الدفاع عن السنة - جامعة المدينة (ماجستير)

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 السنة عند أهل الاختصاص.

الدرس: 1 السنة عند أهل الاختصاص. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (السنة عند أهل الاختصاص) معنى " السنة " و"الحديث " في اللغة والاصطلاح الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنبدأ -بتوفيق من الله- بتعريف موجز عن "السنة" في اللغة وفي الاصطلاح، ونستعرض معانيها عند أهل التخصصات المختلفة؛ تمهيدا للدخول في مفردات المنهج بعد ذلك -إن شاء الله. معنى "السنة" في اللغة: يقول صاحب (لسان العرب): وسنة الله: أحكامه، وأمره، ونهيه. وسنها الله للناس: بينها. وسنة الله سنة أي: بيَّن طريقًا قويمًا؛ قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} (الأحزاب: 38). والسنة: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة. قال خالد بن عتبة الهزيلي: فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها وفي التنزيل العزيز: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (الكهف: 55). وسننتها سنًّا، واست ن نتها أي: سرتها. وسننت لكم سنة أي: فاتبعوها، وفي الحديث الشريف: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزراهم شيء)).

فأول معنى للسنة هي: الطريقة، وفي (الصحاح) للجوهري: السنن أو السَّنن: الطريقة، يقال: استقام فلان على سنن فلان، ويقال: امض على سننك وسنتك أي: على وجهك. والسنة بمعنى السيرة، هذا كلام الجوهري، وسبق كلام صاحب اللسان، وأيضًا نفس الكلام في (القاموس المحيط)، وبالتالي نستطيع أن نقول: أن السنة في اللغة تأتي بمعنى الطريقة، مثل: قوله -سبحانه وتعالى-: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 62). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((تلك سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني)) هذا حديث أو جزء من حديث رواه الإمام البخاري في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، من حديث أنس -رضي الله عنه- في قصة: جاء ثلاثة رهط إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي النهاية قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((تلك سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) أي: هذه طريقتي، فمن رغب عن طريقتي فليس مني. أيضًا سنة الله: هذا منهج الله، وطريقة الله في الذين خلوا من قبل، ولن يغير الله منهجه الذي كان سائدًا وحاكمًا للسابقين من الأمم. إذًا، تأتي السنة بمعنى السيرة، وتأتي بمعنى الطريقة، والمعنيان قريبان من بعضها ليس بعيدين تماما، إنما هما قريبان، صاحب اللسان يقول: وكل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم بعده، قيل: هو الذي سنه، فكأنها تطلق على أول الشيء، ويقال أيضًا السنة في اللغة بمعنى: اللعب. في حديث رواه البخاري في كتاب الجهاد من قول أبي هرير ة -رضي الله عنه- بعد أن ذكر الحديث: ((الخيل لثلاثة)) قال: إن فرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له حسنات. يستن يعني: يلعب ويلهو ويمرح، يعني: معنى الجملة: أن الفرس الذي أعده المجاهد للجهاد به في سبيل الله كل أحواله تصبح في ميزان حسناته حتى في الأوقات

التي يلهو فيها الفرس، ويلعب، ويمرح، ويجري هنا وهناك، ويعدو نشاطًا وفرحًا، وهمة. هذه أيضًا مكتوبة في ميزان حسنات صاحبه ما دام قد أعده للجهاد. السنة في المعنى الاصطلاحي: السنة لها معان متعددة عند أهل كل مصطلح، أو عند أهل كل تخصص من تخصصات العلم، فالسنة مثلًا عند الفقهاء -ونحن نعلم أن الفقهاء معنيون ببيان ما يجب على المكلف، وما يحرم عليه، وما يستحب في حقه، وما يكره، وما هو مباح له، والتي يعبر عنها بالأحكام التكليفية الخمسة. عندنا الواجب، وهو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وعندما أمور شرعية مطلوبة، لكنها قد لاتصل إلى درجة الوجوب في طلبها يعني: مطلوبة. ويستحب للمسلم أن يأتي بها لكنها لم تصل إلى درجة الوجوب. فاصطلح أهل الفقه على تسميتها بالسنة، فإذا كان الواجب هو ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه؛ لأنه حتم عليه أن يفعله، فإن السنة هي ما يثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها. يعني: هي لا تصل إلى درجة الوجوب الذي إذا تركه صاحبه بدون عذر فهو آثم. فهي عند الفقهاء أقل إلزامًا من الفرض. أما علماء الأصول: فإن بحثهم يتجه إلى مصادر الشريعة، واستمداد الأدلة الشرعية من النصوص، واستنباط الأحكام منها. ومن هنا، كان اهتمامهم بالسنة؛ لأنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله تعالى. فهي مصدر من مصادر التشريع عندهم، المصدر الأول: هو كتاب الله تعالى. المصدر الثاني: هو السنة المطهرة.

السنة عند أهل الأصول: ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي. وننتبه إلى أهمية هذا القيد الأخير، مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي. السنة: هي ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلقية، أو خُلقية .. إلخ. هل يعتبر من ذلك الصفات الخلقية والخلقية عند أهل الأصول؟ نحن قلنا: إن أهل الأصول معنيون باستمداد الأدلة من النصوص، فهم يريدون من السنة النصوص التي يمكن أن تستنبط منها أدلة على الأحكام الشرعية. أما إذا كان النص يصف مثلًا خلقا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو مثلًا يحث على أمر فيه من الفضائل، فقد لا يكون في هذه الحالة دليلًا على حكم شرعي، وبالتالي لا يصبح جزءًا من السنة عند أهل الأصول. فإذا كان أهل الأصول قد اصطلحوا على أن السنة هي ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلًا للحكم الشرعيّ فهم لا ينكرون بقية التعريف الذي اصطلح عليه أهل الحديث، إنما فقط اقتصروا من السنة على الجزء الذي يعنيهم في تخصصهم، وهو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير؛ لأن هذه الأمور الثلاثة في نظرهم هي الأمور التي من الممكن أن يستمد منها الدليل على الحكم الشرعي. أيضًا هناك استعمالات لكلمة السنة تفهم في سياقها، مثلًا: قد تطلق السنة، ويراد بها الجانب العملي الذي نقل لنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته الكرام.

أما الحديث: فهو الأخبار التي نقلت لنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. كأن السنة هي الجانب العملي، والحديث هو الإخبار بما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمثلًا: من الممكن أن تقول: من السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من السنة أن يستاك الإنسان عند القيام من نومه، وعند الوضوء، وعند الصلاة، وهكذا السنة في هذه الحالة مقصود بها: الجانب العملي من الإسلام، وقد توضع السنة في مقابلة البدعة، فيقال: هذا من السنة، وهذا من البدعة، والسنة في هذه الحالة معناها: أنها الأمر المتوافق مع أدلة الشرع المستنبطة من القرآن ومن السنة، فهي ليست مقصورة في هذه الحالة على الحديث النبوي، ولا يقصد بها النصوص النبوية فقط، وإنما يقصد بها: الحكم الشرعي المستمد من خلال النصوص الشرعية الواردة في المسألة، سواء من أدلة القرآن الكريم، أو من أدلة السنة المطهرة. فيقال: هذا من السنة، ويقال: هذا من البدعة، فمثلًا: نقول من السنة قص الأظافر، ومن البدعة تركها، أو ترك بعض الأصابع. البدعة في هذه الحالة: هي المخالف لمنهج الشرع، والسنة في هذا السياق: هي ما وافق الشرع المأخوذ من كتاب الله -تبارك وتعالى- ومن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. ولذلك؛ حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) في الحديث الذي رواه الترمذي في كتاب العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة، كجزء من حديث طويل نصه من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: ((صلى بنا النبي -صلى الله عليه وسلم- الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيًا -أي وإن تأمر عليكم عبد حبشي- فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا)) ما هي العصمة من هذا الاختلاف؟

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم محدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) هنا السنة وضعت في مقابلة محدثات الأمور، أي: البدع. ونبه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، فالسنة في هذا السياق هي الموافق لسلوك النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولسلوك الخلفاء الراشدين المهديين من بعده -رضي الله عنهم أجمعين-، ولذلك نستطيع في ضوء ذلك أن فهم بعض أقوال أهل العلم، مثل: قول عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى- وهو واحد من أفذاذ علم الحديث ورجاله، ومن كبار العلماء بالسنة، حينما سئل عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة فقال: الأوزاعي إمام في السنة، وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث، وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما. وإجابة عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى- في مثل هذا الاستعمال، إنما يراد بها الجانب العملي في الإسلام. أما الحديث: فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أقواله، وأفعاله، وتقريراته. ولذلك في هذا المعنى يقول خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتد، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، إلى آخر ما قال -رحمه الله تعالى ورضي عنه-. فهذه السياقات تبين أن السنة عند أهل الحديث هي: كل ما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو كل ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو كل ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو إقرار، أو صفة خَلقية، أو خلقية، حتى الحركات والسكنات في اليقظة، وفي المنام قبل البعثة أو بعدها.

الجوانب التي تشملها السنة من كل الوجوه: ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول نسميها: السنة القولية، ونقصد بها: ما قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- بلسانه من غير أن يكون هذا القول مقترنًا بفعل منه -صلى الله عليه وسلم-. هذه السنة القولية قد تتضمن فعلًا، لكنه حين قالها لم يفعل، فهي سنة قولية، حتى وإن تضمنت الأمر للأمة بفعل، مثلًا: حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: عودوا المريض هو يأمرنا هنا بفعل بزيارة المريض، حين يقول: فكوا العاني، أي: فكوا الأسير، هذا أمر بفعل، أي: علينا أن نعمل على فكاك الأسير بكل الطرق الممكنة، لكنها سنة قولية؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقترن قوله بفعل منه حين قال. أما السنة الفعلية: فهي التي كان فيها فعل. السنة الفعلية فيها عمل، فيها فعل من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد يكون مع هذا الفعل قول، وقد لا يكون هناك قول مع هذا الفعل، بمعنى: أن الرواية التي تردنا قد تقتصر على الفعل فقط يعني: على حكاية فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهي سنة عملية، وقد يقترن مع القول فعل، عندي مثال للفعل الذي لم يقترن بقول، فمثلًا: أمنا عائشة -رضي الله عنها تقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي العصر، والشمس لم تخرج من حجرتها، يعني: والشمس مرتفعة، وهذا رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب مواقيت الصلاة، باب: وقت العصر. هنا حكاية لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس معه قول، وأيضًا مثال آخر: ما قاله أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- حكاية عن صفة صلاته -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجز الصلاة، ويكملها يعني: صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كاملة وتامة، وفي غير إطالة مرهقة. يوجز، لكن بغير خلل، بغير نقصان يوجز الصلاة، ويكملها. وهذا حديث رواه الإمام البخاري في كتاب الأذان، باب: من شكى إمامه إذا طول، وفي بعض النسخ أيضًا باب: الإيجاز في الصلاة وإكمالها، وأيضًا من

حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد، ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته، يعني: لدرجة أن البعض منها قد لا يجد موضعًا لجبهته من الزحام على السجود. هذا أيضًا رواه الإمام البخاري في كتاب سجود القرآن، باب: من سجد لسجود القارئ. وكلها -كما نرى- حكاية لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-. أما السنة الفعلية التي اقترنت بقول، وأيضًا تسمى سنة فعلية؛ لاقترانها بفعل منه -صلى الله عليه وسلم-: فقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: ((صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح وقال: من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)). هنا الرواية تقول صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح. هذه حكاية لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الجانب العملي في الحديث، ومن ذلك نضعه تحت السنة العملية، ثم بعد أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، قال: من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله. وأيضًا في حجة الوداع النبي -صلى الله عليه وسلم- قام بأداء المناسك أمام أصحابه، مثل: الطواف، مثل: السعي، مثل: الوقوف بعرفة، والرمي، والحلق، أعمال الحج، وبعد أن أداها أمام قال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) وهذا أيضًا رواه الإمام مسلم في كتاب الحج، باب: يوم النحر، وباب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ... الخ. الأمثلة على هذا كثيرة على الجانب في الجانب العملي أو فعل السنة مع اقترانها بالقول أو بدون اقترانها.

تعريف الإقرار لغة واصطلاحا.

تعريف الإقرار لغة واصطلاحًا ثم نأتي إلى الإقرار -وهو جزء من السنة-: الإقرار: في اللغة بمعنى الاعتراف، وبمعنى الموافقة، أقررته على كذا يعني: وافقته. أقررته أو قررته. الماضي قرر أو أقر. أقررته: وافقته، وقررته أيضًا وافقته. {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81)، إذًا، الإقرار أيضًا يأتي بمعنى الاعتراف، أقر فلان بكذا يعني: اعترف بكذا، وماعز لما جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقر أربع مرات بفعلته أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا أقر على نفسه أربع مرات، النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله بعض الأسئلة، هذا من ناحية اللغة. أما الإقرار عند أهل الاصطلاح، أو عند اصطلاح المحدثين: لابد أن يتضمن ثلاثة أمور لابد من تواجدها في الإقرار: أولًا: هو من فعل الصحابي. ثانيًا: أن يعلم به النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثالثًا: أن يوافق عليه. إذًا، الإقرار بداية ليس من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا من فعله، وإنما هو من قول الصحابي، أو فعله. ثانيا: النبي -صلى الله عليه وسلم- علم به؛ لأنه لو لم يعلم به لا نستطيع أن

نتأكد أنه قد وافق عليه، فلابد أن يعلم به ولماذا اختار العلماء عبارة: يعلم به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقولوا مثلًا: ورآه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو سمع به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأننا لو قلنا مثلًا: الصحابي فعل فعلًا، واشتراطنا أن يكون هذا الفعل أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكأننا نضيق الإقرار. هب أنه فعل الأمر بعيدًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه في النهاية النبي -صلى الله عليه وسلم- علم به، وهذا هو الأهم. وثم يأتي بعد ذلك الأمر الثالث: وهو هل وافق عليه أم لم يوافق؟ يبقى الإقرار لابد أن تتوافر له الأركان الثلاثة. قد يطرح هنا سؤال، وهو إذا كان الإقرار ليس من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا من قوله، فكيف يعتبر من السنة؟ هو من السنة بموافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه؛ لأنه من فعل الصحابي، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم به، ووافق عليه، ليس شرطًا أن يوافق النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكلام، بل يكفي أن يسكت مثلًا، يسمونه: بالإقرار السكوتي، فمثلًا: بالنسبة للإقرار السكوتي: الحديث المشهور لما وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى قتال بني قريظة -وهم طائفة من اليهود- وكان ذلك بعد غزة الأحزاب وقال لهم: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة))، وسار الصحابة فأدركهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: نصلي العصر هنا، أي: في الطريق. وقال البعض الآخر: لا نصلي إلا في بني قريظة. وكل فريق فعل ما انتهى إليه اجتهاده؛ صلى البعض في الطريق، وانتظر البعض حتى وصلوا إلا ديار بني قريظة، فكانت النتيجة أن خرج العصر عن وقته. لما رفعوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وافق كلًّا من الفريقين على فهمه، وعلى فعله. هذه الموافقة لم ينقل لنا فيها كلام، وإنما ذكرت الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر كلا من الفريقين على فهمه الذي فهمه في نص الحديث، وبالتالي على الفعل الذي فعله بناء على هذا الفعل.

ورغم أن ظاهر الحديث، أو أن نص الحديث واضح في أنه لا صلاة إلى بعد الوصول إلى ديار بني قريظة إلا أن الفريق الذي صلى في الطريق صرف اللفظ عن ظاهره ليس بهواه، وإنما بما يفهمه من شرع الله، وهو أنه قد وردت أحاديث كثيرة، وآيات قرآنية تبين أن الصلاة لها أوقاتها المحددة، ولا يجوز إخراجها عن تلك الأوقات إلا لضرورة أو لعذر مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103)، وغير ذلك. وفي الحديث المتفق على صحته في كتاب الجهاد، عن البخاري وغيره، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: ((سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، أو الإيمان بالله. قلت: ثم أي؟ قال: الصلاة لوقتها)) أي: لأول وقتها. فالفريق الذي صلى في الطريق فهم من هذه الأدلة الشرعية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقصد إخراج الوقت عن حدوده المقررة شرعًا، أو عن زمنه المقرر شرعًا، وإنما يقصد أن نسرع؛ لنصل مسرعين أو مبكرين إلى ديار بني قريظة، فصلوا في الطريق. إذًا، هم صرفوا اللفظ عن ظاهره في ضوء الأدلة الشرعية. وأما الأمثلة الإقرار الكلامي -أي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر بالكلام- فكثير جدًّا، ونكتفي بهذا النموذج مثلًا: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلا على سرية -يعني: أمره أميرًا على سرية- وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم القراءة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الأخلاص: 1)، يعني: يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية، ويقرأ ما شاء الله تعالى له أن يقرأ من القرآن الكريم، ثم يختم قراءته بقل هو الله أحد (سورة الإخلاص). لما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((سلوه لأي شيء يفعل ذلك؟)) فسألوه، فقال الرجل: لأنها صفة الرحمن؛ فأنا أحب أن أقرأ

بها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أخبروه أن الله يحبه)). هذا حديث رواه البخاري في كتاب التوحيد، في الباب الأول منه، ورواه مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} واللفظ الذي أوردناه هنا هو لفظ مسلم -رحم الله الجميع-. إذًا، هذه أمثلة للإقرار، وأمثلته كثيرة جدًّا في السنة. أما الصفات الخلقية: مثل: ما ورد في وصفه -صلى الله عليه وسلم- من حديث البراء بن عازب: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل البائن، وليس بالقصير، وهو وسط بين الطول والقصر. والبراء أيضًا سئل: أكان وجهه -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. يقصد: أن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشرق منير مثل القمر، وليس لامعا فقط مثل السيف. وهذا حديث أيضًا من الأحاديث المتكررة في صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- الخلقية، رواها البخاري في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى الإمام مسلم معظمها أيضًا في كتاب الفضائل، والألفاظ التي معنا من عند البخاري -رحمه الله تعالى- وغير ذلك كثير. كل كتب السيرة عنيت بذكر أوصافه -صلى الله عليه وسلم-، وهي من السنة؛ لأننا لابد أن نعلم ما هي الصفات الخلقية للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكي نتأكد أنه -صلى الله عليه وسلم- قد خلق على نفس الصفات التي وجدت له في الكتب السابقة. وقد ورد ذكره بخُلقه وخَلقه في الكتب السابقة؛ وأيضًا لكي نتشبه بما يمكن أن نتشبه به، وأن نقتدي به من الصفات الخلقية، مثل: هيئة اللحية، وهيئة الشعر، وهيئة المشي، وما إلى ذلك. كل هذه جوانب وإن كانت خلقية، لكننا نستطيع أن نجعلها جزءا من سلوكنا؛ اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وأيضًا لنتأكد أن الله تعالى قد خلقه على أكمل هيئة وأحسن صورة؛ ولكي ندافع عنه -صلى الله عليه وسلم- إذا وصفه أحد في خلقه بما ليس فيه -صلى الله عليه وسلم-.

كل هذه الأسباب وغيرها جعلت العلماء يعتبرون الصفات الخلقية أو الخلقية جزءا من السنة المطهرة، أما الصفات الخلقية: فهي اللباب -الخلق الحسن- مثل: الحلم، والصبر، والشجاعة، والعفة، والطهارة، والاستقامة، والتواضع، وما إلى ذلك، كل ذلك عليه أمثلة لا حصر لها من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن كتب السنة المطهرة. مثلًا: حديث: ((ما خير رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله به)) رواه مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الفضائل، باب: مباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام والأوزار. الأحاديث التي تتكلم عن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرة جدًّا، وهي جزء هام من السنة، وما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو إقرار، أو صفة خلقية، أو خلقية، حتى حركاته وسكناته. في الحديث المشهور: ((التقوى ها هنا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره الشريف ثلاث مرات. العلماء استنبطوا منها أن التقوى محلها القلب، وأنه يجوز للإنسان يستعمل وسائل الإيضاح؛ حتى يبرز المعنى الذي يريد توضحيه. وأيضًا: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، ومازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)) هذا رواه البخاري -رحمه الله- في كتاب الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، وأيضًا رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، ومحل الشاهد فيه: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان متكئا فجلس، وما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. فجلوسه بعد

اتكائه -صلى الله عليه وسلم- يفيدنا: أن الإنسان يغير من هيئته؛ لكي يبين أهمية الموضوع الذي يتحدث فيه. أما الرؤى المنامية: فهي جزء من السنة، وذلك ثابت بالقرآن الكريم في قصة سيدنا إبراهيم في ذبحه لولده: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102)، وولده علم أن هذا وحي وأمر من الله تعالى، فقال له: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102). وعندنا رؤى كثيرة: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا} (الأنفال: 43) فالله تعالى هو الذي أراه {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} (الفتح: 27) فما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله تعالى لهم؛ ولذلك كل كتب السنة جعلت قسمًا منها خاصًّا بالرؤى، على اعتبار أنها جزء من السنة، عند الإمام البخاري رؤى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسماه: كتاب التعبير أي: تأويل الرؤيا، وعند الإمام مسلم سماه: كتاب الرؤيا، وموجود في كل كتب السنة؛ ليدلنا على أن الرؤيا -بالألف- أي: التي يراها النائم في نومه بالنسبة للأنبياء هي جزء من الوحي، أو بالمعنى الأدق: هي صورة من صور الوحي، فهي وحي من الله تعالى لهم؛ ولذلك هو جزء من السنة. بقي الجزء الأخير وهو ما يتعلق بقبل البعثة أو بعدها، بعد البعثة أمر مفهوم؛ أصبح نبيًّا، وصرنا مأمورين بالاقتداء به -صلى الله عليه وسلم-، أما قبل البعثة، ولم يكن بعد نبيًّا، ولم يطلب منا أن نقتدي به قبل نبوته -صلى الله عليه وسلم-: فكيف تعتبر أحواله من السنة قبل البعثة؟ والحقيقة، أهل العلم جعلوا هذا الأمر جزءا من السنة؛ لأن فيه إثباتًا لصدق نبوته -صلى الله عليه وسلم-، يعني: هي لست كل الأمور قبل البعثة من السنة باعتبارها هديًا نقتدي به، وإنما أحواله الكثيرة قبل البعثة تضمنت الأدلة على صدق بعثته، وعلى صدق نبوته، وعلى أنه صادق أمين فيما يخبر به عن الله -تبارك وتعالى.

والقرآن الكريم نفسه استعمل هذا المنهج في إثبات نبوته في مثل قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48). هو هنا يتحدث عن أميته قبل البعث، وأنت كنت أميًّا لا تقرأ {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي: ولو كنت كذلك لارتاب المبطلون المشككون، وقالوا: إن القرآن ليس من عند الله، ولكنه من كلام محمد -صلى الله عليه وسلم-، لكنه أمي لا يقرأ ولا يكتب. وأيضًا: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (الضحى: 6 - 7) إلى آخر الآيات، وأيضا. {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} (التكوير: 22) القرآن الكريم آثر، أو عبر بلفظ الصحبة؛ ليبين للأمة، أو للخلق جميعًا، ولكفار قريش، أنكم صحبتموه مدة طويلة من الدهر قبل أن يبعث، وما جربتم عليه كذبا، ولا جربتم جنونًا، وأنتم الآن تفترون عليه بهذه الدعاوى الباطلة، فلم يقل مثلًا: وما محمد بمجنون، وإنما قال: وما صاحبكم بمجنون؛ ليبين أن هذا الاتهام الظالم ليس له أساس، وأنتم أول من يعلم الكذب في هذا الاتهام؛ لأنكم قد صحبتموه على الأقل مدة أربعين سنة قبل أن يوحى إليه -صلى الله عليه وسلم-. من أمثلة الرؤى التي هي جزء من السنة: ما روته أمنا عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخاطبا إياها: ((أريتك في المنام مرتين -هذا في المنام- إذا رجل يحملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك. فأكشفها فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه)) هذا رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، وفي كتاب النكاح: نكاح الأبكار، وأيضًا في كتاب النظر إلى المرأة قبل التزويج، في كتاب النكاح. ورواه الإمام مسلم أيضًا في كتاب النكاح في النظر إلى المرأة.

إذن الملك الذي جاء على هيئة رجل يحمل أمنا عائشة في سرقة من حرير، يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هذه امرأتك. فأكشفها فإذا هي أنت. وكلمة النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن يكن هذا من عند الله يمضه)) هي كلمة فيها تواضع، أو فيها تفويض الأمر لله تعالى، وإلا فإنها من عند الله. وقد أمضاه الله تعالى، وأصبحت أمنا عائشة من أزواجه -صلى الله عليه وسلم-، وأصبحت واحدة من أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن جميعًا-. أما أحواله قبل البعثة: فنحن عندنا أدلة كثيرة، ومنها: حديث أبي سفيان -رضي الله عنه- وهو في كتاب بدأ الوحي عند البخاري، حينما ذهبت رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل، وسأل أبا سفيان عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، سأله عن أحوال كثيرة قبل البعثة، هل هو فيكم ذو نسب؟ هل كان من آبائه من ملك؟ هل كان يكذب؟ وأجاب أبو سفيان عن أسئلة تتعلق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته، وهرقل سأل أسئلة أخرى عن أحواله بعد البعثة، وعن مضموم رسالته ... الخ. لكن محل الشاهد: الأسئلة التي سألها عن أحواله قبل البعثة، ومنها: هل هو فيكم ذو نسب؟ قال أبو سفيان: نعم، هو فينا ذو نسب. قال: وكذلك الأنبياء يبعثون في شرف أقوامهم. هل من آبائه ملك؟ قال: ليس من آبائه ملك. قال: لو كان من آبائه ملك لقلت: ربما أنه يقصد من هذه الدعوى أن يعيد ملك آبائه. هل كان يكذب؟ قال أبو سفيان: لا، لم يكن يكذب ... الخ. فهنا استنتج هرقل في نهاية الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- صادق مأمون في كل ما أخبر به عن الله تعالى. وصلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 2 علاقة السنة بالقرآن الكريم.

الدرس: 2 علاقة السنة بالقرآن الكريم.

دور السنة مع القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (علاقة السنة بالقرآن الكريم) دور السنة مع القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: ف نتكلم عن مكانة أو علاقة السنة بالقرآن الكريم: هذه السنة التي عرفناها وهي: ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو إقرار إلى آخر التعريف، ما دورها في التشريع؟ ما مكانتها، ما منزلتها؟ هل لها دور مع القرآن الكريم؟ هذا الموضوع مهم جدًّا؛ لأنه يعني يجيب على سؤال، هل من الممكن أن نكتفي بالقرآن الكريم عن السنة المطهرة؟ خصوصًا أننا بعد أن نشرح العلاقة بين القرآن الكريم، وعن دور السنة مع القرآن الكريم، وعن منزلتها في التشريع. سنتعرض لبعض الشبهات التي تتعلق بهذا الموضوع، خصوصًا أن مادتنا هي دفاع عن السنة المطهرة، ونحن نعلم أنه توجد مدرسة، أو تحاول أن تسمي نفسها مدرسة الآن، وتسمي نفسها بالمدرسة القرآنية على زعمهم، وتزعم أنها من الممكن أن تكتفي بالقرآن الكريم، وتحاول أن تثير شبهًا حول منزلة السنة، وأن تستدل على موقفها، وأنها موافق للشرع. نبدأ على كل ببيان دور السنة مع القرآن الكريم، نستطيع أن نقول عن هذا الموضوع يعني: نضع له عنوانًا، فنقول: علاقة السنة بالقرآن الكريم، أو إن شئنا قلنا: منزلة السنة من التشريع، أو إن شئنا قلنا: دور السنة مع القرآن الكريم، من أي عنوان من هذه العناوين نختاره، لكننا نتكلم عن مسألة هامة، كما قلنا تتعلق بمنزلة السنة، وأهميتها في حياة المسلمين، وفي دينهم، وفي ديناهم. السنة لها أدوار مع القرآن الكريم، بادئ ذي بدئ ننطلق في هذا الأمر من المهمة، التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه المهمة قد جاءت في أكثر

من آية، في سورة النحل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)، فالله تعالى قد فوَّض رسوله -صلى الله عليه وسلم- في بيان القرآن الكريم للناس؛ وذلك بنص الآية التي أشرنا إليها. وفي سورة النحل أيضًا قبل ذلك {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 64)، أنت الذي ستبين الكتاب يا رسول الله، وأنت الذي ستبين للناس ما اختلفوا فيه، فالمهمة المجملة الموجزة للسنة، ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي أنها تبين القرآن الكريم في جزء من علاقتها بالقرآن الكريم، لكن هذه إشارة موجزة. لكننا الآن ننتقل إلى التفصيل، فأنواع العلاقة بين القرآن الكريم وبين السنة المطهرة، يمكن حصرها في ثلاثة: أن تأتي السنة موافقة لما جاء في القرآن الكريم، هذه أول علاقة بين القرآن الكريم وبين السنة المطهرة، بمعنى: أن المعنى يأتي في القرآن الكريم، ويأتي أيضًا في السنة المطهرة، فمثلًا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، ويأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره)) إلخ. فأكد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأخوة، بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم))، ((المسلم أخو المسلم)) ما العلاقة بينه، وبين قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}؟ العلاقة علاقة توافق بمعنى: أن المعنى جاء في القرآن الكريم، ووافقته السنة المطهرة بقوله: -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم)) يعني: ((المسلم أخو المسلم)) هذا جزء من حديث طويل، رواه الإمام مسلم في كتاب البر والآداب والصلة، في باب تحريم ظلم المسلم.

إذن العلاقة بين هذه الآية، وبين هذا الحديث هي علاقة الموافقة، وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) ونفس المعنى تقريبًا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه، لم يفلته))، هذا أيضًا حديث رواه الإمام البخاري في كتاب التفسير، باب تفسير سورة هود، ورواه الإمام مسلم في كتاب البر باب تحريم الظلم. الآية قالت: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} يعني: هذا عقاب ربك {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: بسبب ظلمها فإن عقابه أليم شديد، وكذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته))، أي: لن يتركه بدون عقاب، فالآية والحديث توافقتا على إثبات المعنى المقصود، وهو أن عقاب الله شديد للظالمين إذا أخذهم، وأنه قد يتركهم بعض الوقت إملاءً لهم، أو لعلهم يراجعون أنفسهم، فإذا استمروا في غيهم وظلمهم فسوف يعاقبوا. العلاقة في هذه الحالة علاقة توافق أو موافقة، وهذا دور للسنة مع القرآن الكريم، قد لا يقتنع به البعض قد يعقب البعض على هذا، فيقول: يكفينا القرآن، ولا نحتاج إلى أي شيء يوافقه، ومن ثم فإن هذا النوع من أنواع العلاقة بين القرآن الكريم، وبين السنة المطهرة لن يوضح الصورة تمامًا في أهمية السنة، أو في شدة الاحتياج إليها في الإسلام بشكل عام، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا، فنقول: ننتقل إلى النوع الثاني من أنواع العلاقة بين القرآن الكريم، وبين السنة المطهرة، هذه العلاقة أيضًا مأخوذة من الآيات، التي ذكرنها في سورة النحل، يعني: أن الله -عز وجل- {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 64).

إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، فالذي يبين كتاب الله تعالى للخلق جميعًا إلى يوم القيامة، هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعرف الخلق بمراد الله -تبارك وتعالى- الذي يبلغ عن الله هو خير خلق الله، وهو سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، إذن السنة تبين القرآن الكريم، ولولا بيان السنة للقرآن الكريم لما استطعنا أن نفهمه، وبالتالي لما استطعنا أن نطبقه. الأول: نتكلم عن أنواع البيان وأمثلة له، ثم نتكلم عن أهمية المسألة، هذه كلمة موجزة: السنة تبين القرآن الكريم، كيف تبينه؟ تبينه بأنواع من البيان كثيرة منها مثلًا: تفصيل المجمل يعني: السنة تفصل مجمل القرآن الكريم، الشيء يأتي مجملًا، وموجزًا في القرآن الكريم، لا نستطيع أن نفهم المراد منه إلا بعد تفصيله، فتتولى السنة ذلك التفصيل، من ذلك مثلًا: ما ورد في القرآن الكريم عن الصلاة، وأنا هنا سأختار الأمثلة من خلال أركان الإسلام لماذا؟ يعني: أريد أن أقول من خلال هذه الأمثلة، وهي أمثلة مختصرة أو قليلة جدًّا في هذه الجزئية بالذات، يعني أريد أن أقول: إننا لن نفهم أركان الإسلام ولن نستطيع أن نطبقها إلا في ضوء السنة. فمثلًا: الركن الأول بعد الشهادتين وهو الصلاة، ماذا جاء في القرآن الكريم عنه؟ قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103)، فالآية تحث المؤمنين على المحافظة على الصلاة في أوقاتها، وقال -سبحانه-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (البقرة: 43) فعل أمر بإقامة الصلاة ورد في أكثر من سورة، وامتدح الله تعالى المؤمنين، فقال -سبحانه -: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المؤمنون: 9) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المعارج: 34)، وآيات كثيرة أيضًا تبين حث القرآن الكريم على الصلاة، وعلى أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ... إلخ.

هذه الآيات ماذا استفدنا منها؟ تبين أن الله تعالى قد أوجب الصلاة على المؤمنين، لكن لم يبين لنا أوقاتها، ولم يبين لنا الفرائض الواجبة علينا في كل يوم، ولم يبين عدد ركعات كل فرض، وأركان الصلاة، شروط الصلاة، سنن الصلاة غير ذلك مما يتعلق بالصلاة، جاءت السنة الشريفة، وفصلت ذلك المجمل، وعلمت الناس الصلاة، وعلمتهم كل ما يتعلق بتفصيلاتها، ولولا السنة لما عرفنا كيف نصلي، ونقولها بملء الفم لا نستطيع أن نصلي أبدًا الصلاة، التي نعرفها جميعًا بكل تفصيلاتها في ضوء القرآن الكريم وحده، وإنما لا بد من السنة، التي تبين لنا كيف تكون الصلاة بكل ما أشرنا إليه من تفصيلات. ومثل ما نقوله عن الصلاة نقوله عن سائر العبادات، من زكاة، ومن صيام ومن حج، الزكاة أيضًا وردت الآيات تطلب: إيتاء الزكاة، وآيات كثيرة مدحت المتصدقين، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24، 25) إلى آخر الآيات، لكن ما هي تفصيلات الزكاة؟ من الذي يستطيع أن يستخرج لنا من القرآن زكاة الأموال مثلًا؟، يعني: يبين لنا نصابها يبين لنا القدر المطلوب إذا بلغ المال النصاب، يذكر لنا شروط إخراج الزكاة. أيضًا زكاة الزروع والثمار ورد مجملًا {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام: 141) فقط، لكن التفصيلات في زكاة المواشي عروض التجارة الركاز، ... إلخ كل ذلك تكفلت ببيانه السنة المطهرة، وقل مثل ما شئت أو مثل ما قلنا عن الصلاة والزكاة، قل عن الصيام {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) فليصمه فعل مضارع اقترن بلام الأمر فأفاد الوجوب، صيام رمضان واجب على كل مسلم ومسلمة، متى نبدأ الصيام؟ ومتى ننتهي؟ وما هي المفطرات، وما هي كذا وكذا؟ كل ذلك تكلفت ببيانه السنة وكذلك الحج.

والعلماء يقولون: إن القرآن الكريم قد ذكر أركان الحج في القرآن، يعني: قد ذكر أركان الحج في كثير من آياته، مثلًا: ذكر الله تعالى الطواف {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 29)، وذكر السعي {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158)، وذكر الحلق والتقصير {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (الفتح: 27)، ذكر الوقوف بعرفة {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (البقرة: 199)، وهو أهم أركان الحج ... إلخ. لكنه ترك التفصيلات للسنة، ذكره كركن بإجمال، لكن مثلًا هل نستطيع أن نعلم أن يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة؟ هل نعلم أن الوقوف على عرفة يبتدأ من الزوال، حتى المغرب، هل نعلم ماذا نقول في يوم عرفة؟ كل ذلك تكلفت ببيانه السنة المطهرة، أنا لا زلت أتكلم عن نوع واحد من أنواع بيان السنة المطهرة للقرآن الكريم، وهو تفصيل المجمل، وضربت أمثلة بالعبادات، أو بأركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين؛ لأبين أن أركان الإسلام، وما أدراك ما أركان الإسلام بنيانه الأول، الأساس في بنيانه، الذي لن يقبل عمل منه بعد ذلك إلا على أساس هذه الأركان، لن نستطيع أن نفهمها، ولا أن نطبقها إلا في ضوء السنة المطهرة. فكأن الذي لن يفهم السنة، ولن يحتج بها لن يستطيع أن يصلي، ولن يستطيع أن يحج أو يصوم أو يؤدي زكاته ... إلخ وتفصيل المجمل أي: تفصيل مجمل القرآن من السنة لم يقتصر على أركان الإسلام فقط، أنا نضرب الأمثلة بأهم الأشياء، إنما إذا نزلت إلى أمثلة أخرى، فحدث ولا حرج، وأكرر أنني ما زلت في نوع واحد وهو تفصل المجمل، مثلًا: حين يقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ ا} (البقرة: 275) ما هو الربا؟ وما هي الأصناف التي يدخلها، وما هي الأصناف التي لا يدخلها؟ حين يقول مثلًا: البيع {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ما هو البيع الحلال، وما صوره وما شروطه، وكيف يمضي ومتى يفسد ومتى يصح؟ إلى آخر.

تخصيص العام.

تفصيلات هي تفصيلات الحياة ذاتها، أيضًا مثلًا: حين يقول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (النور: 32) الناكح ماذا يفعل، من يخطب وما علاقته بها أثناء الخطبة، وبعد العقد وبعد الدخول؟ كيف يربي أولاده، كيف كيف؟ مال الإنسان الذي في جيبه، لن تزول قدم عبد يوم القيامة إلا بعد أن يسأل، ومن بين ما يسأل عنه، عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، يعني حركة اكتساب المال وحركة إنفاقه، واكتساب المال وإنفاقه هما معًا يمثلان جوانب الحركة الاقتصادية في المال لكل المجتمعات على وجه الأرض، المال في خلاصته عبارة عن اكتساب، وعبارة عن إنفاق. ما هي صور المال الحلال التي يكتسب منها؟ وما هي صور المال الحرام التي يحرم عليه أن أن يتكسب منها؟ ... إلخ كل ذلك تكفلت ببيانه السنة المشرفة المطهرة، ونستطيع أن نمضي مع الأمثلة فيطول بنا المقام جدًّا، وأقول: وما زلنا مع النوع الأول من أنواع بيان السنة للقرآن، وهو تفصيل المجمل، إذن هذا نوع واحد من أنواع بيان السنة للقرآن، يبين لنا أن الناس في عبادتهم، وفي عقائدهم، وفي معاملاتهم، وفي تشريعاتهم، وفي علاقاتهم الاجتماعية يتوقف كل ذلك في أدائه الدقيق الصحيح على السنة المطهرة، ولولا ذلك لما استطعنا أن نقيم بنيان الإسلام. تخصيص العام تخصيص العام يعني: العام هذا لفظ ينطبق على الكثيرين، لو بقي على عمومه لطبقناه على كل الأفراد الذين ينطبق عليهم. إذا أنا قلت مثلًا: كل الطلاب مطالبون بأن يذاكروا هذا الكتاب مثلًا، أي كتاب أقصد؟ كل الطلاب تشمل كل طالب لا أقول: في بلد ولا في كلية، في الدنيا ما دام طالبًا، فهو ينطبق عليه هذا القول؛ لأن لفظ الطلاب لفظ عام، ينطبق

على كل طالب في الدنيا، فإذا جئت وقلت بعد: أقصد طلاب مثلًا جامعة كذا، ماذا فعلت جملة أقصد طلاب جامعة كذا مع الجملة الأولى: كل الطلاب مطالبون بأن يذاكروا هذا الكتاب؟ خصصتها ما معنى خصصتها؟ يعني: قصرت الحكم العام على بعض أفراده، بدل أن كان الحكم عامًّا يشمل كل من يدخل تحت هذا اللفظ، أو تحت هذا العموم اقتصر على بعض الأفراد، فأصبح المراد ليس كل الأفراد، الذين ينطبق عليهم اللفظ العام، وإنما بعض الأفراد فقط، لماذا صرفنا اللفظ العام عن عمومه؟ بذلك المخصص الذي جاء، ليخصص المعنى، أضرب مثالًا من تخصيص عام القرآن الكريم جاءت به السنة المطهرة، وهو مثال مشهور، وتتداوله كل كتب السنة. في آية المواريث، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) هذه آية عامة، الله يوصينا ويكلفنا ويأمرنا بأن يكون توزيع التركة على الوجه، الذي سيذكره ربنا بعد {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (النساء: 11) إلى آخر الأحكام، الآية تشمل كل أصل موروث يرثه فرع وارث، لم تستثن أحدًا أبدًا، كل من سيورث سنسميه أصلًا موروثًا، توزيع إرثه على فروعه الوراثة سيكون على النحو المذكور في الآية. هذا الأصل الموروث يشمل كل واحد، ما دام قد مات وانتقل إلى الرفيق الأعلى، فإن توزيع تركته سيكون على الوجه الذي تضمنته الآية، والآية التي بعدها وكل آيات المواريث، يدخل فيها الأنبياء؟ نعم ما الذي يجعلنا نخرج الأنبياء من الآية بظاهرها؟ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} يدخل فيها الأنبياء، يدخل فيها الأب الموروث، الذي قتله ابنه الوارث؟ نعم هات من خلال الآية ما يمنع

ذلك، فلن تجد، عند اختلاف الديانتين هل يتم التوارث؟ نعم الآية لا تمنع، لكن جاءت مخصصات من السنة، لم يأت مخصص واحد وإنما مخصصات، فمثلًا: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث)) أو برواية أخرى ((لا نورث ما تركناه صدقة)) وهذا رواه الإمام البخاري في كتاب الفرائض، باب قوله: لا نورث، ورواه الإمام مسلم في كتاب الجهاد، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا نورث)). إذن الحديث إذا سألتك: ما علاقة هذا الحديث ((لا نورث ما تركناه صدقة))، وفي بعض الروايات: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) ما علاقته بآية المواريث؟ خصص آية المواريث، الآية بظاهرها الأنبياء يدخلون فيها؛ لأنها لم تستثنهم، ولو لم يأت ذلك المخصص من السنة لطبقنا الآية، أو لطبقت الآية على الأنبياء أيضًا، لكن جاء الحديث وخصص الآية يعني: قصر الحكم على بعض الأفراد، واستثنى بعض الأفراد، ومن ضمن الذين استثنوا هم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-. طيب هل اقتصر التخصيص على هذا الحديث فقط؟ لا حديث آخر: ((لا يرث القاتل))، وهذا رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في (مسنده) في جزء واحد ص49، ورواه أبو داود في كتاب الديات يعني: القاتل ما دام قد قتل أصله الموروث، سواء كان بغرض أن يرث أو بأي غرض آخر، فما دام قد قتله فإنه لا يرثه، حتى ولو كان من أصحاب الفروض، كأن يكون ابنًا أو أخًا أو زوجًا أو زوجة، ما دام قد قتل فإن القتل منع الإرث؛ ولذلك علماء الفرائض يدرسون لطلابهم موانع الإرث، ومن بينها ألا يكون الوارث قد قتل أصله الموروث. يعني: خصصنا الأنبياء استثنينا الأنبياء، واستثنينا أيضًا القاتل، استثنينا ((الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر))، وهذا نص الحديث: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر مسلمًا))، وهذا رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-

في كتاب الفرائض باب: لا يرث المسلم الكافر، وأيضًا رواه الإمام مسلم في أول كتاب الفرائض، من حديث أسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنهما، إذن أصبح للآية ثلاثة مخصصات. المخصص الأول: حديث ((لا نورث ما تركناه صدقة))، والمخصص الثاني: ((لا يرث القاتل))، والمخصص الثالث: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر مسلما))، وكأن معنى الآية بعد هذه المخصصات، أو بعد هذا التخصيص كله، هو أن كل موروث من أب أو أم، أو أي موروث يرثه أبناؤه، أو يرثه أصحاب الفروض، يرثونه إلا أن يكون الموروث نبيًّا فإن الأنبياء لا يورثون، وإلا أن يكون الوارث قاتلًا لأصله الموروث، فإنه في هذه الحالة لا يرث، وإلا أن يختلف الدين بين المورث أو بين الموروث والوارث، فإن في هذه الحالة لا توارث، ويقتصر الأمر على ما سوى ذلك من أصحاب الفروض على الوجه، الذي ذكرته الآية كما ذكرنا. ولولا السنة لطبقنا الآية على غير مراد الله، فالذي بين مراد الله تعالى، وكما قلنا: هو أعلم الخلق بمراد الله هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو المبلغ عن الله، وهو الذي أوكل الله تعالى إليه بيان مهمة ما في القرآن الكريم، وهو الذي نأخذ عنه بيانه للقرآن الكريم؛ ولذلك اصطلح العلماء جميعًا على أن أولى التفاسير، التي يفسر بها الآية القرآن يفسر بعضه بعضًا، ثم ننتقل إلى السنة، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أعلم الأمة بمراد ربه -جل في علاه-. هذا مثال آخر لتخصيص العام في سورة الأنعام، نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) هذه الآية معناها بإيجاز: أن الذين لهم الأمن ولهم الهداية هم فقط، الذين آمنوا،

ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ما معنى لم يلبسوا؟ الذين آمنوا ولم يلبسوا: أي ولم يخلطوا إيمانهم بأي نوع من أنواع الظلم، هؤلاء فقط الذين لهم الأمن ولهم الهداية. ما هو الظلم؟ الظلم هو وضع الشيء في غير محله، أي شيء تضعه في غير محله هذا ظلم، هذا المعنى العام للظلم، من يستعمل نعمة البصر في غير ما خلقت له بأن يسلطها مثلًا للنظر على الحرام، أو انتهاك الحرمات، أو ما شاكل ذلك هذا ظلم؛ لأنه استعمال للنعمة في غير ما خلقها الله، أو ما أراده الله لها، أيضًا من يسلط نعمة السمع فيستمع للحرام، ولا يستمع للذكر أو للقرآن أو العلم، أو ما شاكل ذلك هذا ظلم. وهكذا لو استعرضنا صور الظلم سنجده يشمل كل جوانب حياتنا، فأي شيء تستعمله، وتضعه في غير محله الشرعي، فأنت ظالم على هذا المعنى، هل يوجد أحد من المسلمين لم يظلم نفسه؟ كلنا قد وقع في الظلم بشكل أو بآخر، ومن الذي لم يفعل يومًا أمرًا، أو لم يضع شيئًا في غير موضعه؛ لذلك؛ ولأن الصحابة يفهمون هذا المعنى العام للظلم، وأقول: المعنى العام؛ لأننا أمام مثال لتخصيص العام، وجلت قلوبهم واضطربت أفئدتهم، خافوا أهؤلاء فقط الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، هؤلاء فقط الذين لهم الأمن ولهم الهداية؟ إذن هم لقليل. ولذلك خافوا ورفعوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحديث عند البخاري رواه بسنده إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: ((لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الأنعام: 82) قلنا -أي: الصحابة-: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ -أي من منا الذي لم يظلم نفسه- قال -صلى الله عليه وسلم- هنا يوضح لهم هذا بيان السنة للقرآن يوضح لهم الآية والمقصود بها، ويخصصها لهم كما سنقول فيقول لهم -صلى الله عليه وسلم-: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: بشرك أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ})) (لقمان: 13)؟ هذه الآية في سورة لقمان جاءت في القرآن على لسان لقمان، وهو يعظ ابنه.

تقييد المطلق.

إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر الظلم في آية الأنعام ليس بالظلم العام، وهو وضع الشيء في غير محله، وإنما قصره على بعض أفراده يعني: ليس المراد كل أفراد الظلم أو كل أنواع الظلم، وإنما المراد بعض أنواعه فقط وهو الشرك، واستدل على هذا المعنى بقول الله تعالى على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)، وأيضًا الشرك ظلم؛ لأن الشرك في هذه الحالة وضع للعبادة في غير محلها، يعني: هو من أنواع الظلم العام أيضًا، وينطبق عليه ذلك؛ لأنه كما قلنا: وضع للعبادة في غير محلها. والمهم أن حديث: ((ليس كما تقولون))، وفسر الشرك بالظلم، واستدل على ذلك بآية لقمان، إنما هو تخصيص من السنة لعام القرآن الكريم، السنة تفصل مجمل القرآن الكريم، وتبين أو تخصص عامه. هذا نوع يسمى تفصيل المجمل، وهذا نوع آخر يسمى تخصيص العام، وبالمناسبة فعند الأصوليين معاني محددة لكل واحد من هؤلاء، وأنا أطلب من طلاب العلم الذين يسمعونني الآن أن يعودوا إلى كتب الأصول التخصصية، بدل أن أطيل عليهم بشرح هذه النصوص، ما هو المجمل وما هو التفصيل، وما هو المفصل؟ وما هو العام، وما هو الخاص وكيف يخصص؟ إلخ، وما الفرق بين العام المخصوص، وبين العام الذي أريد به الخصوص؟ مصطلحات يجدر بأهل العلم أن يفهموها وأن يعرفوها؛ حتى تتضح المعاني الشرعية في أذهانهم. لكن هنا نحن نضرب الأمثلة، ونوضح بإيجاز مخافة الاستطراد إلى تخصصات أخرى، وأرجو أن نكون على ذكر مما نقوله الآن، نحن قلنا في علاقة رئيسة: السنة توافق القرآن، ثم انتقلنا إلى السنة تبين القرآن، ونتكلم عن بيان السنة للقرآن الكريم. تقييد المطلق أيضًا من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم: تقييد المطلق: المطلق يعني: شيء مفتوح هو ليس عامًّا يعني: لا ينطبق على أفراد كثيرين، وإنما هو يمكن أن تقول: هو شيء واحد يتكون من أجزاء فيقيد، ولو لم يأت التقييد لبقي على إطلاقه، وبالمثال يتضح المقال. من أمثلته في القرآن الكريم: قول الله -تبارك وتعالى- وهذا أيضًا مثال مشهور، تتداوله كتب المصطلح وكتب السنة كلها {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38)، الآية هنا

تتحدث عن أن عقوبة السارق هي قطع اليد، وأنا إذا أخذت الآية بظاهرها وطبقتها، فستكون كالأتي أي سرقة سأقطع اليد فيها، بلغت النصاب أو لم تبلغه؛ لأن الآية لم تشر إلى ذلك، ثم إذا نظرت إلى مدلول كلمة اليد في اللغة، وفي الاصطلاح أيضًا، في المفهوم الشرعي أقصد. اليد تشمل من أول الأصابع حتى الكتف، ولو أن المستمع الكريم، الذي يسمعني الآن وضع يده أمامه كمثال توضيحي، فإنه سيجد الأصابع، والأصابع تمثل جزء من اليد، ثم بعد الأصابع الكف، وله بطن وله ظهر، وبعد الكف الرسغ، وهما العظمتان الناتئان بعد الكف مباشرة، ومن أول الرسغ هذا إلى المرفق، المسافة التي بينهما تسمى الساعد، ثم المرفق ومن المرفق إلى المنكب يسمى العضد، ما بعد المرفق أي: ما بعد الجزء الذي نتوضأ أو هو نهاية وضوئنا إلى المنكب، الذي أعلى الكتف هذا يسمى عضد، ثم المنكب وهو نقطة التقاء العضد مع الكتف، التقاء الكتف مع العضد يسمى منكب، من أول المنكب حتى الأصابع هذه مكونات اليد، هذه أجزاء اليد. أعود إلى الآية {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ} لاحظوا معي أن الآية قالت: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ} ولم تقل: فاقطعوا يديهما، إذن أنا سأطبق الآية، كما وردت سأقطع اليدين معًا لكل سارق مع السرقة الأولى؛ لأن الله تعالى قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ} ولم يقل: فاقطعوا يديهما، وإذن هما اليدان وليس المقطوع يدًا واحدة على ظاهر الآية، ثم سأقطع كل ما تشمله كلمة اليد من مدلول لغوي، ومن مدلول شرعي، من أول الأصابع حتى المنكب في السرقة الواحدة. هذا هو ظاهر الآية أو هذا هو المعنى المطلق في الآية، جاءت السنة وقيدت هذا الإطلاق، قيدته بشكل عملي، لما أتي بالسارق للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كيف طبق الحد؟ وأكرر مرةً أخرى أن خير الخلق -صلى الله عليه وسلم- هو أعلم، وأعرف الأمة بمراد الله -عز وجل- هو الذي سيبين القرآن الكريم، ونحن الآن نتكلم عن بيان السنة للقرآن الكريم، كيف طبق الحد؟ أولًا: تأكد من النصاب، وهو الذي أشار إلى النصاب في أحاديث كثيرة، لا تقطع اليد إلا في ربع دينار، أو في ثلاثة دراهم من الفضة ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة لكن كما

توضيح المبهم.

قلت: لو أخذنا الآية بظاهرها سنقطع اليدين معًا من كل سارق، ومن أول الأصابع إلى المنكب، جاءت السنة ((ولما أتي بالسارق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- طبق الحد)) كيف طبقه؟ ((قطع اليد الواحدة بمقدار الكف فقط)) إذن هذا الحديث موجود في كتب السنة عند البيهقي، وعند الإمام أحمد وغيره ((أتي بسارق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقطع يده من مفصل الكف)) نحن قلنا عليها: الرسغ،، نسميها مفصل الكف، ومن يد واحدة. فلولا السنة لما استطعنا إقامة الحد على وجهه الصحيح، وأيضًا الأمثلة على تقييد السنة المطهرة للقرآن الكريم كثيرة، لكنني أشير إلى بعض الأمثلة فقط؛ لنبين دور السنة مع القرآن الكريم. توضيح المبهم النوع الرابع: من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم، توضيح المشكل، ويسميه بعض العلماء توضيح المبهم، وذلك بأن تكون هناك بعض الألفاظ في القرآن الكريم يعني: لا نفهم معناها أو لا يفهم البعض معناها، فتوضحها لنا السنة المشرفة. ومن أمثلة ذلك في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187) ما هو المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود، روى البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، ولم يكن قد نزل قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} يعني: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}. فيقول سهل بن سعد -رضي الله عنه-: وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله

بعدها {مِنَ الْفَجْرِ}، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وضح لهم يعني: في الرواية أن المراد بالخيط الأبيض هو بياض النهار، وأن المراد بالخيط الأسود هو سواد الليل، وأن الحد الفاصل بينهما أي: الذي ينتهي عنده سواد الليل، ويبدأ بياض النهار هو الفجر، ومن ثم فإن المسلمين يبدءون صومهم من الفجر. إذن بعض الصحابة فهم أن المراد بالخيط الأبيض، أنه خيط أبيض فعلًا على ظاهر اللفظ، وأن المراد بالخيط الأسود هو الخيط الأسود، ويأتي بحبلين يربطهما أو بخيطين يربطهما في رجليه: الخيط الأبيض والخيط الأسود، ويظل يأكل حتى يستطيع أن يفرق بينهما أي: أن يفرق بين الخيط الأبيض والخيط الأسود، ومعنى ذلك أنه سيظل يأكل حتى يرتفع النهار كثيرًا؛ لكي يتمكن من التمييز بين الخيط الأبيض، والخيط الأسود، فبينت السنة المطهرة أن المراد بالخيطين: إنما هو بياض النهار وسواد الليل، ونزلت جملة {مِنَ الْفَجْرِ} لتبين أن التحديد الزمني، الذي يبدأ عنده انتهاء سواد الليل وابتداء بياض النهار، إنما هو الفجر، وكما قلنا: فإن الصوم يبدأ من الفجر ويستمر حتى المغرب. إذن هذا مثال لتوضيح السنة لمشكل القرآن الكريم، أو لمبهم القرآن الكريم، كما قد يسميه البعض، أيضًا يعني يصلح كمثال لذلك، ما ذكرناه في تفسير الظلم في الآية بالشرك، آية الأنعام {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82). قلنا يعني: تفسير الظلم بالشرك هو نوع من تخصيص عام القرآن، ولا بأس من أن يصلح المثال للأمرين معًا، فهو مثال يصلح لتفسير الظلم بالشرك، يصلح كنوع من أنواع التخصيص، ويصلح أيضًا لأن يكون مثالًا لتوضيح المبهم، أو لتوضيح المشكل من الألفاظ القرآنية، التي قد يصعب على بعض الأفهام أن تستوعبها للمرة الأولى، فتحتاج إلى من يوضحها له، وتقوم السنة المطهرة بهذا الأمر.

