل يحتم فرضها وأخذها؛ تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار عنها" (¬1). ب- تكلم عن السبحة لنفي البدعية عنها، ولكن المفاجأة أنه خرج بتفضيلها على التسبيح باليد، وليس جوازها فقط، فقال: "والسبحة أداة يجوز للمسلم استخدامها في العد في الأوراد، وهي أولى من اليد إذا أمن الإنسان الخطأ؛ لأنها أجمع للقلب على الذكر" (¬2). ج- تكلم عن أن بعض الأحناف يبيحون أخذ الربا من الكفار في دار الحرب، لكن النتيجة أنه أفتى بجواز دفع الربا للكفار في بلاد غير المسلمين، وأنه لا توجد ديار حرب ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 257. (¬2) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 237.

بل ولا ديار كفر!!! (¬1). د- تكلم عن مسألة وقت رمي الجمار في الحج، وحاول الوصول إلى جواز الرمي في كل أيام منى دون تحديد وقت ما للرمي، ولكن في النهاية وصل إلى نتيجة أخرى، وهي أن العمل بهذا الرأي واجب وليس جائزًا فقط فقال: "فإن الأخذ بفتوى إجازة رمي الجمرات في ساعات اليوم كله وليس الرمي في وقت محدد، واجب شرعي على الحجاج" (¬2). بل إنه حاول تأثيم من يلتزم قول جمهور العلماء في تحديد أوقات للرمي، بدعوى أنه يريد قتل المسلمين!! فقال: "فإن من فضل المزاحمة التي تؤدي إلى موت نفسه أو موت غيره، على العمل بقول وإن كان مرجوحًا قديمًا إلا أنه ترجح في أيامنا هذه صيانة للنفس البشرية، فهو آثم شرعًا، ويخشى عليه من عدم قبول حجه؛ إذ لا يجوز له بحال الإصرار على قول مختلف فيه إذا تيقن موت كل هؤلاء المسلمين، فإن الخروج من الخلاف مستحب وليس بواجب، وقتل النفس من الكبائر اتفاقًا" (¬3). ¬

(¬1) ستأتي مناقشة الفتوى في ثنايا الكتاب إن شاء الله، وأصلها في كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 108. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: الجمرات وأزمة الفكر 2، بتاريخ 23 - 1 - 2006م. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 286 - 287.

عاشرا: الإكثار من الشبهات

عاشرًا: الإكثار من الشبهات عندما يظهر الحق يحاول البعض التغبيش عليه بكثرة الاعتراضات والمجادلات، ظانين أن الأمور قد تتبدل، فينقلب بالشبهات المتكاثرة الحق باطلاً والهدى ضلالاً. والإكثار من الشبهات هو محاولة لجمع ما قرب وبعد، وما طال وقصر، وما قيل وما لم يقل، من أجل إقناع الجماهير بضعف موقف الحق، وإظهاره في صورة الغريب الشاذ. ولكن الإكثار من الشبهات لا يزيد مروجيها إلا تناقضًا على تناقضهم، يضاف إلى ضعف منطقهم وسوء فهمهم. والمتأمل لكلام د. علي جمعة في كثير من القضايا؛ مثل: تطبيق الشريعة، والختان، والعقود الفاسدة في ديار الكفار، والنظر للمتبرجات، يجد استماتة في جمع واختراع الشبهات، ولكن يظل الباطل باطلاً، وتظل الشبهة شبهة، وسنعرض لبعض هذه القضايا في الفصول القادمة إن شاء الله؛ لنرى كيف يتم التغبيش بالشبهات على الواضحات الجليات.

الفصل الثاني رؤيته للعلاقة بين الإسلام والواقع

الفصل الثاني رؤيته للعلاقة بين الإسلام والواقع التحاكم إلى الشريعة الجهاد في سبيل الله التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم المعاملات المالية الشيعة التصوف الأدب مع الله عز وجل ومع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فتاوى المرأة

رؤيته للعلاقة بين الإسلام والواقع الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1)، وهو الدين الكامل الشامل، المتضمن للسعادة والطمأنينة في الدارين. أما واقع البشر فهو أقدار يجريها الله جل وعلا بحكمته وعلمه، قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (¬2). والإسلام جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، وجاء ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وما يصلح أحوالهم. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية 3. (¬2) سورة النجم، الآيات 42 - 58.

لذا كان تغيير ما بالنفس من أمراض وأوباء طريقًا للاستقامة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (¬1). وتكرر النهي عن الغفلة، والتحذير من التمادي في مألوف العادات السيئة، والتقاليد المنحرفة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). وكان سبيل الأنبياء والصالحين هو محاولة الإصلاح، وتقويم الاعوجاج المستشري في جسد المجتمعات، والتحذير والتذكير، قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬3)، وقال: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬5). والرجوع لحقيقة الإسلام دون تحريف أو تبديل، والاستقامة على أمر الله جل وعلا، والثبات على شرعه، هو هدف كل من أراد رضا الله جل وعلا، ونشد الصراط المستقيم، ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية 11. (¬2) سورة يونس، الآيتان 7 - 8. (¬3) سورة هود، الآية 88. (¬4) سورة الأعراف، الآية 2. (¬5) سورة طه، الآية 124.

قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1)، وقال جل وعلا: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2)، وقال عز وجل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬3). ولم يكن الركون للباطل ومسايرة أهواء البشر في يوم من الأيام سبيلاً من سبل الدعوة، أو وسيلة من وسائل نشر الخير، قال تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (¬4)، وقال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (¬5)، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (¬6)، وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية 153. (¬2) سورة الزخرف، الآية 43. (¬3) سورة سبأ، الآية 6. (¬4) سورة الأنعام، الآية 150. (¬5) سورة الرعد، الآية 37. (¬6) سورة المؤمنون، الآية 71.

يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (¬1). بل إن إعراض المعرضين عن الحق دليل على سوء طويتهم وقبح سريرتهم، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2). هذا هو سبيل الإصلاح؛ إظهار للحق، وتغيير للواقع الباطل، ووقوف في وجه الفساد، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} (¬3). أما د. علي جمعة فهو يسير بطريقة تحاول: 1 - الإبقاء على الواقع قدر المستطاع. 2 - إيجاد المبررات التي تقر كثيرًا من أحداث الحياة. 3 - البحث في الأمور المشتبهة، والكلمات المحتملة، والتفتيش في المعاني الغامضة؛ ليخرج بما يخفف عن الجماهير عبء تغيير النفوس وتهذيبها. وباختصار هو يسعى لأن يجد في دائرة المشتبهات ما يقلل دائرة الالتزام بالتكاليف؛ ظنًا منه أن ذلك يخدم الإسلام وينشر الالتزام المزعوم، وتناسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس؛ فمن ¬

(¬1) سورة يونس، الآية 15. (¬2) سورة القصص، الآية 50. (¬3) سورة هود، الآية 63.

اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) (¬1). ووقوفه في دائرة البحث في المشتبهات، أوقعه في أمور كثيرة، تقع في حقيقة الأمر في باب المحرمات والمنكرات، بل وفي باب كبائر الإثم والعدوان، بل يصادم بعضها شرع الله جل وعلا مصادمة ويعارضه معارضة؛ فصار كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. وفي هذا الباب استعراض لمقتطفات وأمثلة من محاولاته مسايرة الواقع، وإيجاد وسائل متنوعة للتعايش والتواصل مع الحكام والمحكومين، والمذاهب والفرق، والأديان والملل، ممتطيًا جواد الفهم المعوج لبعض أحكام الشريعة الإسلامية، معرضًا فيها عن الحق البين والصراط السوي. ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات.

أولا: التحاكم إلى الشريعة

أولاًً: التحاكم إلى الشريعة أرسل الله جل وعلا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى والنور؛ ليبلغ للناس هذا الدين الكامل التام، الذي فيه كل صلاح، ومنه يبدأ كل إصلاح، فانقاد المسلمون لسلطان الشريعة، ورضوا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً، مرددين قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} (¬1)، وقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). واستسلموا لأمر الله وشرعه سبحانه وتعالى معلنين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (¬3)، ومتذكرين قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (¬4). وعلموا أن الحكم بشرع الله من صميم العبادة، التي لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيات 161 - 163. (¬2) سورة النور، الآية 51. (¬3) سورة المائدة، الآية 1. (¬4) سورة البقرة، الآية 140. (¬5) سورة يوسف، الآية 40.

والحكم بالشريعة والتحاكم إليها هو العدل الذي لا عدل سواه، وهو من صفات المؤمنين التي تميزهم عن صفات المنافقين والكافرين الذين يريدون التحاكم للطاغوت، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا

عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (¬1). وقد بين الله جل وعلا حال اليهود والنصارى، الذين حكموا بغير ما أنزل الله؛ فكفروا وضلوا وظلموا، ثم حذر سبحانه المؤمنين من ثلاث خصال مهلكات مترابطات فيما بينها، ذكرها سبحانه في آيات متتاليات، وهي: مخالفة حكم الله ولو في بعض ما أنزل، وموالاة اليهود والنصارى، والردة عن الدين؛ فقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ¬

(¬1) سورة النساء، الآيات 58 - 68.

شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1). ومع أن وجوب الحكم بما أنزل الله من الأمور المعلومة المشتهرة من دين الإسلام بالضرورة، إلا أن حالة الضعف التي لحقت بالكثير من المسلمين، جعلت البعض لا يكاد يبصر الحقائق البازغة، من كثرة التشوهات التي أصابت بصره وعقله، فصار يدندن بما لا ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيات 44 - 54.

أ- كلامه عن تطبيق الشريعة في كتاب: (البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل)

يفهم معناه، من أمور تناقض الإسلام أيما مناقضة. والدكتور علي جمعة أراد أن يخوض في مسألة الحكم بالشريعة، وأن يتحدث، وأن يكتب، وأن يجادل، فكان طرحه في قضية الحكم بما أنزل الله مذبذبًا متناقضًا، بل إن مفهوم كلامه ولازمه يعني محاولة هدم الإسلام من أساسه. وتقوم دعوته المشوهة عن الحكم بما أنزل الله على ترديد بعض العبارات الموهمة، وإيراد الشبهات والدعاوى، التي لا يجمعها إلا كونها استسلامًا لضغط الواقع، ومحاولة للدفاع عن الأنظمة الباطلة، وإضفاء الشرعية عليها، مع سوء فهم للشريعة، وافتراء الأباطيل حول أحكامها. وهذه أمثلة مما اقترفته يداه في حق الشريعة المطهرة: أ- كلامه عن تطبيق الشريعة في كتاب: (البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل) من الكتابات التي كتبها د. علي جمعة عن تطبيق الشريعة، وحاول ترويجها ونشرها في الداخل والخارج بوسائل كثيرة، ما كتبه في كتابه (البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل)، وقد حاول فيه أن يجمع ما يوهم القارئ بأي شيء سوى أن يبين له الحق، وهذا استعراض لما كتبه عن تطبيق الشريعة في هذا الكتاب المشحون بالأباطيل: * بدأ كلامه بمقدمة قال فيها: "قضية تطبيق الشريعة لا بد أن تفهم بصورة أوسع من قصرها على تطبيق الحدود العقابية بإزاء الجرائم، كما هو شائع في الأدبيات المعاصرة، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم؛ حيث إن تطبيق الشريعة

له جوانب مختلفة، وله درجات متباينة، وليس من العدل أن نصف واقعًا ما بأنه لا يطبق الشريعة لمجرد مخالفته لبعض أحكامها في الواقع المعيش، حيث إن هذه المخالفات قد تمت على مدى التاريخ الإسلامي وفي كل بلدان المسلمين ودولهم بدرجات مختلفة ومتنوعة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين: إن هذه البلاد قد خرجت عن ربقة الإسلام أو إنها لا تطبق الشريعة، بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمة تطبيق الشريعة كلمة حادثة". لو فرضنا أن الخلل الموجود عند غالب الحكومات هو انسلاخ فقط عن إقامة الحدود الشرعية لكانت مصيبة من أعظم الموبقات، ولقلنا لهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (¬1) والواقع يؤكد أن الخلل الموجود عند غالب الحكومات هو انسلاخ عن كثير جدًّا جدًّا من أمور الشريعة في شتى مجالات الحياة؛ من: سياسة، واقتصاد، وقضاء، وإعلام، وتعليم، وتربية، وثقافة، وحسبة، وجهاد ... . وزعمه أن هذه المخالفات وقعت عبر التاريخ في كثير من البلدان لا ينفي كونها ضلالات باطلة، ولا زال العلماء الصادقون ينكرون المنكرات، ويعلنون وجوب التزام الشرع، وينكرون على من لا يطبق الشريعة حكمه بالطاغوت، ولاقوا من الطغاة والطواغيت صنوف الأذى، أسأل الله أن يتقبل جهادهم، وأن يرحم موتاهم، وأن يجزيهم خير الجزاء. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان 85 - 86.

أما زعمه أن كلمة تطبيق الشريعة حادثة، فهذا حيدة في الكلام؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح كما هو معلوم، فماذا يقول عندما يقرأ قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (¬1) وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2)، ولا نعلم عالمًا من العلماء المعاصرين الصادقين تحرج من استعمال هذه الكلمة، يضاف إلى ذلك أن د. علي جمعة من الغارقين في التوسع في المحدثات والبدع اصطلاحًا وتطبيقًا، ويضفي عليها الشرعية، ولا يرى أية غضاضة في كثير من البدع كما هو واضح في نتاجه، ثم يزعم أن كلمة تطبيق الشريعة حادثة!!!. وحتى لا يلتفت ملتفت على القضية، ماذا يكون الحال إذا اكتفى البعض بمصطلح الحكم بما أنزل الله وترك كلمة تطبيق الشريعة؟ هل سيختلف الحال والواقع أم سيظل الحال والواقع كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (¬3). * ثم قال د. علي جمعة: "الشرع قد وضع شروطًا لتطبيق هذه الحدود، كما أنه قد وضع أوصافًا وأحوالاً لتعليقها أو إيقافها، وعند عدم توفر تلك الشروط أو هذه الأوصاف والأحوال فإن تطبيق الحدود مع ذلك الفقد يعد ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية 49. (¬2) سورة المائدة، الآية 44. (¬3) سورة النساء، الآيتان 60 - 61.

خروجًا عن الشريعة". وهذا من تكثير الكلام بغرض قلب الحقائق؛ فمن هذا الذي دعا إلى تطبيق الحدود على غير من وجبت إقامتها عليه؟!!! الكلام في أولئك الطغاة الذين أعرضوا عن حدود الشريعة، ووضعوا لأنفسهم طرقًا أخرى يستمدون منها أحكامهم، فهم أعرضوا عن الحدود الشرعية كلية، ولم ينظروا إلى شروط أو قواعد. ثم هذا الكلام العام يراد منه التضليل؛ لأن شروط تطبيق الحدود معلومة في مظانها، أما د. علي جمعة فيضع كلامًا عامًا يزعم به أن الشروط لا تتوفر جملة وتفصيلاً، وبهذا يسوغ في تفكيره أن تطبق أحكام مختلف الأمم والملل من فرنسيين وألمانيين وبريطانيين ومن يهود ونصارى وبوذيين وملاحدة؛ لأن الشروط التي وضعوها توفرت!!! أما شروط الشريعة الإسلامية فلم تتوفر!! * ثم قال د. علي جمعة: "المتأمل في النصوص الشرعية يجد أن الشرع لم يجعل الحدود لغرض الانتقام، بل لردع الجريمة قبل وقوعها، ويرى أيضًا أن الشرع لا يتشوف لإقامتها بقدر ما يتشوف للعفو والصفح والستر عليها، والنصوص في هذا كثيرة". الله جل وعلا شرع الحدود لحكم عظيمة لا يحصيها إلا هو جل وعلا، وزعم أن الحدود ليست انتقامًا من المجرم تلاعب بالألفاظ، وقد بوب البخاري رحمه الله بابًا بعنوان: (باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله)، وفي صحيح مسلم بوب النووي بابًا بعنوان: (باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته)، وذكر البخاري ومسلم في بابيهما هذا حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم

لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) (¬1) وذكر الله جل وعلا قطع يد السارق نكالاً له؛ فقال جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2). وهب أن الحدود للردع فقط، أهذا يعني إلغاء الحدود، فيزعم الزاعمون أن الحدود للردع، وأن الطغاة استطاعوا ردع الناس بغير الحدود، فلا حاجة لنا إلى الحدود!!! وأما ما ذكره من تشوف الشريعة للستر، فإن الشريعة التي تشوفت للستر هي هي الشريعة التي أمرت بإقامة الحدود، وهي هي الشريعة التي بها أقام الحكام المسلمون الحدود عبر الزمان والمكان. * ثم افترى د. علي جمعة افتراء عظيمًا على الأمة الإسلامية فقال: "لمدة نحو ألف سنة لم تقم الحدود في بلد مثل مصر، وذلك لعدم توفر الشروط الشرعية التي رسمت طرقًا معينة للإثبات، والتي نصت على إمكانية العودة في الإقرار، والتي شملت ذلك كله بقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) (¬3) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) (¬4) ". وقد فسر د. علي جمعة هذه الفرية في كتاب آخر فقال: "عندنا في مصر منذ ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، ورواه مسلم في كتاب الفضائل، باب مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته. (¬2) سورة المائدة، الآية 38. (¬3) رواه الحصكفي، في مسند أبي حنيفة، كتاب الحدود. (¬4) رواه الترمذي في سننه، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود.

أكثر من ألف سنة وتزيد (1200) سنة لم يرجم الزاني، ولكن في القرآن يوجد حد الزاني، وفي السنة يوجد حد الزاني، وبالرغم من ذلك لا يعمل به؛ لأن الله قد وضع أشياء كثيرة جدًا حول هذه القضية، بحيث إنها تكون كأنها صعبة التنفيذ لكونها نكالا، ولأنها تبين للناس أن هذا خطأ وعيب وحرام وفاحشة ولا يجوز، كذلك قطع السارق؛ فقطع السارق لم يطبق في مصر منذ أكثر من 1000 سنة وإلى يومنا هذا، لكننا لا نستطيع أن نرفعه من القرآن. هناك فرق بين مثل هذه القضية التي ينبغي علينا أن تكون في كتابنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، من الأمور التي ينبغي علينا أن نعتبرها أساسًا ودستورًا، وبين أن تطبق في الواقع الفعلي أو وجوب هذا الواقع الفعلي، هناك فرق كبير جدًا" (¬1). وهذا الكلام كذب وافتراء؛ وذلك لأمور منها: أولاً: من أين أتى د. علي جمعة بأن الحدود لم تقم في مصر ألف عام؟ هل ذكر المؤرخون ذلك؟ قد يكون الدافع لهذه الفرية أنه لم يقرأ تفاصيل وقائع إقامة الحدود في كتب التاريخ، أفيكون الجهل بالشيء دليلاً على عدمه؟؟!!! وهذه طريقة ملتوية يستخدمها د. علي جمعة في الاستدلال أحيانًا، فيستدل بعدم العلم بالشيء على عدم الشيء، بمعنى أن عدم علمه بحدوث الشيء دليل عنده على عدم الحدوث أصلاً، وهذا من العجب. ثانيًا: بل أقيمت كل الحدود في مصر عبر تاريخها -عدا الفترة التي يفتخر بها د. علي ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص 200.

جمعة ويسميها بالدولة الحديثة- وهذا لا يحتاج لإثبات؛ لأنه الأصل في المسلمين، وعلى المخالف الدليل. ثالثًا: بقليل من البحث نجد أن كتب التراث ذكرت كثيرًا من الجرائم التي أقيمت فيها الحدود، والأصل أنهم لا يتتبعون الحدود التي أقيمت إلا لمزيد فائدة في الحادثة؛ لأن أصل البيعة للحاكم تتضمن إقامة الحدود، فلا حاجة لذكرها، فمثلاً جاء في ذكر بيعة الظاهر بيبرس للخليفة العباسي: (أقبل الملك الظاهر إليه، وبايعه على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، وأخذ أموال الله بحقها، وصرفها في مستحقها، والوفاء بالعهود، وإقامة الحدود، وما يجب على الأئمة فعله من أمور الدين وحراسة المسلمين) (¬1). يضاف إلى ذلك أن إقامة الحدود كانت تناط في كثير من الأحيان بأصحاب الشرط، والغالب أن كتب التاريخ تعنى بأحوال الحاكم نفسه لا أتباعه من الشرط والوزراء، حتى إن المؤرخين كانوا يمتدحون بعض الحكام بأن الحدود كانت تقام بين أيديهم، فمثلاً يقول ابن الأثير: (وكان ناصر الدولة ينظر في قصص الناس، وتقام الحدود بين يديه، ويفعل ما يفعل صاحب الشرطة) (¬2). وكان الحاكم يُمتدح أحيانًا بحرصه الشديد على إقامة الحدود، وألا تأخذه في الله لومة لائم، كما وصفوا أيبك بن عبد الله الصالحي فقالوا: (وكان عنده كفاية، وخبرة تامة، وصرامة شديدة، ومهابة عظيمة، يقيم الحدود على ما يجب، لا يحابي في ذلك) (¬3). وكما وصفوا الشريف السيد سرور فقالوا: (يجلس للنظر في الأحكام، ولا تأخذه في الله لومة ¬

(¬1) كتاب ذيل مرآة الزمان، ج2, ص178, ط دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة، الطبعة الثانية. (¬2) كتاب الكامل في التاريخ، ج7, ص121, ط دار الكتاب العربي- بيروت. (¬3) كتاب ذيل مرآة الزمان، ج3, ص132.

لائم، ويقيم الحدود ولو على أقرب الناس إليه) (¬1). فإذا انضم للحادثة أن بها غرابة أو حيلة أو ما شابه ذلك، ذكروها، لا لسرد وتتبع الحدود، بل للغرابة التي ذُكرت في الحادثة؛ مثل ما ذكروه من أنه: (رُفع إلى محمد بن النعمان أن نصرانيًّا أسلم ثُمَّ ارتد وَقَدْ جاوز الثمانين، فاستتيب، فأبى، فأنهى أمره إلى العزيز، فسلَّمه لوالي الشرطة، وأرسل إلى القاضي أن يرسل أربعة من الشهود؛ ليستتيبوه، فإن تاب ضَمِنَ له عنه مائة دينار، وإن أصر فليقتل، فعرض عليه الإسلام، فأبى، فقُتل، ثُمَّ أمر بتغريقه في النيل) (¬2). ومثل ما ذكروه أنه: (أُحضر بعض مسالمة النصارى، من الكتاب الأقباط، إلى باب القلعة من قلعة الجبل، وقد ارتد عن الإسلام، وعرف في إسلامه ببرهان الدين إبراهيم بن بُرَيْنيَّه مستوفي المارستان المنصوري، فعرض عليه الإسلام مرارًا، ورغب في العود إليه، فلم يقبل، وأصر على ردته إلى النصرانية، فسأل عن سبب ردته، فلم يبد شيئًا، فلما أيس منه ضربت رقبته بحضرة الأمير الطواشي شاهين الحسني، أحد خاصكية السلطان) (¬3). ومثل ما ذكروه عن سرقة بعض المجاورين في الأزهر وأنه أقيم عليهم الحد وقطعت أياديهم، مع أن الأصل في المجاورين في الأزهر أنهم طلبة علم حسنة أخلاقهم مستقيمة سلوكهم فقالوا: (إن كتخدا بك أمر بقطع أيدي الثلاثة؛ وهم محمد بن أبي القاسم الدرقاوي، ورفيقه الصرماني، والصباغ الذي ثبتت عليه السرقة في الحادثة الأخرى، فقطعوا أيدي الثلاثة في بيت القبطان) (¬4). ¬

(¬1) كتاب عجائب الآثار، ج2, ص69, ط دار الجيل- بيروت. (¬2) كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر، ج1, ص424, ط مكتبة الخافجي- القاهرة. (¬3) كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، ج5, ص428, ط دار الكتب العلمية- بيروت. (¬4) كتاب عجائب الآثار، ج3, ص349.

ومثل ما ذكروه من رجم رجل زنا بامرأة ولكنها ليست كأي امرأة، إنها امرأة علوية، فقالوا: (وفي ولايته رجم رجلاً خبازًا أصاب امرأة علوية من زناء، وكان رجمه بسوق الدواب بقرب الجامع الطولوني) (¬1). رابعًا: أما ادعاؤه عدم توفر الشروط الشرعية التي رسمت طرقًا معينة للإثبات، فهذا باطل ومحال شرعًا وعقلاً وحسًا؛ فالله جل وعلا شرع الشريعة وأحكمها بما يصلح الناس ويطهرهم، ولا يتصور خلو مجتمع ما في جميع حوادثه من بينات ودلائل؛ فهذا ما يشهد الواقع ببطلانه، أضف لذلك أن كثيرًا من الجرائم تظهر وتبدو ويسهل الشهادة عليها، كما في كثير من حوادث شرب الخمر والقذف والقتل والحرابة، زد على ذلك كثرة الجناة الذين يرغبون في تطهير أنفسهم بالحد، فيُقرون بجرمهم، ويصرون على إقرارهم، ويجودون بأنفسهم لله جل وعلا، حتى يقام عليهم الحد، لعل الله أن يشملهم بعفوه ومغفرته. خامسًا: هب أن الحدود لم تقم في مصر طيلة هذه المدة التي يذكرها، فماذا كان؟ هل هذا يرفع الإثم والعدوان عن الطغاة الذين أهملوا إقامتها؟ وكم من أمم في الأرض كفرت بالله طيلة تلك المدة ودانت بغير الإسلام، فكان ماذا؟ أكان هذا طعنًا في دين الإسلام؟ وكم من بلد نشأت أجيالها على الغلو والبدعة فكان ماذا؟ هل تحولت البدعة إلى سنة. * وليستدل د. علي جمعة على دعواه الباطلة بأن الحدود لم تقم منذ ألف سنة، قصد إلى كتب التاريخ فانتزع منها إحدى القصص، ونسج بها عددًا من الأوهام والزيادات التي لم تقع، فقال: "لم نرجم زانيًا منذ ألف سنة، ومنذ ألف سنة لم يقم حد الزنا في مصر هذه من قبل عصر المماليك، حتى جاء قنصوه الغوري في القرن العاشر الهجري ¬

(¬1) كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر، ج1, ص425.

وتعجب: لم لا نقيم الرجم هنا؟ وأراد أن يحيي مآثر الأولين في إقامة حدود الله، ونبه على القضاة أنكم إذا أمسكتم بزان فأخبروني حتى أقيم عليه حد الرجم، فأمسكوا بزان غير محصن، وغير المحصن عليه الضرب والجلد فقط، وليس عليه الرجم، فقال: على كل حال ارجموه، قالوا: هذا بخلاف شرع الله! فعزل القاضي وأتى بقاض آخر فرفض، فذهب إلى محبس الرجل وأخذه فرجمه ظلمًا وعدوانًا وطغيانًا، حتى دخلت عليه العثمانية، وقالوا: إن ملكه قد ذهب لأنه خالف شرع الله" (¬1) والدكتور علي جمعة حرف حكاية قنصوه الغوري تحريفًا شديدًا، فليس فيها من قريب أو بعيد أن الحدود لم تكن تقام، ولا أن من اتهم بالزنا لم يكن محصنًا، والإشكال في القصة أنه اعترف بالزنا ثم أنكر، والذي يدل على تدليس د. علي جمعة أن من اتهم بالزنا لم يرجم أصلاً، بل شنق وصلب، والصلب حد الحرابة لا الزنا!! والغوري حاكم ظالم قتل من العلماء من قتل ظلمًا وعدوانًا، والقصة كما وردت في كتب التاريخ هي: (حصل منه أذية بالغة للبرهان بن أبي شريف عالم مصر يومئذ، ومفيدها بسبب الرجل الذي رمي بالزنا، فأقر بالتهديد والضرب، ثم أنكر، فأفتى ابن أبي شريف بعصمة دمه، وعدم رجمه، فغضب عليه الغوري بسبب ذلك، وعزله من مدرسته التي جددها بالقاهرة، وصلب الرجل على باب شيخ الإسلام ابن أبي شريف حتى جزع الناس له) (¬2) وفي تفصيل أكثر قالوا: (إن رجلاً اتهم أنه زنا بامرأة، فرفع أمرهما إلى حاجب الحجاب بالديار المصرية الأمير أنسبائي، فضربهما فاعترفا بالزنا، ثم بعد ذلك رفع أمرهما إلى السلطان الغوري، فأحضرا ¬

(¬1) كتاب الوحي - القرآن الكريم، ص 149. (¬2) كتاب الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، ج1، ص296، ط دار الكتب العلمية- بيروت.