إذن السنة المطهرة تبين القرآن الكريم بواحد من أنواع البيان، الذي أشرنا إليه بالتفصيل وهي: تفصيل المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتوضيح المشكل أو توضيح المبهم، وأنا أوثر التعبير بتوضيح المشكل بدل التعبير بتوضيح المبهم؛ لأني لا أقبل أن يكون في القرآن مبهم لا نستطيع أن نفهمه، إنما المشكل هو ما أشكل علينا نحن بمعنى: أن العيب فينا، وليس في الألفاظ القرآنية والعياذ بالله، كلا وحاشا، لكن على كل حال لا مانع من استعمال اللفظ؛ لأن هذه المصطلحات، ولا مشاحة في الاصطلاح، والمهم أن نوضح معناها. والأهم أن نعرف أن دور السنة خطير، وأن القرآن الكريم يتوقف في فهمه على السنة المطهرة، وما دام القرآن الكريم يتوقف في فهمه على السنة، فإنه يتوقف في تطبيقه؛ لأن التطبيق والعمل فرع عن الفهم، نفهم أولًا ثم نعمل ثانيًا؛ ولذلك فإن خطورة من يدعون، أو من يزعمون بأنه من الممكن أن يكتفوا بالقرآن وحده الخطورة بأنهم يهاجمون القرآن نفسه بهذه المقولة، وهذا أمر سنزيده توضيحًا مع توالي الدروس، بإذن الله -تبارك وتعالى-. لأنه معنى كلامهم: أن يتجمد القرآن عن التطبيق أن يتوقف عن التطبيق أن يتعطل عن التطبيق يعني: هو محفوظ كنص مقدس، لا بأس بأن نقرأه في صلاتنا، بأن نقرأه في قيامنا، بأن نقرأه على أمواتنا كما يقول البعض مثلًا، إذن لا مشكلة، لكن أن ينزل القرآن إلى واقع الحياة؛ ليقود حركة حياة المسلم في كل جانب من جوانبها، وفي كل شأن من شئونها؛ لأن الإسلام دين شامل يشرع لكل جوانب الحياة، فهذا ما يأباه البعض، ويحاولون أن يحاربوه بشتى الطرق، ومنها إشاعة الاكتفاء أو زعم الاكتفاء بالقرآن الكريم. إذن القضية خطيرة تعني تضييع الإسلام كله، ونحن نعلم أن الإسلام كتاب وسنة، فإذا سلم البعض بدعواهم في إبعاد السنة والاكتفاء بالقرآن، فإننا لن نستطيع أن

نفهم القرآن، وبالتالي سيتعطل عن التطبيق، وهذا هو المراد الذي يهدفون إليه من وراء هذه الدعوى اللئيمة، والعياذ بالله، نسأل الله -عز وجل- ألا يمكنهم أبدًا. إلى الأن تكلمنا عن مهمتين للسنة النبوية مع القرآن الكريم: المهمة الأولى: هي أنها توافق القرآن الكريم وتؤكد قضاياه، ووضحنا هذا المعنى بأن قلنا: بأن الأمر يأتي في القرآن الكريم، ثم يأتي أيضًا في السنة المطهرة، وضربنا أمثلة لذلك، والعلاقة بينهما في هذه الحالة إنما هي علاقة تأكيد، ثم انتقلنا إلى العلاقة الثانية، وهي علاقة بيان السنة للقرآن الكريم، وقلنا: إن أنواع البيان أربعة تفصيل المجمل، تخصيص العام، تقييد المطلق، توضيح المشكل أو المبهم، وضربنا أمثلة توضيحية لكل هذه المعاني. وضح من أن من مهمة بيان السنة للقرآن الكريم مدى خطورة هذه المهمة، وأن القرآن يتوقف في فهمه عليها، وبالتالي يتوقف في تطبيقه، إذن هذه مهمة خطيرة وجليلة وعظيمة، بقيت للسنة مهمة خطيرة أخرى، وهي أنها تؤسس أحكامًا على سبيل الاستقلال، أو على جهة الاستقلال بمعنى آخر: هي تشرع كما يشرع القرآن الكريم تمامًا، وهي في هذا واجبة الاتباع كالقرآن الكريم، إذن لا يقتصر دور السنة على بيان القرآن رغم خطورة هذا الأمر، وأهميتها وإنما أيضًا تشرع. وقد جاءت في السنة أحكام كثيرة، من غير أن يسبق لها ذكر في القرآن الكريم، وليست بيانًا له بواحد من أنواع البيان التي أشرنا إليها، وليست تأكيدًا لما جاء فيه، إنما هي حكم جديد لم يسبق له ذكر في القرآن الكريم، والأمثلة على هذا: أكثر من أن تحصى في مجال الواجبات، وفي مجال المنهيات، وفي مجال المستحبات، وفي مجال المكروهات، ونحن سنكتفي ببعض الأمثلة التوضيحية، لكن هذا أمر عليه عشرات، بل لا أبالغ أذا قلت: عليه مئات الأمثلة من التشريع النبوي،

الذي يشمل كل جوانب الإسلام في عقيدته، وفي شريعته، وفي معاملاته ... إلخ. من ذلك مثلًا في مجال الإلزام والفرض ما أوجبته السنة الشريفة من زكاة الفطر، فقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: ((فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)) -أي: إلى صلاة العيد-، وهذا حديث رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر. عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يقول: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي الذي شرَّع أو شرع زكاة الفطر هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرضها صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد، وعلى الحر والذكر والأنثى، وعلى الصغير والكبير من المسلمين، ووقت أدائها هي أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يبين ويوضح في جلاء، أن الذي شرع ذلك هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكتأكيد لهذه الحقيقة لن نجد حديثًا عن زكاة الفطر في القرآن الكريم، الله -تبارك وتعالى- تكلم عن الزكوات الأخرى، تكلم عن الزكاة بشكل عام {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) إلخ، وتكلم عن بعض الزكوات مثلا {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام: 141). إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الذي فرض زكاة الفطر، وطاعته في هذا واجبة تمامًا، كطاعة الله تعالى، بل إن العلماء قالوا: إن الذي يمتنع عن زكاة الفطر يقاتل عليها كما يقاتل مانع الزكاة، لا أحد يقول: إنها أقل وجوبًا؛ لأن الذي فرضها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس الله تعالى. إذن هذا تشريع في مجال الواجبات، في مجال المنهيات، وأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

((فكوا الأسير)) ((عودوا المريض)) ((نصر المظلوم)) بعض هذه الأحكام ورد عليه حديث في القرآن الكريم، وبعضها كثير في مجال الواجبات لم يرد لها ذكر في القرآن الكريم، مثلًا: ((فكوا الأسير))، أو ((فكوا العاني)) وهذه أحاديث في (الصحيحين) فكوا أمر للأمة بأن تعمل على فكاك الأسير المسلم من براثن الأعداء، وألا تتركه بين أيديهم؛ لكي لا يفتنوه في دينه، إلخ. و ((عودوا المريض))، ((وأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع ونهانا عن سبع برد السلام)) بكذا، بعض هذه الأوامر النبوية الكريمة، ورد ذكره في القرآن الكريم، وبعضها لم يرد له ذكر في القرآن الكريم، وهو من باب ما استقلت به السنة بالتشريع، وفي مجال المنهيات هناك أمور كثيرة جدًّا، نهى عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بينها ما هو محرم تأكيدًا، وبينها ما هو محرم يصل إلى حد الكراهة، ولا يصل إلى حد التحريم الكامل. فمثلًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرم أكل الحمر الأهلية، وحرم كل ذي ناب من السباع، إذن حرام علينا أن نأكل الحمر الأهلية، المعروفة التي يستعملها الناس في حياتهم، وحرام علينا أن نأكل كل ذي ناب من السباع، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها، الذي في القرآن الكريم هو النهي عن الجمع بين المرأة وأختها، والله -عز وجل- في سورة النساء، وهو يبين لنا المحرمات {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} (النساء: 23) إلى أن قال سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 23). يعني المحرم في القرآن الكريم هو أن يجمع الرجل بين المرأة، وأختها في وقت واحد، بأن يكون المرأتان تحته في وقت واحد، لو أن واحدة بعد الأخرى، لا

بأس كأن تكون الأولى قد ماتت، أو طلقت مثلًا، فلا بأس من أن يتزوج أختها؛ لأنه لا جمع بينهما في هذه الحالة، أما أن يكون زوجين له في وقت واحد، فهذا مخالف للقرآن الكريم، وكذلك نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن أن تنكح المرأة على عمتها، أو خالتها يعني: لا يجوز للمسلم أن يجمع بين المرأة، وبين عمتها أو خالتها تحته في وقت واحد، لا بأس أيضًا بأن يتزوج الواحدة بعد الأخرى، لكن الجمع هو المحرم. وأيضًا نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقتل مسلم بكافر))، هذا يعني رغم من أنه من تخصيص العام ضربناه؛ لأنه ((لا يقتل مسلم بكافر)) هذا حكم جديد وردت به السنة المطهرة، وحتى الأحكام التي ضربنها، كأمثلة لتخصيص العام هي أيضًا في جانب منها تشريع جديد، لم يسبق له ذكر في القرآن الكريم، يعني مثلًا: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث))، هذا لم يرد في القرآن الكريم، لم يرد أن الأنبياء لا يورثون، صحيح أنه في وجه من وجوهه، أو في جانب من جوانبه، يمثل شاهدًا على تخصيص السنة للعام في القرآن، وهو في نفس الوقت مثال للتشريع الذي جاءت به السنة، ولم يسبق له ذكر في القرآن الكريم. إن الأحكام التي انفردت بها السنة المطهرة كثيرة جدًّا، وكلها تعطي الدليل الأكيد على أن السنة لها صلاحية تأسيس الأحكام على سبيل الاستقلال، فهي في التشريع مثل القرآن الكريم تمامًا، وفي وجوب العمل بما شرعته أيضًا مثل القرآن الكريم تمامًا، فالذي شرعته السنة نعمل به، كما نعمل بما ورد في القرآن الكريم، وعلى هذا انعقد إجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة قديمًا وحديثًا، والذي يقبل عن رسول الله، فإنما يقبل أيضًا عن الله تعالى؛ لأن الله تعالى هو الذي أوجب طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وصلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 3 السنة هي المصدر الثاني للتشريع - حجية السنة (1).

الدرس: 3 السنة هي المصدر الثاني للتشريع - حجية السنة (1).

معنى كون السنة هي المصدر الثاني للتشريع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (السنة هي المصدر الثاني للتشريع - حجية السنة (1)) معنى كون السنة هي المصدر الثاني للتشريع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنعلم جميعًا -أهل السنة والجماعة- أن السنة المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله تعالى، هذا أمر أجمع عليه علماء الأمة قديمًا وحديثًا لم يخالف في ذلك إلا من لا حظّ له في الإسلام، نسأل -عز وجل- السلامة. معنى كون السنة هي المصدر الثاني للتشريع: أنها واجبة الاتباع، وأنها في ذلك مثل القرآن الكريم سواءً بسواء. هناك من يشكك في هذه القضية، ويحاول أن يثير بعض الشبهات حول هذه المسألة، والغرض في النهاية -كما قلنا- هو الطعن في الشريعة الإسلامية التي ختم الله بها كل الديانات، ولن يرضى من عباده بعد مجيء الإسلام إلا دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، وقال -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85). ما معنى حجية السنة؟ معناها: أن السنة حجة، وأنه يجب العمل بها؛ فهي حجة من حجج الله تعالى على خلقه، مصدر من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، أو هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم. هذه القضية، وهي قضية حجية السنة أستطيع أن أقول عنها: إنها قضية قرآنية، وقضية إيمانية، وقضية عقدية. هي قضية إيمانية؛ لأنها جزء من إيمان المؤمن الذي لن يتم إيمانه إلا بهذا الأمر، وهي أيضا قضية عقدية بمعنى: أنه يجب على المسلم أن يعتقد اعتقادًا جازمًا قاطعًا أن السنة حجة علينا، وأنه يجب العمل بها، كما يجب العمل بالقرآن الكريم تماما. هذا معنى كونها قضية عقدية.

أنا هنا أريد أن أوضح أن قضية حجية السنة قضية إيمانية إيماننا لن يتم إلا بها، وعقيدتنا لن تتم إلا بها. ما المقصود بكلمة أنها قضية قرآنية؟ يعني: أنها من القضايا التي اهتم بها القرآن الكريم جدّا بأساليب متعددة وبطرق مختلفة؛ لأنها -كما قلت- قضية إيمان، وقضية عقيدة، فلابد أن تكون محل الاهتمام القرآني. وقد اهتم القرآن الكريم بقضايا الإيمان، فمثلًا: إذا أردت أن أقول: ما هي القضية رقم واحد في القرآن الكريم؟ أو ما هي القضية الأم أو الأب، أي من التعبيرات التي تبين أهمية الأمر؟ هي قضية الوحدانية. سنجد القرآن الكريم اهتم جدًّا بها أيما اهتمام، وعشرات الآيات التي تكلمت عن الوحدانية؛ لأنها أم القضايا وأبو القضايا، وتفرعت عنها كل القضايا، والعلاقة الصحيحة للمسلم بإيمانه أن يبدأ بتوحيد الله -تبارك وتعالى-. كل ذلك بديهي، لكن أنا أضربها كمثال لاهتمام القرآن الكريم بالقضية. وأيضا اهتم بقضية البعث، ولا تكاد تخلو سورة من السور المكية بالذات؛ لأنها اصطدمت مع الواقع الذي كان فيه خلل في عقيدتهم بالنسبة لقضية الوحدانية، وبالنسبة لقضية البعث لم نجد سورة مكية إلا واهتمت بالأمرين معًا، وأقامت عليهم الأدلة الكثيرة جدًّا. اهتم القرآن الكريم جدًا بها، واهتمامه بها أخذ صورًا متعددة، منها: كثرة الآيات التي تعرضت للمسألة، آيات ربما تزيد عن خمسين آية، وهذا وجه من وجوه اهتمام القرآن بها، وهي الآيات الكثيرة التي تعرضت للمسألة، وكثير من المسلمين إذا تعرض لقضية الاحتجاج بالسنة لا يكاد يذكر إلا آية الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، مع أنني أستطيع أن أقول بصراحة ووضوح: إنه لا توجد سورة من سور القرآن الكريم إلا واهتمت إما ضمنًا، وإما صراحة بقضية اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

الأدلة من القرآن على حجية السنة.

الأدلة من القرآن على حجية السنة وفي هذا الاستعراض الذي سنستعرضه في تلك الآيات لن أقف مع الآيات الضمنية التي تكلمت ضمنا عن وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل: قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة: 285)، أي: آمنوا بما أنزل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به؛ لأنه قد ينازع البعض في وضوح هذا الدليل على وجوب اتباع السنة؛ ولذلك سأقتصر في الاستدلال -إغلاقا للنقاش غير المجدي وغير النافع- على الآيات التي كانت قاطعة الدلالة واضحة في حجيتها في ضرورة اتباع السنة المطهرة، وسنتعرض للقرآن الكريم بترتيب سوره من أول البقرة إلى أن ننتهي إلى آخر القرآن، وأيضا قد أذكر بعض الآيات وأترك بعضها؛ لأن المراد هو إثبات أنها قضية قرآنية خطيرة جدا اهتم القرآن الكريم بها حتى نستطيع أن ندافع عن ديننا، وأن غلق الباب أمام من يحاول أن يشوش علينا دعائم ديننا وأسس عقيدتنا: إذا جئت إلى سورة آل عمران مثلًا، وبدأت بها مثلًا قول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 130 - 132). دعوة طاعة الله ورسوله، وقبل ذلك في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31). يعني: علامة حب المؤمنين لربهم هي اتباعه نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والله -عز وجل- هو الذي وضع تلك العلامة في القرآن الكريم، لم يأت بها أحد من الأمة من عند نفسه تعصبًا

للسنة، أو ما شاكل ذلك. كلا إنما الله -عز وجل- يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، قل للأمة جميعا إلى يوم القيامة: إن كنتم تحبون الله، فعلامة حبكم لربكم أن تتبعوني، أي: تتبعوا نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}، إذن اتباع السنة المطهرة من علامات حب المؤمنين لربهم -سبحانه وتعالى-. والجزاء قد أخذوه ببقية الآية: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 31). ثم جاءت الآية من سورة آل عمران أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 130: 132) لعلكم ترحمون: لعل تفيد الرجاء، لعلكم ترحمون إذا اتبعتم، أو إذا أطعتم الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأهل العلم علمونا أن الرجاء من الله تعالى محقق إذا تحقق فينا ما علق الله عليه الرجاء. لعلكم ترحمون: هذا رجاء، أسلوب رجاء استعمله الله تعالى في القرآن الكريم، إذا هو أمر محقق شريطة أن يتحقق فينا الشرط المعلق عليه هذا الرجاء في الله، فالله -عز وجل- جعل الفلاح لمن أطاع الله ورسوله. إذا ما دمنا نطيع الله ورسوله، فإن هذه الرجاء سيتحقق بإذن الله تبارك وتعالى. وأيضا في سورة النساء، وفيها مجموعة من الآيات القرآنية الكثيرة جدًّا، بل أكاد أن أسميها: بسورة السنة مع تسميتها بسورة النساء؛ لأن هناك آيات كثيرة في السورة المباركة تكلمت عن السنة، وبأساليب تؤكد ضرورة اتباعها، فمثلًا: يحدثنا الله تعالى في سورة النساء في آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11)، وأحكام المواريث أحكام شرعية يذكرها الله تعالى، ثم يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} تلك اسم إشارة إلى ما سبق ذكره من أحكام المواريث هذا ما حده الله لعباده، والله -عز وجل- في آيات كثيرة سمى التشريعات

الإلهية حدودًا، في الطلاق {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1)، في الظهار إلخ، وقد مدح المؤمنون بأنهم حافظون لحدود الله في سورة التوبة مثلًا: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (التوبة: 112)، أي: القائمون على ما حده الله لهم من تشريعات، يمتثلون لما أمر، ويبتعدون عما نهى. هذا من خصائص الأمة المؤمنة، والمهم أن الله -عز وجل- في سورة النساء بعد ذكر آيات المواريث قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 13: 14). وأنا أقسم الآيات التي أتكلم عنها إلى آيات أمرت بالاتباع، وآيات حذرت عن أو من المخالفة. أنا الآن سأستطرد وأسير مع الآيات التي أمرت بالاتباع، وأشير إلى بعض دلالتها الهامة في تأكيد هذه المسألة، وبيان وجوب اتباع السنة. إذا انتقلت إلى آية أخرى في سورة النساء فيأتي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59). أولًا: الآية صدرت أو تصدرت بالنداء بصفة الإيمان "يا أيها الذين آمنوا"، وهذا النداء خطير، وقد تكرر كثيرًا في القرآن الكريم، والله -عز وجل- قد نادى خلقه بصفات متعددة، "يا بني آدم" جاءت في القرآن خمس مرات، أربع مرات في سورة الأعراف، ومرة في سورة يس، "يا بني آدم"، ونادى الناس جميعًا في أكثر من آية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (البقرة: 21)،

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1) ..... الخ. ونادى الرسل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (المؤمنون: 51)، ونادى النبي -صلى الله عليه وسلم- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّ هَ} (الأحزاب: 1)، وآيات كثيرة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1)، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: 1)، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) .... الخ، آيات ونداءات كثيرة للرسول -صلى الله عليه وسلم- للناس جميعًا لبني آدم، بل إن الله نادى الكفار في قول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم: 7). أقصد أن أقول: إن كل نداء من هذه النداءات مقصود بمعنى حين ينادي الله الناس، فهو يقصد الناس جميعا، وحين ينادي يا أيها الذين آمنوا فهو يقصد أهل الإيمان، ليس هذا فحسب، بل ويبين لهم أن ما يناديهم من أجله، أي ما سيذكره بعد هذه النداء، هو من مطلوبات الإيمان، فعليكم أن تحققوا هذه الأوامر الإلهية وإلا لا تستحقون أن تنادوا بوصف الإيمان. متى نستحق أن ننادى بـ"يا أيها الذين آمنوا"؟ إذا كنا سنطبق ما بعد النداء. ونحن لو استعراضنا الآيات الكريمة التي صدرت بهذا النداء "يا أيها الذين آمنوا" سنجد ما بعدها من مطلوبات الإيمان، كل نداء بـ"يا أيها الذين آمنوا" طلب الله منا بعدها مطلوبات هي تعد من شعب الإيمان ومن أموره. وأنت تقرأ القرآن الكريم حاول أن تتأكد من هذه القاعدة، كل آية تمر عليك فيها "يا أيها الذين آمنوا" انظر ما بعدها ستجد فيها مطلوبات وأوامر إيمانية عليك أن تقوم بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُو} (آل عمران: 200)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} (الأنفال: 27)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1) ... الخ الخ.

إذن، أول دلالة في الآية النداء بوصف الإيمان، ومعناها أو خلاصته: أننا لا نستحق أن ننادى بهذا الوصف إلا إذا طبقنا ما بعد النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59)، هذه أول دلالة في الآية. الدلالة الثانية: تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله ومع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعدم تكراره مع أولي الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، وماذا يفيد هذا التكرار في القضية التي معنا الآن، والتي نحن بصددها؟ يفيد كثيرًا معناها: أن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة تماما مثل طاعة الله تعالى، فهي طاعة مساوية لطاعة الله تعالى، أما أولي الأمر فليس لهم طاعة مستقلة، إنما طاعتنا لهم مرتبطة بطاعتهم هم لله ولرسوله، فإن هم أطاعوا الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وجبت علينا طاعتهم. لذلك كرر الفعل "أطيعوا" مع الله تعالى، ومع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يكرر الفعل أطيعوا مع أولي الأمر، هذه دلالة ثانية تبين لنا أن طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة تماما مثل طاعتنا لله تعالى. الدلالة الثالثة في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59) علق الإيمان على رد الأمر إلى الله تعالى، وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إن كنتم تؤمنون ماذا تفعلون؟ ردوا كل أموركم، كل أحكام حياتكم ردوها إلى الله تعالى وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي: عند التنازع حين يكون الأمر واضحًا أمامكم، وتفهمون الكتاب والسنة طبقوه، أما إذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ليس أمرًا اختياريًّا، بل هو أمر وجوبي، بل إن الإيمان علق عليه {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} تفعلون ذلك، معنى ذلك: إننا إذا لم نفعل ذلك فلا يصح أن نطمع في

الإيمان؛ ولذلك إنها قضية إيمانية، فهذه بعض الأدلة على أنها قضية إيمانية، كما أستدل على أنها قضية قرآنية، وستأتي أيضا أدلة أخرى على كونها من الإيمان؛ لأن الله تعالى علق الإيمان عليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59). إذا من يرد الأمر إلى غير الله تعالى عند التنازع وإلى غير رسوله -صلى الله عليه وسلم- عليه أن يخاف على إيمانه، وعليه أن يعمل على تنقية إيمانه مما قد يعلق به من هذه المفاهيم الخاطئة التي تشوش عليه إيمانه، وتكاد تفسد عليه عقيدته والعياذ بالله. ثم الآيات بعد هذه الآيات تتكلم عن فريقين من الناس، أو عن فريق يزعم أنه آمن بالله، وآمن بالنبي، وآمن بما أنزل إليه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (النساء: 60) هذا الزعم ماذا يقتضي؟ يقتضي أن يستجيبوا، مادمتم تقولون أنكم آمنتم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وآمنتم بما أنزل إليه فما علامة هذا الإيمان؟ أن تلتزموا بما أمركم به، انظر إلى الآيات {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} (النساء: 60) رغم زعمهم أنهم أمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك. الطاغوت هنا هو كل حكم سوى حكم الله تعالى، أيا كان حكم البشر، حكم الشيطان، حكم الهوى، حكم النفس، كل ذلك طاغوت أمرنا ألا نستجيب له، بل إن الكفر بالطاغوت هو جزء من الإيمان بالله، أن نتبرأ من الطاغوت مع إيماننا بالله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة: 256)، بل نقول: إنها قضية الرسل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم في كتاب الإيمان، وهو يعلم معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الإيمان؛

يقول: ((أن يعبد الله ويكفر بما سواه))، لا نعبد الله فقط، بل لابد أن نكفر بما سواه، فهؤلاء قالوا، والقرآن الكريم سماه زعما؛ لأن الزعم مطية الكذب، وإن كان يستعمل في الصدق كما يقون سيبويه، لكن هذا السياق في القرآن نسير معه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} (النساء: 60)، تحاكمهم إلى الطاغوت معارض لقولهم: آمنا بك وبما أنزل إليك، بل العلاقة الصحيحة بالطاغوت هو الكفر به، وننظر إلى الآية {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 60). نحن بمقتضى إيماننا، وبمقتضى حرصنا على هداية الخلق جميعا سنفترض فيمن يقول ذلك أو يفعل هذا يزعم الإيمان، ثم يحتكم إلى غير منهج الله تعالى، ومنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- سنقول: إنه يفعل ذلك عن جهل ليس عن قصد، فستكون المهمة الأولى أن نعلمه قبل أن نحكم عليه بإيمان أو كفر؛ ولذلك انظر إلى القرآن الكريم وعظمته في التربية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} (النساء: 61) يعني: افترضنا فيهم أنه قد غابت عنهم هذا الحقيقة الإيمانية، وإن الأمرين متعارضان، وهما قضية أن تقول: نؤمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبما أنزل إليه، ثم تحتكم إلى الطاغوت هذا لا يجوز إيمانا ولا عقيدة. لكن سنفترض أنهم لا يعلمون ذلك سنعلمهم على لسان من قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} سواء كان العلماء، أو الأمراء أو ما شاكل ذلك {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} بماذا سماهم الله تعالى؟ {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (النساء: 61)، سماهم منافقين رغم زعمهم كما ذكر القرآن الكريم أنهم أمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبل، هذا

الزعم لم يشفع لهم حين وضع على محك الاختبار العملي، حين امتحنوا في هذا الكلام الذي قالوه: إنهم آمنوا بالله، وآمنوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وآمنوا بما أنزل إليه، مقتضى هذا الإيمان: أن يستجيبوا لما جاء به، وأن يتمثلوا لحكمه وأوامره ونواهيه، لكنهم أردوا أن يحتكموا إلى الطاغوت، ولم يستجيبوا لمن حاول أن يبصرهم ويبين لهم خطورة المسألة، وأن ذلك متعارض مع الإيمان؛ ولذلك في نهاية الأمر سماهم القرآن الكريم منافقين، خلع عنهم وصف الإيمان، وكما قلنا: لم يشفع لهم زعمهم بأنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبل. ونستمر مع الآيات في سورة النساء، وبعد هذه الآية بآيات قليلة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإذا اللَّهِ} (النساء: 64) قضية خطيرة جدًّا؛ الأصل في الرسل أن يطاعوا وهي هنا قضية أو صياغة خبرية، الله تعالى يخبر أن الأصل في الرسل أن يطاعوا، لكن المراد بها الإنشاء، يعني: هي أمر من الله تعالى أن نطيع الرسل، ليس في حق نبينا -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل هي قضية في شأن الأنبياء جميعًا، كل الرسل لابد أن يطاعوا؛ لأنهم إنما جاءوا لخير البشر، ولهداية البشر، ولإنقاذ البشر من الهلكة، فلابد أن يطاعوا، أو يجب أن يطاعوا، الذين يخالفون سيتحملون نتيجة مخالفتهم. إذا هي قاعدة إيمانية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإذا اللَّهِ} (النساء: 64) جاء القرآن الكريم بها في صيغة الخبر رغم أن الأمر بها أو أن المراد بها إنشاء، بمعنى: أنها صيغة خبرية؛ ليبين الله لنا كأن الخلق عرفوا مهمة الأنبياء، وأنهم جاءوا لهدايتهم ولصالحهم فاستجابوا لهم، لكنا المراد هو الإنشاء، يعني: استجيبوا لكل الرسل إذا جاءوكم؛ لأنهم إنما جاءوا لخيركم، ومصلحتكم في الدنيا والآخرة.

ثم بعد ذلك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء: 64)، النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب لهم المغفرة؛ لأنهم استجابوا لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك آية تنخلع لها القلوب حقيقة، وهي من أهم وأخطر الآيات في القرآن الكريم؛ في الدلالة على وجوب التمسك بالسنة المطهرة، وذلك في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65). ووجه الخطورة في هذه المسألة، أو في هذه الآية: أنها فيها جملة من الأمور الهامة جدًّا التي جعلت طاعة النبي أساسًا رئيسًا من أسس الإيمان، هنا أسلوب قسم {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ}، أسلوب القسم في اللغة العربية مكون من أربعة أركان: مقسم، ومقسم به، ومقسم عليه، وهي القضية التي يقسم عليها المقسم، وأداة القسم. أطبق الأركان الأربعة على هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الله تعالى هو المقسم، وهذه في حد ذاتها من وجوه الخطورة في الآية كيف؟ الله تعالى يقسم إذا الأمر خطير، والأخطر أن يقسم بذاته؛ للدلالة على أهمية الأمر أكثر وأكثر؛ لأن الله تبارك وتعالى أقسم بكثير من مخلوقاته في القرآن الكريم، والله -عز وجل- يقسم بما يشاء في القرآن الكريم، لكننا نحن كبشر لا نقسم بغير الله، لا نحلف بغير الله، والأحاديث: ((من كان حالفا فيحلف بالله أو فليصمت))، ((ومن حلف بغير الله فقد أشرك))، وهذه فائدة استطرادية، لكن أنا مع دلالة الآية في دلالتها على وجوب أهمية اتباع السنة، وأنها قضية إيمانية، الله تعالى يقسم، ويقسم بذاته الشريفة. قلت: إن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته، ومرات قليلة ينتقل فيها الله تعالى من القسم بمخلوقاته إلى القسم بذاته؛ حين تكون القضية خطيرة، بل إنه الأندر

والأندر أن الله تعالى هو الذي يتولى القسم بنفسه، يعني مثلًا: هناك في آيات الله تعالى قال لنبيه: {زَع َمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن: 7) الخ، هنا قسم بالله لكن المقسم يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} يطلب منه أن يحلف لهم، وأن يؤكد لهم البعث، وأنه أمر حتمي سيقع قطعًا، لكن الله تعالى هو المقسم، وهو المقسم به، وهذا من وجوه الخطورة في المسألة، أو في الآية، ومن أعظم الدلالات على وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني: الله تعالى يقول لكم: أنا أقسم، وأقسم بذاتي الشريفة. ما هي القضية المقسم عليها في الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النساء: 65)؟ ينفي الإٍيمان هنا، لا هنا نافية، ولا تصلح أن تكون ناهية، لا من حيث المعنى، ولا من حيث الإعراب، من حيث المعنى عن أي شيئا ينهانا هنا لا تصلح، ومن حيث الإعراب: لا هنا جاء الفعل بعدها مرفوعا بثبوت النون، {لَا يُؤْمِنُونَ}؛ لأنه من الأفعال الخمسة، إذا فـ"لا" هنا نافية، وليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية لجزم الفعل بعدها بحذف النون كانت "لا يؤمنوا"، إنما هنا الله -عز وجل- ينفي الإيمان إذن قضية أقسم الله تعالى عليها، وأقسم بذاته الشريفة، فالمقسم هو الله تعالى، والمقسم به أيضا هو الله تعالى. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النساء: 65) القضية المقسم عليها نفي الإيمان إلى أن يتحقق فيهم ما يطلبه الله تعالى منهم. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إذا لن يكون هناك إيمان إلا إذا حكمنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما شجر بيننا من مسائل، وقام بيننا من أمور، حتى يحكموك يا محمد -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، بل إن الله تبارك وتعالى في هذه الآية لم يكتفِ بمجرد التحكيم، بل اشترط علينا

الرضا بحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} وهذا من جملة المطلوب، يعني ليس المطلوب أن نحكم فحسب، بل المطلوب أن نحكم وأن نرضى {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} (النساء: 65) ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا ولا رفضًا ولا إيباء، ولا تمنعا، هذا لا يجوز، أي معنى من هذه المعاني لا يجوز مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع حكمه -صلى الله عليه وسلم-. {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65)، عليهم أن يرضوا به، وأن يخضعوا له خضوعا كاملًا، وأن يستلموا له استلاما تاما، ولن يكون هناك إيمانا بغير ذلك، هذا مضمون الآية، الله تعالى يقسم أن إيمان المؤمنين لن يكون إلا إذا حكموا النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس المطلوب تحكيمه فحسب، بل المطلوب أيضا أن يرضوا بهذا الحكم النبوي، وأن يخضعوا له في استسلام كامل. قد يسأل سائل هنا: ولماذا اشترط الله تعالى علينا الرضا بالحكم، ولم يكتف منا بمجرد التطبيق فحسب؟ لأن عدم الرضا بأي حكم، إنما هو فرع عن اعتقادك بأنه حكم جائر مثلا، يعني: متى لا يرضى الإنسان بالحكم؟ حين يتصور أنه حكم جائر أو ظالم، وحين يتخيل أن هناك حكما أعدل منه، وأفضل منه، وأكثر خيرا منه، هذه المعاني لا تجوز مع حكم الله تعالى، ومع حكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟ لأن من جملة إيماننا أن نعتقد بأن حكم الله تعالى، وحكم نبيه -صلى الله عليه وسلم- هما أعدل الأحكام، وهما خير الأحكام، وهما أرشد الأحكام، وهما أفضل الأحكام ... الخ. ولو أنني تركت قضيتي التي أتكلم عليها وهي حجية السنة من خلال القرآن، ثم انتقلت إلى امتثال الصحابة إلى الحكم النبوي، ورضاهم به؛ لطال بنا المقام،

والكلام مثل هذا له أمور أخرى في الدروس الدعوية أو ما شاكل ذلك، لكننا مرتبطون بموضوعنا الذي نتكلم عنه، لكن فقط نشير إلى دلالة الآية، الآية فيها قسم بالله تعالى، والمقسم هو الله تعالى، والقضية المقسم عليها هي نفي الإيمان عن من لم يحكم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يرض بحكمه، ويطلب الأمرين معا، وهي الامتثال للحكم، والرضا به في آن واحد. لا يوجد مؤمن يؤمن بالله تعالى، وبالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ومن جملة إيمانه أن يعتقد أن أحكامهما هي خير الأحكام، وأعدل الأحكام، وسيد الأحكام على الإطلاق، في الحديث عند البخاري مسلم في ظهير بن أسيد يقول: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمر كنا نراه خيرا، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأرشد. انظر إلى كلام الصحابي، جاء نهانا عن بعض المعاملات التي كنا نتعامل بها في المدينة، نهانا عنها، نحن كنا نتصور أن هذه المعاملات معاملات طيبة ولا ضرر فيها، ولكنه يقول: "وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأرشد" هكذا ينبغي أن يعتقد كل مسلم في أحكام الله تعالى، وفي أحكام نبيه -صلى الله عليه وسلم-. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65). وبعدها بآيات قليلة أيضا يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69)، الذي يطيع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فنعم الرفقة التي ينبغي أن يسعى إليها كل مؤمن {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69)، {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} (النساء: 70). ومن لم يسع إلى مرافقة هؤلاء في الجنة فيسعى إلى مرافقة من إذا؟ يعني: قضية

واضحة جدا بمقاييس الإيمان، وبمقاييس الفطرة السليمة، وبمقاييس العقل الراشد الذي يفكر بتسديد وتوفيق، أترك هذه الرفقة وأرافق من إذا، والعياذ بالله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69). {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 74) آية {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) هذه الآية تجعل طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة لله، ولا يوجد مسلم، أو لا ينبغي أن يتصور مسلم أن يعصي رسول الله، ثم يتصور أنه مطيع لله، هذا خلل في الفهم، لا ينبغي أن يتورط فيه مسلم، ننصح هؤلاء الذين يزعمون بالاكتفاء بالقرآن لا يمكن أبدًا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80)، التلازم بين الطاعتين واضح جلي، لا نقاش فيه، لا انفصام بينهما أبدا، فلن يستقيم الإيمان، ولن يستقيم الأمر إذا تصور البعض أنه من الممكن أن يعصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أنه في نفس الوقت مطيع لله تعالى، هذا عبث، ومجون، وخلل في الفكر ينبغي ألا يتردى فيه مسلم أبدًا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء: 80). إذا انتقلنا إلى سورة المائدة، وعندي آيات تتحدث عن الخمر وضررها، والنهي عنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 90 - 91). بعد هذه الآيات التي نهت عن الخمر، وعن كل ما يتعلق بها قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُو} (المائدة: 92)، احذروا المخالفة، احذروا البعد

عن المنهج، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول َ} أمر بطاعة الله تبارك وتعالى، وأمر بطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتحذير من المخالفة، وتكرار للفعل "أطيعوا" مع الله تعالى ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يعني عدة دلالات في الآية مع أنها جملة قصيرة {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (المائدة: 92). هذا في سورة المائدة، إذا انتقلت إلى سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153) الله تعالى يوصينا بذلك، يوصينا بأن نتبع سبيل رسول -صلى الله عليه وسلم- ونسير على صراطه، وعلى نهجه، وعلى طريقه، وأن هذا هو الصراط المستقيم، والذي يوصل إلى أشرف الغايات، وأنبل الأهداف. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153). والنبي -صلى الله عليه وسلم- في رسم توضيحي كما رواه الحاكم وغيره للصحابة؛ لكي يوضح لهم هذا المعنى، يرسم لهم على الأرض خطًّا مستقيمًا، ومن هذا الخط المستقيم تخرج خطوط فتفرع عنه يمينًا وشمالًا، لك أن ترسم هذا الرسم التوضيحي. بعد أن رسم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الخط التوضيحي قال لهم: الخط المستقيم هو خط الله تعالى، هو صراط الله، المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهذه الخطوط الفرعية التي تخرج عنه يمينًا ويسارًا، إنما على رأس كل منها شيطان، يحاول أن يبتعد بالمسلم عن الخط الرئيس الذي هو صراط الله تعالى المستقيم، الذي هو القرآن الكريم والسنة المطهرة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153).

ثم ننتقل إلى سورة الأعراف، وبها جملة من الآيات التي أيضا تحث على طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157). هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، إلى آخر الآية، فالذين آمنوا به وبما جاء به من القرآن والسنة، وعزروه، ووقروه، واحترموه، وبجلوه، وقدروه، وأنزلوه منزلته اللائقة به، كل هذا من معاني "وعزروه"، ونصروه نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة، ومن أوضح صور نصرته -صلى الله عليه وسلم- أن نستجيب لحكمه، الذي لا يستجيب لحكمه هو خذلان، لكن الذي يبوء بالخذلان هو المخالف، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمقامه رفيع، والله -عز وجل- جعل له المنزلة السامقة العالية. ونلاحظ أن الله -عز وجل- علق الفلاح على ذلك: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157)، "وأولئك هم المفلحون" جملة من مبتدأ وخبر، أولئك: مبتدأ، وهذا أحد أنواع المعارف؛ لأنه اسم إشارة. والمفلحون: خبر، وهم: ضمير فصل للتأكيد، حين تكون الجملة معرفة الطرفين، فإنها تفيد القصر، يعني: الفلاح مقصور على هؤلاء الناس الذين استجابوا لله وللرسول، وآمنوا به وعزروه ونصروه.

وفي الآية التي بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158). "اتبعوه" الضمير في اتبعوه هنا مفعول به، يعود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158). وقلنا قبل ذلك: "لعلكم تفلحون" رجاء من الله، والرجاء محقق، إذا حقق فينا ما علق الله عليه تعالى هذا الرجاء، وقد علقه الله تعالى على طاعة رسول -صلى الله عليه وسلم- {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157). هذا في الآية السابقة، وفي هذه الآية أمر من الله {فَآ مِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158). وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 4 حجية السنة (2).

الدرس: 4 حجية السنة (2).

استكمال الأدلة من القرآن على حجية السنة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (حجية السنة (2)) استكمال الأدلة من القرآن على حجية السنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى أله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد: فنتمم كلامنا عن الأدلة من القرآن الكريم على حجية السنة المطهرة: في سورة الأنفال أيضًا نجد آيات كثيرة تحدثت عن ضرورة اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل في مطلع السورة يطلب الله تعالى منها طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) هنا أيضًا تعليق للإيمان على هذه الأمور، ومنها طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. ومع سورة الأنفال نسير فنجد بعد ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20)، ويلفت النظر أن بعض الآيات عطفت طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على طاعة الله تعالى، وحينئذ في هذه الحالة كأنها نظرت إليهما على أنهما طاعة واحدة، كل منها تكمل الأخرى ولا نستطيع أن نعزل إحداهما عن الأخرى. {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني: هذه متممة لتلك، وكأنهما معا أصبحتا طاعة واحدة، ينبغي على كل مؤمن أن يقوم بها، وحين يقر فعل "أطيعوا" فإنما ورد ذلك في النساء، وورد في المائدة؛ ليبين أن طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة تماما مثل طاعتنا لله -تبارك وتعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20)، وفي سورة الأنفال أيضًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24) استجيبوا لمن؟ لله ورسوله. "إذا دعاكم لما يحييكم"

يعني: الآية تقول لنا: أن الله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا يطلبان منا شيئا إلا إذا كان فيه الحياة لنا، الحياة الطيبة، الحياة المستقيمة، الحياة الآمنة والمطمئنة، الحياة التي ينبغي أن تكون. {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وكأنه لا حياة أبدًا في أي تعليمات أخرى تأتي من أي جهة كانت بعيدة عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وفي سورة الأنفال أيضًا، والله -عز وجل- يحدثنا عما يمكن أن نسميه: بأسباب النصر في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 45 - 46)، فمن بين الأوامر الإلهية التي تأتي بالنصر -بإذن الله- للفئة المؤمنة أن تكون على طاعة لله تعالى، وطاعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. في سورة التوبة، والله تعالى يتكلم عن المجتمع المؤمن، وعن بعض خصائصه، خصوصًا بعد أن حدثنا قبل ذلك عن المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة: 67)، والعياذ بالله مجتمع النفاق مجتمع سيئ رديء، يقابله المجتمع المؤمن، فما هو المجتمع المؤمن وما هي خصائصه؟ الله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ} (التوبة: 71) ماذا يفعلون؟ {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).

ذكرت الآيات طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع طاعة الله، وضمتهما إلى ما ذكر معهما من أحكام {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، وكلها من ثوابت الإيمان، ومن أركانه، من المأمورات التي يؤمر بها المؤمنون أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ركنان من أركان الإيمان يعني: لم يكن هناك إيمان من غيرهما أبدًا. إذا، طاعة الله ورسوله قرنت مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لتبين لنا أنها أمر مهم جدًّا من أمور الإيمان التي لن يكون الإيمان إلا بها. وفي سورة التوبة أيضًا يعني: ليس لأحد أن يرغب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أن يبتعد عنه، ولا أن ينأى بنفسه عن طريقه، إلى آخره. {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (التوبة: 120) هذا ليس من حق أحد مؤمن أبدًا، أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يحاولوا أن ينجوا بأنفسهم بعيدا عنه، كل ذلك ليس من مقتضيات الإيمان، بل هو مخالف لمقتضيات الإيمان ومتطلباته، {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (التوبة: 120)، هذا ليس في مجال النصرة العسكرية فحسب، بل في كل الأمور على المؤمنين أن يطيعوا الله ورسوله في كل شأن من شئونهم. في سورة التوبة آخر آياتها: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) هذا الرسول الكريم العظيم -صلى الله عليه وسلم- الذي بعثه الله نعمة لنا وعلينا، وامتن به {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (آل عمران: 164) .... الخ.

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} هو من أنفسكم منا، {عزيز عليه} أي عنت أو مشقة نتعرض لها، حريص علينا، وعلى نجاتنا، وعلى فلاحنا، وعلى فوزنا، وعلى أن نفوز بالجنة، وأن ننجو من النار، حريص عليكم وقلبه -صلى الله عليه وسلم- يمتلئ بالرحمة، والرأفة على الفئة المؤمنة، بل هو رحمة للعالمين جميعًا، كما ورد في سورة الأنبياء، والآيات يكمل بعضها بعضًا. إذا كان هذا شأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودوره معنا أنه حريص علينا، رؤوف رحيم بنا، عزيز عليه ما يصيبنا من مشقة، ماذا يستحقه منا، أو ما علاقتنا به؟ هي أن نتبعه، جاء لهدايتنا، حريص علينا، إذا من متطلبات ذلك أن نستجيب له في كل ما يأمر بها، وأن نبتعد عن كل ما ينهى عنه {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 128 - 129). في سورة يونس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (يونس: 108) مادام قد جاءنا بالحق فعلينا أن نتبعه، لكن قد يقول البعض: إن هذا الحق هو القرآن الكريم، فأنا لا أريد أن أفتح باب الجدًّال الذي لا يفضي إلى خير، وإنما يضيع الوقت في غير منفعة، فآتي بالآيات الصريحة أو القاطعة الدلالة على السنة، ولا يجادل فيها أحد إلا إذا كان يريد أن يجادل بالباطل، والعياذ بالله تعالى، يعني: لم أقف مثلًا مع سورة يونس {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (يونس: 108) ... الخ، وإنما كما قلت: سأتوقف مع الآيات الواضحة الدلالة.

سأنتقل إلى سورة النور، وبها أيضًا مجموعة من الآيات، وسياقات تحرك القلب المؤمن تجاه هذه القضية، يحدثنا الله -تبارك وتعالى- كما حدثنا في سورة النساء يحدثنا عن قوم قالوا: إنهم آمنوا بالله والرسول، وأطعنا أيضًا، يعني: لم نؤمن فقط إنما قالوا: أمنا وأطعنا، ويقولون: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا. ما موقفهم بعد ذلك؟ هذا القول الذي يقتضي التسليم، والإذعان، والخضوع لكل ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقولون: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، لم نؤمن بالله فقط، وإنما أمنا بالرسول، ولم يتوقف أمرنا عند الإيمان فقط، وبل وأطعنا، امتثلنا وأجبنا. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} (النور: 47) أعرضوا وابتعدوا، رغم قولهم: آمنا بالله وبالرسول، بماذا تسميهم يا رب؟ {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (النور: 47)، نفى الله عنهم الإيمان، كما وسمهم في سورة النساء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (النساء: 61)، سماهم في النساء بالمنافقين، وسماهم في النور، أو نفى عنهم في النور الإيمان، رغم قولهم في السورتين بأنهم قد آمنوا، آمنوا بما أنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، هذا القول لم يشفع لهم حين لم ينهض بهم عملهم؛ لأن قضية الإيمان ليست قضية كلام، نعم ننطق بلسانها، وتعتقد قلوبنا، ثم يصدق كل ذلك، أو الجوارح تصدق كل ذلك، أو تكذبه، فالتطبيق العلمي هو الاختبار الحقيقي لمن يزعم الإيمان، أو من يدعي الإيمان، بل إن الفرق بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف إنما هو في استجابة كل منهم للإيمان، فالمؤمن القوي أكثر التزامًا واستجابة لكل أوامر الشرع ونواهيه، ولا يتفلت منه إلا القليل جدًّا، أما الآخر فأحيانا وأحيانا. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 47 - 48)

لماذا أعرضتم وقد قلتم أنكم أمنتم بالله وبالرسول، وأطعتم؟ ولماذا عند المحك العملي رسبتم ولم تنجحوا؟ طبعا لأنها قضية زعم فقط، وكما قلنا أن الإيمان ليست قضية كلام. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 48) ولا يستجيبون للحق إلا إذا كان في مصحلتهم ومنفعتهم. {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (النور: 49) خاضعين، مستجيبين، مستسلمين، فكأن ارتباطهم بقضية الإيمان إنما هو ارتباط نفعي فقط، وهذه طائفة حدثنا الله تعالى عنها في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} (الحج: 11) والعياذ بالله. إذًا، هناك فئة ارتباطها بالإيمان ارتباط مصلحة، ارتباط منفعة، بمقدار ما يجنيه من الإيمان من ثمرات يكون إيمانه، وإذا لم يكسب من الإيمان ابتعد عنه، هذه طائفة قال الله عنها: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، إنما المؤمنون حقا تحدث الله عنهم بعد ذلك، لكن {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (النور: 48 - 49)، انظروا إلى التصنيف القرآني لمثل هذا الطوائف: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (النور: 50) مرض النفاق، مرض الكذب، والعياذ بالله، {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} (النور: 50) شكوا، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} (النور: 50) والعياذ بالله، اتهموا الأحكام الإلهية، والأحكام النبوية بالظلم. في الحقيقة أي معرض عن أحكام الله تعالى، وعن أحكام النبي -صلى الله عليه وسلم- هو واحد من هذه الأصناف. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} (النور: 50) إما في قلبه مرض الكفر لم يؤمن بالقضية من أساسها، أو مرض النفاق، أظهر الإيمان، وأبطن الكفر والعياذ

بالله، أو ارتاب شكا إما في الحكم يعني: الحكم الجزئي، أو في جزء من الإسلام، أم يتهمون الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالظلم في الأحكام، والعياذ بالله، هذا لا يمكن أن يتردى فيه أي مؤمن أبدًا. {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (النور: 50)؛ لأنهم لم يفهموا قضية الإيمان، ولم يفهموا أن إيمانهم يستلزم منهم الاستجابة لله تعالى، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-. بعد أن وضح الله تعالى موقف هذا الفريق بهذا الوضوح والجلاء الذي تكلمنا عنه ينتقل إلى موقف الفئة المؤمنة بحق التي لم تزعم الإيمان بلسانها فقط، إنما طبقته بقولها، قال الله عنهم وعن سلوكهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 51 - 52). أيضًا {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هذه جملة معرفة الطرفين، كلتا الجملتين جملة معرفة الطرفين، في الآية الأولى، وفي الآية الثانية: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51)، الفلاح في الاستجابة، في الطاعة، في الامتثال، في الانقياد لحكم الله -تبارك وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك الفوز، ومن يطع الله ورسوله، ويضم إلى ذلك أن يخش الله ويتقه، فأولئك هم الفائزون، لا فوز ولا فلاح بعيدًا عن هذه الدائرة الإيمانية، وهي طاعة الله -تبارك وتعالى-، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. بعد ذلك بآيتين: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54) هدايتكم في طاعته. يعني: أطيعوا الله أيضًا، الفعل "قلنا" هنا مرة أخرى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا}، كل قد أدى ما عليه، هو قام بما سيحاسبه عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أدى ما

حمل، أما أنتم فانظروا موقفكم، كل واحد سيتحمل نتيجته {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وقد أدى الرسول ما عليه من البلاغ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54). وبعد ذلك أيضًا بآية أو بآيتين: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور: 56) عدد من الآيات المتوالية التي تتحدث عن هذه القضية، وحديثها عنها كما ترون نفي الإيمان، إثبات للفوز والفلاح للفئة المطيعة، تعليق الهداية على طاعته، أمر بطاعة الله وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الاستقلال بتكرار الفعل، وتعليق الرحمة: هنا فوز، وهداية، وفلاح، ورحمة، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وتنوع في الأساليب، ومقارنة بين فئة نفى الله عنها الإيمان، رغم أنها زعمت أنها أطاعت الله تعالى ورسوله، وآمنت بهما، وعن فئة استجابت لما قالت والتزمت وانسجمت، وطبقت، وأطاعت، فكان لها الفوز، ولها الفلاح، ولها الهداية، ولها الرحمة. وسورة الأحزاب أيضًا من الآيات التي تضمنت أمرًا بطاعة الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وتحذيرا من مخالفته، في سورة الأحزاب بعد أن يتكلم الله تعالى عن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، الأصناف العشرة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية، وختمها بقوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35)، جاء في الآية بعدها وقال -عز من قائل-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36). وأيضًا لنا وقفة مع بلاغة القرآن الكريم، ومع لسان هذا التعبير الذي جاء به القرآن الكريم بهذا الوصف: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36). الآية

قالت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} لم يقل الله تعالى مثلًا، أو لم يكن التعبير القرآني: وما كان لذكر أو أنثى، ولم يكن التعبير القرآني: وما كان لرجل أو امرأة، وما كان التعبير القرآني: "وما كان لبشر"، وكل هذه أو واحدة منها كانت ممكنة في التعبير إذا أراد الله، لكن إيثار الكلام بوصف الإيمان؛ ليدل على أن القضية قضية إيمانية؛ لأن الآية ماذا تقول؟ الآية تنفي الاختيار، أو تسقط حق الاختيار عن المؤمن إذا كان هناك حكم لله تعالى، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- في المسألة، حين يكون هناك حكم؛ فإن الإيمان يطلب أن تستجيب ولا تختار، لا يمكن أن يكون هناك اختيار، لماذا أسقط الله حق الاختيار هنا، وقد يقول قائل مثلًا: إن العقل يقتضي أن يترك لي الخيار في أن أختار بين الأحكام، وأن أختار ما أراه مناسبا؟ لا، هذا لا ينفع؛ لأن الاختيار من ناحية الواقع العملي يكون بين بدائل، يعني: على الأقل يوجد بديلان، فأختار بينهما، وقد يكون الاختيار بين أكثر من بديلين، مثلًا: هذه قطعة أرض، وعدة قطع، أختار هذه أو تلك لأشتريها. مثلًا: هناك أنواع من السيارات، أي نوع أختار لكي أشتريها. عدة بنات معروضة للزواج مثلًا: أتزوج من؟ تستشير، وتستخير، وتطابق من الناحية الشرعية، ثم تختار ما يؤدي إليه اجتهادك من أن هذا أفضل الاختيارات. هذا المعنى وهو مفهوم الاختيار وتطبيقه أن يكون بين بديلين أو أكثر، هل يصلح أن يطبق بهذا المفهوم بين حكم الله -تبارك وتعالى- وحكم غيره؟ هل يجوز أن تعقد مقارنة أو أن يرد على قلب مؤمن أو عقله أن يقارن بين حكم الله تعالى، وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين حكم غيرهما؛ لكي يختار في النهاية ما يراه مناسبا؟ ما هي معايير الاختيار التي سيختار على أساسها؟ أعوذ بالله، القضية من أساسها مرفوضة؛ لأنه عند وجود حكم الله -تبارك وتعالى-، وحكم رسول -صلى الله عليه وسلم- فهذا

الحكم هو سيد الأحكام وأعدلها، وقد قلنا قبل ذلك: قول الصحابي، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأرشد. وقبل ذلك قلنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) الحياة الحقيقية، الآمنة، المطمئنة، المتضمنة لكل جوانب الخير. نعم ممكن تكون هناك حياة مليئة بالمتع الدنيوية بعيدة عن المنهج الإلهي، لكن أهل الإيمان لا يتصورون أبدًا أن هذه الحياة المثلى التي يتطلعون إليها لا. هذا أمر معروف عند أهل الإيمان، فلا يمكن لمسلم أبدًا أن يعقد مقارنة بين حكم الله تعالى، وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إنما المقارنة محسومة لصالح حكم الله تعالى، وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يوجد أبدًا اختيار انتهى؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} (الأحزاب: 36). والله -عز وجل- يبين أن أهل الإيمان لا يمكن أبدًا إلا أن يكون الاختيار واضحًا في ذهنهم، وأنه لصالح حكم الله تعالى، وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم-. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) ولذلك لم يكن التعبير القرآن: "وما كان ذكر أو أنثى"، إنما هنا يخاطب أهل الإيمان الذكر والأنثى من أي ديانة أخرى قد يشوش عليهم الأمر، وقد لا يفقهون المسألة في ضوء هذا المعنى الإيماني الرائع، فتختلط عليهم الأمور، لكن أهل الإيمان يعلمون أن حكم الله تعالى، وحكم نبيه -صلى الله عليه وسلم- هما خير الأحكام، وهما أعدل الأحكام، وهما سيدا الأحكام، وأصلا هذه الأحكام جاءت لخيرنا نحن، الله تعالى شرعها لإنقاذنا من الهلكة، وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لفوزنا، لفلاحنا، لنجاتنا من النار، وفوزنا بالجنة، كل الأحكام جاءت لصالحنا في ديننا، وفي دنيانا، فكيف يستقيم أن نختار بين هذه الأحكام وبين غيرها مهما كانت الجهة التي صدرت عنها تلك الأحكام؟! بل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36).

وانظر كلمة "أمرا" جاءت بالنكرة؛ لتشمل كل الأمور، في أمور الدنيا، في أمور الآخرة، في أمور الاعتقاد، في أمور الشريعة، في أمور العبادات، أي أمر من الأمور قضى الله فيه، وقضى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالقضاء لله تعالى، ولنبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك ختمت الآية بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36). وختام الآية عجيب، ونحن نعلم من علم البلاغة أن ختام كل آية متعلق بمضمونها، مرتبط بها، وهذا هو التذييل عند علماء البلاغة، تذييل الآية يكون مرتبطا بمضمونها، فلا يمكن أن تختم الآية بختام أو تذيل بذيل لا يتناسب مع مضمون الآية، قصة الأعرابية التي سمعت القارئ يقرأ، ولم تكن تحفظ القرآن: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (المائدة: 38) والله غفور رحيم، قالت للقارئ: كذبت؛ لو رحم ما قطع. المرأة بسليقتها البلاغية، بقريحتها الأدبية فهمت أن ختام الآية لا يلتقي مع مضمونها، كيف يتكلم عن قطع، والقطع عقوبة شديدة، ثم تختم الآية بالرحمة؟ لا، إنما الآية فيها عقاب، فختمت ب ـ {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38)، عزيز غالب، يفعل ما يشاء، وكل أحكامه لحكمة حتى وإن خفيت عن البعض. إذًا، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36) إنما جاءت لتبين أن ورود الاختيار على ذهن مؤمن هو معصية، حتى لو انتهى في نهاية الأمر إلى اختيار حكم الله تعالى، وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأوقات حتى لو كانت لحظات، هذه اللحظات التي قضاها في التردد والاختيار أيطبق هذا أو ذاك، هي لحظات مخالفة للإيمان؛ لذلك كانت معصية شديدة، وختم الله الآية بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36) عصمنا الله تعالى من الضلال، ومن الزلل، ومن عدم الفهم لديننا، ومن المعصية.

أيضًا في سورة الأحزاب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70 - 71)، الفوز العظيم ليس فوزًا عاديًّا، إنما هو فوز عظيم ربطه الله تعالى بطاعة الله تعالى، وبطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. أقف مع سورة سبأ مثلًا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وما دام -صلى الله عليه وسلم- هو رسول إلينا جميعًا، فإننا يجب علينا طاعته، وإلا لما أرسله الله لنا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإذن اللَّهِ} (النساء: 64)، لكن أيضًا سأقف مع الآيات الصريحة، وسأنتقل إلى سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 33)، تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله، ومع الرسول، والنداء بصفة الإيمان الذي أشرنا إليه قبل، وختام الآية ب {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}؛ للدلالة على أن مخالفة الله تعالى، ومخالفة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تبطل الأعمال وتحبطها، وتضيعها -والعياذ بالله-، وتضيع ثمرتها ونتيجتها، ويجدها صاحبها هباء منثورًا يوم القيامة، والعياذ بالله. كل ذلك من الدلالات الخطيرة التي تبين منهج القرآن في وجوب طاعة الله -تبارك وتعالى-، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. إذا انتقلت إلى سورة الفتح بعدها مثلًا: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 17). في سورة التغابن: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (التغابن: 12) أيضًا تكرار الفعل "أطيعوا"، والنهي عن التولي، قبل ذلك في سورة المجادلة: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المجادلة: 13)، دعوة إلى طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

ونصل إلى مسك الختام في الآيات التي تحث على الطاعة، وقد تركنا غيرها كثيرًا يعني: في التي لا يكاد يذكر البعض سواها، هي قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، الآية التي استدل بها ابن مسعود -رضي الله عنه- في الحديث الصحيح المشهور المروي عند البخاري ومسلم حين قال: ((لعن الله النامصات والمتنمصات، والواشمات والمستوشمات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)). ابن مسعود يلعن المرأة النامصة والمتنصمة التي ترقق حواجبها، والتي تضع وشما على وجهها أو على يديها أو على جبهتها كعلامة للتجميل والتزيين، وتظهر بها أمام الناس ليس لزوجها فحسب، والتي تفلج أسنانها، تبردها بمبرد، أو ما شاكل ذلك، وتجعلها متساوية .... الخ، علامات التجميل التي يعرفها يعلمها الذين يفعلون ذلك لعنهم عبد الله بن مسعود، والحديث ورد موصولًا، مرفوعا، وهو صحيح. المرأة لما سمعت عبد الله بن مسعود يلعن قالت: وما لك تلعن؟ يعني: أنت لست تشرع. هي تسأله يعني: هل يوجد أو يملك واحد غير الله تعالى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلعن أو أن يشرع؟ ما لك تلعن، ولعنك هذا كأنه تشريع؟ لأنك تلعن من فعل كذا وكذا، فقال لها: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: والله لقد قرأت ما بين الدفتين، أو ما بين اللوحين تقصد: أنها قرأت المصحف كاملًا، فلم تجد لعن الله النامصة؛ هي تبحث عن هذا الحديث، وكأنها فهمت أن عبد الله بن مسعود يقصد أنه موجود بنصه وفصه في كتاب الله، فقالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين، أو ما بين دفتيه -تقصد: المصحف من أوله إلى آخره- فلم أجد هذا. قال لها: أما إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، ألم تقرئي قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الر َّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، أمر من الله تعالى بأن كل ما يأمرنا به نقول: سمعنا وأطعنا، وأن كل ما ينهانا عنه نجتنبه في طاعة أيضًا مطلقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

الآيات التي نهت عن مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

بنفس الاختيار الذي ذكرناه في سورة الأحزاب، أية التخيير أيضًا التي في سورة الأحزاب، حتى العلماء يسمونها آية التخيير: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب: 28)، يخيرهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين هذا الأمر: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 29)، هذه الآيات يسمونها: آيات التخيير؛ لأن الله تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يخير أزواجه بين البقاء معه على ما هو عليه، أو بين أن يمتعهن، ويسرحهن يعني: يطلقهن، ويعطهن حقوقهن من متعة وغيرها، وهكذا فالأمر محسوم بالنسبة لأمنا عائشة بدأ بها، وقال لها: ((لا تجيبي حتى تستأمري، أو حتى تستشيري أبويك. قالت: أفيك أستشير يا رسول الله!)) القضية محسومة هذه قدوة حين يكون حكم لله -تبارك وتعالى- أو حكم لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن المؤمن أبدًا لا ترد على باله أو على عقله قضية الاختيار من أساسها، بل الأمر محسوم لصالح حكم الله تعالى، وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم-. الآيات التي نهت عن مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- الآيات التي نهت عن مخالفته -صلى الله عليه وسلم-: إذا جئت إلى سورة النساء، وكنا قد تكلمنا عن آيات المواريث ختمها الله تعالى بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (النساء: 13). {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} (النساء: 14) هذا هو النهي عن المخالفة {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الأحزاب: 36) ويتجاوز حدوده لا

يطبقها، وهي تشريعاته التي حدها الله لعباده يهدده الله تعالى بجهنم، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 14)، انظروا إلى عقاب المخالفين، حتى مهما يقول: إنني أمنت بالله وبرسوله، ثم يوزع الميراث مثلًا بهواه، مخالفا في ذلك حكم الله تعالى، وحكم نبيه -صلى الله عليه وسلم-. وفي سورة النساء أيضًا: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115)، مشاققة الرسول ومخالفته كلها شر بلاء ووباء على من يقع فيها، والعياذ بالله. حتى هنا يعني: ذكر الرسول وحده -صلى الله عليه وسلم- {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115). وإذا ذهبت إلى سورة الأنفال، الله -عز وجل- يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الأنفال: 13) هو يتحدث عن الكفار {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 4)، تحذير بعقاب شديد، مهين مؤلم لمن وقف موقف المعاندة والمشاققة، والمخالفة لما جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، وما جاء من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. في سورة التوبة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 63)، نار جهنم خالد فيها وله خزي، وليس خزيا عاديا، إنما هو خزي عظيم والعياذ بالله، كل ذلك من جزاء المخالفين المبتعدين عن هديه -صلى الله عليه وسلم-. في سورة النور: {فَلْ يَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) فليحذر الذين يخالفون عن أمره، يعني: لا ينبغي أن

يصدروا في أي شأن من شئونهم إلا عن أمره -صلى الله عليه وسلم-، يعني: يردون مورده، ويشربون تشريعه، ولا يبتعدون عن ذلك قيد أنملة. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (النور: 63)، وفسر الفتنة بما شئت: ابتلاء، عذاب، هي كل ذلك من معانيها، خزي في الدنيا، وفي الآخرة، كل ذلك من معاني الفتنة، والعياذ بالله، وقد خصت بالكفر أيضًا. "تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" كل ذلك من جزء ينتظر الذين يخالفون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصدرون عن أمره في كل شأن من شئون حياتهم. إذا انتقلت إلى سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 33) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 32)، مشقاقتهم للرسول لن تضر الله تعالى ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، وإنما الخسارة ستعود عليهم، وسيحبط أعمالهم. وأيضًا في سورة الفتح {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 17). وفي سورة المجادلة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (المجادلة: 5)، كبتوا يعني: هزموا، باءوا بالخسران، وبالكبت، وبالضيق، أحاط بهم البلاء والوباء من كل جانب، وضربت عليهم الذلة، كما في الآية أيضًا في سورة المجادَلة أو المجادِلة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} (المجادلة: 20) هؤلاء من بين الأذلة الذين ألبسهم الله لباس الخزي والندامة، والمذلة والمهانة، والخسران في الدنيا وفي الآخرة. هل بسرعة سريعة نتذكر الآن الجزاء للمخالفين من خلال الآيات التي ذكرت: كبت، ومذلة، وخزي، ونار خالدين فيها، وعذاب عظيم، وأكثر من ذلك: تصيبهم فتنة،

الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة.

يصيبهم عذاب أليم، تهديد بالعقاب الشديد، بعد كل ما ذكر، فإن الله شديد العقاب، نوله ما تولى، نتركه إلى ما اختار، ونصليه جنهم وساءت مصيرا، كل ذلك من جزء المخالفين، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. فانظر إلى الآيات القرآنية التي تنوعت ما بين آيات حثت على الطاعة، وأيضًا تنوعت في أساليبها في الدعوة إلى الطاعة، وما بين آيات حذرت من المخالفة. الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة إذا انتقلت إلى السنة المطهرة لأستدل من خلالها على وجوب اتباع السنة -يعني: الأحاديث الشريفة- فسأجد جملة من الأحاديث، وسأذكر بعضها فقط، يعني: كإشارة إلى غيرها من الأحاديث: في الحديث عند البخاري: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى))، هذا حديث رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كل الأمة يدخلون الجنة إلا من أبى، سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- إباء، معصية النبي -صلى الله عليه وسلم- سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- إباء، إعراضا، توليا، جحودًا، بعدًا. وأيضًا روى البخاري، ومسلم -رحمهما الله تعالى- من حديث أبي هريرة أيضًا، وهو عند مسلم وغيره، جزء من حديث: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)). هذا رواه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام، أيضًا باب: الاقتداء بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورواه مسلم في الحج في سياق طويل، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا. قام رجل فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ يعني: هل يجب علينا الحج في كل عام؟

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم)). النبي -صلى الله عليه وسلم- سكت عن الرجل حتى كررها ثلاث مرات، وكان يحب -صلى الله عليه وسلم- أن ينتبه الرجل إلى أمر هام، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان الحج واجبًا في كل عام سينبه إليه ابتداء من غير سؤال، يعني: لن ينتظر حتى يسأله أحد عن ذلك، لماذا؟ لأن هذا من أنواع البيان، إذا كان واجبًا في كل عام فعليه أن يبينه هل يمكن مثلًا أن يكون واجبا في كل عام، أي يكون الحج واجبا في كل عام، ثم يسكت عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-. لنفترض أن أحدًا لم يسأل، ومن القواعد الأصولية: تأخير البيان عن وقت لحاجة لا يجوز. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سكت عن الرجل؛ لعله ينتبه ثلاث مرات، فلما أصر الرجل على سؤاله قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو قلت نعم لوجبت، أي: لوجب الحج في كل عام، ولما استطعتم. لو قلت نعم واضحة الدلالة. هذه الجملة في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرع، وأنه إذا شرع وجب، ويجب علينا أن نمتثل، ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ماذا سيكون شأنكم لو قلت نعم، وأنتم لا تستطيعون؟ إذا كلمة أو جملة "لو قلت نعم" هي تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرع، وأن على الأمة أن تقول: سمعنا وأطعنا. أيضًا حديث العرباض بن سارية -رضي الله تعالى عنه- وهو عند الترمذي، وعند أبي داود -رحمهم الله تعالى-: ((صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة زرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، أي: وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين -عليكم بسنتي: الدعوة إلى اتباع السنة، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين- تمسكوا بها، وعضوا علينا بالنواجذ، وإياكم ومحدثات

الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). هذا رواه الإمام الترمذي في جامعه، وقال عنه: حسن صحيح. ورواه أبو داود أيضًا في كتاب السنة، باب: في لزوم السنة. وأيضًا من الأحاديث الواردة في هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني في عصى الله)) هذا حديث رواه البخاري في كتاب الجهاد، باب: السمع والطاعة. ورواه الإمام مسلم أيضًا في كتاب الإمارة، باب: طاعة الأمراء في غير معصية الله. "من أطاعني فقد أطاع الله" انظروا إلى هذا التلازم بين طاعة الله تعالى، وطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هما شيء واحد، لا يستطيع مسلم أبدًا أن يفصل بينهما، وهذا يغلق الباب أمام أي فهم عقيم يحاول أو يتصور أنه يعني يخالف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم هو في نفس الوقت يتصور أنه طائع لله تعالى، لن يكون ذلك أبدًا؛ التلازم بين الطاعتين واضح، وكذلك التلازم بين المعصيتين، فمن عصى الله، أو عصى رسوله فقد عصى الآخر باتفاق أهل العلم على ذلك، لا يخدعن الشيطان أحدنا عن هذا الفهم الذي ينبغي أن نكون عليه. ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله))؛ لأنه هو المبلغ عن الله؛ لأنه هو الذي نقل لنا ما يريده الله تعالى من عباده، أتى لنا بالحنفية السمحة وبالقرآن، والسنة ... إلى آخره. أيضًا من الأحاديث الواردة في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إني تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي))، وهذا حديث رواه الإمام الحاكم في كتاب العلم، في جزء واحد من الطبعة القديمة في ص 93. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 5 حجية السنة (3).

الدرس: 5 حجية السنة (3).

استكمال الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (حجية السنة (3)) استكمال الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه، وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنواصل كلامنا عن بقية أدلة السنة الدالة على ضرورة اتباع السنة المطهرة. العلماء أشاروا -ومنهم ابن حزم، ومنهم الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- في كتابه (حجية السنة) - إلى أدلة كثيرة تحتم اتباع السنة المطهرة، منها دليل الإيمان. دليل الإيمان معناه أن كل الآيات، وكل الأحاديث بينت أننا لن ينعقد إيماننا، ولن يتم إلا إذا حكّمنا الرسول -صلى الله عليه وسل م- في كل شأن من شئون حياتنا. مرت بنا هذه الآيات، وهذه الأحاديث في الدرسين الماضيين، لكن لأن العلماء جعلوه دليلًا مستقلًّا وهو دليل الإيمان، فإننا نشير إليه في عجالة، حين يقول الله -تبارك وتعالى- {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59) نرى هنا أن الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم قد علق الإيمان على رد التنازع إلى القرآن وإلى السنة، وكما قلت: نادنا أولًا بصفة الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59). ف الله تعالى يطلب أن نطيع الرسول، وقبل ذلك طلب بنا أن نؤمن بالرسول -صلى الله عليه وسل م- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (النساء: 136) وفي قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) فمقتضى ذلك أن نؤمن بالله ورسوله لأن الله -تبارك وتعالى- طلب من الإيمان بذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}

وفي آية الأعراف {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158). مقتضى ذلك أن نؤمن بالله وبالرسول، ثم إن الإيمان يقتضي الإيمان التصديق بكل ما جاء به هذا الرسول، إن حدث عكس ذلك؛ يعني هب أن واحدًا مثلًا يزعم أنه آمن بالرسول ثم لم يؤمن ولم يصدق بكل ما جاء به هذا الرسول، هل تسلم له قضية الإيمان هذه؟ لا يمكن؛ لأنه جزء من إيماننا بالرسول -صلى الله عليه وسل م- أن نؤمن وأن نصدق بكل ما جاء به هذا الرسول، من القرآن من السنة، كل ما جاءنا به نصدقه، وإلا فلن يكون هناك مؤمن، بل لن تنسجم قضية الإيمان أصلًا إذا شك أو ارتاب أحدنا في شيء مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسل م-. إذن هي قضية واضحة جدًّا، أولًا: أن الله علق الإيمان على طاعتنا للرسول -صلى الله عليه وسل م-. وقبل ذلك طلب منا أن نؤمن بالله وبرسوله -صلى الله عليه وسل م- وأنه ينبغي أن يكون في ذهن كل مؤمن أنه لن يكون مؤمنًا حقًّا إلا إذا صدق الرسول في كل ما أخبر به. ولا ينسجم -كما قلنا- أن يتصور أحد أنه مؤمن ثم هو يكذب ببعض ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسل م- إذن كيف تؤمن به؟ وما معنى أنك تؤمن أو مصدق بأنه رسول؟ تصديقك بأنه رسول يعني هو من عند الله -تبارك وتعالى- ويخبر عن الله تعالى. يقول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في (الرسالة) وهي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر -عليه رحمة الله- وقد رقم فقراتها، في الفقرة 239 وما بعدها يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له أول شيء في خطوات الإيمان، وكل شيء بعده تبع له. فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله، فلو آمن عبد به -أي بالله تعالى- ولم يؤمن برسوله لم يقع عليه اسم كمال الإيمان حتى يؤمن برسوله معه". لعل الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقصد بكمال الإيمان هنا أي: كمال

انعقاده، فإن انعقاده ليس الكمال المعروف المضاد للنقص، بمعنى أن أصل الإيمان موجود، ثم قد يتعرض لشيء من النقص، فلا يكون كاملًا، لا، إنما المقصود بكمال الإيمان هنا؛ أي انعقاد الإيمان؛ أي كمال انعقاده، لن يكون إلا بالإيمان بالله تعالى وبرسوله -صلى الله عليه وسل م-. فانعقاد الإيمان لا يكون إلا بذلك، ومن هنا قلنا قبل، وها نحن نكرر أن الإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسل م- جزء من إيماننا بالله تعالى، والذي يكذب الرسول -صلى الله عليه وسل م- هو في نفس الوقت يكذب الله تعالى؛ لأن الله تعالى هو الذي أرسله، ومن هنا وجبت طاعة الرسول بمقتضى هذا الإيمان في كل ما يبلغه عن ربه ما دمت قد آمنت بأنه رسول وصدقته واتبعته، فعليك أن تصدق كل ما أخبر به عن الله تعالى، ولا يجوز أبدًا لا في عقل، ولا في واقع، ولا في نقل أن يزعم أحد الإيمان ثم هو يكذب ببعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام الشافعي أيضًا في موطن آخر من مواطن رسالته: وكل ما سن -هو هنا تكلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- وكل ما سن يقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته أي: طاعة الله -عز وجل- يعني اتباعنا للنبي -صلى الله عليه وسل م- هي طاعة لله -تعالى-. "وجعل في اتباعه" الضمير في اتباعه يعود إلى النبي -صلى الله عليه وسل م- طاعته تعود على الله تعالى. كلام الشافعي: "وكل ما سن أي النبي -صلى الله عليه وسل م- فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها أي المعاندة عن السنة معصيته أي: معصية الله -سبحانه وتعالى- التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسل م- أو سنن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- مخرجًا". يعني: لا عذر لأحد أبدًا في مجانبة السنة وفي معصية الله تعالى المترتبة على معصية

السنة، الله تعالى لم يعذر أحدًا أبدًا لم يقبل عذرا من أحدًا في تخلفه عن طاعة النبي -صلى الله عليه وسل م- وعن امتثال أمره، ولم يجعل لأحد أبدًا من اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسل م- مخرجًا. إذن هذه أقوال تبين أن الإيمان الذي هو دليل من أدلة أهل السنة؛ يعني ترتيبه كالآتي: أولًا: نؤمن بالرسول -صلى الله عليه وسل م- بأنه من عند الله، وإيماننا بهذا الرسول -صلى الله عليه وسل م- يرتب عليه أن نؤمن بصدقه في كل ما أخبره به عن الله -عز وجل- وفي وجوب اتباعه. هذه مجموعة من القضايا المتلازمة التي تندمج وتتحد فتصبح قضية واحدة، كل جزئية منها مبنية على الجزئية التي قبلها، أنت صدقت أنه رسول، هذا التصديق يقتضي أن تصدق في كل ما أخبر به عن الله تعالى، وأيضًا يقتضي أن تتبعه في كل ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسل م- وأن تعلم أن اتباعك للنبي -صلى الله عليه وسل م- هو عين الطاعة لله -عز وجل- وأن معصية النبي -صلى الله عليه وسل م- هي معصية لله -تعالى-. هذا التلازم لا بد أن يكون واضحًا في ذهن كل مؤمن، ولنعلم أيضًا أن الله -عز وجل- لم يقبل عذرًا من أحد من خلقه في مجانبة السنة أو معاندتها أو في عدم اتباعها، وأيضًا لا مخرج لنا إلا باتباع النبي -صلى الله عليه وسل م-. إذن هذا دليل الإيمان الذي لم يخالف فيه أحد من أهل السنة والجماعة، والذين يعلمون أن الإيمان يحتم على أتباعه، وعلى أبنائه أن يصدقوا النبي -صلى الله عليه وسل م- وأن يتبعوه في كل ما جاء به من عند الله -تبارك وتعالى-. أيضًا من الأدلة الدالة على وجوب اتباع السنة دليل الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- سماه دليل العصمة، خلاصته أن الأمة أجمعت على عصمته -صلى الله عليه وسل م- عما يخل بالتبليغ. كل الأمة مجمعة على أن الله قد عصمه أن يقع في شيء ما يكون سببًا في خلل التبليغ الذي أرسله الله تعالى به، والذي وضحه في كثير من آيات القرآن الكريم

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67)، وأيضًا {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (الشورى: 48) إلى آخر الأدلة التي تبين مهمة التبليغ للنبي -صلى الله عليه وسل م - لكي يؤدي النبي -صلى الله عليه وسل م- التبليغ على الوجه الذي يرضي الله -عز وجل- لا بد أن يكون معصومًا من كل شيء يخل بهذا التبليغ. فهل كان لا يؤمر بالتبليغ بشيء من أحاديثه ثم يقولها هو من عند نفسه؟ يعني هو مبلغ عن الله -عز وجل- وإن لم يبلغ فلن يكون قد أدى الرسالة، كما قال الله تعالى {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) فهل الله -عز وجل- لم يأمره بتبليغ بعض الأحاديث ثم هو بلغها؟ أو هو قالها من عند نفسه؟ أتى بها من عند نفسه؟ ما حكمنا على من يقول بذلك؟ أظن الإجابة واضحة، إذن الله -عز وجل- عصمه أن يخل بأمانة التبليغ، لا بانتقاص شيء منها، ولا بإضافة شيء إليها، فكل ما قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- هو تبليغ عن الله -تبارك وتعالى-. إذن: لماذا جعل الله طاعتنا للنبي -صلى الله عليه وسل م- هي طاعة لله -عز وجل-؟ لأن -كما قلنا- هو يقول بأمر الله ويبلغ مراد الله ... إلخ. فهل هناك جملة من الأحاديث النبوية مثلًا بعضها -أيًّا كان الرقم- النبي -صلى الله عليه وسل م- أتى بها من عند نفسه، ولم يكن فيها مبلغًا عن الله تعالى؟ وهل لو قبل عقل ذلك يكون قد أيقن أن النبي -صلى الله عليه وسل م- قام بهمة التبليغ على الوجه الذي يرضي الله -عز وجل-؟ أعتقد أن الإجابة واضحة، لا يمكن أبدًا أن يقبل عقل مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسل م- كما قلت أنقص أو نقص شيئًا من التبليغ أو زاد شيئًا فيه من غير أمر الله تعالى. إذن دليل العصمة هذا من الأدلة القوية على وجوب اتباع السنة، لماذا؟

السنة وحي من عند الله.

لأن السنة جزء مما أمر النبي -صلى الله عليه وسل م- بتبليغه، إذا لم نعتقد ذلك، فكأننا نقول بأن النبي -صلى الله عليه وسل م- يحدثنا بشيء لم يؤمر بتبليغه؛ أي يقوله من عند نفسه، وهذه طامة كبرى على من يتردى فيها، والعياذ بالله رب العالمين. هنا نقطة سأوضحها بسرعة، وستكون لها تتمة في مبحث آخر يأتي بعد قليل ما هي هذه النقطة؟ هل معنى ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقول شيئًا باجتهاده أبدًا؟ هل لا بد أن ينتظر الوحي في كل صغيرة وكبيرة قبل أن ينطق؟ أرجو أن نكون على ذكر من السؤال الآن لأن الإجابة ستأتي بعد قليل. السنة وحي من عند الله من الأدلة أيضًا على ضرورة اتباع السنة أنها وحي من عند الله، وما دامت وحيًا فقد وجب اتباعه: أما أن السنة وحي من عند الله -تبارك وتعالى- فهذا أمر قامت عليه أدلة كثيرة من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة: فمن القرآن الكريم قول الله -تبارك وتعالى- في سورة النجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (النجم: 1 - 6) هنا الآيات في مطلع سورة النجم تبين أن النبي -صلى الله عليه وسل م- لا ينطق عن الهوى، وإن هو إلا وحي يوحى، الضمير في "هو" يعود على كل ما نطق به النبي -صلى الله عليه وسلم-. {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 - 3) إذا خصصت كما يحاول البعض في محاولة يائسة لزعم بأن السنة قد لا تكون وحيًا، هو هنا يريد أن يقول: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4) يعود على القرآن الكريم.

لو قلنا ذلك، هذا تخصيص بدون مخصص، لم يسبق ذكر للقرآن الكريم في الآيات من مطلع السورة حتى يقال: إن الضمير يعود عليه وحده {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} بل إن الآيات في سياقها العام تؤكد أنها دفاع عن النبي -صلى الله عليه وسل م- الله تعالى يقسم بالنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم -صلى الله عليه وسلم-. والتعبير القرآني البليغ العظيم آثر التعبير بقوله تعالى {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} ولم يقل: "ما ضل محمد" التعبير بالصحبة التي تعني الملازمة، وتعني الدراية الكاملة بكل أحواله، القرآن يؤكد أنكم تعرفونه، فقد صحبتموه، وعاش بينكم قبل النبوة أربعين سنة، وجربتم أخلاقه وصدقه وأمانته، ولا يستطيع أحد فيكم أن يزعم أنه كذب في يوم ما، ولو كذبة صغيرة أو بيضاء أو سوداء كما يحاول البعض أن يلون الكذب الآن بألوان متعددة؛ ليجيز بعضها ويمنع بعضها. {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسل م- يقتضي بأن يكون السياق مقصودًا به القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإلا لو قصرناه على القرآن الكريم ما ضل صاحبكم في القرآن، وما شأنه في السنة، لو أراد أحدهم أن يقصر الكلام أو السياق على القرآن الكريم {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ ... } لو قلنا القرآن فقط إذن السنة أو ما قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- من غير القرآن جاء به في ضل وغوى والعياذ بالله، نسأل الله السلامة من هذه الأفهام التي تتعارض مع الإيمان بوضوح. إذن {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ} أي الذي ينطق به قرآنًا كان أو السنة المطهرة. إذن هذا دليل، ونلاحظ أن الآية في مطلع سورة النجم جاءت بأسلوب القصر،

أسلوب القصر معروف عند البلاغيين، هو قصر شيء على شيء، ونفيه عمن عاداه، إذا قلت أنا مثلًا: محمد فاهم. هذه الجملة أثبتت الفهم لمحمد، لكنها لم تنفه عن غيره، فنقول: محمد فاهم وغيره أيضًا فاهم، لكن إذا أردت استعمالًا يثبت الفهم لمحمد، وينفيه عما سوى محمد، فلا بد أن آتي بالكلام في أحد أساليب القصر. القصر أو الحصر كما قلنا: إثبات شيء لشيء، لو قلت في تعريفه إثبات شيء لشيء، وسكت، فهذا ليس بحصر أو ليس بقصر، كل إثبات شيء لشيء يدخل في هذا التعريف، لكن أنا أريد أن أصف شيئًا ما، أو أمرًا ما أو رجلًا ما، أو أي شيء واحد قابل للوصف أصفه بصفة توجد فيه، ولا توجد عند غيره. أنا أريد أن أقول أن هذا الشيء ليس موجودًا عند غيره، فأستعمل أسلوب القصر. أسلوب القصر له أساليب متعددة، يعني كيف آتي بالكلام في أسلوب القصر؟ عن طريق تقديم ما حقه التأخير، يعني أن يأتي المبتدأ مثلًا متأخرًا، والخبر أولًا، ترتيب الجملة نحويًّا أن يأتي المبتدأ أولًا ثم يأتي الخبر ثانيًا، أو أن يأتي المفعول مقدمًا على الفعل والفاعل، أو أن يأتي الفاعل مقدمًا على الفعل، كل هذه من أساليب القصر. إذا لم يكن المانع الذي يمنع من ترتيب الجملة نحويًّا مانعًا آخر فإنها حينئذ تفيد القصر، مثلًا حين يقول الله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الجاثية: 37) أصل الجملة: الكبرياء له. الكبرياء: مبتدأ. وله: جر ومجرور متعلق بمحذوف خبر، لو قلت أنا: الكبرياء له. من الممكن أن يقول قائل: ولغيره أيضًا. لكننا أردنا أن نحصر صفة الكبرياء لله -عز وجل- وأن نقصرها عليه -جل في علاه- فقال القرآن: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} أي أن صفة الكبرياء مقصورة على الله -عز وجل- ولا يحق لأحد من الخلق أن يتخلق بها أو أن يتصف بها، وإلا نازع الله تعالى في صفة من أخص صفاته التي لا يجوز لأحد من خلقه أن يتصف بها.

في قوله تعالى فيما نقرأه كل يوم عدة مرات في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) إياك: ضمير مفعول مقدم. والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، ونعبد الفعل. وأصل الجمل نعبدك. لو قلنا: نعبدك. يقول قائل: ونعبد غيرك، فأراد الله -عز وجل- أن ينفي هذا المعنى، فأتى بالآية في أسلوب القصر. أرجو أن يكون معنى القصر وضح من خلال هذه الأمثلة، كيف نقصر كما قلت عن طريق تقديم ما حقه التأخير، عن طريق أسلوب النفي والاستثناء الذي هو معنا الآن: لا فاهم إلا محمد، لا إله إلا الله، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِير} (فاطر: 23) {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (الشورى: 48) هذه كلها أساليب قصر عن طريق النفي والاستثناء. تقديم ما حقه التأخير، والنفي والاستثناء، أيضًا "إنما" إذا تقدمت الجملة تفيد القصر ((إنما الأعمال بالنيات)) أي الأعمال مقصورة على نياتها، لا عمل يقبل من غير نية، إنما الفاهم محمد، حصرت الفهم فيه. وأيضًا من طرق إثبات القصر الجملة معرفة الطرفين يعني أن يكون المبتدأ والخبر كلاهما معرفة "الفاهم محمد" إذا أعربناها ممكن أن نقول: الفاهم: مبتدأ. ومحمد: خبر. إذن هذه جملة معرفة الطرفين، بعكس ما لو قلنا محمد فاهم. الخبر هنا نكرة، فلا تفيد القصر. أنا لا أشرح أسلوب القصر لأنه في مادة البلاغة موضوع يدرس، إنما أنا الآن أوضح وأقرب المعنى لكي تتضح دلالة آية النجم على أن كل ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسل م- وحي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} يعني: قصر الله تعالى ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسل م- على كونه وحيًا، فلا يوجد في كلامه أبدًا شيء غير وحي، هذا معنى القصر {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} لم يقل مثلًا هذا وحي يوحى، قد يقول هذا وحي عن بعض كلامه، وبعض كلامه ليس وحيًا، لا، {إِنْ هُوَ} ما دام قلنا إن الضمير في هو يعود على كل ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسل م- أي كل ما نطق به مقصور على كونه وحيًا من عند الله، فهو لا يقول شيئًا غير الوحي.

هذه من الآيات الدالة على أن السنة وحي من عند الله -تبارك وتعالى- نحن نثبت أن السنة وحي؛ لكي نثبت وجوب اتباعها، فنحن ما زلنا مع الأدلة على حجية السنة. أيضًا من الأدلة على كون السنة النبوية وحيًا من عند الله -تبارك وتعالى- ما ورد في أكثر من آية في القرآن الكريم عن الكتاب والحكمة، هذا المعنى ورد في سورة "البقرة {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة: 129) وفي سورة آل عمران {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164) وورد في الأحزاب {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34) وورد في سورة الجمعة. إذن الحكمة ذكرت مع الكتاب وعطفت عليه، الكتاب والحكمة في الآيات هذه التي أشرنا إليها، هذا يقتضي أن الحكمة غير الكتاب، لماذا؟ لأنها معطوفة عليه، والعطف يقتضي المغايرة عند أهل النحو، أمر بدهي وواضح وجلي أن العطف يقتضي المغايرة، لا يصلح أن أقول: جاء محمد ومحمد، وأقصد أن محمدًا الثاني هو عين محمد الأول، لا يصلح، ولا يستقيم في الأذهان شيء أبدًا إذا قلنا بهذا الكلام، جاء أحمد وعلي، وعلي هو أحمد، ما هذا؟ هذا عبث في الفهم وفي النطق، ولو كان الأمر كذلك كل واحد يفهم الكلام على ما يريده وعلى ما يقوله، وهذا لا يؤدي إلى ثبات حقيقة من الحقائق أبدًا، وتلك هي السفسطة بعينها، كما عرفوها في تعريفاتهم. إذن ما دام الله تعالى قد عطف الحكمة على الكتاب، فإن الحكمة غير الكتاب {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34) الحكمة غير الكتاب، إذن هذا يقتضي أن نؤكد أن الحكمة ليست هي القرآن

الكريم، إذن هي شيء غير القرآن الكريم بدلالة العطف، ثم هذه الآيات التي أشرنا إليها يكمل معناها بآية أخرى، ولذلك هذا الدليل الذي هو إثبات أن السنة وحي من خلال هذه الآيات إنما أيضًا يكمل بعضها بعضًا، أشرنا إلى أربع آيات في البقرة وآل عمران والأحزاب والجمعة، كلها تبين أن من مهام النبي -صلى الله عليه وسل م- أن يعلم الأمة الكتاب والحكمة، وأن الحكمة بالضرورة هي غير الكتاب لأنها عطفت على الكتاب، والعطف يقتضي المغايرة. ننتقل إلى آية النساء {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} (النساء: 113) ثم قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113) فالحكمة والكتاب كلاهما نازل من عند الله تعالى. الآيات التي قرأناها: في البقرة، وفي آل عمران، وفي الأحزاب، وفي الجمعة أثبتنا من خلالها أن الحكمة غير الكتاب بدلالة العطف الذي يقتضي المغايرة، ثم أضفنا آية النساء التي أضافت معنى جديدًا، وقد بينت أن الحكمة نازلة من عند الله -تبارك وتعالى- كالكتاب تمامًا الذي هو القرآن. لو اقتصرنا على الآيات الأربع التي أشرنا إليها من غير آية النساء ربما قال قائل: الحكمة غير الكتاب، لا بأس، لكنها ليست من عند الله تعالى، تأتي آية النساء لتوضح في جلاء لا يقبل الجدل أن الحكمة وحي من عند الله -تبارك وتعالى- لأن الله -وتعالى- قال {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء: 113) إذن مجموع هذه الآيات أثبت أن الحكمة غير الكتاب، وأن الحكمة نازلة من عند الله -تبارك وتعالى- كما نزل الكتاب الكريم، أي كما جاء القرآن الكريم تمامًا.

بقي أن نقول: إن الحكمة هي السنة؛ يعني يقول قائل صدقنا أن الحكمة غير الكتاب، وأن الحكمة نازلة من عند الله -تبارك وتعالى- فهل معنى ذلك أن الحكمة هي السنة؟ نعم، بعدة دلالات، أولًا أفهم الأمة، الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول في (الرسالة) وفي غيرها من الكتب، يقول: "فسمعت من أرضى من أهل العلم يقول إن الحكمة هي السنة" يعني: الذي يرضاه الإمام الشافعي من أهل العلم أجمعوا على أن الحكمة هي السنة. وهناك دليل عقلي في هذه المسألة، لو لم نقل بأن الحكمة هي السنة فبماذا نقول عنها؟ أو بماذا نعرفها؟ أو ما هي؟ لا بد بالضرورة أن تكون الحكمة هي السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسل م- لم يأتنا بغير القرآن والسنة. النبي -صلى الله عليه وسل م- جاءنا بالقرآن الكريم فقط، وبالسنة المطهرة فقط، وما دام لم يأتنا بغير هذين فإن الكتاب معروف، ولا بد من حمل الحكمة على كونها السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسل م- لم يأت بغير هذين الأمرين، وإذا كان البعض سيتوقف في هذا الفهم، فليدلنا، إذا لم تكن الحكمة هي السنة فماذا تكون؟ ولذلك قلنا إن الأمر حتمي بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسل م- لم يأتنا بغير القرآن والسنة، وفي هذا الأمر نقاط أو مسائل. المسألة الأولى: أن السنة وردت في سياقات في القرآن الكريم مضافة إلى كثير من البشر أنهم قد أتوا الحكمة مما يجعلها في هذه السياقات غير السنة، نعم، إذا قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان: 12) فلا يمكن أن نفهم أن الحكمة في هذا السياق هي سنة النبي -صلى الله عليه وسل م-. لقمان كان قبل النبي -صلى الله عليه وسل م-. أيضًا حين يقول الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة: 269) ليكن معنى الحكمة ما يشاء، يكن معنى الحكمة ما يكون، أنا أتكلم عن الآيات التي جاءت

في سياق حديثها عن النبي -صلى الله عليه وسل م- هذا الذي يعنينا، لتكن الحكمة في غير هذه الصياغات، وفي غير هذه السياقات ما يكون، قل عنها ما شئت، هي الإلهام، هي حسن التصرف، هي كذا، كما يعرفونها في الكتب، لكن في الآيات التي قرأناها من آية سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الأحزاب، وسورة الجمعة مع سورة النساء، كل ذلك واضح في أنه لا يمكن حمل الحكمة هنا على غير السنة المطهرة. إذًا لا يشكل عليَّ أن الحكمة جاءت في سياقات أخرى مرادًا بها غير سنة النبي -صلى الله عليه وسل م- ليكن، والكلمة نستعملها في أكثر من معنى، والسياق هو الذي يحدد المعنى. إذن لا يشتبه علي، ولا يشكل لي مشكلة أن الحكمة جاءت في تعبيرات كثيرة في غير سياقها مع القرآن الكريم لا بأس كل من أتى الله يعني آتاه الله تعالى الحكمة، ليكن فهم الحكمة في شأنه ما يشاء، لكن الآيات التي نزلت على نبينا -صلى الله عليه وسل م- وحفظناها، ووعيناها، وقرأناها، وأصبحت جزءًا من ديننا تقطع بأن الحكمة في هذه السياقات لا بد أن تكون هي السنة. إذن هذه آيات من القرآن الكريم بمجموعها وصلنا إلى أن الحكمة هي السنة، وتكون السنة وحيًا من عند الله -تبارك وتعالى-. عندي أيضًا جملة من الأحاديث، مثلًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي هو قد رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص يحكي: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهتني قريش عن ذلك، وقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- بشر، يتكلم في الغضب والرضا". معنى أنهم قالوا ذلك لعبد الله بن عمرو بن العاص يعني: احذر أنت تكتب كل ما يخرج من النبي -صلى الله عليه وسل م- وقد لا يكون بعض هذا أو بعض ما يقوله ليس سنة، انتظر.

إذا كانوا قد قالوا له ذلك، فما الحل؟ هو رفع الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأستاذ، وهو المعني بالمسألة نرفعها إليه فماذا يقول؟ فرفعوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((اكتب فوالذي نفسي بيده، فما خرج مني إلا حق)) اكتب فعل أمر يعني ما خرج مني إلا حق، يعني كل الذي أنطق به حق من عند الله -تبارك وتعالى- هذا واضح حق {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (يونس: 32). فنحن أمة الإسلام ليس لنا من حق إلا ما جاءنا من عند الله -عز وجل- فما دام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق إلا بالحق، فهذا الحق له مصدر واحد، وهو الله -تبارك وتعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك هذا الحديث يقتضي أن نوقن بأن السنة وحي من عند الله -تبارك وتعالى-. أيضًا الحديث الذي رواه الإمام أبو داود وغيره من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحديث المقدام بن معد يكرب أو كرب ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) أوتيت الكتاب، وهو القرآن، وأوتيت الكتاب هنا "أوتيت" فعل مبني للمجهول تدل على أن هناك من جاء بالقرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم-. النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بالقرآن إليه ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) لم يقل ألا إني جئت بالكتاب مثلًا أو إني أتيت بالكتاب، إنما أوتيت الكتاب ومثله معه. الكتاب معروف، وهو القرآن الكريم، فما هو ذلك المثل الذي معه؟ إنه السنة، وحتمًا لا بد أن تكون السنة، وإذا لم يقتنع البعض بهذا سنطرح عليهم السؤال مرة ثانية، إذا لم يكونوا مصدقين بذلك فليخبرونا ما هو هذا المثل الذي أعطاه الله تعالى لنبيه مثل القرآن الكريم تمامًا، لا شيء غير السنة ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) هذه المثلية لا تحمل إلا على غير السنة المطهرة. إذن هذه بعض الأدلة على أن السنة وحي من عند الله -تبارك وتعالى- بقي أن أجيب على السؤال الذي أثرته، ولم أجب عليه، هل حين نقول إن السنة وحي من عند

الله -تبارك وتعالى- فيتحتم ألا ينطق بها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد مجيء الوحي إليه؟ بمعنى أنه لا يجتهد أبدًا، ولا يقول قولًا إلا بعد أن يأتيه الوحي في أي صورة من صور الوحي المعروفة؟ نقول: لا، الرسول -صلى الله عليه وسل م- قد يجتهد في بعض الأمور، وعندنا سياقات ومواقف كثيرة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسل م- تكلم باجتهاده مثلًا قصة المشهورة في غزوة بدر، سواء في الأسرى أو في المكان الذي ينزلون فيه، الحباب بن المنذر، وحين شاور النبي -صلى الله عليه وسل م- أصحابه، وحين جاءته الأخبار أن أهل مكة يستعدون لقتاله قبل أحد بقليل جمع الصحابة وشاورهم. هذا كله يدل على أنه لا يوجد وحي قبل الاستشارة، وإلا لما استشار النبي -صلى الله عليه وسل م- أصحابه في واقعة قال فيها الله تعالى ما يريده من خلقه. نقول: نعم، هناك قسم من السنة قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- باجتهاده، لكن هذا القسم من الوحي أيضًا كيف؟ كيف ونحن أقررنا بأنه قد يتكلم قبل مجيء الوحي؟ هو من الوحي لماذا؟ الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- باجتهاده واحد من أمرين، إما أن يكون مصيبًا، وإما أن يكون مخطئًا، فالوحي يقره، ولا يتركه، إذا احتاج الأمر إلى تصويب وتصحيح صحح له، وإن كان قد قال الصواب والحسن من أول الأمر انتهت القضية، إذا قلنا مثلًا {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (عبس: 2) على رأي من يقولون إن الآية عتاب لرسول الله -صلى الله عليه وسل م- نقول: إذن هو اتخذ هذا الموقف قبل مجيء الوحي، فلم يتركه الوحي، وإنما صوب له. أيضًا في قصة أسرى بدر حين شاور أصحابه جاءه الوحي، وهكذا مواقف كثيرة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسل م- قال بادئ ذي بدء باجتهاده، لكن هذا القسم أيضًا مرده

إلى الوحي باعتبار أن الوحي؛ إما أن يوافقه فيما قاله أو يصحح له إذا كان الأمر يحتاج إلى تصحيح، وبالتالي فإن هذا القسم الاجتهادي، إن صح التعبير أو الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- مرده أيضًا إلى الوحي، إما بالإقرار، وإما بالتصحيح على حسب ما يحتاجه الموقف. ونخلص في نهاية هذه النقطة إلى أن السنة كلها وحي من عند الله -تبارك وتعالى- ونعود إلى كلامنا الأول، وهو الكلام عن حجية السنة فنقول: ما دمنا قد أثبتنا أن السنة وحي من عند الله -تبارك وتعالى- فالوحي يتحتم على المتبعين له والمؤمنين به أن ينفذوه، وأن يمتثلوا له، وإلا فلن يكونوا قد آمنوا بما جاء به هذا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسل م-. أيضًا من أدلة حجية السنة كما قالها العلماء، فهم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كل الأدلة الواردة عن الصحابة -رضوان الله عليهم- تبين في جلاء ووضوح لا يقبل أدنى مناقشة في أن السنة يجب اتباعها. مواقف كثيرة جدًّا، سأل فيها الصحابة النبي -صلى الله عليه وسل م- عن حكم من الأحكام الشرعية لماذا اتجهوا إليه، ولم يبحثوا عنه في القرآن الكريم، وينتهي الأمر بعد ذلك؟ كل الأحاديث التي نستشهد بها هنا في الصحيحين أو في أحدهما، حين تأتي أم سليم إلى النبي -صلى الله عليه وسل م-: "يا رسول الله لا حياء في الدين هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت" هذا حديث مروي عن البخاري ومسلم في كتاب الطهارة، وكتاب الغسل؛ يعني المرأة إذا احتملت يجب عليها الغسل؟ لماذا اتجهت أم سليم بالسؤال إلى النبي -صلى الله عليه وسل م-؟ الأمر ليس موجودًا في القرآن {إِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}؟ (المائدة: 6) لكن ليس بهذا الوضوح أن الاحتلام أو غير احتلام، ربما يتصور الرجل أو المرأة أنها

إذا احتملت فهي غير جنب، فلا يجب عليها الغسل، لذلك سألت النبي -صلى الله عليه وسل م- عن ذلك، وأجابها النبي -صلى الله عليه وسل م- وبين لها أنها إذا رأت الماء فعليها أن تغتسل أي: إذا تأكدت من الاحتلام بنزول المني فعليها أن تغتسل. أيضًا مثلًا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حين يرسل رجلًا للنبي -صلى الله عليه وسل م- يسأله عن المذي يقول: "كنت رجلًا مذاء، وكنت أستحي من النبي -صلى الله عليه وسل م- لمكانة ابنته عنده" يعني هو زوج ابنته، فيستحيي أن يأخذ النبي -صلى الله عليه وسل م- انطباعًا غير جيد أو غير صحيح، فبالتالي كلف من يسأل مكانه عن حكم المذي، وماذا يفعل صاحبه فيه؟ وهناك مواقف أخرى للصحابة تؤكد هذا الأمر أن الصحابة جميعًا قد فهموا أن السنة حجة، وأنه يجب العمل بها، والرجوع إليها في كل شأن من شئون المسلمين. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم بارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 6 حجية السنة (4) - دوافع الهجوم على السنة.

الدرس: 6 حجية السنة (4) - دوافع الهجوم على السنة.

فهم الصحابة لمكانة السنة النبوية في التشريع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (حجية السنة (4) - دوافع الهجوم على السنة) فهم الصحابة لمكانة السنة النبوية في التشريع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فبعون من الله -تبارك وتعالى- وتوفيقه نكمل الكلام عن بقية الأدلة على حجية السنة المطهرة: ذكرنا الأدلة من القرآن الكريم، وذكرناها من السنة المطهرة، وقلنا: إن هناك دليل الإيمان، وخلاصته أن الإيمان لا يتم، وقد لا ينعقد إلا إذا اعتقد المسلمون حجية السنة، وحكموا الرسول في كل ما شجر بينهم، وهذه قضية أقسم الله تعالى عليها بذاته الشريفة {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء: 65) من هذه الآية ومن غيرها من الآيات التي تعلق الإيمان على اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- استنبط العلماء وأخذوا الدليل على حجية السنة، وأسموه دليل الإيمان. مثلًا في سورة النساء -وهذه آيات تعرضنا لها حينما كنا نستعرض الأدلة من القرآن الكريم- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} (النساء: 59) فيعلق القرآن الكريم الإيمان على اتباع السنة، وفي الآية الأخرى يبين أن الإيمان لا يتم، ولا ينعقد إلا إذا حكموا الرسول في كل ما شجر بينهم وهكذا. إذن هناك دليل الإيمان الذي نقول مرة أخرى إن خلاصته أن الإيمان لا يتم، ولا ينعقد إلا إذا حكم المؤمنون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الله تعالى في كل شأن من شئون حياتهم، والآيات في هذا واضحة جلية. وأيضًا الأحاديث التي أشرنا إليها مثل ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) كل هذه الأدلة تبين أن الإيمان يحتم على أتباعه وعلى أبنائه، وعلى أصحابه أن يحكموا النبي -صلى الله عليه وسل م- في كل شأن من شئون حياتهم. أيضًا هناك دليل العصمة الذي قلنا أيضًا أن خلاصته أن الأمة أجمعت على عصمته -صلى الله عليه وسلم- عما يخل بالتبليغ يعني عصمه الله -عز وجل- أن يقصر في شيء من أمور التبليغ، وهذه أيضًا مسألة ثبتت بالقرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) والنبي -صلى الله عليه وسل م- في حجة الوداع أشهد الأمة على أنه قد بلغ في خطبته البليغة التي خطبها يوم عرفة: ((اللهم قد بلغت اللهم فاشهد اللهم فاشهد)) بعد أن علم الأمة أنهم مسئولون عنه -صلى الله عليه وسل م- فماذا أنتم قائلون؟ شهدوا أنه قد أدى وبلغ، فالنبي -صلى الله عليه وسل م- قام بالتبليغ. فبما أنه معصوم من الإخلال بأمر من أمور التبليغ، وإلا لو كان هناك إخلال لما

بلغ، ولما شهدت له الأمة، وكان يكون هناك تقصير في الرسالة ذاتها، وهذا أمر خطير، فالنبي -صلى الله عليه وسل م- لم يخل بشيء من التبليغ، وما دام الأمر كذلك، فإنه قد بلغ أحاديثه بناء على تكليف الله -تبارك وتعالى- له بالتبليغ، فهل يقول هذه الأحاديث من عند نفسه أو هي من عند الله -تبارك وتعالى-؟ إذن هي من عند الله -تبارك وتعالى- إما ابتداء بمعنى أنه لا يقول إلا بعد أن يأتيه الوحي، وإما انتهاء بمعنى أنه يقولها باجتهاده ثم يأتيه الوحي إما مصححًا، وإما مقرًّا، يصحح الوحي إن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح، ويقره إن كان الأمر لا يحتاج إلى تصحيح. وأيضًا قلنا تمسك الصحابة -رضوان الله عليهم- بالسنة حتى في الأمور التي تحدث بعيدًا عنهم، وكنا قد توقفنا عند هذه النقطة، وذكرنا بعض مواقف الصحابة التي، يعرضون الأمر على النبي -صلى الله عليه وسل م- لأنهم يعلمون أنه يشرع كما يشرع الله تعالى، ذكرنا قصة أم سليم في غسل الجنابة، وذكرنا قصة علي -رضي الله عنه- في المذي. أيضًا قصة عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- في طلاق الحائق لما طلق امرأته، وهي حائض وأبوه عمر -رضي الله تعالى عنه- رفع الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسل م- فقال له ((مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تتطهر ... )) يعني الحديث طويل، لكن محل الشاهد أن عمر -رضي الله تعالى عنه- رد الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسل م- ليعلم منه الحكم الشرعي الصحيح. أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)) هذا أمر منه -صلى الله عليه وسل م- والمؤمنون صاروا وانقسموا إلى فريقين في فهم الحديث، هناك من صلى في الطريق مخافة أن يخرج الوقت عن وقته المحدد أو أن تخرج الصلاة عن وقتها المحدد شرعًا، فصلوا في الطريق؛ لأنهم فهموا أن النبي -صلى الله عليه وسل م- لا يريد إخراج الوقت عن وقته المحدد، وإنما يريد منهم الإسراع للذهاب إلى ديار بني قريظة، وفريق أجرى

الحديث على ظاهره، ولم يصل إلا في بني قريظة، فرفعوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسل م- فأقر كلًّا من الفريقين على فهمه. وأيضًا الرجل الذي ولاه النبي -صلى الله عليه وسل م- قيادة بعث من بعوثه -صلى الله عليه وسل م- فكان يصلي به ويختم قراءته بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) ولما رجعوا أخبروا النبي -صلى الله عليه وسل م- هذا أمر جديد، يقرأ في الصلاة الفاتحة ثم يقرأ ما شاء الله له أن يقرأ من القرآن، ثم يختم قراءته بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقال: ((سلوه لأي شيء يفعل ذلك؟)) فقال الرجل: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال له النبي -صلى الله عليه وسل م-: ((بلغوه أن الله يحبه)). هذه كلها مواقف وغيرها عشرات وعشرات، كلما حدث للصحابة أمر من أمور دينهم أو من أمور دنياهم أسرعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسل م- ليسألوه لأنهم يعلمون أن قوله وفعله حجة، وأن ما يأمرهم به عليهم أن يسمعوا له وأن يطيعوا في الصلاة ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) في الحج ((خذوا عني مناسككم)) في البيع، في الشراء، في النكاح، في معاملة الأهل في البيت في تربية الأولاد، كل ذلك يتعلمونه من النبي -صلى الله عليه وسل م-. إذن الصحابة يعلمون أن السنة حجة، وأنهم لا بد أن يرجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسل م- في كل أمر من أمورهم. أيضًا من الأدلة التي قالها العلماء على حجية السنة أنه يستحيل لا نقول يتعذر فقط، بل يستحيل إقامة الشرع من خلال القرآن الكريم وحده، والموضوعات التي تكلمنا فيها قبل ذلك من بيان علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة تؤكد ما كررناه مرارًا من أن فهم القرآن يتوقف على السنة، وأنه لولا السنة لما فهمنا القرآن الكريم.

إجماع الأمة على حجية السنة.

إذن هناك أدلة كثيرة جدًّا على حجية السنة، الأدلة من القرآن الكريم، الأدلة من السنة المطهرة، دليل الإيمان، دليل العصمة، تمسك الصحابة وفهمهم للسنة ولدورها، وأن النبي -صلى الله عليه وسل م- لا بد أن يتبع في كل ما يأمر به، وفي كل ما ينهى عنه، وأيضًا تعذر العمل بالقرآن الكريم وحده، بل استحالة ذلك، وأيضًا السنة وحي من عند الله -تبارك وتعالى- وما دامت وحيًا فقد وجب اتباعها. إجماع الأمة على حجية السنة وبعد كل ذلك نقول: دليل الإجماع: أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا قديمًا وحديثًا بإجماع أهل السنة والجماعة أن السنة حجة من حجج الله على خلقه، وأنه يجب عليهم أن يستجيبوا لها وأن يعملوا بها. الشوكاني -رحمه الله تعالى- يذكر الإجماع، وليس الشوكاني وحده هو الذي تكلم عن الإجماع في السنة، بل كل العلماء، الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- وله كتاب رائع جدًّا عظيم في حجية السنة المطهرة، يقول في أول أبواب هذا الكتاب: "الباب الأول في بيان أن حجية السنة ضرورة دينية، وأنه لم يقع فيها خلاف بين المسلمين قاطبة. اعلم أنه لا شك، ولا نزاع في أن صحة الاستدلال بحديث يروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- على عقيدة دينية أو حكم شرعي تتوقف على أمرين: الأول: ثبوت أن السنة من حيث صدورها عن النبي -صلى الله عليه وسل م- حجة، وأصل من أصول التشريع. ثانيًا: ثبوت أن هذا الحديث قد صدر عن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- بطريق من طرق الرواية المعتمدة" يعني الشيخ يقول صحة الاستدلال بحديث تتوقف على أمرين:

الأمر الأول: أن نعلم أن السنة الصادرة عن النبي -صلى الله عليه وسل م- حجة، وأصل من أصول التشريع. الأمر الثاني: أن نتأكد النبي -صلى الله عليه وسل م- قال هذا الحديث، حتى نقول عنه إنه حديث صحيح، فإذا ثبتت نسبة الحديث، وهذا هو عمل علماء الحديث حين يقولون أن هذا حديث صحيح، وهذا كذا يعني معناها أنه ثبتت نسبته للنبي -صلى الله عليه وسل م-. فنحن نريد أن نتأكد من أمرين: الأمر الأول: أن السنة حجة. والأمر الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسل م- قد قال هذا الحديث. طبعا محل الشاهد في كلامنا الآن هو الأمر الأول، وهو حجية السنة بعد التثبت من صدورها عن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- فهل وقع فيه خلاف؟ لا شك أن من العلماء من أنكر حجيتها في نواح خاصة، كمن أنكر استقلالها بالتشريع، ولم ير الاحتجاج بها فيما ليس فيه قرآن، وكمن يرى أنها لا تنسخ القرآن وغير ذلك. يقول: ولا كلام لنا في هذه المسائل، وإنما كلامنا في ثبوت حجية السنة في الجملة، فهل من العلماء من نازع في ذلك، وقال: إنه لا يحتج بشيء منها بحال؟ لا نجد في كتب الغزالي والآمدي والبزدوي، وجميع من اتبع طرقهم في التأليف من الأصوليين تصريحًا، ولا تلويحًا بأن في هذه المسألة خلافًا، وهم الذين استقصوا كتب السابقين ومذاهبهم، وتتبعوا الاختلافات حتى الشاذة منها، واعتنوا بالرد عليها أشد الاعتناء، بل نجدهم في هذه المسألة لا يهتمون بإقامة دليل عليها، وكل ما فعله بعضهم أنه ذكر بحث العصمة قبل مباحث السنة على سبيل الإشارة إلخ.

يعني الرجل يقول: لم يحدث خلاف أبدًا بين علماء الأمة، ولم ينقل أحد من الذين اهتموا بتتبع المسألة بأنه قد حدث نزاع في حجية السنة. ويقول الشيخ: "وليت شعري كيف يتصور أن يكون نزاع في هذه المسألة بين المسلمين، وأن يأتي رجل في رأسه عقل، ويقول أنا مسلم ثم ينازع في حجية السنة بجملتها، مع أن ذلك مما يترتب عليه عدم اعترافه بالدين الإسلامي كله من أوله إلى آخره". إلى آخر ما قال الرجل. هو ينقل هنا الإجماع على أن السنة حجة، وأن الأمة كلها قد أجمعت على ضرورة اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسل م- إذا كان وجد في بعض الأقوال أن هناك من نازع مثلًا في أن السنة لا تنسخ القرآن، لا ينبغي أن توظف هذه الأقوال على أنها اعتراض على حجية السنة، فما قصد واحد من علماء الأمة في من توقفوا في بعض هذه التفصيلات ما قصد أبدًا أن يتكلم عن حجية السنة، فالكل مجمع بأن السنة حجة لا بد من اتباعها، هذا أمر قرر. والإمام الشوكاني يؤكد القضية أيضًا، ويقول -رحمه الله تعالى-: "إن ثبوت حجية السنة المطهرة، واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام". هذا أمر أيضًا بالإضافة إلى الإجماع يقول: إن استقلال السنة بالتشريع وثبوت حجيتها ضرورة دينية، يعني معلوم من الدين بالضرورة من خلال الأدلة التي ذكرناها من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة. ذكرنا كل هذه الأقوال، وللإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه (الرسالة) أقوال جميلة جدًّا نحيل عليها في الفقرات 239، 240، 294 في النسخة المرقمة، تحقيق الشيخ أحمد شاكر -عليه رحمة الله تعالى ورضوانه- إذن كل هذه أدلة على حجية السنة المطهرة.

دوافع الهجوم على السنة وإثارة الشبه حولها.

دوافع الهجوم على السنة وإثارة الشبه حولها نطرح سؤالًا أراه هامًّا جدًّا: لماذا يهاجمون السنة؟ ولماذا هذه الحرب الضروس الشرسة على السنة؟ ولماذا كلما وجد -سواء من أبناء الإسلام الذين تبنوا أفكارًا خاطئة، فأصبحوا خارج الدائرة الإسلامية الصحيحة- لماذا يكون هدفهم السنة؟ ولماذا كل فرقة من فرق: المعتزلة، الخوارج، هكذا، كل من يقف من الإسلام موقفًا في أي جزئية من جزئياته يكون همه الأول موجهًا ناحية السنة المطهرة؟ ثم جئنا إلى المحدثين من المستشرقين، ومن العلمانيين، ومن كل من يسير على دربهم وفي طريقهم، الكل يتجه ناحية السنة؟ لأن السنة هي خط الدفاع الأول عن الإسلام بإيجاز شديد، وسنحاول أن نوضح هذه الفكرة في نقاط محددة. حتى يسهل استيعابها بإذن الله رب العالمين، إذا جعلت الموضوع الذي أتكلم فيه الآن تحت هذا العنوان: لماذا يهاجمون السنة؟ فسأقول: هناك جملة من الأسباب: أولًا: لأنها هي التي تبينا لقرآن الكريم وتوضحه، وهذا أمر قررنا له دروسًا وتكلمنا فيه بالتفصيل، وأنه لولا السنة لما فهمنا القرآن، ولاستعجم علينا القرآن، فلا نستطيع أن نفهمه، ولا أن نطبقه. كلمة "استعجم علينا القرآن" استعمالها شيخنا العلامة الشيخ محمد أبو شهبة -عليه رحمة الله تعالى- في كتابه الماتع (دفاع عن السنة) قال وهو يبين غرض المحاربين للسنة أنهم يقصدون تضييع القرآن، لأنه لولا السنة لما فهمنا القرآن الكريم، ولما طبقناه، فبالتالي هذا هدفهم أن يعطلوا القرآن عن التطبيق، أمر خطير جدًّا.

مع ملاحظة أن أدلة الشرع قامت ودلت على أن القرآن الكريم نزل ليعمل به، القرآن الكريم لم ينزل لكي نتلوه فقط، ولا لكي نحفظه فقط، مع الإقرار بأهمية التلاوة، وأهمية الحفظ، فحفظ القرآن وتلاوة القرآن وردت فيها أحاديث كثيرة، هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، لكن صلتنا بالقرآن الكريم لا تتوقف عند قراءته فقط أو عند حفظه فقط، أن الذين يفهمون أن لو كانت القضية قضية حفظ القرآن فقط وتلاوته فقط فإن أحدًا من أعداء الإسلام لن ينازع في ذلك، اقرءوه كما شئتم، واملئوا الدنيا دموعًا وأنتم تقرءونه، في الصلاة وفي غير الصلاة، لا حرج عليكم في ذلك. أما أن ينزل القرآن إلى حياة المؤمن ليقود حركته في كل جوانب حياته، فمن هنا يأتي الصدام وتأتي المعركة إذا جاز التعبير، ونحن -يشهد الله- لا نفتعل معارك، ولا نريد أن ندخل في معارك مع أحد، وإنما نريد أن نفهم ديننا على الوجه الذي يرضي ربنا -عز وجل-. فالقرآن الكريم جاءت عشرات الأدلة لتبين لنا أن القرآن الكريم نزل ليعمل به، وأنه لن يكون حجة لأهله إلا إذا عملوا به، والأحاديث في الصحيحين نجدها في كتاب فضائل القرآن وغيره عند البخاري ومسلم ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب)) إلى آخر الحديث، محل الشاهد: "ويعمل به". الحديث الآخر: ((يؤتى يوم القيام بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة: البقرة وآل عمران. تحاجان كأنهما غمامتان)) ((كأنهما غيابتان)) الروايات متعددة ((تحاجان عن صاحبهما)) يعني: تدافعان، تجادلان عن صاحبهما، ماذا سيقولان؟ أمر معروف حفظنا، وقرأنا وعلمنا وتعلمنا، وطبق أحكامنا.

وكان من المعلوم من منهج الصحابة في التعامل مع القرآن الكريم أن أحدهم كان إذا حفظ عشر آيات لا يتجاوزها حتى يعمل بما فيها من أحكام؛ لأنهم يعلمون أن القرآن الكريم نزل ليعمل به، إذًا هي معركة المصحف، ومعركة الإسلام أن تهاجم السنة. الهجوم على السنة هجوم على القرآن، هجوم على الإسلام؛ لأن الإسلام في نهاية الأمر عبارة عن قرآن وسنة، نستمد كل أحكامنا، وكل أدلتنا على أي مسألة من مسائل شرعنا في العقيدة، في التشريع، في الأخلاق، في العبادات، في المعاملات، في الأسرة، في الاقتصاد، كل ذلك وغيره نستمد أدلته من قرآن ربنا، ومن سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-. إذن تتوجه الحملة والهجمة الشرسة على السنة؛ لأنه لو فرض نجحت الحملة، فبالتالي سيصبح القرآن نصًّا مقدسًا، نعم لن يتغير، ولن يتبدل، لكنه سيعطل عن العمل، وهذا معنى قول شيخنا "استعجم القرآن" أي: أصبح فهمه مشكلة، وبالتالي سيكون تطبيقه مشكلة أشد؛ لأننا لن نفهمه حتى نطبق هذا إذن أول غرض هي تبين القرآن وتوضحه، القرآن نزل ليعمل به. إذا استعجم القرآن واستبعدت السنة، فماذا بقي من الإسلام؟ ضاع الإسلام، والأعداء الذين يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر يعلمون هذه الحقيقة جيدًا، يعلمون أن الهجوم على السنة هو هجوم على القرآن وعلى الإسلام، حتى وإن ألبسوا كلامهم أثواب الغيرة على السنة، هناك من ألف الكتب يهاجم السنة، ويهاجم رواتها ويهاجم كل شيء يتعلق بها، ثم هو يقول في نهاية كلامه أو في نهايته أنه كتب هذا الكلام دفاعًا عن السنة ودفاعًا عن الإسلام. لا أدري هو حاله، ومن على شاكلته يدور بين أمرين، إما أنه لا يفهم وتلك مصيبة، وإما أنه يفهم ويدبر ويخطط والمصيبة حين أذن أعظم، أما إذا كان لا يفهم، فلماذا

تدخل فيما لا يفهمه، إذا كان لا يفهم أن الهجوم على السنة هو هجوم على الإسلام والقرآن، فهذا أمر خطير، كيف لا يدرك العلاقة بين القرآن والسنة؟ وإذا كان يفهم إذن، فهو مخلب القط الذي يوجهه الأعداء ناحية السنة؛ لينالوا من الإسلام ما يريدون أن ينالوه. أيضًا من الأسباب التي تجعلهم يهاجمون السنة أن السنة تشرع كما يشرع القرآن الكريم، فإبطال السنة يعني تضييع جزء كبير من تشريعات الإسلام، يعني في جوانب الحياة المتعددة، بل إن أكثر التشريعات تستمد من السنة المطهرة، وخصوصًا الأحكام التفصيلية، يعني للمسائل الشرعية، وأيضًا كثير من المسائل لا تجد دليلها إلا في السنة المطهرة، لم يرد لها ذكر في القرآن الكريم. هذا أمر مفهوم جدًّا، السنة تشرع كما يشرع القرآن الكريم، وأيضًا من الأسباب تتمة لنقطة السابقة أن أثر السنة المطهرة في التشريع الإسلامي، وأيضًا أثرها في الفقه الإسلامي من لدن عصر النبي -صلى الله عليه وسل م- والصحابة الراشدين حتى عصور أئمة الاجتهاد من أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم، السنة هي زادهم في اجتهادهم كله. السنة زادهم، وماؤهم، وطعامهم، وشرابهم بعد القرآن الكريم يعني إذا قلت مثلًا: ما هي الأصناف التي يدخلها الربا؟ اذهب إلى السنة، ما هي صور البيع الحلال وصور البيع الحرام؟ اذهب إلى السنة. القرآن قعد القاعدة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) لكن ما هي صور البيع الحلال؟ ما هي صور الربا الحرام؟ ما هي الأمور التي يدخلها الربا والتي لا يدخلها الربا؟ وكيف يكون الربا؟ كل ذلك وغيره، يعني مما يطول المقام بذكره تكلمت عنه السنة المطهرة. إذًا السنة وأثرها في الفقه وفي استمداد الأدلة من عصر النبي -صلى الله عليه وسل م- وعصر الصحابة وعصر الاجتهاد، وأئمة الاجتهاد، وحتى إلى يوم أن يرث الله الأرض

ومن عليها، السنة هي الزاد في كل هذا، ولن يكون هناك مجتهد لا يتجه إلى السنة ليستمد منها الأدلة على ما يريد أن يقول. أيضًا الفقه الإسلامي ثروة تشريعية، تشمل كل جوانب الحياة، كما قلنا، والسنة المطهرة لها الدور الأكبر في ذلك. هذه نقطة مهمة جدًّا أرجو أن ينتبه المستمع الكريم، العمل بالسنة المطهرة -ورب الكعبة- هو الذي أدى إلى حفظ كيان الإسلام، وعدم ذوبانه في الحضارات الأخرى، وأنا هنا أقرأ كلمة قالها الدكتور محمد أسد، ذلك الذي أسلم بعد أن لم يكن مسلمًا، يقول في توضيح هذه المسألة: "لقد كان السنة مفتاحًا لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، فلماذا لا تكون مفتاحًا لفهم انحلال الحاضر؟ إن العمل بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسل م- هو عَمِلَ على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وأن ترك السنة هو انحلال الإسلام. لقد كانت السنة هي الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام، وإنك إذا أزلت هيكل بناء ما أفيدهشك بعد أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ إن التعبير الذي يتردد على مسامعنا اليوم كثيرًا لنرجع إلى القرآن الكريم، ولكن يجب ألا نجعل من أنفسنا مستعبدين للسنة، هذا التعبير يكشف بكل بساطة عن جهل بالإسلام، إن الذين يقولون هذا القول يشبهون رجلًا يريد أن يدخل قصرًا، ولكنه لا يريد أن يستعمل المفتاح الأصلي، الذي يستطيع به وحده أن يفتح الباب. المفتاح للإسلام وبناء الإسلام وقصر الإسلام هو السنة، فهل يمكن أن يدخل أحد القصر بدون أن يستعمل المفتاح؟ ويكشف الرجل السر في محاربة السنة فيقول: "إن الهدف إسقاطها حتى يفقد المسلمون الصورة التطبيقية الحقيقية لحياة رسول الله -صلى الله عليه وسل م- والمسلمون الأوائل، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته".