بين يديه، وذكرا أنهما رجعا عما أقرا به من الزنا قبل ذلك، فعقد السلطان لهما مجلسًا جمع فيه العلماء والقضاة الأربعة، فأفتى شيخ الإسلام برهان الدين صاحب الترجمة بصحة الرجوع، فغضب السلطان لذلك، وكان المستفتي القاضي شمس الدين الزنكلوني الحنفي، وولده، فأمر السلطان بهما، فضربا في المجلس حتى ماتا تحت الضرب، وأمر بشنق المتهمين بالزنا على باب صاحب الترجمة، فشنقا، وعزل صاحب الترجمة من مشيخة القبة الغورية والقضاة الأربعة الكمال الطويل الشافعي، والسري بن الشحنة الحنفي، والشرف الدميري المالكي، والشهاب الشبشتي الحنبلي، وكانت هذه الواقعة سبباً لتكدر دولة الغورية، وتبادي انحلال ملكه حتى قتل بعد سنتين بمرج دابق) (¬1) فلا شبهة دليل في القصة على أن الحدود لم تكن تقام، ولكن هذه الزيادة من تأليف د. علي جمعة. * ثم أكمل د. علي جمعة تفلسفه فقال: "قد يوصف العصر بصفات تجعل الاستثناء مطبقًا بصورة عامة، في حين أن الاستثناء بطبيعته يجب أن يطبق بصورة مقصورة عليه، من ذلك وصف العصر بأنه عصر ضرورة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر شبهة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر فتنة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر جهالة، وهذه الأوصاف تؤثر في الحكم الشرعي". ودعواه أن العصر قد يوصف بصفات تجعل الاستثناء مطبقًا بصورة عامة تلاعب بالألفاظ، فكيف نصف عصورنا الحالية بهذه الصفات، مع استحالة اتفاق جميع الأفراد والأمصار في أحوالهم، إن هذه محاولة لنسف أصول الشريعة بمثل هذه الكلمات الجوفاء. ما معنى عصر الضرورة؟ وما الضرورة؟ وما ضوابطها؟ وما تطبيقاتها؟ ¬

(¬1) كتاب الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، ج1، ص103.

ما معنى عصر الشبهة؟ ما معنى عصر الفتنة؟ ما معنى عصر الجهالة؟ إن ديدن المبتدعة هو التكلم بالكلام المجمل، سعيًا في إبطال المفصل، وانقضاضًا على دين الله جملة وتفصيلاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * ثم أكمل د. علي جمعة فقال: "فالضرورة تبيح المحظور، حتى لو عمت واستمرت، ولذلك أجازوا الدفن في الفساقي المصرية مع مخالفتها الشريعة". هل الضرورة هي التي جعلت كثيرًا من الحكومات تعلم الأطفال مذاهب الكفر والإلحاد في المدارس؟ هل الضرورة هي التي جعلت كثيرًا من الحكومات تشجع الردة والمرتدين، وتكرم الزنادقة الطاعنين في دين الإسلام، وتعطيهم أرفع أوسمة الدولة؟ هل الضرورة هي التي اقتضت أن تنتشر محلات بيع الخمور في طول البلاد وعرضها؟ هل الضرورة هي التي تحارب الزواج المبكر، وفي المقابل تنشر الفاحشة وتيسرها إلى أبعد الحدود؟ إن المبدلين للشريعة بحجة الضرورة يستنون بمن قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). إن هذه الضرورة المُدَّعاة هي مثل إفك الكفار الذين عادَوا الإسلام بحجة الخوف على مصلحة أنفسهم وأهليهم من اعتداء إخوانهم الكفار عليهم إن هم أسلموا: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (¬2)، ومثل تخاذل الكافرين الذين أخبرنا الله ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية 28. (¬2) سورة القصص، الآية 57.

جل وعلا عنهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1). * وأكمل د. علي جمعة قائلاً: "والشبهة تجيز إيقاف الحد، كما صنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة؛ حيث عمت الشبهة بحيث فُقد الشرط الشرعي لإقامة الحد". إن الشبهة التي تدرأ الحد هي الشبهة التي اعتبرها الشرع، وليست الشبهة تلاعبًا عقليًا يسوغ الاحتمالات ويوجد المبررات، بل هي أمور تلتبس فعلاً بالموقف، وتتداخل في تفاصيله، وتؤثر في مجريات الأمور. ودرء الحد بالشبهة ليس تبديلاً للشرع كما هو حال الظلمة الفجرة، بل هو تحر وتبين وتقصي. ثم إن الشبهات تلتبس بالوقائع لا التشريع، بمعنى أن الشبهة تمنع من استحقاق هذا المذنب لهذا الحد، لا أنها تمنع الحدود، وتسوغ الجرائم، وتشجع المنكر، كما هو حال القوانين الكفرية. ثم ما تفاصيل الشبهات التي تنفي وجوب إقامة الحدود المتنوعة على عموم المجرمين؟ أم أن المراد استغلال كلمة الشبهات لتعطيل الحدود جملة وتفصيلاً. أما محاولة التمسح بما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالمراد التغبيش به لا حقيقة الاستدلال؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يلغ حدًا ولم يوقفه، وإنما لم تتوفر شروط إقامة الحد فدرأ الحد بالشبهة لمن توفرت فيه الشبهة، لا أنه ألغى الحدود جملة وتفصيلاً، وفتح الباب للزنادقة يسخرون من الحدود، ويصفونها بأبشع الصفات، ويستهزئون من الدعاة إلى تطبيقها، ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 156.

ويتهمونهم في تفكيرهم وعقولهم، كما يفعل البعداء الذين لا خلاق لهم ولا دين من أدعياء الزعامة اليوم، ويأتي أحد أدعياء العلم ويذكر أن الشبهة لحقت بالبلاد والعباد!! والذي فهمه العلماء أن عمر درأ الحد عندما كثرت الحاجة عمن يظن لحوق الشبهة به، كما قال الإمام أحمد لمن سأله عن هذا الأثر الذي روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لا أقطعه، إذا حملته الحاجة، والناس في شدة ومجاعة) (¬1)، وقال الماوردي الشافعي: (إذا سرق السارق في عام المجاعة والقحط، فعلى ضربين؛ أحدهما: أن يكون لغلاء السعر مع وجود الأقوات، فالقطع واجب على السارق، ولا تكون زيادة الأسعار مبيحة للسرقة، ولا مسقطة للقطع. والضرب الثاني: أن يكون لتعذر الأقوات وعدمها، فإن سرق ما ليس بقوت قطع، وإن سرق قوتًا لا يقدر على مثله لم يقطع، وكانت الضرورة شبهة في سقوط القطع، كما كانت شبهة في استباحة الأخذ، روي عن ابن عمر أنه قال: لا قطع في عام المجاعة، ولا قطع في عام سنة) (¬2) وقال ابن القيم: (ومقتضى قواعد الشرع إذا كانت السنة سنة مجاعة وشدة، غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانًا على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجانًا؛ لوجوب المواساة، وإحياء النفوس، مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل، مع ضرورة المحتاج، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج ... وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به، وهو مستغن عن السرقة، قطع) (¬3). فهذا فهم العلماء لما يروى عن عمر أنه درأ الحد عمن يظن ¬

(¬1) كتاب المغني لابن قدامة، ج9، ص118، ط دار إحياء التراث العربي. (¬2) كتاب الحاوي الكبير للماوردي، ج13، ص313. (¬3) كتاب إعلام الموقعين لابن القيم، ج3, ص17 - 18, ط دار الكتب العلمية- بيروت.

لحوق الشبهة به، وعدم توفر شروط قطع يده. ثم هل درأ عمر رضي الله عنه حد السرقة عام الرمادة أصلاً؟؟ إن مثل هذه الروايات لم ترد في أكثر الكتب المعتمدة، ولم تشتهر عند كثير من أهل العلم، حتى قال ابن الملقن: (عن عمر رضي الله عنه أنه لا قطع في عام المجاعة، وهذا الأثر لم أره في كتب السنن المسانيد، ورأيت من عزاه إلى السعدي والراوي عن الإمام أحمد؛ فقال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حسان بن زاهر، أن ابن حدير حدثه، عن عمر، قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة) (¬1). ورواية عدم القطع في عام السنة وردت في مصنف عبد الرزاق، وفي مصنف ابن أبي شيبة، وفي جامع الجوزجاني، من طرق فيها انقطاع وفيها من يحتاج إلى توثيق؛ لأنه لا يكاد يعرف، والدكتور علي جمعة ممن يردون أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في قمة الصحة؛ لأنها تخالف في زعمه القرآن أو العقل .. فما باله يقبل مثل هذا الإسناد المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويريد أن يفهمه بطريقة تهدم جانبًا عظيمًا من جوانب الشريعة المطهرة؟!. ثم ما علاقة حد السرقة وعام الرمادة بحد الزنا والقتل والحرابة والقذف!!! ألحقت الشبهة مرتكبي هذه الجرائم كذلك؟! ثم هل أي غلاء يسمى مجاعة وعام الرمادة؟! إن معظم اللصوص اليوم لا يدخلون تحت مفهوم شبهة المجاعة لا من قريب ولا من بعيد، وأكثرهم يسرق استكثارًا أو لتلبية أغراضه الخاصة، أو للإنفاق على نزواته الشخصية. لقد كان عام الرمادة عام مجاعة لا كأية مجاعة، حيث إن الجوع كان قبل عام الرمادة ¬

(¬1) كتاب البدر المنير، ج8 ص679.

يصيب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا يربطون الحجر على بطونهم، أما في عام الرمادة فقد هلك كثير من الناس، بل وهلكت كثير من الماشية والأنعام؛ فأين نحن من هذا؟ * ثم تابع د. علي جمعة قائلا: "والإمام جعفر الصادق والكرخي من الحنفية وغيرهما أسقطوا حرمة النظر إلى النساء العاريات في بلاد ما وراء النهر؛ لإطباقهن على عدم الحجاب، حتى صار غض البصر متعذرًا إن لم يكن مستحيلاً". وهذا كذلك كذب في كذب، فكيف يسقطون حرمة النظر للنساء العاريات في تلك البلاد!! ومن أين أتى بهذا النقل عن الإمام جعفر الصادق؟ أمن كتب السنة أم من أكاذيب الروافض؟ وأين هو النقل عن الكرخي؟. إن سبري لأغوار كتابات د. علي جمعة يجعلني مطمئنًا إلى أن هذا الكلام فيه افتراء عليهم، وتحريف للنصوص. لقد فتح المسلمون كثيرًا من بلاد الكفر، وظل كثير من أهلها في مصر والشام والعراق والمغرب على الكفر، ولم تظهر في هذه البلاد مشكلة النساء التي يدعي أنها ظهرت في بلاد ما وراء النهر. وستأتي إن شاء الله مناقشة فتواه في جواز نظر الرجل الصالح في بلادنا للنساء المتبرجات!!! * ثم قال د. علي جمعة: "ونص الإمام الجويني في كتابه الغياثي على أحوال عصر الجهالة، وفصل الأمر تفصيلاً عند فقد المجتهد، ثم العالم الشرعي، ثم المصادر الشرعية .. فماذا يفعل الناس؟ ". نعم تكلم الجويني عن ذلك، ولكنه لم يقل بتعطيل الشريعة، ولم يقل بالحكم بأحكام الطواغيت؛ بل الجويني يؤكد على التزام كل ما علم من أحكام الشريعة، بلا تفريط في

أية جزئية منها، حتى لو ظن متفيقه أن المصلحة في غير الشريعة، يقول الجويني: (لا يخفى على من شدا طرفًا من التحقيق أن مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة، وقواعدها معدودة محدودة، فإن مرجعها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والآي المشتملة على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة، والأخبار المتعلقة بالتكاليف في الشريعة متناهية، ونحن نعلم أنه لم يفوض إلى ذوي الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون، فكم من أمر تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الإيالة والسياسة، والشرع وارد بتحريمه، فلسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب، ثم نعلم مع ذلك أنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى على المتعبدين) (¬1). فأين هذا الكلام من ذاك التشويش؟! ثم هل نحن الآن في عصر خلا من المجتهد، ثم العالم الشرعي، ثم المصادر الشرعية؟!! لو كان د. علي جمعة يرى ذلك فليرحنا من أطروحاته، فقد اعترف بأنه ليس عالما شرعيًا ولا توجد لديه مصادر شرعية، وإن لم يكن الأمر كذلك فلماذا ذكر هذا الكلام؟؟!. * ثم قال د. علي جمعة: "ويتصل بهذا ما أسماه الأصوليون في كتبهم كالرازي في المحصول بالنسخ العقلي، وهو أثر ذهاب المحل في الحكم، وهو تعبير أدق؛ لأن العقل لا ينسخ الأحكام المستقرة وذلك بإجماع الأمة، ولكن الحكم لا يطبق إذا ذهب محله؛ فالأمر بالوضوء جعل غسل اليد إلى المرفقين من أركانه، فإذا قطعت اليد تعذر التطبيق أو استحال، وكذلك الأحكام المترتبة على وجود الرقيق، والأحكام المترتبة على وجود الخلافة ¬

(¬1) كتاب غياث الأمم، ص269 - 270، ط دار الدعوة- الإسكندرية، الطبعة الثالثة.

الكبرى، والأحكام المترتبة على وجود النقدين بمفهومهما الشرعية من ذهب أو فضة وغير ذلك كثير". وهو يقول في نفس المعنى ولكن في كتاب آخر: "الخطاب الموجه إلى خليفة المسلمين بعد انهيار الخلافة قد فقد محله؛ حيث لا خليفة بالمعنى المعروف عند المسلمين" (¬1) ويقول: "انهارت الخلافة الإسلامية في صورة انهيار الخلافة في الدولة العثمانية في 6 مارس سنة 1924م على يد كمال أتاتورك، ولم يعد للمسلمين خليفة، مع فشل كل الأنظمة المقترحة البديلة في القيام بمهام وظيفة الخلافة" (¬2) ثم قال: "ومثال العام الذي قد حدث، حال المسلم المار أو المقيم ببلاد القطب الشمالي حيث لا تغيب الشمس، أو تختل علامات الأوقات، فلا يوجد وقت لصلاة معينة، فيكون قد فقد المفعول فيه، أو فقد الأمة للخليفة المأمورة بطاعته والجهاد تحت رايته" (¬3). ويقول: "إن تعذر إيقاع الحكم في الخارج لذهاب محله يشتبه عند بعضهم بتعذر إقامة الشريعة لظروف طارئة تكتنف المسلمين في بعض البلاد، والفرق بينهما واضح، فذهاب المحل يحيل عقلاً إيقاع الحكم، في حين أن تعطيل إقامة الشريعة لعدم تمكن فعلها يرجع إلى العادة لا إلى العقل، حيث يمكن تطبيقها حينئذ مع شدة أو حرج أو حتى بطريقة يترتب معها الهلاك، وهذا مختلف تمامًا عما نحن فيه. ومن الممكن ارتكابًا لأخف الضررين، أو لفقد الشروط، أو قيام الموانع، أو العمل على ¬

(¬1) كتاب الحكم الشرعي، ص 150. (¬2) نفس المصدر. (¬3) نفس المصدر.

تحقيق مقاصد الشريعة العليا، الوقوع مؤقتًا تحت مسألة تعطيل الشريعة من باب إيقاف العمل بالحكم" (¬1) إن د. علي جمعة يسير في حلقة مفرغة؛ فإذا تكلم العلماء الثقات عن أن كثيرًا من الحكام المعاصرين ليسوا ولاة أمر شرعيين؛ لأنهم لم يقوموا على سياسة الدنيا بالدين، وجدنا د. علي جمعة يقول بوجوب طاعة الحكام المعاصرين؛ لأنهم ولاة الأمر، ولأن الولاية منعقدة لهم، وآثارها مترتبة على حكمهم، وكتب مقالة يعيب فيها من يمدحون مجرد مدح من يخالفون القوانين (¬2)، ثم إذا قلنا بوجوب الرجوع لأحكام الشريعة واتخاذها منهاجًا للحياة لتصح إماراتهم، أتى بدعوى عجيبة مفادها أن هؤلاء لا يجب عليهم ما يجب على الخلفاء المسلمين؛ لأن الخلافة سقطت منذ أمد، وكأن خطاب الشرع موجه لفئة محددة فقط، وكأن الدول الإسلامية التي انشقت عن دول الخلافة بدءًا من الدول والدويلات الكثيرة التي انشقت عن الخلافة العباسية لم تكن تحكم بالشرع وإنما كانت تحكم بعادات قريش وأهوائها!!! ولا أدري هل كلامه يعني عدم وجوب الجهاد لعدم وجود الخليفة كما هو صريح كلامه؟ إن هذا الكلام تقر به أعين الزنادقة والملحدين والحكام الظالمين؛ لأنه يصحح حكمهم ويخلي عنهم المسئولية التي تناط بهم من إقامة الدين والجهاد في سبيله وإقامة الحدود ووو. ونص كلامه واضح في أن الهدف هو الوقوع تحت تعطيل الشريعة تحت أية دعوى؛ سواء كانت هذه الدعوى ذهاب المحل ويعني بذلك فقد الخليفة، أم كانت هذه الدعوى ارتكاب أخف الضررين أو فقد الشروط أو قيام الموانع أو تحقيق مقاصد الشريعة ... أو ¬

(¬1) كتاب الحكم الشرعي، ص 154. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مدح مخالفة القانون، بتاريخ 12 - 11 - 2007م ..

أية ذريعة، المهم هو تعطيل الشريعة؟! وحسبنا الله ونعم الوكيل. * ثم قال د. علي جمعة: "من أجل الوصول إلى تنفيذ حكم الشرع، ومراد الله سبحانه منه، والوصول إلى طاعة الله ورسوله، يجب علينا أن ندرك الواقع، ورد في شعب الإيمان من موعظة آل داود عليه السلام عن وهب بن منبه يقول: وعلى العاقل أن يكون عالمًا بزمانه ممسكًا لسانه مقبلاً على شأنه". وهذا كذلك يراد منه التلبيس والتدليس، فكلمة إدراك الواقع كلمة عامة، ومن مصلحة المتكلم بها أن تكون عامة فضفاضة تحتمل أي معنى؛ لأن التفصيل يكشف حقيقة الأقوال ويسبر أحوالها، فماذا يريد بإدراك الواقع؟؟ ومعلوم أن الإسلام أتى للوقائع المتجددة عبر الزمان والمكان، وأن الله جل وعلا تكفل بحفظ دينه وتكفل ببعث المجددين والأئمة المهديين، لا كما يقول الزنادقة: إن الإسلام شريعة كانت صالحة لزمانها لكنها لا تتلاءم مع الواقع المعاصر، وإن على المسلمين أن يواروا الشريعة في هذا العصر، وأن يفسحوا المجال للحضارة الأوربية بمناهجها المختلفة إدراكًا للواقع!! * ثم قال د. علي جمعة: "ومن هنا فإن الفقهاء نصوا على أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت مبنية على العرف (نص المادة 90 من مجلة الأحكام العدلية)، وأجاز المذهب الحنفي في جانب المعاملات العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين، فتغيرت الأحكام بتغير المكان، وقاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، المأخوذة من قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) تجعل الشأن يتغير بتغير الأحوال، وكذلك تتغير هذه ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية 145.

الأحكام بتغير الأشخاص، فأحكام الشخص الطبيعي الذي له نفس ناطقة تختلف عن الشخص الاعتباري حيث لا نفس له ناطقة، وهذه الجهات الأربع وهي: الزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال، هي التي نص عليها القرافي كجهات للتغير يجب مراعاتها عند إيقاع الأحكام على الواقع". هل أصول أحكام الشريعة وأوامره ونواهيه، المتعلقة بالحكم الإسلامي مبنية على العرف؟!!! وهل تمت تنحية الشريعة من أجل تغير العرف؟ وهل الضرورة مهرب تعلق عليه كل المظالم؟!! وهل الضرورة هي محاربة الإسلام وشرعته استمساكًا بمقاليد الحكم، والتضحية بكل القيم الشريفة، والمعاني النبيلة، من أجل الحكم؟!! وإذا كان الفقهاء يشترطون في الإكراه شروطًا عديدة، وينصون على حرمة قتل المسلم بدعوى الضرورة والإكراه، فكيف بمن لا يبالي بالإسلام والمسلمين أهو مضطر؟؟ أما مسألة أن الأحناف يجيزون العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين فهذا افتراء على الأحناف كما سيتبين عند مناقشة فتواه في هذا الأمر. وتغير الأحوال والظروف هل هو تلكؤ لطي صفحة التشريعات الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان جملة وتفصيلا. وهل الحديث والجدال الدائر بين المسلمين والعلمانيين هو عن تفاصيل الأحكام وأقوال الفقهاء والترجيحات المذهبية، أم عن مبدأ تطبيق الشريعة والتزام أحكامها؟ إن القضية هي الالتزام بشرع الله جل وعلا؛ لأنه شرع الله، لا الحكم بالطاغوت ثم أمر بعض أدعياء الفقه -والفقه منهم براء- بأن يجدوا مخارج للأحكام التي اشتهاها الحاكم، وما لم يجدوا له مخرجا فليضعوه في دائرة الضرورة أو المصلحة وما شابه ذلك،

فإن لم يجدوا مخرجا وبقي عدد من الأحكام الطاغوتية، فليقولوا: هو خطأ بشري خرج من القائد الهمام، عظيم المقام، الذي سار بالأمة سلما وحربا، وأقام نهضتها برا وبحر وجوا، وحكَّم الشريعة بنسبة تسعين في المائة، وعلى الأمة أن تعرف له قدره وتتجاوز له عن هفوته وخطئه!!! * ثم قال د. علي جمعة: "ومعلوم أن عصرنا لم يعد أمسه يعاش في يومنا، ولا يومنا يعاش في غدنا، وسبب ذلك أمور، منها كم الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة، التي جعلت البشر يعيشون وكأنهم في قرية واحدة، ومنها زيادة عدد البشر زيادة مطردة لا تنقص أبدًا منذ 1830 ميلادية وإلى يومنا هذا، ومنها كم العلوم التي نشأت لإدراك واقع الإنسان في نفسه أو باعتباره جزءًا من الاجتماع البشري، أو باعتباره قائمًا في وسط هذه الحالة التي ذكرناها، وسمات العصر هذه ونحوها غيرت كثيرًا من المفاهيم، كمفهوم العقد، والضمان، والتسليم، والعقوبة، ومفهوم المنفعة، ومفهوم السياسة الشرعية؛ فلا بد من إدراك ذلك كله حتى لا تتفلت منا مقاصد الشريعة العليا". هذا يشبه كلام كثير من أعداء الإسلام، الذين يسخرون من الماضي، ويهولون من الحاضر، ويحاولون إيجاد الفروق بين الماضي والحاضر؛ ليصلوا لنتيجة مفادها أن أحكام الشريعة تخالف مقاصد الشريعة، وأنهم يطبقون مقاصد الشريعة بترك الإسلام وراءهم ظهريا!!! وهل القضية التي مايزت بين المسلمين والمنافقين، هي إدراك الواقع، أم هي رغبة المنافقين في الانفصال عن الشريعة؟ * ثم حاول د. علي جمعة استعراض بعض نظم الحكم المعاصرة، كنظام الحكم في

السعودية والسودان وإيران؛ ليصل منها إلى أنه لا يوجد تطبيق حقيقي للحدود في غالب دول العالم الإسلامي. ونحن نردد قول الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (¬1). ومتى كانت كثرة الباطل مبررًا للعمل بالباطل؟ ومتى كانت جرائم البشر حجة على الشريعة وناقضًا لها؟! * ثم قال د. علي جمعة: "كما أن الشهود المعتبرين شرعًا لإثبات الجرائم التي تستلزم الحد قد فُقدوا من زمن بعيد؛ فيورد التنوخي في كتابه نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة في معنى غياب العدول من الشهود فيقول: حدثني أبو الحسين محمد بن عبيد الله المعروف بابن نصرويه، قال قبل التيمي القاضي كان قديمًا عندنا بالبصرة ستة وثلاثين ألف شاهد في مدة ولايته. ويقول في موضع آخر: سمعت قاضي القضاة أبا السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى يقول: الشاهد إذا لم تكن فيه ثلاث خلال .. إلى أن قال: ثم قال: ما ظنكم ببلد فيه عشرات ألوف ناس، ليس فيهم إلا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المصر كلهم يريدون الحيلة على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقظ والذكاء والتحرز والفهم". وهو بهذا الكلام يخبط خبط عشواء، وينقل أي شيء؛ لعل أحدًا يظن بكلامه خيرًا. إن دعواه فقد الشهود المعتبرين شرعًا لإثبات الجرائم التي تستلزم الحد من زمن بعيد، ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية 116.

هو ضلال مبين، وهو يريد أن يقول بعدم وجود مسلم عدل، وأن صفة العدالة فقدت من أمة الإسلام!! ولعل هذا يفسر ما يقترفه في كتاباته من تلفيق وأباطيل. أما ما نقله من كتاب نشوار المحاضرة، فما مضمون كتاب نشوار المحاضرة؟؟!! إنه كتاب من كتب الأدب، يحكي فيه مؤلفه ما سمعه من غرائب وعجائب وملح ونوادر، بهدف التسلية والترف العقلي والفكري، فمثلاً يحكي مؤلف نشوار المحاضرة عن طريف حيل اللصوص أن أحد اللصوص: (كان يدخل الدار الآهلة نهارًا، ويعتمد التي فيها النساء، ورجالهم خارجون، فإن تمت له الحيلة، وأخذ منها شيئًا انصرف، وإن فُطن له، وجاء صاحب الدار، أوهمه أنه صديق زوجته، وأنه بعض من غلمان القواد، ويقول له: استر علي هذا عند صاحبي، وعلى نفسك، ويتزيا بالأقبية، يوهم الرجل أنه لا يمكنه رفعه إلى السلطان في الزنا، إن اختار فضيحة نفسه، وكلما ادعى عليه اللصوصية، صاح بهذا الحديث، فيجتمع الجيران، فيشيرون على الرجل بالستر على نفسه، وكلما أنكر ذلك، قالوا: هذا محبةً بزوجته، ويُخَلِّصون اللص من يده، حتى ربما أجبروه على صرفه، وكلما جحدت المرأة، وحلفت، وبكت، وأقسمت أنه لص، كان ذلك أدعى لهم إلى تخليته، فيتخلص، ويعود الرجل، ويطلق زوجته، ويفارق أم ولده، فأخرب غير منزل، وأفقر آخرين بهذا، إلى أن دخل دارًا فيها عجوز، لها أكثر من تسعين سنة، ولم يعلم، وأدركه رب البيت، فأخذ يوهمه ذلك، فقال: يا كشخان ليس في الدار إلا أمي، ولها تسعون سنة، وهي منذ أكثر من خمسين سنة قائمة الليل صائمة النهار طول الدهر، أفتراها هي عشقتك، أم أنت عشقتها؟ وضرب فكيه، واجتمع الجيران، فقال اللص ذلك، فكذبوه، لما يعرفون به المرأة من الدين والصلاح، فضرب، وأقر الصورة، فحمل إلى السلطان) (¬1). هذا هو كتاب نشوار المحاضرة الذي يستدل بحكاياته د. علي جمعة ليدعي ادعاءاته الـ ... ¬

(¬1) كتاب نشوار المحاضرة، ج1، ص105 - 106، ط دار الكتب العلمية- بيروت.