يعني إن معي الآن كثيرًا من النقول التي تبين مثل هذا الأمر، وكلامًا للدكتور محمد أسد وغيره يبين جملة من المسائل الهامة، يعني نقول: العمل بالسنة المطهرة هو الذي حفظ كيان الإسلام، هو الذي منع الإسلام من أن يذوب في الحضارات الأخرى، وهذا هو سر عداء المستشرقين وغيرهم للسنة، أو هذا على رأس الأسباب أن السنة حفظت كيان الأمة ومنعتها من الذوبان في الحضارات الأخرى. ماذا نقصد بقولنا: حفظت لنا كيان الأمة؟ يعني جعلت لنا اقتصادًا إسلاميًّا، جعلت لنا أسرة إسلامية، جعلت لنا مجتمعًا إسلاميًّا، له قيمه، له مبادئه، له أسسه التي يقوم عليها، له قوانينه التي تحكمه، ليس مجرد عبادة فحسب بين العبد وربه، إنما منهج حياة كامل، السنة تقوم بدور هاما في ذلك، هم يريدوننا مثلًا أن يكون نساؤنا كنسائهم في كل شيء، في عدم الحجاب، في العلاقات المفتوحة، كما نعلم وكما يعلم الجميع هم يريدوننا في المسائل المالية أن نكون مثلهم، هم يريدون في شكل مجتمعنا أن يكون كمجتمعهم، يبيح الخمر ويبيح الشذوذ، ما الذي يعصمنا من التردي في كل ذلك؟ هي السنة المطهرة. لذلك كانت الحرب شرسة عليها، هي تبين القرآن وتشرع مع القرآن، وهي تضمنت كثيرًا من الأحكام التي وقفت بالمرصاد لهذه الأفكار الخطيرة التي تضيع كيان الأمة الإسلامية وتذيبها في حضارات الأمم الأخرى خصوصًا في هذا الزمان بالذات؛ لأن الحضارات الأخرى يعني حضارات تفوقت من الجوانب المادية، وأصبحت تملك القوة على فرض أجندتها -كما يقال- أي فرض أهدافها ووسائلها وأخلاقها ومبادئها على الأمم الأخرى إن لم يكن اقتناعًا فبقوة القهر والغلبة. على ضعف أمة الإسلام في واقعها المعاصر هي معصومة من الذوبان، ما السبب؟ على رأس الأسباب السنة المطهرة؛ لذلك تشتد الحملة الشرسة من المستشرقين

الذين يخدمون الأغراض الاستعمارية كما سنبين فيما بعد على السنة المطهرة، وتأثر بأقوالهم فريق من أبناء الإسلام. أيضًا السنة المطهرة هي مع السيرة، السنة والسيرة، والسيرة جزء من السيرة، العلماني كلاهما متعلق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- السنة تتعلق بأقواله، وأفعاله، وتقريراته، إلى آخر ما عرفناها، والسيرة هي التطبيق العملي لحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا أردنا أن نقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسل م- فلا بد من معرفة السنة ومعرفة السيرة. واقتداؤنا بالنبي -صلى الله عليه وسل م- ليست مسألة ترفيهية أو كمالية أو متروكة لخيارنا، لا، نحن بمقتضى إيماننا لا يجوز لنا أن نقتدي بغير النبي -صلى الله عليه وسل م- وقد حصر الله تعالى قدوتنا وأسوتنا في النبي -صلى الله عليه وسل م- وغير مسموح لأمة الإسلام أن تقتدي بغيره أو أن تمتثل لهدي غير هديه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب: 21). فتطلع المسلمين إلى هذا المثل الأعلى الراقي من حياة النبي -صلى الله عليه وسل م- وقد أمروا أن يتقدوا به، هذا يعصمهم من الجري، ومن الذوبان -كما قلنا من قبل- وهذا هو سر العداء للسنة أيضًا أنها تضمنت الجوانب التطبيقية في حياة النبي -صلى الله عليه وسل م- ويعضدها في ذلك علم السيرة الطاهرة المباركة. إذن هذا أيضًا من الأسباب التي جعلتهم يوجهون سهامهم المسمومة نحو السنة. أيضًا نقطة مهمة جدًّا، السنة النبوية من الأسس القوية التي قامت عليها وحدة المسلمين. المسلمون أوطانهم متعددة، وألسنتهم متعددة، وأشكالهم متعددة، وأجناسهم متعددة بفضل من الله تعالى لا توجد دولة من دول العالم إلا وفيها مسلمون بصرف النظر عن قلة العدد أو كثرته، فقد بلغ الإسلام بفضل الله -عز وجل- ما بلغ الليل والنهار، ووصل إلى مشارق الأرض ومغاربها، ويعيشون كمسلمين في دول خاصة بهم، ويعيشون أيضًا مع غيرهم من أبناء الديانات الأخرى في الأوطان المتعددة.

كل ذلك والمسلمون جميعًا يأكلون مثل بعضهم، ويلبسون مثل بعضهم، ويتزوجون كما يأمرهم إسلامهم، ويبيعون ويشترون ويكوّنون علاقاتهم الاجتماعية، ويعرفون صلة الرحم، وحقوق الجيران، وكيف يربى الأولاد، وحقوق الزوجة، وكيف يجمعون أموالهم من الحلال الطيب؟ وكيف ينفقونها في الحلال الطيب؟ يا رب العالمين، كل ذلك على تباعد الأوطان، واختلاف الألسنة والألوان، وعلى تعدد اللهجات، وتعدد أشكال، ما بين أسود وأصفر وأبيض ... إلخ ... إلخ. ومعصومون بحول الله تعالى من أن يذوبوا، لا يوجد مسلم مثلًا مهما كان في أرض يبيح أكل الخنزير، حتى وإن أكله في بلاد تسمح بذلك، لكنه يعتقد أنه حرام، لا يوجد مسلم في بقاع الدنيا يقول إن الخمر حلال، لا يوجد مسلم يأكل بغير أدب الإسلام، يأكل بيمينه، أنا أقول باعتبار ما يجب أن يكون. إذن هذه الوحدة التي عصمت المسلمين أولًا أقامت صرح الود بينهم والأخوة والتلاحم، وعصمتهم من الزلل، كل ذلك الفضل فيه لله -تعالى- ثم للقرآن والسنة، فهي التي احتوت على المناهج التشريعية التي تعصم الأمة من التفرق، ومن الاختلاف، ومن الجري وراء الأعداء والتشبه بأخلاقهم أو سلوكياتهم إلخ. كل مسلم في الدنيا يكره الشذوذ وينبذه، كل مسلم في الدنيا حتى وإن وقع من البعض بعض الرذائل، وبعض النقائص وبعض الكبائر، فهم يعلمون أنهم يفعلون محرمًا، غيرهم ينعزل عن قضية الدين بالمرة لا يفكر في حلال، ولا في حرام. إذن السنة النبوية أولًا هي من الأصل قامت عليها وحدة الأمة، ثم هي بعد حافظت على تلك الوحدة، تأتي على المسلمين عصور ضعف، يتفرقون فيها في

بعض الأمور السياسية وغير السياسية، لكن يبقى أن لحمة البناء الإسلامي واحدة، وهذه حقيقة يدركها القاصي والداني، ويعرفها الأعداء قبل الأصدقاء، وهذا سر من أسرار حربهم الشرسة على الإسلام ككل، وعلى السنة بشكل خاص؛ لأنهم يعلمون أن للسنة دورًا خطيرًا جدًّا في الحفاظ على هوية الأمة، على وحدة الأمة، على كيان الأمة، على ترابط الأمة في أكلها في شربها في لباسها في عاداتها، في تقاليدها في علاقتها إلى آخر ما ذكرناه من صور. أيضًا أمر خطير آخر، إذا أبعدوا السنة أمكنهم تأويل آيات القرآن الكريم وفق أهوائهم، السنة هي العائق الأكبر والسد المنيع أمام تدخل الأهواء في تأويل القرآن، لماذا؟ ما هو دور السنة في هذه المسألة؟ دورها خطير، فهي التي تبين القرآن، فإذا أراد أحد أن يبين القرآن على غير بيان السنة، فلن نقبله، ثم هي تشرع وتتم القرآن الكريم في التشريع، فإذن لن يستطيع أحد أن يبتعد بالقرآن عن مراميه ومقاصده ومعانيه التي تلقتها الأمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- ووالله لو لم تكن هناك السنة لفتحت الأقاويل المتعددة في تفسير وتأويل آي القرآن الكريم، وللوى كل واحد عنق الحقيقة وعنق الآية على الوجه الذي يريد في فهمه، وهناك محاولات في هذا، ولكنها تبوء بالخسران. ولذلك كثيرًا ما يتشدق المتشدقون أتريدوننا أن نحكم بفقه الخلفاء الراشدين؟! أنحكم بفقه مضى عليه أربعة عشر قرنًا؟! كلام يعني ماذا نقول في وصفه؟ إن الأمة لها فهمًا أجمعت عليه تلقته عن سيد الخلق -صلى الله عليه وسل م- تلقاه جيل الصحابة، ونقلوه لمن بعدهم، في كل شيء، في

الحدود، في العبادات، في العقائد، في المعاملات في الأخلاق، في التشريع كل ذلك حفظته السنة، تممت القرآن الكريم في التشريع وبينته، وحافظت على القرآن وعلى الإسلام. إذن أيضًا السنة لها دورها في الحفاظ على القرآن، وعصمته من تدخل الأهواء فيه، ومن تأويله حسب الأغراض أو تفسيره حسب الأغراض، إنما الله -عز وجل- عصم الإسلام من ذلك، وعصم القرآن من ذلك بأساليب متعددة، ومن بينها أو على رأسها أيضًا السنة المطهرة الشريفة. أيضًا من أسباب الهجوم على السنة هو أن كثيرًا من الأعداء هاجموا الإسلام، فعداوتهم للسنة هي عداوة للإسلام؛ يعني هذا أمر أيضًا وجدت فيه أقوال كثيرة من أعداء الإسلام بينوا فيها أن الإسلام هو العقبة الكئود في سيطرة الغرب على العالم، فيحاربونه، وحربهم أيضًا موجهة إلى السنة باعتبارها جزأ من الحرب على الإسلام. "مرماديوك" يقول: إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها سابقًا بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول؛ لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم؛ لذلك يحاربون الإسلام. يجب أن نستخدم هذا المبشر "تاكلي" يقول: يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه تمامًا. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا.

ويقول يعني "وليم جيفورد": متى يتوارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يندرج في طريق الحضارة الغربية بعيدًا عن محمد وكتابه". الحرب على الإسلام، وعلى السنة، وعلى القرآن، وألفت الكتب في الهجوم على السنة، والمعركة خطيرة وشرسة، ولذلك لو أردنا أن نعدد العبارات التي تبين عداءهم للإسلام وللقرآن وللسنة، فسيطول بنا المقام جدًّا، لكن أنا أتكلم عن أسباب هجومهم على السنة. قلت أسبابًا كثيرة حتى نفهم طبيعة المعركة، هل نحن نحارب طواحين الهواء؟ هل نفتعل معارك؟ والله هذه كتبهم، وهذه أقوالهم تفصح، وهذه أيضًا أفعالهم تفصح عن مراميهم ومقاصدهم وأهدافهم في الهجوم على السنة. وأكرر وأختم هذه النقطة بما بدأت به: لو نلاحظ ونستقرئ المعركة عبر التاريخ كله قلت حتى من داخل الإسلام نفسه، حينما تشذ طائفة ما في فهمها عما أجمع عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة، فإنهم يتجهون في حربهم على السنة، ولذلك سبحان ربي العظيم هؤلاء جميعًا جمعهم العداء للسنة، والعداء للإسلام، وخططوا ودبروا، وتعاونوا، واستفادوا مما قيل قديمًا ومما قيل حديثًا، يجمعون الأقوال ويلمعونها تجد الشبه الحديثة آثارها المعتزلة قبل، بعضها قالها الخوارج، الشيعة لهم موقف من السنة أيضًا كثير يحاول أن يسير على دربه، التقت الأهداف التقت الأغراض حول العداء للإسلام وللقرآن ولنبي الإسلام -صلى الله عليه وسل م- وللسنة المطهرة، فاندفع الجميع في حربهم على السنة. ولذلك أنا أقول وأبنائي السامعين الآن أرجو أن يدركوا هذه الحقيقة جيدًا، نرجو أن نقبل على دراسة السنة بروح الجندية، فنحن على ثغر من ثغور الإسلام، يحاول الأعداء أن ينالوا من الإسلام

من قبله حقيقة، يشهد الله أني أقولها بمنتهى الصدق والإخلاص؛ لأن هذا ما أفهمه، ولذلك لا تنبغي أن تكون دراستنا مقتصرة على كونها تريد أن نحصل على شهادة فقط، هذا يعني الأمر ليس مرفوضًا، لكن ينبغي أن تتوجه النية نحو الدفاع عن الإسلام، وأن يعلم كل متخصص في السنة أنه على ثغر من ثغور الإسلام يحاول الأعداء أن ينالوا من الإسلام من قبله، فليكن هو الجندي الأمين الحريص المتيقظ. وذلك بالعلم وبالفهم، نحن لا نحمل أسلحة، إذا كنا نعبر بتعبير المعركة، فهذه من عندهم، لكننا لا نقصد المعارك يعني أننا سنحمل أسلحة ونقتل، لا والله، هذا لن يكن ولن يكون أبدًا في فهم المسلمين الأسوياء، وإنما المقصود أن نتسلح بالعلم وبالمعرفة، بالفهم الصحيح للسنة وبدورها؛ لكي نرد كيد الكائدين إلى صدورهم، وتبقى المسيرة كما كانت دائمًا نقية واضحة جلية، لا شبهة فيها، ولا غبش، ولا عكارة، ولو يسيرة تؤثر على مسيرتنا. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم بارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 7 شبهة حول تدوين السنة (1).

الدرس: 7 شبهة حول تدوين السنة (1).

ميدان المعركة مع السنة، ومواطن الهجوم عليها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (شبهة حول تدوين السنة (1)) ميدان المعركة مع السنة، ومواطن الهجوم عليها بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه، وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد. فنبدأ -بعون من الله تبارك وتعالى- وتوفيقه- حديثنا عن بعض الشبه التي وجهت إلى السنة المطهرة: قبل أن نشرع في الدخول على الشبه، نتكلم عن نقطتين مهمتين، النقطة الأولى ما هو ميدان المعركة مع السنة؟ يعني بتوضيح آخر: حين يهاجمون السنة، فهل يقصرون هجومهم على بعض جوانبها دون البعض الآخر؟ أقول: لا، هم يهاجمون كل شيء في السنة، لو استمعنا إلى الدرس الماضي الذي بينا فيه بعض الأسباب التي أدتهم إلى الهجوم على السنة لعرفنا أنهم يريدون القضاء عليها تمامًا، هم لا يريدونها لا يقبلونها؛ لأنهم يعلمون أنهم يهاجمون القرآن والإسلام من خلالها. إذن ما داموا لا يريدون السنة فلم يتركوا شيئًا منها بدون هجوم، كيف؟ هاجموا الصحابة الذين نقولها لنا، وهم يعملون أن الصحابة -رضوان الله عليهم- شهودنا على هذا الدين ونقلته لنا، إن أحدًا من الأمة بعد جيل الصحابة لم يلتق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- والواسطة بين الأمة من بعد جيل الصحابة إلى يوم القيامة هم الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين نقلوا لنا الحديث والقرآن والسنة، والغزوات إلخ، إلخ. إذن ليصبوا جام غضبهم وهجومهم الشرس على الصحابة، بعضهم بالاسم والتفصيل، وكثير منهم بالعموم، بالاسم والتفصيل مثل أبي هريرة رواية الإسلام -رضي الله عنه- أنهم يعلمون أن الهجوم على أبي هريرة هو هجوم على السنة، كما سنوضحه في حينه. أنا فقط في هذه النقطة أبين أنهم لم يتركوا شيئًا من السنة إلا وهاجموها، الصحابة، دواوين السنة والتشكيك فيها، (صحيح البخاري) وإثارة المشكلات حوله، وحول بعض أحاديثه، (مسند الإمام أحمد) وإثارة المشكلات حول بعض أحاديثه، الأجيال والعلماء الكبار الذين رووا السنة بعد جيل الصحابة، هناك علماء

معنى كلمة "شبهة" ومدلولاتها.

نسميهم أركان الرواية، عمد الرواية، الذين قاموا بدور كبير في صيانة السنة وروايتها وتناقلها ... إلخ، مثل الإمام الزهري وغيره، يشككون فيه. أيضًا يهاجمون تدوين السنة شككوا في حجية السنة، وأثاروا بعض الشبهات المتعلقة بها، ونحن سنرد على ذلك وفق لنقاط المنهج ومسائله بإذن الله تبارك وتعالى. أيضًا أثاروا مشكلات كثيرة حول كثير من الأحاديث النبوية المتعلقة بالطب وبغير الطب حديث الذبابة، حيث فقء موسى لِعَيْن ملك الموت، حديث سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث لا تعد ولا تحصى، بل إن الكتب تنزل إلى الأسواق، وهم يحملون وجهة نظرهم، بعضهم يقول ينقي البخاري ومسلم من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، تخيلوا: الأمة أجمعت على تلقي البخاري ومسلم بالقبول، ثم يأتي من يجادل أو يثير هذه القضية ويعتبر نفسه غيورًا على السنة، ويريد تنقيتها مما علق بها من الأحاديث الضعيفة. يعني الخلاصة في هذه المسألة أنهم لم يتركوا صغيرة، ولا كبيرة، ولا شاردة، ولا واردة تتعلق بالسنة إلا وهاجموها بضراوة وبشراسة، وأكرر: لأن الغرض هو القضاء على السنة هو القضاء على الإسلام، وبالتالي حدة المعركة تنسجم مع مقدار حقدهم الذي تمتلئ به قلوبهم على الإسلام وأهله، وعلى مصادره الشرعية التي يستمد منها أدلته على كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين، هذا جانب. معنى كلمة "شبهة" ومدلولاتها أما النقطة الثانية التي أود أن أتحدث عنها فهي معنى الشبهة، ما المراد بالشبهة التي سندرسها ونرد عليها؟ الشبهة لها مدلول لغوي، ولها مدلول اصطلاحي. ومدلولها اللغوي سنرجع إليه في قواميس اللغة، فابن منظور -رحمه الله تعالى- في (لسان العرب) يقول، في جزء أربعة ص 289: وعلي أي طبق كانت من الممكن الرجوع إلى مادة شبه الشين والباء والهاء، الشين والهاء والباء كما يقول أيضًا صاحب (معجم مقاييس اللغة) هي لها معنيان

أصليان أو أصيلان، المعنى الأول أنها تدل على التماثل، هي كلمة تسوية وكلمة تمثيل، هذا شبه فلان أو شبه فلان يعني أنه مثله، فهما متشبهان ومتساويان، هذا معنى من معانيها. وأيضًا تعني المشكلات، هذا الأمر مشتبه فيه أو مشبه عليه، يعني هناك مشكلة في فهمه، يقول ابن منظور: والفتنة إذا أقبلت شبهت على القوم، وأرتهم أنهم على الحق حتى يدخلوا فيها، ويركبوا متنها، يقصد يركبون متن الفتنة. يعني معنى كلامه يفعلون ما لا يحل، وإذا أدبرت وانقضت بان أمرهم، فعلم من دخل فيها أنه كان على الحق. إذن الفتنة نوع من التلبيس شبهت على القوم، وزينت لهم أنهم على الحق، فإذا دخلوا فيها انحرفوا ووقعوا في أخطاء كثيرة، وبعد أن تنكشف هذه الفتنة يكتشفون أنهم كانوا على خطأ، لكن لا ينفع الندم في هذه الحالة. وشبه الأمر عليه أي: اختلط عليه حتى التبس بغيره، والشبهة هي الالتباس، وأمور مشتبة ومشبهة يعني مشكلة، يعني يصعب فهمها والمعاني كلها تتقارب لنصل إلى أصلين من أصول الكلمة أو من معاني الكلمة، معنى التلبيس معنى الخلط، معنى الالتباس عدم الوضوح، هذا المعنى، وأيضًا معنى التشابه والتماثل. وابن فارس -رحمه الله تعالى- في (معجم مقياس اللغة) يقول: الشين والباء والهاء أصل واحد، يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونًا ووصفًا، يقال: هذا شبه وشبه وشبيه؛ يعني يماثله. والشبه من الجواهر هو الذي يشبه الذهب. والمشبهات من الأمور: المشكلات. واشتبه الأمران: إذا أشكلا. نفس كلام ابن فارس هو كلام ابن منظور في (لسان العرب) المعنيان الأصليان أو الأصيلان، وهما الاشتباه والالتباس، ومعنى المماثلة والمشابهة.

إذن هذا معنى الكلمة في الأصل، المعنى الثاني، وهو معنى الاشتباه والالتباس هو الذي سنسير عليه لأنه هو الذي له صلة بما نحن فيه من الكلام عن الشبه الموجهة إلى السنة المطهرة. تعريف الشبهة في الاصطلاح: يقولون ما التبس أمره، فلا يدرى أحلال هو أم حرام، وحق هو أم باطل. وهذا الالتباس يشمل كل الأمور قد يصل إلى بعض الأمور، نقول: هي في الاصطلاح أو في الشرع ما التبس وجه الصواب فيه فلم يدر الخطأ من الصواب، وجه الحل من الحرمة، والشبهة على كل كال تجمع على شبه، وهكذا نرى أن الكلمة لها معنيان أصليان وكثير من المعاني الأخرى، والمعنى الثاني بمعنى الإشكال والخلط والتلبيس هو الذي سنسير حوله في كلامنا هذا. وهذا المعنى قد ورد في مجموعة من الآيات التي في القرآن الكريم، مثلًا: بمعنى المشابهة؛ أي المثل قول الله -تبارك وتعالى: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (البقرة: 25) أي: متماثلًا. أيضًا في سورة البقرة، وقوم موسى يجادلونه في أمر البقرة {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (البقرة: 70) الاشتباه هنا بمعنى الخلط، وبمعنى الالتباس؛ أي لا ندري ما البقرة المراد ذبحها، وأيضًا بمعنى الأول، كل ذلك في سورة البقرة {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (البقرة: 118) المشابهة هنا معناها: تشابهت قلوبهم مع قلوب الذين كانوا من قبلهم جميعًا قالوا قولًا واحد تشابهوا فيه في العمى والضلال والتكذيب

للأنبياء والبعد عن الحق، هذا وجه الشبه الذي جمع بين الأولين وبين الآخرين في موقفهم من رسل الله -عليهم جميعًا أفضل الصلاة وأتم التسليم-. في سورة آل عمران {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آل عمران: 7) إذًا المتشابه في القرآن له تفسيرات متعددة، هو الذي لا يعلم تأويله إلا الله، هذا معنى، وقد اختاره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في "الفتح" في كتاب التفسير، هل هو المتشابه الذي يحمل وجوهًا متعددة من الفهم والتأويل والتفسير؟ هذا أمر ممكن، هل هو المتشابه الذي قد تعيا بعض العقول على فهمه فعليها أن تفوض أمر فهمه إلى الله تعالى؟ كل ذلك وارد، لكن المقصود لا يعلم تأويله إلا الله كما ذكرت الآية، لكن على كل حال هذه الآية يعني تبين أن المتشابه بمعنى الاشتباه الذي هو الالتباس على بعض الأفهام أن تفهم المراد عنه. ووردت المادة في القرآن الكريم في آيات كثيرة {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (الأنعام: 99) وفي الآية الأخرى {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (الأنعام: 141) والآيتان هنا بمعنى التماثل {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (الزمر: 23) أي هنا أيضًا بمعنى التماثل يعني يشبه بعضه بعضًا في الفصاحة والبلاغة والتناسق لا تعارض فيه، ولا تناقض إلخ. أيضًا جاءت مادة شبه في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة بالمعنيين أيضًا، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: " تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آل عمران: 7) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تلا هذه

الآية آية آل عمران ((رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) أي الذين يتتبعون المتشابه احذروهم، فهؤلاء الذين هم سماهم الله. ما معنى هذا المتشابه؟ وما المراد به؟ وهل هذا الفهم الصحيح؟ إلخ، يعني يدخلون بنا إلى مشاكل، ولا يفضون الأمر إلى الله مع أن القرآن الكريم لا يناقض بعضه بعضًا أبدًا، ولا يعارض بعضه بعضًا، والمحكمات تضمنت كل الأحكام التي من الممكن أن يحتاج إليها البشر في كل شأن من شئون حياتهم. هؤلاء الذين يتتبعون المتشابه من القرآن ويريدون أن يضربوا القرآن ببعض، ويحاولون أن يثبتوا أن بين القرآن اعتراضًا أو تضادًّا أو ما شاكل ذلك، هؤلاء في قلوبهم زيغ، وهؤلاء الذين سمى الله تعالى أي في قلوبهم زيغ، وبعدًا عن الحق، واستجابة للهوى وللشيطان، كل هؤلاء علينا أن نحذرهم وأن نبتعد عنهم، فلا نحاكيهم، ولا نكون منهم أبدًا. أيضًا في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- وهو في الصحيحين يعني هذا الحديث الذي ذكرناه من معنى آية آل عمران، رواه البخاري في كتاب التفسير باب منه آيات محكمات، روى البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين، وكذلك رواه الإمام مسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات. حديث النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثيرًا من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) إلى آخر الحديث. المشتبهات في هذا الحديث معناها واضح، يعني ليست هي بواضحة الحل أو الحرمة، فلهذا لا يعرفه كثير من الناس، ولا يعرفون حكمها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

شبهة حول تدوين السنة.

((لا يعلمهن كثير من الناس)) والمهم أن الكلمة هنا بالمعنى الذي نتكلم عنه، وهو معنى الاشتباه والخلط والالتباس الذي يريد البعض بالنسبة لبعض الآيات أو بعض الأحاديث أن يقع فيها. إذن الخلاصة أن مادة شبه لها معنى المماثلة، ولها معنى الخلط أو الالتباس أو الإشكال في الفهم؛ يعني تحتاج إلى جهد في الفهم وما إلى ذلك، كل ذلك من معاني الكلمة، وهذا هو المعنى المراد الذي نتكلم عنه، معنى الشبهة. إذن الشبه التي يثيرونها حول السنة وفقًا لما تكلمنا عن مدلول الشبه في اللغة والاصطلاح، أنه يثيرون بعض الإشكالات حول السنة؛ ليثيروا أو ليوجدوا نوعًا من الالتباس والخلط في الفهم، وكأن السنة غير واضحة وغير جلية وما ذلك إلا لما علق بها من إشكالات يريدون أن يقولوا ذلك ليزهدوا الناس في السنة؛ وليبعدوهم عنها وليمنعوهم من الاقتداء والانقياد بحكمها. هذا معنى الشبه. شبهة حول تدوين السنة وننتقل الآن إلى أول الشبه التي نتكلم عنها -بإذن الله تبارك وتعالى- هذه الشبهة يعدها العلماء تحت عنوان تدوين السنة، ما الذي أثاره الأعداء حول قضية تدوين السنة؟ ننطلق في معالجة هذه المسألة من رواية رواها الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه تعليقًا، يعني رواية معلقة، يقول فيها: "وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا".

هذه الرواية رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب العلم رواية معلقة، يعني من غير سند، قال: وكتب عمر بن عبد العزيز. من غير أن يذكر الإسناد إلى عمر بن عبد العزيز، وعمر بن العزيز -رحمه الله تعالى- ورضي الله تعالى عنه توفي سنة 101هـ، والبخاري ولد سنة 194هـ، فبين البخاري وعمر بن عبد العزيز قريب من خمس وتسعين سنة بين وفاة عمر بن عبد العزيز ومولد البخاري. إذن هو لم يسمع من عمر بن عبد العزيز. إذا روى الراوي الرواية من غير إسناد يعني حذف الإسناد كله، هذه تسمى رواية معلقة، طبعًا هناك كلام للعلماء، وأعتقد أن الدارس الكريم الذي يسمعني الآن قد علم حكم المعلقات عند البخاري، هي ليست من أصول الكتاب على كل حال، حين نقول: أجمعت الأمة على تلقي البخاري بالقبول، وأن كل ما فيه صحيح، فهم يقصدون الأحاديث المسندة أي: التي لها إسناد، التي هي أصول الكتاب، أما الروايات المعلقة فيقولون: ما ورد فيه بصيغة الجزم يعني ليس بصيغة التمرير، كمثل الرواية هنا، فهي رواية صحيحة. وابن حجر -رحمه الله تعالى- قد تكفل ببيان إسناد الروايات التي أوردها البخاري معلقة في كتاب له سماه (تغليق التعليق) لا أريد أن أبتعد عن موضوع الأصلي الذي أتكلم فيه، وإنما أردت أن أعلق على هذه الفائدة ما معنى الرواية المعلقة خصوصًا الرواية التي معنا من هذا النوع، وهي رواية معلقة يقول فيها البخاري -رحمه الله- هو: "كتب عمر بن عبد العزيز .. " إلى آخر الرواية. كتب إلى أحد علماء الأمة الكبار أبو بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه فإني خفت اندراس العلم" يعني ضياعه، اندرست الآثار يعني زالت، فإني خفت دروس العلم هناك الدرس بمعنى المذاكرة، يدرسون العلم يذاكرونه، لكن اندرس العلم أو درس العلم معناها ضياع العلم وانتهاؤه،

"ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا". هذه الرواية وغيرها أيضًا كما سيأتي عرضا أثناء الشرح استند إليها من يريد أن يهاجم السنة، ما وجه استناده لها؟ يقولون: إن هذه الرواية تفيد أن السنة المطهرة لم تدون إلا في مطلع القرن الثاني الهجري؛ لأن أول من أمر بتدوينها هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- وكما ذكرنا فهو قد تولى الخلافة سنة 99 هـ وتوفي رحمه سنة 101 هـ يعني مع نهاية القرن الأول الهجري، ومعنى ذلك من وجهة نظره هؤلاء الشانئين أن السنة قد تأخر تدوينها قرنًا كاملًا أو قرابة القرن. تعلقهم بهذه الرواية واضح؛ لأنهم يتصورن أن هذه الرواية تخدمهم في أغراضهم من الهجوم على السنة والتشكيك فيها، يطرحون سؤالًا فيقول: إن السنة إذا كانت قد تأخر تدوينها إلى مطلع القرن الثاني الهجري، فأين كانت طوال القرن الأول الهجري كله؟ أين السنة منذ أن قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن أمر عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- بتدوينها؟ نقول لهم: محفوظة في الصدور مثلًا قالوا لك: إن الحفظ خوان، ونحن لا نأمن الحفظ؛ لأنه قد يطرأ عليه النسيان، وكما يقول أسلافنا -رحمهم الله- آفة العلم النسيان، وقد يطرأ عليها الوهم أو الخطأ، وكل ذلك يؤدي إلى احتمال الزيادة والنقصان، والتغيير والتبديل إلى آخره. وكأنهم وقعوا على كنز ثمين يوجهون من خلاله سهامًا يعني إلى السنة، يعني نقول في الرد على هذه الشبهة، وهي تحتاج إلى رد تفصيلي، سنحاول أن نختصره بقدر الإمكان بإذن الله -تبارك وتعالى-.

هي لم تكن محفوظة في الصدور فقط، وإنما كانت محفوظة في الصحف أيضًا؛ يعني محفوظة في الصدور وفي السطور، في الكتابة، كيف؟ دعونا نبدأ المسألة من أولها، فنجزم أولًا بصحة هذه الرواية، بصحة رواية عمر بن عبد العزيز التي صدرنا بها كلامنا، والتي تفيد أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- هو أول من أمر بكتابة السنة، نجزم بصحتها؛ لأنها وردت في أوثق مصادرنا، وأصحها بعد كتاب الله تعالى ألا وهو (صحيح البخاري). لكن عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- حين أمر بكتابة السنة، فإنه لم يبدأ ذلك من فراغ، وإنه اعتمد على تلك الأصول المكتوبة التي نقول بلا أدنى مبالغة كانت تملأ أرجاء العالم الإسلامي كله من خلال روح علمية نشطة وثابة، أشعلها الإسلام في أتباعه من خلال القرآن الكريم الذي حث على طلب العلم وكرم العلماء، وبين أنهم الطائفة التي تخشى الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28) {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) ومن خلال جملة وافرة من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- دعت إلى العلم عمومًا، ودعت إلى الاهتمام بالسنة خصوصًا، وكانت الدافع الأول لصحابة وللأمة كلها على الاهتمام بالعلوم الشرعية وغير الشرعية، وأيضًا الاهتمام بالسنة على وجه خاص. ويكفي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو بنضارة الوجه فيما رواه الترمذي في كتاب العلم لمن روى حديثًا عنه -صلى الله عليه وسلم- ((نضر الله امرأ سمع منا حدي ثًا فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)) وللحديث نصوص متعددة. وفي حجة الوداع، وهذا في الصحيحين ((ليبلغ الشاهد الغائب)) المهم هذه الروح العلمية النشطة التي أشعلها الإسلام في أتباعه من خلال مصدريه القرآن والسنة ملأت قلوب الصحابة والمؤمنين بحب العلم، فأصبحوا يتقربون إلى الله تعالى بأن

يزدادوا في كل يوم علمًا، وقطعًا فإن أشرف العلوم وخيرها ما كان متعلقًا بالقرآن الكريم وبالسنة المطهرة، ولذلك نشطوا -كما قلت- في الاهتمام بالسنة. وحين نتكلم ونقول: إن التدوين في السنة بدأ في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- مبكرًا جدًّا، بل بإذن منه -صلى الله عليه وسلم- شخصيًّا، فإننا لن نعتسف الأدلة أبدًا وصولًا إلى تلك الغاية، ولكننا لا نقول أو لن نقول في هذا الشأن قولًا إلا وسنؤيده بالدليل القوي المستمد من أوثق المصادر بإذن الله، ومن آكدها وأصحها. على كل نبدأ فنقول: أول العهد في أمر الكتابة كان هو نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكتابة، يعني نهى المسلمين أن يكتبوا شيئًا غير القرآن، وهذا النهي ورد في قوله -صلى الله عليه وسلم- ((لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) هذا حديث رواه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم. هذا أول الأمرين من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نهى عن الكتابة، هذا النهي النبوي كان وراءه جملة من الأسباب، نجملها على الوجه التالي: أولًا: نهاهم عن الكتابة مخافة اختلاط شيء بالقرآن الكريم، فالقرآن الكريم كان شديدًا عليهم، صحيح هم أهل فصاحة وبلاغة، وأهل تذوق عالٍ وراقٍ، لكن ذلك لا يمنع أن القرآن كان جديدًا لم يتعودوا بعد على أسلوبه، ولم تشربه قلوبهم بعد، صحيح يتذوقونه ويفهمونه، لكنهم لا يستطيعون أن يقتربوا من ساحته، فلذلك يحتاجون إلى أن ينفردوا بالقرآن، وأن ينفرد القرآن بهم، ولا يختلط بشيء آخر مخافة أن يختلط بالقرآن، فلو سمح النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بكتابة شيء غير القرآن مع القرآن، فربما أدى ذلك إلى نوع من الالتباس والاشتباه، فيدخل في القرآن الكريم ما ليس منه.

أيضًا لا ننسى أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع، وهو لفظه ومعناه من عند الله -تبارك وتعالى- فلا بد أن تتوجه همة المسلمين أولًا إلى العناية به وحفظه وتدوينه؛ لذلك لم يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشركهم أو يشرك مع القرآن غيره حتى لا يحدث التباس كما ذكرنا في السبب الأول، وحتى لا تبتعد الهمم عن القرآن الكريم. أيضًا قلة أدوات الكتابة، وضم إليها أيضًا قلة عدد الكاتبين في ذاك الزمان، نحن لا زلنا بيئة أمية يعني النبي عليه الصلاة والسلام يقول ((نحن أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) هذه البيئة الأمية أدوات الكتابة فيها قليلة، وعدد الكاتبين فيها قليل، في ذاك الزمان، هذا جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفيد بهم في تدوين القرآن الكريم أولًا، ولم يشأ -صلى الله عليه وسلم- أن يوزع الجهود، وهي قليلة بين القرآن الكريم وغيره. أنا أقول هذه الأسباب وأود أن لا نأخذ سببًا بمعزل عن الأسباب الأخرى، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن لا يختلط شيء بالقرآن، ولا يكتبوا شيئًا مع القرآن في صحيفة واحدة فيختلط هذا بذاك، أيضًا أرادهم أن تتوجه همتهم إلى القرآن الكريم في المقام الأول. أيضًا قلة أدوات الكتابة مع مع قلة عدد الكاتبين يجعلنا نستثمر هذه القلة في ميدانها الأول، وكأنه فقه الأولويات، وكأنه ترتيب الأمور حسب أهميتها، فلتتوجه الهمم أولًا إلى القرآن الكريم، ولا تتوزع الجهود وهي أصلًا قليلة، لا تتوزع على القرآن الكريم وغيره، فيضيع هذا وذاك. أيضًا من بين الأسباب التي جعلت النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى في أول الأمر عن كتابة شيء غير القرآن حتى لا يركن المسلمون إلى الكتابة ويتركوا الحفظ؛ لأن البيئة بيئة أمية، لكن الله رزقها حافظة واعية يعني نادرة في قوة حفظها، وفي استيعابها رغم أنهم لا يعرفون القراءة والكتابة في الأعم الأغلب. هذا أمر عجيب في هذه الأمة، أن نتصور أن بعض مثلًا رواة الأشعار يحفظون أكثر قرأت مثلًا 18000 بيت شعر، رقم مهول،

والأنساب وغير الأنساب، هذا أمر لا يجادل فيه أحد، حبا الله هذه الأمة بملكة الحفظ التي لا يقترب من ساحتها أبدًا أحد من الأمم غير أمة العرب المباركة. إذًا النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستثمر هذه القدرة عند الأمة، وهي ملكة الحفظ، وألا ينصرف من الحفظ إلى الكتابة حتى لا تضعف هذه الملكة، فأمر بعدم كتابة شيء غير القرآن. هذه بإيجاز أهم أسباب النهي عن كتابة شيء غير القرآن في أول الأمر -أي في أول الإسلام- بعد الهجرة، وهناك من العلماء من أضاف أسبابًا أخرى، لكننا وقفنا عند أهمها الذي ذكره العلماء. هذه العوامل التي أدت إلى الخوف زال الخوف بعد برهة، كيف؟ بتتابع نزول آي القرآن الكريم، وتعامل الناس معه أصبحوا يتذوقونه، وأصبحوا يدركون الفرق بين وبين أي كلام آخر يأتي على أي لسان، فالسبب الأول في النهي عن الكتابة، وهو مخافة أن يلتبس شيء من القرآن الكريم زال، وانتهى بتعود الأمة على القرآن بحفظ كثير له معايشتهم لمعانيه ولبلاغته ولفصاحته، فاكتسبوا ملكة قوية خصوصًا أنهم في الأصل أهل فصاحة وبلاغة، اكتسبوا ملكة قوية يستطيعون أن يفرقوا بها بين القرآن وبين أي كلام آخر، مهما حاول البعض أن يمتحنهم بالخلط في ذلك الأمر. وأيضًا همة المسلمين إذا كنا نريدها أن تتوجه إلى القرآن الكريم فقد توجهت ولله الحمد والمنة، وأيضًا نريدها بعد ذلك أن تتوجه نحو السنة؛ لأننا لا نستطيع أن نفهم الإسلام إلا من خلال القرآن والسنة فلذلك أيضًا زال سبب الخوف الذي كان يعني سببًا في أن يمنع بعض المسلمين من كتابة شيء غير القرآن. وأيضًا بمرور الوقت وتتابع الأزمان، قلة الكتابة، وقلة أدوات الكتابة انتهى، كيف؟ درب كثير من المسلمين على القراءة؛ يعني دين يدعو إلى العلم، ويتعبد

الله بأمور كثيرة في هذا الدين، ومن بينها يتعبد بالعلم؛ يعني نطلب العلم مرضاة لله -تبارك وتعالى- يعني ولذلك حرم علينا أن نكتم العلم، يعني قضية العلم في الإسلام لها حديث آخر، لكن أنا أريد أن أقول: إن الأمة أقبلت على العلم فزال سبب من الأسباب التي ذكرناها، وهي قلة أدوات الكتابة، وقلة الكاتبين. ويكفي يكفي أن نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل فداء الأسير من مشركي قريش في بدر أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة؛ يعني هو حدد مبلغًا من المال لكل أسير، والذي لا يكون معه مال، ولكن معه القراءة والكتابة يستطيع أن يعلم عشرة من المسلمين، يعني أنا لم أقف على مصادر ذكرت عدد الكاتبين من هؤلاء الأسرى، لكن أنا أحيانًا أتخيل، هم كانوا سبعين أسيرًا لو أن عشرة منهم علموا المسلمين، وفقًا لهذا الشرط سيعلمون مائة، ثم هذه المائة بعد ذلك تنطلق لتعلم غيرها من المسلمين، وهكذا قام في المجتمع حركة علمية نشطة لا تتوقف عند حد، وثمارها نعيشها حتى اليوم. المهم أن هذه الأسباب زالت التي أدت إلى النهي عن الكتابة في أول الأمر، ثم كان الإذن النبوي الكريم بعد ذلك بالكتابة. إذن فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الكتابة في أول الأمر للأسباب التي ذكرناها، ثم لما زالت الأسباب أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكتابة، هذا الإذن تمثل في جملة من الأدلة، يعني أنا لم أشرح الآن كيف زالت هذه الأسباب؛ لأن هذا أمر طويل وله تفصيلات كثيرة، إنما المهم أن أسباب النهي عن الكتابة زالت، فكان آخر الأمرين من النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الإذن بالكتابة، هل هناك أدلة على الإذن بالكتابة؟ نعم، روى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بسنده إلى عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه. فنهتني قريش

فقالوا: "إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا". فأمسكت عن الكتاب -يقصد الكتابة يعني، أمسكت يعني امتنعت- فامتنعت عن الكتاب أي عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)) الحديث سنستدل به على قضية أخرى بعد أن نشرع في الغوص في المسألة، لكن الآن نستدل به على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن في الكتابة بعد النهي عنها. ونرجو أن ننتبه أن هذا الإذن كان بعد النهي، بدليل أن عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب هذه القصة، وهذه الرواية رواه الإمام أحمد كما قلنا في (المسند) في جزء 2 صفحة 162 ورواها أيضًا في مواطن أخرى متعددة -رحمه الله تعالى- في مسنده عبد الله بن عمرو بن العاص أسلم سنة ثمان للهجرة، إذن فهذا الأمر النبوي الكريم من الأمور المتأخرة بعد سنة 8 للهجرة. أيضًا في فتح مكة النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب، والرواية عند الإمام البخاري في كتاب العلم في باب كتابة العلم، ورواها الإمام مسلم في كتاب الحج باب تحريم مكة صيدها وشجرها، تقول الرواية: "لما فتح الله تعالى مكة للمسلمين خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- قام يخطب يعني فرحًا بنعمة الله بفتح مكة ودخولها في الإسلام، وتحدثًا بنعمة الله عليه، فقام رجل من أهل اليمن اسمه أبو شاة، وقال: يا رسول الله اكتبوا لي. فقال: ((اكتبوا لأبي فلان)) يقصد أبا شاة. هذه الرواية كما قلت موجودة عن البخاري ومسلم فيها أن أبا شاة وأيضًا في فتح مكة سنة 8 في رمضان، يعني قال: النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب، واشتكى له الرجل في بعض الروايات أنه اشتكى له؛ يعني ضعف الحفظ، وكذا وطلب منه أن يكتبوا له، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أذن وقال: ((اكتبوا لأبي شاة)) ضم هذا الدليل مع حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضًا الذي كان بعد سنة 8 لأن عبد الله أسلم سنة 8 - رضي الله عنه- وعن أبيه.

أيضًا عند البخاري في الرواية السابقة: ((اكتبوا لأبي شاة)) زيادة عن الوليد بن مسلم قال: قلت للأوزاعي: ما قوله اكتبوا؟ كأنه يسأل الأوزاعي ما معنى قوله ((اكتبوا لأبي شاة)) يعني ماذا يكتبون، وكيف يفهمون الأمر؟ فالأوزاعي يقول: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني سيكتبون لأبي شاة هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا روى الإمام الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- قال من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "كان رجل يشهد حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه، فشكى قلة حفظه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استعن على حفظك بيمينك" هذا توجيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل أن يستعين بيمينه يعني يستعين بالكتابة، وهذا درس مهم جدًّا، فتدوين العلم وكتابته من الأسباب القوية جدًّا في الحفاظ على العلم، يعني لو أنك مثلًا أي علم تعلمته عرضة أن تنساه خصوصًا في هذا الزمان، ذاكرة الحفظ قلّت وضعفت والشواغل كثيرة أن تبقي شيئًا من العلم أو حتى الذي تبقى تحفظه بحفظ الله تعالى له بالوسائل العلمية، فهذا مما يساعد على الحفظ، أقصد أن أقول الكتابة من أهم الوسائل على حفظ العلم الشريف. النبي -عليه الصلاة والسلام الرجل شكا له قلة الحفظ أو ضعف الحفظ فقال له: "استعن على حفظ بيمينك" يعني قوِّ حفظك باستعمال الكتابة؛ لأن الكتابة تثبت العلم وتحفره في أعماق الذاكرة، فلا يتفلت بإذن الله -تبارك وتعالى-. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم بارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 8 شبهة حول تدوين السنة (2).

الدرس: 8 شبهة حول تدوين السنة (2).

الأحاديث الدالة على الإذن بتدوين الحديث والحث عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (شبهة حول تدوين السنة (2)) الأحاديث الدالة على الإذن بتدوين الحديث والحث عليه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فبعون من الله -تبارك وتعالى- وتوفيقه كنا قد بدأنا الكلام عن شبهة تدوين السنة، وخلاصتها أن الأعداء يقولون: إن تدوين السنة قد تأخر إلى مطلع القرن الثاني الهجري أثناء خلافة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه ورحمه الله تعالى- لأنه هو الذي أمر بتدوين السنة، وقد ذكرنا الرواية الدالة على ذلك، وهي موجودة في (صحيح البخاري) فأين كانت السنة المطهرة طوال القرن الأول الهجري كله؟. ويثيرون وفقًا لهذا بعض الشكوك في السنة تعرضت للزيادة والنقصان والتحريف أو التغيير والتبديل وما شاكل ذلك، وهذا اقتضانا أن نذكر أدلة؛ يعني قلنا: إن أول الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن كتابة السنة، وهذا حديث صحيح موجود في (صحيح الإمام مسلم) من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- وذكرناه أيضًا في الدرس الماضي، واقتصرنا على حديث أبي سعيد؛ لأنه أصح الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة. هناك أدلة أخرى قد تكلم العلماء حولها -لا داعي للدخول في تفصيلاتها- وإنما يكفينا حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- فهو واضح في الدلالة على النهي عن كتابة السنة في أول الأمر، ثم بعد ذلك أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكتابة، وهذا الإذن له أدلة كثيرة، وهناك قرائن تبين أن هذه الأدلة كانت في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. من هذه الأدلة كما ذكرنا حديث: ((اكتبوا لأبي شاة)) فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يأذن لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- في الكتابة، وكان ذلك بعد إسلام عبد الله الذي أسلم في السنة الثامنة للهجرة، وحديث أبي شاة كان في فتح مكة أي في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة. والخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- روى في كتاب (تقييد العلم) قال بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رجل يشهد حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه، فشكا قلة حفظه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "استعن على حفظك بيمينك" أي: استعن بالكتابة لتساعدك على الحفظ؛ لأن الكتاب من أقوى الوسائل في حفظ العلم. والمهم أن هذه أدلة وغيرها أيضًا موجود، ولا نطيل في ذكر الأدلة إنما نبين أن هناك أدلة نهت عن الكتابة كما في حديث أبي سعيد، وأدلة حثت أو سمحت بالكتابة، العلماء -رحمهم الله تعالى- تعددت أقوالهم في الجمع بين هذه الأحاديث، بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن. هناك من قال: إن العلاقة هي العموم والخصوص، بمعنى أن قوي الحفظ لا يسمح له بالكتابة، فحديث النهي يحمل عليه، أحاديث النهي كلها تحمل على من يعني له حافظة قوية يستطيع أن يحفظ، فلا يهدرها، ولا يضيعها بالكتابة، وتتعود ذاكرته على النسيان؛ لأنه لا يعوده على الحفظ، وبالتالي فإن أحاديث النهي محمولة على قوي الحفظ، وأحاديث الإذن محمولة على ضعيف الحفظ ما دام لا يحفظ جيدًا فليستعن بيمينه، وليكتب حتى لا يضيع منه العلم، ولا يختلط لديه العلم.

وهناك من قال: إن النهي منصب على ما إذا اجتمع القرآن والسنة في صحيفة واحدة يعني النهي موجه إلى من يكتب القرآن، ويكتب الأحاديث النبوية في صحيفة واحدة مخافة أن تختلط الأحاديث النبوية بالقرآن الكريم، ولكن من يؤمن منه هذا الخلط، ولا يقع في ذلك اللبس، فلا بأس أن يكتب خصوصًا إذا كتب الحديث في صحيفة، وكتب القرآن في صحيفة أي: أن كل واحد منهما كان في صحيفة مستقلة. وهناك من قال: إن أحاديث الإذن ناسخة لحديث النهي، واستعان على ذلك بأن أحاديث الإذن بها قرائن تساعد على أن ذلك كان آخر الأمرين من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن حديث أبي شاة كان في فتح مكة؛ ولأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- كان بعد إسلام عبد الله، في السنة الثامنة، والروايات كثيرة في أنه أسلم قبل الفتح وهاجر للنبي -صلى الله عليه وسلم-. ومن المحتمل أن يكون هذا الحديث كان بعد إسلامه بمدة، يعني من الممكن أن نتوقعه في السنة التاسعة أو في السنة العاشرة بعدما تعود على الكتابة، وعلى أن يسجل كل شيء يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأيًّا ما كانت العلاقة بين أحاديث الإذن وأحاديث النهي فإن الصحابة الكرام تلقفوا هذا الإذن النبوي الكريم بالكتابة، وشرع كثير منهم في كتابة الحديث الشريف. ونحن هنا سنسوق جملة من الصحف التي كتب فيها الصحابة، ولن نذكر يعني واحدًا من الصحابة كتب إلا بالدليل الصحيح من خلال المصادر أو السنة النبوية المطهرة يعني كتب السنة وكتب السيرة، وما إلى ذلك، فلكي نبين أن السنة المطهرة بدئ في تدوينها من عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- أي في حياته، وبإذن منه -صلى الله عليه وسلم-. وقد أشرنا إلى بعض الأحاديث الواردة في الإذن.

الصحابة الكاتبون، وصحف تم تدوينها في عهد الرسول.

الصحابة الكاتبون، وصحف تم تدوينها في عهد الرسول فمن الصحابة الكاتبين الإمام علي -رضي الله عنه- وقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. يعني بإيجاز الشيعة كانوا يشيعون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختص عليًّا -رضي الله تعالى عنه- ببعض العلم ببعض الأحاديث، ببعض الأمور، لم يعطها لبقية الصحابة، فأبو جحيفة يسأل عليًّا -رضي الله عنه- ويقول: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله. كتاب الله هذا عند الجميع لمن أراد أن يقتنيه من المسلمين، لا مشكلة في هذا، إذن ليس هناك تمييز لعلي -رضي الله عنه- بذلك، أو فهم أعطيه رجل مسلم بمعنى: أنه لو أن رجلًا مسلمًا كان أكثر فهمًا للنصوص الشرعية الواردة في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ومن هؤلاء الذين اختصهم الله بمزيد من الفهم علي -رضي الله تعالى عنه- يعني اختصه الله تعالى بفهم وهو أحد كبار علماء الأمة بإجماع كل أهل السنة والجماعة على ذلك، فأيضًا هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس في ذلك تمييز له "أو ما في هذه الصحيفة" وهذا محل الشاهد، "قلت" أبو جحيفة يسأل "وما في هذه الصحيفة؟ " قال علي -رضي الله عنه-: "العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. يعني فيها العقل أي الدية؛ يعني فيها الأحاديث الدالة على الدية، وفيها أحكام الأسير وفكاك الأسير، وفيها حكم قتل المسلم بالكافر، ووردت روايات متعددة بموضوع الأحاديث التي كانت في صحيفة علي -رضي الله عنه- ولسنا هنا بصدد حصر الموضوعات التي كانت موجودة في الصحيفة، فهذا ليس الأهم في موضوعنا

الآن إنما هو معه صحيفة بها جملة من الأحاديث المتعلقة بمجموعة من الموضوعات الإسلامية. إذن هي صحيفة كبيرة، وهي بها مجموعة من الأحاديث النبوية المتعلقة بعدة موضوعات، مع أن الصحيفة في لغة العرب تعني الكتاب يعني الألفاظ المتداولة الآن في الثقافة العادية الآن الصحيفة قد تعني الجريدة التي نقرؤها صباح كل يوم في أي دولة كانت، لا، الصحيفة في لغة العرب تعني الكتاب؛ يعني أن عليًّا كان عنده كتاب فيه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة، ولا ننسى أن الدليل على ذلك ورد في (صحيح البخاري) -رحمه الله تعالى- فقد رواه البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم. والمقصود كما قلنا أن الصحيفة بها هذه الأحاديث المتعلقة بهذه الموضوعات وبغيرها كما وردت بذلك روايات متعددة. وأرجو من المستمع الكريم أن يحصي الصحائف التي كتبت في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وبإذن منه حتى نثبت بالأدلة من غير تعسف أن السنة المطهرة بدئ في تدوينها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا من الصحابة الكاتبين عبد الله بن عمرو بن العاص، ومنذ قليل كنا نتكلم عن الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بأنه كان يكتب كل شيء، هذا دليل على الكتابة والنبي -صلى الله عليه وسلم- علم بذلك، وأذن له "كنت أكتب كل شيء أسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- فنهتني قريش" يعني وقالوا: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا". ومعنى اعتراض قريش أنهم خافوا أن يكون بعض ما يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بالكتابة؛ لأنه مثلًا من أقواله البشرية يعني ليست من الوحي، أو ما شاكل ذلك، ربما فهموا ذلك، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بين لعبد الله ((اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)).

الحديث يحمل الدليل على الأمرين معًا على أن السنة كلها وحي من عند الله ((ما خرج مني إلا حق))، وأقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، والحق هو الذي جاءه من عند الله. والأمر الثاني: جواز الإذن بالكتابة أو جواز الكتابة ((اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)) إذن عندي الآن صحيفة علي، وصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، وكتابة عبد الله أثمرت صحيفة مشهورة اسمها صحيفة عبد الله أو هو أسماها الصادقة، وكانت قريبة جدًّا إلى قلبه. وتلميذه مجاهد يقول: دخلت عليه أي على عبد الله بن عمرو بن العاص فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنع عليه يعني كأنه أبى أن يعطيه إياها، فقلت: "تمنعني شيئًا من كتبك؟ " فقال: "هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه فيها أحد" كان يعتز بها؛ لأنها سماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وهذه الصحيفة، والوهط فلا أبالي. يعني عبد الله خاف الصحيفة أن يعيطها لتلميذه، فقال: "هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه فيها أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وهذه الصحيفة والوهط، فما أبالي ما كانت عليه الدنيا" هذا يعني رواه الإمام الدارمي وغيره في كتاب العلم، باب من رخص في كتابة العلم. والوهط يعني الحديقة، كانت لعمرو بن العاص -رضي الله عنه- بالطائف، وآلت من بعده لابنه عبد الله. ومن هذه الصحيفة ما رواه الإمام أحمد في مسنده بسنده إلى أبي سبرة أنه قال: كان عبيد الله بن زياد يسأل عن الحوض، حوض محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان يكذب به، بعدما سأل أبا برزة والبراء بن عازب وعائد بن عمرو، ويكذب به، فقلت له: ألا أحدثك في شفاء هذا؟ إن أباك بعث معي بمال إلى معاوية. "أباك" يقصد زياد بن أبيه، والد عبيد الله بن زياد بعث بمال إلى أبي سبرة إلى معاوية -رضي الله تعالى عنه- فلقيت

عبد الله بن عمرو بن العاص، فحدثني بما سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأملى علي، فكتبته بيدي، فلم أزد حرفًا، ولم أنقص حرفًا. حدثني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش، ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤمن الخائن ويخون الأمين)) وقال: ((ألا إن موعدكم حوض عرضه وطوله واحد، وهو كما بين أيلة ومكة، وهو مسيرة شهر، فيه مثل النجوم أباريق)) "فيه مثل النجوم أباريق" يعني يقصد أن أكوابه وكيزانه عدد نجوم السماء ((وشرابه أشد بياضًا من الفضة، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا)) فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثًا أثبت من هذا، فصدق به وأخذ الصحيفةفحبسها عنده. إذن يعني جئنا بحديث من أحاديث الصحيفة لنبين أن الصحيفة موجودة، وأنها روى منها عبد الله بن عمرو بن العاص، وكتب عنه بعض تلاميذه، وهذا الحديث موجود عند الإمام أحمد. والحديث تضمن فقرات يعني موجودة في كثير من الصحيح من المصادر ((إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش)) هذا ورد في الصحيح، وأيضًا أحاديث الحوض صحيحة وكثيرة جدًّا، بل إن ابن حجر -رحمه الله تعالى- وغيره في الفتح أشاروا إلى أن أحاديث الحوض متواترة. يقول ابن حجر: جمعت طرقها فبلغت بها أكثر من خمسين صحابيًّا وبلغني أن بعض المتأخرين اشتغل بجمعها فوصل إلى أكثر من ثمانين صحابيًّا. والمهم أن هذه الصحيفة. وابن الأثير يقول في (أسد الغابة) عن هذه الصحيفة: "إن عدتها ألف حديث" يعني صحيفة واحدة بها ألف حديث من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضم هذه

الصحيفة، فصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- بها ألف حديث، ضمها إلى صحيفة علي -رضي الله عنه- وبها أحاديث كثيرة متعلقة بجملة من الموضوعات؛ لنعرف أن كثيرًا من السنة قد جمع أو قد كتب في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا من الصحابة الكاتبين أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- ورغم أنه كان لا يعرف الكتابة، هو لم يكن كاتبًا إلا أنه كان يستكتب لنفسه؛ يعني يطلب من الآخرين أن يكتبوا له، بفضل من الله -تبارك وتعالى- وكأن الله -عز وجل- أراد أن يبقي لنا دليلًا من الأدلة المادية القوية على كتابة السنة في مرحلة مبكرة جدًّا حفظ لنا صحيفة من صحف أبي هريرة، رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه. وهذه الصحيفة الآن طبعت وحققت بأكثر من تحقيق، موجودة في الأسواق، سمعها همام من شيخه أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أبو هريرة متوفى سنة تسعة وخمسين أو ثمانية وخمسين أو سبعة وخمسين، على خلاف بين الأقوال في سنة وفاته، وهناك من رجح أنها سنة تسع وخمسين للهجرة، المقصود من ذكر سنة وفاة أبي هريرة أن نثبت أن همامًا سمعها من شيخه قبل وفاته، وإلا لما كان قد رواها عنه، يعني هذه الصحيفة كتبت في القرن الأول، كتبها همام بن منبه عن شيخه أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-. هذه الصحيفة تعتبر من الأدلة اليقينية على أن السنة المطهرة قد شرع في تدوينها منذ مرحلة مبكرة جدًّا، وترد على الذين يزعمون أن السنة قد تأخر تدوينها، ويستدلون على ذلك برواية عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- وهي في ذات الوقت تعتبر وثيقة تاريخية هامة جدًّا لأنها وصلت إلينا كاملة رواها عن همام رواة كثيرون، يعني أستاذنا الأستاذ الشيخ سيد صقر -رحمه الله تعالى- تتبع سلسلة رواتها فقال: "وقد رواها عن همام رواة كثيرون آخرهم معمر بن راشد، ثم عبد الرزاق عن معمر

بن راشد، ثم آخر من رواها عن عبد الرزاق إسحاق الدبري ثم آخر من رواها عن إسحاق تلميذه أبو القاسم الطبراني المتوفى سنة 360 هجرية. هذه الصحيفة رواها كاملة في مسنده الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- كاملة في أثناء مسند أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- وأيضًا أخرج صاحبا الصحيحين بعض أحاديثها، الإمام أحمد كما قلنا يعني ذكرها أو رواها كاملة في مسنده، وهي 138 حديثا، محققة، ومطبوعة كما ذكرنا. من أحاديث هذه الصحيفة ما رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بسنده إلى همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله لهم فاختلفوا فيه، وهدانا الله إليه ثم كنا فيه تبعًا، فاليهود غدًا والنصارى بعد غد)). نذكر أيضًا بعض الأحاديث من أحاديث الصحيفة لنثبت وجودها، وكما قلنا هذه الصحيفة لها أكثر من تحقيق موجود في السوق، الدكتور رفعت فوزي حققها الدكتور محمد حميد الله حققها على أكثر من نسخة، وسجل ذلك في بداية كلامه، والتحقيقات موجودة في الأسواق، في المكتبات الإسلامية المعروفة. هذه الصحيفة كما قلنا كتبت في القرن الأول الهجري، سواء كتبت، في الأغلب أنها كتبت بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنها كتبت في عصر الصحابة، وبيقين كتبت في القرن الأول الهجري، وقبل وفاة أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-. العلماء يستدلون بهذه الصحيفة على أمر آخر، وهو أن الصحيحين لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة، وهذا أمر معروف، فإن صاحبي الصحيحين -رحمهما الله تعالى- لم يلتزما بجمع كل الأحاديث الصحيح، وإنما التزما فقط بأنهما لن يضعا حديثًا في كتابيهما إلا إذا كان صحيحًا.

الصحيفة ثمانية وثلاثون ومائة حديث، وبإسناد واحد الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذن درجتها في الصحة واحدة؛ لأن إسنادها واحد، ومع ذلك أخرج البخاري ومسلم بعضها، ولم يخرجا كل أحاديثها؛ ليدل ذلك على أنهما لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة، لكن أيضًا ضم هذه الصحيفة إلى الصحائف التي تكلمنا عنها لعلي ولعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما. أيضًا من الصحابة الكاتبين عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله تعالى عنه- المتوفى بالكوفة سنة 87 هجرية، لقد كتب كتابًا إلى عمرو بن عبيد الله بن معمر القرشي، أمير فارس، عندما وجهه عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما- إلى حرب الأزارقة، وقد قرأ هذا الكتاب سالم أبو النضر مولى عمرو وكاتبه، وقد حدث بما فيه من أحاديث، وقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه بعضها. ومن أحاديث هذه الصحيفة ما رواه البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر، مولى عمرو بن عبد الله، وكان كاتبًا له، كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس. ثم قام في الناس فقال: ((أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ثم قال: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) هذا الحديث رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الجهاد، باب الصبر على القتال. ورواه أيضًا في مواطن أخرى من صحيحه؛ ليدل على أن هذه الصحيفة كتبت أيضًا بها جملة من الأحاديث النبوية.

والخليفة الأول أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- كتب شيئًا من السنة أيضًا، فقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن أبا بكر -رضي الله عنه- كتب له فريضة الصدقة التي أمر بها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده إلا حقة فإنها تقبل منه". وتفاصيل مقادير الزكاة طويلة، وهذا أيضًا رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل. والمهم أنها صحيفة، كتبها أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- لأنس بن مالك، رضي الله تعالى عن الجميع. ومن الصحابة الكاتبين أبو رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان له كتاب، جمع فيه بعض الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفعه إلى أبي بكر بن عبد الرحمن القرشي، أحد التابعين الأجلاء، وأحد الفقهاء السبعة، ورواه الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، لا شريك لك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنوبي، فاغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، ولا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك، أستغفرك وأتوب إليك)) ثم يقرأ. يعني يقرأ الفاتحة، ويقرأ القرآن. هذا رواه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وحتى بها بعض الزيادات الأخرى التي لم يذكرها هنا. وكان أنس -رضي الله تعالى عنه- من الصحابة الكاتبين، وقد قابله عتبان بن مالك، فكتب عنه أنس حديث زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- له، نص الحديث عند مسلم -رحمه الله تعالى- فيما رواه بسنده إلى أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك -رضي الله عنهم أجمعين- رواية ثلاثة من الصحابة عن بعضهم، من لطائف الإسناد هنا.

قال أنس: قدمت المدينة، فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك. يعني أريد أن أسمعه منك، وأن ترويه لي قال أي عتبان: "أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي" يعني: عتبان أصابه في بصره بعض المرض، فلا يستطيع أن يستمر على صلاة الجماعة في المسجد بشكل مستمر، فأراد أن يتخذ لنفسه في بيته مسجدًا، وأن هذا المسجد يشرف بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطلب من النبي العظيم -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه إلى منزله، وأن يصلي في مكانه؛ ليتخذه مصلى له بعد ذلك، وصلى عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- وتم هذا الأمر. هو حديث طويل، وفي آخره محل الشاهد فيه، قال أنس رضي الله عنه: "فأعجبني هذا الحديث، فقلت لابني: اكتبه فكتبه" هذا رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا. كان الناس إذا أكثروا على أنس بن مالك -رضي الله عنه- طلبًا للسماع يلقي إليهم كتبًا ويقول: هذه كتب سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يقول لبنيه: يا بني قيدوا العلم بالكتاب. هذا النص "قيدوا العلم بالكتاب" ورد مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وورد موقوفًا على كثير من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وأنس وغيرهم، وقد استعرض ذلك كله الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- في كتابه (تقييد العلم). والمهم أن أنسًا كتب الحديث، وأنه كانت عنده كتب أخرى يلقيها إلى طلابه، ويقول لهم: "هذه كتب سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وكان يوصي أبناءه بأن يستعينوا بالكتابة "قيدوا العلم بالكتاب" أي: احفظوه وسجلوه ودونوه لكي لا يضيع، قيدوا العلم بالكتاب هذا ورد مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهناك مناقشات للعلماء في درجته،

وأيضًا ورد موقوفًا على كثير من الصحابة، وهذا الورود يدل على أنها أصبحت قاعدة علمية عندهم أن يقيدوا العلم بالكتاب، وأن يحافظوا عليه من ضياعه بالتسجيل بين دفتي الصحائف حتى لا يضيع. أيضًا من الصحابة الذين كتبوا: الصحابي الجليل سعد بن عبادة، وقد روى الترمذي -رحمه الله تعالى- قال ربيعة: وأخبرني ابن سعد بن عبادة قال: وجدنا في كتاب سعد "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين والشاهد" وهذا رواه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في اليمين مع الشاهد. وابن حجر في (تهذيب التهذيب) يجزم بأن سعد بن عبادة -رضي الله تعالى عنه- كان من كتاب الجاهلية، ونص ابن حجر في ذلك نقلًا عن ابن سعد، وهذا كلام ابن حجر عن سعد بن عبادة: "كان في الجاهلية يكتب بالعربية، ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يقال له الكامل". إذن سعد له كتاب كتبه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين والشاهد، وقضية القضاء باليمين والشاهد قضية فقهية معروفة، ولها أدلتها، ولها مناقشاتها في كتب الحديث والفقه معًا. أيضًا من الصحابة الذين كتبوا: سمرة بن جندب -رضي الله تعالى عنه- قد جمع أحاديث كثيرة في صحف عنده، ورثها عنه ابنه سليمان، ورواها عنه، وهي كما يقول أستاذنا الشيخ سيد صقر -رحمه الله تعالى- في مقدمة تحقيقه لـ (فتح الباري) طبعة كانت طبعتها الأهرام في السبعينات يقول: "وهي على ما يظن الرسالة التي بعثها سمرة إلى بنيه، ومن أحاديثها: "بسم الله الرحمن الرحيم من سمرة بن جندب إلى بنيه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرنا أن نصلي كل ليلة بعد المكتوبة ما قل أو كثر، ونجعله وترًا".

قال ابن سيرين عن هذه الصحيفة: "في رسالة سمرة بن جندب إلى بنيه علم كثير" كلام ابن سيرين هذا ذكره ابن حجر في (تهذيب التهذيب) وهو يترجم لسمرة بن جندب -رحمه الله تعالى-. وقد قال أستاذنا الشيخ سيد صقر -رحمه الله تعالى- عن هذه الصحيفة: وصلت هذه الرسالة كاملة إلى الحسن البصري، المتوفى سنة مائة وعشر للهجرة، وكان يعتمد عليها في روايته، ويبيح نسخها لمن يشاء، ويستمع إلى من يرغب في قراءتها عليه، وجاء في كتاب (العلل ومعرفة الرجال) لأحمد بن حنبل عن ابن عوف قال: "وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه". والإمام النسائي -رحمه الله تعالى- روى في كتاب الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، ورواه الترمذي أيضًا في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة من أحاديث صحيفة سمرة هذه عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)). أيضًا من الصحابة الكاتبين: عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وكان عند كريب مولى ابن عباس كتب كثيرة من كتب ابن عباس، ولقد تعددت الروايات وذكر عدد منها أن كريبًا حمل من عند ابن عباس حمل بعير من الكتب، نتصور حمل بعير في ذاك الزمان من الكتب يعني مكتبة ضخمة جدًّا بمقاييس ذاك الزمان السالف، خصوصًا مع قلة أدوات الكتابة، وقلة الكاتبين، فكون واحد من الصحابة -رضي الله عنهم- يعني عنده مكتبة حمل بعير من الكتب، هذه مكتبة ضخمة جدًّا أكثر من ضخمة. وكان علي بن عبد الله بن عباس يبعث إلى كريب إذا أراد كتابًا من كتب أبيه، فيبعث كريب إلى علي بما يريد، فينسخها ثم يردها إلى كريب مرة ثانية، وكأن

كريبًا هذا كان هو أمين المكتبة المسئول عنها أمام الله تعالى، فكان الذي يريد كتابًا يستعيره، ويأخذ منه ما يريد ثم يرده إلى كريب مرة أخرى، لم يستثن أحد من ذلك، وعلي بن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم أجمعين- كان يفعل ذلك. الدكتور صبحي الصالح -رحمه الله تعالى- في كتابه (معرفة علوم الحديث) يقول عن كتب ابن عباس هذه: "ويتعاقب الناس على الرواية عنها، والأخذ منها، حتى امتلأت كتب التفاسير والحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته، ولكننا مع ذلك لا نستطيع تحديد الزمن الذي تلقى فيه تلك الصحائف، ولا الصورة التي تلقيت عنها لأن الصحائف ليست موجودة، لكن خبرها موجود في بطون الكتب. أيضًا من الصحابة الذين كتبوا: جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- كانت له حلقة في المسجد النبوي يلقي فيها إلى تلاميذه من كتبه، وأيضًا كان له منسك في الحج، كتاب في الحج، وأوسع الروايات التي وصفت حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع هي رواية جابر بن عبد الله، تصف الحجة التي أداها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أول أن أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس أنه يريد الحج من عامه هذا إلى أن انتهت الرحلة المباركة، وعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. هذه الرواية رواها الإمام مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف الحجة من أولها إلى آخرها، كما قلت، منذ كانت فكرة أو يعني لم يشرع في العمل بعد، النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد الحج من عامه هذا، فأذن في الناس جميعًا في المدينة وفي حواليها؛ لكي يشرف بالمشاركة من يريد أن يصاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعلًا الروايات تعددت في عدد الصحابة الذين حضروا تلك الحجة المباركة، وبعضهم وصل بهم إلى أربعة عشر ومائة ألف صحابي رضي الله تعالى عنهما.

أيًّا كان العدد محل الشاهد أن جابرًا كان له منسك مكتوب في الحج، ووصفه للحج هو أوسع وصف لحجة النبي -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (الإصابة) في جزء 5 ص86 يذكر في ترجمة أبي ريحانة الأزدي من الصحابة الذين نزلوا الشام ومصر، يقول: "كانت له صحف، وهو أول من طوى الطومار والطومار هو الصحيفة، يجمع على طوامير؛ إذن له أيضًا صحيفة، هذا الكلام أثبته ابن حجر -رحمه الله تعالى-. كل تلك الصحف السابقة التي أشرنا إليها، هذا غيض من فيض، ونقطة من بحر، والصحائف كثيرة، إنما أردنا فقط ذكر بعضها للإشارة أو للاستدلال على أن السنة بدئ في تدوينها منذ عصر النبي -صلى الله عليه وسلم. وهذه الصحف التي أشرنا لعبد الله بن عباس، ولعلي بن أبي طالب، ولعبد الله بن عمرو بن العاص، وصحيفة همام بن منبه، وأبي رافع، وعبد الله بن أوفى، إلى آخر وأنس وجابر، كل هؤلاء غير تلك الصحف التي كان فيها بعض من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- والتي كان يكتبها لهم في أي مناسبة من المناسبات. ومن ذلك ما يرويه ابن أبي ليلى عن عبد الله بن حكيم قال: قرئ علينا كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب)) هذا الحديث رواه الإمام الحاكم في (معرفة علوم الحديث) أثناء حديثه عن النوع الحادي والعشرين من علوم الحديث، وهو معرفة ناسخ الحديث من منسوخه. وقال عن هذا الحديث: إنه منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بشاة ميتة فقال: ((هل انتفعتم بجلدها)) قالوا: يا رسول الله إنها ميتة. قال: ((إنما حرم أكلها)). بعض الأحاديث تتناول أحكامًا فقهية أو عقدية أو ما شاكل ذلك، إذا استطردنا إلى توضيحها يطول بنا المقام جدًّا، لكننا نقتصر على يعني محل الشاهد، وهو أنها كانت صحيفة مكتوبة "قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وأيضًا من الكتب التي كتبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أمر بكتابتها بالأدق: الصحيفة المشهورة التي تضمنت العلاقة بينه وبين اليهود بالمدينة، وهي صحيفة هامة جدًّا، بها حقوق المسلمين المهاجرين والأنصار، وعرب يثرب واليهود في المدينة، وتكررت فيها كلمة أو لفظة الصحيفة خمس مرات، وجاء في مقدمة هذا الكتاب: ((هذا كتاب محمد النبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين)) إلى آخر نص الصحيفة، وهي موجودة في (سيرة ابن هشام) وهي موجودة في كل كتب السيرة، وهي تتكلم عن هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومن أوائل الأشياء التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- حين هاجر إلى المدينة أنه قام بتسجيل تلك الصحيفة مع اليهود؛ لينظم العلاقة بين أهل الديانات المتعددة حين يتساكنون في وطن واحد. وهذه الصحيفة بها من الفوائد الفقهية والعقدية والتربوية والسياسية ما لا يعد ولا يحصى، بل إننا نطلب من الدعاة أن يحفظوها؛ لأنها تمثل العلاقة بين أهل الديانات المختلفة كما قلت حين يكونون أبناء وطن واحد، تنظمها في منتهى الدقة، وتبين لكل طرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات. وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا لوائل بن حجر لقومه في حضرموت، حدد له فيه الملامح الرئيسية، ومعالم الإسلام، وكتب أيضًا له في هذا الكتاب بعض الأحكام من الزكاة، وفي حد الزنا وتحريم الخمر، وبيان أن كل مسكر حرام، وهو كتاب طويل وهذا ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في كتاب (الإصابة). كل هذه صحائف كتبت بعد إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكتابة، ومنها ما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-

بكتابتها، ومنها ما كتبه أبو بكر، ومنها ما كتبه الصحابة جميعًا، يعني كثير من الصحابة كما ذكرنا. وأيضًا كل ذلك غير تلك الصحف التي كان يكتبها الصحابة لأنفسهم ولغيرهم، من ذلك مثلًا الصحيفة التي ذكرناها كتبها أبو بكر لأنس بن مالك في السفر، رضي الله عنهم أجمعين. ومنها ما رواه ابن سعد -رضي الله تعالى عنه- قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في جراب سيفه كتابًا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((وإن لربكم في أيامكم دهركم لنفحات فتعرضوا لها)) هذا الحديث رواه الرامهرمزي في كتاب (المحدث الفاصل) في ص112 وذكر الهيثمي -رحمه الله تعالى- هذا الحديث في (مجمع الزوائد) في كتاب الزهد باب التعرض لنفحات رحمة الله تعالى، عن محمد بن مسلمة، وعزاه للطبراني في الكبير، وفي الأوسط. وكتبت سبيعة الأسلمية إلى عبد الله بن عتبة، تروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمرها بالنكاح بعد قليل من وفاة زوجها بعدما وضعت. هذا أيضًا رواه الإمام البخاري في كتاب التفسير، وفي كتاب الطلاق، ورواه مسلم في كتاب الطلاق، باب عدة المرأة المتوفى عنها زوجها. وغيرهم رواها أيضًا. كل هذه الأدلة، وغيرها من الذي لم نذكره؛ تؤكد لنا في جزم ويقين أن العصر النبوي المبارك لم يكد ينتهي إلا وقد شرع في تدوين السنة، بل تم تدوين كثير منها في صحائف وكتب. هذه حقيقة علمية، توصل إليها كثير من الباحثين، نكمل حديثنا عنهم إن شاء الله في الدرس القادم بإذن الله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الدرس: 9 شبهة حول تدوين السنة (3) - الحديث المتواتر.

الدرس: 9 شبهة حول تدوين السنة (3) - الحديث المتواتر.

استكمال الأدلة على تدوين السنة في عصر النبوة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (شبهة حول تدوين السنة (3) - الحديث المتواتر) استكمال الأدلة على تدوين السنة في عصر النبوة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزوجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنستطيع أن نقرر بعد كل هذا الاستعراض أن العصر النبوي الكريم لم يكد ينتهي إلا وقد شرع في تدوين السنة، بل بفضل الله -عز وجل- تم تدوين جزء منها في صحائف وكتب نستطيع أن نقرر أن هذه حقيقة علمية توصل إليها كثير من الباحثين. يقول أستاذنا الشيخ سيد صقر -رحمه الله تعالى- في أول سطور تحقيقه لكتاب (فتح الباري) طبعة الأهرام التي أشرنا إليها قبل: "من الحقائق المطوية في الكتب أن الأحاديث النبوية قد دونت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حياة صحابته، فكان لبعض الصحابة كتب تشتمل على ما سمعوا من أحاديث كتبوها بأيديهم، وكتبها عنهم من سمعها منهم، وقد شارك الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تدوين سنته بإملائه على كتّابه ما أملى، من كتب في الفرائض وغيرها، أو أرسلها إلى من رأى إرسالها إليهم؛ لتكون تبصرة وتذكرة فيما افترض من ألوان أو فيما افترض من ألوان الفرائض أو أدبهم به من سنن الأدب" هذا كلام الشيخ في أول تحقيق للكتاب. يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب، وله رسالته التي حصل بها على درجة التخصص في "الماجستير" كانت في هذا الموضوع من كلية دار العلوم، وأصبحت مرجعًا هامًا متداولًا في الأسواق الآن، جزاه الله تعالى خيرًا عنها، عن قضية تدوين السنة بالذات، عنوان الرسالة "السنة قبل التدوين" يقول في تعليقه على صحيفة همام: "ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف؛ لأنها حجة قاطعة، ودليل ساطع على أن الحديث النبوي كان قد دون في عصر مبكر، وتصحح الخطأ الشائع أن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الثاني الهجري".

ويقول الدكتور صبحي الصالح -رحمه الله تعالى-: - بعد أن استعرض الأدلة على كتابة السنة منذ مرحلة مبكرة، يقول: "ليس علينا إذن أن ننتظر عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز حتى نسمع للمرة الأولى كما هو الشائع بشيء اسمه تدوين الحديث أو محاولة لتدوينه. وليس علينا أن ننتظر العصر الحاضر؛ لنعترف بتدوين الحديث في عصر مبكر جريًا وراء بعض المستشرقين كـ"جولد تسيهر" و"شبرنجر" لأن كتبنا ووثائقنا وأخبارنا التاريخية لا تدع مجالًا للشك في تحقيق تقييد الحديث في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وليس على رأس المائة الثانية للهجرة، كما يمن علينا هذان المستشرقان، وهي تنطق فوق كل ذلك بصدق جميع الوقائع والأحوال والسير والتصرفات، التي تنطوي عليها الأحاديث الصحاح والحسان في كتب السنة جميعًا لا في بعضها دون بعض، كما يظن دوزي" ودوزي اسم مستشرق. بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقل اهتمام الصحابة أبدًا بدراسة السنة، ولا بتدوينها، بل ظلوا على ذلك إن لم يكونوا قد زادوا من جهودهم، بل بالقطع نستطيع أن نقول: إن الصحابة قد زادوا من جهودهم لأن مسئولية الحفاظ على الدين بمصارده من قرآن وسنة قد انتقلت إليهم، الحفاظ والتوضيح معًا، وتوضيح الدين للناس وخصوصًا تلك الأمم التي دخلت في الإسلام بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أصبح معلقًا بهم وعلى مسئوليتهم؛ لأن الوحي قد انقطع، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعد بين ظهرانيهم. وهناك محفزات أخرى كانت لهم تدعوهم إلى مضاعفة الجهد في سبيل نشر السنة وحفظها والعمل على تقييدها، كما سنذكره بعد قليل. إذن من هذا الاستعراض نستطيع أن نقول: إن السنة كما ذكر ذلك الذين قرأنا

من كلامهم، الشيخ سيد صقر، والشيخ محمد عجاج الخطيب، والشيخ صبحي صالح، وغيرهم كثير كثير، هذه قضية تعرض لها كثير من الباحثين المحدَثين، والحمد لله ثبت بالأدلة أن السنة بدئ في تدوينها منذ عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قلنا وبإذن منه. إذن لا حاجة بعد ذلك أن نتوقف في تأكيد هذه الحقيقة العلمية بعدما ثبتت بالأدلة القاطعة. إذن الذين يثيرون الشبهات، ويثيرون الغبار حول تدوين السنة، ويعددون الشبهات حولها فيقولون مثلًا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن بكتابة السنة أو لم يكتب السنة، حتى هم لا يتكلمون الآن عن قضية تأخير تدوينها، ويشككون فيها هناك شبهة التي نرد عليها أنها تأخر تدوينها، وأنها طوال القرن الأول كله الهجري كله لم تكن مكتوبة، كما ذكرنا، فنحن رددنا على ذلك. هم يثيرون شبهًا أكثر من هذا، تتعلق أيضًا بتدوين السنة يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بكتابة السنة، إذن هو لا يريد أن يكون هناك شيء آخر مع القرآن، هو انتقل من التشكيك في تدوين السنة إلى التشكيك في حجية السنة ذاتها، لو كانت السنة حجة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتدوينها منذ أول الدعوة، وهذا أمر رددنا عليه بالأدلة، يعني قضية حجية السنة نحن أفردنا لها بعض المحاضرات، وأثبتناها كقضية قرآنية وعقدية وإيمانية. لكن ما يتعلق بتدوين السنة. قلت منذ قليل: إن الصحابة كان لهم محفزات أخرى لمزيد من الاهتمام بالسنة، منها الأحاديث الكثيرة يعني حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ليبلغ الشاهد الغائب، وهذا حديث رواه الإمام البخاري في خطب الوداع، قال: ((ليبلغ الشاهد الغائب)) ليبلغ: فعل مضارع اقترن بلام الأمر، فيفيد الوجوب، التبليغ واجب على كل قادر عليه، تبليغ القرآن، تبليغ السنة ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج)) ((نضر الله امرأ سمع منا حديثًا)) وقد ذكرنا هذه الأحاديث بتخريجها قبل ذلك.

كل هذه أوامر نبوية، تدل على ضرورة الاهتمام بالسنة أيناقش أحد بعد ذلك في أن عدم كتابة السنة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- تدل على أنها ليست حجة؟ نحن رددنا على هذه الشبهة من وجهين: الأول: إثبات أن السنة دونت بإذن من النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته، وأن كثيرًا من الصحابة كتبوا. ونرد على الجانب الثاني من الشبهة بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كانت حجة لكتبها؟ ها هو قد كتبها، وها نحن أثبتنا كتابتها، وأيضًا نرد بأكثر من هذا بكل الأحاديث التي تدل على أنه أمرهم وحثهم على ضرورة العناية بالسنة المطهرة، هذه محفزات النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرها لهم، ((نضر الله امرأ سمع مقالتي وأداها كما سمعها، ورب مبلغ أوعى من سامع)) وفي رواية ((فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) هذه الرواية رواها الإمام الترمذي في كتاب العلم، باب الحث على تبليغ السماع. ورواه أبو داود أيضًا في كتاب العلم، باب نشر العلم، ورواه ابن ماجه في المقدمة، ورواه الدارمي في المقدمة باب الاقتداء بالعلماء، كل ذلك يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو بنضارة الوجه لمن أدى حديثًا واحدًا، فكيف بمن قام بدور كبير في صيانة السنة، ولم الاهتمام بالسنة إذا لم تكن حجة؟ كما يقول هؤلاء، ولم الحث على روايتها؟ ولم الأمر بأن يبلغها الشاهد الذي سمع للغائب الذي لم يسمع؟ سواء كان ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بعد حياته -صلى الله عليه وسلم- ((ليبلغ الشاهد الغائب)) ليست مقصورة على حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- نعم هو قالها، وهو في حجة الوداع معهم، لكن الأمر إلى يوم القيامة. كل من علم حديثًا وحفظه وفهمه، وتلقاه عن أشياخه، عليه أن ينقله إلى الأمة من بعده؛ لأن كل حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو جزء من هذا الدين، وهذه قضية أخرى.

أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرواية لا يحث على التبليغ فقط، يحث على فهم الأحاديث والعمل بما فيها من أحكام، وإلا فما فائدة جملة ((فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) لماذا يوصي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك بالسنة، يعني بسنته هو وبسنة الخلفاء الراشدين المهديين، والعض عليها بالنواجذ عند الاختلاف وغير الاختلاف ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) وكنا خرجنا هذا الحديث قبل ذلك. أنا لا أحب أن أستعمل أوصافًا شديدة في حق المخالفين، واحد من الذين يجادلون، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قد تركتكم على المحجة البيضاء أو على البيضاء ليلها كنهارها)) ويجوز ليلها كنهارها على أنها بدل من البيضاء ((لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) هذا جزء من حديث طويل، أخرجه ابن ماجه في سنته في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة، باب ذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "تركتكم على مثل البيضاء، وتحذيره إياهم بأن يتغيروا عما يتركهم عليه". والله هناك خوف على من يزيغ عن السنة أن يكون من الهالكين، نسأل الله تعالى السلامة لنا ولكل المسلمين، وأن يرد كل شارد إلى الحق ردًّا جميلًا، وأن يعيده إليه عودًا حميدًا، وأن يبصر الأمة بما عليه سلفها الصالح من اعتقاد حجية السنة، وأنها كالقرآن الكريم في التشريع، وأنها المصدر الثاني، وأننا نستمد منها أدلتنا كما نستمد من القرآن الكريم تمامًا. وأيضًا سبق لنا أن ذكرنا الحديث الذي رواه الحاكم وغيره ((إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أو وسنتي)) كما في بعض الروايات.

مراحل كتابة الحديث.

وبذلك ننتهي من الحديث عن قضية تدوين السنة، وأنها لا تشكل شبهة أبدًا يعول عليها أعداء الإسلام، بل ثبت بالأدلة القاطعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن للبعض، أو أذن للمسلمين أن يكتبوا السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكرنا واستعرضنا الحقائق التي أثبتت ذلك. مراحل كتابة الحديث بعد كل هذا الاستعراض نقول: إن مكتبة الحديث أو كتابته مرت بالمراحل التالية: كتابة الأحاديث، وفيها سجلت الأحاديث في هذه المرحلة في كراريس، في صحف؛ يعني الواحد منها اسمه الجزء أو الصحيفة، تمت هذه المرحلة في عصر الصحابة، وأوائل التابعين. والمرحلة الثانية تدوين الحديث، وهي مرحلة ضمت فيها تلك التسجيلات متفرقة، وتم هذا في أواخر القرن الأول الهجري مع أوائل القرن الثاني، ثم جاء تصنيف الحديث؛ أي المصنفات التي كتبت وفق مناهج متعددة، فمنهم من رتبها على كتب وأبواب، ومنهم من رتبها على مسانيد إلى آخره، وهذه بدأت مع الربع الثاني من القرن الثاني الهجري؛ يعني لم تتأخر. عندنا أجزاء حديثية وعندنا كتب كثيرة، وموطأ الإمام مالك قلنا: إنه كتب قبل وفاة أبي جعفر المنصور -رحمه الله تعالى- لماذا؟ أبو جعفر المنصور انتهت خلافته سنة 158 هجرية، والإمام مالك عرض عليه (الموطأ) أثناء خلافته، وأبو جعفر اقترح على الإمام مالك أن يجعل (الموطأ) الأصل لدى كل المسلمين، وأن يحرق كل ما سواه، ولم يقبل ذلك الإمام مالك، وقال له: إن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تفرقوا في الأمصار، وأصبح في بعض البلاد علم لم يكن عند علم أهل البلاد الأخرى وفقًا لتفرق الصحابة في الأمصار، فلم يقبل أن يكون كتابه هو القائد

وحده، وإنما علم أن هناك أحاديث كثيرة خارج دائرة (الموطأ) تناقلها الصحابة إلى البلاد، أو نقلها الصحابة إلى البلاد الذين دخلوها، وأقاموا بها. في تصنيف الحديث كما قلنا، صنفت الكتب على الأبواب، وعلى المسانيد إلى آخره، وبالتالي نستطيع أن نتأكد من الرد على هذه الشبهة، وأن الحقيقة الساطعة هي أن السنة قد دونت خلال عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة من بعده، وأوائل التابعين، صحيح أنها في صحف وأجزاء، لكنها على أي حال قد دونت، وأنه قد تلت ذلك مرحلة تالية، وهي مرحلة طبيعية تترتب تلقائيًّا على المرحلة الأول، وهي مرحلة نسميها مرحلة التكوين أو الجمع، وهي ضم هذه الصحائف المتفرقة لتكون مع بعضها يعني نسيجًا في خدمة السنة المطهرة، ثم ندخل بعد ذلك إلى عصر المصنفات، وبالتالي لا يمكن لا عقلًا، ولا واقعًا أن يأمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة، فلا تكون هناك جهود موجودة قبل ذلك، هذا مخالف لسنة الله في تكوين العلوم. إن المراحل التي يمر بها العلم سبحان الله كنشأة الأطفال تمامًا، جنين ثم يعني حمل، ثم كذا ثم يولد طفلًا رضيعًا صغيرًا إلى أن يكبر. عمر بن عبد العزيز يمثل مرحلة النضج، مرحلة تدوين السنة في مرحلتها الأخيرة، وحتى كلام عمر بن عبد العزيز يعطي في طياته الدليل على ذلك. عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- يعلم أن الأمة الإسلامية، أو أن الساحة تمتلئ بكثير من الصحف، هو تولى الخلافة يعني إذا أردنا أن نفهم الظروف التي أدت إلى أمره بجمع السنة، يقول: اجمعوا وليس دونوا أو اكتبوا، "اجمعوا أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإني خفت دروس العلم وموت العلماء". عمر بن عبد العزيز يحكم دولة نستطيع أن نعتبرها أنها كانت نصف الكرة

الأرضية الموجودة في ذاك الزمان السالف، من حدود الصين شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن أواسط روسيا شمالًا إلى نيجيريا جنوبًا، هذا من حيث اتساع الدولة. عمر بن عبد العزيز وجد، وقد أوشك عصر الصحابة أن ينتهي من ناحية الوجود، ومن ناحية التأثير العلمي يعني صحيح أن عصر الصحابة امتد بعد عمر بن عبد العزيز إلى سنة 110 هذا من الناحية التاريخية اتفاقًا، لكن الحقيقة أنه لم يكن قد بقي إلا الواحد بعد الواحد، عصر الصحابة نستطيع أن نقول: انتهى من الناحية السياسية من قيادة الأمة سنة 60 هجرية بموت معاوية -رضي الله عنه- وبقي تأثيرهم العلمي إلى قرابة نهاية القرن الأول؛ لأنه حين توفي معاوية -رضي الله عنه- كان جملة من الصحابة لا زالوا أحياء. منهم خمسة من السبعة المكثرين: ابن عباس وابن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وكان أيضًا هناك جملة من الصحابة الآخرين: عبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله بن الزبير وغيرهم، وعبد الله بن عمرو بن العاص، موجودون، ولهم نشاطهم العلمي، وهم الأساتذة في العالم الإسلامي كله. لما انتهت هذه الظروف عمر بحاسته الإيمانية القوية خاف -بعد انتهاء جيل الصحابة- أن يضيع شيء من العلم من السنة علينا أن نجمع الجهود التي سبقت في تدوينها قبل أن تضيع، فكتب إلى علماء الأمصار أنْ اجمعوا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه كان يعلم أن المدونات تملأ أرجاء العالم الإسلامي، هو كان يريد أن يضم تلك المدونات المتفرقة أولًا ليكون عنده ديوان واحد في السنة، والأهم لكي يحفظ تلك الجهود التي كانت تملأ العالم الإسلامي. أما أنه بدأ من فراغ، فهذا ما لا يجوز عقلًا، ولا واقعًا، ولا تقبله فطرة؛ لأنه كان

الحديث المتواتر.

وصل العلم إلى مرحلة النضج، بل بعد ذلك بقليل ظهرت المصنفات، وحين تظهر المصنفات، فمعنى ذلك أن مراحل الجمع والتدوين قد مرت، بعد عمر بن عبد العزيز بقليل ظهر (الموطأ) والأجزاء الحديثية التي كتبها عبد الله بن المبارك المولود سنة 118 وعبد الرحمن بن مهدي أيضًا، وغيرهم كثير وكثير، الليث بن سعد المولود سنة 97 كتب حتى في تاريخ الرجال؛ يعني ليس في الحديث فقط. إذن عمر بن عبد العزيز قد اعتمد على مدونات تملأ أرجاء العالم الإسلامي، وأراد أن يجمعها تحت مظلة الدولة حفاظًا على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الحديث المتواتر وننتقل إلى شبهة أخرى أثارها أيضًا أعداء السنة، فنتكلم عن المتواتر والآحاد. نبدأ فنقول: إن علماء السنة لهم تقسيمات متعددة للحديث، باعتبارات متعددة، لهم تقسيم للحديث باعتبار صحته وضعفه، هذا حديث صحيح أو غير صحيح. التقسيمات بهذا الاعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث ضعيف. ومعرفة كل قسم بتفصيلاته وبأقسامه موجود في كتب المصطلح، وأعتقد أن السامعين الكرام من طلاب العلم قد تلقوها مرارًا في مواد متعددة، وعلى رأسها مادة مصطلح أو علوم الحديث. أيضًا هناك تقسيم للحديث باعتبار القبول والرد، والقبول يشمل الصحيح والحسن، والمردود يشمل الضعيف بكل أنواعه، وبكل درجاته، وهناك تقسيمات أخرى،

الذي يعنينا أن هناك تقسيمًا للأحاديث باعتبار عدد الرواة في كل حلقة، نحن نعلم أن البخاري مثلًا -رحمه الله تعالى- وكل كتب السنة أيًّا كان منهجها في تنظيم الأحاديث وتبويبها تروي الأحاديث بسندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. البخاري مثلًا، المتوفى سنة 256 والمولود سنة 194 يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسانيد، بداهة نعلم أن البخاري -رحمه الله تعالى- لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن بينهما قرابة القرنين من الزمان؛ قرنان إلا عشرين سنة أو أقل، بالدقة يعني 17 سنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات في أول سنة 11 هجرية، والبخاري ولد في سنة 194، فإذا أضفنا أنه لم يدرك مثلًا إلا مع نهاية القرن الثاني سنة 200 مثلًا، كأقل سن للتمييز عند المحدثين، فنجد أن بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- نجد قرنين إلا أحد عشر عامًا. هذه الفترة كيف غطيت؟ غطيت بالأسانيد، البخاري له شيخ، وهذا الشيخ له شيخ، وهذا الشيخ له شيخ إلى أن يصل الأمر إلى الصحابة، ثم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم. علماء الحديث -هذا كلام قاله ابن حجر- يعني يقولون: إن القرن يغطيه ثلاثة أجيال في الأعم الأغلب، قد يقل العدد عن هذا وقد يكثر؛ بمعنى أن عدد الرواة بين البخاري ومسلم ست أو سبعة، على الأعم الأغلب؛ لأن البخاري مثلًا ربما صنف كتابه بعد ربع القرن الثالث الهجري، فيكون بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة أو سبعة أو خمسة حول هذا العدد. قد يعلو الإسناد، الإسناد العالي، وهو الذي يقل فيه عدد الرواة بين صاحب الكتاب، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- هناك ثلاثيات للبخاري؛ يعني بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة، وأفردها العلماء بالتأليف أسموها ثلاثيات البخاري، هذه نادرة ولافتة للنظر، وهي حقيقة، لكنها لم تحدث في كل الأحاديث. المهم أنني أريد أن أقول: إن ما بين صاحب الكتاب -مثلًا كالبخاري الذي

اخترناه كأنموذج وكمثال- وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- رجال، هؤلاء الرجال نسميهم سند الحديث، أو نسميهم رجال الحديث، أو نسميهم رواة الحديث، أو نسميهم طريق الحديث، أو نسميهم إسناد الحديث، كل هذه تسميات يقبلها أهل العلم، فالإسناد عبارة عن الرجال الذين رووا الحديث بين آخر راو، وهو صاحب الكتاب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه أيضًا أمور علمية درسها الطلاب في أكثر من مادة أيضًا في المصطلح، وفي غيره، وفي دراسة الأسانيد، وفي التخريج إلى آخره. لو أنني مثلًا آخذ الحديث الأول عند البخاري -رحمه الله تعالى- حديث "إنما الأعمال بالنيات" سأجد فيه ستة من الرواة بين البخاري وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- البخاري تلقى الحديث عن شيخه الحميدي عبد الله بن الزبير، المتوفى سنة 219 هجرية؛ يعني هذا شيخه، وهو شيخ مكي، ويقول ابن حجر في شرحه للحديث: إنه أجل شيوخه المكيين. ولأن الوحي نزل في مكة، فبدأ البخاري. ننظر إلى تنظيم علمائنا لكتبهم، كل شيء فيها مقصود؛ يعني لماذا وضع هذا الحديث في بداية صحيحه؟ قالوا: إنه يريد أن يثبت أنه ألف كتابه مخلصًا لله "إنما الأعمال بالنيات" هذا الحديث الأول، سمعه البخاري من الحميدي، والحميدي من سفيان بن عيينة، هذا رقم 2، وسفيان بن عيينة من يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن سعيد الأنصاري من محمد بن إبراهيم التيمي، ومحمد بن إبراهيم التيمي سمعه من علقمة بن وقاص الليثي، وعلقمة بن وقاص من عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وعمر بن الخطاب من النبي -صلى الله عليه وسلم-. إذن غير البخاري وغير النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة، هؤلاء كلهم رجال الإسناد، أو إسناد الحديث، أو سند الحديث أو طريق الحديث، أو رواة الحديث إلى آخره أيًّا كانت التسمية، كل واحد منهم يسمى حلقة من حلقات الإسناد.

الحميدي حلقة، سفيان بن عيينة حلقة، يحيى بن سعيد الأنصاري حلقة، محمد بن إبراهيم التيمي حلقة، علقمة بن وقاص حلقة، عمر بن الخطاب حلقة، ما عدد الرواة في كل حلقة؟ هذا هو موضوع التواتر والآحاد، يعدون الرواة في كل حلقة من حلقات الإسناد، ويقسمون الحديث على أساسها إلى متواتر وإلى آحاد. إذا أردنا أن نعرف المتواتر والآحاد من حيث اللغة فنقول: التواتر في اللغة مجيء الواحد إثر الواحد بفترة بينهما، وذلك كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (المؤمنون: 44) تترى أي: متتابعين رسولًا بعد رسول يعني بينهما فترة؛ يعني كل رسول يأتي بعد فترة من الرسول الذي قبله، بعد مدة. ذكر بعض اللغويين أن التواتر هو مجيء الشيء بعد الشيء، بعضه في إثر بعض وترًا وترًا أو فردًا فردًا، في إثر بعض، ما الفرق بين هذا التعريف وبين الذي قبله؟ يعني التعريفان يشتركان في أمر، وهو أن التواتر مجيء الشيء بعد الشيء، لكن الاختلاف بينهما: هل لا بد من التراخي بين مجيئهما؟ أو أن التراخي غير مطلوب؟ مجيء الشيء بعد الشيء مباشرة، أم بفترة؟ اللغويون تعددت مناهجهم في هذا، صاحب (القاموس) في مادة وتر يقول: والتواتر التتابع أو مع فترات. فكأنه جمع بين أمرين؛ يعني هذا يجوز أن يطلق عليه التواتر، وأيضًا هذا، إذا كان هناك تتابع أو مع فترات بينهما. صاحب (الصحاح) الجوهري في مادة وتر أيضًا اعتبر أن التراخي شرط في التواتر حيث قال هذا تعبيره في (الصحاح): "والمواترة المتابعة، ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة، وإلا فهي مداركة ومواصلة". يعني صاحب (القاموس) اعتبر الأمرين جائزين، التواتر مجيء الشيء بعد

الشيء، سواء مع التتابع أو مع فترة بينهما، اشترط التراخي، وسمى مجيء الشيء بعد الشيء بفترة التواتر، فإن لم تكن هناك فترة سماها مداركة ومواصلة "وإلا فهي مداركة ومواصلة" يعني ليست تواترًا. الخلاصة بعد هذا أن التواتر هو التتابع مع التراخي أو بدون التراخي على الرأيين معًا، والأول أقوى نظرًا لما قاله صاحب (الصحاح) الأول الذي نقصده الذي هو بعد التراخي. ولعل مما يساعد على هذه القوة، قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (المؤمنون: 44) أي متتابعين رسولًا بعد رسول، بينهما فترة، فلم تكن مدد قريبة في بعض الأحيان، هذا من حيث اللغة. أما من حيث الاصطلاح، فالتواتر له تعريفات متعددة، وسنذكر له تعريفًا يجمع في طياته الشروط التي اشترطوها في التواتر. ابن حجر -رحمه الله تعالى- يقول في (نزهة النظر) عن المتواتر: "فإذا جمع هذه الشروط الأربعة، وهي عدد كثير، وأحالت العادة تواطؤهم على الكذب، ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند انتهائهم الحس، ويضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، فهذا هو التواتر". هذا تعبير وتعريف ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (نزهة النظر)، أما الخطيب البغدادي فيعرفه -رحمه الله تعالى- في كفايته فيقول: "فأما خبر التواتر، فهو ما أخبر به القوم الذين بلغ عددهم حدًّا يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب

القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة". هذا في (الكفاية) وهو يتكلم عن المتواتر والآحاد. نلاحظ أن الخطيب -رحمه الله- في تعريفه يركز على عدد الرواة وصفاتهم، ولم يتعرض لبقية الشروط التي ذكرها ابن حجر، وإن كنا نستطيع أن نعتبره قد ضمنها ضمنيًّا بعض الشيء في تعريفه. أما ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في مقدمته، فيعرف الحديث المتواتر بأنه عبارة عن "الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه" هذا كلامه. ومهما يكن من أمر عبارات علمائنا الأجلاء في تعريف التواتر، فإننا نستطيع أن نصوغ منها تعريفًا يحوي في طياته الشروط التي وضعوها للمتواتر، فنقول عنه -أي في تعريف المتواتر-: هو الذي يرويه جمع يستحيل في العقل تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم اتفاقًا من غير قصد عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه، ويكون منتهى خبرهم الحس. هذا التعريف يحمل في طياته الشروط التي لا بد من توافرها في الحديث المتواتر، والتي أشار إليها ابن حجر في الكلام الذي نقلناه عنه فيما سبق. أول هذه الشروط العدد الكثير، بمعنى أن يجتمع في كل حلقة من حلقات الإسناد عدد كثير من الرواة، وقد ذهبوا في تحديد هذا العدد مذاهب شتى تبعًا لاعتبارات متعددة. حتى نفهم هذا الشرط الأول نحن نعلم جميعًا من خلال دراساتنا المتعددة في مواد كثيرة كالمصطلح وغيره أن الإسناد: عبارة عن الرجال الذين نقلوا لنا الحديث،

مثلًا البخاري يروي عن شيخه، وشيخه يروي عن شيخه إلى أن يصل الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. الرجال الذين بين البخاري -رحمه الله تعالى- وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- نسميهم إسناد الحديث، نسميهم سند الحديث، نسميهم طريق الحديث، نسميهم رجال الحديث، نسميهم رواة الحديث، أيًّا كان، فهو عبارة عن سلسلة من الإسناد تصل ما بين آخر راو للحديث وما بين النبي -صلى الله عليه وسلم-. هؤلاء هم الإسناد، وكل واحد منهم يسمى حلقة من حلقات الإسناد، إذا روى البخاري لنا مثلًا حديث "إنما الأعمال بالنيات" وهو أول حديث عنده في صحيحه مثلًا عن شيخه الحميدي، فالبخاري حلقة، والحميدي حلقة، والحميدي يرويه عن سفيان بن عيينة، هذه حلقة أخرى، وسفيان بن عيينة يرويه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، هذه حلقة، ويحيى بن سعيد الأنصاري يرويه عن محمد بن إبراهيم التيمي، هذه حلقة، ومحمد بن إبراهيم التيمي يرويه عن علقمة بن وقاص الليثي، هذه حلقة، وعلقمة بن وقاص الليثي يرويه عن الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- ثم عمر -رضي الله تعالى عنه- يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. من البخاري إلى عمر -رضي الله عنهم جميعًا- كل واحد من الرواة يسمى حلقة من حلقات الإسناد، في المتواتر نشترط أن يكون في كل حلقة من حلقات الإسناد يعني عدد كبير، لا بد من توافر هذا العدد في كل حلقة من حلقات الإسناد، وهذا هو الشرط الأول الذي نقول أن يرويه جمع كثير، يجتمع في كل حلقة من حلقات الإسناد. هذا العدد الكثير ما أقوال العلماء فيه؟ تعددت مذاهبهم، كل واحد نظر باعتبار معين فقال قولًا معينًا، هم يبحثون عن شيء، بالإضافة إلى أن هذا العدد أولًا لا يمكن

أن يتفق على الكذب؛ يعني يحدث بينهم اتفاق، ولا حتى يمكن أن يقع منهم من قبيل المصادفة، هذا وذاك يستحيل، كيف نصل إلى هذا العدد؟ هناك من قال: هذا العدد يكون أربعة قياسًا على شهود الزنا؛ اختاروا شهود الزنا بالذات لأنه أكبر الأعداد الذي تثبت به الحدود، القتل يثبت بشاهدين، القصاص يثبت بشاهدين، وقضايا الأموال أيضًا تثبت بشاهدين، أما الزنا بالذات فلا بد فيه من أربعة، وهذا ثابت بنص القرآن الكريم. القاضي أبو بكر الباقلاني -رحمه الله تعالى- لم يقنع بهذا العدد في إثبات التواتر، بل قال: "وأتوقف في الخمسة". بعض من قال إن العدد أربعة، يؤيد قوله بأن الخلفاء الأربعة الأئمة الأجلاء العظام أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي لو قالوا قولًا وأجمعوا عليه، فالقول قولهم. يعني إذن كونهم أربعة يكفي، وأيضًا أو الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الأربعة لو اجتمعوا على شيء فإن القول قولهم والرأي رأيهم، ومنهم من قال خمسة قياسًا على اللعان، اللعان الرجل الذي يلاعن امرأته يقسم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، وفي المرة الخامس أي في القسم الخامس يستنزل لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ومنهم من اشترط سبعة؛ يعني راعى أن هذا العدد قد اشتمل على العدد المطلوب في كل أنواع الشهادات، فيه الأربعة، وفيه الاثنان، وفيه الواحد؛ ويعني إذن العدد 7 جمع المطلوب في إثبات الشهادات كلها. منهم من اعتبر أقل العدد للتواتر عشرة، وذلك مثل قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) ولأنها أول جموع الكثرة، والسيوطي -رحمه الله تعالى- اختار ذلك في كتابه الذي جمع فيه الأحاديث المتواترة، وأسماه (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) وقال فيه: "كل حديث رواه عشرة من الصحابة، فهو متواتر عندنا معشر أهل الحديث".

وهناك من قال: إن المطلوب اثنا عشر مثل نقباء بني إسرائيل {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (المائدة: 12) وقيل: عشرون، كما في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (الأنفال: 65) وقيل: أربعون؛ لأن عندها يبعث الأنبياء، وسن الأربعين هي اكتمال العقل والأشد عند الإنسان. وقيل: سبعون، مثل من اختارهم موسى عليه السلام لميقات ربه، إلى آخره. وهناك من قال ثلاثمائة مثل أهل بدر. الصواب من كل ذلك إن شاء الله أننا نضم إلى العدد مسألة أخرى، وهو الشرط الثاني، وهو أن يتحقق الاطمئنان؛ يعني أن يطمئن القلب والعقل معًا إلى أن هذا الجمع يستحيل أن يتواطأ على الكذب لما نعرفه من صفات؛ يعني كيف نقول إنه يستحيل أن يتفقوا على الكذب؟ من معرفتنا لأحوالهم وديانتهم وصدقهم وكذا، وأيضًا من معرفتنا لمضمون الخبر الذي رووه ونقلوه لنا؛ يعني اعتبارات كثيرة من الممكن أن تدخل في اختبار صدقهم وأمانتهم؛ لنتأكد أنهم لا يمكن أبدًا أن يجمعوا على كذب، ولا حتى يقع الكذب بينهم اتفاقًا من قبيل المصادفة كما يقال. ولذلك نقول: إنه متى توفر هذا الاطمئنان مع العدد، فقد حدث التواتر، قد يختلف الأمر من واقعة إلى واقعة، ومن موقف إلى موقف، ومن خبر إلى خبر، رب خبر نحتاج في تأكيده إلى عشرات، ورب خبر نتأكد من خلاله من أربعة أو خمسة، فمتى توفر الأمران معًا: العدد مع اطمئنان القلب والعقل إلى صدقهم، وإلى عدالتهم، وإلى طهارتهم، وإلى استحالة اتفاقهم على الكذب، وإلى عدم وقوع الكذب منهم، ولو اتفاقًا بأن يكونوا مثلًا ليسوا من أهل بلد واحدة أو ليسوا أصحاب مصلحة واحدة، والخبر يتعلق بمصلحتهم مثلًا، إلى آخره.

لكن لا بأس أيضًا من أن نعتبر أن كلام السيوطي في هذا الأمر يعتبر أيضًا قيدًا أو رقمًا نرجع إليه، وهو أن متى اجتمع عشرة من الصحابة تحقق التواتر، فكأنهم اطمأنوا إلى رقم العشرة الذي يحدث به التواتر. يقول الكتاني نقلًا عن كتاب (ظفر الأماني): "والتحقيق الذي ذهب إليه جمع من المحدثين هو أنه لا يشترط للتواتر عدد، وإنما العبرة بحصول العلم القطعي" أي الاطمئنان الذي نقول عنه "فإن رواه جمع غفير، ولا يحصل العلم به لا يكون متواترًا، وإن رواه جمع قليل وحصل العلم الضروري، يكون متواترًا البتة" هذا كلام صاحب يعني الكتاني في (نظم المتناثر) الذي جمع فيه أيضًا الأحاديث المتواترة في مقدمة كتابه. إذن من الممكن أن نعتبر الرقم الذي ذكره السيوطي -رحمه الله تعالى- في هذا معيارًا نرجع إليه في اعتبار التواتر، وأيضًا من الممكن أن نقول العدد متى اطمأن القلب والعقل إلى صدقهم تحقق التواتر. أنا أطمئن مثلًا أنه إذا توافر عشرة من الصحابة أصبح الخبر متواترًا، وبالمناسبة فإن هذا هو الذي سار عليه عملهم؛ كل العلماء الذين يجمعون الأحاديث المتواترة ساروا على هذا الأمر، التواتر عادة يبحث في ناحية الصحابي، متى يرويه عشرة من الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من عشرة طرق سالمة اطمأنوا إلى التواتر؛ لأن بعد الصحابي يرويه عنه جمع، وكل واحد من هذا الجمع يرويه عنه جمع، وتتبع ذلك قد يشق جدًّا، وقد يكون مستحيلًا في بعض الأحيان. يعني مثلًا قيل في بعض الأقوال: إن حديث "إنما الأعمال بالنيات" سار بالإفراد في حلقات كثيرة؛ يعني: انفرد برواة من طريق صحيح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب، وانفرد عن عمر علقمة، وانفرد عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي،

وانفرد عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم سمعه من يحيى بن سعيد الأنصاري رواة كثيرون جدًّا عدد كبير، قيل في بعض الروايات: إنهم مائتان. وقيل: سبعمائة. إلى آخره. لكن ما دام نجد أن الحديث قد رواه عشرة من الصحابة اطمأننا إلى تواتره، وكما قلت هذا الذي سار عليه عملهم في أي كتاب، لو رجعنا إلى أي كتاب من الكتب التي جمعت الأحاديث المتواترة، وأنا سأذكر بعضها بإذن الله -تبارك وتعالى- في أثناء كلامنا عن المتواتر والآحاد كفائدة نرجع إليها، فقد تحقق التواتر بإذن الله تبارك وتعالى. لما تكلموا عن الأحاديث المتواترة، مثلًا ابن حجر وهو يشرح حديث الحوض يتكلم عن تواتره يقول: "رواه في الصحيحين اثنان وعشرون صحابيًّا" في الصحيحين فقط "وجمعت طرقه فوصلت إلى خمسين صحابي، وبلغني أن بعض المتأخرين اشتغل بجمعه فوصل بهم إلى ثمانين". وكما قلت: إذا رجعنا إلى أي كتاب من كتب التواتر، فنجدهم يعدون المتواتر متى توفر عشرة من الصحابة على روايته. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 10 تابع: الحديث المتواتر - حديث الآحاد (1).

الدرس: 10 تابع: الحديث المتواتر - حديث الآحاد (1).

شروط الحديث المتواتر، وأقسامه، ومؤلفات العلماء فيه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (تابع: الحديث المتواتر - حديث الآحاد (1)) شروط الحديث المتواتر، وأقسامه، ومؤلفات العلماء فيه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزوجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد. ففي الدرس الماضي بدأنا كلامنا عن المتواتر والآحاد، ذكرنا تعريف ابن حجر -رحمه الله تعالى- وتعريف البغدادي، وتعريف ابن الصلاح -رحم الله الجميع، ورضي عنهم أجمعين-: وقلنا: إن هذه التعاريف تحمل في طياتها الشروط التي لا بد من توافرها في الحديث المتواتر، ونجمل هذه الشروط كما ذكرها ابن حجر وغيره فيما يلي: أول شرط العدد الكثير، وذكرنا مناهج العلماء أو اعتبارات العلماء في قضية العدد، وفي تحديد العدد، ولا نرجع إليها إنما نحيل إليها، ونقول: إن العدد إما أن نقول إنه إذا توفر عشرة من الصحابة بطرق صحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا الحديث متواتر، وهذا أشار إليه السيوطي -رحمه الله تعالى- في مقدمة كتابه، ومنها أن نقول: إن العدد إذا حصل الاطمئنان إلى صدقه وإلى عدم وقوع الكذب منه وله اتفاقًا فقد بلغ التواتر أيًّا كان الرقم. وقلت أيضًا: إن الذي جرى عليه عملهم في مؤلفاتهم سواء وهم يشرحون الأحاديث يعرجون على هذه القضية أو في الكتب التي جمعت الأحاديث المتواترة حين يجمعون عشرة من الصحابة رووا الحديث، فيعدونه في الأحاديث المتواترة. إذا رجعنا إلى مؤلفاتهم في هذا سنتأكد من ذلك، ونحن بإذن الله سنذكر بعض مؤلفاتهم في التواتر، إذن العدد الكثير. ثانيًا: أن يطمئن القلب والعقل إلى عدم اتفاقهم على الكذب، وأن الكذب لا يقع منهم، ولو من قبيل المصادفة. والشرط الثالث: أن يتوافر هذا العدد المطلوب بتلك الصفات؛ أي باطمئنان القلب والعقل لهم في كل حلقة من حلقات الإسناد؛ يعني لو اختل العدد أو اختل اطمئنان القلب والعقل ولو في حلقة واحدة من حلقات الإسناد فقد فقد

الحديث شرط التواتر. نحن عرفنا معنى الإسناد، ومعنى كل حلقة فيه، يريد العلماء في كل حلقة توافر العدد واطمئنان القلب والعقل معهم، وجعلوا ذلك شرطًا ثالثًا من شروط الحديث المتواتر. الشرط الرابع: أن يكون منتهى خبرهم الحس، ما معنى هذا الشرط؟ منتهى خبرهم يعني: الخبر الذي ينقلونه لنا في النهاية، حلقة سلمت حلقة إلى أن وصل الأمر إلى الخبر الذي ينقلونه، لا بد أن يعتمد هذا الخبر على أداة من أدوات الحس المعتمدة عند أهل العلم، مثلًا يقولون رأينا أو سمعنا أو تذوقنا أو شممنا مثلًا مجرد مثال توضيحي؛ يعني رأيت كتابًا موضوعًا على المنضدة مثلًا فظننته كتاب (الأم) للشافعي، فظننته لا تصلح، لا يكون الخبر متواترًا حتى لو نقله لنا ملايين لأنه ليس منتهى الخبر الآن الاعتماد على الحس. الاعتماد على الحس يفيد مزيدًا من اليقين، مثلًا لو قال عشرة من طلاب العلم: رأينا الكتاب موضوعًا على المنضدة، وقرأنا عنوان الكتاب، واسمه، إذن نعتمد هنا على الحس على القراءة بالعين، وقرأنا اسم الكتاب فوجدناه كتاب (الأم) للإمام الشافعي. رأينا جوالًا أبيض فظنناه مملوءًا بالسكر لا، إنما فتذوقناه فوجدناه سكرًا أو ملحًا مثلًا هذا يعتمد على الحس، وهكذا. رأينا مثلًا زجاجة أو آنية بها ماء أو بها سائل، فظنناه ماء، لا، لا يصلح، إنما فشربناه فوجدناه ماء اعتمد هنا على التذوق، وهكذا. إذن لا بد من أن يعتمد خبرهم على الحس، وكما لاحظنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها، فإن الحس هنا يكسب الخبر مزيدًا من التوثيق، ومزيدًا من اليقين حتى يقبله العقل والقلب معًا. هناك شرط ذكره ابن حجر، وهو أن يفيد الخبر اليقين أو القطع لدى سامعه؛ يعني أنت بمجرد أن تسمعه يتأكد لديك صدق الخبر ويقين مضمونه، يعني أن

مضمونه متيقن مائة في المائة، أيًّا كان مضمون الخبر يعني يخبرون بحديث يخبرون بأي أمر من الأمور، سافر محمد مثلًا، هذا خبر قاله عشرة، فأصبح خبرًا متواترًا. الشرط الخامس: أن قلبك كمستمع يتأكد ويتيقن من هذا الأمر. هذا معنى قولهم يفيد اليقين لدى سامعه. كثير من العلماء يقول: إن هذه نتيجة، وليست شرطًا؛ يعني لا ينبغي أن نعتبره شرطًا من شروط التواتر، بل هو نتيجة للتواتر؛ يعني أنا إذا توفر العدد المطلوب في كل حلقة واطمأن القلب والعقل إلى صدقهم، وتوافر ذلك في كل حلقة من حلقات الإسناد، وكان منتهى خبرهم الحس، فإن النتيجة الحتمية المترتبة على ذلك هي أن نتأكد، وأن نثق، وأن نتيقن، وأن نقطع بصدق الخبر؛ يعني أي مستمع يسمع بهذا. فإذن هو نتيجة، وليس شرطًا، وبالتالي فإننا في النهاية نقول: إن شروط المتواتر أربعة، هي: أن يتوافر العدد في كل حلقة، وناقشنا فضيلة العدد، وأيضًا أن يطمئن القلب والعقل إلى وقوع الخبر يعني إلى صدقهم وأمانتهم، وهذا الشرط الثاني، هذا له صلة بمواصفات العدد يعني ليس العدد فقط. لنفترض مثلًا أن مجموعة من الناس أجمعوا على خبر هم أصحاب مصلحة فيه، كأن يخبروا عن من يتحاربون فقال فريق: إنا قتلنا من الفريق الآخر مائة مثلًا. هذا القول قد يقوله ملايين، لكنهم أصحاب مصلحة فيه، فهنا العقل والقلب لا يطمئنان أبدًا إلى صدق خبرهم، مهما كان عددهم، لماذا؟ لأنهم تطرق الشك إلى مضمون الخبر من كونهم أصحاب مصلحة فيه، وهكذا. أيضًا الشرط الثالث كما قلنا أن يتوافر العدد في كل حلقة من حلقات الإسناد، وأن يعتمد الخبر في نهايته على الحس، ولا يعتمد على شيء من غير الحس.

هذه هي شروط الحديث المتواتر، نقول بعد ذلك انتقالًا إلى نقطة جديدة، إذا أصبح الخبر متواترًا ما الدرجة التي يفيدها من العلم؟ يعني توفرت هذه الشروط في أي خبر من الأخبار، بصرف النظر عن كون هذا الخبر حديثًا أو ليس حديثًا، كما ذكرنا قبل، يعني مثلًا إذا قالوا لنا: محمد سافر. إذا قالوا لنا: إن أمريكا فعلت كذا وكذا. إذا قالوا لنا: إن أول شهر ذي الحجة يوم كذا. أيًّا كان الخبر ما درجة العلم التي تقع في خاطري أو في عقلي نتيجة هذا الخبر؟ هو أولًا خبر متيقن؛ يعني مقطوع بصدقه يقينًا، وأنا هنا يعني أشير في إيجاز حتى تتضح المسألة؛ لأني سأحتاجها في قضية المتواتر، وسأحتاجها في قضية الآحاد، وسأحتاجها وأنا أرد الشبه عن حديث الآحاد؛ لأن هذه الشبه دراستها والرد عليها وتفنيدها هو الغرض الأساسي من إثارة هذا الموضوع، ونحن في مادة تتعلق بالدفاع عن السنة المطهرة. المتواتر، إذا أصبح الخبر متواترًا أفاد القطع كما قلنا، ما معنى القطع؟ يعني أن السامع قد تيقن بأن الخبر صحيح، بالنسبة للأحاديث النبوية إذا كان الحديث متواترًا قطعنا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، هذا معنى القطع يعني قطعنا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، وأن نسبة هذا الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- نسبة يقينية مقطوع بها. هذا القطع وصلنا إليه عن طريق تواتر الخبر، بعد أن يتواتر الخبر لا نحتاج إلى أدلة أخرى؛ لأن القطع في مسألة ما نصل إليه بوسائل كثيرة، مثلًا إذا قلنا: إن السماء فوقنا، وإن الأرض تحتنا، هذه قضية مقطوع بها، مبنية على المشاهدة، نحن نشاهد السماء فوقنا، والأرض تحتنا، فنحن وصلنا إلى القطع هنا عن طريق المشاهدة. أيضًا إذا قلت: إن الواحد نصف الاثنين، هذه مسألة بدهية، وصلنا إليها بالقطع بها، لا نجادل ولا نماري فيها بالبداهة.