وقد اقتص د. علي جمعة من هذا الكتاب جزءًا من الحكايتين اللتين ذكرهما حتى لا نرى النوادر والغرائب التي بهما، والحكاية الأولى كما وردت في نشوار المحاضرة هي: (حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الله المعروف بابن نصرويه، قال: قبل التيمي القاضي كان قديمًا عندنا بالبصرة ستة وثلاثين ألف شاهد، قي مدة ولايته، فقلت له: هذا عظيم، فكيف كان ذلك؟ فقال لي: كان القضاة على مذهب أبي حنيفة وغيره من الفقهاء، في أن الناس كلهم عدول، على الشرائط التي تعرفها، وكان يشهد الناس عند التيمي بأسرهم، فإذا سمع شهاداتهم، سأل عنهم، فيزكون، فيقبلهم، وكان الناس يشهد بعضهم لبعض، من الجيران، وأهل السوق، ولا نعرف ترتيب قوم مخصوصين للشهادة، إلى أن ولي إسماعيل، قال: وكان مبلغ من قبله التيمي ستة وثلاثون ألف شاهد، منهم عشرون ألفاً لم يشهدوا عنده إلا شهادة واحدة) (¬1) والخبر الثاني الذي اقتطع بعضه ووضع نقاطًا في الموطن الذي يدل على التندر هو قول التنوخي: (سمعت قاضي القضاة أبا السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى يقول: الشاهد إذا لم تكن فيه ثلاث خلال من خلال أهل النار صار هو من أهل النار، فقلت له: ما هي؟ فقال: قلة الحياء؛ لأن الشاهد إذا كان مستحيًا أجاب إلى كل محال يسأله، فيذهب دينه، ويصير من أهل النار، والحياء في الأصل من الإيمان، وأهل الإيمان في الجنة، كما روي في الخبر، فقلة الحياء من خصال أهل النار، فهذه واحدة. والثانية: أنه يحتاج أن يكون فيه سوء الظن؛ لأنه متى أحسن ظنه تمت عليه الحيلة والتزويرات، فيشهد بالمحال، فيدخل النار، وإذا كان سيئ الظن سلب، وسوء الظن في الأصل إثم، كما قال الله تعالى، والإثم من خصال أهل النار. وذكر الأخرى وقد أنسيتها أنا. ثم قال: ما ظنكم ببلد فيه عشرات ألوف الناس، ليس فيهم ¬

(¬1) كتاب نشوار المحاضرة، ج1، ص177.

شهود إلا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المصر كلهم يريدون الحيلة على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقظ والذكاء والتحرز والفهم) (¬1).أرأيتم كيف يدافع عن الحكم بالطاغوت بهذه النوادر!!! لو كان هذا الكلام يروى على أنه حديث نبوي لحكم علماء الحديث عليه بالضعف، ولكن د. علي جمعة يستدل به، وعلى ماذا يستدل؟ إنه يستدل على خلو الأرض من رجل عدل!! ثم هل قلة الشهود العدول تعني التحاكم إلى الطاغوت؟ وأين طرق الإثبات والبينات التي زخر بها تراثنا الإسلامي؟ وهل قلة الشهود تحول الزنا من أمر منكر إلى حرية شخصية لا عقاب فيها، شريطة ألا يكون مع الأطفال، وأن يكون برضا الطرفين في مسكن غير مسكن الزوجية، وألا يتخذ مهنة، كما ينص على ذلك القانون الطاغوتي؟!!!. * ثم قال د. علي جمعة: "والتفتيش للوصول إلى الحقيقة التي تؤدي إلى إقامة الحد ليس من منهاج الشريعة، فإن ماعزًا أتى يقر على نفسه، فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه أربع مرات، ثم أحاله على أهله لعلهم يشهدون بقلة عقله أو جنونه، ثم أوجد له المخارج، ولما جزع وفر أثناء إقامة الحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: (هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) (¬2)، وأخذ العلماء من هذا جواز الرجوع عن الإقرار ما دام في حق من حقوق الله، وليس بشأن حق من حقوق البشر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن الطرف الآخر للجريمة وهي المرأة التي زنا بها، ولم يفتش عنها، حتى كنوع من ¬

(¬1) كتاب نشوار المحاضرة، ج1، ص421. (¬2) رواه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك.

أعمال استكمال التحقيق. وروي عن أبي بكر وعمر وأبي الدرداء وأبي هريرة أن السارق كان يؤتى به إليهم فيقولون له: (أسرقت؟ .. قل: لا) ". إن د. علي جمعة يتكلم في شروط إقامة الحدود ليطعن في إقامة الحدود، مع أن العلماء الذين ذكروا هذه الأمور هم هم الذين يتكلمون عن وجوب تطبيق الحدود على من توفرت فيه الشروط، فهم حريصون على أن تطبق الحدود على الوجه الأكمل بلا أدنى شائبة، وشتان بين هذه النية وتلك!! شتان بين من يريد أن يقيم شرع الله وحدوده على الوجه الأكمل، وبين من يريد التهجم على من يدعو لإقامة الحدود ويصول ويجول في ذكر الشبهات دون أن ينبس ببنت شفة في الدعوة إلى تصحيح القوانين القائمة. * ثم قال د. علي جمعة: "فالنص على الحدود كما ذكرنا يفيد أساسًا تعظيم الإثم الذي جعل الحد بإزائه، وأنه من الكبائر والقبائح التي تستوجب هذا العقاب العظيم، ويؤدي ذلك إلى ردع الناس عن هذه الجرائم، على حد قوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (¬1)، ويكمل الحد في هذا الشأن الضبط الاجتماعي الذي يتولد من الثقافة السائدة لدى الكافة باستعظام هذه الآثام، ونبذ من اشتهر بها أو أعلنها أو تفاخر بفعلها، كما أن الشرع فتح باب التوبة، وأمر بالستر في نصوص عديدة من الكتاب السنة". الحدود الشرعية فرضها الله ليلتزم المسلمون إقامتها، وأما الحِكم المترتبة على ذلك فلا يحصيها إلا الله جل وعلا، ومَن فتح باب التوبة وأمر بالستر هو سبحانه الذي شرع كذلك إقامة الحدود، فعلى المسلم أن يقول: سمعنا وأطعنا. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية 16.

ب- كلامه عن تطبيق الشريعة في مقالات التجربة المصرية

ب- كلامه عن تطبيق الشريعة في مقالات التجربة المصرية بجريدة الأهرام كتب د. علي جمعة أربع مقالات في جريدة الأهرام الذائعة الصيت، عنون لها بالتجربة المصرية (¬1)، وتحدث فيها عما سماه بالنموذج المصري لبناء الدولة الحديثة، هذا النموذج الذي بدأه بعصر محمد علي، وحتى الآن. وفي هذه المقالات حاول د. علي جمعة إفهام القارئ أن القوانين المصرية صاغها قوم مخلصون، جعلوا الشريعة الإسلامية نصب أعينهم، وأنها اجتهاد لفقهاء رأوا أن الشريعة تبيح هذه القوانين، من باب الحالات الاستثنائية وفقه الضرورة، وكأن التاريخ يمكن أن يُمحى بجرة قلم، وكأن الحرب الضروس التي شنها المنافقون ولا يزالون يشنونها على أمة الإسلام في مصر يمكن أن تنسى بهذه السهولة. * يقول د. علي جمعة: "في عصر إسماعيل باشا أراد أن يكمل ما بدأه جده محمد علي باشا في بناء الدولة الحديثة، فأنشأ البرلمان، ودعا إلى الفصل بين السلطات الثلاث، وأقر نظام الانتخاب، وبنى الهياكل الأساسية الحديثة، واستمر في عمليات الاستقلال، وسعى إلى وضع نظام للتقنين المصري. ولأنه كان حريصًا على البعد عن الدولة العثمانية التي قننت الشريعة الإسلامية في صورة المجلة العدلية، الصادرة سنة 1290هـ، فقد فكر في عدة احتمالات، وكلها لا يريد أن يخرج عن الشرع الإسلامي، بل يريد أن يوجد صيغة جديدة يستطيع فيها المسلم أن يضع قدمه في نطاق العالم الحديث؛ فكر أن يترجم كود نابليون أول، وكود نابليون ثاني، وأمر ¬

(¬1) نشرت هذه المقالات في جريدة الأهرام بتاريخ 26 - 6، و3 - 7، و10 - 7، و17 - 7/ 2006.

رفاعة رافع الطهطاوي أن يفعل ذلك نقلاً عن الفرنسية إلى العربية، ولقد تم ذلك، وطبع هذا العمل في مجلدين في المطبعة الأميرية في أواخر القرن التاسع عشر، لكنه لم يطبق كقانون في مصر. وكان حريصًا على إيجاد علاقة بين القانون الفرنسي المأخوذ أساسًا من تشريعات لويس، والتي قيل: إنها تأثرت بالفقه المالكي عبر الأندلس، فأمر الشيخ مخلوف المنياوي مفتي الصعيد أن يراجع ما ترجمه رفاعة -رحم الله الجميع- فكتب تقريرًا واسعًا استفاض فيه حتى صار كتابًا طبع الآن في مجلدين بمصر، تحت عنوان (المقارنات التشريعية) قارن فيه بين القانون الفرنسي، وما يعرفه من الشريعة الإسلامية، ووجد مقاربة بينه وبين الفقه المالكي على وجه الخصوص، ووجد مخالفات قليلة، إلا أن هذا العمل لم يلتفت إليه، وظل حبيسًا بدار الكتب المصرية إلى أن نشره الأستاذ الدكتور محمد سراج عبد الهادي، وشاركه على استحياء كاتب هذا المقال. وهذا العمل يدل على حرص القيادة السياسية حينئذ على عدم الانسلاخ عن الشريعة بالكلية، ولكنها تريد أن تعيش العصر، وأن تجعل بلادها تجد لنفسها موطن قدم في العالم". هل يمكن لأحد أن يصدق بهذه البساطة أن القانون الفرنسي مقارب للفقه المالكي، وأنه لا يخالفه إلا قليلاً!!! ومع اعتراف د. علي جمعة أن هذا الترقيع المسمى مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الفرنسي لم تلتفت الحكومة إليه، فإنه يدل عند د. علي جمعة على حرص القيادة السياسية حينئذ على عدم الانسلاخ عن الشريعة بالكلية!!! ولا أدري هل هناك انسلاخ من الشريعة بالكلية وانسلاخ نصف ونصف!!!

وليتضح الأمر في قصص د. علي جمعة ننقل بعض ما رواه الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار التي كانت تصدر في أوائل القرن الماضي، وهو رجل حديث عهد فيما يرويه بعهد الخديوي إسماعيل، فيروي الشيخ محمد رشيد رضا عن أحد كبار القضاة الشرعيين قوله: (كان من غرض إسماعيل باشا إرضاء أوربا بتقليدها في كل شيء، حتى في إبطال بعض الأحكام الشرعية الإسلامية؛ كإباحة تعدد الزوجات المنتقدة عندهم، وتحويل الشريعة إلى قوانينهم، وأنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، ولهذا لم يكن للعلماء إجابة طلبه) ثم يعلق رشيد رضا على رواية هذا القاضي الشرعي بقوله: (ولا بُعد في هذه الأقوال عند العارفين بحال هؤلاء الأمراء، وبُعدهم عن الدين، وكأن ذلك الأمير المستبد الجاهل كان يرى أن قانون الكرباج الذي وضعه محمد علي وأفسد به بأس الأمة، ونزع منها هو ومن بعده روح الشهامة والشجاعة، أفضل من الشرع الإلهي الذي ارتقى بالأمة العربية إلى السيادة على جميع الأمم) (¬1). ويحكي الشيخ محمد رشيد رضا حال مصر في عهد الخديوي إسماعيل بقوله: (لما هاجر السيد جمال الدين حكيم الشرق وموقظه إلى هذه البلاد رأى من استبداد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ما يزيد على ما كان في أوربا من الاستبداد، ورأى أن الجمعية الماسونية تجر هذه البلاد إلى أوربا بخيوط سياسية خفية؛ ولكنها متينة قوية، فهي كالخيوط التي يربط بها المشعوذ التماثيل التي يلعب بها وراء الستار فيحسب الصبيان أنها هي التي تلعب بنفسها، وكذلك كانت مصر ألعوبة في أيدي الأوربيين) (¬2) ويقول كذلك: (بدء هذا الفساد الديني الأخلاقي في عهد إسماعيل باشا أي قبل الاحتلال البريطاني، فكان ممهدًا لكل ما فعله رجاله من مقاومة التعليم الديني على ضعفه في مدارس الحكومة، ومن حرية ¬

(¬1) مجلة المنار، عدد 16 ربيع الآخر، سنة 1322هـ. (¬2) مجلة المنار، عدد 1 ربيع الأول، سنة 1321هـ.

الفسق والفجور، وقد صار الألوف من رجال الحكومة ملاحدة معطلِين أو فاسقين؛ لا يصلون، ولا يصومون، ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله من السُّكر والزنا والقمار، بل منهم من يهزءون بمن يرونه يصلي ويصوم، ويعدونه متأخرًا أو رجعيًّا!!) (¬1). أبعد هذا يمكن تصديق أن القيادة السياسية حينئذ كانت حريصة على عدم الانسلاخ عن الشريعة!! * ثم أكمل د. علي جمعة قصصه فقال: "ولما سمع محمد قدري باشا الذي تولى وزارة الحقانية (العدل) عن نية الخديوي إسماعيل هذه، وعن رغبته الشديدة في الاستقلال عن الدولة العثمانية بمجلتها العدلية، سارع فوضع تقنينًا على مذهب الحنفية يوازي المجلة العدلية، ويستفيد منها، وإن كان مختلفًا بعض الشيء عنها، وظهر هذا في كتابه الكبير (الأحوال الشخصية) في أربع مجلدات، وفي كتابه (دليل الحيران في معرفة أحوال الإنسان) وفي كتابه (العدل والإنصاف في أحكام الأوقاف) والتي لم ينفذ منها شيء أيضًا، ولكنها دالة في نفسها على مراد القيادة من عدم الانسلاخ عن الشريعة الغراء". محمد قدري سمع عن نية الخديوي إسماعيل فسارع بصفته الشخصية بوضع تقنين على مذهب الحنفية، ولم ينفذ من تقنينه شيء كما يحكي د. علي جمعة، ولكن د. علي جمعة يصر على أن مراد القيادة عدم الانسلاخ عن الشريعة الغراء!!!. * ويقول د. علي جمعة: "وبالرغم مما نقول من هذه الإرادة التي نشير إليها في توصيفنا للتجربة المصرية، إلا أنه واكبتها دعوة مستمرة لتمصير ¬

(¬1) مجلة المنار، عدد شعبان، سنة 1348هـ.

القوانين، وكلمة (تمصير القوانين) كلمة اتسقت مع ليبرالية الدولة وديمقراطيتها، وفي نفس الوقت هي تشير إلى ما تم بعد ذلك فعلاً على مستوى الدستور والقانون والنظام القضائي. وبدأت حركة التمصير مع عبد الرزاق السنهوري باشا، الذي وضع القانون المدني المصري، ومع صبري أبو علم الذي وضع القانون الجنائي المصري، وهي المجموعات التي انتهوا منها وصدرت وعمل بها من سنة 1949م وحتى يومنا هذا، بغض النظر على التعديلات الجزئية. أما السنهوري باشا فقد شرح القانون المدني في كتاب ماتع مطول أسماه (الوسيط) صدر في عشرة أجزاء، بين فيه مأخذ كل مادة من الشريعة الإسلامية، أو في صياغتها، أو في موضوعها، من ستة عشر تشريعًا مختلفًا، من التشريع الهندي، والبلجيكي، والإيطالي، والفرنسي ... إلى آخر ذلك. وهو ما يدل دلالة واضحة، بل أكاد أن أقول دلالة قطعية، على ذلك التوجه الذي أراده هؤلاء الآباء من عدم الانسلاخ من الشريعة، ومن وضع أقدامنا في موطن قدم في الخريطة العالمية". وهذا كلام لا يحتاج إلى تعليق؛ لأنه يدعي أن القانون الجنائي والقانون المدني يدلان على عدم الانسلاخ من الشريعة، ولعله يقصد عدم الانسلاخ عن شريعة الأمم المتحدة أو شريعة فرنسا وبلجيكا!!! * ثم يقول د. علي جمعة: "يقول السنهوري باشا في مقاله القانون المدني العربي، مجلة القضاء (نقابة المحامين في العراق) العددان 1، 2 سبتمبر، عام 1962: (يمكن القول في طمأنينة: أن القانون المصري الجديد (المدني) يمثل الثقافة المدنية

الغربية أصدق تمثيل، يمثلها في أحدث صورة من صورها) ويقول في موضع آخر: (استخلاص ما وصلت إليه الثقافة المدنية الغربية في آخر تطوراتها، وهذا ما تحقق بالقانون المدني المصري) ". وها هو د. علي جمعة ينقل عن واضع القانون أن القانون يمثل الثقافة المدنية الغربية أصدق تمثيل، ولكن هل يمثل الشريعة الإسلامية أقل تمثيل؟!! * وتتواصل الحكاية فيقول د. علي جمعة: "وتوجه هذا لاقى معارضة شديدة من كثير من علماء الأزهر الشريف، خاصة أصحاب الدراسات القانونية في السربون، ولعل أعظمهم هو عبد الله حسين التيدي الذي ألف كتابًا تحت عنوان (المقارنات التشريعية) في أربع مجلدات، أصدرناه أيضًا من دار السلام؛ لتتم هذه المجموعة لدراسة التجربة المصرية، وهو يعارض منهج السنهوري باشا، ويرد عليه، لكن أبدًا لم يكفره، بل اعتبره متبنيًا لنموذج معرفي آخر، مع بقاء نموذجنا المعرفي قادرًا على العطاء، ومن الغريب أن لجنة مراجعة مشروع السنهوري باشا، والذي صار بعد ذلك هو القانون المدني المصري، لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين". يسمي د. علي جمعة الإيمان بالله والتحاكم لشرعه نموذج معرفي، ويسمي الإيمان بالطاغوت والتحاكم إليه نموذج معرفي آخر!!! ثم يستغرب د. علي جمعة من عدم وجود أحد من علماء الأزهر المعترضين وهم كثير كما يصفهم، في لجنة مراجعة مشروع السنهوري!! ولا غرابة إلا في استغرابه!! * وفي محاولة للتمرير يجعل د. علي جمعة وجود أحد الشيوخ الأزهريين دليلاً على الأسلمة فيقول: "ولقد وضع المصريون دستور سنة 1923م، ولقد وضع بلجنة اشترك فيها

علامة زمانه الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية، بعد أن ترك منصب الإفتاء في سنة 1920م، والشيخ محمد بخيت المطيعي علم من أعلام القرن العشرين في علمه واتساع أفقه واجتهاداته التي ملأت الآفاق، ويصف كثير من المحللين دستور 1923 بأنه أشد ليبرالية مما تلاه من الدساتير". الشيخ المطيعي كان عضوًا من اثنين وثلاثين عضوًا وضعوا الدستور؛ الذين عرفوا بغيرتهم الإسلامية منهم اثنان فقط، والباقي فيهم خمسة نصارى، ويهودي، وطائفة كبيرة من أدعياء الفكر والثقافة الذين ابتليت بهم الأمة، وقد نص هذا الدستور على أن الإسلام دين الدولة، والمعنى الحقيقي لهذه المادة هو أن الإسلام حاكم على كل مواد الدستور وقوانينه، وهذا يفسر اشتراك الشيخ في وضع الدستور، لكن العلمانيين يجعلون هذه المادة أداة للتشويش على الأمة؛ ليتناسق هذا مع نطقهم الشهادتين وإعلانهم الانتماء لدين الإسلام ثم ارتكابهم نواقض الإسلام بلا مبالاة لمقتضيات دخولهم في الإسلام، فدستور 23 الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة ينص كذلك على أن حرية الاعتقاد مطلقة، ويعني العلمانيون بهذا أن من أحب أن يعبد آلهة الفراعنة أو الفراعنة أنفسهم فليعبد، وينص كذلك على أن جميع السلطات مصدرها الأمة، ومعنى ذلك عند العلمانيين أن أهواء الأمة فوق أوامر الشرع، وكان من نتيجة هذا الدستور أن نتجت عنه وقتها قوانين تناقض الإسلام جملة وتفصيلاً، مثل قانون البغاء الذي كان يعطي للبغايا تصريحًا رسميًا بممارسة مهنة البغاء واتخاذها مصدرًا من مصادر الرزق!! فمراد الشيخ قطعًا غير مراد العلمانيين، وتفسيره لنصوص الدستور غير تفسيرهم، فلا يؤاخذ الشيخ بما فسر به العلمانيون نصوص الدستور، إضافة إلى أن اشتراك رجل في لجنة لا يعني سلامة كل ما يصدر عن هذه اللجنة واتفاقه مع رأيه، فللأغلبية دورها، ولتوزيع

مهام عمل أبواب الدستور دوره، وللثقة في فلان أو علان دورها، والعبرة بالحقائق والمعاني لا الشعارات والادعاءات، ولا مكان لأن نترك الحقائق الجلية بمثل هذه الادعاءات، رغم أنها ادعاءات لا تحيط بتفاصيل الواقع الذي تحكيه. * ثم يقول د. علي جمعة: "وظلت الدساتير المصرية تأخذ في الاقتراب من الشريعة على النهج الكامل في نفسية السنهوري باشا وتلامذته، حتى الدستور الأخير الذي نص على أن مصر بلد إسلامي، وأن التشريع الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، مع بقاء ليبرالية الدولة وديمقراطيتها، واختلط على كثير من الناس أن هناك سلطة دينية في البلاد، والأمر غير ذلك، السلطة الدينية تتمثل في الأغلبية الكبيرة للمسلمين، وهم متدينون بطبعهم وتاريخهم وواقعهم، مما يحدث إشكالية فريدة أمام النظام الليبرالي والديمقراطي في العالم". لا زال الدستور والقانون بعيدًا عن الإسلام وشريعته، فالحكام العلمانيون يفسرون النصوص حسب أهوائهم، فمصر بلد إسلامي ومبادئ التشريع الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع، لا تعني عندهم الشيء الكثير؛ لأن الدستور يحتوي على كثير من التعبيرات الغامضة التي يرفعونها فوق الشريعة ويقدمونها عليها، فالمادة الأولى تنص على ديمقراطية الدولة وأن نظامها يقوم على أساس المواطنة، والتفسير الدارج للديمقراطية والمواطنة يحمل كثيرًا من الأمور التي تخالف الشريعة، وينص الدستور كذلك على أن السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، وينص كذلك على منع قيام أحزاب سياسية على أساس ديني، وينص كذلك على التسوية بين المواطنين دون اعتبار للدين، وينص على أن الدولة تكفل حرية العقيدة وحرية التعبير عن الرأي ونشره، وينص على أنه لا جريمة ولا عقوبة

إلا بناء على قانون، وأن الأحكام تصدر وتنفذ باسم الشعب، ويتولى مجلس الشعب سلطة التشريع، إلى غير ذلك من النصوص التي تخالف الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة، ولها أثر في القوانين القائمة والمستحدثة، وفي سياسات الدولة الداخلية والخارجية، ولا ينكر ذلك من له أدنى بصر بالواقع. وما ذكره من إشكالية فريدة أمام النظام الليبرالي والديمقراطي في العالم، ليس كذلك، بل هي إشكالية في أذهان النفوس المريضة التي ترى المعرضين عن شرع الله جل وعلا والمنابذين له العداء، ثم تحتفي بهم وتتلمس لهم الأعذار. ثم يقول د. علي جمعة: "وكانت فكرة السنهوري باشا هي أن كتب الشريعة ليست صالحة لصياغة جديدة حديثة معاصرة، ولم يكن ذلك اعتراضًا على الشريعة، بل هو اعتراض على أسلوب كتابتها". السنهوري وضع قوانين مضادة للشريعة؛ ثم لا يعد د. علي جمعة هذا اعتراضًا على الشريعة!! ويسميه اعتراضًا على كتب الشريعة!!! * وفي تلاعب بالمصطلحات والكلام وبتر للنصوص ينقل عن السنهوري قوله: "والذي نبغيه من دراسة الفقه الإسلامي، وفقًا لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانونًا حديثًا يصلح للعصر الذي نحن فيه ... القانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق، بل ولجميع البلاد العربية، إنما هو القانون المدني العربي الذي نشتقه من الشريعة الإسلامية بعد تطورها" وعند البحث عن تكملة النقاط التي وضعها د. علي جمعة ليقص بعض الكلام نجد قول السنهوري: (وليس القانون المصري الجديد أو القانون العراقي الجديد إلا قانونًا مناسبًا في الوقت الحاضر لمصر أو العراق) فحذفها د. علي جمعة؛ لأنها توحي بأن الشريعة الإسلامية لم تكن مناسبة للحكم

في الوقت الحاضر، مع ملاحظة أنه يتكلم عن القانون المدني ولم يخبرنا عن رأيه في تحكيم الشريعة في بقية القوانين كالقوانين الجنائية. * ويحاول د. علي جمعة أن يدافع عمن سماهم الآباء الواضعين للقانون الجنائي بما سماه عصر الشبهة، وهي كلمة يريد د. علي جمعة منها شرعنة الانسلاخ عن أحكام الإسلام ضربة لازب، وقد سبق التعليق على مثل ذلك في التعليق على ما سطره عن تطبيق الشريعة في كتابه البيان لما يشغل الأذهان. * والنتائج المذهلة التي توصل لها د. علي جمعة في مقالاته هذه عن التجربة المصرية هي: -"النموذج المصري نموذج يستحق الدراسة في ماضيه وحاضره ومستقبله، وذلك لأنه نموذج رائد، ولأنه أيضًا نموذج فريد، ولأن النماذج التي جاءت من بعده تحتاج إلى إعادة تقويم"!!!. -"أن المصريين لم يريدوا، بل ولم يفكروا، في الانسلاخ من الشريعة، وأن موقفهم من البداية كان موقفًا علميًا عمليًا يهدف إلى التطوير ومراعاة الواقع، ولا يهدف إلى الانسلاخ والخروج عن الشريعة الغراء". -"غرض هذا التجربة في الأساس لم يكن الانسلاخ من الهوية، بقدر ما كان سعيًا للمعاصرة". -"استفادت اليابان من تجربة محمد علي في القرن 19"!!!. -"الأهمية القصوى للحفاظ على المكتسبات التي اكتسبتها التجربة المصرية في دستورها وقوانينها ونظامها القضائي، وأنها مثال يحتذى فاق أمثلة كثيرة حاولت الذوبان في العصر مثل التجربة التركية، أو حاولت الحفاظ على الهوية بطريقة معينة مثل التجربة السودانية والإيرانية

والباكستانية، أو استمرت مع الموروث مثل التجربة السعودية"!!!. -"بتطبيق قواعد الليبرالية والديمقراطية وعدم التخلي عنها وصلنا إلى ذلك الدستور، ووصلنا أيضًا إلى محكمة دستورية تراقب القانون طبقًا للشريعة الإسلامية"!!!. -"مصر دولة إسلامية، ولا يعني هذا أنها دولة دينية تسيطر فيها السلطة الدينية على القرار السياسي، ولا يعني هذا أيضًا أنها دولة كافرة قد أنكرت الدين وتخلت عنه، بل إنها تجربة فريدة، استطاعت بها أن تبقي على دينها، وأن تبقي في ذات الوقت على حرية الاعتقاد المكفولة لأبنائها، واستطاعت أيضًا أن تستمر في موكب التاريخ، وألا تخرج أو تنسلخ عن هويتها، وفي ذات الوقت ألا تتخلف عن العالم الذي أصبحت بموجب الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة جزءًا لا يتجزأ منه، فتراها تشارك في المحافل الدولية، وتلتزم بالقوانين الدولية، وتنشئ علاقات دولية ضخمة لها فيها الريادة والقيادة، وهي تجربة يجب على المسلمين في العالم أن يدرسوها، وأن يستفيدوا منها بحسب ثقافاتهم وتركيبهم المجتمعي"!!!. -"النقل في بعض الأحيان أو في كثيرها من القوانين الفرنسية، إنما كان لغرض التطوير لا لغرض الانسلاخ"!!!. * إن حقيقة ما يدعو إليه د. علي جمعة في مقالاته عن التجربة المصرية، ويفتخر به، يظهر في مقالة تكشف المخبوء، وتوضح الحقيقة يقول فيها: "والتجربة المصرية التي بدأت مع محمد علي لم تجعل للمؤسسة الدينية أي تدخل في القرار السياسي أو الاقتصادي، وإن كانت لم تلغ وجودها بالمرة، كشأن كل

دول العالم، فلا زالت الكنيسة الإنجليكانية تتوج الملكة البريطانية إلى يومنا هذا، ولا زالت المؤسسة الكاثوليكية لها الغلبة الجماهيرية في فرنسا التي ينص دستورها على أنها دولة علمانية" (¬1). أي أن التجربة المصرية التي يفتخر بها د. علي جمعة وينادي باحتذاء مثالها هي باعترافه تجربة علمانية، مثلها مثل تجارب دول أوربا كبريطانيا وفرنسا التي حصرت الدين في بعض المراسم، فواحسرة على العباد. بل إنه يزعم أن هذه التجربة العلمانية محل إقرار علماء الدين وتناسب هذا العصر الذي نعيشه؛ فيقول: "ومنذ عصر محمد علي وإلى الآن لم تعد المؤسسة الدينية جزءًا من اتخاذ القرار في أي مجال كان، والمؤسسة الدينية رحبت بهذا ومارسته باعتبار أنها وهي تقر الحرية للآخرين يناسب ذلك العصر الذي نعيشه" (¬2) ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: لماذا يحبون الدين، بتاريخ 2/ 4/2007م. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أرضعوا أبناءكم.

جـ- طعون الدكتور علي جمعة المتفرقة المتعلقة بتطبيق الشريعة

جـ- طعون الدكتور علي جمعة المتفرقة المتعلقة بتطبيق الشريعة من الملاحظ أن قضية تطبيق الشريعة والتحاكم لشرع الله جل وعلا نالها كثير من التشويه في نتاج د. علي جمعة، وهذه بعض الأمثلة المتفرقة من هذا التشويه: * يقول د. علي جمعة: "وقد أذن لنا الله أن نتعايش مع أهل الكتاب، وأن نحكم بينهم بما أراده الله لهم في شرعتهم" (¬1)، ويقول: "نقبل التعددية في المجتمع تحت كلمة الله، ومن خلالها نقبل أن يطبق كل منهم شرعته ومنهاجه بحكم الله الذي في كتابهم" (¬2) .. وهذا من التلبيس؛ لأن ما أراده الله لهم هو أن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن يتحاكموا إلى شريعة الإسلام، بل إذا استمروا على كفرهم وعدم الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فلا نحكم بين من اختصموا إلينا إلا بحكم الإسلام، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬3). ثم ما معنى حكم الله الذي في كتابهم؟ إن الكتب التي بين اليهود والنصارى اليوم دخلها التحريف والتزييف، فلا يمكن أن نسمي ما ورد فيها حكم الله؛ إلا إذا ثبت في شرعنا أن هذا الحكم المعين كان في كتبهم قبل التحريف، أما غير ذلك فهذا جرأة على الله وافتراء، خاصة فيما علمنا يقينًا أنه من تحريفهم وكذبهم. ¬

(¬1) كتاب الوحي والقرآن، ص 90. (¬2) كتاب الوحي والقرآن، ص 90. (¬3) سورة المائدة، الآيتان 49 - 50.

* يقول د. علي جمعة: "لا بد على المسلم في تصرفاته وسلوكه داخل المجتمع غير المسلم أن يندرج تحت قوانينهم، وألا يخالف النظام العام السائد أو الآداب المتعارف عليها، وألا يتعمد مخالفة القوانين أو الخروج عن النظام، وإذا احتاج إلى شيء من التميز كالمسائل الخاصة بالأحوال الشخصية أو الخاصة بالحياة والممات؛ كالأكل، والشرب، والدفن، وغيرها من الأمور التي قد تتعلق بشريعته وتخالف السائد في بلاده، فقد رسم الفقهاء القدماء طريق الاتفاق مع ولي الأمر، أو ما يمكن أن نطلق عليه البرتوكول في عصرنا الحاضر، والذي يسمح له بإقامة شعائره والتمسك بخصوصيته، دون مخالفة للقوانين أو النظام السائد، ولقد جرب المسلمون كثيرًا هذا الأمر، ونجحوا في أغلب الأحيان، مما يجعلنا متفائلين بإمكان ذلك. والتمسك بالمشروعية مع التعايش مع الواقع يحتاج في بعض الأحيان إلى إبداع طرق جديدة أو أفكار وسطية، فإنه كما قالوا بين نعم ولا مراحل كثيرة، وفي تجربة عيش المسلمين في الهند في العصر الحاضر واستقلالهم بالقضاء فيما بينهم، فقد سمح لهم بالترافع إلى قضاء داخلي فيما بينهم، ما دام الطرفان يرتضيان ذلك، أما إذا اختلفا وتنازعا فلم يرض أحدهما بالترافع إلى القضاء الشرعي، وأراد أن يترافع إلى القضاء المدني، أو أنه رفض الحكم بعد صدوره من القضاء الشرعي، فإن الحكم حينئذ لا يصير ملزمًا له ويستطيع أن يترافع إلى القضاء المدني. ولقد أخبرني رئيس القضاة الشيخ مجاهد الإسلام قاسمي رحمه الله تعالى في سنة 1994 أنه لم تحدث حادثة واحدة منذ 1936 حيث طبق ذلك النظام رفض فيها أحد المتنازعين القضاء الشرعي، ومثل هذه التجربة التي يكون فيها

القضاء مواز يستمد قوته وإلزامه من الجماعة، مع اندراجه تحت سلطان الدولة ومشروعيتها، أمر جدير بالبحث والتأمل، وإمكانية تكراره" (¬1). وهذا كلام عجيب، فالمسلم يلتزم شرع الله جل وعلا، أيًا كان مكانه؛ سواء اتفق ذلك مع القوانين المعمول بها في مكان إقامته أم خالفها، وليس للقوانين الطاغوتية مكانة في حياة المسلم. وما زعمه من إمكانية تطبيق الشرع مع الالتزام بالقوانين الصادرة في بلاد الكفر، يؤكد على تشرب د. علي جمعة بالمفهوم الغربي؛ لأن الشريعة ليست مجرد أحوال شخصية وبعض الأمور المتعلقة بالحياة والموت والدفن كما يزعم، بل هذا مفهوم علماني كنسي، أما الإسلام فهو نظام شامل في كل مجالات الحياة، له تصوره الخاص للطبيعة الإنسانية والاجتماع البشري. أما ما زعمه من أن جميع المنتسبين للإسلام يهرولون للتحاكم إلى القضاة الشرعيين، تاركين المحاكم التي تقيمها الدول، فهذا كلام غير واقعي؛ لأننا في البلاد العربية نجد كثيرًا من المنتسبين للإسلام يهرولون إلى المحاكم الطاغوتية، ويتقبلون حكمها المخالف للشرع، ويأبون أن يحكم بينهم العلماء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. * ونجده يُهَمش بعبارة طائشة وتسرع مقيت جل نصوص الشريعة، ويبرر التملص من أحكام الإسلام جملة واحدة؛ فيقول: "دائرة الخبر، ودائرة العمل، أما دائرة الخبر الوارد في تراثنا فإنها لا تحتاج إلى كثير من الاجتهاد، ولا يهتم بها العالم، ولا ينبني عليها عمل، ولذلك فإن الإيمان بها وتقديس مفرداتها لا يؤثر في علاقتنا مع غيرنا، ولا في تطوير حالنا مع أنفسنا، والحفاظ على دائرة ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: أسئلة الأمريكان5، بتاريخ 1/ 5/2006.

الخبر له فوائد كثيرة لعله ليس الآن وقت التعرض لها، أما دائرة العمل فقد ضربت لهم مثلاً بتولي المرأة القضاء، وتوليها منصب الرئاسة، وأمثال هذه الاجتهادات التي اجتهدناها في ما يتعلق بما يصلح عصرنا، وما يصلح له ... وأنه يجب علينا أن نبذل مزيدًا من الجهد في هذا الاتجاه الصحيح، وألا نشغل أنفسنا بدائرة الخبر حتى تشغلنا وتغبش علينا دائرة العمل" (¬1). * ونراه يحترم القانون الوضعي ورجاله فيقول: "الحقيقة أنه لا يجوز أن أعترض على حكم الحاكم أو حكم القضاء ابتداء، وإننا نوقر القضاء في عالمنا توقيرًا زائدًا، ولو أخطأ القاضي فهناك مراحل للتقاضي وإعادة النظر إذا ما جد جديد في القضية، فليترك قضية القاضي ونصحه؛ لأن القاضي لا يتتبع حكمًا وما دام قد أصدر حكمه، فإنا نظن فيه خيرًا إن شاء الله" (¬2). * بل هو يدعو لتطبيق بعض أحكام الطاغوت مع مخالفتها للشريعة؛ فمثلاً يقول: "نصوص الإجراءات الجنائية قد ألزمت قاضي التحقيق بحفظ القضية التي يثبت فيها تعرض المتهم للتعذيب أو الإكراه مع إخلاء سبيله، وعلى جميع من بيدهم الأمر العمل على هذا، حتى يستتب الأمن والاستقرار وتحترم كرامة الإنسان، كما أمرنا ديننا، وما عليه نظام مجتمعنا" (¬3). وهذا مخالف للشرع؛ لأن التعدي بالظلم على الجاني لا يرفع العقوبة عنه، بل قد يجعل الجناية من اثنين هما الجاني الأصلي فيعاقب على جنايته بما يتناسب معها، والجاني الثاني هو من قام بالتعذيب بلا وجه حق فيعاقب على اعتدائه. ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: المسلمون في بريطانيا2، بتاريخ 18 - 6 - 2007. (¬2) كتاب فتاوى عصرية2، ص252. (¬3) كتاب فتاوى عصرية2، ص395.

ثانيا: الجهاد في سبيل الله

ثانيًا: الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله من أفضل العبادات التي شرعها الله جل وعلا، ومن أعظم القربات الموصلة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1) وقال سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2) وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬3). وبشر الله المجاهدين بالبشريات العاجلة، والمنح الوافرة؛ فقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬4). وحذر الله المؤمنين من الركون إلى الدنيا وترك الجهاد في سبيله، وتوعدهم إن هم فعلوا ذلك؛ فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 74. (¬2) سورة التوبة، الآية 41. (¬3) سورة التوبة، الآية 111. (¬4) سورة التوبة، الآيتان 14 - 15.

إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). وتضمن الشرع الإسلامي من أحكام الجهاد وآدابه ما يجعله يسمو فوق أغراض البشر وأحقادهم؛ لتكون سيوف المسلمين مرفوعة باسم الله وعلى بركة الله، مؤيدة بمدد من عند الله؛ قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). وحظيت شريعة الجهاد بعناية الأمة ورعايتها، ولم يكن يجرؤ أحد على النيل من بعض تفصيلاتها، فضلاً عن أن يعترض على هذه الشريعة المطهرة. والدكتور علي جمعة يرى الواقع الذي تعيشه الأمة، هذا الواقع الذي اتحدت فيه قوى الشر في العالم، تحارب الإسلام جهارًا نهارًا، وتقتل وتشرد وتستبيح الحمى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومع هذا الواقع الأليم نجد أن د. علي جمعة يقدم طرحًا هزيلاً لا يتناسب مع واقع الأمة؛ ومن ذلك: * قال د. علي جمعة: "الجهاد لا يجوز إلا تحت راية، وعندما فقدت الراية فلا جهاد، وسيتحول إلى قتل بدل أن يكون قتالاً، ولو ادعى صاحبه أنه في سبيل الله" (¬3) ومعنى ذلك أنه يرى أن الحرب في كثير من الأماكن التي سقطت تحت حكم الكفار ليست جهادًا، ولكن الله عز وجل يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية 24. (¬2) سورة الأنفال، الآية 17. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: توليد العلوم فرض على المسلمين3، بتاريخ 3 - 7 - 2004.

الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} (¬1). * وقال: "عمليات الاستشهاد في فلسطين، وموقفنا بشأنها يتمثل بأن ذلك لم ينشأ من فتوى دينية سابقة، كما هو متصور أو يُراد أن يُتصور، وأن الأمر مرده إلى التضييق اليهودي واليأس والإحباط الذي يصيب الفلسطينيين، وأن أول فدائي كان مسيحيًا، وأن الأمر امتد إلى الفتيات؛ حيث كان من الشائع أن الذكور يفعلون هذا؛ لأن الإسلام يبشرهم بسبعين حورية في الجنة، وأن الفتاوى التي حرمت لم تمنع العمليات الفدائية، ولم تدفع إليها؛ لأن السبب هو الإحباط وليس الدين، وأن الادعاء بأن الدين وراء ذلك لن يؤثر كثيرًا في الواقع؛ لأنه ليس صحيحًا، فلا بد من معرفة السبب الحقيقي وإزالته، والسبب الحقيقي هو طريقة تعامل الكيان الصهيوني مع القضايا السياسية والإنسانية" (¬2) وهكذا بجرة قلم يتهم د. علي جمعة نوايا الشباب الطاهر الذي يستجيب لفتاوى علمائه التي تحبذ له القيام بالعمليات الفدائية بشروط يذكرونها له، ويجعلهم د. علي جمعة مرضى نفسيين أصابهم اليأس والإحباط. * وقال: "بعدما أذيع من أحداث قتل الأسرى أخيرًا تأملت ما ورد في شأنهم في كتاب الله، فوجدت قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3)، ومعنى الآية أنه لا يجوز أن نأسر الناس من غير أن يكونوا من العساكر المقاتلين، ومن غير أن يكون هناك حرب قائمة بيننا وبين ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 84. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: كنت في لندن، بتاريخ 17 - 7 - 2004. (¬3) سورة الأنفال، الآية 67.

العدو، فقوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (¬1) معناه إلى أن يقاتل في سبيل الله، فالأسر بدون قتال يقع بعده باطلاً ومنهيًا عنه" (¬2) وهذا الفهم معوج وباطل، فهل كانت النساء اللاتي يُتخذن إماء، والأطفال الذين يُتخذون عبيدًا، من العساكر المقاتلين؟! وأما قوله تعالى: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (¬3) فلا علاقة له بالأسر دون قتال؛ بل معناه كما في التفاسير، بل وكما في تفسير د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر: (ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} (¬4) من أعدائه الذين يريدون به وبدعوته شرًا {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (¬5) أي: حتى يبالغ في قتلهم، وإنزاله الضربات الشديدة عليهم، إذلالاً للكفر وإعزازًا لدين الله) (¬6). * وقال د. علي جمعة: "من جاهد رسول الله؟ جاهد العرب؛ منهم بنو سليم، ومنهم غطفان، ومنهم هوازن، ومنهم بنو تميم، وقريش. من هؤلاء؟ هؤلاء أولاد إلياس بن مضر، كلهم قبيلة واحدة، لم يرفع السيف صلى الله عليه وسلم على أحد من العرب من غير أولاد إلياس بن مضر، في ثمانين سرية وغزوة وتجريدية وكتيبة وكذا إلى آخره، أغلبها كان لمتابعة قطاع الطريق، وكان لرد عدوان، ولسرقة سرقوها، ولتأديب من يحتاج إلى التأديب، ولكنه لم يرفع السيف لا في هذه ولا في تلك إلا على أبناء عمومته الذين أخرجوه ومنعوه إبلاغ كلمة الله، فمن أكره؟ ومن أدخل دين الإسلام ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية 67. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: قتل الأسرى، بتاريخ 26 - 3 - 2007م. (¬3) سورة الأنفال، الآية 67. (¬4) سورة الأنفال، الآية 67. (¬5) سورة الأنفال، الآية 67. (¬6) كتاب تفسير الوسيط، تفسير سورة الأنفال.

بسيف أو بغيره؟ كانوا يأسرون الزعيم فيأتي رسول الله فيسلم؛ لما يراه من خلقه العالي الكريم، فتسلم قبيلته، لم يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف إلا على أولاد إلياس بن مضر، وكانوا يمثلون عائلة واحدة، يجتمعون ضد أعدائهم إذا هَمَّ الهم، فكأنه ينذر عشيرته الأقربين" (¬1) ويقول في موضع آخر: "الذين جرد لهم النبي صلى الله عليه وسلم من حضر من أولاد عمومته، وكان العرب يقاتلون أولاد عمومتهم للتأديب، يعني كأنها مشكلة داخلية" (¬2). هذا الكلام من أعجب العجب، ولا يمكن أن يصدقه من قرأ قطوفًا من السيرة النبوية، أو قرأ جزءًا من كتاب الجهاد في أي كتاب من كتب الفقه، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) (¬3). * وقال في أعقاب استهزاء الدنماركيين بالرسول صلى الله عليه وسلم: " {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (¬4) رحلوا الصدام لغير مواضع الاستفزاز الدنيء منهم" (¬5) ولا أدري ما هي المواضع التي يقصدها إذا لم تكن سخريتهم واستهزاؤهم هي القاطع لكل وشائج الصلة مع هؤلاء الكافرين، وهي المؤذنة بالعداوة والبغضاء بين أمة الإسلام وهذه الأمة المجرمة. * وقال: "لما كان في المدينة جاءوا إليه في بدر، وبدر من المدينة أو بقريب منها، ثم جاءوه في أحد، وأحد من المدينة أو هي قريب منها، ثم جاءوه في الخندق الذي حفره يحمي المدينة، ما اعتدى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬6) هذا ¬

(¬1) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 78. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، الجزء الأول، ص 171. (¬3) رواه مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء. (¬4) سورة الحجر، الآية 95. (¬5) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص160. (¬6) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 163.

الكلام فيه تدليس، يوهم أن الحرب في الإسلام حرب دفاعية، وهذا باطل؛ بل الحرب في الإسلام حرب دفاع وحرب طلب، وهل جاء كفار قريش في بدر إلا بعد أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب قافلة قريش التي كانت عائدة من الشام، وإلا بعد سرية نخلة التي تقع بين مكة والطائف وكانت ترصد عيرًا لقريش، فغنمت ما بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عقب غزوة الأحزاب: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (¬1) فلا يمكن أن ننتقص في حال ضعفنا الحالي جهاد الطلب أو أن نسميه اعتداء. * قال د. علي جمعة: "كل القتلى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبر أكثر من سبعة حروب تم فيها القتال، و24 سرية اشترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم و80 سرية جردها طوال فترته في المدينة، لم يقتل سوى سبعمائة إنسان" (¬2) ولكنه في موضع آخر قال: "عدد القتلى من المسلمين في كل المعارك 139، ومن المشركين 112، ومجموعهم 251" (¬3)!!. * قال د. علي جمعة: "الكيان الصهيوني يحتل أرضًا عربية بموجب القرارات الدولية من الضفة الغربية والجولان ومزارع شبعا، وعلى ذلك فإن مقاومته مشروعة" (¬4) وماذا عن حيفا ويافا وما يسمى بأراضي 48؟ هل تشرع مقاومة الكيان الصهيوني الذي احتل هذه الأراضي بمساندة الأمم المتحدة وبموجب القرارات الدولية أم لا تشرع؟!. ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، الجزء الأول، ص 171. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 93. (¬4) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: إسرائيل ظاهرة صوتية، بتاريخ 21 - 8 - 2006.

ثالثا: التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم

ثالثًا: التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم وضع الإسلام الضوابط التي تحدد سلوك المسلم وتحكم تصرفاته، سواء عاش هنا أو هناك، وسواء تعامل مع مسلمين أو كافرين؛ فلكل حالة أطرها، ولكل أمر متعلقاته. وتزخر كتب الإسلام بتفصيل أحكام معاملة الكافرين؛ والتفريق بين أهل الذمة، والمعاهدين، والمستأمنين، وأهل الحرب، والصلح، والأمان، والهدنة ... أما عند د. علي جمعة فتختلط كثير من الأمور وتتداخل وتلتبس، مما يؤدي لنتائج مشوهة مستهجنة. * قال د. علي جمعة: "ومن الملاحظ أن استعمال الفقهاء المسلمين لكلمة دار الكفر وكلمة دار الحرب كان استعمالاً زمنيًا؛ حيث إن تلك البلاد كانت تناصب المسلمين العداء، وتغزو بلادهم، أو تشردهم من أوطانهم، كما حدث في الحروب الصليبية، وكما حدث في الأندلس من إبادة المسلمين، وإكراههم على الارتداد، وطردهم من أوطانهم التي استقروا فيها مئات السنين، وسميت بعض الديار بدار الكفر؛ لأنهم كانوا يمنعون من الدعوة إلى الإسلام ومن إقامة المسلمين فيها، أما وقد تغير الحال فإننا نرى العالم لا يأبى إقامة المسلمين فيه، ولا يرفض دعوة الإسلام، والتعبير بحرية عن معتقداتهم، وإقامة شعائرهم، وليست هناك حرب معلنة بين بلد معين وبلاد المسلمين. ومن هنا استحسنا إطلاق كلمة بلاد غير المسلمين على هذه الحالة، تأكيدًا على أن هذا التقسيم ليس تقسيمًا شرعيًا، بل هو تقسيم زمني، ويجب مراعاة ذلك عند قراءة تلك النصوص المنقولة من كتب

السابقين، وعدم استنباط أحكام منها تؤدي إلى الصدام، أو تلقي بظلالها على الدعوة الإسلامية، أو على دين المسلمين، بأنه دين صدام؛ لأنهم ما لجأوا إلى ذلك إلا عند مصادمة الآخرين لهم وعدوانهم عليهم" (¬1) وهذا فهم عجيب من د. علي جمعة، فالمسلمون أطلقوا مصطلح بلاد الكفر والحرب في عهود كانت الغلبة فيها للمسلمين، وكانت الفتوحات الإسلامية المباركة تتسع شرقًا وغربًا بل وشمالاً في قلب أوربا، ثم يدعي د. علي جمعة أن هذا كان عندما ناصبت تلك الدول المسلمين العداء، أما اليوم فالصداقة هي شعار المرحلة!! ولا داعي لهذا المصطلح والأحكام المتعلقة به؛ لأنها تلقي بظلالها على الدعوة الإسلامية!! وكأنه لم يسمع عن الفلبين، والشيشان، وكشمير، وتركستان، وأفغانستان، والعراق، وفلسطين، وجنوب السودان، والصومال، والبوسنة والهرسك ... مع أنه يقول في موضع آخر: "علامة استفهام كبيرة تفسرها هذه الحملة الشديدة الاحتلالية التي يتعرض لها العالم الإسلامي، هذه الحملة التبشيرية، هذه الحملة الصهيونية، هذا العداء الذي لا مبرر له" (¬2). * وتكلم عن اندماج المسلم في بلاد الكفر وانضمامه لجيوش الكفار فقال: "قضية اندماج المسلم في مجتمعه، وعمله في المخابرات والجيش في تلك الدول، وموقفنا أن المسلم له هذا، وأن له طبقًا لقوانين البلاد الديمقراطية أن يعتذر عن كل ما لا يوافق عقائده مما يراه ظلمًا أو انحرافًا، وهذا منصوص عليه في القانون الأمريكي" (¬3) وبهذه الفتوى يعمل المسلم على رفعة جيوش الكفار ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 108. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، الجزء الأول ص 201. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: كنت في لندن، بتاريخ 17 - 7 - 2004.

المحاربين كبريطانيا وأمريكا والارتقاء بقوتهم وجبروتهم، والله عز وجل يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (¬1). * ولا يزال د. علي جمعة يعلق أملاً كبيرًا في أن نسترد حقوقنا عن طريق هيئة الأمم المتحدة وعن طريق أمريكا نفسها؛ فيقول: "نحن نريد فتح قنوات دائمة للحوار المتواصل العلمي والثقافي والاقتصادي والتكنولوجي بيننا وبين الولايات المتحدة، ولا يتم هذا إلا من خلال بيئة محيطة تحترم الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بمشكلة المسلمين المركزية وهي فلسطين، والعدوان الواقع على الشعب الفلسطيني، متمثلاً في الاحتلال، والحواجز، والمستوطنات، والحرمان من الحقوق الأساسية في المياه والعمل والتنقل والتعليم والحياة، والعدوان المادي الصارخ بالاعتقال والقتل، والذي نظن أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على التدخل الإيجابي لنصرة الحق وإيقاف الأصوات المتطرفة التي تدعو إلى الصدام الدائم، وإلى تكريس مفهوم الاحتلال والظلم وهضم حقوق الشعوب" (¬2). * والدكتور علي جمعة لا يكتفي بهذا الطرح المرتمي في أحضان الغرب؛ بل هو يترجى الغرب أن يتدخل في قضايا المسلمين، عن طريق اعتماد اتجاه د. علي جمعة الذي يسميه الوسطية الإسلامية؛ لأنه الأقدر على تحقيق المصالح للمسلمين ولأمريكا كذلك؛ فهو في مقالته للترحيب برئيس أمريكا أوباما يقول: "من الحقائق التي ينبغي ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 76. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مرحبًا بالرئيس أوباما، بتاريخ 1 - 6 - 2009.

الالتفات إليها أن الإسلام قادر على أن يعيش في كل العصور، وأن يبني الجسور مع كل الحضارات، وهذا ما أكده التاريخ وأكدته المصادر الإسلامية على جميع مستوياتها، ويلزم من هذا التحاور مع الوسطية الإسلامية، واعتمادها مرجعية للتفاهم بين العالم الإسلامي والعالم الغربي؛ من أجل غدٍ أكثر إشراقًا، ومن أجل تعاون متوازن يحقق فيه كل من العالم الإسلامي والولايات المتحدة المصالح لكل منهما بصورة عادلة دائمة" (¬1) ثم هو يحرض على السلفيين، ويشتكيهم للأعداء، وكأنه يتوسل لهم أن يخلصوه منهم؛ فيكتب تقريرًا عن السلفية، لكنه أشبه ما يكون بتقرير استخباراتي استعدائي، يُذكرنا بالتقارير الاستخباراتية التي احتجت بها أمريكا على غزو العراق؛ فيخاطب د. علي جمعة الغرب بالطريقة التي تروق لهم، وبالمصطلحات التي تثيرهم؛ فالسلفيون يكرهون الصهيونية والمبشرين والعلمانيين، ويعتقدون أن أعداء الإسلام يحاربونه سرًا وجهارًا، لذلك فالسلفيون يهتمون بإكثار النسل وكثرة الأولاد!! ويرون أن الحياة خطيئة يجب التكفير عنها!!، ويكرهون الفنون والآداب وأساليب اللياقة!!؛ وإليكم جزء من هذا التقرير التحريضي؛ يقول د. علي جمعة: "السلفية الصدامية؛ والفكر الصدامي الذي يتبناه هؤلاء الذين أساءوا فهمه يفترض أمورًا ثلاثة وهى: أولاً: أن العالم كله يكره المسلمين، وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم، وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة: الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفي العلن مرات، وأن هناك استنفارًا للقضاء علينا مللنا من ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مرحبًا بالرئيس أوباما، بتاريخ 1 - 6 - 2009.