أيضًا قد نصل إلى القطع بعد نظر واستدلال؛ يعني نستدل على مسألة ما، وبعد الاستدلال قطعنا بمضمون الخبر، كان الخبر قبل هذه الأدلة احتماليًّا؛ يعني نعم أو لا سيان، أو ترجيح أحدهم على الآخر، لكننا لم نصل إلى القطع، سأضرب مثالًا وأرجو أيضًا أن نكون على ذكر منه؛ لأنني أيضًا سأحتاجه في قضية خبر الآحاد، مثلًا، من الأمثلة الواضحة لهذا نظريات هذه الهندسة، مثلًا إذا أخذنا نظرية من النظريات، مثلًا نظرية "فيثاغورس" في المثلث القائم الزاوية "المربع المنشأ على الوتر يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين على الآخرين". هناك نظريات هندسية كثيرة، ومعظم السامعين الآن قد درسوا شيئًا من الهندسة "المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا" هذه نظرية، كيف نصل إلى اليقين فيها؟ هل هي حقيقة أو غير حقيقة؟ المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا إذا كانت أضلاعه متساوية فزواياه متساوية، يعلموننا في الهندسة مثلًا هذا الترتيب، رأس النظرية يقولون مثلًا الفرض أي: الأمر المفترض الذي يحتاج إلى إثبات، ويكتبون رأس النظرية: المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا. المطلوب إثبات ذلك، المطلوب إثبات رأس النظرية هذه، البرهان هو هذه الأدلة بما أن وبما أن، لو أننا كلنا نتذكر الآن دراستنا للهندسة، سنجدهم أنهم كانوا يعلموننا إثبات صدق النظرية بهذه الطريقة: الفرض، المطلوب، البرهان. والبرهان بما أن، وبما أن وبما أن، أصل إلى رقم 4، وهي النتيجة. إذن النتيجة أن المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا، كانت هذه النتيجة نظرية، مجرد فرض، مجرد احتمال قبل أن أستدل عليها، فلما استدللت عليها أصبحت قضية يقينية مقطوعًا بها، كيف وصلت إلى هذا اليقين والقطع؟ عن طريق النظر والاستدلال، هذه أمور تدرس في علم المنطق والبحث والنظر

والاستدلال، أنا أشير إليها لارتباطها بما نحن فيه؛ يعني أنا أصل إلى القطع في مسألة ما، في خبر ما، بطرق بهذه الطرق التي أشرت إليها وبغيرها، كما قلت بالمشاهدة والنظر بالفطرة والبداهة أو بالبداهة، بتواتر الخبر، بالنظر والاستدلال، لكن المحصلة في النهاية هي أن أصبح مضمون الخبر يقينيًّا ومقطوعًا به. نحن نقول: إن القرآن ثبت بالتواتر يعني: رواه جمع عن جمع، أصبح كل حرف من حروف القرآن يقينيًّا، لا يستطيع أحد أن يماري أبدًا في أمر ولو حرف، لن أقول كلمة أو آية، ولو حرف واحد، ولذلك قال علماؤنا، إن منكر حرف واحد من حروف القرآن كافر؛ لأنه أنكر التواتر. إذن التواتر أفادني العلم الضروري، العلم الضروري يعني العلم الذي بمجرد أن يتوافر الخبر لا أحتاج بعده إلى أن أستدل بأدلة أخرى، أنا عندي فقط أن أثبت أن هذا الخبر نقل إلينا بالتواتر، محمد سافر نقل إلي بالشروط التي ذكرناها: جمع عن جمع، يستحيل كذا إلى آخره التي ذكرناها، متى تواتر الخبر، فأنا لا أحتاج بعد ذلك إلى أدلة أخرى لأثبت أن محمدًا قد سافر، وإنما قضية سفره أصبحت قضية يقينية مقطوعًا بها لا يماري فيها إلا مجادل. سيكون بحثي في المتواتر أن أثبت أنه متواتر فقط، فإذا ثبت لدي التواتر بالشروط التي ذكرناها أصبح الخبر يقينيًّا. إذن هذه أهم النقاط التي أتكلم فيها في الخبر المتواتر تعريفه لغة واصطلاحًا، شرح هذا التعريف وهو المتضمن لشروط التواتر، ثم نتيجة العلم المترتبة على هذا التواتر، أنا عندي بعض النقاط الأخرى في التواتر، مثلًا الحديث المتواتر له قسمان؛ التواتر اللفظي، والتواتر المعنوي، والتواتر اللفظي هو: ما تواتر لفظه ومعناه؛ بمعنى أن الرواة جميعًا قد اتفقوا على لفظ واحد؛ يعني رووه باللفظ والمعنى معًا، ليس بالمعنى فقط، فألفاظهم جميعًا اتفقت.

يضربون مثالًا مشهورًا لهذا الحديث المتواتر لفظًا ومعنى حديث ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) هذا الحديث يعني بعض العلماء الذين عدوا الصحابة الذين رووه، بعضهم وصل به إلى أكثر من تسعين صحابيا، أو مائة صحابي، مثل الزبيدي في (لقط اللآلئ المتناثرة) لكن محل الكلام هنا أنه متواتر لفظًا ومعنًى. عندي تواتر معنى؛ يعني الحديث متواتر، لكن ألفاظه ليست واحدة، أوضح مثال لهذا أحاديث الحوض، أحاديث الحوض متواترة؛ يعني متيقنون أن الحوض موجود، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر به، وأن أحاديثه بلغت حد التواتر، وكما قلت إن ابن حجر -رحمه الله تعالى- أشار إلى أن بعض المتأخرين عني بجمع طرقه، فوصلت إلى ثمانين صحابيًّا. أيًّا ما كان الأمر، لو أنا نظرت إلى روايات حديث الحوض، سأجدها روايات متعددة، مثلًا بعضها يقول "حوضي مسيرة شهر" يعني مساحته مسيرة شهر، بعضها يقول "ما بين مكة مثلًا إلى صنعاء" أو "ما بين أذرح إلى أذرعات" إلى آخره، يعني ذكر مدنًا متعددة لبيان المسافة أو مساحة الحوض أنا لن أنتقل إلى شرح حديث الحوض أنا أضربه مثالًا للتواتر الذي يعني ورد بالمعنى روايات كثير جدًّا وردت في مساحة الحوض، كلها تؤكد أن الحوض موجود، وهذا هو القدر الذي نقوله: إن الحوض يقيني أو إن خبر الحوض خبر متواتر، لكن بألفاظ متعددة. عندي أيضًا تواتر ثبت فيما يسميه العلماء بتعدد الواقعة، يعني هناك وقائع متعددة فيها أمر مثل قدرًا مشتركًا بينها جميعًا، يضربون مثالًا لهذا يقولون مثلًا أحاديث رفع اليدين في الدعاء، بعض العلماء يقول إنه قد ورد في أكثر من مائة واقعة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يده، وهو مثلًا في الاستسقاء، وهو يدعو على

رعل وذكوان في قصة بئر معونة أو الرجيع، وهو يستنصر الله -عز وجل- في بدر، وهو في البناء الذي بنوه له لكي يمكث فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويتضرع إلى ربه. رفع اليدين في الدعاء لم يأت من رواية واحدة بالتواتر إنما عندي عشرات الوقائع، وكلها تقول إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو فيها فيرفع يديه، هذه الوقائع المتعددة وصلت حد التواتر، دعاء في الاستسقاء، دعاء في الحرب، دعاء على قوم كادوا ضد المسلمين إلى آخره، هنا دعاء الواقعة مختلفة، لكن القدر المشترك بينها أنه كان يرفع يديه في هذا الدعاء، هذا أيضًا يسمونه التواتر بتعدد الواقعة. إذن التواتر له قسمان، متواتر لفظي، ومتواتر معنوي، أيضًا التواتر موجود بكثرة الأغلب في أحاديث السنة أنها أحاديث آحاد، ولذلك كانت قضية حديث الآحاد وحجيتها يعني قضية مهمة جدًّا، وهي من أخطر المسائل التي أثارها أعداء السنة كشبهة يحاولون أن يقضوا بها على السنة تمامًا أو أن يفقدوا المسلمين العمل بها تحت حجة أنها آحاد وليست متواترة. أنا أذكر فقط بعض المعلومات عن الحديث المتواتر حتى أنتقل إلى حديث الآحاد. بعض العلماء كابن الصلاح مثلًا قال: إن الحديث المتواتر عزيز؛ يعني نادر في السنة، لكن إذا نظرنا إلى الكتب التي جمعت الأحاديث المتواترة، نجدها كثيرة بعضها أكثر من مائتين حديث، لكن أيضًا في النهاية سيبقى أن الحديث الآحاد هو عمدة السنة، وهو الأغلب فيها، ولكن ليس التواتر نادرًا إلى الحد الذي عبر عنه بعضهم بأنه نادر جدًّا إلى درجة القلة الغريبة، لكن كما قلت هو موجود بإذن الله -تبارك وتعالى-. وهناك بعض الكتب التي ألفها العلماء في الحديث المتواتر، ونحن نقولها تمامًا للفائدة، لمن أراد أن يقتني مرجعًا أو أكثر في مسألة الأحاديث المتواترة، هناك السيوطي له (الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة) ثم (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) وهذان الكتابان أشار إليهما الكتاني في (نظم المتناثر في الحديث المتواتر) لأبي الفيض جعفر بن الحسن الكتاني، وكتاب السيوطي موجود على كل حال.

وأيضًا (البرهان) الزركشي ألف قبل السيوطي كتابًا في الأحاديث المتواترة، أشار إليه السخاوي في (فتح المغيث) عندي (اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة) لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن علي بن طولون الحنفي الدمشقي الصالحي. وعندي أيضًا (لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة) لأبي الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي المصري. الكتب موجودة كثيرة، مطبوعة، وهي اقتناؤها لا يكلف جهدًا، ولا حتى مالًا لأنها كلها تقع في مجلد واحد؛ يعني أقصد أي كتاب مؤلف في الأحاديث المتواترة، في الأعم الأغلب هو في جزء واحد، فاقتناؤه ليس صعبًا، ويعني من الأفضل أن يكون في مكتبة كل عالم من أهل العلم، لا أقول من الأفضل، بل لعله من الأوجب، وخصوصًا أهل العلم خاصة، ولأهل الحديث على وجه الخصوص أن يكون في مكتبتهم بعض الكتب، إن لم يكن كل الكتب المتعلقة بالأحاديث المتواترة. وعادة أصحاب هذه الكتب يذكرون الحديث المتواتر، ويذكرون الأدلة على تواتره وذلك بذكر من رواه من الصحابة، وبعضهم يزيد فائدة مثل صاحب (لقط اللآلئ المتناثرة) فيقول مثلًا رواية أبي هريرة في البخاري، رواية أنس في الصحيحين، وهكذا، يعني يعطيني مزيدًا من الفائدة ببيان رواية كل صحابي، وأين توجد في كتب السنة. عندنا أحاديث كثيرة، نذكر بعضها كأمثلة مثلًا، ذكرنا حديث ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) كمثال للمتواتر الذي فيه التواتر اللفظي والمعنوي معًا، وكثير من العلماء ذكره كمثال لهذا. أيضًا ((الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)) وفي بعض الروايات ((رؤيا المؤمن)) هذا رواه عشرة من الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر،

حديث الآحاد: أقسامه، وشروطه.

وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، والعباس بن عبد المطلب، وسمرة بن جندب، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وعوف بن مالك الأشجعي. وقد رواه الشيخان رحمهما الله تعالى من طريق: أبي هريرة، وأنس، وابن عمر، وعباد، وغيرهم. وروايات بقية الصحابة موجودة في كتب السنن المختلفة. ((المرء مع من أحب)) هذا حديث أيضًا أورده الكتاني في (نظم المتناثر) وبين أنه ورد عن خمسة عشر نفسًا من الصحابة منهم: جابر وابن مسعود وأنس وأبو ذر وأبو موسى الأشعري. ((لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا)) هذا رواه زهاء خمسة عشر من الصحابة منهم: أبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن الزبير، وابن مسعود وأبو هريرة، وعائشة، وأنس، وعبد الله بن عمرو. وقد أخرجه الشيخان من رواية: أبي سعيد الخدري، وابن عباس، وابن مسعود وابن الزبير إلى آخره. ((من غشنا فليس منا)) أيضًا هذا حديث متواتر، وفي رواية ((من غش فليس منا)) أحاديث التواتر أو المتواترة كثيرة، على كل حال، وأركز على مسألتين أو في قضية الحديث المتواتر مسألة ثبوت التواتر ومسألة الدرجة التي يفيدها التواتر من العلم. حديث الآحاد: أقسامه، وشروطه الآن أنتقل إلى حديث الآحاد: حديث الآحاد، من ناحية اللغة الآحاد جمع أحد، والأحد بمعنى الواحد، وهذا النوع حديث الآحاد هو النوع الثاني لتقسيم الحديث باعتبار عدد رواته في كل حلقة، ذكرنا أن للعلماء تقسيمات متعددة للحديث باعتبارات متعددة، منها تقسيم الحديث باعتبار عدد الرواة في كل حلقة من حلقات الإسناد، وقلنا: التواتر والآحاد، وتكلمنا عن المتواتر. الآحاد هو القسم الثاني من أقسام الحديث باعتبار عدد الرواة، وتعدد الطرق. يعرفه العلماء في الاصطلاح فيقولون: "الآحاد هو ما فقد شرطًا من شروط التواتر" وأنا هنا يعني أشير إلى أهمية التعريف لمسألة مهمة، بعض العلماء يتصور أن حديث الآحاد معناه رواية واحد عن واحد من أول السند إلى منتهاه، هذا فهم

غلط أو خطأ، أحاديث الآحاد فقد شرطًا من شروط التواتر، قد يوجد في حلقة عشرة، وفي حلقة تسعة، وفي حلقة خمسة مثلًا؛ لأنه فقد شرط وجود العدد في كل حلقة من حلقات الإسناد، فأصبح آحادًا، وليس متواترًا. إذن هو آحاد لفقدانه شرطًا من شروط التواتر، وهذا هو تعريفه، الآحاد: ما فقد شرطًا من شروط التواتر. بعض العلماء يعرفه بتعريف آخر يقول: "ما لم يبلغ درجة التواتر". أنا في تقديري أن التعريفين قريبان، الخلاف بينهما ليس كبيرًا، ما فقد شرطًا من شروط التواتر، أو لم يبلغ درجة من درجة التواتر. هذا الحديث الآحاد أيضًا باعتبار عدد رواته في كل حلقة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: المشهور، وهو اسم مفعول من قولك شهرت الأمر؛ أي إذا أظهرته وأعلنته. والشهرة في اللغة يعني هي ذيوع الشيء وانتشاره، وشهرته، وظهوره. سمي الحديث المشهور بذلك بشهرته وانتشاره، بصرف النظر عن كونه صحيحًا أو غير صحيح؛ يعني إياك أن تظن حين يقال إن هذا الحديث مشهور، إنه بالضرورة صحيح إنما مشهور هنا بمعنى الشهرة اللغوية أي: أذيع أي ذاع وانتشر، وهو موجود على الألسنة. أيضًا الحديث المشهور في الاصطلاح له تعريفات متعددة، لكن أقول: ما لم ينزل عدد الرواة فيه أو في أي حلقة من حلقاته عن ثلاثة، أشير مرة ثانية إلى أن الإسناد يتوفر من حلقات. نحن قلنا: إن الآحاد بشكل عام ما فقد شرطًا من شروط التواتر، قسموه إلى مشهور. المشهور لا يقل عدد الرواة في أي حلقة من حلقات الإسناد عن ثلاثة، بل قد يزيدون.

لكن لما وجد في حلقة واحدة ثلاثة إذن هو فقد شرط التواتر، ولو في حلقة واحدة، انتهى فخرج من باب التواتر إلى قسم الآحاد. العزيز: هو مثل المشهور في أنه لا يقل العدد عن اثنين. المشهور لا يقل العدد في أي حلقة من حلقات الإسناد، هذه المماثلة؛ يعني العزيز أيضًا لا يقل العدد في أي حلقة من حلقات الإسناد عن اثنين. نسيت أن أقول: ليس معنى المشهور لا يقل العدد عن ثلاثة في أي حلقة أن الإسناد سيسير ثلاثة عن ثلاثة عن ثلاثة عن ثلاثة، نحن نقول: المطلوب ألا يقل العدد عن ثلاثة في أي حلقة، لكن قد يزيدون، لكنه لا ينقص عن ثلاثة؛ لأنه لو نقص عن ثلاثة سيخرج من باب المشهور إلى باب آخر، كأن يكون عزيزًا أو غريبًا. إذن ليس شرطًا أن تكون الحلقات على نسق واحد في عدد الرواة، سواء بالنسبة للمشهور أو العزيز، كذلك نقول نفس الأمر بالنسبة للعزيز، العزيز لا يقل العدد في أي حلقة من حلقات الإسناد عن اثنين، وليس معنى ذلك أنه يسير في كل حلقاته برواية اثنين عن اثنين من أول السند إلى منتهاه، بل قد يكون في حلقة اثنان، وفي حلقة خمسة، وفي حلقة سبعة إلى آخره، لكنه لما فقد شرط التواتر خرج من كونه متواترًا إلى كونه آحادًا. ننتبه إلى أن المشهور والعزيز يعني تقسيم باعتبار عدد الرواة، كلاهما يعتريه الحسن والضعف والصحة؛ يعني بمعنى معرفة هذا الأمر يترتب عليه نتيجة مهمة جدًّا، وهي أننا لا نروي حديثًا إلا إذا كنا متأكدين من صحته، إذا قيل عنه أنه مشهور، فليس ذلك دليلًا على صحته، وإذا قيل إنه عزيز، فليس ذلك دليل على صحته. ونحن عندنا كتب في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، أي التي تجري على ألسنة الناس، هي مشهورة جدًّا، والناس يقولونها في مناسبات كثيرة، ولكنها قد تكون

أحيانًا شديدة الضعف، مثلًا "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" هذا حديث مشهور جدًّا، يعني حتى أهل العلم يستعملونه أحيانا في كتبهم، وقد قرأناه في كثير من كتب العلم، لكن العلماء يقولون: إنه ليس صحيحًا. مثلًا "أدبني ربي فأحسن تأديبي" إذا رجعنا إلى (المقاصد الحسنة) للسخاوي أو (كشف الخفا) أو (تمييز الطيب من الخبيث) أو أي كتاب في الأحاديث المشتهرة، سنجدهم قد نصوا على درجته، وأنه لم يصل إلى درجة الصحة، بل إن بعض هذه الأحاديث المشهورة قد يكون لا أصل لها، يعني لا نستطرد بذكر الأمثلة، أنا فقط أركز على نتيجة، وهي مهمة جدًّا، وهي أن أي حديث لا نرويه إلا بعد التأكد من صحته، لا نعتمد على استفاضته، ولا على شهرته، ولا على أن عالمًا من العلماء هو الذي قاله على المنبر أو وضعه في كتاب قد ألفه، إنما لا بد من الوقوف على درجة الحديث بالطرق المعروفة عند أهل الحديث في كيفية الحكم على الأحاديث، هذا هو السبيل للتأكد من صحة الأحاديث من عدمها. أيضًا القسم الثالث من الحديث الآحاد: الحديث الغريب، والغرابة أنه قد وجد راو واحد، ولو في طبقة واحدة من طبقاته؛ يعني عندي مثلًا أوضح مثال لهذا حديث "إنما الأعمال بالنيات" العلماء يكادون يجمعون على أن هذا الحديث لم يرد من طريق صحيح، قد يكون ورد من طرق ضعيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير طريق عمر بن الخطاب، لكن الطريق الذي أجمعوا على صحته هو طريق عمر -رضي الله تعالى عنه-. وانفرد بروايته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، وانفرد بروايته عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي، وانفرد بروايته عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري، وبعد يحيى بن سعيد اشتهر وذاع، وانتشر لدرجة أنه قد شبه على بعض العلماء، فظنوا أنه متواتر؛ لأن بعض الروايات قد وصلت بالعدد الذي

رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري وصل العدد إلى سبعمائة في بعض الروايات، أو إلى مائتي نفس، كما في بعض الروايات، وأشار إلى ذلك ابن حجر وهو يشرحه في أول أحاديث البخاري، وأشار إليه أيضًا في مقدمة (تهذيب التهذيب) وهو يتكلم عن الحاجة إلى استقصاء الشيوخ والتلاميذ في الرواية ونحو ذلك. مهما يكن من أمر، فإن الغريب ما هو ما رواه راو واحد ولو في حلقة واحدة، وأنبه أيضًا إلى قضية مهمة، وهي أنه ليس معنى ذلك أن الآحاد أو أن الغريب بالذات يرويه واحد عن واحد عن واحد من أول السند إلى منتهاه، إنما معناه أنه قد نزل العدد ولو في حلقة واحدة إلى راو واحد، إنما قد يزيد ويكثر ويقل في بعض الحلقات. مسائل مهمة قبل أن أنتقل إلى بعض الأمور الهامة أيضًا وبعض الشبهات، ما هي هذه المسائل المهمة؟ الغرابة ليست مرادفة للضعف، يعني ليس كل غريب ضعيفًا، وليس كل غريب صحيحًا، فهو يدرس كما يدرس المشهور، وكما يدرس العزيز، فإذا سلم لنا الإسناد، وسلم لنا المتن تأكدنا من صحته. وأيضًا إذا وجدناه ضعيفًا، فهو ضعيف حتى لو كان مشهورًا على الألسنة كما ذكرنا. المشهور الاصطلاحي: ما لا يقل العدد في روايته ولو في حلقة واحدة عن ثلاثة، لكن هناك شهرة لغوية، وهي أنه قد يستفيض على الألسنة، فليس معنى ذلك أنه صحيح. إذن الغريب قد يكون صحيحًا، وقد يكون غير صحيح، ولذلك مثلًا لأن الترمذي -رحمه الله تعالى- في جامعه له عناية بالأحكام على الأحاديث كثيرًا ما نجده يقول: "هذا حديث صحيح غريب" أو "هذا حديث صحيح حسن غريب"

موجود هذا عند الترمذي كثيرًا، فجمع في الوصف بين الغرابة وبين الصحة والحسن للدلالة على أن الغرابة لا تتعارض مع الصحة أو الحسن. وأيضًا من الناحية الأخرى علماؤنا -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم- لم يستحبوا تتبع الغرائب، هناك ولع عند بعض العلماء بتتبع الغرائب باعتباره قد يكون انفرادًا علميًّا أنك جمعت هذا الحديث لم يرد إلا من طريق هذا الراوي، وهذا الحديث لم يرد إلا من رواية الشاميين، سواء كانت الغرابة بالنسبة لبلد أو بالنسبة لشيخ معين، كغرائب الترمذي، غرائب مالك مثلًا؛ أي التي انفرد بها مالك، إلى آخره؛ لأن هذا الانفراد قد يوقع في الخطأ، فانظروا إلى دقة المحدثين، الأمر بين خطين مهمين جدًّا، لا ينبغي أن يكون هناك ولع بتتبع الغرائب، وفي نفس الوقت لا نرفض الحديث لأنه غريب، فقد يكون صحيحًا، ومعيار الصحة وغيرها هذا أمر له شروطه، وله دراسته عند العلماء. أيضًا من الأمور التي تتعلق بالأحاديث الصحيحة أو الآحاد بأقسامه الثلاثة: المشهور، أو العزيز، أو الغريب. قلت: إن الأنواع الثلاثة تعتريها الصحة والحسن والضعف، وهذا يعني يجعل مسئولية أهل العلم خطيرة، بمعنى أنهم لا يجب أن يرووا الحديث بدون بيان درجته اعتمادًا على أي أمر آخر، إنما نقول: إنه لا بد للعالم أن يروي الحديث مقرونًا ببيان درجته، خصوصًا إذا كان هذا العالم من الذين لهم مكانة عند الناس، أو من الذين ينتشر علمهم في التلفاز في الفضائيات، له كتب مشهورة الناس تقرؤها مثلًا، لا بد من العناية جدًّا بالأحاديث التي يرويها. أيضًا أطمئن المستمع الكريم، وأطمئن كل المسلمين على أنه يندر جدًّا أن تجد حديثًا في السنة له طريق واحد، هناك غرائب نعم، لكنها قليلة، ما فائدة هذه الملحوظة؟ مهمة جدًّا، بل أنا أعتبرها أنها من وسائل صيانة الله تعالى للسنة، كيف ذلك؟

بمعنى أنني لا أجد حديثًا في الأعم الأغلب إلا وقد ورد عن أكثر من واحد، بمعنى مثلًا أنه قد سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من صحابة، قد لا يصل للتواتر نعم، لكن لم ينفرد بسماعه صحابي واحد مثلًا، هذا الصحابي رواه عنه بعض الناس، قد لا يصل إلى التواتر أيضًا، لكنه لم ينفرد بعنه واحد. قضية الانفراد هذه قضية قليلة نادرة، موجودة نعم، وقلت: إن العلماء لم يستحبوا تتبع الغرائب خوفًا من الوقوع في الخطأ، ولكن أنا أطمئن كما قلت، يعني أنت حين تطمئن إلى أنه قل أن يوجد حديث إلا وقد ورد من أكثر من طريق، إذن هذا يزيدنا اطمئنانا، نعم النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، بدليل أن أبا هريرة وأنس مثلًا، ومعه ثالث أو رابع سمعوه، إذن لم ينفرد برواية واحد فلان، رغم أن أي انفراد الصحابي بالذات، الصحابة كلهم عدول ثقات لا مشكلة في ذلك، وأيضًا هذا الصحابي له تلاميذ، لم ينفرد تلميذ واحد بالرواية عن هذا الشيخ عن هذا الصحابي، وهكذا في كل الحلقات. مما يطمئننا على أن تعدد الطرق كان واحدًا من الأمور التي حفظ الله تعالى بها سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- بل إن سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- ومنهم الصحابة علمونا أن نحاول أن نستزيد من طرق الحديث حتى لا يضيع، وهذا كان على رأس الأسباب التي جعلت أبا أيوب الأنصاري -رحمه الله تعالى، ورضي عنه- وجابر بن عبد الله كل منهما يرحل في طلب حديث واحد لمسافات كبيرة بعد كبر سنهما. أبو أيوب رحل إلى مصر في طلب حديث لعقبة بن عامر، وجابر رحل في طلب حديث إلى عبد الله بن أنيس في الشام، كان أبو أيوب يقول لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك. خافوا على الحديث أن يضيع، خصوصًا إذا انتهى جيل الصحابة، فأرادوا أن يؤدوا الأمانة كما حملوها. والمهم أقول في النهاية: إن تعدد الطرق كان من توفيق الله تعالى لهذه الأمة، وهو أحد

الوسائل التي نستعين بها على إثبات أن الحديث له طرق متعددة. إذن، فهو إن شاء الله يعني نطمئن إلى صحته، خصوصًا بعد دراسة الإسناد، وبعد دراسة المتن معًا. هذه المسائل التي تتعلق بالآحاد وأقسامه، وأنا أعلم أنه يدرس بتفصيل أعمق من ذلك في مادة المصطلح، وفي غيره من المواد، لكن أنا أشير إلى هذا في عجالة نظرًا لأنني سأحتاج إلى بعض المعارف التي ذكرتها، وأنا أتكلم عن الحديث المتواتر، وعن دلالته وعن أهميته، وأيضًا عن حديث الآحاد، وهو الأهم، وعن الرد على الشبه التي أثارها المغرضون تجاه حديث الآحاد. قلت: إنهم لم يحبوا تتبع الغريب، فمثلًا السيوطي في (تدريب الراوي) يقول نقلًا عن الإمام أحمد: "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء" وقال مالك: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس" وهذا ما جعلني أقول: إنه بحمد من الله وتوفيقه قل أن تجد حديثًا ليس له إلا طريق واحد، وعلماؤنا لهم قواعد تكتب بماء الذهب في هذا، لا أريد أن أستطرد إليها، ويكفي أنني لفت النظر إليها الآن للدارسين لينتبهوا، وليطمئنوا إلى أن السنة سارت كما قلت مرارًا في طريق من الصيانة والحفظ والرعاية والعناية، منذ قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن وضعت في بطون الكتب المهمة التي نعتمد عليها الآن، وهي الكتب الستة وغيرها من مصادرنا في السنة المطهرة. ابن عدي أيضًا يروي عن أبي يوسف يقول: "من طلب الدين بالعلم تزندق، ومن طلب غريب الحديث كذب" يعني لماذا كذب؟ هو لا يتعمد الكذب؛ لأن تعمد الكذب هذه يعني مشكلة، إنما المقصود هذا الحديث قد لا يكون ورد إلا من هذا الطريق الضعيف، فإصرارك على تحمله وروايته قد يعرضك لأن تروي الضعيف الذي قد يشتد ضعفه، فيقترب من الكذب، فالمهم أنك تكون مع الأحاديث التي وردت من طرق متعددة. ومرة أخرى أؤكد أنه ليس معنى ذلك أن كل غريب ضعيف. قلنا إن هناك غرائب، ثبتت صحتها، درسنا إسنادها ودرسنا متنها في ضوء القواعد المقررة لدراسة الإسناد، ولدراسة المتن، فلم نجد غرابة في هذا أو لم نجد يعني بعدًا في صحته بالمقاييس العلمية المعتمدة عند أهل العلم بإذن الله -تبارك وتعالى-.

طرقت مسائل مثلًا المشهور عند الأحناف مثلًا، المشهور قسم من أقسام الحديث يعني هو قسيم للآحاد، وليس قسمًا منه، الأحناف يقسمون الأحاديث باعتبار عدد الرواة في كل حلقة إلى أقسام ثلاثة: إلى المتواتر، وإلى المشهور، وإلى الآحاد. هذا تقسيم خاص بالأحناف، كما قلت الوقوف عند هذه التفاصيل يخرجنا عن موضوعنا الذي نحن بصدده، وألفت النظر إليها لمن أراد أن يتتبعها في كتب المصطلح. وأيضًا المشهور هناك مشهور على ألسنة النحاة، وهناك مشهور على ألسنة المحدثين، وهناك مشهور عند الفقهاء مثل حديث "أبغض الحلال عند الله الطلاق" مثلًا وهناك حديث عند النحاة يستدلون به على قضية نحوية، وإن كانوا لا يعتنون كثيرة بدرجته عند المحدثين مثلًا "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" السيوطي في (تدريب الراوي) نقل عن العراقي وغيره أنه لا أصل له، ولا يوجد بهذا اللفظ في شيء من كتب الحديث، وهذا في (تدريب الراوي) في جزء 2 ص 175. يعني هذا مثال للمشهور عند أهل تخصص معين، لكنه حتى ليس ضعيفًا فحسب، بل هو لا أصل له. أيضًا هناك مشهور على ألسنة العامة مثلًا ((من دل على خير فله أجر فاعله)) ومثل ((مداراة الناس صدقة)) يعني بعضها أهل العلم صححوه أو حسنوه ((المستشار مؤتمن)) مثلًا حسنه الترمذي، وهذا مشهور على ألسنة العوام "اختلاف أمتي رحمة" هو ضعيف، "نية المرء خير من عمله" ضعيف، "الخير عادة" ضعيف، "جبلت القلوب على حب من أحسن إليها" ضعيف، إلى آخره هي أيضًا مشهورة على ألسنة العامة يستعملونها في مناسبات كثيرة. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 11 حديث الآحاد (2).

الدرس: 11 حديث الآحاد (2).

الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (حديث الآحاد (2)) الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد. فالمسألة الأولى من المسائل المتعلقة بالآحاد: أن نتساءل عن الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم: ما هي الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم؟ وكتوضيح لهذا قلت في الدرس السابق: إن الخبر المتواتر الذي ثبت تواتره يفيد العلم القطعي الضروري يعني علم متلقيه علم متيقن به سواء كان حديثًا أو غيره، كما قلت: وأيضًا هذا معنى قولنا: علم قطعي أو يقيني، ومعنى قولنا: علم ضروري هو أننا لا نحتاج إلى أدلة بعد ثبوت التواتر يعني: إذا كان الخبر الذي سنقوله تأكدنا من أنه خبر متواتر لا يصح بعد ذلك أن نبحث عن أدلة نؤيد بها صدق هذا الخبر، فمتى ثبت تواتره أصبح مقطوعًا به، هذا معنى قول أهل العلم: أنه مقطوع به يفيد العلم القطعي أو العلم اليقيني الضروري. مثلا نقول أمريكا موجودة على خريطة العالم هل استدل أحد على وجودها؟ لكن تواتر الأخبار: فعلت أمريكا، قالت: أمريكا جعل السامعين قد تيقنوا بصدق هذا الخبر أي: بصدق وجودها على الخريطة، هذا مجرد مثال من الحياة العامة التي نعيشها جميعًا لا نحتاج بعد ذلك إلى إثبات أو إلى أدلة تثبت أن أمريكا أو غير أمريكا موجودة على خريطة العالم أو على خريطة الكرة الأرضية. إذن الخبر المتواتر أصبح يفيد العلم الضروري الذي يستقر في النفس مثل البدهيات، لا يمكن دفعه عن النفس كما أنه لا يحتاج إلى أدلة تثبته أو إلى براهين تؤكده، وأيضًا لا يحتمل الخلاف حوله، كمثل الخلاف الذي يجري في النظريات لا!

النظريات: عمر الأرض كم سنة؟ نظريات ليس عندي قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (الكهف: 51) يقولون كما يقولون، ويعتمدون على حفريات وهناك إذن العلم الضروري يستقر في النفس مثل البدهيات لا يمكن دفعه عنها، لا يحتاج إلى أدلة تثبته بعد أن تأكدنا منه لا يحتمل الخلاف حوله، والخلاف حوله أو النقاش حوله هو نقاش في البدهيات، والنقاش في البدهيات من أتعس ما يمكن أن تقع فيه العقول الشاعر يقول: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل لو أن النهار يحتاج إلى دليل أمر غريب يعني: أنا الآن فعلا أسجل هذه الحلقات نهارًا في الوقت الذي أتكلم فيه نحن بالنهار، كيف أثبت أننا بالنهار؟ إذا ذهبت أستدل على أننا بالنهار سأزيد الأمر تعقيدًا؛ لأن هذا أمر بدهي ثابت بالمشاهدة، كذلك الخبر المتواتر لا يحتاج إلى أدلة فنتيجته قطعية. وأنا أشرت أيضًا إلى أن العلم القطعي اليقيني نصل إليه بوسائل متعددة قلنا: منها المشاهدة، وقلنا: منها البداهة، وقلنا منها الفطرة، يعني الطفل الصغير يعرف أمه وأباه من وسط العشرات، هذه فطرة فطر الله الناس عليها لم يقم أحد الأدلة على أن هذا أبوك أو أن هذه أمك إنما هو يعرفها، ويندفع نحوها ويرتمي في حضنها، وهي في وسط عشرات السيدات أو أيًا كان العدد هذا أمر فطري وهكذا. هذه أمثلة للعلم القطعي إذن التواتر يفيد العلم القطعي الضروري، وعندي أيضًا من الفروق بين العلم الضروري والعلم النظري أنا قلت: ـ فيما قلت ـ إننا ممكن أن نصل إلى العلم القطعي أو إلى درجة اليقين عن طريق النظر والاستدلال، وضربت مثالا لهذا بنظريات الهندسة، وقلت: إنها خير مثال لقواعد كانت مجرد نظريات احتمالية لما استدل عليها أصبحت أمورًا قطعية، لكننا لم نصل إلى هذا القطع إلا بعد النظر والاستدلال بعكس التواتر كما قلت.

من الفروق بين العلم النظري والعلم الضروري أي: العلم القطعي المستفاد من الضرورة الذي هو التواتر، أو العلم النظري القطعي الذي جاء بعد نظر واستدلال أن العلم الضروري يقع اليقين به لكل سامع له سواء كان عالمًا أو غير عالم. أما العلم النظري، فلا يقع القطع به إلا لمن عنده أهمية النظر، لمن يدرك هذا الكلام يعني المثال الذي ضربناه مثلا: المثلث المتساوي الزوايا متساوي الأضلاع، الرجل الفلاح في الحقل، أو العامل في المصنع لا تعنيه مسألة لا من قريب، ولا من بعيد، ولا نستطيع أن نقيم عليه الحجة في أن هذا أمر مقطوع به؛ لأن الأدلة قد قامت عليه. نعم هو يفيد القطع لكن بالنسبة لمن عنده أهمية القطع بهذا الأمر، أما من ليست لهم أهلية القطع فهو ليس حجة عليهم؛ لأن هذه الأمور لا يهتم بها إلا المتخصصون، ويأخذون هذه النظريات بعد إثباتها بالطرق العلمية؛ لتطبيقها في أمور علمية مختلفة، ينتفعون بها في أمور حياتهم. هناك أيضًا من أنكر الذي نقوله، مثلا في إثبات التواتر أو في إفادة التواتر، ونحن لم نقف عليه حتى لم أشر إليه؛ لأن ماذا نفعل إذا وصل بنا الأمر إلى الجدال في البدهيات، مرة أخرى أقول: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل على كل ووصلنا الآن إلى التساؤل عن الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم. خبر الآحاد لكي أستعيد المسألة في ذهني، وفي ذهن المتلقي الكريم قلت: إن المتواتر يفيد العلم الضروري، طيب الآحاد ماذا يفيد، وبصيغة أخرى لأعرف الهدف من وراء هذا النقاش هل أقطع بصدق نسبة الحديث الآحاد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هل أتيقن مائة بالمائة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله أم يغلب على ظني؟ وهنا أقول إن الظن درجة من درجات العلم، أنا عندي ظن بمعنى الوهم،

وهذا أيضًا أمر سأحتاج وأنا أرد على الشبهات المثارة حول خبر الآحاد يعني مثلا أجد في القرآن الكريم ذمًا للظن {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 26 - 28) بعض العلماء يقول مثلا: الظن هنا يعني مذموم، لكن الظن عند الأصوليين درجة من درجات العلم. تعددت تعبيراتهم في تعريف الظن، الظن هو: غلب أحد القولين أو أحد الرأيين، هو القول بالرأي الراجح، لكن هو درجة من درجات العلم مثلا محمد سافر هذه قضية ما درجة علمي بها؟ هل أنا قطعت بها؟ قطعت بها عن طريق الطرق التي أشرت إلى بعضها في تحقيق العلم القطعي هل رأيته وهو يسافر؟ فيكون الأمر ثبت لدي بالمشاهدة. هل أخبرني جمع أثق في صدقهم بسفره؟ فيكون الخبر وصل إلي بالتواتر إلى آخره، لكن في النهاية محمد سافر خلاص أصبحت قضية يقينية أو أنه يغلب على ظني أن محمدًا سافر؛ لأن واحدًا فقط هو الذي أخبرني، ولأنني لا أجد محمدًا الآن في قاعات الدرس، ولأنه قد هاتفني، يعني مثلا بعض القرائن التي ترجح أنه سافر، فدرجة علمي بسفر محمد يقينية مقطوع بها، أم أنها يغلب على ظني؟ هذا معنى الظن الأخذ بالقول الراجح أو ترجيح أحد الاحتمالين في المسألة، عندي احتمالان سافر أو لم يسافر غلب أحد الاحتمالين على الآخر، أصبحت المسألة ظنية، فإذا نقلت هذه الأمور إلى الخبر الآحاد، فهل أقطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله أو يغلب على ظني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله؟. هناك باختصار شديد فريقان في هذه المسألة، كثير من العلماء، وأغلبهم من الأصوليين، ومعهم أيضًا بعض

المحدثين كالإمام النووي يقول: "إن خبر الآحاد يفيد الظن، يعني يغلب على ظننا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، ولا نقطع بذلك لاحتمال وقوع الخطأ من أحد الرواة؛ لأن عدد الرواة لم يصل إلى درجة التواتر". تكاد تكون حجة هذا الفريق الوحيدة أن احتمال الخطأ من أحد الرواة في نقل الحديث احتمال وارد، وهذا يجعلنا لا نصل إلى درجة القطع، إذن ما هو دليلهم؟ دليلهم فقط أنه قد يقع بعض الرواة في الخطأ. في حدود قراءتي لم أجد أدلة شديدة لهم في هذا الأمر، ثم يجمعون بعد ذلك الأدلة التي وردت في ذم الظن سواء من الحديث ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) إلى آخره، ومثل الآية التي أشرت إليه، وسأرد على ذلك ـ إن شاء الله تبارك وتعالى ـ بما رد به العلماء حين الكلام أو حين نتكلم عن الشبه، لكن الآن يعني دعوني أقصر كلامي على توضيح الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم، قلت: إن هناك فريقًا من العلماء يرى أنه يفيد الظن، ما معنى أنه يفيد الظن؟ يعني يغلب على ظننا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال هذا الحديث ولا نقطع بأنه قاله. الفريق الثاني: مستند الفريق الأول قلت اعتمادًا على أن الخطأ وارد من بعض الرواة، وما دام أن الخبر لم يصل إلى التواتر، فأنا لا أطمئن بنسبة مائة في المائة إلى أن الحديث قد قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع ملاحظة أمر مهم سأنتقل إليه بعد قليل. القضية التي نناقشها الآن وهي قضية ماذا يفيد خبر الآحاد غير قضية وجوب العمل به؟ هذه مسألة وهذه مسألة، إنما نتكلم عن درجة نسبة الحديث للنبي -صلى الله عليه وسلم-. الفريق الآخر منهم كثيرون جدا من القدامى ومن المحدثين، الإمام الشافعي في الرسالة له فصل ممتع في تطبيق خبر الحجة، وأنا سأعتمد عليه مع غيره في رد الشبهة التي أثاروها، ويعني -سبحان الله- في غاية العظمة في هذا الكتاب، ابن حزم في (الأحكام) وغيرهم كثير من المحدثين: الشيخ أحمد شاكر، الشيخ ناصر الألباني، الشيخ عبد الله الجبريل غيرهم كثير قطعوا بأن حديث الآحاد يفيد العلم لكنه العلم النظري، وهذا ما جعلني ألح على قضية العلم النظري، وكيف يثبت واستدللت بنظرية الهندسة، يعني -وفقًا لهذا الفريق- نحن نقطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله لكن بعد نظر واستدلال.

ما هو النظر والاستدلال المقصودان في هذا الأمر، النظر والاستدلال المتعلقان بدراسة الإسناد ودراسة المتن يعني هذا الفريق يقول: نحن درسنا الإسناد في ضوء القواعد المقررة عند أهل العلم، وتأكدنا من توفر الشروط التي تفيد صحة الإسناد من اتصال السند، ومن عدالة الرواة، ومن ضبط الرواة، ومن خلو الحديث من الشذوذ، ومن العلة القادحة، ونظرنا ودرسنا المتن في ضوء القواعد المقررة في دراسة المتن فلماذا لا نقطع بأن يعني سلم من الركاكة، سلم من الضعف، سلم من مخالفة الأصول يعني سلم من أي علة قد تقدح فيه، فلماذا لا نقطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، هذا الفريق يقول ذلك، إذن نحن نتأكد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قاله بعد أن نظرنا في السند وفي المتن في ضوء القواعد المقررة عند العلماء؟. هذا الكلام كما قلت هو أشبه بالنظريات الهندسية التي ضربتها مثالا لذلك، نحن درسنا النظرية الهندسية، وأقمنا عليها الأدلة والبراهين إذن أصبحت بعد ذلك مسألة يقينية لا نماري فيها، كذلك هذا يقوله العلماء بالنسبة لحديث الآحاد. إذن الدراسة النظرية التي يقصدونها، والتي أوصلتهم إلى مسألة القطع واليقين بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قاله إنما جاءت من دراسة الإسناد، ومن دراسة المتن معًا ثم اطمئنانهم بعد هذه الدراسة إلى صدق الحديث، وبالتالي ما الذي يجعلنا نخاف أن نقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال هذا الحديث، هذا الفريق من العلماء الذين قالوا بإفادة خبر الآحاد للعلم النظري تعددت آراؤهم داخل هذا الرأي كيف؟ هناك من قال: إن خبر الآحاد مقطوع بصحته، وبصدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- لكن ذلك مقصور على أحاديث الصحيحين فقط، يعني نحن نقطع بمضمون الأحاديث أو بصدق الأحاديث وبصحة نسبتها للنبي -صلى الله عليه وسلم- التي في الصحيحين، وممن تبنى هذا الرأي ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في مقدمته، ودافع عن ذلك دفاعًا

شديدًا في المقدمة حيث يقول رحمه الله: "وهذا القسم ـ يقصد ما اتفق عليه البخاري ومسلم ـ مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري -كلمة اليقيني يعني مقطوع به، والنظري بعد النظر والاستدلال- خلافًا والعلم اليقيني النظري واقع به خلافًا لقول لمن نفى ذلك محتجًا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ. يقول ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-:"وقد كنت أميل إلى هذا الرأي، وأحسبه قويًا -أي: إفادته للظن يعني- ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولا هو الصحيح؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبتنى على الاجتهاد حجة مقطوعًا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة. أنا لا زلت مع كلام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض النقاد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن". إذن ابن الصلاح يرى أن خبر الآحاد يفيد القطع بصدق نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- غير أنه يقصر ذلك على الصحيحين، وحجته في ذلك واضحة، وهو أن الصحيحين قد أجمعت الأمة على تلقيهما بالقبول، ولذلك هو يضيف نفائس أخرى خلال معالجته لهذه القضية يقول: "إن الأمة في إجماعها معصومة من الخطأ" ويقول: "لهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعًا به -ليس الإجماع المبني على الأدلة فقط إنما الاجتهاد أي: كان هذا الإجماع مقطوعا به- وأكثر إجماعات العلماء كذلك وقال: وهذه نكتة نفيسة نافعة".

أيًا ما كان الأمر فإن ابن الصلاح ومن شايعه يرون أن أحاديث الصحيحين الآحاد منهما تفيد القطع، ونقطع بصحة نسبتها للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يستثني من ذلك الأحرف اليسيرة التي انتقدها بعض الحفاظ كالدارقطني وغيره لا تنطبق عليها هذه القاعدة، وهذه الأحاديث معروفة عند أهل السنة، هذا كلام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى. أيضًا هناك رأي آخر ينضم إلى أحاديث الصحيحين أي حديث يعني: احتفت به قرائن أكسبته مزيدًا من القوة يعني ما الذي جعل ابن الصلاح يقول ذلك عن أحاديث الصحيحين؟ أن الأمة أجمعت على تلقيهما بالقبول، وأصبحنا جميعًا متأكدين من أن كل حديث في الصحيحين صحيح من أحاديث الأصول التي لم يتكلم عليها النقاد مثل الدارقطني وغيره، خلاص انتهت المسألة، وأصبحت غير قابلة للنقاش ولا مفتوحة ولا موضوعة على طاولة الجدال، هل نلحق بأحاديث الصحيحين كل حديث فيه بعض القرائن التي أكسبته مزيدًا من القوة؟ يعني ليس شرطًا أن يكون في الصحيحين، لكن كما أن روايته في الصحيحين كانت قرينة ساعدت على قطعنا بصحته، وبصدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمادًا على أن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول كذلك نلحق بهما كل حديث فيه قرائن كما قلت تكسبه مزيدًا من القوة مثل مثلا أن يكون مسلسلا بالأئمة الفضلاء، الأئمة الأجلاء. مثل حديث مثلا يرويه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أو أن يكون هذا الحديث ممن وردت به آيات كثيرة، وأدلة قاطعة في القرآن والسنة قد التقت معه مثل: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه))، مثل حديث تحريم الربا فمقطوع به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن القرآن الكريم قطع بحرمة الربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275).

إذن الفريق الآخر، ومنهم ابن حجر -رحمه الله تعالى- في كتبه يلحق بالصحيحين الأحاديث التي احتفت بها قرائن. الخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها مثلا ما أخرجه الشيخان في الصحيحين مما لم يبلغ التواتر هذا القرائن التي احتفت به جلالة الشيخين في علم الحديث، تلقي الأمة لكتابيهما بالقبول إلى آخره، هذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم. أيضًا منها المشهور إذا كانت له طرق سالمة من ضعف الرواة ومن العلل، يعني أحاديث مشهورة على المعنى الذي قلناه في الصورة، وتعددت طرقه، فهذا أيضًا يكسبه مزيدًا من القوة، فنقطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله. ومنها أيضًا المسلسل بالأئمة الأعلام الأجلاء الحفاظ المتقنين مثلا الحديث الذي يرويه الإمام أحمد، وقد يشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه في غيره وعن مالك، ويشاركه في غيره، هذا النوع من الأحاديث يفيد العلم عند سامعه، والقرائن التي احتفت به هي جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير، وأي واحد له أدنى ممارسة بالنظر أو بالعلم بمعرفة أحوال الرواة يتأكد من سلامة هذه النتائج. مثلا حين أقول: حديث رواه سفيان بن عيينة مثلا عن عبد الله بن دينار، سفيان، وعبد الله جبلان من جبال الحفظ حين مثلا يروي سفيان بن عيينة عن الزهري مثلا عن ابن عمر مثلا أيضًا ماذا نقول في هؤلاء الأعلام؟ هؤلاء أئمة أجلاء أجمعت الأمة على مكانتهم السامقة العالية في عالم الرواية، وأنهم من كبار وفحول ثقات الرواة. والمهم أنه متى احتفت بالخبر قرائن أكسبته مزيدا من القوة قطعنا بصدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الرأي لفريق من العلماء منهم: ابن حجر، وهذا زاد على ابن الصلاح،

ابن الصلاح قصر المسألة على أحاديث الصحيحين، وزاد ابن حجر أحاديث أخرى غير أحاديث الصحيحين، لكن فيها قرائن احتفت بها أكسبتها مزيدا من القوة. هناك فريق ثالث يقول: ولماذا أقصر إفادة الآحاد للقطع على أحاديث الصحيحين فقط؟ أو على الأحاديث التي احتفت بها القرائن تكسبها مزيدا من القوة؟ لماذا لا أقول إن كل حديث آحاد ثبتت صحته فهو مقطوع بصحة نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنت من الممكن أن تجادلني في إثبات الصحة ذاتها تقول: هذا ليس صحيحًا، وأدلتي على كذا كذا على عدم الصحة كذا وكذا لكن دعنا نتفق أنه إذا ثبتت صحته بالمقاييس المعروفة عند أهل العلم، وأنا قلت -مرارًا-: أن هذا هو النظر والاستدلال الذي أدى بنا إلى الاطمئنان إلى صدق الخبر، أنا درست -كما قلت- الإسناد، وتأكدت من صحته، ودرست المتن فما الذي يجعلني أتردد في القطع بصحة نسبة هذا الحديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأقصر ذلك على أحاديث الصحيحين فقط أو أقصر ذلك على الأحاديث الأخرى التي احتفت بها قرائن، وتعصب لهذا الأمر جدا ابن حزم، وأيده من المحدثين كثير كما قلت: الشيخ شاكر، والشيخ أحمد، والشيخ الألباني وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ورحمهم أجمعين. وأنا بكل تواضع أقول: إنني مع هذا الرأي فعلا لماذا أخاف؟ يعني: حديث درسناه، وتأكدنا من صحته ـ كما قلت ـ سندًا ومتنًا كررت ذلك مرارا ماذا نقول؟ نخاف لماذا نخاف؟ تريد أن تقول إنه ليس صحيحا لا تعتمد على التواتر والآحاد إنما أقم أدلة لعلل في الإسناد أو لعلل في المتن، هذا هو الكلام العلمي أن تثبت أن السند به علة أو أن المتن به علة يعني نتناقش في هذا الأمر، ونأخذ ونرد ونقبل أو لا نقبل، لكن أن يكون الأمر سالمًا من العلل في الإسناد والمتن، ثم تجادلني تحت وطأة، أو

تحت دعوى أن مجرد احتمال الخطأ من الرواة نحن تأكدنا أنهم ثقات، وتأكدنا من سلامة الحديث متنًا وسندا نقطع بصحته، إذن أنا عندي الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم، عندي فيها رأيان رئيسان: الرأي الأول: بأن حديث الآحاد يفيد الظن، وممن تبنى هذا الرأي من المحدثين الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: يعني لا يرتضي رأي ابن الصلاح حتى في مجرد قصر الآحاد أو القطع بصحة الآحاد على الصحيحين، يقول النووي: لأن ذلك شأن الآحاد أي: إفادته للظن ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه بخلاف غيرهما، فلا يعمل به حتى ينظر فيه، ويوجد فيه شروط الصحيح، ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد اشتد إنكار ابن برهان على من قال بما قاله الشيخ -يقصد ابن الصلاح- وبالغ في تغليظه، وكذلك ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا القول، هذا كلام النووي في (التقريب) الذي شرحه السيوطي في التدريب، وهو موجود في (تدريب الراوي) في جزء 1 ص232؛ لأن النووي -رحمه الله كما نعلم جميعًا- اختصر مقدمة ابن الصلاح في (التقريب) والسيوطي شرح اختصار النووي في كتابه المشهور: (تدريب الراوي شرح تقريب النووي) هذا اسم الكتاب. إذن ابن الصلاح، الإمام النووي، ومعهم مدرسة كثيرة هو ذكر بعضهم مثلا: العز بن عبد السلام، وابن برهان يقولون: "إن الأحاديث الآحاد يفيد الظن" أي: نظن أو يغلب على ظننا أو يترجح لدينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله لكننا لا نقطع، أما الموافقون لابن الصلاح كما قلت كثير. أيضًا السيوطي يذكر في (تدريب الراوي) عن البلقيني تأييده لابن الصلاح،

ويقول نقلا عن البلقيني ما قاله النووي، وابن عبد السلام، ومن تبعهما ممنوع، يعني لا يرضى بأنه يعني بأن أحاديث الصحيحين تفيد الظن، ولا تفيد القطع. يعني السيوطي نقل آراء كثيرة في مساندة ابن الصلاح، ويقول في ذلك، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية كأبي إسحاق، وأبي حامد الإسفراييني، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وأبي علي، وابن أبي الخطاب، وابن الزاغوني من الحنابلة، وابن فورك، وأكثر الكلام من الأشعرية، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة بل بالغ ابن طاهر المقدسي، فألحق به ما كان على شرطهما، وإن لم يخرجاه يعني هؤلاء العلماء يؤيدون ابن الصلاح، بل إن بعضهم لم يقصر الأمر على أحاديث الصحيحين فقط، بل ألحق بهما ما كان على شرطهما حتى وإن لم يخرجاه. وابن كثير أيضًا في اختصاره لـ (الباعث الحثيث) حيث يقول: وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، والله أعلم -لا يزال كلام ابن كثير موجودا- ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة منهم: القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد، وأبو يعلى بن الفراء أبو الخطاب، وابن الزعفراني من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشاعرة، وغيرهم قال: "وهو مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة، وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطًا، فوافق عليه الأئمة". إذن بعد هذه النقول يتبين لنا أن أهل الحديث قاطبة، وكثيرًا من السلف يقولون على الأقل بما قاله ابن الصلاح من قصر ذلك على حديث الصحيحين، ثم

قلت: جاء ابن حجر، وأفاد بأن خبر الآحاد التي التفت به قرائن أكسبته مزيدا من القوة أيضًا، تلتحق بأحاديث الصحيحين مثل: الحديث المسلسل، والمشهور من طرق متعددة إلى آخره، وجاء المتأخرون. وكما قلت يؤيدون ذلك بأن ليس الأمر مقصور على الصحيحين فقط، أو على ما حتى الذي يحتفظ بقرائن، فنجد الشيخ شاكر مثلا يقول: "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم، ومن قال بقوله من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي سواء كان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني نظري برهاني لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل، وأكاد أوقن أنه هو مذهب من نقل عنه البلقيني ممن سبق ذكرهم، وأنهم لم يريدوا بقولهم ما أراد ابن الصلاح من تخصيص أحاديث الصحيحين بذلك، وهذا العلم اليقيني يبدو ظاهرًا لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظريته، واطمأن قلبه إليها، أو ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن، فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد، هذا كلام الشيخ شاكر عليه -رحمة الله- في (الباعث الحثيث) عند الكلام عن الحديث الصحيح في ص 37، ونحن سننقل أيضا مزيدا من أقوال العلماء في هذه المسألة عند ردنا على بعض الشبه التي أثارها الأعداء أو من أثارها ضد السنة، وضد أهلها وضد الاحتجاج بها. خلاصة الأمر أنني ناقشت الآن قضية ماذا يفيد خبر الآحاد من العلم استعرضت آراء العلماء، وأن المسألة فيها رأيان رئيسان: إفادته للظن، وابن عبد السلام، والإمام النووي وغيرهم قالوا بهذا، وكثير من العلماء قالوا بغير هذا على تفاوت في أقوالهم.

مسألة وجوب العمل بخبر الآحاد.