الوقوف أمامه دون فعل مناسب. ثانيًا: وجوب الصدام مع ذلك العالم، حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإسلامي هنا وهناك، ووجوب الصدام يأخذ صورتين: الأولى: قتل الكفار الملاعين. والثانية: قتل المرتدين الفاسقين. أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين، وأما المرتدون الفاسدون فهم من شهد الشهادتين وحكم بغير ما أنزل الله وخالف فكرهم. وهذه الصياغات كما نرى فيها شيء كثير من التلبيس والتدليس والجهالة، ولكنها سوف تجذب كثيرًا من الشباب ... لقد أصبح التوجه السلفي عائقًا حقيقيًّا لتقدم المسلمين، ولتجديد خطابهم الديني، وللتنمية الشاملة التي يحتاجها العالم الإسلامي عامة، ومصر على صفة الخصوص، وهذا التوجه السلفي أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلاً للمشرب المتشدد الذي يدعو إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده في خياله الذي غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو مع من يحيط به من الناس ... النتائج السيئة للسلفية المعاصرة: أقول: إن ذلك كله يؤدى إلى انتقاله من هذا الدور إلى دور يرى فيه وجوب الانتحار، وتفجير نفسه في الناس بالمتفجرات الحقيقية وبالقنابل، ويرى أنه ليس لحياته معنى؛ لأنه يسبح ضد التيار، ويرى أنه لا بد عليه أن يزيد من نسله، وأن يملأ الأرض صياحًا بأطفاله، محاولاً بذلك أن يسد ثغرة اختلال الكم، حيث إنه يشعر بأنه وحيد، وبأنه قلة، وبأن الكثرة

الخبيثة من حوله سوف تقضي عليه وتكتم على أنفاسه، فيحاول أن يفر من ذلك بزيادة النسل، بل ويشيع بين أتباعه وأصحابه هذا المفهوم الذي يحدث معه الانفجار السكاني والتخلف التنموي. ومن خصائص هذا الفكر الانعزالي التشدد، فهو يرى أن الحياة خطيئة، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها، وأن التطهر منها يكون بالبعد عن مفرداتها، سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هي المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة" (¬1). * وتماشيًا مع منهج التعايش إلى ما لا نهاية؛ لا يرى د. علي جمعة مانعًا من الصلاة الجماعية التي تجمع المسلمين مع المشركين على إيقاع نغمات الموسيقى الهادئة؛ لأنه حتى لو سماها الكفار صلاة فهي ليست كصلاة المسلمين فتجوز!! يقول د. علي جمعة: "السؤال: هل يجوز المشاركة في نشاط مشترك مع أهل الكتاب من النصارى واليهود، يتمثل في إقامة ما يعرف بالصلاة الجماعية على حسب تسميتهم لها؟ ووصف هذه الصلاة: يقف شيخ من المسلمين، مع قسيس من النصارى، مع حاخام من اليهود، أمام جمع من الحاضرين، يقوم كل منهم بتلاوة بعض فقرات من الكتاب المقدس الخاص بأهل ديانته القرآن الكريم أو الإنجيل أو التوراة، تتعلق هذه الفقرات بموضوع له أهمية مشتركة، مثل قضية رفض الإرهاب والعدوان على الآخرين، أو الدعوة إلى السلام مع الآخرين .. إلخ. ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 178 - 190.

يصاحب هذا الاجتماع جو من الموسيقى الهادئة، أو أضواء الشموع، وقد لا يوجد شيء، وقد تختم بالدعاء لتحقيق الأمر المنشود. مكان هذه الصلاة: ليس لها مكان معين، فربما تتم في كنيسة، أو ملعب، أو مكان عام كقاعة مؤتمرات. الغرض منها: التعبير عن الاتفاق واتحاد الرأي حول القضية ذات الشأن، والتي تم الاجتماع من أجلها. ويسأل: فما حكم المشاركة في مثل هذه الصلاة؟ الجواب: إن الهيئة المسئول عنها هي عبارة عن اجتماع بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب للدعاء، ولا يصدق عليها أنها صلاة لا في لغة العرب ولا في المعنى الشرعي لا في الفقه الموروث ولا في المصادر الشرعية من القرآن والسنة. أما اجتماع المسلمين مع غيرهم من أجل الدعاء لله رب العالمين فهو أمر جائز شرعًا وأصله قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (¬1) حيث أمر الله بأن يقف المسلمون وغير المسلمين للدعاء والابتهال إليه ... وعلى ذلك فاجتماع المسلمين مع غيرهم من اليهود والنصارى لدعاء رب العالمين بهذه الصفة لا مانع منه شرعًا. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 61.

على أنه يحرم اجتماع المسلمين مع غيرهم لأداء نفس صلواتهم؛ لأن التعبد بصلاة ليست من شريعة الإسلام حرام، وأصله حديث أبي إسرائيل، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا إسرائيل قائمًا في الشمس، فقال: (ما له قائم في الشمس؟ قالوا: نذر أن يصوم وألا يجلس ولا يستظل، قال: مروه فليجلس وليستظل وليصم) (¬1). وكذلك يحرم الاشتراك فيما فيه شرك بالله أو عبادة غيره؛ حيث أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من لبى في الحج فقال: إلا شريكًا هو لك، ولم يرض ذلك منه؛ لما فيه من الشرك، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلكم قد قد، فيقولون: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. وإذا حضر المسلم هذه الاجتماعات فعليه بالإعداد لها مسبقًا، والاتفاق على ما يتلى فيها مع الآخرين، وإذا رأى أثناء هذه الاجتماعات شيئًا فيه تجاوز يجب عليه أن يطلب منهم تركه، فإن استجابوا فبها ونعمت، وإلا غادر الاجتماع، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬2) " (¬3). * وبما أن بلاد الغرب تموج بالمعاملات المحرمة، فقد خرج علينا د. علي جمعة بفتواه ¬

(¬1) روى نحوه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك. (¬2) سورة الأنعام، الآية 68. (¬3) كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 35 - 37.

العجيبة عن العقود في ديار الكفار، وما فرعه عليها من فتاوى أعجب؛ ومن ذلك: * قال د. علي جمعة: "تقرر أن الأحكام تتغير بين ديار المسلمين وغير المسلمين في مجال العقود؛ لأن المسلم الذي يقيم في بلاد غير المسلمين ينبغي عليه أن يمارس حياته بصورة طبيعية، وألا ينعزل في حارات من غير اندماج في مجتمعه، بل يجب عليه هذا الاندماج؛ لأنه أولاً وأخيرًا مأمور بالدعوة إلى الإسلام بمقاله أو بأفعاله أو بحاله. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) متفق عليه، ولا يتحقق له ذلك إلا إذا اختلفت أحكام العقود التي بينه وبين غير المسلمين في ديار غير المسلمين عن أحكام ذات العقود نفسها في ديار المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، قال: ما دام ذلك برضا أنفسهم، وقال: لأن هذه الديار ليست محلاً لإقامة الإسلام، وهي نظرة واقعية للحياة من ناحية، ولطبيعة الدين الإسلامي في دعوته بالأسوة الحسنة" (¬1) هذا الكلام لا علاقة له في مجمله بالشرع الإسلامي، ودعوى أن أحكام العقود تتغير في ديار غير المسلمين؛ لأن المسلم عليه أن يمارس حياته بصورة طبيعية ويجب عليه أن يندمج في هذا المجتمع دعوى لا قدم لها ولا ساق، وهي أشبه بكلام الصحفيين لا كلام الفقهاء. وأما مذهب أبي حنيفة فلا علاقة له بهذا الاندماج، بل هو أبعد ما يكون عن هذا الاندماج المزعوم، وهو مبني على أمرين: الأول: أن يكون العقد في دار الحرب، وللأحناف كلام كثير في أحكام دار الحرب، يعلم بعضها د. علي جمعة، ولكنه للأسف يريد أن يلغي في فتواه هذه مصطلح دار ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: النموذج المعرفي وتجديد الخطاب الديني3، بتاريخ 8/ 5/2004.

الحرب ويبقي على ما يتعلق به من عقود؛ فيقول مثلاً: "ولقد سمى محمد وغيره دار غير المسلمين بدار الحرب؛ للتقسيم الذي كان شائعًا في زمان الأئمة الذين ننقل عنهم هنا هذا الحكم؛ حيث كان العالم كله يحارب المسلمين، فقسم الفقهاء البلاد إلى دار إسلام يقام فيها الإسلام وتظهر شعائره وإلى دار حرب لا يقام فيها أحكام المسلمين، والتقسيم الحديث بين علماء الإسلام بعدما انتهت حالة الحرب التي شُنت على المسلمين، هو بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، ولها نفس أحكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بنفس الحرب التي لم تعد قائمة" (¬1) وبهذه الفرية التي يرى فيها أن الحرب لم تعد قائمة!!! وأن لهذه الديار التي سماها بلاد غير المسلمين أحكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بالحرب! جمع بين النقيضين وخالف مذهب أبي حنيفة، وهو يعلم أن مذهب أبي حنيفة لا توجد فيه تجزئة لأحكام دار الحرب سواء كانت الحرب قائمة أم لا، فقد صرح د. علي جمعة بقوله: "ومما ينبغي أن يتنبه إليه أيضًا في هذا المقام أن مراد السادة الحنفية بدار الحرب هنا هو دار الكفر مطلقًا؛ سواء أكانت الحرب قائمة أم لا؛ بدليل أن غالب الأدلة التي استدلوا بها كانت لدار كفرٍ لا حرب فيها وهي مكة قبل الهجرة" (¬2) فإذا كان الأحناف يريدون بدار الحرب دار الكفر، ومع ذلك لم يفرقوا في أحكامهم بين حالة اشتعال الحرب أو عدم اشتعالها فيما يتعلق بالدماء والأموال، فكيف يتسنى للدكتور علي جمعة أن يفرق بينهما ويزعم أنه يفتي برأي الأحناف. الثاني: أن تكون الزيادة والربح للمسلم، لا للكافر، والعلة في ذلك كما ذكر ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 209. (¬2) كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 209.

الأحناف أن أموالهم حلال، فطالما دخل المسلم دار الحرب بأمان لم يجز له أن يغدر بهم، لكن طالما أنهم رضوا بذلك فلا حرج عليه؛ حيث عاد الحكم لأصله وهو حل أموالهم، قال الكاساني: (أخذ الربا في معنى إتلاف المال، وإتلاف مال الحربي مباح، وهذا لأنه لا عصمة لمال الحربي، فكان المسلم بسبيل من أخذه إلا بطريق الغدر والخيانة، فإذا رضي به انعدم معنى الغدر) (¬1)، أما د. علي جمعة فالمسألة المتكررة عنده هي اقتراض المسلم من الكفار في بلاد الغرب بالربا، وهو يترك نصوص الأحناف الصريحة؛ ليتمسك بما يمكن فهمه من عموم كلام بعض أئمتهم؛ فيقول: "وظاهر كلام السادة الحنفية أن الحكم عام في أخذ المسلم للربا في دار الحرب وإعطائه، ولكن الكمال بن الهمام ذكر أن أئمة الحنفية في دروسهم قيدوا حل الربا للمسلم في دار الحرب بأخذه من الحربي ... ويمكن التمسك بظاهر المذهب إذا كانت المصلحة الأخيرة للمسلم حتى لو دفع الزيادة" (¬2). وخلاصة فتواه أنه يبيح كثيرًا من العقود الفاسدة متكئًا على كلام الأحناف فيقول: "حاصل مذهب السادة الحنفية جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار غير المسلمين بين المسلم وأهل تلك البلاد؛ سواء أكان العقد بيعًا لميتة، أم خنزير، أم خمر، أم مقامرة" (¬3) ثم هو لا يكتفي بهذا الذي يذكره عن الأحناف، بل يمضي على منهجه في الاندماج؛ ليفتي بجواز امتهان المهن التي تساعد على الفجور مثل تجهيز أماكن الباليه، فنجد له هذه الفتوى: "أنا أعمل في مدينة إعلامية كعامل يقوم بتجهيز المسرح من ديكور وأدوات المسرح، علمًا بأن الممثلين والممثلات ¬

(¬1) كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج7، ص132، ط دار الكتب العلمية. (¬2) كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 209. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 108.

أجانب، وهذا المسرح يقدم باليه، أوبرا، كونشيرت، سؤالي هو: هل هذا العمل حلال أم مكروه أم حرام؟ الجواب: إن العقود مع غير المسلمين في بلاد غير المسلمين جائزة، ما دامت برضا الطرفين ولا تؤدي إلى نوع فساد كالزنا ونحوه، على ما ذهب إليه السادة الأحناف في تصحيح تلك العقود، وعلى ذلك وفي واقعة السؤال: فإن الدخل الذي يدخل إلى السائل من هذا العمل حلال شرعًا" (¬1). ومن أجمل ما نرد به على هذا الفهم المعوج فتوى سابقة للدكتور علي جمعة!!! هذا نصها: "أنا إنسان ملتزم، أعرف فروض ربي، أصلي وأصوم، لكني أعمل في الولايات المتحدة الأمريكية، وأعمل في محل تباع فيه الخمور، فهل ما أتقاضاه من مال حلال أم حرام؟ وهل إذا صليت داخل المحل تكون الصلاة صحيحة؟ الجواب: العمل في هذا المحل وبيعه الخمور لا يصلح ولا يجوز، فكل ذلك حرام لا شك فيه مطلقًا أبدًا، وإذا تعلل وقال: لا أجد لي عملاً وأجرًا أكثر منه، فأقول: إن رزق الله واسع، والمواضع التي فيها رزق الله كثيرة، والإنسان إن كان عنده قناعة برزق حلال قليل بارك الله فيه، وفتح عليه الخير من كل الأبواب، أما إذا أراد أن يعيش عيشة غير المسلمين، وهذه العيشة لا تكون إلا عن طريق شرب الخمر أو تقديم الخمر أو خدمة من يشربون الخمر، فكل ذلك حرام لا يعد سببًا أو مبررًا أبدًا لأن يمارس هذه المهنة المحرمة" (¬2). ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص 266. (¬2) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 24.

* وأما طريقة فهمه لما يخالف فتواه من النصوص فنجد مثالها في هذه الفتوى: "أما السلام بين المرأة المسلمة وبين المسيحية فنقول: لا نرى بأسًا في السلام على الأديان المختلفة، آخذين هذا من معنى السلام، فالسلام هو أصل دين الإسلام، والسلام اسم من أسماء الله تعالى، والسلام نتقبله من الغير، يقول تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬1) فالسلام هنا الحقيقة أنه تحية نتقبلها من الغير، فلا بأس أن تشيع للناس، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) (¬2). فمن أين أتى هذا السؤال؟ أتى من بعض الروايات الموجودة، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق) (¬3) هذا عندما يكون هناك نزاع ظاهر وفتنة عمياء صماء، تستوجب الضغوط والسيطرة عليها، أما في الحالة المعتادة فنشر المسلمون الإسلام من الأندلس إلى الهند بتعايشهم مع الآخرين" (¬4) مع أن هذا الحديث الذي ادعى أنه لحالة الفتنة العمياء، رواه أبو داود في باب السلام على أهل الذمة. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 94. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وأخرجه بنصه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في السلام على أهل الذمة. (¬4) كتاب فتاوى عصرية، ج2، ص 346 - 347.

ولكن نُذَكِّر د. علي جمعة بما قرره من قبل من فتاوى شاذة، ولكنها تصب في الاتجاه المعاكس الذي يحرم حتى المباح من التعاملات مع الكفار!، فهو كان يرى حرمة الزواج من الكتابيات، وحرمة ذبائحهم، بحجة اختلاط أنسابهم!؛ فيقول: "قال الإمام الشربيني عند شرح قول الإمام النووي: (والكتابية اليهودية .. إلخ): (قضية كلام المصنف التحريم إذا شك هل دخلوا قبل التحريف أو بعده، وهو كذلك، وكذا تحرم ذبائحهم، ولكن يقرون بالجزية تغليبًا لحقن الدم، أما من دخل أول آبائها في ذلك الدين بعد نسخه؛ كمن تهود أو تنصر بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل، وكذا من تهود بعد بعثة عيسى عليه السلام، واحترز المصنف بقوله: (فإن لم تكن الكتابية إسرائيلية) مما إذا كانت إسرائيلية، نسبة إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فالشرط فيها ألا يعلم دخول أول آبائها في ذلك الدين بعد بعثة تنسخه، وذلك بأن علم دخول أول آبائها في ذلك الدين قبل البعثة أو شك، وإن علم دخوله فيه بعد تحريفه أو بعد بعثة لا تنسخه كبعثة من بين موسى وعيسى فإنه يحل نكاحها لشرف نسبها) ثم قال: (وعلى هذا يتعذر أو يتعسر نكاح الكتابية اليوم) وبناء عليه فقد انسد النكاح من الكتابيات في عصرنا الآن؛ لضياع أنسابهم، وفقدنا للمحل الموصوف بتلك الصفات السابقة" فالشربيني يرى تعذر أو تعسر نكاح الكتابيات -وهذا خطأ بلا شك-، أما د. علي جمعة فيرى انسداد نكاحهن!!!.

رابعا: المعاملات المالية

رابعًا: المعاملات المالية أحكمت الشريعة الإسلامية قضية المعاملات المالية بأحكام تحقق المصلحة الحقيقية؛ تلك المصلحة المتفقة مع ما أودعه الله جل وعلا في البشر من غرائز وما أوجده عليه من صفات. وبما أن حب المال والإكثار منه هو صفة من صفات العيش في الحياة الدنيا كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} (¬1) فإن على المرء أن يحذر أن يكون هذا التكاثر على حساب الشرع الحكيم، فيقدم المرء ما يتوهمه من مصلحته الشخصية، على ما هو محقق من مصلحته الحقة ومصلحة الأمة جمعاء. وقد يؤدي هذا التكاثر إلى أن يعترض المرء على شرع الله، وأن يستحسن المحرمات ويشجعها، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2). وقد يسلك فريق آخر طريقة التحايل على الشرع الحنيف، فيحاول التماس المخارج المتوهمة، والفروق المصطنعة؛ ليدلل على مشروعية ما انتشر من صنوف المعاملات المحرمة، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية 20. (¬2) سورة البقرة، الآية 275. (¬3) سورة البقرة، الآية 9.

ولكن هذا الاعتراض والتحايل على شرع الله عز وجل لا ينتج عنه إلا أمر واحد ونتيجة محددة، تؤكد لكل العالمين أن هذه الشريعة شريعة الله أحكم الحاكمين، هذه النتيجة هي محق هذه الأموال المحرمة كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (¬1)، وما أكثر ما شاهدناه من محق للأموال المحرمة سواء في إفلاس البنوك وأسواق المال العالمية، أو في انهيار اقتصاديات الدول، أو في المعيشة الضنك التي تحيط بمن وقع في مستنقع هذه المعاملات المحرمة؛ أضف إلى ذلك أنواع العذاب الذي يحل بالأفراد والأمم؛ قال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (¬2). فالاختلاف بين النظام المالي الإسلامي والأنظمة المالية الجاهلية، ليس فقط في تحريم الربا بصوره المتنوعة؛ بل هو اختلاف في وظيفة المال في هذه الحياة الدنيا جملة وتفصيلاً، هو اختلاف في النظر إلى المال من حيث المبدأ والوسيلة والغاية، هو اختلاف جذري ينبع من عقيدة المسلم التي ترى أننا مستخلفين في هذا المال قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (¬3)، فحق التصرف في المال مرهون بحق من استخلفنا فيه سبحانه وتعالى. وليست مهمة الفقيه المسلم أن يمرر ما تنتجه الفلسفة الاشتراكية أو الرأسمالية من أفكار هزيلة، وتجارب فاشلة، ونظريات مضطربة، بدعوى المعاصرة، والتعايش، وعدم ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 276. (¬2) سورة النحل، الآية 45. (¬3) سورة الحديد، الآية 7.

الانعزال عن العالم، والاندماج في الحضارة المعاصرة، وغير ذلك من الدعاوى؛ بل الفقيه المسلم يقدم باعتزاز رؤية الإسلام الشاملة وتصوره الأمثل، الذي يراعي التكوين البشري الفطري، مخضعًا له ما استجد من خبرات الأمم وعمرانها. أما د. علي جمعة فهو يسعى جاهدًا للبحث عن المخارج التي تساهم في خلخلة التصور الأصلي لكثير من المعاملات المحرمة، لتنتج عن ذلك الفتاوى التي تبيح تلك المعاملات؛ ومن ذلك: * قال د. علي جمعة: "نحن نرى أنه لا مانع شرعًا من الأخذ بنظام التأمين بكل أنواعه، ونأمل توسيع دائرته كلما كان ذلك ممكنًا؛ ليعم الأفراد الذين لم يشملهم التأمين، ويكون الاشتراك شهريًّا أو سنويًّا بمبلغ معقول، ويكون إجباريًّا ليتعود الجميع على الادخار والعطاء، على أن تعود إليهم الأموال التي اشتركوا بها ومعها استثماراتها النافعة لهم ولأوطانهم، فالأمم الراقية والمجتمعات العظيمة هي التي تربي في أبنائها حب الادخار والعمل لما ينفعهم في دينهم ومستقبل حياتهم" (¬1) وهكذا لا يكتفي د. علي جمعة بإجازة جميع أنواع التأمين التي يدخل في كثير منها الغرر والربا، بل ويرى أن تفرض الدول هذا التأمين بالإجبار على الشعوب، وإن رأى أكثر فقهائها حرمة كثير من أنواع التأمين!. * وأباح أخذ أموال على المدخرات التي توضع في دفتر البريد رغم أنها أشبه ما تكون بالربا فقال في سؤال ورد له: "أنا أعمل في البريد، وكما تعلم أننا نتعامل بما يسمى بدفتر التوفير، فما مدى مشروعيته بالنسبة للربا، ولو كان هناك مجال للربا، ولو كان هناك مجال للشبهة في هذا العمل، علي تركه؟ ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص218.

الجواب: لا شبهة فيه إطلاقًا، وقد أفتت دار الإفتاء المصرية منذ زمن بأن هذا النظام مباح وحلال، ولو علموا ما لدور هذه الأموال في الدولة وبنائها لا يقولون بحرمتها، وهذه الوظيفة حلال، والعمل حلال، وهذا عبارة عن حلقة في سلسلة تنمية المجتمع من خلال إيجاد فرص عمل للبطالة، وزيادة الإنتاج، وتثبيت الأسعار، والقضاء على الغلاء، فهذا عمل خير" (¬1). * ومن عجيب طرق التحايل فتواه عن الخلو الذي يحصل عليه من أجر شقة بعقد مفتوح لا مدة له، رغم اعترافه بأن الشريعة لا تجيز عقد الإيجار إلا إذا كانت له مدة؛ فقال: "قضية عقد الإيجار في الشريعة الإسلامية، أنه لا بد أن يكون مؤقتًا، أي محددًا، وإذا لم تحدد مدة بطل، ولذا لما جاءت القوانين التي حكمت على الناس أن يكون عقد الإيجار مفتوحًا، فإن الفقهاء قد قدروه بمدة أيضًا، ولكن مدة طويلة طبقًا للقانون والاتفاق؛ لأن هذا القانون كان الحاكم قد قيد المباح، وألزم الناس بمدة طويلة 50 سنة أو 99 سنة، وإذا نحن قدرنا أنك أجرت العين من عشر سنين، وقدرنا أنك أجرت لمدة طويلة نقدرها مثلاً بخمسين سنة، وهذا غير مكتوب في عقد الإيجار، وإنما هذا تقدير من عندي حتى يصح العقد؛ لأننا لا نستطيع أن نبطل عقود كل من في البلد؛ لأن ذلك ليس من الفقه في شيء، فلا بد علينا من هذا التقدير حتى يكون هذا العقد مؤقتًا أيضًا، لكنه محدد بمدة، وهذه المدة طبقًا للقانون مدة طويلة، ونحن نقدر هذه المدة بخمسين سنة، فإذا قضيت منهم 10 سنين، فهل يجوز في الشريعة أن أبيع المدة الباقية؟ أنا لي حق بموجب ¬

(¬1) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص233.

العقد أن أستغل منفعة الشقة لمدة 40 سنة أخرى، الأئمة الأربعة عندهم جواز ذلك، تحت أي مسمى (خلوات - تنازلات - إسقاطات) كل بلد تسميها باسم معين، والمهم يجوز له أن يبيع فترة الإيجار من أجل أن يخرج فورًا ويترك منفعة هذه العين لغيره" (¬1). * ولا يكتفي د. علي جمعة بإباحة ربا ودائع البنوك؛ لينتفع بها الفرد، بل يبيح القروض الربوية التي تمتص دم الأفراد والأمم؛ فمثلاً يقول:"القروض التي تمنحها الدولة لشباب الخريجين لإقامة المشروعات هي في حقيقتها عقود تمويل يضارب فيها الشباب بمال الدولة لاستثماره وتنميته، وذلك إذا لم تشتر الدولة شيئًا من الأصول الثابتة لصاحب المشروع، أما إذا كانت هذه العقود عبارة عن عملية شراء تشتري بها الدولة شيئًا من الأصول الثابتة لصاحب المشروع وتقسطها عليه بثمن أكبر فهذه عقود مرابحة جائزة ولا شيء فيها" (¬2) ويتناسى د. علي جمعة كثيرًا من الأمور؛ من أهمها أن الدولة لا تتحمل شيئًا إذا فشل المشروع -وكثيرًا ما يفشل-، بل يسدد الشاب القرض مع ما اتفقوا عليه من ربا، ثم يسميه د. علي جمعة عقد تمويل وعقد مرابحة!. * بل ويبلغ التحايل مبلغه حين يصر د. علي جمعة على تكييف عقود القرض بالربا على أنها عقود بيع بالتقسيط؛ رغم التصريح بأنه قرض، فنرى هذا السؤال والجواب: "أعمل في شركة تقوم بتحويل السيارات للعمل بنظام الغاز الطبيعي، الأمر الذي يتطلب حصول صاحب السيارة على قرض من أحد البنوك المصرية؛ ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص141. (¬2) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 214.

حيث تبلغ تكلفة التحويل خمسة آلاف جنيه مصري، ولكن عند حصول صاحب السيارة على القرض يقوم صاحب السيارة بسداد ستة آلاف وأربعمائة جنيه مصري، أي بفائدة تبلغ ألفًا وأربعمائة جنيه لمدة عامين، أو يسدد صاحب السيارة خمسة آلاف جنيه مصري نقدًا للشركة دون الحصول على قرض من البنك، فما حكم الشرع في ذلك؟ البنك في هذه الحالة إنما هو بمثابة الوسيط، الذي له أن يشتري الشيء المبيع ويتملكه حقيقة أو حكمًا، ثم يشتريه المشتري منه بالتقسيط بسعر زائد نظير الأجل المعلوم، وهذا جائز شرعًا، وهو إن سُمي قرضًا إلا أنه في حقيقته بيع بالتقسيط، وهو جائز للقاعدة الفقهية المقررة إذا توسطت السلعة فلا ربا" (¬1) ولا ينبغي علينا أن نسأل عن هذه القاعدة التي يذكرها وتطبيقها على هذه المسألة؛ لأننا لن نجد ذلك في كتب الفقه ولا الأصول، ولا عند علماء المذاهب الأربعة ولا حتى الثمانية!!!. ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج 2 ص 222 - 223.

خامسا: الشيعة

خامسًا: الشيعة أمر الله جل وعلا أمة الإسلام أن تسعى في جمع الكلمة ووحدة الصف، ولكن هذه الوحدة المنشودة لا بد أن تكون اجتماعًا على الحق والخير، واستمساكًا بشرع الله جل وعلا، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬1). ومع أن الاجتماع على الحق هو الأصل الذي ينبغي أن يسارع الناس إليه، إلا أن البغي والظلم يصد كثيرًا من الناس عن الاستجابة لهذه الدعوة النبيلة؛ قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2) ولو شاء الله جل وعلا لشرح صدور الظالمين ووفقهم للدخول في الحق، ولكنه جل وعلا شاء أن يكون إعراض هؤلاء الظالمين سببًا لإقحامهم في نار جهنم إقحامًا، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 103. (¬2) سورة البقرة، الآية 213. (¬3) سورة هود، الآيتان 118 - 119.

وهذا الاختلاف كما يكون بين المسلمين والكافرين، يكون بين المسلمين المهتدين والمسلمين الضالين، بين من انقادوا واستسلموا لهدى الإسلام ومن خلطوا بين الحق والباطل والهدى والضلال، وفرقوا دينهم وفارقوا جماعة المسلمين، قال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬1). والشيعة طائفة من الطوائف التي خالفت سبيل المؤمنين، وانحرفت عن سواء السبيل، فمزقت الأمة، وفرقتها، وشغلتها، وكانت وبالاً أي وبال. والخلاف بين السنة وفرق الشيعة المتعددة حقيقة واقعية وتاريخية، لها أثرها في فكر الأمة وثقافتها وتراثها، بل في واقعها الديني والسياسي والاجتماعي. ولا يمكن تجاوز هذا الخلاف العميق بمجرد سرد عبارات التهوين من أهمية الخلاف، والدعوة لتجاوز الجذور التاريخية، وإقامة جسور التعاون، .. إلى غير ذلك من الشعارات التي تتشدق بها كثير من الكتابات والأطروحات المعاصرة، تلك الأطروحات التي تتجاوز الحقائق الدامغة، والأصول العلمية، بل وتتجاوز ثوابت أهل السنة والجماعة. إننا ندعو جميع الفرق إلى الالتقاء والاجتماع، ولكن إلى اجتماع يعرف الحق وينكر الباطل، ويدعو للتوبة النصوح من كل الآثام العلمية والعملية. أما د. علي جمعة فهو يقفز على حقيقة الخلاف مع الشيعة عمومًا، ومع الشيعة الاثني عشرية خصوصًا، ويهون منه، ويفسره بتفسيرات لا ترضي السنة ولا حتى الشيعة، مع أن له كتابات متفرقة تأتي غالبًا في سياق قضايا علمية أخرى تبين جزءًا من الحقيقة؛ ومن ¬

(¬1) سورة الروم، الآيتان 31 - 32.

الأمثلة التي توضح ما ذكرته عنه ما يلي: * كتب د. علي جمعة مقالتين في جريدة الأهرام حاول فيهما أن يظهر الشيعة والسنة بمظهر المذهبين القريبين من بعضهما البعض، بطريقة تحرف الكلام عن مدلوله ومضمونه، وتخرجه عن سياقه، وكأننا يمكن أن نتغاضى عن كل انحرافات الشيعة بمجرد كلمة يطلقها د. علي جمعة؛ فيقول: "المسائل التي تتعلق بالرؤية الأساسية بين السنة والشيعة قد تنحصر في خمسة مسائل، اكتنفها كثير من الغموض عبر التاريخ، وولدت محنًا بين الفريقين، وإن كانت هذه المحن في أصلها سياسي، إلا أن هذه الخلافات الخمسة كانت مبررًا عند كثير من الناس بإشعال الفتنة بين الفريقين، وتعميق الهوة بينهما، وهو ما لا نرضاه في حياتنا المعاصرة، حيث اطلع كل فريق على ما يقوله الآخر، ونشأت دعوات التقريب، وتأكدت ونمت وحققت مكاسب كبيرة، ولا يزال أمامنا الكثير من الجهد، حتى يتم القضاء على هذا الاحتقان المفتعل، الذي لا يرضى عنه الله ولا رسوله ولا المؤمنون. 1 - اتهمت الشيعة بالقول بالبداء، وكلمة البداء تعني أن الله سبحانه وتعالى، وجل جلاله، يغير رأيه، وهو ما أنكرته الشيعة تمامًا، وفسرت ما ورد من عبارات حول هذا المصطلح، بما فسر به أهل السنة القضاء المعلق؛ فأهل السنة يقولون: إن القضاء منه مبرم، ومنه معلق، أما الذي هو مبرم فهو علم الله الذي لا يتغير ولا يتبدل، وأما الذي هو معلق، فذلك المسطور في اللوح المحفوظ، والذي يمكن أن يغيره الله سبحانه وتعالى بسابق علمه وبإرادته المطلقة وقدرته التي لا نهاية لها، وحملوا عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم: (لا يرد القضاءَ إلا الدعاءُ، ولا يزيد في العمر إلا البرُ) رواه الترمذي، وحديث: (لا يأت ابنَ آدم النذرُ بشيء لم يكن قد قدرته، ولكن يلقيه القدرُ، وقد قدرته له، أستخرج به من البخيل) أخرجه البخاري. وعلى ذلك فلا خلاف في الحقيقة، إنما هو خلاف موهوم نتج من سوء الفهم، ومن حمل الألفاظ على غير معانيها الاصطلاحية التي استقرت في أذهان الناس، وهذا ما يعرف بالخلاف اللفظي، وهو ما لو اطلع كل فريق على ما قاله الآخر لقال به. 2 - القول بتحريف القرآن، ولقد اعتذرت الشيعة عما ورد مما يوهم هذا المعنى القبيح، بأن هذا اللفظ باستعمال القراءات الشاذة التي يذكرها أهل السنة أيضًا في كتبهم، غير معتبرة ولا معتمدة؛ لأنها لم ترد بسند متواتر عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الشيعة والسنة على السواء، يقولون بحفظ كتاب الله الذي بين أيدينا، والذي لم يختلف عليه المسلمون قط عبر العصور، وهو ذلك الذي بين دفتي المصحف المعروف المشهور، وكل الأمة يقولون بحفظه كما ورد في سورة الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) فعاد الخلاف أيضًا إلى اللفظ دون المعنى. 3 - القول بتكفير الصحابة، ولم نر لأحد من الأئمة المعصومين عند الشيعة كلامًا مخالفًا في الصحابة الكرام، ورأينا أن علماء الشيعة وقادتهم في القرن العشرين ذكروا في كتبهم الترضية على أبي بكر ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية 9.

وعمر، وخفت الغلواء بشأن الصحابة الكرام، وعرضت المسألة من ناحية عاطفية لا تستلزم كل هذا العداء الذي قد ملأ قلوب العامة من الطرفين، فيدعي الشيعي أن السيدة فاطمة عليها السلام -وهكذا كان يذكرها الإمام البخاري في صحيحه- كانت قد خاصمت أبا بكر، وغضبت عليه، من أجل أرض فدك بخيبر، في مسألة فقهية تتعلق فيما إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك تركة، أو أن معاشر الأنبياء لا تورث، وهذا هو الجانب العاطفي في المسألة. 4 - قضية من أحق بالخلافة، سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه، فقط، وهو قول الشيعة، أو ترتيب الخلافة كما حدثت: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وهو قول أهل السنة، وكما ترى فإنها مسألة تاريخية، لكنها مثلت ولا تزال تمثل عند الفريقين أساسًا يُبنى عليه غيره، وهي ما تعرف بقضية الإمامة، وهي أنها لا بد فيها من الوصاية، والنص، وهو ما تدعيه الشيعة، أو أنها مسألة تتعلق بالاجتماع البشري، وهي متروكة لاختيار المسلمين عامة بالانتخاب الحر، وهو ما تدعيه السنة. 5 - التقية، وهي عند الشيعة، وتعريفها السني: أن يتكلم الإنسان بغير ما يعتقد، وعدوا هذا بابًا من أبواب النفاق، أو الكذب، أو الضعف، أو الخداع، أو نحو ذلك من الصفات الذميمة، إلا أن الشيعة أجابوا على هذا بأن تعريفها يكاد يكون حكاية مذهب الخصم، وحكاية مذهب الخصم وإن خالفت معتقد من يتكلم، إلا أنها ليست واحدة من هذه المعاني القبيحة المذكورة التي تتردد بين النفاق والخداع، وإنما هو وضع قد تمليه على الإنسان ظروف

سياسية خاصة في عصور الجور، وتقييد حرية الرأي، فيضطر الإنسان إلى أن يحكي مذهب الغير، وليس إلى الكذب أو نحو ذلك" (¬1). هكذا يحاول د. علي جمعة التبرير والتمرير، ولكن هذا الكلام لا ينطلي على من له أدنى اطلاع على حقائق الفرق والمذاهب، فهذا الأزهر يخرج كتابًا يبين فيه موقف الأزهر كمؤسسة من كثير من القضايا، سماه (بيان للناس من الأزهر الشريف) وصدر الكتاب في عهد الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر، وتكلم الكتاب عن فرق الشيعة؛ فقال عن الإمامية الذين هم أغلب الشيعة المعاصرين: (الإمامية، وهم الذين قالوا بإمامة اثني عشر من آل البيت، ويسمون بالاثني عشرية وبالموسوية؛ لأن الأئمة عندهم هم: علي، الحسن، الحسين، وعلي زين العابدين بن الحسين، وكانت الإمامة لابنه الأكبر زيد، فلما رفضوه كما تقدم ولوا بدله أخاه محمدًا الباقر، ثم جعفر الصادق، وكان له ستة أولاد، أكبرهم إسماعيل ثم موسى، ولما مات إسماعيل في بيت أبيه أوصى والده بالإمامة إلى ابنه موسى الكاظم، وبعد وفاة جعفر انقسم الأتباع، فمنهم من استمر على إمامة إسماعيل وهم الإسماعيلية أو السبعية، والباقون اعترفوا بموسى الكاظم، وهم الموسوية. ومن بعده علي الرضا، ثم ابنه محمد الجواد، ثم ابنه علي الهادي، ثم ابنه الحسن العسكري نسبة إلي مدينة العسكر سامرا، وهو الإمام الحادي عشر، ثم ابنه محمد الإمام الثاني عشر، وقد مات ولم يعقب، فوقف تسلسل الأئمة، وكانت وفاته سنة 265هـ. ويقول الإمامية: إنه دخل سردابًا في سامرا فلم يمت، وسيرجع بعد ذلك باسم المهدي المنتظر، وهذه الطائفة منتشرة في إيران والعراق وسوريا ولبنان، ومنهم جماعات متفرقة في أنحاء العالم، ولهم كتب ومؤلفات كثيرة من أهمها كتاب الوافي في ثلاثة مجلدات كبيرة، جمعت ¬

(¬1) مقالان في جريدة الأهرام بعنوان: السنة والشيعة1، 2، بتاريخ 27 - 2 - 2006م، و6 - 3 - 2006م.

كثيرًا مما في كتبهم الأخرى، وكتب عليه أحد أهل السنة نقدًا سماه الوشيعة في نقد عقائد الشيعة، وكان ذلك في فبراير سنة 1935م، كما كتب رئيس أهل السنة بباكستان محمد عبد الستار التونسي رسالة في ذلك؛ ومن أهم أصولهم: 1 - تكفير الصحابة ولعنهم، وبخاصة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا عددًا قليلاً كانوا موالين لعلي رضي الله عنه، وقد رووا عن الباقر والصادق: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ من ادعى إمامة ليست له، ومن جحد إمامًا من عند الله، ومن زعم أن أبا بكر وعمر لهما نصيب في الإسلام). ويقولون: إن عائشة وحفصة رضي الله عنهما كافرتان مخلدتان، مؤولين عليهما قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ} (¬1). 2 - ادعاء أن القرآن الموجود في المصاحف الآن ناقص؛ لأن منافقي الصحابة -هكذا- حذفوا منه ما يخص عليًا وذريته، وأن القرآن الذي نزل به جبريل على محمد سبعة آلاف آية، والموجود الآن 6263، والباقي مخزون عند آل البيت فيما جمعه علي، والقائم على أمر آل البيت يخرج المصحف الذي كتبه علي، وهو غائب بغيبة الإمام. 3 - رفض كل رواية تأتي عن غير أئمتهم، فهم عندهم معصومون، بل قال بعضهم: إن عصمتهم أثبت من عصمة الأنبياء. 4 - التقية: وهي إظهار خلاف العقيدة الباطنة؛ لدفع السوء عنهم. 5 - الجهاد غير مشروع الآن، وذلك لغيبة الإمام، والجهاد مع غيره حرام، ولا يطاع، ولا شهيد في حرب إلا من كان من الشيعة، حتى لو مات على فراشه. وهناك تفريعات كثيرة على هذه الأصول؛ منها: عدم حفظ القرآن، انتظارًا لمصحف الإمام، ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية 10.

وقولهم بالبداء، بمعنى أن الله يبدو له شيء لم يكن يعلمه من قبل ويتأسف على ما فعل، والجمعة معطلة في كثير من مساجدهم، وذلك لغيبة الإمام، ويبيحون تصوير سيدنا محمد وسيدنا علي، وصورهما تباع أمام المشاهد والأضرحة، ويدينون بلعن أبي بكر وعمر) (¬1). * بل إن د. علي جمعة يعلم كثيرًا من أحوال الشيعة؛ فلقد سُئل عن اتهام المتصوفة بأنهم شيعة، فنفى ذلك جملة وتفصيلاً وبرأ التصوف من الانتساب للشيعة الذين يخالفون أصول وعقائد السنة جملة وتفصيلاً على حسب تعبيره!!!؛ وقال: "الشيعة الإمامية وهم أغلب الشيعة، فرقة من المسلمين، إلا أنها أخطأت حينما خالفت المسلمين في تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سائر الصحابة الكرام، والطعن على خلافة من سبقه، بل والنيل من أغلب الصحابة، والوقوع في سبهم ولعنهم، فهذه طامات كبرى أوغرت قلوب أهل السنة والجماعة. إلا أنهم لا يَكفرون بهذه المخالفات غير المقبولة؛ لأن المسلم لا يكفر بسب المسلم ولعنه، وإن كان من وقعوا فيهم بالسب واللعن هم خير المسلمين على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم متأولون، بل ولا يرونهم صحابة أصلاً، ولذا فإن الشيعة الإمامية وهم الكثرة الغالبة من الشيعة في زمننا هذا من المسلمين، مع مخالفتهم لمنهج أهل السنة والجماعة في باب الصحابة رضي الله عنهم. ولم يقتصر الخلاف بين أهل السنة والجماعة والشيعة على باب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ولكن هناك أمور أخرى تمثل أسس الخلاف بين أهل السنة والجماعة. والشيعة فرق أخرى متعددة؛ منها ما تطرف في التشيع حتى خرج عن ربقة ¬

(¬1) كتاب بيان للناس من الأزهر الشريف، ج2, ص12 - 13, ط جامعة الأزهر.

الإسلام بمزاعم مُكَفِّرة ومعتقدات باطلة، فمنها فرقة تزعم أن الإله قد حلَّ في علي وأولاده، وأنه قد ظهر بصورتهم، ونطق بألسنتهم، وعمل بأيديهم، ومن هذه الفرق التي ضلت الإسماعيلية والبهرة والدروز. ومن عقائد بعض فرق الشيعة الغلاة القول بتحريف القرآن، وتكفير الصحابة، وعدم أحقيَّة خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. ويرى متبعو الشيعة أن الإمامة منصوص عليها ومحددة من قبل الله، بينما يرى أهل السنة أن الإمامة لم يتم تحديدها من قبل الله، والإمامة فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده، وليست خاصة لأحد ... ، بهذا تبين لنا أن أصول الشيعة وعقائدهم تخالف أصول الصوفية السنيين جملة وتفصيلاً" (¬1). وتكلم د. علي جمعة عن صحفي طعن في أبي هريرة رضي الله عنه والبخاري رحمه الله فقال: "المتكلم في الصحابة فاسق مردود الشهادة، وكذلك المتكلم في البخاري؛ لأنه يتكلم في دين الله بغير علم، ولأن من يطعن في أئمة نقلة الحديث من الصحابة ومن بعدهم فكأنما يريد أن تنحصر الشريعة في العصر الأول دون الاسترسال في سائر العصور، وهو مسبوق بمن سلك هذا الطريق فكان أن آل إلى مزبلة التاريخ، ومن كان كذلك فحقه التعزير" (¬2) إذا كان هذا حكم د. علي جمعة فيمن طعن في صحابي، فما حكم الشيعة الاثني عشرية؟ وهم يطعنون في ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص304 - 308. (¬2) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص110.

جل الصحابة باعتراف د. علي جمعة حيث يقول: "أهل السنة بالنسبة لباقي التيارات والمذاهب الإسلامية عدل وسط، يعترفون بكل الصحابة، وليس شأنهم كشأن الشيعة الذين ينكرون الصحابة إلا عليًّا" (¬1)، وقال: "قال الخطيب البغدادي: تجوز فتاوى أهل الأهواء ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، وأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ويسبون السلف فإن فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة" (¬2). وبعد كل هذا يصر د. علي جمعة على عادته في الجمع بين المتناقضات ورمي مخالفيه بأنواع التهم؛ فيقدح فيمن ينفر من الشيعة بقوله: "نحن نعتقد أن الشيعة جزء من أمة الإسلام لا ينفصل عنها، ولا يُنفر منها، وإن ظهر غير ذلك فبسبب سوء فهم بعض الجهلة وغير المتخصصين المتعصبين" (¬3)!!!. ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص189. (¬2) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 159. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 80.

سادسا: التصوف

سادسًا: التصوف شغل الجدل حول التصوف جانبًا كبيرًا في الحركة العلمية قديمًا وحديثًا؛ بين مؤيد ومعارض، ومستحسن ومستقبح، وبين حديث عن الصوفية الفلاسفة والصوفية الزهاد، والصوفية العلمية والصوفية العملية، وعن أصول الصوفية الإسلامية وأصولها في الديانات الأخرى، إلى غير ذلك من القضايا التي تشغل قاعات البحث والدرس. وبعيدًا عن كل ذلك سأستعرض هنا بعض رؤى د. علي جمعة الصوفية؛ ليتبين للقارئ حقيقة دعوى موافقة صحيح الشريعة، والعلاقة بالبدع والخرافات، والفلسفات المختلفة. * يظهر التكلف في الاستدلال لتبرير الطوام العقدية في مثل قوله: "عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة، يكتبون ما يسقط من نوى الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة؛ فليناد: أعينوا عباد الله) قال عن سنده الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات، وفي الحديث دليل على الاستعانة بمخلوقات لا نراها، قد يسببها الله عز وجل في عوننا، ونتوسل بها إلى ربنا في تحقيق المراد كالملائكة، ولا يبعد أن يقاس على الملائكة أرواح الصالحين، فهي أجسام نورانية باقية في عالمها" فالدكتور علي جمعة يستحسن طلب العون من أرواح الصالحين، مع أن هذا الحديث إن صح فمتعلق بصنف خاص من الملائكة الحاضرين؛ حيث ينص الحديث على أنهم ملائكة في الأرض سوى الحفظة، في أمر مخصوص أقدرهم الله عز وجل عليه، وهو إذا أصابت المرء عرجة أي شيء في رجله، وعلمنا هذه القدرة بالوحي، فلا يقاس على ذلك بقية الملائكة كجبريل وميكائيل؛ لأن لكلٍ ما أمره الله به،

ولا يقاس على ذلك بقية الأمور التي تصيب الإنسان؛ لعدم النص، أما قياس أرواح الصالحين على الملائكة، وزعم أن أرواحهم تشترك مع الملائكة في الوظائف التي أمر الله الملائكة بأدائها، فخيال مريض أشبه ما يكون بتناسخ الأرواح الذي يقول به أتباع بعض الديانات الهندية وبعض طائفة الحشاشين الباطنية. والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬1) وأخشى أن نجد من يفهم أن هذه الآية خاصة بكفار قريش ومعبوداتهم، ولا تعم من بعدهم!!!. * وفي خلط عجيب وفلسفات أعجب يقول د. علي جمعة: "وكان للقاء لينجز برينيه جينو عظيم الأثر في ظهور أنوار الهداية التي اجتمعت فيما عرف بمدرسة التراث، وقد كان من أحد نتائجها الحاسمة نقد العالم الحديث في تضخمه المادي، واكتشاف الحكمة التي تربعت في قلب كل الأديان، سواء أكانت الزرادشتية أو البوذية أو الهندوسية، ثم اليهودية والمسيحية والإسلام، تلك الحكمة التي هي النور الفطري الذي خلقه الله في قلوب الناس، والذي منه يمكن دعوتهم إلى الحق، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2) وقد عاش في نور تلك الهداية حتى ¬

(¬1) سورة فاطر، الآيتان 13 - 14. (¬2) سورة الروم، الآية 30.

نهاية حياته المباركة ... إن الأزرق هو لون اللامتناهي، وهو يتطابق مع الرحمة، إذ إن {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1)، فأعظم رمز لهذه اللانهائية هو السماء المحيطة بالكل، أما الاسم الإلهي لها فهو الرحمن، وهو أول أسماء الرحمة، والوحي يعبر عن الجذور الجوهرية للرحمة. إذا كان الأزرق يحرر بواسطة اللانهائية، فالذهبي مثله في ذلك مثل الشمس يحرر، لكونه رمزًا للروح، فهو بالتالي يتعالى عن كل عالم الصور، إن اللون الذهبي من ذات طبيعته يفلت من قيد الصور إلى درجة أن الخطاط الذي يكتب باللون الذهبي عليه أن يخطط حواف كتابته باللون الأسود حتى يعطيها الأثر الفعال من الناحية الصورية، ولكونه لون النور، فإن الذهبي مثله في ذلك مثل الأصفر، وهو رمز ذو صلة جوهرية بالعلم خارجيًا، هو يعني التدريس والظهور أو التجلي، أما الأزرق في حضور الذهبي فهو يعني أن الرحمة ميالة إلى الكشف عن ذاتها، وما ذُكر قليل من كثير عن (مارتن لينجز) وأعماله التي كان لها وسيبقى ذلك المغزى العميق في عالم مضطرب" (¬2). ويقول كذلك: "ذكر بعض أكابر الصوفية أن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال، وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية، فيظهر فيه صور مناسبة لتلك ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية 156. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: رحيل الشيخ أبي بكر سراج الدين، بتاريخ 11 - 6 - 2005.

المعاني، وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط، فيظهر فيه صور تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ، وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور، كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلاً قويًا فتظهر صورته في خياله فيشاهده، وهي أول مبادئ الوحي الإلهي" (¬1). * أما سر غلوه في مشايخه رغم ما قد يطالعه من شطحاتهم فيتضح من قوله: "المقام أمر مستقر، يجد العابد نفسه فيه، إذا ترقى إليه لا يهبط منه، فإن الكريم إذا وهب ما سلب، هذه من قواعد الطريق؛ الكريم وهو الله، إذا وهب الإنسان هبة معينة، بأن أعطاه سرًا من الأسرار، أو أكرمه بنور من الأنوار، أو فتح عليه بفتح من الفتوح، أو علمه قضية من القضايا، أو رقاه إلى مقام من مقامات العبودية، فإنه سبحانه لا يسلبه، ولكن قد يسلب ثوابه والعياذ بالله، وهذا يسمى الخذلان، نعوذ بالله منه، ولذلك فإن أولياء الله ليسوا معصومين، بل هم معرضون تحت قدر الله سبحانه وتعالى للمعصية، ومعرضون أيضًا للسلب، والسلب هنا هو سلب المكانة وليس سلب المقام، يعني تجده هو نفسه يشعر بما يشعر به، ولكنه يسلب بمعنى أنه عندما عصى الله تعالى وأصر على عصيانه فإن الله سبحانه وتعالى يسلب منه ثوابه، يوقف الثواب لكن ما وصل إليه من مقام فإن الكريم إذا وهب ما سلب" (¬2)، وقال د. علي جمعة كذلك: "فأما الرسل والشيوخ فلا يأمرون بمعصية الله أصلاً، ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 333 - 334. (¬2) كتاب الطريق إلى الله، ص 121.

فإن الرسل معصومون من هذا والشيوخ محفوظون" (¬1) ويبدو أنه نسي أن الشيطان الرجيم كان يعبد الله مع الملائكة ثم كفر فسُلب المكانة وسلب المقام، ولكن ما حيلتنا مع القواعد المخترعة!!. * ويزعم د. علي جمعة أن الأنوار تحصل لمن اتصف بالعبادة؛ سواء كانت العبادة لله أو كانت العبادة لغيره، فنجد قوله: "هناك نوع آخر من الانشغال أخفى وأدق من هذا، وهو الانشغال بالأسرار أو الانشغال بالأنوار؛ فالعابد يعبد ربه، فيمتلئ قلبه نورًا وهو جالس في الخلوة، وهي مظلمة ليس فيها كهرباء، فإذ بها تضيء، فيجد لذة في قلبه، ويجد نورًا في قلبه، وكل هذا من أنوار الملك، وهذا يحدث للمسلم وللكافر، الرهبان في الكنائس يحصل لهم هذا، والبوذيون والهندوس يحصل لهم هذا، يحصل لهم من أنوار الملك، فإن انشغل بها السالك إلى الله عن الله؛ كأن تكبر، أو فرح بها، أو استغلها، أو عبد الله لتحصيلها، بأن يذكر الله تعالى وقلبه ملتفت إلى أن ينور اليوم مثلما تنور بالأمس، فهذا لعب؛ لأنه قد توجه إلى الصوارف دون الله تعالى، وانشغل والتفت، وملتفت لا يصل، وأعمق من هذا ما كان من أنوار الملكوت؛ لأنه ينكشف له الملأ الأعلى، فلو انشغل به عن الله فإنه يكون غير مؤدب ولا يصل" (¬2). * أما عن المصطلح الذي أسموه الحب الإلهي؛ فيقول عن أبي الحسن الديلمي وكتابه عطف الألف المألوف على اللام المعطوف: "كان صديقًا للحلاج المتوفى عام ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 318. (¬2) كتاب الطريق إلى الله، ص 36 - 37.

309هـ، ولكنه نصح مريديه أن يسلموا له حاله ولا يقتدوا به في شطحاته ... وقد يبدو عنوان الكتاب غريبًا، وهو نتاج تقليد متداول حينذاك في التعبير الرمزي عن علاقة الخالق عز وجل بخلقه، وهي علاقة المحبة والتعاطف؛ فالألف رمز للذات الإلهية التي هي معدن الحب الحقيقي والجمال الخالص، واللام عندهم رمز للوجود الإنساني أو الكون الجامع المتمثل في آدم أو الإنسان، والعلاقة المتبادلة بين الجانبين يرمز لها بالألف واللام أو اللام ألف (لا) التي هي علاقة الألفة والتعاطف والمحبة في أكمل صورها وأصفاها، وهي التي تتجلى في نفوس العارفين، وتملأ حقائقها أفئدتهم حين يجذب الرب زمام إرادة العبد إليه وذلك هو العطف، فيشغله به عما سواه، وإن كان يتذوق في الوقت نفسه مظاهر الجمال في كل شيء" (¬1). * ومن الدعاوى التي لا دليل عليها إلا الظن قوله: "جرت سنة الله تعالى في الفتح على أوليائه ميراثًا محمديًا، كما يقول أهل الله، فلا تنعقد ولاية لولي إلا ليلاً" (¬2) وقوله: "تدخل الخلوة، ولا تكون إلا بإذن الشيخ، فإذا فقدت الشيخ فليس هناك خلوة" (¬3). * أما عن العلاقة بين الشيخ والمريد، ودعواه اطلاع الشيخ على دقائق أحوال المريد، بل ودقائق أحوال نفس المريد، فنجد قول د. علي جمعة: "وقد يكون الشيخ مرشدًا تامًا، وهو الذي يسمى بالوارث المحمدي، الوارث المحمدي يراعي تلامذته ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: عطف الألف المألوف على اللام المعطوف، بتاريخ 25 - 6 - 2005. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: شهر القرآن وناشئة الليل2، بتاريخ 15 - 8 - 2009. (¬3) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 218.

ومريديه حتى على الغير، فإن الله سبحانه وتعالى من شدة صفاء ذلك المرشد الكامل، ومن شدة صقل قلبه، تنعكس على ذلك القلب الأحوال الحادثة مع المريد حتى مع نفسه، فرأوا عن تجربة أنه إذا ما رأى الشيخ المريد فإن الله يكشف له مساوئ ذلك المريد ونقصه، ومع ذلك لا يتأثر لهذا النقص، ولذلك لا نخاف من أن يظن ظنًا سيئًا في المريد؛ لأنه يعلم أن النقص قد استولى على جملة البشر إلا من عصمه الله" (¬1). * وبسبب بحبوحة مصادر التلقي عند د. علي جمعة لا نتعجب من مثل قوله: "إن هذا الطريق الذي بين العابد وبين الله تعالى والذي يفضي في نهايته إلى الله سبحانه وتعالى فيه سبعون ألف حجاب، وفي كل نفس منها عشرة آلاف حجاب، وإن كل نفس ينتقل منها الإنسان إلى ما بعدها فإنه ينتقل باسم من أسمائه تعالى يذكره" (¬2). * وللعبارات الغامضة التي ينتج عنها الغلو نصيبها في فكر د. علي جمعة؛ فيقول مثلاً: "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عظيم، ففضله ونوره أعلى وأتم من نور الملك ونور الملكوت والرهبوت والرحموت والجبروت واللاهوت" (¬3)، ويقول كذلك: "مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم" (¬4). ¬

(¬1) كتاب الطريق إلى الله، ص 19. (¬2) كتاب الطريق إلى الله، ص 43. (¬3) كتاب الطريق إلى الله، ص 66. (¬4) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص59.