مسألة وجوب العمل بخبر الآحاد مسألة: إفادة خبر الآحاد العلم: هذه التي ناقشناها غير قضية وجوب العمل به، وهذا أمر قد يشتبه على بعض المشتغلين بعلوم السنة يخلطون بين قضية العمل بحديث الآحاد، وبين الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم، الفريقان الرئيسان اللذان أشرنا إليهما، هي أن يعني يفيد الظن أو يفيد القطع، الفريقان معًا مجمعان على وجوب العمل بخبر الآحاد حتى الذين يقولون بإفادته بالظن، وأحيانا أجد في بعض كتب أو في بعض أقوال من يعارض في هذا الذين يثيرون الشبه الآن احتجاجا بجزئيات يموهون بها علينا مثل قضية إن بعض المذاهب تقول: إن خبر الآحاد -مثل الأحناف مثلا- إذا كان حديث الآحاد متضمنًا أمرا زائدًا على القرآن، فإننا نتوقف في قبوله هم يتوقفون في هذا الأمر في جزئية صغيرة البعض يأخذها، ويصورها على أن الأحناف لا يعملون بخبر الآحاد، وكأنه يريد أن يؤيد وجهة نظره بأن بعض المذاهب الإسلامية تقول بمثل ما يقول، وأنه ليس بدعًا في هذا الأمر، لا هذا خداع، هم يتكلمون في جزئية مثلا، وأنا هنا ـ ـ أضرب مجرد مثال الزاني البكر أي: الذي لم يسبق له زواج هذا نجلده مائة جلدة، هذا الحكم ثابت بالقرآن الكريم {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2). جاء حديث عبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه- عند الإمام مسلم: ((خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب كذا، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)) الحديث تضمن أمرًا زائدًا بالتغريب زيادة عن الجلد، هم يتوقفون في مثل هذا، حجتهم أن القرآن متواتر وأن حديث الآحاد أقل في الثبوت من القرآن فما دام تضمن أمرًا زائدًا نتوقف في هذا الأمر، ولذلك لا يقولون بالتغريب، أنا هنا لا أناقش سلامة

الرأي من عدمه؛ لأن جمهور العلماء غيرهم يقولون بالتغريب وأخذوا بالحديث، لكن هنا هل أصور المسألة على أن الأحناف لا يعملون بخبر الآحاد؟ كما يتلقف بعضهم مثل هذه الأقوال، ويبني عليها أنه مؤيد من المذاهب الإسلامية في رفضه لخبر الآحاد لا! أحاديث الآحاد تملأ كتب الأحناف، ومعظم أدلتهم إن لم يكن كلها في مسائلهم الفقهية مبنية على خبر الآحاد، من أين سيأتون أكثر من 95% من أحاديث السنة بل أكثر من 99 من أحاديث الآحاد، ولذلك هذه خطورة من يتوقف العمل بخبر الآحاد أو من يتوقف في حجيته يريد أن يهدر السنة، وأن يضيعها؛ لأنه نكاد نقول إن السنة ليست لدينا إحصاءات بنسب يعني لكن مسألة تقريبية إذا أردنا أن نتواضع فنقول على الأقل 95% من أحاديث السنة آحاد، وهي حجة عند الأمة كلها، لكن أنا الآن أتكلم في جزئية أرجو أن تكون واضحة: " قضية الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم غير قضية وجوب العمل بها". العلماء مجمعون على هذه القضايا التي سأقولها الآن، أنه متى صح الحديث وجب العمل بها، صحة الحديث غير القطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله أو لم يقله أو يغلب على ظنه هذه مسألة أخرى، لكن متى صح الحديث وجب العمل به، أرجو أن تجري هذه القاعدة في دمائنا مجرى الدم في عروقنا يعني: أعتقدها اعتقادًا يقينيا. ونحن نتكلم عن حجية السنة أشرنا إلى مثل هذا واحد -ذكر ذلك السيوطي في: (مفتاح الجنة) - يسأل الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- عن صحة حديث يا أبا عبد الله أتقول بصحة هذا الحديث؟ قال نعم، قال: أتعمل به غضب الإمام الشافعي وقال: يا هذا أوجدتني خارجًا من كنيسة هو لم يكتف بقوله: نعم أعمل به إنما أراد أن يبين له، هل يوجد مسلم يصح عنده حديث ولا يعمل به؟. إذن متى صح الحديث وجب العمل به، ولا يصرف عن وجوب العمل به إلا بصارف شرعي يعني الذي يريد أن يقول: إن هذا الحديث لا أعمل، لابد أن يأتي

بسبب شرعي كأن يكون منسوخًا أو أن يكون عاما وخصص، لكن يصح الحديث ولا يعمل به، هذه جريمة ليست خطأ عاديًا، هذه جريمة انعقد عليها الإجماع بلا أدنى مبالغة في القول، الإجماع انعقد على هذا، إذن متى صح الحديث وجب العمل به، ولا يصرف عن العمل به إلا بصارف شرعي. وقاعدة ثالثة: متى صح الحديث أصبح أصلًا من أصول الشرع مثل القرآن والسنة، ولا يوجد أصل شرعي يتصادم مع أصل شرعي آخر لا يمكن أن تجد تناقضًا بين أدلة الشرع؛ لأنها كلها جاءت من مشكاة واحدة جاءت من عند ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ من الوحي الذي هو المصدر من القرآن الكريم وللسنة المطهرة؛ لذلك ينبغي أن نتيقن أن قضية العمل بالحديث غير قضية الدرجة التي يفيدها نحن ناقشنا هذه القضية، ونقول إن العمل بالحديث واجب متى صح؛ لأن العلماء أجمعوا أيضا على قضية أخرى حتى مع القول بأن حديث الآحاد يفيد الظن أي: أن نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مظنونة، وليست يقينية بناء على وجهة نظر من قالوا: بأنها تفيد الظن، العلماء مجمعون، وهذا الإجماع ذكره النووي وغيره -رحمهم الله جميعًا- على أنه يجب العمل بما يغلب على ظن الأمة. لو أنني استعدت الآن كلام النووي الذي قرأته منذ قليل، وهو يرد على ابن الصلاح في أن أحاديث الصحيحين لا تفيد القطع، وإنما تفيد الظن يقول: "وتلقي الأمة بالقبول يعني ابن الصلاح اعتمد على ذلك هذه هي القرينة أو الدليل الذي جعل ابن الصلاح يقول: بأن أحاديث الصحيحين مقطوع بصحتها؛ نظرا لما تميز بهما من منزلة عند الأمة، وأن الأمة قد تلقت كتابيهما بالقبول، ونحن قلنا: إن كثيرا من العلماء أيد ابن الصلاح، بل زاد على ذلك أنه ليس الأمر مقصورا على أحاديث الصحيحين فقط. لكن نرجع إلى كلام النووي يقول: وهو يدافع عن وجهة نظره، ولا فرق أي في إفادة الظن في ذلك بين الشيخين وغيرهما، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب

العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه بخلاف غيرهما، فلا يعمل به حتى ينظر فيه، ويوجد فيه شروط الصحيح، يعني لا نعمل عند غيرهما إلا بعد أن نتأكد من صحته، وخلاصة كلام النووي أن العمل بالصحيح سواء كان في الصحيحين، أو في غيرهما واجب على الأمة. غاية ما في الأمر أنني إذا وجد الحديث في الصحيحين لا أحتاج إلى دراسة بعد ذلك، أما إذا كان في غير الصحيحين علي أن أتأكد من صحته، فإذا صح وجب العمل به، وهذا كلام النووي: "ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيها إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى آخره. إنما هو يقصد يجب العمل؛ لأن الأمة يجب العمل عليها بما غلب على ظنها، بل إن كثيرا من الأحكام كتوضيح لهذه المسألة حتى أفرغ منها، الأحكام الشرعية كلها تقوم على أخبار الآحاد: الدماء، الحدود تقوم على أخبار الآحاد، يعني: الأمة يغلب على ظنها، إذن يجب العمل عليها. وأنا هنا أرسخ القضية، وأؤكدها أنه لا تلازم بين ما نناقشه من القطع بنسبة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجوب العمل، وجوب العمل أمر مفروغ منه ومجمع عليه، إذا قيل إن فلانًا قتل فلان، وجيء بشاهدين عدلين اقتنع القاضي بعدالتهما، سيحكم على القاتل، إما بالقصاص أو بالدية بناء على رأي أولياء الدم، والمهم أن الدعوة هنا ثبتت بشاهدين والشاهدين خبر آحاد، بل إن أكثر الأعداد خبر آحاد أيضا، وهو حد الزنا الذي تحوط فيه الشرع، فلم يثبته إلا بأربعة شهود، الأربعة شهود حد الزنا إذن الدماء تراق، الأعراض رجل يرجم حتى الموت، أو امرأة بخبر آحاد، نقتص من رجل قيل عنه: إنه قتل بخبر آحاد، نثبت دعاوى الأموال يعني لو أن فلانا ادعى على فلان أن عليه مالا له مثلا أيًا كان الرقم، وأتى بشاهدين وهذان الشاهدان عدلان، واقتنع القاضي بعدالتهما سيحكم في الأعم

الأغلب بأحقية صاحب المال في دعواه التي أقامها مهما أنكر المدعي؛ لأنه لن نطلب رأي المدعي إذا ثبت الأمر بالبينة، ولن ننتقل إلى أن يحلف إلا بعد عجز المدعي عن البينة. أما وقد أتى بالبينة، وهي أربعة شهود أو شاهدان في قضية المال، فإن المسألة محسومة إذن: الدماء، الأعراض، الأموال كلها تثبت حقوقها بخبر الآحاد في مثلا: صيام رمضان، وفي إفطار شوال، وفي حج المسلمين في ذي الحجة يثبت بواحد فقط ليس حتى باثنين، بواحد عدل رأى الهلال، إذا أخبرنا الثقة العدل أنه رأى هلال رمضان وجب على الأمة أن تصبح صائمة، والذي سيصبح مفطرًا إن لم يكن صاحب عذر سيكون آثما، اللهم إلا إذا أقام الأدلة على أن الرائي للهلال غير عدل، وهذه لا يستطيع أن يثبتها لأن أصلا عدالته تثبت عند الحاكم أو من ينيبه الحاكم، هو سيشهد برؤية الهلال، فإذن لا يستطيع مسلم أبدا أن يصبح مفطرا، والناس صائمون، وكل ذلك انبنى على خبر الواحد. كذلك إذا أخبرنا راءٍ أنه رأى هلال ذى الحجة أو رأى هلال شوال، سيصبح الناس مفطرين بناء على هذا سيحج الناس من عامهم هذا بناء على القول بأنه رأى هلال ذي الحجة، ويوم التاسع من ذي الحجة ستتوجه الملايين إلى عرفة؛ ليقف الناس بعرفة الذي هو أهم أركان الحج، إذن أمور الشرع كلها تثبت بخبر الآحاد. في العبادات في الأحكام في الحدود، في عقد النكاح يحتاج إلى شاهدين فقط، إشهار العقد ليس واجبًا عند كثير من أهل السنة فقط الركن في العقد هو أن يكون هناك شاهدان مع الولي، ومع الإيجاب والقبول، هذان الشاهدان سيشهدان أن فلانًا تزوج فلانة، فثبت هذا النكاح، وتنبني عليه أحكام كلنا نعرفها، والمهم أن قضية وجوب العمل لا علاقة لها بقضية الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من

العلم، وأنا أرجو ألا نخدع بالذي يربط أنا أنقل الآن عن أئمتنا أئمة أهل العلم، وهذه أمور أجمعت الأمة يجب على الأمة العمل بما غلب على ظنها الذين يقولون: أن خبر الآحاد يفيد الظن لم يتوقف أحد أبدا في وجوب العمل بها. وأنا أكاد أقطع بأن النتيجة الوحيدة المترتبة على هذا النقاش هي عند الترجيح بمعنى أنه إذا تعارض عندي حديثان، ولم أستطع الجمع بينهما أو بين القرآن والسنة مثلا، ولم أستطع الجمع بينهما إذن سنقول إن الخبر المتواتر سواء كان قرآنًا أو حديثًا سيتقدم على خبر الآحاد، وهذا أمر بدهي لا علاقة له بأن الآحاد لم يقولوا: يسن أو لا يجب العمل به إنما هذا أمر يتعلق بدرجة ثبوت الدليل، والأصوليون عندهم من الأدلة: قطعي الثبوت، ظني الثبوت، قطعي الدلالة، ظني الدلالة، بل إني أقول إن مبحث التواتر والآحاد من أساسه ليس مبحثًا حديثا، إنما هو مبحث أصولي نقل إلى المحدثين من أهل الأصول. أما المحدثون فمعنيون بقضية واحد، وهي ثبوت صحة الحديث بمقاييسهم التي ارتضوها، وأجمعوا عليها من دراسة الإسناد ودراسة المتن، ومتى سلم لهم الإسناد والمتن حكموا على الحديث بالصحة، وأجمعوا على وجوب العمل به ما لم يصرف عن العمل بصارف شرعي قامت الأدلة عليه. هذه قضية المحدثين، وكل دراساتهم تجري في هذا النهر: إثبات صحة الحديث، وكل علوم المصطلح، وكذا تسير في هذا الإطار إذن نحن نختم، ونقول: إنه يجب على الأمة العمل بخبر الآحاد، وأنه لا تلازم بين القضيتين التي ناقشناهما، والذي يصنع التلازم إنما يريد أن يهدر السنة، وأن يسقط مكان حديث الآحاد في وجوب العمل به على خلاف ما أجمعت عليه أمة الإسلام هذا وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 12 حديث الآحاد (3).

الدرس: 12 حديث الآحاد (3).

شبهة: أن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر حديث الآحاد (3) شبهة: أن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد: فقلنا: إن الحديث المتواتر يفيد العلم الضروي أي: بمجرد ثبوت التواتر لا يحتاج الخبر بعد ذلك إلى مزيد من الأدلة، بل يصبح العلم به مقطوعًا بشكل ضروري. وأما خبر الآحاد فقد تعددت آراء العلماء فيه إلى فريقين رئيسين: الفريق الأول: يرى أن خبر الآحاد يفيد الظن بمعنى أن نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- مظنونة لا نقطع يقينًا بأن النبي ـصلى الله عليه وسلم قاله. والفريق الثاني: يرى أن الخبر الآحاد أو خبر الآحاد يفيد العلم القطعي، يعني نقطع بنسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قاله، لكن القطع هذا بعد نظر واستدلال أي: بعد دراستنا لأحوال السند والمتن وسلامة كل منهما في ضوء المعايير المعتبر عند العلماء؛ نقطع بعد هذا إن سلم لنا الإسناد والمتن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال هذا الحديث. وقلنا إن أغلب علماء المدرسة الحديثية على هذا الرأي على تفاوت بينهم في إعطاء هذا الحكم لكل أخبار الآحاد قصر ذلك على أحاديث الصحيحين، كما قال ابن الصلاح مثلا، أو أن نضيف إلى أحاديث الصحيحين أحاديث أخرى احتفت بها قرائن أكسبتها مزيدا من القوة كما قال ابن حجر، أو نعطي هذا الحكم لكل أخبار الآحاد، كما ذهب إلى ذلك: ابن حزم، والشيخ شاكر، والشيخ الألباني، وكثير من علماء الأمة. أيًاما كان الأمر فهذه مناقشة لقضية الثبوت، لكن الوجوب العمل بحديث الآحاد لم يختلف عليه أحد من سلف الأمة -رضي الله عنهم أجمعين- يعني قضية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني قاله بشكل قطعي، أو يغلب على ظننا أنه قاله هذه قضية تتعلق بدرجة ثبوت الحديث وليست بقضية العمل به؛ ولذلك فإن الفريقين معا الذي يقول بالظن، والذي يقول بالقطع قد اتفقا على وجوب العمل بخبر الآحاد.

اليوم نتكلم عن قضية جديدة وهي الشبهات التي أثارها من أثارها حول حجية خبر الآحاد وثبوته، أثاروا شبهًا سنستعرضها ونرد عليها. مثلا يقولون: إن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن، وقد ذم الله تبارك وتعالى في كثير من آيات القرآن الكريم الارتكان والاحتكام إلى الظن في كثير من الآيات، من ذلك مثلا قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28)، وفي غير ذلك من الآيات التي تدل على أن الظن مذموم، وأنه لا يجب العمل بما يفيد الظن، هذه شبهة. وأيضًا في نفس سورة النجم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (النجم: 23) وفي الحديث الصحيح: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) وهذا حديث رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الأدب باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ورواه الإمام مسلم أيضا في كتاب: البر والصلة باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش وغيرها، وهذا الحديث من رواية أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- هذه شبهة: أن عملنا بخبر الآحاد يقتضي العمل بالظن والقرآن الكريم ذم الظن، وهنا في الرد عليهم أمران: الأمر الأول: أن القول بأن خبر الآحاد يفيد الظن ليس مجمعًا عليه إنما معظم علماء الأمة على أن، وهذا الحصر لا نبالغ فيه، إذا قلنا: إن معظم علماء الأمة على العمل، أو على أن خبر الآحاد يفيد القطع لا نبالغ وخصوصًا من أبناء المدرسة الحديثية المباركة، بل إننا قلنا في الدرس الماضي: إن مبحث التواتر والآحاد أصلًا ليس مبحثًا حديثيًّا، فالمحدثون معنيون بثبوت صحة الخبر، ومتى ثبتت صحته في ضوء معاييرهم من دراسة الإسناد، ومن دراسة المتن يقطعون بنسبته

للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك فإنا سنقف وقفة أخرى مع قضية الظن والعمل به، لكننا نرد على القول بأن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن، والظن مذموم. نقول: إن هذه المقدمة الأولى، وهي أن بخبر الآحاد يقتضي العمل بالظن ليست مسلمة؛ لأن كثيرا من علماء الأمة لم يقولوا بظنية خبر الآحاد في الثبوت، وإنما قالوا بقطعية ثبوته للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن قد استعرضنا هذه الآراء بإيجاز في الدرس الماضي، هذا جانب. والجانب الآخر: أن الظن قسمان: إذا جاز التعبير هناك ظن مذموم، وهناك ظن غير مذموم أيضا بدلالة الآيات القرآنية. الظن المذموم هو: الظن غير المبني على أدلة كأننا نتوهم، فنستطيع أن نقول إن الظن المذموم في هذه الحالة إنما هو الظن المرادف للوهم أي: الذي لا يعتمد على أدلة، وأيضًا القرآن الكريم اعتبر الظن، ونحن في الدرس الماضي عرفنا الظن، وقلنا في تعريفاته: تعريفات متعددة قالها العلماء منها: أن الظن التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم، وهذا قاله: الفيروزآبادي في (القاموس المحيط) وكأنه تعريف لغوي، وليس تعريفا اصطلاحيًا، الجرجاني في (التعريفات) يقول: إن الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، يعني ترجيح أحد الاحتمالين كما يقول الأصوليون. إذن الظن هو ترجيح أحد الاحتمالين بناء على قرائن يعني: محمد مسافر أو غير مسافر إذا قلت: إنه مسافر على غلبة الظن، يعني ترجح لدي بقرائن أنه مسافر ليست عندي أدلة أنه قد سافر، فأنا أقولها على سبيل الظن، يعني ترجيح أحد

الاحتمالين على الآخر مع احتمال الرأي الآخر أيضًا، هذا تعريفه، أو ترجيح أحد الاحتمالين أو العمل بالقول الراجح إلى آخر التعريفات التي قالها أهل الأصول. قلنا: إن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها، هذا مع أننا لم نسلم -نكررها كثيرا؛ لأننا أبناء المدرسة الحديثية، ومادتنا هذه لأبناء التخصص الحديثي- لا نسلم أبدا بأن خبر الآحاد يفيد الظن، ولكن مع التسليم الجدلي مجاراة لمن يقول بذلك نوضح أن الظن في كل الأحوال ليس مذمومًا، يعني هم اعتمدوا مثلا على الآية التي ذكرناها في سورة النجم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ} (النجم: 23) {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وعلى مثلها من الآيات وعلى حديث: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) إلى آخره هناك آيات كثيرة اعتمدت الظن كدرجة من درجات العلم من ذلك مثلا قول الله -تبارك وتعالى-: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249). وقبل ذلك في سورة البقرة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 44 - 46) وفي سورة المطففين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} (المطففين:1 - 4) وفي سورة ص قول الله تبارك وتعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (ص: 24). إذن هنا الظن كثير من العلماء يقولون أنه استعمل بمعنى: اليقين يعني هو مرادف لليقين بأنه اعتمد على أدلة قطعية، وحتى لو أبقيناه على ظاهره من ترجيح أحد الاحتمالين، فالآيات تدل على أن الظن الراجح الذي اعتمد على القرائن إنما يعمل به {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (ص: 24) {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} إلى آخر ما ذكرنا من الآيات.

إذن الظن على مراتب منها ما يرادف اليقين كما معنا، ومنها ما هو دون ذلك بناء على الأدلة التي يعتمد عليها الخبر لو أنني قلت إن خبر الآحاد ظني بمعنى: احتمال الخطأ والوهم على الراوي، فإن هذا الاحتمال يجوز بعد التثبت والتأكد من عدالة الراوي، ومقابلة روايته بروايات أقرانه من المحدثين ومن طلاب العلم الذين يتلقون عن المشايخ إذن يصبح الاحتمال بخطئه ووهمه بعد هذا البحث والاستدلال، هذا الاحتمال يصبح ضعيفًا، وبالتالي ينتقل خبر الآحاد من إفادته بالظن إلى إفادة العلم اليقيني ولا سيما إذا احتفت به قرائن تكسبه مزيدا من القوة كما ذكرنا قبل ذلك مثل أن يكون في الصحيحين أو في أحدهما مع العلم بأن الأمة قد تلقت الصحيحين بالقبول كما نعلم جميعًا. أيضًا الظن يستند إلى أدلة قطعية من القرآن الكريم أقصد العمل بالظن يستند إلى أدلة قطعية من القرآن الكريم مثل ماذا مثلا حرمة الدماء وحرمة الأموال مقطوع بهما؛ لأنها ثابتة بالقرآن الكريم وثابتة أيضًا بالأحاديث، لكن الآن أعتمد على القرآن الكريم؛ لأن الجميع مجمع على أنه يفيد القطع في ثبوته نحن نعلم ذلك جيدا، فكل القرآن ثبت بالتواتر، فحين يقول الله ـتبارك وتعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الأنعام: 151) في أكثر من آية والآيات التي توعدت {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (النساء: 93) إلى آخره كل هذه الآيات بالإضافة إلى الأحاديث أفادت بشكل قطعي أن الدماء محرمة، ومع ذلك حين نقيم الحد على القاتل، فإننا نقيمه بخبر الآحاد بمعنى: أن اثنين من الشهود العدول يشهدان بأن هذا القاتل قد قتل فلانًا، وبالتالي متى ثبتت عدالتهم عند القاضي أو عند الحاكم، فإنه يقتص من الجاني امتثالًا للقرآن الكريم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179) إلى آخر ما نعلم من أدلة.

إذن هذا الذي يقولونه من أن الظن وهم، وأنه لا يعمل به رددنا عليه، وأن العمل بخبر الآحاد معناه العمل بالوهم رددنا عليه بالقرآن الكريم بالإضافة إلى السنة المطهرة بمعنى أن الظن حتى مع القول بأنه ترجيح أحد الاحتمالين، فإنه يجب العمل به. كما قلنا قبل ذلك: إن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها بل كما قلنا: إن القرآن الكريم قد أثبت أمورًا مقطوعًا بها بأدلة ظنية، كما قلنا في تحريم القتل، وفي الاعتداء على الأموال، وفي الاعتداء على الأعراض ونحو ذلك، ولذلك أجمع علماء الأمة على أن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها، وهذا أمر ذكرناه، نحن هنا فقط نناقش أن الظن ليس معناه الوهم - كما يعني- ينتزعون آية من القرآن الكريم يحاولون أن يحملوا عليها كل معاني الظن الواردة في القرآن الكريم، وفي السنة ثم يقولون: إن خبر الآحاد إذا عملنا به فقد عملنا بالظن، والعمل بالظن مذموم بنص القرآن الكريم. فإننا نرد عليهم بأن الظن المذموم هو المرادف للوهم، وهو الخالي من الأدلة أو حتى من القرائن الترجيحية، وأثبتنا بالأدلة من خلال القرآن الكريم أن هناك آيات كثيرة اعتبرت الظن درجة من درجات العلم، وبنت عليه أحكامًا، وقد ذكرنا هذه الآيات، بل قلنا: إن القرآن الكريم أسس عقوبات بأدلة ظنية على أمور قطع بتحريمها -كما أشرنا. إذن هذا الظن الذي يتكلم عنه المتكلمون هو غير الظن الذي يقوله أهل العلم من أن الظن معناه: أن نسبة الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يغلب على ظننا أنها ليست قاطعة، ومع ذلك نقول: إنها ليست مسلمة على الأقل عند معظم أهل المدرسة الحديثية.

شبهة: أن العمل بخبر الآحاد يقتضي العمل بما ليس لنا به علم.

شبهة: أن العمل بخبر الآحاد يقتضي العمل بما ليس لنا به علم أيضًا يقولون: إن العمل بخبر الآحاد يقتضي العمل بما ليس لنا به علم، وهذا مخالف لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) نقول: هذا مبني على وهمهم أيضًا من أن خبر الآحاد يفيد الظن، والظن ليس درجة من درجات العلم، بل هو وهم. رددنا على هذه، بل إننا نقول: إن العمل بخبر الآحاد هو تمسك بما لنا به علم، وإن عدم العمل بخبر الآحاد هو فعلا يدخل تحت قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36). فقد انعقد إجماع من يعتد به من أهل العلم على حجية خبر الواحد، وعلى وجوب العمل به والإجماع قاطع، فاتباعه -اتباعنا للإجماع الذي انعقد على حجية خبر الآحاد إنما هو إجماع لدليل قاطع لا يكون أبدا- اتباعًا لما ليس لنا به علم، بل العكس هو الصحيح، ولذلك يقول الشوكاني -رحمه الله تعالى- في: (إرشاد الفحول) في جزء 1 ص212 يقول: "ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه" وهكذا خبر الواحد أيضًا إذا تلقته الأمة بالقبول، ومن هذا القسم أحاديث صحيح البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- هذا كلام الشوكاني. يعني هو يقول: إن الإجماع قد انعقد على العمل بخبر الآحاد، وما دام الإجماع قد انعقد عليه، فإنه قد قطع بصدقهم، وأيضا إذا تلقته الأمة بالقبول كما ذكرنا قبل ذلك، كما في حديث أو أحاديث صحيحي البخاري، ومسلم -رحمهما الله تعالى- إذن العمل بخبر الآحاد ليس اقتفاء لما ليس لنا به علم كما توهموا، وإنما

هو عمل بما تأكد لدينا، وأصبح مقطوعًا به من أنه صادق بإجماع الأمة عليه، وأيضًا بالقرائن الأخرى التي ذكروها والتي أشرنا إليها، هل ينازع أحد في أن القصاص يثبت بشاهدين، هذا انعقد الإجماع عليه هل يجادل أحد؟ في الإجماع على أن الدعاوى في الأعراض تثبت بشاهدين في القذف مثلًا، وفي الزنا بأربعة شهود، وقلنا قبل ذلك: حتى إذا أخذنا بالزنا، فإن أربعة شهود لا يصيرون الخبر متواترًا، وإنما هو أيضا خبر آحاد على ما ناقشناه في قضية العدد الذي أشاروا إليه في قضية ثبوت الخبر المتواتر أو الأعداد المطلوبة في ثبوت الخبر المتواتر. إذن الظن درجة من درجات العلم معمول بها قد يرادف اليقين أحيانا على ما ذهب إليه كثير من المفسرين في تفسير الآيات التي أشرنا إليها، وحتى مع القول بإفادته الظن الراجح، فإنه قد ثبت بالأدلة أننا يجب علينا العمل بما غلب على ظننا. يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى- تأكيدا لكلام، يقول: وهذه الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت؛ لأنها استندت إلى أصل معلوم فهي من قبيل المعلوم جنسه، فعلى كل تقدير خبر واحد صح سنده، فلابد من استناده إلى أصل في الشريعة القطعية، فيجب قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقًا، كما أن ظنون الكفار غير مستند إلى شيء، فلابد من ردها. يعني يريد أن يقول: أخبار الآحاد أيضًا استندت إلى أصل في الشريعة قطعي المسائل التي ذكرناها تحريم الدماء والأموال ثبت بأصل قطعي تحريم الربا ثبت بأصل قطعي إلى آخره، فإذن يجب العمل، حتى مع القول بهذه الظنون إذا يعني أسررنا على أنها ظنية فقط، فنقول إن العمل بها واجب، وبالتالي تنهدم حجتهم تماما في أن الآية: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) أو الآيات الواردة في الظن يعني تبعد العمل بخبر الآحاد نقول: هذا قول مردود على أصحابه.

أيضًا من الشبه التي أثاروها في هذا الصدد: الاستناد إلى أحاديث ووقائع وقعت في عصر الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- من ذلك مثلا قصة ذي اليدين في الصلاة وقصة عمر -رضي الله تعالى عنه- في استئذان أبي موسى عليه، وقصة أبي بكر في ميراث الجدة هم يزعمون أن الصحابة توقفوا في قبول خبر الآحاد. قصة ذي اليدين مذكورة في الصحيحين ذكرها البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام إلى آخره، ورواه أيضا الإمام مسلم في كتاب: المساجد باب السهو في الصلاة والسجود له، روى مسلم -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ((صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر، فسلم ركعتين -يعني: إما أنه كان يصلي الظهر أو يصلي العصر فسلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ركعتين يعني: لم يتم الصلاة أربعًا- ثم أتى جذعًا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبًا وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس)) يعني: الذين في المقدمة قالوا للرسول -صلى الله عليه وسلم- قصرت الصلاة؟ يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- قصرت الصلاة؟ هذا سؤال لا يوجد فيه أداة الاستفهام هل الصلاة قصرت يا رسول الله بعد أن كنا نصليها أربعًا أصبحنا نصليها ركعتين فقط، فقال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقام رجل هو اسمه ذو اليدين فقال يا رسول الله: "أقصرت الصلاة أم نسيت". نقول الصحابة وأدبهم يعني نلفت النظر يعني يقول: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنه يعطي الاحتمال الأول؛ لأن الصلاة قصرت بتكليف شرعي، ويستبعد النسيان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من الأدب في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ((نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- يمينا وشمالا فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين. فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- أتم الصلاة فصلى ركعتين وسلم، ثم سجد للسهو بعد ذلك)) إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتم الصلاة بناء على إخبار ذي اليدين بعد أن سأل الصحابة -رضي الله عنهم.

القصة كما هي واضحة أن الذين يشككون في حجية خبر الآحاد يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل خبر ذي اليدين إلا بعد أن سأل الصحابة، ذو اليدين هو: الخرباط بن عمرو السملي يقال له: ذو اليدين؛ لأنه كان في يديه طول، وفي بعض الأقوال أنه كان قصير اليدين، فسمي بذي اليدين لذلك، وهو صحابي جليل ترجم له العلماء الذين كتبوا في الصحابة منهم: ابن حجر، وابن الأثير وابن عبد البر في كتبه المشهورة في الصحابة. نقول ردًا على حديث ذي اليدين -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يتأكد من صدق الخبر ليس شكا في كلام ذي اليدين، فمن المعلوم أن الصحابة كلهم عدول ثقات يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي مدحهم، وأثنى عليهم في الأحاديث النبوية، وأيضًا القرآن الكريم قبل ذلك مدحهم في كثير من الآيات، وهذا أمر آخر نعلمه وثابت بالأدلة، الصحابة -رضوان الله عليهم- كما في قصة ذي اليدين، وهذا منهج تعلموه من النبي -صلى الله عليه وسلم- وكما سيأتي في الرد على قصة عمر في الاستئذان، وعلى قصة أبي بكر -رضي الله عنه- في ميراث الجدة، الصحابة -رضوان الله عليهم- يعني يؤسسون منهجًا في التحري والتثبت. لكن نريد أن نوضح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشك في صدق ذي اليدين -رضي الله تعالى عنه- إنما فقط يريد أن يعلم الأمة التثبت والتحوط في رواية الأخبار ما هي الدرجة التي وصل إليها الخبر بعد أن تكلم بعض الصحابة في بعض الروايات أن الذي أيد ذا اليدين هو أبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- إذن أيضًا الخبر في إطار خبر الآحاد، يعني: لم يصبح بعد متواترًا إنما هو خبر آحاد بثلاثة أو بأقل من ذلك أو بأكثر من ذلك. أيضًا قصة عمر في الاستئذان -رضي الله تعالى عنه- خلاصة الحديث أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب، والحديث من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- يقول: كنا في مجلس عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبًا حتى

وقف فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع))، قال أبي بن كعب: وما ذاك قال استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئته اليوم، فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثًا، ثم انصرفت قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك قال استأذنت كما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فقال الفاروق رضي الله عنه: فو الله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا, فقال أبي بن كعب: فو الله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنًا قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيت عمر, فقلت قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا". هذا الحديث رواه كما قلت البخاري ومسلم في كتاب: الاستئذان عند البخاري في كتاب الاستئذان: باب التسليم والاستئذان ثلاثا. ورواه مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الآداب باب الاستئذان أيضًا قصة أبي بكر -رضي الله عنه- حين توقف في ميراث الجدة لما سألته أو لما جاءته تسأله حقها في الميراث قال: لا أجد لك في كتاب الله شيئا, ولا أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى لك بشيء. هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب: الفرائض باب في الجدة، ورواه الترمذي في كتاب الفرائض أيضا قال: باب ما جاء في ميراث الجدة وعقب عليه الترمذي -رحمه الله تعالى- فقال: هذا أحسن وأصح, والحديث ورد عند الترمذي بروايتين يقول عن الرواية الأخرى: هذا أحسن وأصح من حديث ابن عيينة يعني يرجح إحدى الروايتين على الأخرى, لكنه على كل حال حكم بالصحة عليهما معًا غير أن إحداهما أصح من الأخرى على ما يقول الترمذي.

إذن هذه بعض الأدلة النبي -صلى الله عليه وسلم- توقف في ذي اليدين, عمر توقف في حديث الاستئذان, أبو بكر توقف في ميراث الجدة نقول: إن الفهم غير هذا بالمرة عندنا عشرات الأدلة على أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- اعتمدوا على أخبار الآحاد في كثير من الأمور، إنما المسألة هنا أنه كما قلنا مزيد من التحوط والتثبت, لننظر إلى القصتين: القصة الأولى: نبدأ بها أبي بكر ميراث الجدة ليس مذكورًا في القرآن الكريم، ولا هو من الأحاديث المشهورة, وهذا أمر يتعلق بحكم شرعي, فنعطي الجدة نصيبها في الميراث لم يقل بذلك إلا صحابي واحد إذا أراد الصديق -رضي الله عنه- أن يدعم قول الصحابي بصحابي آخر في هذا الأمر الخطير الذي يندر وقوعه، وهذا حكم سيظل ثابتًا إلى يوم القيامة كل ذلك يعلمه أبو بكر أإذا احتاج إلى تدعيم رأي الصحابي بصحابي آخر قلنا: إنه يشك في الصحابي الأول؟ أهذا فهم؟ لا والله إن الرجل يشعر بالمسئولية تجاه الأحكام الشرعية وأن الأحكام ينبغي التحوط والتثبت منها لأنها أحكام شرعية تستمر إلى يوم القيامة، فأراد أن يدعم قول الصحابي بصحابي آخر، وأيضًا إضافة إلى أنهم يعلموننا التثبت أو التحوط في رواية الأخبار حتى لا نجترئ عليها فيقع بعضنا في الخطأ والوهم أحيانًا. كذلك نفس القصة مع أبي موسى الاستئذان يعني أمر غريب أن تستأذن ثلاث مرات، فإن لم يؤذن لك فارجع، وقد مضت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومضت خلافة أبي بكر ومضى جزء أيضًا من خلافة عمر كل ذلك لم يأت فيه موقف احتاجوا فيه إلى هذا الحديث، فلما استأذن أبو موسى ثلاث مرات، ولم يؤذن له رجع، فأراد عمر أن يؤكد نفس الخط الذي التزم به الصحابة، وهو أنهم ينبغي عليهم التثبت والتحوط في قبول الأخبار.

إذن لا عمر شك في خبر أبي موسى، ولا أبو بكر شك في خبر المغيرة بن شعبة الذي روى حديث ميراث الجدة إنما هو مزيد من التحوط ما الدليل على ذلك؟ الدليل على ذلك أدلة كثيرة: أولًا: حين جاء شاهد مع أبي موسى أو مع المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى- عن الجميع لم يتحول الخبر إلى خبر متواتر، بل ظل كما هو كما نعلم جميعًا خبر آحاد، فاثنان خبر آحاد بإجماع أهل العلم حتى بإجماع من يثير الشبه أو من يثيرون تلك الشبه حول حجية خبر الآحاد، أو العمل به أيضا يعلمون أن رواية اثنين لا تحول الخبر إلى خبر متواتر إذن هم اعتمدوا أيضًا على خبر الآحاد. أيضًا نحن عندنا عشرات القصص تثبت أن الصحابة -رضي الله عنهم- في كثير من المواقف اعتمدوا خبر الآحاد حتى لو كان الذي رواه واحدًا فقط. عندنا مثلا يعني عمر في قصة ذهابه إلى الشام، وحين بلغوا أن هناك طاعونًا في الشام وتساءلوا أندخل أم نرجع أو نحجم عن الدخول، فلم يكن الحديث قد بلغهم فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وشهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا كان الطاعون بأرض قوم فلا يخرج منهم أحد ولا يدخل إليهم أحد)) معنى الحديث هكذا، الصحابة عملوا على رأسهم عمر، وهذا خبر أتى به واحد، وهو أيضًا يتعلق بحكم شرعي. إنما أحيانا كما هو واضح من السياقات أن القصة نفسها فيها نوع من الطرافة أو من الغرابة التي تحتاج إلى مزيد من التأكيد لأن الأخبار التي نقلها الصحابة، والتي احتاجت إلى تدعيم إنما هي أخبار تتعلق بأحكام شرعية مستمرة إلى يوم القيامة. الصحابة يعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) هذا

شبهة: أن خبر الآحاد لا يعمل به في العقائد.

النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم الأمة أننا نعمل بخبر الواحد ((نضر الله عبدا)) قد يكون واحدًا ((سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))، وعلى كل نحن سنأتي بعد ذلك إلى مجموعة من الأدلة التي ذكرها العلماء في أن الصحابة -رضي الله عنهم- قد عملوا أو الأدلة على أن أخبار الآحاد يعمل بها في كل أمور الدين من عقائد وغيرها. شبهة: أن خبر الآحاد لا يُعمل به في العقائد من الشبهات التي يثيرونها أن خبر الآحاد لا يعمل به في العقائد؛ لأن العقائد كما يزعمون، وكما يقولون تتضمن الإيمان والكفر، وينبني عليها دخول الناس الجنة أو ذهابهم والعياذ بالله إلى النار، فلابد من أن تعتمد العقائد على أدلة قطعية، وليس على أخبار آحاد. هذا أيضًا قول لا يعتمد على أدلة أيضا وأنا يعني أدخل هذه مع تلك يعني مع القضية الأولى لماذا؟ لأننا سنثبت من خلال عشرات الأدلة أن الصحابة وغيرهم من سلف الأمة الصالح قد عملوا بأخبار الآحاد في العقائد، وفي الأحكام وفي غير ذلك، وسننقل نصوصا عن العلماء هي في نفس الوقت تعتبر ردًا على قضية اتباع الظن وعلى قضية: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) وعلى قضية أن بعض الصحابة رد حديث الآحاد فما دام عندنا عشرات الأدلة أنهم عملوا بها إذن هذه مواقف احتاجت إلى مزيد من التثبت. النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس إلى العقائد، وإلى الأحكام وإلى العبادات والأخلاق يعني دعاهم إلى الإسلام بكل جوانبه وبكل تفصيلاته.

كل الأمة تلقت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- موقنين بصحتها عالمين يقينا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء بها أي: بالعقيدة كما جاء بالصلاة والزكاة جاء بأحاديث التوحيد، وهي عقيدة، وجاء بعذاب القبر أحاديث عذاب القبر ونعيمه، وجاء بأحاديث الشفاعة والحوض والميزان بعض هذه الأمور ثبت تواترها، وبعضها آحاد وكلها عقائد، المتتبع للصحابة رضوان الله عليهم، والأمة من بعدهم أهل السنة والجماعة تلقوا الأخبار كل الأخبار التي جاءت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتسليم وبالقبول من غير تفريق بين متواتر وبين آحاد، ومن غير تفريق أيضا بين ما يتعلق بأمور المعتقد، وما يتعلق بالأحكام العملية يعملون بكل الأحاديث في كل المواضيع طالما ثبتت صحة الحديث عندهم. وهذا الحديث أول الأحاديث في كتاب صحيح الإمام مسلم: لما ظهرت بدعة القدر في البصرة، وكان أول من قال بها: معبد الجهني والحديث يحيى بن يعمر، ومعه رفيق آخر قالوا: ذهبنا إلى حج أو عمرة يقول: لو وفق لنا أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنسأله عن ذلك فوفق لهم عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه- أنا أذكر هذا الموقف من عبد الله بن عمر يستند للحديث وروايته آحاد، وهو يتكلم عن العقائد، فهذا موقف الصحابة يعني هذا الحديث هو من ضمن الأدلة على حجية خبر الآحاد. ومن ضمن الأدلة على أن الصحابة يعملون بخبر الآحاد ردًا على من زعم أن موقف أبي بكر في ميراث الجدة، وموقف عمر -رضي الله عنه- يبين أن الصحابة قد توقفوا؛ فعبد الله بن عمر لما جاءه الرجلان يسألانه، فقال لهم: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر" ثم روى الحديث المشهور المعروف عند المحدثين بأنه حديث جبريل عليه السلام في أنه سأل

النبي: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد)) إلى آخر الحديث وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، وعن الإسلام وعن الإحسان، وعن الساعة وأماراتها إلى آخره. إذن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر، اكتفى في هذه المسألة العقدية الكبيرة الخطيرة بالاحتجاج بالسنة مع أنه قد جاءت آيات في إثبات عقيدة القدر في القرآن الكريم كثيرة جدا مما يدل دلالة قاطعة على الأمرين معًا الذين أركز عليهما على أن الصحابة يعملون بخبر الآحاد، وأن الاستدلال بموقف أبي بكر وعمر إنما هو استدلال خاطئ، وأيضا يعملون بهما أو بخبر الآحاد في الأحاديث العقدية؛ لأن أيضا الأحاديث العقدية شبهة أخرى، فنحن نتكلم عن الشبهتين معا بعد أن وضحناهما وذكرنا بعض الأدلة على كل واحدة، لكن نشير إلى أن الصحابة عملوا بأخبار الآحاد في العقائد. بل إنني أقول: الخبر الوارد في حديث الطاعون يعتبر عقيدة هل ندخل أو لا ندخل؟ نؤمن بالقدر أو لا نؤمن بالقدر؟ ماذا يفيد دخولنا؟ وماذا يفيد عدم دخولنا؟ هل هو اعتراض على القدر؟ هل هو كذا؟ ولذلك في بعض الروايات أن رجلا قال لعمر: أتفر من قدر الله، قال نفر من قدر الله إلى قدر الله يعني أين سنذهب نحن تحت قدرة الله وعظمته، ونعيش على أرضه وتحت سمائه، فأين نذهب؟ حتى لو لم ندخل فنحن لم نفر من القدر. إذن هي مسألة عقدية الصحابة كلهم استندوا فيها إلى حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله تعالى عنه. الخلاصة في كل ذلك أن الصحابة والأمة كلها -كما سنذكر بعد قليل من

أقوالهم- أن العمل بخبر الآحاد في العقائد وفي غيره أمر مجمع عليه إنما كنا نتكلم عن الصحابة؛ لأن الذين أثاروا الشبه حاولوا أن يستندوا إلى موقف أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في قصة الاستئذان وميراث الجدة على أن الصحابة لا يعملون بخبر الآحاد، وقلنا: إن هذا أمر مردود عليهم. أما من ناحية أن سلف الأمة كلهم ساروا على العمل بخبر الآحاد في العقائد وغيرها، فأكثر من أن تحصى، يعني عبد الله بن أحمد في زوائده يروي الحديث بإسناده أن شريكة قال حدثني أبو معمر حدثني عباد بن عوام قال قدم علينا شريك فسألناه عن الحديث: ((إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان)) إلى آخره قال: إن الذين جاءوا بهذه الأحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن، وبأن الصلوات خمس، وبحج البيت، وبصوم رمضان فما نعرف الله تعالى إلا بهذه الأحاديث، انظروا إلى الكلام الذي يكتب بماء الذهب يعني كيف تفرق بين العقيد وبين غيرها، هؤلاء القوم الذين تقول إن الخبر الآحاد يعني خبرهم أو خبر الآحاد الوارد عنهم لا يعمل بهم في العقائد عملنا بأحاديثهم في الصلاة وفي حج البيت يعني: في الأحكام وبصوم رمضان، فكيف نفرق بين هذه وبين العقيدة؟. أيضًا يعني البزدوي يقول نقلا عن بعض أهل الحديث في: أصوله في جزء 1 ص154: إن خبر الآحاد يفيد علم اليقين معللين بذلك، وقد وردت آحاد في أحكام الآخرة مثل: عذاب القبر، ورؤية الله تعالى بالأبصار، ولا حظ لذلك إلا العلم. وأبو الحسن الأشعري -رحمه الله تعالى- في (الإبانة) يقول: وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله تعالى عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة، ولا ولدا إلى آخره، يقول أبو الحسن

الأشعري، وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. يقول أبو مظفر السمعاني -رحمه الله-: وقد أثبت هو يعني: يثبت إفادة خبر الواحد بالعين بكلام نفيس قال -رحمه الله تعالى- شغلا أو اشتغالًا بالرد على من زعموا أن خبر الآحاد لا يعمل به يقول: ينقل رأيهم إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم، وهذا رأي شغب به المبتدعة في رد الأخبار، ويرد عليهم، ويقول: إن صح الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورواه الثقات، والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا قول عامة أهل الحديث، والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال، ولابد من نقله بالتواتر؛ لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول واستطرد الرجل -رحمه الله تعالى- في كلامه هذا ذكر فيه مجموعة من الأدلة على أن خبر الآحاد يعمل به في العقائد، وفي الأحكام، وفي كل أمور الشرع، ولا تفرقة بين هذا وذاك، وجعل الرجل يذكر أدلة كثيرة على هذا. مثلا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا بكر ينادي في موكب الحج بمنى ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة أليست هذه عقيدة، وهذا حديث أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير يعني من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - النبي -صلى الله عليه وسلم- ((بعث معاذا إلى اليمن)) أريد أن أبين أن عمل الصحابة جرى على قبول خبر الواحد في العقائد،

وفي الأحكام وفي التشريعات، وتضافرت عشرات الأدلة على إثبات هذه الحقيقة، وأنه لا ينازع في ذلك إلا كما قال أبو مظفر السمعاني: إلا بعض من يريد أن يضيع السنة، وأيضًا بعض الناس خدع بأقوالهم إما لأنه لم يطلع على الأدلة، أو أنه لم يفهم أو لم يشك في نية هؤلاء القوم في محاولة وضعهم للسنة. إذن الخلاصة من هذا القول أن الشبه التي أثيرت حول {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) أو العمل بالظن أو بعض المواقف من الصحابة رضي الله عنهم، أو محاولة التفريق بين العقائد وبين الأحكام في ثبوت الأدلة، وأن العقائد لا تثبت إلا بالأدلة المتواترة. كل هذه الشبه التي أثاروها مردود عليها بعشرات الأدلة، وليس بدليل واحد وأيضًا بعمل الصحابة وبأقوال الأمة بسلوك الأمة -رضي الله تعالى عنهم- أجمعين يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إفادة خبر الواحد عنده نقل ذلك عن الأئمة: مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة، وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد بن حزم، ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وهذا كلامه في: (الصواعق المرسلة) أو (مقتضى الصواعق المرسلة) وابن خويز منداد في كتاب (أصول الفقه) يعني يقول ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا واحد أو اثنان يقول: يقع من هذا الضرب أيضًا العلم الضروري نص على ذلك مالك. وقال أحمد في حديث الرؤية: "نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها" وأيضا ابن القيم في كلام آخر: يقول الصحابة رضي الله عنهم تلقوا أحاديث الصفات بالقبول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذوها على سبيل القطع واليقين من اعتقاد رؤية الرب، ومن تكليم الله تعالى، ومن ندائه يوم القيامة لعباده بالصبر إلى آخره، ومن نزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، ومما ورد في ضحكه سبحانه وتعالى وفرحه إلى آخره، وإمساك

السماوات على أصبع من أصابع يده، وإثبات القدم له كل ذلك أحاديث الصفات، وهي عقيدة والرؤية إلى آخره كل ذلك اعتقد الصحابة رضي الله عنهم مقتضاها، وآمنوا بها، بل إن الأمة كلها تلقتها بالقبول لم ينازع في ذلك أحد لا نعلم بين السلف في ذلك نزاع، وحتى الذي جرى بين الخلف من تأويل للحديث هذا أمر يتعلق بفهم النص، وليس بالتوقف مع النص أو بالتردد فيه فهم حتى لا يشتبه الأمر يعني من يؤول أحاديث الصفات ويصرفها عن ظاهرها هو لم يرد الحديث؛ لأنه قد ثبتت عنده صحته، فهو عمل به غير أن هذا فهم يحاول به أن يدرك تنزيه الله تعالى مع أننا نقول: إن مذهب السلف في ذلك أسلم وأحكم وأعلم بإذن الله تبارك وتعالى. إذن هذه النقول التي حاولنا أن نجتزئ على بعضها؛ لأن الإطالة فيها كثيرة جدا نقول: حجية خبر الآحاد ولزوم العمل به في أمور الدين كله أمر انعقد عليه إجماع سلف الأمة كما ذكرنا. يقول ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- في (جامع بيان العلم): "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له، ولا يناظر فيه" هذا كلامه في (جامع بيان العلم) في جزء 2 ص96. وقال في كتابه (التمهيد) عن العلماء وموقفهم: "وكلهم يدين بخبر الواحد إن عد في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرع ً اودينًا في معتقده على ذلك جميع أهل السنة" هذا في التمهيد جزء1 ص8. شيخ الإسلام ابن تيمية يعلق على كلام ابن عبد البر فقال: "قلت هذا الإجماع قلت -أي القائل ابن تيمية-: هذا الإجماع الذي ذكره في خبر الواحد العدل في

الاعتقادات يؤيد قول من يقول إنه يوجب العلم، وإلا فيما لا يفيد علما ولا عملا كيف يجعل شرعًا ودينًا يوالى عليه". إذن الخبر المقطوع بصحته تلقته الأمة بالقبول هو خبر آحاد أو خبر متواتر حجة في العقائد، وفي الأحكام، وليس من قبيل الظن، وليس من قبيل أننا نقف ما ليس لنا به علم إلى آخر الشبه التي أثاروها. مر بنا في الدرس الماضي أقوال العلماء في خبر الآحاد، ونزاعهم أو اجتهادهم ليس نزاعًا في الحقيقة حول إفادته للقطع أو للظن بما يغني عن ذكره، لكن نحن هنا معنيون بذكر الأدلة القاطعة من إجماع الأمة -كما قلت- على العمل بخبر الآحاد نثبت به جملة من المسائل، نثبت أن العمل بخبر الآحاد واجب، وهذه قضية قررناها، نثبت أن الصحابة يقبلون خبر الآحاد على عكس من شكك، وأن القصص التي ذكروها إنما كانت لمزيد من التثبت؛ لأن ظروفها التي أحاطت بها تدعو إلى ذلك، وأيضا فإن الخبر بعد مجيء شاهد لم يصبح خبرا متواترًا، وإنما هو خبر آحاد أيضا، وضممنا إلى ذلك بعض الأدلة في أن الصحابة عملوا بخبر الآحاد في العقائد، وفي غيرها، وذكرنا بعض أقوال الأمة أو علماء الأمة على أن الإجماع قد انعقد على حجية خبر الآحاد، وعلى وجوب العمل به في العقائد، وفي الأحكام، وفي غير ذلك هذا وبالله التوفيق. هذا وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 13 حديث الآحاد (4).

الدرس: 13 حديث الآحاد (4).

الدليل علي حجية خبر الآحاد من العقائد والعبادات.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر حديث الآحاد (4) الدليل علي حجية خبر الآحاد من العقائد والعبادات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه، وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنختم الكلام عن خبر الآحاد، وفي يقيني أن الكلام عنه يحتاج إلى أكثر من ذلك؛ لأنه من الأمور الهامة جدا في قضية السنة سواء من ناحية الاحتجاج بها أو من ناحية من أثاروا الشبه حولها، ذكرنا مرارًا أن أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من أحاديث السنة هي: أحاديث آحاد، ولذلك فإن الذين يشككون في حجية خبر الآحاد نقطع بأنهم يريدون تضييع الدين، وتضييع الإسلام؛ لأن القرآن الكريم لا نستطيع أن نفهمه إلا في ضوء السنة، وهذا أمر كررناه كثيرا، والسنة معظمها آحاد لو نشك في أحاديث الآحاد ولا نعمل به لن نفهم القرآن، فضاع القرآن وضاعت السنة، وبالتالي ضاع الإسلام، وهذا هدفهم الذي يسعون إلى تحقيقه، والعياذ بالله ولن يتمكنوا من ذلك أبدًا. الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه- في كتابه الماتع العظيم كتاب: (الرسالة) عقد فصلا عظيما تحت عنوان: "الحجة في تثبيت خبر الواحد" يبدأ من ص 401 في الطبعة التي حققها العلامة الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله تعالى- ووضع لها أو لفقراتها أرقامًا من الفقرة 1101. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع. يعني إذا قال قائل: اذكر لنا الحجة في تثبيت خبر الواحد أي في ثبوته، وفي وجوب العمل به بنص خبر أو دلالة في خبر تدل على ذلك إن لم يكن بالنص القاطع أو إجماع انعقد على هذا، سرد كثيرا من الأدلة، فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن

عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))، ((ثلاث لا يغُل، ويجوز أيضا لا يغَل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) يعني لا يغُل بهذا الضبط بفتح الياء مع ضم العين هو من: الغُل أو الغَل الحقد أو من الخيانة إذا أخذناها من الغَلول يبقى من الغل اللي هو الحقد أو الغلول وهي الخيانة، الحديث يعني رواه الإمام الشافعي بإسناده كما نرى، وهو رواه الترمذي في كتاب: العلم باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، ورواه أبو داود في كتاب: (العلم) باب نشر العلم ورواه غيرهم أيضا، وفي روايات متعددة عن بعض الصحابة زيد بن ثابت عبد الله بن مسعود عن حديث زيد بن ثابت قال: حديث حسن وعن حديث عبد الله بن مسعود قال: إنه حسن صحيح إلى آخره، بعد أن ذكر الشافعي -رحمه الله تعالى- الحديث يبين وجه الدلالة فيه يقول: "فلما ندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى استماع مقالتهم، وحفظها وأدائها امرأ يؤديها والامرؤ واحد. ننتبه إلى كلام الشافعي: نضر الله امرأ إذا هو يتكلم عن امرئ، والامرؤ واحد، فلما ندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأً يؤديها، والامرؤ واحد دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه. يعني حين يقول: يعني بلغ عني مثلا ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها)) إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا يأمر من تقوم الحجة به عند الناس بأن يؤدي الحديث، أداؤه للحديث أصبح ملزمًا لمن تلقى عنه الحديث ما دام لا يشك في صدقه.

لأنه يؤدى عنه حلال وحرام يجتنب، حلال يفعل وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا، وعقيدة وعبادة إلى آخره، يؤدي كل ما يتلقاه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمجرد أن أدى من سمع فقد أصبح حجة على من تلقى، ووجب عليه العمل بما تلقى، وهذا الذي تلقاه إنما هو خبر واحد، ودل الحديث أيضًا على أنه ـ هذا كلام الشافعي، لكنه فائدة إضافية بالإضافة إلى دلالتها على حجية خبر الواحد ـ يعني واحد النبي -صلى الله عليه وسلم- كلف واحدا هو ليس واحد بذاته إنما كلمة: امرؤ التي قال: ((نضر الله امرأ)) تنطبق على الواحد إذن هذا الواحد سيحمل الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيؤديه إلى غيره، وهذا الغير بصرف النظر عن كونه واحدًا أو أكثر، أصبح ما أدي إليه من حديث حجة عليه إن كان في العقائد عليه أن يعمل به إن كان في العبادات عليه أن يعمل به، ولا يملك أن يتوقف ما دام قد وصل إليه النقل بطريق صحيح. ودل الحديث على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظًا لكنه لا يكون فيه فقيها، وأيضا في الحديث أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين ـ إن شاء الله لازم ـ هذا هو الدليل الأول وتعليق الإمام الشافعي عليه أو وتوضيحه له وشرحه له، النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر امرأً يقول يؤده عنا يبقى عليه أن يؤدي، وحين يؤدي إلى غيره هذا الغير أصبح ملزمًا بما أدي إليه من نصوص الأحاديث سواء دلت على عقيدة، أو على عبادات، أو على أحكام، أو على أي جانب من جوانب التشريعات الإلهية. ينتقل الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- إلى دليل آخر يقول: أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله بن رافع يخبر عن أبيه، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه))، هذا حديث ورد بصيغ متعددة ورواه أيضا أبو داود في كتاب السنة: باب في لزوم السنة، وأيضا رواه

الترمذي وابن ماجه وغيره في كتب السنة، قال ابن عيينة يعني الإمام البخاري يروي رواية لهذا الحديث مرسلة أخرى يقول: وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإعلامهم أنه لازم له، وإن لم يجدوا له نص حكم في كتاب الله يعني: الإمام الشافعي يوضح أيضًا هذا "وفي هذا تثبيت" ما معنى كلمة: تثبيت في كلام الشافعي؟ أي: دليل قاطع على الخبر يعني: عن وجوب العمل بالخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تثبيت وتأكيد، وقطع بوجوب العمل به، دليل حتى هو اختار هذا العنوان للباب كله: الحجة في تثبيت خبر الواحد، لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته إلى آخره يقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه)) ما معنى الحديث؟ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبرهم أن الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لازم لهم حتى إن لم يجدوا له نص حكم في كتاب الله. وينتقل إلى دليل آخر: أخبرنا مالك هذا كلام الشافعي ـ رحمه الله ـ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: ((أن رجلا قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدا شديدا يعني: حزن الوجد هنا بمعنى: الحزن والألم- فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة -أم المؤمنين رضي الله عنها- فأخبرتها فقالت أم سلمة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها، فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال الرجل: لسنا مثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة، فقال: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرا، وقال لسنا مثل رسول الله -صلى عليه وسلم- يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: والله إني لأتقاكم لله، ولأعلمكم بحدوده)) صلى الله عليه وسلم.

الحديث في (مسند الإمام أحمد) حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار: أن الأنصاري أخبر عطاء أنه قبل امرأته إلى آخره، الهيثمي في (مجمع الزوائد) جز3 ص166 حكم على هذا الحديث بأن رجاله رجال الصحيح هذا الحديث، ومضمونه ورد في الصحيحين عند البخاري -رحمه الله تعالى-، وعند الإمام مسلم من حديث عمر بن أبي سلمة أنه سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أيقبل الصائم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سل هذه لأم سلمة فأخبرته أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك، فقال يا رسول قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له)). هذا في كتاب الصيام باب: المباشرة للصائم عند كل من البخاري ومسلم، إذن هو حديث صحيح بماذا يعلق عليه الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول في ذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك)) دلالة على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وفي خبرها ما تكون الحجة لمن أخبرت، انظر لاستدلال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- بهذا الأمر أو بهذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأم سلم: ((ألا أخبرتيها)) هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب من أم سلمة أن تخبرها؟ وخبر أم سلمة ليس ملزما، وليس حجة، ولا يقوم به الدليل، أو لا تقوم به الحجة عند المرأة التي تقولها له. هذا لا يقول به عاقل النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر أن تخبر إلا إذا كان خبرها حجة يلزم من تلقاه بأن يعمل بمضمونه؛ لأنه خبره حجة نقلت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

الدليل علي حجية خبر الواحد من عمل الصحابة.

الدليل علي حجية خبر الواحد من عمل الصحابة أيضًا من الأدلة التي استدل بها الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- ما رواه بسنده قال: أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: ((بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة)) هذا حديث رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان، وأخرجهم في مواطن أخرى من صحيحه أيضًا تزيد على العشرة حقيقة، وأنا أتتبع تخريجه، أحاديث" تحويل القبلة" رواه الإمام مسلم أيضًا في كتاب: المساجد، ومواضع الصلاة باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، وأحاديث تحويل القبلة وردت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، وعن البراء بن عازب، وعن غيرهما من الصحابة، مثلا من رواية البراء بن عازب في حديث ابن عمر أنهم كانوا يصلون الفجر في قباء فآتاهم آت، فأخبرهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه الليلة قرآن يخبرهم أنه قد تم تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة، فبادروا وهم في الصلاة يعني: استجابوا لأمر النبي عليه الصلاة والسلام. إذن هذا فعل الصحابة، وهذا إجماعهم على حجية خبر الواحد والعمل به تتمة المسائل في خبر الآحاد، وكذا متكاملة الشبه، والرد عليها، وإثبات حجيتها، ووجوب العمل بها كلها مسائل متكاملة، والأدلة تدل على مجموع ذلك، وبالمناسبة فإن قصة تحويل القبلة عجيبة في إثبات هذا الأمر هي فيها دروس كثيرة جدا لا ننتقل إليها لكن في الصحيحين أنهم يصلون في مسجد تحويل القبلة تم في ديار بني سلمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يزورهم، ثم انظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم، واستجابتهم

وإلى سرعة تلبيتهم، وهم يصلون في مسجد بني حارثة مر عليهم صحابي قال: أشهد أني صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العصر فصلى نحو الكعبة، الصحابة وهم في الصلاة استداروا 180 درجة -كما يقول أهل الهندسة- من ناحية الشمال بيت المقدس بالنسبة للمدينة المنورة في الشمال، والكعبة المشرفة في الجنوب، والمدينة تقع بين الاثنين هم كانوا يتجهون نحو الشمال إلى بيت المقدس، لم يترددوا كان من الممكن ننتظر حتى نفرغ من الصلاة، ثم نسأل ما الخبر، وأيضا في هذه الحالة كانوا سيكونون قد عملوا بخبر الواحد، لكنهم ـ ننظر إلى سرعة التلبية ـ أتاهم صحابي مر عليهم حتى كأنهم لم يتبينوا من هو؛ لأنهم مشغولون بصلاتهم، يخبرهم يشهد على نفسه أنه قد صلى العصر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده فصلى في مسجده أو في ديار بني سلمة؛ لأن تحويل القبلة مختلف فيه هل تم في صلاة الظهر أو في صلاة العصر، هو كان يقينا في ديار بني سلمة، فإن كان في الظهر، فالرجل الذي شهد بعد أن عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد النبوي وصلى العصر. أيًا ما كان الأمر تكرر مرتين: في مسجد بني حارثة تحولوا وهم في الصلاة، وعند الفجر لما وصل الخبر إلى قباء في الفجر نفس القضية. وهذا في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما: ((يصلون الفجر أو الغداة في قباء فأتاهم آت فأخبرهم أنه قد أنزل الليلة - أي الليلة الماضية - على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرآن يأمر بتحويل القبلة للكعبة كأنه يشير إلى آيات البقرة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} (البقرة: 144) إلى آخره فتحول الصحابة أيضًا وهم في الصلاة)) 180 مرة ثانية إذن سرعة تلبية، قبول لخبر الواحد في الأحكام وفي العبادات، والمعاملات بدون تردد لم ينتظروا حتى يتثبتوا ويقولوا من الذي جاء بالخبر إلى آخره.

وهذا يرد على من زعم أن موقف أبي بكر، وموقف عمر في قضية الاستئذان، وميراث الجدة يدل على أن الصحابة لا يعملون بخبر الواحد ها هي القصص المتعددة تبين أنهم كانوا يسارعون إلى تلبية أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصرف النظر عن كونه واحدًا أو متواتر أو آحاد. يعلق الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- على قضية تحويل القبلة فيقول: "وأهل قباءٍ أو قباءَ يعني يجوز التنوين، وكذا على خلاف في صرفها أو عدم صرفها، وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها". نريد أن نتنبه إلى كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- الذي يكتب بماء الذهب، هم كانوا على قبلة وهي بيت المقدس، الله تعالى فرض عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم به عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- سماعًا من رسول الله، ولا بخبر عامة، وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أنه حدثوا عنه عن تحويل القبلة. كلام الشافعي أفكاره الرئيسة كالآتي: أهل قباء هم أهل سابقة من الأنصار، ومن الفكر يعني أهل سابقة وأهل فكر، هذه واحدة لو كان خبر الآحاد عندهم يتوقفون فيه كانوا قد توقفوا إذن فعلهم حتى بذاته حجة؛ لأنهم أهل سابقة وأهل فقه هذه مسألة. ثانيًا: كانوا على قبلة فرضها الله عليهم، فرض الله عليهم استقبالها، لم يكونوا من قبل أنفسهم إنما هذه قبلة فرضها الله عليهم لا يجوز التحول عنها إلا بدليل آخر، هذه ليست لعبًا إنها عبادة وطاعة لله، نحن على قبلة إلى بيت

المقدس بأمر الله ليس بأهوائنا، ولا من قبل أنفسنا ـ هذه اثنين لم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة لا يمكن أن يتركوا قبلة الله تعالى هو الذي تعبدهم بها إلى قبلة أخرى بدون دليل تقوم به الحجة عليهم ـ هذه ثلاثة ـ. أربعة: هم لم يلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا في مسجد بني حارثة لكن الشافعي يتكلم عن الذين كانوا في قباء، ما معنى أنهم لم يلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ يعني هم لم يسمعوا من فيه الشريف مباشرة الأمر بتحويل القبلة، ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه من قرآن لو كان الأمر كذلك بأنهم سمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمعوا القرآن سيكونون مستقبلين للقبلة بكتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- سماعًا من رسول الله، لكن هذا لم يحدث. ننظر إلى كلمة بعد ذلك، ولا بخبر العامة يعني لم ينتقل لديهم الخبر بخبر العامة، خبر العامة في كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- المقصود به: الخبر المتواتر هو يعبر عن الخبر المتواتر بخبر العامة أي: الذي رواه كثير وبخبر الآحاد يعبر عنه بأنه: خبر الخاصة أحيانا، ولا بخبر عامة، وانتقلوا بخبر واحد فقط هو خبر الآحاد إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، وهو استقبال القبلة التي ببيت المقدس، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أحدث عليهم من تحويل القبلة، ولم يكونوا ليفعلوه إن شاء الله ـ هذا كلام الشافعي ـ بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق. خمسة: من الأفكار الرئيسة التي يستدل بها الشافعي الأول هم: 1 - أهل قباء أهل سابقة من الأنصار. 2 - أهل فقه، أهل علم، أيضا القبلة التي كانوا عليها بفضل الله.