* والابتداع في الزهد أساس من أسس تصوف د. علي جمعة، فنراه يقول: "نلقي الضوء على مجمل ما يحدث في الخلوة، فيلبس البياض، ويتطهر، ويقطع علائقه بالدنيا، ثم منهم من كان يصوم، وفي الصيام مساعدة كبيرة للروح في الترقي، ولا يأكلون ما خرج من روح ولا ما كان فيه روح، وكأن الروح تعطل بعض ترقيها، وإن كان سيعود إليها بعد ذلك، ولكن في هذه الأربعين يحاول الإنسان أن يهيئ نفسه من كل جهة، فيمتنعون عما فيه روح، وعما خرج من روح، إلا نبات الأرض ... بل بعضهم زاد على ذلك ألا يأكل مما مسته النار، وعلى ذلك فلا يأكل الخبز؛ لأن الخبز مسته النار، ولا يأكل الطبيخ ولو كان نباتًا؛ لأنه مسته النار" (¬1). وشرح حديث: (لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله) (¬2) فقال: "ومن أجل هذا الحديث كان مشايخنا يأمرون ألا نشرب بعد الذكر، حتى يبقى أثر جفاف الريق باقيًا عند الذاكر، فيشعر بشيء كبير من البركة" (¬3). * وإيجاب ما لم يوجبه الله يتمثل في مثل قوله: "أجمع أهل الله على أنه لا مخرج من ذلك إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب على المسلم أن يلهج بها ليل نهار في ما لا يقل أبدًا عن ألف مرة كل يوم" (¬4). ¬

(¬1) كتاب الطريق إلى الله، ص 76. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر، وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب فضل الذكر، وأخرجه أحمد في مسنده، كتاب مسند الشاميين، مسند عبد الله بن بسر المازني. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: فاذكروني أذكركم، بتاريخ 14 - 8 - 2004. (¬4) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 11.

* أما فلسفة الأوراد فنجدها في مثل قوله: "الورد يبدأ بالبناء، نريد أن نبني شيئًا، وكأنه مخزن نخزن فيه الأنوار والأسرار، فكيف ننشئ هذا؟ فتأملوا في أسماء الله ووجدوا منها سبعة، هذه السبعة تُبنى عليها الأعمدة، ويبنى عليها الباب، وتبنى الأسقف على هذه الأعمدة فتحدد، ثم بعد ذلك جاء الشيخ عبد القادر الجيلاني وقال: إن هذا البناء يحتاج إلى حوائط حتى يكون مخزنًا محكمًا، واختار ستة أسماء للتلاوة بعد السبعة، واختلف أهل الله في هذه السبعة، كيف تتلى؟ فكل شيخ له طريقة في بناء الأعمدة والأسقف والحوائط والمواد التي يستخدمها، هل هي من مسلح، أم أنها أعمدة خشبية، أم أنها أعمدة من مواد بناء الطائرات؟ تختلف، ولكن الفكرة واحدة، وهي وجود مخزن محكم لوضع الأسرار والأنوار فيها، وقد كان كل اسم من الأسماء السبعة له رقم عندهم، فلما اختلط الحال أصبح الجو الذي نعيش فيه مختلفًا عن الجو الذي كانوا يعيشون فيه، فلم يكن هناك أشعة ذرة ولا راديو ولا رادار ولا تليفزيون، حتى يمكنك أن تتصور كيف أن الجو الذي يحيط بنا قد امتلأ بكل ألسنة الأرض وبكل الصور المنقولة، والدليل على ذلك أننا لو أتينا الآن بجهاز تليفزيون وفتحناه، سيأتي لنا كل العالم هنا في هذا المكان، فالذي يحيط بنا قد يختلف عما كان يحيط بالإمام عبد القادر الجيلاني، وهذا يؤثر؛ لأننا ونحن نسير نسير في اتجاه خلق الله، فالبيئة تؤثر، ومن أجل ذلك جعلوها مائة ألف، فنذكر كل اسم منها مائة ألف، إلا إذا حدثت علامات يعرفها الشيوخ، العلامات هذه ليست واحدة، ولذلك لا تقال، إنما يعرفها الشيخ بفراسة وبصيرة، وإذا

ما كلمناه فإنه يقول: انتقل إلى الاسم الذي بعده، يكفينا هذا، وصلنا إلى مقصودنا من هذه المرحلة، والحمد لله الغرض من بناء المخزن قد تم. إذًا فلنبدأ لمن أراد أن يبدأ بذكر لا إله إلا الله مائة، ثم بعد ذلك إذا انتهى منها يدخل في يا الله، ثم يا هو، وكل هذا الكلام موجود في كتاب الهداية لسيدنا الشيخ، خذوه واقرأوه وامشوا عليه على نمط ما وصفه، فرصة أن الشيخ أجاز إجازة عامة لمن عاصره بالأخذ عنه في الطريق إلى الله، وهذه الفرصة لا تتكرر كثيرًا، ولا يقوم به الشيخ إلا بتوفيق من الله، وبإذن مخصوص منه، ومثل هذا لا بد أن الشيخ انكشف له فيه سر، وأذن له فيه، فأذن لنا؛ لأنه لا يستطيع أن يأذن من نفسه أو من هواه؛ لأن هؤلاء الناس تخلصوا من هواهم، فاقرأوا هذا وابدأوا فيه، ثم بعد ذلك يفتح الله سبحانه وتعالى على من يشاء" (¬1). وينصح د. علي جمعة المريد أن يتحر شروط كل ذكر؛ فمثلاً الذكر بترديد (الله الله) له شرط وهو: "نصح أهل الله بألا يذكر هذا الاسم والإنسان عنده ارتفاع في درجة الحرارة، أي أنه يوقفه إذا ما كانت عنده حمى؛ لأن الذكر بهذا الاسم يرفع درجة الحرارة، ولذلك الذكر بالله لا يناسب المحموم، وقد يميته إذا كان صادقًا في ذكره" (¬2). * أما ما يزعمه بعض الغلاة عن علوم الموتى واطلاعهم على ما يجري في الأرض جميعها، وكذلك استخدامهم دعاوى الكشف لتحقيق مآربهم، فيتضح من حوار للدكتور ¬

(¬1) كتاب الطريق إلى الله، ص118. (¬2) كتاب الطريق إلى الله، ص 96.

علي جمعة وقت وفاة حفيد الطاغية الذي حكم مصر بأنواع الفساد والإفساد محمد حسني مبارك، حفيده المسمى محمد علاء مبارك الذي مات في وقت حكم جده، وكان عمره اثنتي عشرة سنة، فادعى د. علي جمعة أن هذا الحفيد يطلع بعد وفاته على الأرض كلها ويفهم جميع اللغات ويدرك جميع الأحداث، وسيدخل الجنة حتى وإن كان بالغًا على حد تعبير د. علي جمعة؛ لأن الكشف بين له هذه الحقيقة المزعومة؛ يقول د. علي جمعة في حوار له بعد دفن محمد علاء: "دعني في البداية أقدم خالص التعازي لأسرة فخامة الرئيس محمد حسني مبارك؛ لشخصه فهو الجد، وألم وفاة الحفيد الصغير على الجد تكون كبيرة، ولكن هو أيضًا الحكيم، هو رب الأسرة المصرية، هو القائد الفارس النبيل، الذي درب وعلم ومنح هذا البلد الكثير والكثير والحمد لله رب العالمين، أنا أتوجه إلى محمد حسني مبارك رئيس الجمهورية بخالص العزاء وأقول له: إننا جميعًا نشاركك في حزنك، لا نستطيع إطلاقًا أن نقول للإنسان: لا تحزن، إنما نستطيع أن نقول له: حول هذا الحزن كما عودتنا في نفسك، كما عودتنا في حياتك وتاريخك، إلى طاقة، طاقة من الحب، طاقة من العطاء، طاقة من العمل، كما كان وعبر التاريخ العلماء والحكماء والآباء والرواد وأنت منهم. أتوجه إلى الجدة حرم الرئيس وأقول لها: محمد اليوم، أنا حضرت جنازة محمد علاء، لم أر في حياتي جنازة عليها هذه السكينة وهذه الروحانية التي كانت على جنازة محمد، شيء عجيب وغريب، ما هذه السكينة النازلة؟ إنها تنزل على هذا الملاك البريء الذي أختاره الله سبحانه وتعالى لحكمة بليغة ... ، ما هذه السكينة والروحانية الحادثة في هذا مع الطفولة، إذًا فهذا

كشف من عند الله لنا يقول: إن محمدًا من أهل الجنة ... أنا فهمت هذا اليوم في جنازة محمد، أنا أقول لعائلة الرئيس وللرئيس وللسيد علاء ولزوجته أم هذا الطفل الملك الملاك أقول لهم: لقد كشف الله لنا في الدنيا أن هذا الطفل ولأنه أخذ طفلاً من أهل الجنة، وأنه يأخذ أبويه إلى الجنة. المذيع محمود سعد: هذه مسألة يا مولانا قول واحد في الدين. د. علي جمعة: قول واحد (مفهاش) كلام. المذيع: طالما لم يبلغ الحلم، ولم يجر عليه القلم، فهو من ملائكة الجنة. د. علي جمعة: حتى لو كان بلغ الحلم، حتى لو كان بلغ الحلم، (ده) ولد عنده (اتناشر ثلتاشر) سنة، (ده) وجهه أنا أقرأ قراءة أخرى، الجنازة عليها رحمة من عند الله، الجنازة يا جماعة عليها سكينة عجيبة، واستمرت هذه السكينة من بدايتها وأثناء الصلاة وبعد الصلاة، يعني شيء غريب عجيب ... لقد كشف الله منقبة محمد، محمد (ده) كان (عايش) في (وسطيكم وبيجري) وكذا إلى آخره وهو محكوم عليه وله بالجنة، هذا المعنى كان خفيًا لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يقوله وهو (عايش)، لكن الآن نستطيع أن نقوله باتفاق؛ لأن الله أظهره لنا بعد وفاته، ... لا أنكر الحزن الذي حل بالبلاد والعباد ... حقائق لا بد أيضًا أن الكبار (يفهموها) إن (محمد سَمِعْنَا دلوقتي)، (ديه) حقيقة وثابتة في الدين، وإن (ده مش) خاص بالأطفال ولا بالكبار ولا بالمسلمين وغير المسلمين، (ده) عملية خاصة بالروح، فالروح عندما تتحرر من الجسد لها اطلاع على ما يجري في الأرض ... فمحمد قاعد (يتفرج) علينا

(دلوقتي)، وقاعد يسمع كلامنا، (وشايفنا إحنا كمان)، (وشايف) الأرض كلها، وأصبحت الروح (إللي إحنا وإحنا) في جسدنا (مش) قادرين (نشوف) إلا حدود ما نراه الآن، هو أصبح متحرر، (وشايف) كل الناس، وفاهم كل اللغات، وهو في هذا الإدراك الذي خرج خلاص من الجسد، أصبح إدراكه روحي، وهذا الإدراك أصبح (إدراك تام متحرر) ... هو الآن يسمعنا ويرانا ويشعر بنا وأشياء كثيرة جدًا" (¬1)!!!. * ومع كل ما سبق فلا نستغرب ألا يبالي د. علي جمعة بالطواف حول القبور؛ حيث يقول: "الطواف حول قبر الولي، فإن الفيصل في ذلك هو نية من يفعل ذلك، فإن كان لا يقصد التوسل بهذا الولي، أو يتشبه بالطواف بالكعبة، فلا شيء عليه" (¬2)!!!. ¬

(¬1) حوار في برنامج البيت بيتك في الفضائية المصرية، يوم الثلاثاء 24 جماد أول 1430هـ 19 مايو 2009م. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص50.

سابعا: الأدب مع الله عز وجل ومع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم

سابعًا: الأدب مع الله عز وجل ومع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن الحديث عن الله عز وجل وعن نبيه صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يحاط بسياج من الأدب الرفيع، يتحرى فيه المرء دقائق ألفاظه وسياق مفردات كلامه وتراكيبه؛ قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬1)، وقال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2). وأمرنا عز وجل أن نفرق بين الحديث المتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم والحديث المتعلق بمن حولنا من الناس، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬3) وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (¬4). وتوعد الله عز وجل من يتجرأ على أذية الله سبحانه وتعالى أو أذية نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (¬5). ولقد فوجئت بالعديد من التعبيرات التي استخدمها د. علي جمعة، مخالفًا ما يجب أن يلتزم به المرء في هذا المقام العظيم، مقام التحدث عن الله جل جلاله، وعن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إما بالإفراط وإما بالتفريط، ومن ذلك: ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية 2. (¬2) سورة الحديد، الآية 16. (¬3) سورة النور، الآية 63. (¬4) سورة الحجرات، الآية 2. (¬5) سورة الأحزاب، الآية 57.

* يورد د. علي جمعة بعض أشعار الفجار التي تسيء الأدب مع الله جل وعلا، ولكن في هذا العصر الذي علا فيه صوت الشعراء الفجار، يعلق د. علي جمعة على هذا الشعر الفاجر بأسلوب سلس لين رغم ما فيه؛ فيقول د. علي جمعة: "قال بعض الظرفاء: إلهي ليس للعشاق ذنب ... لأنك أنت تبلو العاشقين فتخلق كل ذي وجه جميل ... به تسبي قلوب الناظرين وتأمرنا بغض الطرف عنهم ... كأنك ما خلقت لنا عيونا فكيف نغض يا مولانا طرفا ... إذا كان الجمال نراه دينا وقال آخر: خلقت الجمال لنا فتنة ... وقلت لنا: يا عباد اتقون وأنت جميل تحب الجمال ... فكيف عبادك لا يعشقون فرد عليهم الشيخ التقي الأمين السوداني فقال: خلقت الجمال لنا نعمة ... وقلت لنا: يا عبادِ اتقون وإن الجمال تُقىً والتُّقى ... جمال ولكن لمن يفقهون فذوق الجمال يصفي النفوس ... ويحبو العيونَ سمو العيون وإن التقى هاهنا في القلوب ... وما زال أهل التقى يعشقون ومن خامر الطهر أخلاقه ... تأبّى الصغار وعاف المجون وربي جميل يحب الجمال ... جمال التقى يا جميل العيون

وهذا الجدل يظهر كثيرًا من النماذج المعرفية بين المتقين وغيرهم" (¬1). * وفي استخدام تعبير يدل على وصف الإنسان ببعض خصائص الله جل وعلا يقول: "إذا تعلق قلبك بالله صرت عبدًا ربانيًا تقول للشيء كن فيكون؛ لأنك سوف تقبض إرادتك فتصير بإرادة الله راضيًا" (¬2). * أما ما يسميه السُّكْر في حب الله فيقول عنه: "ألا يرى نفسه، يسمون هذه الحالة السكر، سكر بالخمرة الأزلية في حب الله، يعني لا يرى إلا الله فقط" (¬3). * ويلقي بالكلمات الغامضة التي تحمل ظلالاً من الغلو فيقول: "والنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة وغاية المراد من رب العباد وهو المصطفى الكريم" (¬4)، ويقول: "كلما ذكر المؤمن ربه كثيرًا كلما احتاج إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو إنسان عين الموحدين في الحضرة القدسية" (¬5) ويقول: "ليس هناك ما يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أول الأنوار التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وفاضت منه الأنوار إلى البشرية في عالم الروح" (¬6). * وفي مخالفة صريحة لكتاب الله عز وجل يقول د. علي جمعة: "فإذا قال قائل: إنه يعطي الكافر؟ نعم، فهو يحبه ويحب هدايته، لكنه إذا استمر كافرًا حتى يموت على كفره فهو الذي ضيع نفسه" (¬7) مع أن الله جل وعلا يقول: ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: العفاف الظاهر، بتاريخ 12 - 1 - 2009. (¬2) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 158. (¬3) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 176. (¬4) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 90. (¬5) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 98. (¬6) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 156. (¬7) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 110.

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (¬1). * وفي وصف للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إمام الاشتراكية المعتدلة! يقول د. علي جمعة: "وقد صدق شوقي عندما قال: الاشتراكيون أنت أمامهم ... لولا دعاوى القوم والغلواء" (¬2) * وفي تعصب مقيت يقول: "إذا قلنا: إن عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي عقيدة الأشاعرة، سيكون ذلك تقريرًا للواقع" (¬3) وهذا خلاف الأدب، فمهما بلغ به الهيام بمذهب الأشاعرة، فليقل مثلاً معبرًا عما في نفسه: إن عقيدة الأشاعرة هي نفس عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم، فينسب اللاحق للسابق، ولكنه الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * وفي جرأة في الحديث عن نبي الله عيسى عليه السلام، يقول عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "لم يولد من غير أب كما ولد عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأن المثال المحتذى والأسوة الحسنة ينبغي أن يكون إنسانًا كسائر الناس" (¬4) ومفهوم هذا الكلام أن سيدنا عيسى عليه السلام لم يكن مثالاً يحتذى وأسوة حسنة. * وفي دعوى لا دليل عليها يقول: "اليوم المعين الذي ولد فيه المصطفى هو خير أيام الله كلها، منذ خلق الله الأرض ومن عليها بل والكون وما فيه، إلى أن يرجع ذلك إلى ربه" (¬5) فهو عنده أفضل من يوم بعثته صلى الله عليه وسلم ويوم هجرته ويوم ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 32. (¬2) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: حكمة إطعام الطعام، بتاريخ 22 - 12 - 2008. (¬3) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص144. (¬4) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 30. (¬5) كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص 29.

فتح مكة .. إلى غير ذلك من الأيام، بلا أدنى شبهة دليل تدل على ذلك. * وفي إسقاط بعيد كل البعد عن الأسس العلمية يقول: "أقر النبي صلى الله عليه وسلم العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم الوطنية وانتصاراتهم القومية، التي كانوا يتغنون فيها بمآثر قبائلهم وأيام انتصاراتهم" (¬1). * وفي إقرار للعقلية الخرافية التي تتلاعب بدين الله عز وجل يقول: "بل إن الشيخ عليش تكلم عن أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب تأييد آراء العلماء المجتهدين فقال: وسمعت سيدي عليًا الخواص يقول: لا يصح خروج شيء من أقوال الأئمة المجتهدين عن الشريعة أبدًا عند أهل الكشف قاطبة، وكيف يصح خروجهم عن الشريعة مع اطلاعهم على مواد أقوالهم في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ومع اجتماع روح أحدهم بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسؤاله عن كل شيء توقفوا فيه من الأدلة: هل هذا من قولك يا رسول الله أم لا؟ يقظة ومشافهة، وكذلك كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن كل شيء من الكتاب والسنة قبل أن يدونوه في كتبهم ويدينوا الله تعالى به، ويقولون: يا رسول الله، قد فهمنا كذا من آية كذا، وفهمنا كذا من قولك في الحديث الفلاني كذا، فهل ترضاه أم لا؟ ويعملون بمقتضى قوله وإشارته صلى الله عليه وسلم، ومن توقف فيما ذكرناه من كشف الأئمة ومن اجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث الأرواح قلنا له: هذا من جملة كرامات الأولياء بيقين" (¬2) ويقول: "كان المرسي أبو العباس يقول: لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين" (¬3). ¬

(¬1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 373. (¬2) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 167. (¬3) كتاب التربية والسلوك، ص 164.

ثامنا: فتاوى المرأة

ثامنًا: فتاوى المرأة الفتوى أمانة لها أصولها وضوابطها؛ ولها رجالها الذين يحاولون معرفة مراد الله عز وجل في الوقائع التي تعرض لهم؛ وهم بذلك يتحرون سلامة النص وصحة الاستنباط، حتى يكونوا حقًا ممن أمر الله عز وجل بسؤالهم عندما تلتبس الأمور وتشتبه؛ قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). والمفتي يحذر أن تجره أغراض الدنيا وأوباؤها فيخرج عن مقصود الله عز وجل إلى مقصود غيره؛ سواء كان هذا الغير هوى في نفسه، أو غرض مادي أو معنوي، أو حتى الاستجابة لرغبة في نفس غيره؛ حتى لا يكون ممن قال الله جل وعلا فيهم: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (¬2). أما فتاوى د. علي جمعة عامة، وفي القضايا التي تأخذ بعدًا اجتماعيًا مثل قضايا المرأة خاصة، فهي كثيرًا ما تتجاوب مع أجواء التفلت المنتشرة في كثير من أجزاء المجتمع، وهذه أمثلة تبين طريقته في التجاوب مع هذه الأجواء، وبالمثال يتضح المقال: * النظر إلى المتبرجات: أنعم الله جل وعلا على عبيده بنعم كثيرة؛ ومنها نعمة البصر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (¬3). والمؤمن يجتهد في شكر الله على نعمه، ومن أفضل الشكر أن يستخدم هذه النعم في ¬

(¬1) سورة النحل، الآية 43. (¬2) سورة النحل، الآيتان 116 - 117. (¬3) سورة المؤمنون، الآية 78.

طاعة الله، وأن يتجنب أن يعصيه بها؛ ومن ذلك التزام غض البصر عما حرم الله النظر إليه؛ اتباعًا لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة) (¬2) وقوله: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر) (¬3) وقوله: (إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر) (¬4) وأمره لجرير بن عبد الله لما سأله عن نظر الفجأة أن يصرف بصره (¬5). بل إن الشرع أمر بأكثر من ذلك، وهو عدم استماع الأوصاف التي تقرب إلى الذهن صورة المرأة الأجنبية، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) (¬6). ووجوب الالتزام بهذا الهدي الإسلامي القويم من الأمور المعلومة المشتهرة لدى المسلمين؛ لكن د. علي جمعة مع كثرة النساء المتبرجات بزينتهن، كان له هوى ما، أورده بطريق ملتو غريب، ذلك أنه أفتى بجواز نظر الرجل المتدين إلى عموم النساء المتبرجات، ¬

(¬1) سورة النور، الآية 30. (¬2) رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في نظر الفجأة. (¬3) رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، ورواه مسلم، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره. (¬4) رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات، ورواه مسلم، كتاب السلام، باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام. (¬5) رواه مسلم، كتاب الآداب، باب نظر الفجاءة. (¬6) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها.

وأراد إيهام القارئ، فكتب مقالة بالأهرام أورد فيها خطابًا من إحدى الكاتبات تذكر فيه أن د. علي جمعة أفتى لها بذلك!!! فكتب قائلاً: "تلقيت رسالة من إحدى الباحثات، وهي الأستاذة صفية الجفري من المملكة العربية السعودية، التي تحمل همًا في قلبها للحالة الثقافية التي نعيشها، قالت في هذه الرسالة التي هي بعينها قد نشرت من قبل بصورة مختلفة، حيث قالت: وقد كنت كتبت في العربية نت مقالاً حملته تساؤلات عن تفصيلة صغيرة في فقه المخالطة، كيف يتواصل المسلم الملتزم مع المرأة غير المتحجبة، وقد يسر الله لي أن أحمل تفصيلتي الصغيرة هذه مع تفاصيل أخرى إلى فضيلة المفتي الشيخ علي جمعة في مكتبه في دار الإفتاء، قبل شهر تقريبًا، قلت لفضيلته: أليس غض البصر هو لأجل حق الطرف الآخر، فإذا أسقط الطرف الآخر حقه، جاز النظر ما لم يكن بشهوة، وذكرت له نص ابن عابدين الحنفي، وما جاء في الفقه الجعفري، من عدم حرمة النظر إذا لم تكن شهوة أو فتنة، قال لي: هذا الفهم هو جوهر ما عليه جماهير الفقهاء، وذكر لي أنه قد تكلم في هذه المسألة في درس له قبل مدة وجيزة" (¬1)!!!. وهذا كلام باطل يخالف نصوص الشريعة التي أوردت بعضها، والعجب أن ينسب هذا إلى جماهير الفقهاء، ولا أدري أي فقهاء يقصد؟!!! ولكنه الهوى يمتزج بالخرافة فينتج عنهما مثل هذه الأقاويل. أما محاولة إلصاق هذه الفتوى بابن عابدين الحنفي، فقد يدخل في قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا ¬

(¬1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: رسالة في أدب الخلاف، بتاريخ 4 - 6 - 2007م.

وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1). ومن باب إظهار عوار هذه المقولة تم الرجوع لمقالتها الموسومة؛ لرؤية نص ابن عابدين المزعوم، فكان الآتي: (ما يستحق الوقوف عنده حقًا هو ما ذكره الإمام ابن عابدين الحنفي في كتاب النكاح، من أن النساء اللواتي يكشفن عن شعورهن لا يحرم النظر إلى ذلك منهن؛ لأنهن قد أسقطن حرمة الأجزاء التي يحرم النظر إليها من أجسادهن، بكشفهن إياها، ونص كلامه هو: تسقط حرمة هؤلاء الكاشفات رؤوسهن في ممر الأجانب؛ لما ظهر من حالهن أنهن مستخفات مستهينات، وهذا سبب مسقط لحرمتهن فافهم). وذكرتْ أن هذا الكلام في كتاب النكاح، وعند الرجوع لكلام ابن عابدين وُجد الكلام في كتاب النكاح، لكنه في باب نكاح الكافر، وهكذا فليكن التدليس!! وأصل الكلام عن ابن عابدين هو في فروع عن حكم المرتدات في ديار المسلمين، وهل تصبح المرتدة منهن في حكم الأمة وتسترق؟ وأن هؤلاء النساء يغلب على الظن ردتهن؛ لأنهن في ممر الأجانب وهن متبرجات بطريقة تدل في ذلك الوقت على استخفافهن بأحكام الشريعة، وينص الأحناف على أن الاستخفاف بالشريعة كفر كما قال ابن عابدين: (لا بد في حقيقة الإيمان من عدم ما يدل على الاستخفاف من قول أو فعل) (¬2) وقال كذلك: (ولاعتبار التعظيم المنافي للاستخفاف كفر الحنفية بألفاظ كثيرة وأفعال تصدر من المتهتكين لدلالتها على الاستخفاف بالدين؛ كالصلاة بلا وضوء عمدًا، بل بالمواظبة على ترك سنة استخفافًا بها بسبب أنه فعلها زيادة، أو استقباحها كمن استقبح من آخر جعل بعض العمامة تحت حلقه أو إحفاء شاربه) (¬3) وقال كذلك: (ما كان دليل الاستخفاف يكفر ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية 58. (¬2) حاشية ابن عابدين، ج4, ص221, ط دار الفكر للطباعة والنشر- بيروت. (¬3) حاشية ابن عابدين، ج4, ص222.

به وإن لم يقصد الاستخفاف) (¬1) وقال: (والاستخفاف في حكم الجحود) (¬2). وأصل الكلام الذي شرحه ابن عابدين: (بالردة تسترق وتكون فيئًا للمسلمين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ويشتريها الزوج من الإمام أو يصرفها إليه لو مصرفًا، ولو استولى عليها الزوج بعد الردة ملكها، وله بيعها ما لم تكن ولدت منه، فتكون كأم الولد، ونقل المصنف في كتاب الغصب أن عمر رضي الله عنه هجم على نائحة فضربها بالدرة حتى سقط خمارها، فقيل له: يا أمير المؤمنين قد سقط خمارها، فقال: إنها لا حرمة لها، ومن هنا قال الفقيه أبو بكر البلخي حين مر بنساء على شط نهر كاشفات الرؤوس والذراع، فقيل له: كيف تمر؟ فقال: لا حرمة لهن، إنما الشك في إيمانهن كأنهن حربيات) (¬3) وشرح ابن عابدين هذا الكلام فقال: ([كأنهن حربيات] أي فهن فيء مملوكات، والرأس والذراع ليس بعورة من الرقيق، ووجه الأخذ من قول عمر رضي الله تعالى عنه أنه إذا سقطت حرمة النائحة تسقط حرمة هؤلاء الكاشفات رءوسهن في ممر الأجانب؛ لما ظهر له من حالهن أنهن مستخفات مستهينات، وهذا سبب مسقط لحرمتهن فافهم، ثم اعلم أنه إذا وصلن إلى حال الكفر وصرن مرتدات فحكمهن ما مر من أنهن لا يملكن ما دمن في دار الإسلام على ظاهر الرواية، وأما ما مر من أنه لا بأس من الإفتاء بما في النوادر من جواز استرقاقهن فذا بالنسبة إلى ردة الزوجة للضرورة لا مطلقًا؛ إذ لا ضرورة في غير الزوجة إلى الإفتاء بالرواية الضعيفة ولا يلزم من سقوط الحرمة وجواز النظر إليهن جواز تملكهن في دارنا؛ لأن غايته أنهن صرن فيئًا ولا يلزم من جواز النظر إليهن جواز الاستيلاء والتمتع بهن وطئًا وغيره؛ لأنه يجوز النظر إلى مملوكة الغير ولا يجوز وطؤها بلا عقد نكاح، وبهذا ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين، ج4, ص222. (¬2) حاشية ابن عابدين، ج1, ص81. (¬3) الدر المختار، ج3, ص195, ط دار الفكر- بيروت.

ظهر غلط من ينسب نفسه إلى العلم في زماننا في زعمه الباطل أن الزانيات اللاتي يظهرن في الأسواق بلا احتشام يجوز وطؤهن بحكم الاستيلاء، فإنه غلط قبيح يكاد أن يكون كفرًا؛ حيث يؤدي إلى استباحة الزنى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (¬1). هذه هي النقول، وفيها الكلام عن المرتدات والاسترقاق والإماء!! ومن يبتغي الإنصاف يعض بالنواجذ على النصوص الواضحة الصريحة المشهورة مثل ما رواه البخاري عن سعيد بن أبي الحسن أنه قال للحسن البصري: (إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، فقال له الحسن البصري: اصرف بصرك عنهن) (¬2)، أما من لا يبتغي الإنصاف فإنه يفتش عن أي نص يحتمل البتر؛ ليشوش به على النصوص الصريحة القطعية. أما ادعاؤهم أن هذا فقه الجعفرية؛ أي فقه الشيعة الرافضة، فلا حاجة لنا إلى تتبع مصدره؛ لنرى هل أحسنوا النقل أم أساءوا، وهل فهموا كلامهم أم حرفوه عن موضعه؛ لأن عندنا في فقه أهل السنة الكفاية، خاصة في مثل هذه المسألة المعلومة المشهورة، ولأننا رأينا كيف حرفوا ما نقلوه من الكتب المشهورة عندنا فكيف سيفعلون في الكتب المطموسة عند غيرنا، وإلى الله المشتكى. * ختان البنات: الختان من سنن الفطرة التي فطر الله جل وعلا الناس عليها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الفطرة خمس؛ الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط) (¬3)، والختان فطرة لكل من الرجل والمرأة ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين، ج3, ص195 - 196. (¬2) رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}. (¬3) رواه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة.

بعموم هذا الحديث، الذي لا مخصص له البتة، وبذكر النبي صلى الله عليه وسلم لختان المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل) (¬1). والختان من سنة نبي الله إبراهيم الخليل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) (¬2). بل إن الختان شعار هذه الأمة؛ فقد روى البخاري (أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يومًا خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة، قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان، يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر) (¬3). وقد جاء الإسلام والعرب تختن أبناءها وبناتها واشتهر ذلك عنهم، حتى اشتملت اللغة العربية على كثير من الألفاظ المشتقة من هذه اللفظة والمتعلقة بختان الرجل والمرأة؛ فمثلاً يقول ابن منظور في لسان العرب: (ختن خَتَنَ الغلامَ والجارية يَخْتِنُهما ويَخْتُنهما خَتْنًا، والاسم الخِتانُ والخِتانةُ، وهو مَخْتون، وقيل: الخَتْن للرجال والخَفْضُ للنساء، والخَتِين المَخْتُونُ الذكر والأُنثى في ذلك سواء، والخِتانة صناعة الخاتن، والخَتْنُ فِعْل الخاتن الغُلامَ، والخِتان ذلك الأَمْرُ كُلُّه وعِلاجُه، والخِتانُ موضع الخَتْنِ من الذكر وموضع القطع من نَواة ¬

(¬1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجب الغسل بالتقاء الختانين. (¬2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}. (¬3) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي.

الجارية، قال أَبو منصور: هو موضع القطع من الذكر والأُنثى، ومنه الحديث المرويُّ: (إذا الْتَقَى الخِتانان فقد وجب الغسلُ) وهما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الجارية، ويقال: لقَطْعهما الإعْذارُ والخَفْضُ، ومعنى التقائهما غُيُوبُ الحشفة في فرج المرأَة حتى يصير خِتانه بحذاء خِتَانِها ... ، وخَتَنُ الرجلِ المُتزوِّجُ بابنته أَو بأُخته، قال الأَصمعي ابن الأَعرابي: الخَتَنُ أَبو امرأَة الرجلِ، وأَخو امرأَته، وكل من كان من قِبَلِ امرأَته، والجمع أَخْتانٌ، والأُنثى خَتَنَة، وخاتَنَ الرجلُ الرجلَ إذا تَزَوَّجَ إليه، وفي الحديث: (عليٌّ خَتَنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أَي زوجُ ابنته، والاسم الخُتُونة، التهذيب: الأَحْماءُ من قبل الزوج، والأَخْتانُ من قبل المرأَة، والصِّهْرُ يجمعهما، والخَتَنة أُمُّ المرأَة، وعلى هذا الترتيب غيرُهُ: الخَتَنُ كل من كان من قبل المرأَة مثل الأَب والأَخ وهم الأَخْتانُ هكذا عند العرب، وأَما العامَّةُ فخَتَنُ الرجل زوجُ ابنته، وأَنشد ابن بري للراجز: وما عَلَيَّ أَن تكونَ جارِيهْ حتى إذا ما بَلَغَتْ ثَمانِيَهْ زَوَّجْتُها عُتْبَةَ أَو مُعاوِيهْ أَخْتانُ صدقٍ ومُهورٌ عالِيَهْ وأَبو بكر وعمر رضي الله عنهما خَتَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، ابن المظفَّر: الخَتَن الصِّهْر، يقال: خاتَنْتُ فلانًا مُخاتَنةً، وهو الرجل المتزوّج في القوم، قال: والأَبوانِ أَيضًا خَتَنا ذلك الزوج، والخَتَنُ زوجُ فتاة القوم ومن كان من قِبَلِه من رجل أَو امرأَة فهم كلهم أَخْتانٌ لأَهل المرأَة، وأُمّ المرأَة وأَبوها خَتَنانِ للزوج، الرجلُ خَتَنٌ، والمرأَة خَتَنة) (¬1). هذا هو ختان الذكر والأنثى الذي جاء الإسلام وهو منتشر في العرب انتشار النار في ¬

(¬1) لسان العرب، مادة ختن.

الهشيم، مع ما فيه من قطع لجزء من أجزاء البدن، وكشف للعورة عند الختان، ونظر الخاتن إلى عورة المختون، وما يصيب المختون من ألم عند ممارسة عملية الختان، ومع كل ذلك من أمور تعم بها البلوى، لم ترد في الشريعة البتة شبهة دليل تدل على مجرد التنفير من ختان الإناث، مما يدل على مشروعية ختان الإناث؛ حيث أقر الإسلام حصول تلك الأمور من كشف عورة، ونظر لها، وقطع جزء من البدن، وحصول ألم المختون، كل ذلك لتحصيل المصلحة الأعلى، وهي تطبيق سنة الختان وما أودع الله فيه من المصالح. وقد اتفق الفقهاء عبر تاريخ الأمة الطويل -ما عدا من شذ منهم في ظل الاحتلال العسكري والثقافي في القرن الأخير- على مشروعية ختان البنات، والحث عليه، والترغيب فيه، وإن كانوا اختلفوا في مقدار هذه المشروعية، فعبر بعضهم بأن ختان الإناث واجب، وعبر بعضهم بأنه سنة أو مستحب أو مكرمة، لكن لم يدر بخلد أحدهم أن ينفر عنه، أو يستهجنه، أو يفتي بمنعه أو بتحريمه، كما يفعل البعض الآن. أما د. علي جمعة فقد كان سابقًا يتبع أئمة الفقه ويفتي بمشروعية ختان الإناث، بل ويهاجم الذين يحاولون منعه، بل ويفند ادعاءاتهم ويتهكم على فهمهم، ثم لما دار الزمان دورته، وتقلد المنصب، واشرأبت إليه الأعناق، انضم لمعسكر المحاربين لختان الإناث، وأتى بافتراءات لم يسبقه إليها أحد، بل وتجرأ على النيل من نساء آل البيت الأطهار وبنات النبي صلى الله عليه وسلم، فسحقًا للمناصب التي تصد عن سبيل الله. * قال د. علي جمعة: "ختان الإناث من العادات وليس من الشعائر، والدليل على ذلك خلو الكتاب الكريم والسنة المطهرة في صحيحها من هذه العادة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يختن بناته أبدًا، كما لم يأمرنا بذلك؛ ولذلك فهي

عادة، وليست عبادة" (¬1) إن دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختن بناته دعوى وقحة فاجرة، فيها تجرأ على الهاشميات العفيفات الطاهرات نساء آل البيت المصونات، ولا دليل عليها سوى الجهل بها، ومعلوم أن الجهل بالشيء ليس علمًا بضده، وعدم ذكرها في كتب التاريخ ليس نفيًا لوقوعها، وإلا فأين الكلام على ختان أبناء النبي صلى الله عليه وسلم الذكور، وأبناء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ وهل يرضى د. علي جمعة أن يتكلم أحد عن بناته هو أمختتنات هُنَّ على مذهبه القديم الذي ترعرعن في ظله، أم غير مختتنات على زعمه الجديد؟ وقد كرر د. علي جمعة هذه الفرية في كتابه البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل ص102، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) (¬2). * وقد أفرد د. علي جمعة مقالة في جريدة الأهرام يبث فيها مزاعمه، جاء فيها: "تقرر عند علماء الحديث أنه لم يصح في ختان الإناث حديث، وأن كل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة لا تقوم بها حجة" (¬3) مع أن رأي د. علي جمعة القديم كان يقول بصحة الحديث في ختان الإناث، وصحة حديث أم عطية وهو نص في ختان الإناث، فيقول د. علي جمعة: "ورد الختان في حديث أم عطية الأنصارية أنها قالت: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تختن، وهذه المرأة التي كانت تختن غير أم عطية الراوية، أم عطية الأنصارية تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تختن تسمى أم عطية، أي أن الخاتنة كان اسمها أم عطية، فقال لها: (أشمي ولا ¬

(¬1) كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 75. (¬2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. (¬3) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان ختان الإناث 2، بتاريخ 13 - 8 - 2007.

تنهكي، فإنه أحظى للزوج وأنضر للوجه) فهنا يوجد نص، وهذا النص وهذا الحديث روي بطرق كثيرة وهو حسن، وكل العلل التي أرادوا أن يخرجوها فيه ليست ثابتة وعلماء الحديث حكموا بحسنه" (¬1) ويقول د. علي جمعة بصريح العبارة: "إن إنكار وجود الختان في الأحاديث أمر مردود عليه، وليس على ما ينبغي، فقد وردت قضية الختان في الحديث عن عائشة قالت: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا) وعن عائشة قالت: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا) فورود الختان موجود في السنة، وقد فصل الفقهاء هذا الأمر تفصيلاً يزيل أي لبس عند الناس؛ فقد قال الشافعية: إن ختان الأنثى واجب، أما الحنفية والحنابلة فقالوا: إنه سنة، وللإمام أحمد فيه روايتان: الأولى: أنه سنة، والثانية: أنه واجب، أما الحنفية الذين قالوا بأنه سنة؛ فإنهم قالوا: إذا تركها أهل البلد جميعًا حوربوا عليها، وهذا الكلام نحن لا نتمسك به كثيرًا ولكنه وارد في الشرع ووارد في الفقه" (¬2)!!! وهذا الكلام يرد كذلك على ما ادعاه على فقهاء الإسلام في مقالته المذكورة في الأهرام حيث قال: "عندما نُسأل عن وجوب أو سنية ختان الإناث، ونجيب بأن الفقهاء قالوا بأنها مكرمة، نعني أنهم نفوا عنها صفة الوجوب، ونفوا عنها صفة السنة، وبذلك فقد نفوا عنها صفة التشريع، وجعلوها من العادات، فإذا كانت العادات، فإن الأمر فيها مردود إلى الخبراء، وإلى ¬

(¬1) كتاب الكلم الطيب، ج1، ص203. (¬2) كتاب الكلم الطيب، ج1، ص211.

البيئة، وإلى النفع والضرر المحيط بها، ولما كان السقف المعرفي للطب القديم بعضه يقول: إنها لا تضر، ولا تنفع، وبضعه يقول: إن فيها شيئًا من النفع، فقد قال الفقهاء بناء على كلام الأطباء إنها مكرمة، ويفهم بعض الناس من نقلنا عن الفقهاء أنها مكرمة أنها مرغوب فيها، والأمر ليس كذلك، بل كلمة مكرمة هنا تكلم بها الفقهاء بناء على المعارف الطبية، وليس بناء على الشريعة الإسلامية"!!! ثم انتقل د. علي جمعة للكلام على الطب فقال: "المعارف الطبية أخذت في التطور والرصد للحالات والبحث الدقيق حتى استقرت الآن على الضرر البليغ لختان الإناث فيما هو إجماع بين المتخصصين في هذا الشأن، والطبيب الذي يخالف هذا الإجماع، تراه غير متخصص فيه، وتراه يتكلم بطريقة غير علمية، وقد تتعلق بأمر آخر غير العلم من ثقافة سائدة أو ظن أن الشريعة تأمر به، فيكون متحرجًا أو غير ذلك" مع أنه كان يسمي ما يزعمونه من كلام للأطباء عن ضرر الختان دجلاً علميًا، فنرى له هذه الفتوى: "السؤال: السلام عليكم، هناك سؤال في موضوع الختان، هناك طبيب تكلم عن هذا الموضوع وبعض شيوخنا، قالوا في الجرائد: إن هذا الموضوع خطأ على البنات، فأنا أسألهم: هل والدتك لم تعمل هذا الموضوع؟ وأنا، وعندي بنت الآن أجريت لها عملية، فليس كل شيء يريده الغرب نأخذ به، فما رأيكم؟ الجواب: لقد قلنا: إن هناك ما يسمى بالدجل العلمي، والدجل العلمي يكون عندما يخلط ما بين الممارسة المخطئة وبين أداء الشيء، وعندما لا يفرق بين الدرجات الأربعة للختان، وعندما لا يفرق بين الأحكام

الشرعية وتوجيهاتها ووضعها في الشريعة وبين الممارسات التي تمارس في المجتمعات، كل هذا نوع من الدجل العلمي ضد هذا التوجه الذي تبناه الأستاذ الدكتور محمد فياض، قلنا أسماء الأطباء الذين كتبوا ونقلوا من المراجع العلمية الغربية والشرقية، ومن التجربة، ومن الأبحاث: الدكتور منير فوزي، والدكتورة سوسن الغزالي، والدكتور حاتم شلبي، والدكتور عادل عبد الفتاح، والدكتور يحيى زايد، والدكتور محمد الملط، في مجموعة كبيرة ضخمة جدًا ألفوا بالإنجليزية والعربية عن هذه المسألة أبحاثًا علمية دقيقة ومكتوبة في الكتب المرجعية التي لا تريد مثل هذه الغوغائية حول هذه القضايا، نحن ندعو علماءنا إلى كثير من التأني عندما تأتي الأمور من الخارج حاملة معها رياح تغيير الشخصية المسلمة" (¬1). ويمضي د. علي جمعة في مقاله بالأهرام ليخلص إلى تحريم الختان!!!؛ فيقول: "الختان أربعة أنواع؛ النوع الأول منه يتم فيه نوع من القطع أي الجرح وليس الاستئصال، والأنواع الأخرى يتم فيها الاستئصال، وأن النوع الأول هو الذي أقره الأطباء قديمًا، وهو المفهوم من الحديث الضعيف الذي لا تقوم به حجة: (أشمي ولا تنهكي) وهو الذي صرح به الماوردي فيما نقله عنه ابن حجر العسقلاني، وتبعه النووي في ذلك، من أن المقصود هو القطع لا الاستئصال، وأن الأنواع الثلاثة إنما هي عدوان يستوجب القصاص أو الدية، وأن الدية فيها تصل إلى دية النفس، في حين أن النوع الأول وهو أخفها إنما هو من العادات المرتبطة بالمعارف الطبية، وحيث أجمع الأطباء ¬

(¬1) كتاب الكلم الطيب، ج1، ص213

المتخصصون أهل الفن الكبراء، وأطبقت كلمتهم على ضرر هذا الفعل، فقد وجب القول بمنعه، وتحريمه، وتجريمه، وليس في ذلك تجريم لسنة قد تركها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم كما يدعي بعضهم" فيا ويحه ما أجرأه!!! ويمضي في مقاله بعد أن حرف كلام الأئمة السابقين ليحرف كلام الأئمة المعاصرين فيقول: "يعترض بعضهم أن بعض علماء الشريعة الكبار كالشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ عطية صقر رحمهما الله وبارك فيهما وفي علمهما، في سنيننا المتأخرة أصدروا الفتاوى بأنه سنة أو واجب، وأقول بكل ثقة: إن ذلك منهم كان استمرارًا على المنهج الذي يرفض محض الآراء، والتقليد للآخرين، وأن نترك شيئًا من موروثنا من أجل هذه الآراء أو الرغبات، أو ذلك التقليد، أما لو اطلع على تلك الأبحاث المتكاثرة، وهذا الاتفاق الذي أُطبق عليه، فإنهم يرجعون إليه كما علمونا، فالأمر في غاية الوضوح"!!!. * فتاوى عن زينة المرأة: في تحايل واضح نجد هذه الفتوى: "السؤال: أعمل في إحدى شركات الطيران، وهي تشترط أن تضع المضيفات المساحيق على الوجه الميكب، فهل تصح الصلاة بهذه المساحيق، وهناك رحلات طيران تستغرق 18 ساعة، فكيف أصلي؟ الجواب: الإجابة على هذا ذات شقين: الشق الأول: هذه المساحيق منها ما يحجب الماء عن البشرة، ومنها ما لا يحجب، فإذا كانت تضع من الأنواع التي تحجب الماء، فإنه لا بد من إزالتها، كأن يكون فيها مادة دهنية أو نحوها، مثل المانيكير أو الآيلينر، وأما إذا كانت تضع من الأنواع التي لا تمنع من وصول الماء إلى البشرة فإنها تتوضأ وهي على هذه الحالة. ولكن من الذي يعرف ذلك؟ المرأة نفسها هي التي تعرف هذا، وتعلم ما

يصل بوجوده الماء وما لا يصل، وإن كانت لا تعرف فلتسأل أهل الاختصاص من الصيادلة أو الأطباء. الشق الثاني من السؤال: أنها عندما تكون في رحلة طيران تستغرق من الوقت 18 ساعة أو أقل أو أكثر، مما يجتمع فيه صلاتان أو أكثر، فإنها تستطيع أن تجمع هذه الصلوات عندما تصل، وتصليها بالترتيب وبهيئاتها المعهودة الجهرية جهرية والسرية سرية، وتسقط عنها الرواتب، وهي السنن المتعلقة بالفرائض، لكن تواظب على سنة الفجر والوتر فقط، ولها أن تتنفل متى شاءت في السفر، والنوافل كصلاة الضحى وقيام الليل ونحوهما، ولا حرج عليها في ذلك، وهذا نوع من أنواع التيسير ورفع المشقة، والمشقة تجلب التيسير كما يقول الفقهاء" (¬1). * ونجد كذلك هذه الفتوى: "أعاني من سقوط شعري بكثافة وكثرة غير عادية، نتيجة للاستحمام وغسيل الشعر عند الطهارة من الجنابة، فهل من حل شرعي حتى تكتمل الطهارة دون إيذاء؟ الجواب: إذا كان الحال كما ورد بالسؤال، فمن المقرر فقهًا أن المشقة تجلب التيسير، فإعمالاً لهذه القاعدة فلا يجب عليها غسل شعرها، قال السيوطي في الأشباه والنظائر: وأما المشقة التي تنفك عنها العبادات غالبًا فعلى مراتب؛ الأولى مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء اهـ. أما غسل البدن فلا يسقط عنها في هذه الحالة، إعمالاً للقاعدة الفقهية: الميسور لا يسقط بالمعسور، فالعسر في غسل الشعر لا يسقط به غسل البدن الذي هو ميسور لها. ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص23.

وبناء على ذلك فعلى الزوجة السائلة أن تغسل بدنها دون شعرها، ثم تتيمم، وبذلك تكون قد خرجت من الحرج ورفعت جنابتها" (¬1) مع أنه لو فسر للمرأة المقدار الواجب من غسل الشعر لما قال ما قال. * وعن تزيين المرأة المتبرجة يقول: "تعلم أنها غير محجبة، وتخرج غير محجبة من عندها، وهل عليها حرمة إذا عملت؟ هناك قولان للمذهب: أنه مكروه وأنه حرام، ونحن نفتي في هذه العصور التي نعيش فيها، والتي كثرت فيها الفتن، والتي فر الناس فيها من الدين، نفتيهم بالكراهة وليس بالحرمة؛ لأنه عندما نرى في عهد الخير وانتشار الإسلام وتمكن الناس من الديانة نقول لهم: هذا حرام، حتى نحطاط لدين الله. أما والناس تفعل المعاصي، وتجهل دينها، وتفعل كذا وكذا، فنقول: هذا أمر مكروه فقط، لكن في مذهب الشافعية كما نص الإمام النووي فيه قولان: الكراهة وهو يقابل الصحيح، والحرمة وهو الأصح. إذًا فعلك هذا مع غير المحجبات مكروه، وماذا يعني مكروه؟ يعني لو تركته ستأخذين عليه ثوابًا، ولو فعلته فليس عليك عقاب، تقولين: أفعله أو لا أفعله؟ يجوز لك أن تفعليه، ولكن لو تركته يكون أحسن، تقولين: هذا شغلي وأكل عيشي لا أستطيع أن أتركه، إذًا لا تتركيه؛ لأنه يجوز لك أن تفعليه" (¬2) وكتب النووي كثيرة، وعلى النبيه أن يستخرج منها أو من الكتب التي تنقل عن النووي، أية عبارة فيها الصحيح والأصح، فقد تكون هي العبارة المقصودة!!!. ¬

(¬1) كتاب فتاوى عصرية، ج2 ص18. (¬2) كتاب فتاوى عصرية، الجزء الأول ص 484.

الخاتمة

الخاتمة إن الله جل وعلا حفظ دينه، وأعلى كلمته، وأتم نوره، وجعل الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وجعل فيها من البلاء والفتن ما يميز الخبيث من الطيب، ويوضح الهدى من الضلالة. وكان من حكمة الله وقدره أن ابتلى المسلمين على مر العصور بطائفة، ارتدت ثوب العلم والعلماء، وتكلمت في دين الله جل وعلا، لكنها طائفة مالت عن طريق الحق، وانحرفت إلى طرق الأهواء والبدع، فكانت فتنة أيما فتنة، عصفت بأمم من الناس، وأودت بطوائف من طلبة العلم، وأضلت عن سبيل الله، لكن الله جل وعلا يأبى إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته، فجعل العاقبة للمتقين، وهتك أستار الضالين المنحرفين. وكان من دين أهل السنة وديدنهم أنهم يقفون ضد انحرافات أهل البدع، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، محتسبين ذلك عند الله تعالى؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فما ارتفعت لأهل البدع راية إلا انتكست، ولا انتصبت لهم قامة إلا قصمت، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬1). ولقد كان هذا الاستعراض في فكر د. علي جمعة جولة سريعة لم تهدف إلى الاستقصاء والاستقراء التام لكل مظاهر الخلل؛ بل اقتصرت الدراسة على بعض المنشور من كتبه، وعدد من مقالاته في جريدة الأهرام، وحوار مرئي واحد، دون هذا الكم الكبير ¬

(¬1) سورة غافر، الآية 51.

من البرامج المرئية والمسموعة، والحوارات، والأخبار، والمقالات (خاصة مقالات الواشنطن بوست)، والتسريبات، وكلام أقرانه الثقات ... ، وقد تم تجنب الحديث عن كثير من القضايا المغلوطة التي ذكرها د. علي جمعة، بل والتي اشتهر بها واقترنت باسمه؛ لأن الهدف هو تقديم أمثلة ونماذج ورءوس أقلام، تبين بعض مواطن الخلل، وبعض نماذج الافتراء؛ ليقيس عليها اللبيب بقية الآراء والأطروحات المماثلة، بعيدًا عن أجواء اللجاج المتكلف والبلبلة الفكرية. وتوضح هذه الدراسة أن انتشار الشبهات وكثرة الاعتراضات التي يواجهها الحق لا تضعف الحق بل لا تضيره؛ لأن الشبهة نتاج التفكير الخاطئ، والفهم المعوج، ومن ظن أن بإمكان فرد أو مجموعة تتبع الشبهات، وبيان زيفها، وتفنيد أباطيلها، فقد أبعد النجعة، وطلب المحال، وأخطأ الطريق؛ ذلك أن عالم الشبهات عالم واسع، لا تكاد آفاقه أن تُرى، ولا يقف المتتبع له على نهاية، فعامة الشبهات هي نتاج خطأ أو جهل أو هوى، وهي أمور تتسع مع اتساع رقعة الخائضين، وتزداد كلما ازداد عدد الجاهلين، ومن أراد الكفاية والطمأنينة فعليه بالعلم النافع واليقين الصادق، وليرد المتشابه إلى المحكم، والمعوج الخفي إلى الواضح السوي، وعندها لن يترك النور الذي عنده للظلمات التي تعتلج في نفس غيره، ولن تزيده كثرة المشككين إلا ثقة وثباتًا، وبهذا تُرد عادية المعتدين مع تنوع طرائقهم واختلاف أهدافهم؛ من الكفار، والمنافقين، والمبتدعة، والجاهلين؛ لأن للحق بريقًا يميزه عن زيف الباطل، مهما اكتسى الباطل من حُلل وحيل. وتبين هذه الدراسة أن فكر د. علي جمعة لا يمثل إلا نفسه، ولا يعبر إلا عن آرائه، وإن حاول البعض عقد صلة بينه وبين فكر الأزهر أو الأشاعرة أو المدرسة العقلية أو الحركية، فهي صلة منقطعة؛ لأن هذه المدارس والاتجاهات لها أطرها المعلومة، أما د. علي جمعة فليس له إطار محدد ولا نسق واضح يسير عليه.

ومن الممكن أن تستهوي بعض الآراء التي انتقدها الكتاب ميل بعض القراء، ويرى أن هذا الرأي أو ذاك له وجه من النظر، وهذا وارد في كل دراسة صغيرة الحجم مشتملة على كم كبير من الرؤى والأطروحات؛ لأن تفصيل الأمور له موطن آخر، وهذه الدراسة اشتملت في صفحات معدودة على عشرات القضايا والآراء والأفكار والأطروحات والعجائب والغرائب، فمن الطبيعي أن يخالف البعض بعض ما فيها، ولكن يبقى بلا شك ما قرره الكتاب من استنكار واستهجان منطبقًا على الكم الأكبر من الآراء التي استنكرها واستهجنها. وأخيرًا: فإن العالم الإسلامي اليوم يمر بمرحلة حرجة، لا مجال فيها للمجاملات الباردة التي تقبل التنازل عن الثوابت والمفاوضة على المبادئ، وهو في أشد الحاجة إلى علماء مخلصين، يقدمون مراد الله عز وجل على كل مراد سواه، بفهم عميق، ورأي سديد، وعمل رشيد؛ لنتخلص من شباك الأعداء التي التفت حول جسد الأمة فأثقلته وأوهنته، ولننزع سهامهم التي أثخنت جسد الأمة وأدمته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

§1/1