3 - لا يتركون هذه القبلة إلا بأمر من الله آخر، أو بأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم-. 4 - هم لم يسمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، ولم يسمعوا القرآن الذي أنزل عليه. 5 - الذي نقل الخبر إليهم لم يكن خبر عامة، وإنما خبر واحد هو عندهم من أهل الصدق. 6 - لم يكونوا ليفعلوا ذلك إلا لأنهم يعلمون أن الحجة تثبت بمثله عليهم إذا كان من أهل الصدق، ولا ليحدثوا أيضًا مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثًا. 7 - هل يقبلون أن يفعلوا هذا الأمر العظيم؟ وهو تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة إلا أنهم يملكون الدليل على أنه يجوز لهم أو يجب عليهم أن يفعلوا ذلك، أيضًا لم يقابلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- لو فعلوا ذلك، وكان الخبر الواحد لا تقوم به حجة، فحين يقابلون النبي -صلى الله عليه وسلم- سيقول لهم كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به الحجة من سماعكم مني مباشرة، أو خبر عامة أو خبر متواتر، أو أكثر من خبر واحد عني، انظر إلى كلام الشافعي الكلام الدقيق العظيم: لو كانوا فعلوا وخبر الواحد ليس حجة عندهم لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أقام عليهم الحجة كيف تتحولون عن قبلة كنتم عليها، وليس لكم أن تتركوها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة؟. وهذا العلم من سماعكم مني أو من خبر عامة أو على الأقل يرويه أكثر من واحد إن لم يصل إلى درجة التواتر لكن الذي جاءهم به واحد هذا دليل الإمام الشافعي يفصل ويوضح في أدلته أنه يبين أن الصحابة إجماع ـ لاحظوا أن هذا إجماع من الصحابة تكرر في مسجد بني حارثة، وفي مسجد قباء، وقبل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بهم في ديار بني سلمة، وتحول بهم وهو في الصلاة، قد يقولون

قصة تحريم شرب الخمر دليل على حجية خبر الواحد.

في هذا الأمر: الأول إن هذا فعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يقتدون به، لكن بمجرد أن نقل الخبر، وهم لم يروا ناقل الخبر، ولم يأتهم أكثر من واحد، ولم يأتهم خبر العامة كما قال الشافعي، ومع ذلك التزموا ولو لم يكن خبر الواحد حجة عندهم تقوم به الحجة عليهم في أمور عظيمة خطيرة: تحويل القبلة، وغيرها في العقائد، لكان رسول الله قد حاججهم على ذلك، ولكن ذلك لم يحدث، فدل على أن الجميع متفق على وجوب العمل بخبر الواحد. هذه قضية مهمة، ولا ينبغي لكم أن تسمحوا أبدًا ـ نحن لا نقاتل بالسيوف نقاتل بالعلم بالأدلة ـ حين أقول: لا تسمحوا لا أقصد أننا سنحارب إننا نبين بالأدلة أن خبر الواحد حجة هذه قضية ثابتة بالقرآن والسنة نحن لم نتعرض لأدلة القرآن بعد لكن الإمام الشافعي يسوق أخبارًا، وهي موجودة في الصحيحين وأمامي الآن، وأنا أقرأ عشرات النقول من علماء الأمة، وقد أشرنا إلى بعضها سواء في قضية ثبوت خبر الواحد أو درجة العلم لم ينازع أحد في وجوب العمل بخبر الواحد أبدًا، ولا بالشبهات، ولا بالترهات التي أثارها البعض. قصة تحريم شرب الخمر دليل على حجية خبر الواحد أيضا يسوق الإمام الشافعي دليلا آخر من فعل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ففي قصة: شرب الخمر لما حرمها الله تعالى الإمام الشافعي يقول: أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: ((كنت أسقي أبا طلحة، وأبا عبيدة بن الجرح، وابن الجراح، وأبي بن كعب شرابًا من فضيخ وتمر، فجاءهم آت فقال إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى تكسرت)). هذا الحديث أيضا مروي في الصحيحين في تحريم الخمر، وفي الحدود في حد شارب الخمر إلى آخره يذكرون الأدلة عند البخاري، وعند مسلم ـ رحمهما الله تعالى.

القصة واضحة أنس بن مالك هو: ابن أم سليم، وأم سليم كانت زوجًا لأبي طلحة -رضي الله تعالى عنه- الأنصاري، يعني نتصور المشهد كأنه جلسة عائلية، أبو طلحة جالس مع بعض أصحابه: أبو عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب -رضي الله عن الجميع- يشربون شرابا من فضيخ الفضيخ: يعني هو: البسر نوع من التمر يعني مشدوخ: مفرغ من النوى وصنع خمرا، ومن تمر أيضا، فجاءهم آت في بعض الروايات: ((نادى في المدينة مناد إن الله قد حرم الخمر)) أبو طلحة ورفاقه يشربون كان من الممكن أن يقولوا: قم يا أنس انظر ما الخبر، ومن الذي يقول: إن الخمر قد حرمت، لاحظ أنهم يشربونها؛ لأنها لم تحرم إذن هي لهذه اللحظة حلال، وما كان للصحابة رضوان الله عليهم أن يفعلوا أمرًا قد حرمه الله، إذن هم يشربونها؛ لأنها لم تكن حرمت، وفي جلسة فيها صداقة كان من الممكن أن يقولوا: انظر يا أنس ما الخبر؟ من الذي يقول؟ هل هو ثقة؟ هذا كلام لم يحدث بالمرة، إنما قم يا أنس إلى هذه الجرار أي: جمع جرة الأواني المصنوعة من فخار أو غيره التي يصنعون فيها الخمر، قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا يعني: حجر كأنه إناء منقور من وسطه يتوضأ منه، ويدق فيه يقولون في وصفه: هو حجر منقور: مفرغ من وسطه كأنه مثل: الهون الذين يطحنون فيه مثلا الكحل، أو أي مادة يريدون أن يطحنوها هو الآن مصنوع من النحاس أو ما شاكل ذلك، لكن في القديم كان مصنوعًا من الحجارة مفرغ من داخله يدقون فيه ما يريدون أن يدقوه، وقد يضعون فيه ماء؛ ليتوضئوا منه، هذا هو المهراس قام أنس، فأخذ المهراس وضرب الجرار بالمهراس حتى تكسرت. يعلق الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- على هذه الرواية فيقول: "وهؤلاء أي: أبو طلحة وأبو عبيدة بن الجراح، وأبي بن كعب -رضي الله عنهم جميعا، وهؤلاء في العلم والمكان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقدم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عار".

أيضًا أريد أن أضع أرقامًا لمزيد من التوضيح، هذه واحدة، هؤلاء صحابة كرام لهم منزلة سامية عالية في العلم، وفي القرب من النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكفي أن فيه مثلا أبا عبيدة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأبو طلحة، وأبي بن كعب الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ القرآن عليهم إلى آخره، ويقول الشافعي أيضًا، وقد كان الشراب عندهم حلالا يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة وهو مالك الجرار بكسر الجرار، ولم يقل لا هو ولا هم ولا واحد منهم: نحن على تحليلها أي: على حلها الخمر حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قربه منا. يعني لم ينقل عن واحد منهم، ولا عنهم مجتمعين أنهم قالوا: سنظل نشربها حتى نلقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونسمعه منه، ولقاؤه ليس بعيدا نحن نسكن في نفس البلد التي هو فيها، وليس هذا فحسب، بل بيننا وبينه خطوات المدينة لم تكن كبيرة في ذاك الزمان، أو يأتينا خبر عامة يعني أو أن ينقل الأمر بخبر متواتر يعني لم يقولوا: سنظل نشرب حتى نلقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونسمع منه، ولم يقولوا: لم نمتنع؛ لأن الخبر لم يأتنا كخبر عامة أي: خبر متواتر وإنما خبر حال، وإنما مباشرة، كسروا الجرار وامتنعوا عن الشرب. يقول الشافعي ـ رحمه الله ـ: "وذلك لأنهم لا يهرقون حلالا إهراقه سرف، وليسوا من أهله" يعني: لو أن الخمر حلال وأراقوها بدون التثبت لكانوا قد أراقوا مالًا حلالا، وإراقة الحلال سرف لا يقع فيه مثل هؤلاء الأجلاء من الصحابة. أيضًا هم لم يقولوا: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبرهم أو أننا لن ندع حتى يخبرنا ونسمع منه أيضا لم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهم، لماذا فعلتم ذلك؟ ولم ينقل إليكم خبر مني ـ كما قلنا في القصة السابقة في تحويل القبلة ـ إنما يعلمون أن الحجة تقوم عليهم بهذا

الخبر الذي ليس بخبر عامة على حد تعبير الشافعي -رحمه الله تعالى- والذي يدل على تحريم الخمر، ولم حتى يستفصلوا أو يفسروا أو يتلكئوا أو يتأخروا، لن نقول حتى يلقوا النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يتأكدوا من المخبر؟ وماذا يقول؟ ما دام سمعوا وعلموا أن الخبر أسند للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتأكد إليهم صدقه بدون تردد أراقوا الخمر. لقد كان هذا شأن الصحابة -رضوان الله عليهم- في كل شأن من شئون حياتهم كما نرى مر بنا في تحويل القبلة، مر بنا في قصة الخمر في مواقف كثيرة بمجرد أن يبلغهم الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: سمعنا وأطعنا، مر بهم في قضية الطاعون، والعياذ بالله ـ وقانا الله جميعا ووقى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ـ بمجرد أن أخبرهم المخبر، وهو عبد الرحمن بن عوف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يدخل أحد ولا يخرج أحد امتثلوا، وعشرات الأدلة تدل على ذلك، وكل هذا بخبر واحد وليس بخبر عامة. أيضًا يستدل الشافعي -رحمه الله تعالى- بالحديث الذي هو معروف عند المحدثين بأنه حديث: العسيف، أو كان ابني عسيفا عند هذا فزنى بامرأته، فهذا في الصحيحين في كتاب: الحدود باب حد الزنا عند البخاري، وعند مسلم ـ رحمهما الله تعالى ـ من رواية أبي هريرة وأبي زيد الجهني، يقول الصحابي: ((إن ابني كان عسيفا عند هذا، فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني مائة شاة ووليدة، فافتديت ابني بمائة شاة ووليدة. حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ... )) يعني: سأل بعض الناس ماذا أفعل؟ وقد زنى ابنه بامرأة الصحابي الذي كان يعمل عنده أو بامرأة الرجل الذي كان يعمل عنده؟ أخبره من أخبره أن من الممكن أن يفتدي نفسه بجريمة الزنا بأن يتصدق بمائة شاة وبوليدة، يعني: فتاة جارية أمة حديثة السن صغيرة، رفع الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- طبعا أبطل هذا الحكم؛ لأن الولد عليه

جلد مائة؛ لأنه لم يكن محصنًا، لم يكن قد تزوج، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنيس الأسلمي صحابي جليل: ((واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها))، غدا أنيس إلى المرأة بمفرده ينفذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- سيسألها سؤالا هل ما قاله الشاب أو أبوه في شأن زناكي معه ثابت؟ اعترفت المرأة فرجمها لم تقل ولم يقل أحد لا لن نقيم الحد حتى يأتينا الخبر المتواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى آخره كما نرى. عشرات الأدلة ساقها الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- ونحيل على هذا الموطن في من كتابه: (الحجة في تثبيت الخبر الواحد) وفي الحقيقة أن الشافعي -رحمه الله تعالى- كان عمدة لكل من تكلموا في هذا الأمر. الأحاديث كثيرة جدا ذكرها الإمام الشافعي وغيره في: العقائد، في الأحكام، في عمل الصحابة في الصحيحين حديث معاذ بن جبل في كتاب: الإيمان عند البخاري ومسلم ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى اليمن إنك تأتي قومًا أهل كتاب ماذا تطلب منهم: أن يشهدوا ألا إله إلا الله، وأني رسول الله))، هذه عقيدة ذهب بها رجل واحد، ثم ((فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة))، هذا حكم من الأحكام في العبادات ((فإن هم أطاعوا لذلك، فأخبرهم أن الله تعالى قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)). عندي الحديث تضمن عقيدة، وتضمن أحكاما شرعية، ثم بقية الحديث بسرعة ((قال وإياك وكرائم أموالهم)) يعني: إذا أخذت الصدقة فلا تأخذها من كرائم الأموال يعني: من أعزها وأنفسها خذها من الوسط إلا إن طابت نفوسهم بأن يعطوك من أكرم الأموال وأنفسها لكن المطلوب شرعًا هو الوسط من الأموال

الذي ليس رديئًا والذي ليس في أعلى درجات الجودة؛ لينتفع به أصحابه إلا أن تطيب نفوسهم كما قلنا: هذا حكم شرعي على كل حال لكن محل الشاهد أن الذي ذهب بالأمر في العقيدة والعبادات ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) الذي ذهب بها واحد، وهو معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه. أيضًا الرسل الذين أرسلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك الأرض ورؤسائها يدعوهم إلى الإيمان، قد بعث إلى كسرى عظيم الفرس، وبعث إلى هرقل عظيم الروم، وبعث إلى المقوقس عظيم مصر، وبعث إلى النجاشي عظيم الحبشة إلى آخره بعث إليهم يدعوهم إلى الإسلام لو كانت الحجة لا تقوم بخبر الواحد هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- سيرسل واحدًا فقط؛ ليبلغ دين الله، وهم لم يروا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمعوا منه وتقوم الحجة عليهم بذلك، وإن هم رفضوا أصبحوا كفارًا ودخلوا النار هرقل وكسرى ومن حولهم هل ستقوم عليهم الحجة بخبر الواحد؟ كما يزعم الزاعمون والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرسل إليهم واحدًا بالعقيدة إن هم خالفوه وأصروا على طغيانهم سيكونون من أهل النار والعياذ بالله، ما هذا؟ كيف يفهمون الأدلة؟ واضح جدًا بعث رسلا كل واحد بمفرده إلى ملوك الأرض ورؤسائهم يدعوهم إلى الإسلام، وهذا معروف عند علماء الأمة بأنه عام الرسائل في عام سبعة هجرية بعد صلح الحديبية، وبعد أن أمن الناس النبي -صلى الله عليه وسلم- انطلق بالدعوة إلى الآفاق العالمية أو ابتدأ في ذلك إلى آخره. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رسلا كل واحد بمفرده إلى ملك يدعوه إلى الإسلام، وأرجو أن ننتبه يدعو الملك والأمة واحد فقط، وهذه الدعوة ستقوم بها الحجة عليهم هذا الأهم، بمعنى أنهم ما دام قد علموا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إن هم أطاعوا أصبحوا من المؤمنين، وإن أصروا على موقفهم هم لا يزالون كفارًا وسيحاسبون قبل بلوغ الدعوة لم يكونوا من أهل التكليف، أما بعد بلوغ الدعوة فقد أصبحوا من أهل التكليف.

أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث أبا بكر، وهو واحد، ويؤمره عليهم في عام الحج في سنة تسعة، والحديث في الصحيحين في الحج من أول أن فرض الله تعالى الحج أرسل أبا بكر وعلمهم الحج وحج بهم إلى آخره. هؤلاء قوم الصحابة كانوا مع أبي بكر، وأناس من الأعراب كانوا مع أبي بكر، وهو يحج بهم ويؤدي معهم، وتقوم الحجة عليهم بولاية أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عليهم وبفعله أمامهم وهو رجل واحد بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم. أيضًا من الأدلة التي ذكرها الإمام الشافعي أنه بعث أمراء سرايا، وهذا موجود عند البخاري ومسلم أيضًا في كتاب: المغازي غزوة مؤتة بعث مولاه زيد بن حارثة، وولاه القيادة في أول الأمر، فإن أصيب فجعفر، فإن أصيب فابن رواحة، فهل كان الصحابة ينفذون الأمر؟ وهو لا تقوم عليهم بهم حجة؛ لأنه خبر واحد، ونفذوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب فابن رواحة، والثلاثة أصيبوا، وولى المسلمون أمرهم بعد ذلك، أو أسندوا أمرهم إلى خالد بن الوليد -رضي الله تعالى- عنه إلى سيف الله الذي سله الله تعالى على الكفار. لقد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في دهر واحد كما يقول الشافعي ـ رحمه الله ـ أي: في وقت واحد اثني عشر رسولا إلى اثني عشر ملكا يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا لمن قد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة بهذا البعث أو بهذا الرسول الذي جاء من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: عشرات الأدلة، وسار المسلمون على ذلك بعد هذا استخلفوا أبو بكر، واستخلف أبو بكر عمر، ثم استخلف عمر أهل الشورى؛ ليختاروا واحدًا من بينهم. والولاة والقضاة يقضون بالأمر بالشرع تنفذ أحكامهم، والناس يسمعون لهم ويطيعون يسمعون لولي الأمر وهو واحد أبو بكر وعمر وإلى يوم القيامة،

ويسمعون للقضاة والحكام وهم واحد حين تنفذ الأحكام، وتقام الحدود ويؤمر الناس بأوامر الشرع وبنواهيه، ويستجيبون لكل ذلك ويقولون: سمعنا وأطعنا بدون تردد، وكل ذلك بأخبار الآحاد. الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عقد كتابًا في صحيحه أنا تركت أدلة كثيرة من التي ذكرها الإمام الشافعي، وأنا قلت: أن الحديث سيحتاج إلى أكثر من ذلك لكن سنكتفي بهذا، والإخوة الذين يتلقون الآن من الممكن أن يرجعوا إلى هذه المصادر؛ ليستكملوا عدتهم للموضوع، ويحيطوه من كل جانب، وما ذكرناه إن شاء الله فيه كفاية بإذن الله رب العالمين، ويفتح الباب لمن أراد أن يبذل مزيدًا من الجهد للتوسع في الأمر. لاحظنا في أدلة الإمام الشافعي اشتمالها على حجية خبر الآحاد في العقائد، وفي الأحكام، وفي كل أمور الإسلام، وفي السرايا، وفي غير السرايا، وأن الصحابة كلهم انعقد إجماعهم على ذلك واستجابوا وامتثلوا، وأن الأمة كلها كذلك عند البخاري -رحمه الله تعالى- في الباب رقم 95 في جزء 13 من كتاب: (فتح الباري) سماه: كتاب: أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في: الأذان، وفي الصلاة، وفي الصوم، في الفرائض والأحكام، وقول الله تبارك وتعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122). الأول: ننظر (الكتاب) اسم الكتاب عند البخاري: كتاب أخبار الآحاد، أول باب فيه باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق أي: الثقة يعني الصدوق في هذا السياق الذي نصدقه ونطمئن إلى سلامة خبره في: الأذان والصلاة والصوم والفرائض والعقائد والأحكام، ويستدل البخاري -رحمه الله تعالى- ويقول: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) هنا يقول هذه طائفة ستتعلم، وتنذر قومها "الطائفة" في لغة العرب تعني الواحد، وتعني الجماعة يعني تنطبق على الواحد، وتنطبق على الجماعة بعكس ما قد يتبادر إلى الأذهان من

أنها تنطبق على الجماعة فقط، ويستدلون على انطباقها على الواحد بقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات: 9) بإجماع الأمة ـ وأرجو أن ننتبه إلى ذلك ـ هذا الحكم ينطبق على المتقاتلين حتى لو كانوا واحدًا أمام واحد علينا أن نسعى للصلح بينهما {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) إذن من الممكن أن يكون المتقاتلان رجلين واحد في كل ناحية، ومن الممكن أن يكون أكثر من واحد، لكن لم يبلغوا الجماعة، فالحكم ينطبق عليه مما يدل على أن الطائفة تطلق على الواحد وعلى الاثنين وعلى الجماعة، فحين يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (التوبة: 122) علينا أن نسمع لهم ونطيع يرجعون إلى قومهم بعد أن يتعلموا، وبعد أن تفقهوا في الدين؛ لينذروا قومهم وليعلموهم أمور دينهم، وعلينا أن نسمع لهم وأن نطيع وهم واحد أو أكثر في إطار خبر الآحاد. أيضًا الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) يطلب منا التوقف والتثبت في قبول خبر الفسخ، فسبب التوقف في قبول خبره أنه فاسق، وليس لأنه واحد، والمفهوم من نص الآية أنه لو كان عدلا لقبلنا خبره يعني: لم يقل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم واحد بنبأ فتبينوا" إنما قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ}، فعلة التوقف في خبره هي: فسقه، أما أنه واحد عدل هذا مفهوم الآية، فيقبل خبره. هذه أدلة من القرآن الكريم بعض الأدلة على أن القرآن والسنة، وعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمل الصحابة، وإجماع الأمة كلها تدل على حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به بصرف النظر عما ناقشناه من قضية هل يفيد الظن أو يفيد القطع؟ هذه قضية تتعلق بالثبوت ولا تتعلق بوجوب العمل.

عشرات الأدلة، أصدق ذو اليدين؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاص ما دام صدق نصلي ونتم صلاتنا إلى آخره، إذن هذه بعض شبههم التي أثاروها، وهذه بعض الأدلة التي رددنا بها عليهم بعد أن بينا شبههم، أو بعض شبههم التي أثاروها، وعلى ذلك تستطيع أن تقيس بقية الشبه، وهي بصدق الإيمان ليست ضعيفة متهافتة، والباعث عليها هو نوع إما من عدم الفهم، أو سوء القصد تجاه السنة، وتجاه الإسلام، ونسأل الله عز وجل أن يبرأنا، ونخلص من كل ذلك إلى أننا ندين الله تعالى بأن خبر الآحاد الصحيح والحسن حجة علينا في عقائدنا، وفي أعمالنا، وفي عباداتنا، وفي أحكامنا، وتشريعاتنا، وأنه متى ثبت الخبر وجب العمل به، ولا يسعنا إلا أن نعمل به إلا أن يكون هناك مانع شرعي يمنع من العمل به كالنسخ وما إلى ذلك. هذا وبالله التوفيق وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 14 الرواية باللفظ.

الدرس: 14 الرواية باللفظ.

التعريف بالرواية، وأركانها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر الرواية باللفظ التعريف بالرواية، وأركانها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنتكلم عن الرواية بالمعنى وعن الشبهات المثارة حولها. الرواية بالمعنى ثار حولها كلام أثارته بعض الجهات المعادية للسنة، وسنرد بإذن الله -تبارك وتعالى- على الشبه المثارة حولها، تعريف الرواية: الرواية في اللغة: روي من الماء، نقول: روي من الماء يعني: شرب منه، روي على وزن رضي، والمصدر ريًّا ورِيًّا، ونقول: روى وتروَّى وارتوى، كلها بمعنى واحد، والراوية بالتاء المربوطة التي جاءت للمبالغة هي الآنية المزادة التي يجمع فيها الماء، القِربة مثلًا، ونقول: روى الحديث يروي، المصدر رواية، وهناك بالنسبة للشرب كان رَيَّا ورِيًّا، هنا بالنسبة للرواية روى الحديث يرويه روايةً، ويوصَف الرجل يقال: راوية، أيضًا هذه جاءت للمبالغة، الراوية لفلان من الشعراء مثلًا، أو راوية فلان إلى آخره، وروى البعير الماء يعني حمله -حمل الماء- على ظهره. ثم أطلقت الرواية على كل دابة يستقى بالماء عليها من البعير وغيره، مثل الحمار والبغل والخيل ونحوها، ومن هنا نقول: روى الحديث يعني حمله، ونقله إلى غيره؛ فالرواية تعني أنه قد حمل الحديث، ثم نقله إلى غيره، لو لم ينقله إلى غيره لا يقال عنه: إنه رواه، ولذلك نرى الرواية قد مرت بطورين: طور التحمل، وهو الأخذ من الشيوخ أو عن الشيوخ أولًا، ثم طور الأداء وهو الأداء الحديث إلى غيره، يعني في المرحلة الأولى تحمله عن شيوخه وفي المرحلة الثانية أداه إلى تلاميذه.

والخلاصة: أن المادة "روى" تأتي بمعنى الحمل والنقل، تأتي بمعنى الإسقاء والإرواء من الماء، تأتي بمعنى الشرب من الماء، في اصطلاح المحدثين: هي نقل الحديث وإسناده إلى مَن رواه، نقل الحديث وإسناده يعني: عزوه أو نسبه إلى من رواه، أنا رويت الحديث يعني: تحملته عن شيخي، وإن كان شيخي له سند إلى منتهى الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا فأنا أقول أيضًا: شيخ شيخي وشيوخه إلى أن أصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنا رويت الحديث يعني تحملته، ثم نقلته إلى غيره مع إسناده إلى مَن أخذته عنه، إلى مَن روي عنه الحديث. لا يقال: إني رويت الحديث لو أني اكتفيت بتحمله فقط أنا لم أؤده إلى غيري، فلا يقال: إني رويته لغيري، ولا يمكن أيضًا رواية الحديث إلا بعد تحمله، فالجناحان -أي: جناحا الرواية- كلاهما يكمل بعضهما للآخر، ولا يمكن أن يقال: إن هناك رواية من غير أن يكون هناك تحمل وأداء. الرواية في الاصطلاح هي: نقل الحديث وإسناده إلى مَن رواه أو إلى مَن عزي إليه، أو نسب إليه بصيغة من صيغ الأداء المعروفة عند المحدثين. المحدثون عندهم مبحث مهم جدًّا جدًّا يدل على دقة متناهية في كيفية تحمل الحديث وكيفية أدائه، نحن أهل الحديث -بفضل الله -عز وجل- الذين شرفهم الله تعالى بالانتساب لهذه المدرسة- كل شيء عندنا منضبط منظم بخطوات، وكل خطوة عليها أدلتها الشرعية، نحن لا نتلقى أي نوع من أنواع التلقي ولا نؤدي بأي طريقة كانت، لا نحن منضبطون، لنا طرق للتحمل وطرق للأداء، أو هي طرق التحمل والأداء، مبحث من مباحث علوم المصطلح، العلماء حصروا الأداء والتحمل في ثمانية أنواع: السماع من لفظ الشيخ، والقراءة على الشيخ،

والإجازة من الشيخ، والمكاتبة، والوصية، والوجادة والإعلام إلى آخره، وكل طريق من طرق التحمل له ألفاظ يؤدى بها. فلو أنني مثلًا أعطيت تلميذي كتابي الذي جمعت فيه الأحاديث التي رويتها وقلت له: أجزتك رواية الأحاديث التي في هذا الكتاب عني، هل يجوز له مثلًا أن يقول: سمعت شيخي فلانًا يقول كذا؟ لا، لا يستعمل لفظ السماع هنا؛ لأن التلقي لم يكن بواسطة السماع، يعني: أريد أن أقول: لأن هذا مبحث آخر غير الذي نتكلم فيه الآن إنما له صلة بما نعرفه -يعني: بتعريف الرواية- وهو أن التحمل والأداء مبحث هام جدًّا عند علماء الحديث، وتفصيلاته تؤكد ذلك الانضباط العظيم وتلك الدقة المتناهية، وهذا الحرص الشديد على السنة، وكيفية تلقيها، وحصروها في ثمانية طرق كما ذكرنا، ولكل طريق ألفاظه التي يؤدى بها. والخلاصة: أن الرواية في اصطلاح المحدثين هي نقل الحديث وإسناده إلى من رواه، أو عزي إليه، ويكون ذلك بصيغة من صيغ الأداء المعروفة عند المحدثين، مثل: حدثنا، أو سمعت، أو أخبرنا، أو أنبأنا، أو أجازنا، أو نحو ذلك من التفصيلات التي يرجع إليها في علم المصطلح. الرواية لها ركنان: التحمل، والأداء، التحمل: هو أن يأخذ التلميذ الحديث من شيخه، والأداء هو أن يؤدي الشيخ الحديث إلى تلميذه، يعني: عملية تبادلية، يعني: أنا أخذت الحديث من شيخي، فأنا متحمل وشيخي مؤدي، ثم نقلت الحديث إلى تلاميذي فأنا مؤد وتلاميذي متحملون عني، هذان هما الركنان في الرواية. وكما ذكرت منذ قليل فإن مبحث التحمل والأداء جدير بأن ندرسه، وأن نعتني به، وأن نفهمه؛ لأننا سنزداد احترامًا وحبًّا وتقديرًا لمدرسة الحديث وطلابها، وسنلمس عن قرب بالتحام شديد الجهد المبذول في صيانة السنة الشريفة،

أهمية الرواية، وأقسامها.

وحمايتها من أي دخيل بزيادة، أو نقص، أو تحريف، أو تغيير، أو تبديل، كل ذلك مستحيل في ظل القواعد التي وضعها العلماء لضبط أحوال الرواية، ولضبط أحوال الراوي والمروي، ومن ها مبحث التحمل والأداء الذي أشرنا إليه. أهمية الرواية، وأقسامها أهمية الرواية: هي أنها إحدى الطرق الهامة في تحصيل العلم، يعني: أنا أحصل العلم مثلًا بالقراءة من الكتب، أنا أحصل العلم بسماع الشريط المرئي أو المسموع مثلًا، أنا أحصل العلم عن طريق الحواس: شممت، لمست، تذوقت، رأيت، سمعت، الحواس السليمة، كل هذه من وسائل تحصيل العلم، الرواية واحد من أهم طرق تحصيل العلم، بمعنى: أنك تتلقى الحديث أو العلم، يعني: ليست الرواية مقصورة على رواية الحديث فقط، إنما هي تشمل كل التلقي أو كل صورة من صور التلقي عن الشيوخ، لو أنه مثلًا يشرح لك درسًا في الفقه، أو درسًا في الأصول، أو درسًا في التفسير، أو في مباحث علوم القرآن، أو ما شاكل ذلك، فهذا نوع من التلقي، أنت لو نقلته إلى غيرك فقد تكاملت عناصر الرواية من تحمل ومن أداء. إذًا الرواية مهمة جدًّا جدًّا؛ لأنها من أهم طرق تحصيل العلم، هناك أناس أميون لا يقرءون ولا يكتبون، لكنهم يسمعون من المشايخ، ويستوعبون جيدًا عن أهل العلم، خصوصًا إذا كان يتقن اللغة العربية مثلًا في الزمان الثالث كان من الممكن أن لا يقرأ ولا يكتب لكنه يفهم اللغة العربية جيدًا بالسليقة، أو بالتعليم عن

طريق السمع، أو ما شاكل ذلك؛ فمن الممكن أن يحصل العلم عن طريق السماع من الشيوخ من غير أن يقرأ في كتاب مثلًا، أو من غير أن يسمع شريطًا وما شاكل ذلك. إذًا أهمية الرواية في أنها واحدة من طرق تحصيل العلم، وبالنسبة للحديث خاصة فإن الرواية قامت بدور مهمة جدًّا جدًّا في صيانة السنة والحفاظ عليها، وتناقلها عبر الأجيال المتعاقبة من لدن قالها رسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن أودعت بطون الكتب التي نعرفها من كتب السنة، مثل (صحيح البخاري) و (مسلم) وغيرهما من كتب السنة العديدة المشهورة. إذًا أهميتها بشكل عام هي طريق من طرق تحصيل العلم، وطريق هام جدًّا، وأيضًا هي بالنسبة للسنة بالذات قامت بدور خطير جدًّا في الحفاظ على السنة وفي صيانتها وفي حفظها، إلى أن وصلت إلينا إن شاء الله رب العالمين نقية جلية خالية من كل شبهة بفضل الله تعالى. الرواية لها أقسام: إما أن تكون متصلة وإما أن تكون منقطعة؛ فالرواية المتصلة هي ما اتصل سندها من أول الراوي إلى منتهى الخبر، لو أنني أتكلم عن الأحاديث النبوية سيكون منتهى الخبر هو خير الخلق -صلى الله عليه وسلم- الذي انتهى إليه الخبر، الرواية المتصلة أن أقول مثلًا: حدثني فلان عن فلان عن فلان إلى أن ينتهي الإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأننا نقول: إن الرواية تشمل نقل الأخبار كلها؛ فهي لا تقتصر على الأحاديث فقط، فتكون الرواية متصلة هي ما اتصل سندها من أول الراوي الأخير إلى الأعلى الذي انطلق الكلام من عنده سواء كان هذا الكلام حديثًا نبويًّا، أو كان خبرًا آخرَ غير الحديث النبوي. إذًا هذه الرواية المتصلة.

مميزات وخصائص الرواية.

وقد تكون الرواية منقطعة إذا حدث خلل في الإسناد ما بين الراوي الأخير وما بين مصدر الخبر من أعلى، كأن يكون سقط واحد من أول الإسناد، أو من وسط الإسناد، أو سقط اثنان، بالنسبة للحديث سقط الصحابي وهو الذي يسميه العلماء المرسل، فالتابعي يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذه رواية منقطعة، وأنواع الروايات المنقطعة أنواع كثيرة، نرجع إليها في علوم الحديث، وخلاصتها أن الرواية إما أن تكون متصلة وإما أن تكون منقطعة. مميزات وخصائص الرواية إن للرواية في الإسلام مميزات وخصائص تنفرد بها عن كل أنواع الروايات قديمًا وحديثًا، خصائص الرواية التي تميزت بها في الإسلام لا توجد عند أمة من الأمم، لا من قبل ولا من بعدُ؛ فهي خصائص غير مسبوقة وغير ملحوقة، ونقول ذلك بكل الثقة وبكل التواضع وبكل اليقين. وهذه المميزات للرواية في الإسلام نشير إلى بعضها؛ فنقول مثلًا: الإسلام حرم الكذب في حديث الناس، وأي كاذب ينقل الأخبار مخالفة للواقع فهو آثِم، والكذب من الكبائر الفاحشة: ((ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) إلى آخر ما نعلمه من تكذيب الحديث دينيًّا. ليس من تحريم الكذب في الحديث دينيًّا، كلمة "دينيًّا" تضيف إليه بعدًا هامًّا، الذين يشمئزون من الكذب لمجرد أنه نقيصة أخلاقية، هذا غير كافٍ في الابتعاد عنه، فقد تضطره الظروف أحيانًا إلى الكذب، أما أن يكون الأمر عقيدةً وعبادةً ويتوقف عليها وتحصل على حسنات، أو تكتسب سيئات -والعياذ بالله- فالمسألة تأخذ بعدًا آخر. قد يقول قائل: إن الإنسانية كلها تشترك في ذم الكذب، نعم، لكن هناك فرق بين أن يصدر هذا الذم عن عقيدة تحرمه، أو عن فلسفة اجتماعية مثلًا تدعو للصدق

وتنهى عن الكذب، وإلى أنه مجرد فضيلة خلقية إذا تحلى بها صاحبها فقد اكتسب صفة طيبة، وإذا انتهى أو امتنع عنها أو لم توجد فيه فالأمر ليس خطيرًا؛ لأنه ليس عبادة وليس عقيدة، ولا شيء من هذا القبيل، ولا الأمر يتعلق بالجنة أو النار لا من قريب ولا من بعيد، عندنا في الإسلام الرواية أول سمة من سماتها: أن الإسلام حرم الكذب، حرم الكذب في حديث الناس بشكل عام، أن تنقل عني كلامًا لم أقله، وأن تنسب إليَّ ما لم أفعله مثلًا إلى آخره. والذي يتهم فلانًا بأي نوع من أنواع الاتهامات كذبًا، هناك عقوبات مقررة في الإسلام شرعًا، يعني: المسألة ليست هينة، حين يتهم فلانٌ فلانًا بالزنا مثلًا -والعياذ بالله- إذا لم يأتِ بالدليل على ذلك سنقيم عليه حد القذف إلى آخره. تفصيلات كثيرة جدًّا تؤكد هذا السمو الذي لا يوجد إلا في الإسلام. ويشتد الكذب ويفحش إذا كان متعلقًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: الكذب بشكل عام فاحشة كبيرة لكنه يكون أشد فحشًا وأعظم خطرًا وأنكى على صاحبه إذا كان هذا الكذب متعلقًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الحديثين من حديث أبي هريرة وغيره من جملة من الصحابة: ((مَن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) والحديث الآخر عند مسلم في مقدمته: ((إنَّ كذبًا علي ليس ككذب على أحد)) نعم، الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس مثل الكذب على أي أحد من الناس؛ لأن الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- كذب في التشريع -في الدين- إما بالزيادة منه وإما بالنقص منه، وكلا الأمرين على خطر عظيم. لذلك اهتم المسلمون جدًّا بالرواية، بقوانينها المتسعة وتفصيلاتها الكثيرة التي تعطينا في النهاية روايةً صادقةً، فالمسلمون عندهم الكذب محرم، ومحرم تدينًا وعبادةً، وليس مجرد انحدار خلقي فحسب، والكذّاب يكتب عند الله كذّابًا،

يعني: يكفي عند الإمام الترمذي في سننه وحسنه: ((إذا كذب العبد ابتعد الملك عنه ميلًا من نتن ما جاء به)) والعياذ بالله، يعني: كأن الكذب تنتج عنه رائحة كريهة، تخرج من فم الكاذب، فيتأذى بها الملك الموكل به، فيبتعد عنه بمسافة ميل، والمسافة هنا ليس المراد منها التقدير الدقيق بالمسافة، وإنما المراد أن الملك يشمئز منه، فيبتعد عنه مسافة كبيرة، قد لا يكون التحديد بالميل مقصودًا لذاته، إنما المقصود أنه يشمئز ويتقزز فينصرف بعيدًا عنه؛ لنتن ما جاء به من الكذب. هذه الأحاديث والأدلة تبين خطورة الكذب، وكما قلت يشتد الأمر إذا كان الكذب متعلقًا بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك كان الاهتمام البالغ بتصحيح الأخبار وتصديقها ومطابقتها إلى الواقع. أيضًا من خصائص الرواية في الإسلام: البحث عن مطابقتها للواقع من عدمه حتى يتبين صدقها من كذبها، ونحن نعلم أن آفة الأخبار هي رواتها، يعني: الخبر في حد ذاته قولٌ يحتمل الصدق والكذب، محمد سافر هذا خبر، أنت تخبر بأنه قد سافر، فمجرد مضمون الخبر مسائلة عادية، لكن ما يترتب على الصدق والكذب أبني حساباتي على أنه مسافر أو على أنه غير مسافر إلى آخره، وأيضًا هل كلامك هذا مطابق للواقع وللاعتقاد، أو ليس مطابقًا للواقع والاعتقاد؟ إذًا لا بد من مطابقة الرواية مع الواقع حتى نتأكد من صدقها أو من كذبها. أيضًا عندنا الاهتمام بأحوال النقلة، وهذا أمر هام في الإسلام لم يوجد وأظنه لن يوجد عند أمة من الأمم، أحوال النقلة الذين نقلوا لنا الأخبار، وخصوصًا أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الاهتمام الذي بذلته الأمة في معرفة أحوالهم لنتأكد من صدقهم في نقل ما أخبرونا به من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا جهد أكاد أقول بلا مبالغة فوق طاقة البشر، وإنما هيأ الله الطائفة الجليلة العظيمة من العلماء الذين

قاموا به؛ لأن الله أراد أن ينصر دينه، وأن يعلي رايته، وأن يصون سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أي تحريف، أو تغيير، أو تبديل؛ فهيأ هؤلاء العظام ليقوموا بتمحيص الرواية، ومن بينها الاهتمام الشديد بأحوال النقلة. وهذا الاهتمام إنما هو أمر شرعي، الله تعالى في القرآن الكريم طلب منا أن نتثبت في الرواية وفي قبولها؛ فقال -عز من قائل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحُجُرات: 6) في قراءة: "فتثبتوا"، فاسق ماذا ننتظر من خبره؟ ربما ترتب على هذا الخبر حرب تقوم، يعني: يصل الأمر بالنسبة للأخبار إلى خطورة شديدة جدًّا كما في هذه الآية وفي سبب نزولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} فالآية دلت على أننا نتوقف في قبول خبر الفاسق لفسقه. وهذا فتح الباب أمام العلماء ليبحثوا عن شروط الراوي الذي تقبل روايته بتفصيلات لا يتسع المقام لذكرها، غير أننا نسجل هنا ما نحن بصدده من أن الاهتمام بأحوال النقلة سَبْق إسلامي لم ولن -لم لنفي الماضي، ولن لنفي المستقبل- لم تسبق الأمة إليه ولن تلحق فيه؛ لأن الباعث أصلًا إليه كان تدينًا، كان الغرض من الجهد الفائق هذا هو صيانة الشرع والحفاظ على السنة؛ لأن السنة أحد مصادر التشريع، أو ثاني مصادر التشريع، ثم إنها تبين القرآن الكريم. أيضًا العلماء وضعوا قواعدَ مقررة اصطلحوا عليها لدراسة السند والمتن، فهذا جعل تمحيص الروايات خصيصة من خصائص الرواية في الإسلام، يعني: حين نقول هذه الرواية صادقة، أو هذه الرواية كاذبة، أو هذه الرواية مطابقة للواقع، أو مخالفة للواقع؛ فإن ذلك يتم ليس بهوى أنفسنا، وليس بما نتذوقه من الأخبار فنقبل ما يريحنا ونرفض -مثلًا- ما يؤلمنا، أو نقبل ما يوافق هوانا إلى آخره كل

ذلك لا، إنما هناك قواعد مقررة هي أيضًا مستنبطة من أدلتها الشرعية، يعني: هذه القواعد حين وضعها العلماء استدلوا على كل قاعدة بالأدلة الشرعية، وفي النهاية أصبح لدينا منهج ضم مجموعة من القواعد لدراسة المتن ولدراسة الإسناد، فإذا سلم لنا الإسناد وسلم لنا المتن، نستطيع أن نقول: إن الرواية صحيحة بإذن الله. أيضًا من خصائص الرواية: أنها تعلم أن مرجع الأحكام الشرعية في الإسلام هي إلى القرآن الكريم وإلى السنة المطهرة، فاشتدت العناية بهما اشتدادًا -كما قلت- لم يسبقوا به ولم يُلحقوا فيه؛ فهي جهد، وأكرر السبب في ذلك أنه نبع من حب للدين وحرص عليه وصيانة له، وهو حرص متصل إلى أن أدوا لنا الأمانة ناقية خالصة بإذن الله رب العالمين. إذًا معرفة الأمة بأن مرجع الأحكام هي إلى القرآن وإلى السنة، جعل الأمة تشتد في العناية بهما، وفي الإسناد المتصل بهما الموصل إليهما حتى يصل الأمر لنا نقيًّا. أيضًا الإسناد المتصل من أول الراوي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا من خصائص أمة الإسلام، لا يوجد عند أمة غيرنا، بل أنا أقول في كثير من الأحيان بعد أن شرفني الله بالتعمق في دراسة السنة وما يتصل بها في كثير من الأحيان، أتصور أن الهجوم على الصحابة -رضوان الله عليهم- إنما هو نوع من الحسد لهذه الأمة، فلم يوجد عند نبي من الأنبياء جيل اهتم بنقل ما تحمله عن هذا النبي، كما اجتهد الصحابة في ذلك؛ لذلك حسدونا على نعمة الصحابة من بين ما حسدونا عليه، وكان التعبير عن هذا الحدث هو أن يهاجموا الصحابة وأن يشككوا فيهم -بكل أسف- وهيهات أن يصلوا إلى غرضهم، وأمة الإسلام تعرف قدر الصحابة. لكن على كل حال هذه مسألة استطردت إليها؛ لأبين أن اتصال السند من النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعلى إلى رواة الحديث الآخرين الذين وضعوها في الكتب، هذا من خصائص هذه الأمة انفردت بها.

يقول ابن حزم -رحمه الله تعالى-: نَقْل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الاتصال. ولننتبه لكلام ابن حزم "مع الاتصال" لأننا ممكن نقول: قال -صلى الله عليه وسلم- يعني: نحن في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقف على المنبر أو في أي مناسبة أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا هنا رفعت الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن أين إسنادي إليه؟ ولذلك هذا أمر آخر يتعلق بكيفية رواية الحديث الآن، وهذا يدرس أيضًا في مادة المصطلح، أنا فقط أنبه، يعني: نقل الثقة عن الثقة، يعني: الذين يقولون لنا لا بد أن يكونوا ثقات، يصل الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- متصلًا من غير انقطاع في السند خص الله به المسلمين دون سائر الملل. وأما مع الإرسال والإعضال والطرق المشتملة على كذاب أو مجهول الحال، فكثير في نقل اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الملل الأخرى وأهل البدع والأهواء. هذا نقل بتصرف من كتاب (الفصل في الملل والنحل) لابن حزم، وقول ابن حزم قول مشهور ونقله كثير من العلماء الذين يعرفون أن الرواية بالإسناد المتصل الذي لا خلل فيه ولا انقطاع بأي صورة من صور الانقطاع لا إرسال ولا أداء ولا انقطاع إلى آخره ولا تعليق، كل ذلك لا يوجد إلا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي تتمة قول ابن حزم تكاد تكون هناك أجيال منقطعة ليس جيلًا واحدًا ما بين كثير من الأنبياء وما بين أتباعهم الذين نقلوا لنا أخبارهم بعد ذلك. وفي هذا الصدد نتحدى أن يأتي الآخرون بحديث متصل الإسناد في كتاب من كتبهم إلى نبيهم الذي يؤمنون به، بدون استثناء لأهل الملل والأديان جميعًا أن يأتوا بأسانيد متصلة من أول صاحب الكتاب الذي بين أيديهم الآن إلى نبيهم الذي يؤمنون به، وينقلون عنه ما ينقلون، هذا لا يوجد إلا في شريعة الإسلام ولنبينا -صلى الله عليه وسلم- ولديننا ولسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-. إذن، هذه بعض خصائص الرواية في الإسلام الاهتمام بتصحيح الأخبار، وتحريم الكذب تدينًا، التأكد من مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد الاثنين معًا،

الأصل في الرواية هو الرواية باللفظ.

يعني: مثلًا الله تعالى في أول آيات سورة "المنافقون": {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} (المنافقون: 1) هم كاذبون رغم قولهم المطابق للواقع وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رسول: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} هذا قول حقيقي، ولذلك قال الله تعالى في جملة اعتراضية للاحتراس: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}، ثم عقب فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} لماذا هم كاذبون مع اتفاق خبرهم مع الواقع؟ لأنه مخالف لما يعتقدونه، ومعلوم أن أهل النفاق يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر -والعياذ بالله-. إذن، الاهتمام بتصحيح الأخبار، تحريم الكذب، بيان مدى مطابقتها للواقع من عدمه، الاهتمام بأحوال النقلة، وضع القواعد المقررة لتمحيص الروايات سواء لدارسة الإسناد أو المتن، أيضًا يعلمون أن مرجع الأحكام الشرعية هي إلى القرآن وإلى السنة المطهرة؛ فلذلك اشتدت العناية جدًّا بهما وبكل الطرق الموصلة إليهما من إسناد وغيره. وقلنا: إن اتصال السند إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير انقطاع ولا إعضال ولا أي نوع من أنواع الخلل، إنما هو من خصائص هذه الأمة التي تميزت به على غيرها من الأمم. الأصل في الرواية هو الرواية باللفظ إن الأصل في الرواية هو الرواية باللفظ: أرجو أن ننتبه إلى هذه المسألة، يعني: حين ننقل خبرًا من الأخبار فإن الأصل هو أننا ننقلها بلفظها، ضرورة التمسك باللفظ هذه مسألة متفق عليها، وأرجو ألا يخدعنا أحد عن أنفسنا، يعني: حتى الذين أجازوا الرواية بالمعنى -وهي مبحثنا في هذا الدرس- متفقون على أن الأصل هو أن يروي الحديث بلفظه كما هو من غير زيادة ولا نقصان، هذا منهج علمنا إياه الصحابة -رضوان الله عليهم- ووعته الأمة جيدًا وتعاقبت عليه الأجيال في التطبيق العملي.

سأضرب بعض الأمثلة من حرص الصحابة على تحري اللفظ بدقته كما هو، رغم أن التغيير قد لا يؤدي إلى خلل في المعنى، لكنهم يحرصون على أن الأداء في الأصل هو باللفظ كما سمعه، وأنا أرجو أن ننتبه إلى أهمية هذه المسألة، هي تدحض الفرية من أساسها، وهناك من تجاوز، وقال: لا يوجد حديث مروي بلفظه، هذه مبالغة ممقوتة، وسيثبت بالأدلة بطلانها وزيفها، لكن دعنا الآن نقرر أن الأمة كلها متفقة على أن الأصل في الرواية أولًا هو الأداء باللفظ كلما أمكن ذلك، يعني: لا يسع أي واحد من المؤمنين أن يتمكن من أداء اللفظ المنقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الذي سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- إن كان من الصحابة، ثم يترخص في أن يرويه بالمعنى مع تمكنه من أدائه باللفظ، هذه لم يقل بها أحد من علماء الأمة. أقول: أضرب بعض الأمثلة، عندي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصحيحين: ((بني الإسلام على خمس)) هذا مثلًا موجود في (صحيح البخاري) كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم، وموجود عند الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه النظام، ونص الشاهد الذي أستشهد به الآن هو ورد في رواية مسلم، ابن عمر -رضي الله عنه- ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بني الإسلام على خمسة -يعني: على خمسة أركان- على أن وحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج)) فقال رجل: "الحج وصيام

رمضان" يعني ابن عمر ينقل الحديث بتقديم الصيام على الحج؛ فقال الرجل يعقب أو كأنه يعيد الحديث حتى يتأكد من حفظه فقال: "الحج وصيام رمضان" فقال له ابن عمر: لا "صيام رمضان والحج" هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. هنا لا يوجد تغيير في الكلمة مجرد الترتيب، هل ذكر الحج أولًا، أو ذكر الصيام أولًا؟ فرواية ابن عمر: ((صيام رمضان والحج)) فقال الرجل: "الحج وصيام رمضان" يعني: عكس المسألة قدم الحج على الصيام، هناك تغيير في المعنى ومع ذلك لم يقبل ابن عمر وقال: لا ((صيام رمضان والحج)) هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا موقف ابن عمر، هل انفرد به ابن عمر من بين الصحابة؟ لا. مثال آخر: حديث البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنهما-: ((إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) هذا رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل مَن بات على الوضوء، ورواه في أماكن أخرى من صحيحه، محل الشاهد في الجملة الأخيرة: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) البراء يقول: فرددتها على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما بلغت: ((اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت)) قلت: "ورسولك الذي أرسلت" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا، ونبيك الذي أرسلت)) يعني: البراء وهو يراجعها مرة ثانية مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تأكد من حفظها قال: "ورسولك الذي أرسلت" فأبدل لفظ "النبي" وجاء بلفظ "الرسول"، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا، ونبيك الذي أرسلت)). النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم التمسك باللفظ، وحتى شراح الحديث التفتوا إلى فائدة جليلة جدًّا في: ((ونبيك الذي أرسلت)) هذه العبارة جمعت له بين النبوة والرسالة: ((ونبيك الذي أرسلت)) فكلمة: ((أرسلت)) أفادت الرسالة، ((ونبيك)) أفادة النبوة، بعكس العبارة الأولى "ورسولك الذي أرسلت"، ربما اقتصرت على الرسالة فقط. هذا مثال آخر، والأستاذ فيه هو النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يعلم الصحابة الحرص على أداء اللفظ كما هو. مثال ثالث: حديث الاستخارة، وهو حديث مشهور: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين)) الأول هو من رواية مجموعة من الصحابة.

رواية جابر: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير فريضة، ثم ليقل ... )) إلخ، يصل إلى جملة -يعني: محل الشاهد-: ((اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه)). في حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود جاء بلفظ واحد: ((عاقبة أمري))، حديث ابن مسعود عند الطبراني: ((في ديني ودنياي)) من غير شك، هنا في الرواية لما شك الراوي أي اللفظين قال -صلى الله عليه وسلم- أتى بالوجهين معًا، هذا الحديث رواه البخاري في مواطن كثيرة ومن بينها في كتاب الدعوات باب الدعاء عند الاستخارة، انظروا حين شك الراوي في اللفظ الذي سمعه أتى باللفظين معًا، مع أن أحدهم كان يكفي، ومع أنه قد وردت روايات بالجزم في اللفظ المستعمل، إنما قال: يقل: ((اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وعاجله فاقدره لي)) كل ذلك يدل على ضرورة التمسك باللفظ. إذن، نحن نقرر هذه القاعدة ونحن مطمئنون، وهذا ليس كلامي وإنما هو كلام أهل العلم، الكل مجمع على ضرورة الأداء باللفظ أولًا كلما أمكن ذلك، ولذلك هم يقولون عن حكم الرواية بالمعنى أنها رخصة -ليست عزيمة- عند الضرورة -عند الاحتياج- انظروا إلى هذه الدقة حين أعطوا لها حكمًا شرعيًّا، قالوا: إنها رخصة، كلمة "رخصة" يعني: ليست هي الأصل، ليست هي العزيمة المطلوبة شرعًا، إنما الأصل هو الأداء باللفظ وإذا تعذر أو تعثر لأي سبب لنسيان، أو لشك، أو لبعد عن المصادر إلى آخره، فيستعمل المعنى، ووضعوا لها شروطًا سنشير إليها بعد قليل.

هناك أدلة شرعية حثت على ضرورة الحفاظ على اللفظ، من ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بروايات متعددة عن ابن مسعود وعن زيد بن ثابت وغيرهم -رضي الله عن الجميع- وقال الترمذي عن رواية ابن مسعود: إنها حسنة صحيح، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع: ((نضر الله امرأً سمع مقالتي، فأداها كما سمعها)) هذا محل الشاهد: ((فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)) وفي رواية: ((فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) إلى آخره. أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين يقول الصحابي: "كان يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعملنا السورة من القرآن" وكذلك من حديث ابن مسعود في التشهد: "يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، ومر بنا حديث البراء بن عازب: لا لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: "ورسولك الذي أرسلت" وإنما قال: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت)) -صلى الله عليه وسلم- هذه أدلة على ضرورة الأداء باللفظ كلما أمكن ذلك. وفي التمسك باللفظ وردت روايات متعددة، الخطيب البغدادي في (الكفاية في علم الرواية) عدة أبواب متوالية تبين أن منهج الأمة هو الحفاظ على اللفظ عند إمكان ذلك، فقد روى الخطيب بسنده إلى أبي جعفر محمد بن علي -رحمه الله تعالى- قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد فيه ولا ينقص". يعني: هنا ينقل لنا قاعدة عن الصحابة، هو منهج، لم ينفرد به البعض حتى نقول: إنها أمثلة قليلة مثلًا، أو مواقف شخصية، أو تحوط زائد من بعض الصحابة، لا، إنما كان هذا منهجًا عامًّا عند جميع الصحابة، ما دام يمكن الأداء باللفظ كما هو.

وعندنا روايات وأنا أحس المستمع الكريم الآن وهو يقرأ في مصادرنا في السنة -يعني: في البخاري، في مسلم، في غيرهما، من كتب السنة- ويجمع الأحاديث التي وردت بروايات متعددة عن جملة من الصحابة، سيجد كثيرًا منها قد اتفق في اللفظ، وحتى لو اختلف سيختلف في حرف أو اثنين، لا يؤثر، يعني: نستطيع أن نجزم معه بأن أيضًا الرواية باللفظ كما هي، حتى يرد على الشبهة من أساسها أن الرواية بالمعنى أفسدت أو كذا أبدًا، يعني: كثير من روايات الحديث المتعددة التي نُقلت لنا عن جملة من الصحابة إنما وردت بروايات متعددة واللفظ فيها واحد. أيضًا روى الخطيب -رحمه الله تعالى- بسنده إلى محمد بن علي أيضًا -رضي الله عنه- قال: "كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا سمع الحديث لم يزد فيه ولم ينقص منه ولم يجاوزه ولم يقصر عنه". وأورد الخطيب في هذا المعنى روايات كثيرة عن عمر وابن مسعود وأبي أمامة وزيد بن أرقم، وأورد قول عمر -رضي الله عنه-: "من سمع حديثًا فحدث به كما سمع، فقد سلِمَ". بل إن الخطيب -رحمه الله تعالى- وضع عناوينَ لجملة من الأبواب تؤكد مثل هذا الأمر، مثلًا يقول: باب ما جاء في رواية الحديث على اللفظ ومن رأى ذلك واجبًا، يعني: هذا الواجب، باب ذكر الرواية عمن لم يجز تقديم كلمة على كلمة، باب ذكر الرواية عمن لم يجد زيادة حرف واحد ولا حذفه وإن كان لا يغير المعنى، ساق كمثال لهذا الأمر -زيادة حرف واحد- حديث أنس بن مالك رواه بسنده: ((نَهَى رسول الله عن الدباء والمزفت أن ينتبذ فيه)) فقيل لسفيان: "أن ينبذَ فيه" يعني: يعصر فيه، نهى عن آنية الدباء والمزفت التي فيها نوع من القاري مزفتة، والدباء آنية تُصنَع من اليقطين، يعني: كانت الفواكه الجامدة، أو كذا، أو آنية يصنعونها يشربون فيها، فالدباء والمزفت نوع من أنواع الأواني فنهى -صلى الله عليه وسلم- أن ينتبذ فيه، فالذي

سمع من سفيان يقول: "أن ينبذ فيه" يعني: يعصر فيه، يعني: بدل "ينتبذ" "ينبذ فيه" فقال سفيان: لا، هكذا قاله لنا الزهري ((أن ينتبذ فيه)). وأيضًا من أبواب عند الخطيب باب ذكر الرواية عمن لم يجز إبدال حرف بحرف وإن كانت صورتهما واحدة، وباب الرواية عمن لم يجز تقديم حرف على حرف إلى آخره. بل إن بعضهم من شدة التمسك بالرواية باللفظ كان يروي الرواية بلحنها -بخطئها- وهو يعلم أنها فيها خطأ، لكن لم يجز لنفسه أن يغير هذه الرواية، ينبه على الخطأ لكنه يترك الرواية كما هي، فمثلًا كان يروي "حوث" بدل "حيث"، أو "لغيت" بدل "لغوت"، أو "عوثاء السفر" بدل و"عثاء"، وكتب المصطلح ضربت أمثلة لهذا. وكل هذه الأمور تبين أن الأمة متفقة على أن الأصل في الرواية إنما هو الرواية باللفظ، لكن الرواية بالمعنى رخصة ينتقل إليها إذا احتجنا لذلك. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 15 الرواية بالمعنى.

الدرس: 15 الرواية بالمعنى.

تعريف الرواية بالمعنى، وبيان شروط ها وما يستثني من جوازها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر الرواية بالمعنى تعريف الرواية بالمعنى، وبيان شروط ها وما يُستثني من جوازها الرواية بالمعنى: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: تعريفها: هي أن يؤدي الراوي الحديث بألفاظ من عنده، كلًّا أو بعضًا، مع المحافظة على المعنى بحيث لا يزيد فيه شيئًا ولا ينقص منه شيئًا، ولا يحرِّف ولا يبدل ولا يغير. إذا نظرنا إلى هذا التعريف نجده قد احتوى على مجموعة من الأمور جدير بنا أن نعرفها: 1 - أن يؤدي الراوي الحديث بألفاظ من عنده. 2 - إما بعض الحديث إما كل الحديث. 3 - مع المحافظة على المعنى. وهذا أمر مهم جدًّا. 4 - بحيث لا يزيد فيه شيئًا ولا ينقص منه شيئًا، قد لا تحدث الزيادة ولا يحدث النقصان، لكن يحدث تغيير وتبديل، ولذلك يأتي أيضًا "ولا يحرف ولا يبدل ولا يغير". هذا تعريفها، وقد تضمنت التعريف جملةً من الأمور التي ينبغي على الراوي بالمعنى أن يلاحظها، وسنبحثها في نقاط مستقلة بإذن الله. أقوله إن هذه المناقشة للرواية بالمعنى كانت قبل عصر التدوين، أما بعد عصر التدوين فقد انتهت الحاجة إليها؛ لأن الرواية قبل التدوين كانت تعتمد على المشافهة بنسبة كبيرة في الأخذ والرد والتلقي والتحمل والأداء بين الرواة من شيوخ وتلاميذ في كل مكان وفي كل زمان، أما بعد تدوين السنة وأصبحت

السنة الآن معروفة بمصادرها الصحيحة، وعلى درجات متفاوتة في الصحة وفي غيرها، هذا أمر مقرر عند العلماء، لكن السنة الآن مدونة في بطون الكتب بفضل الله -عز وجل-. فلا يجوز لأحد أن يروي الآن بالمعنى ما دام يمكن الرجوع إلى المصدر الذي تأخذ منه فلا بد من العودة إليه. وهذا يجرني إلى أن أسمح لنفسي بأن أقول رأيًا في حكم الرواية بالمعنى الآن، أنا حين ذكرت آراء العلماء في الرواية بالمعنى لم أشأ أن أضع لنفسي رأيًا ولا يجوز، فأنا طالب علم وأنقل عن المشايخ العلم، إنما بالنسبة لهذه النقطة بالذات بدأت الكلام حتى أصل إليها؛ لأن هذا النقاش فعلًا في الرواية بالمعنى كان قبل التدوين، الآن هل يجوز لنا أن نروي بالمعنى؟ أقول: لا، هذه القضية الآن لا ينبغي أن تكون مثارة، إنما هي أثيرت لأن جزءًا من السنة نقل لنا بالمعنى، ولكنها دونت وأصبحت موجودة في بطون الكتب، لماذا لا ينبغي أن تكون مثارة؟ لأن السنة قد دُونت، مثلًا: أنا خطيب أخطب الجمعة، أو أنا أؤلف كتابًا، أو أكتب مقالًا، أو أي شيء يقتضي أن أستدل بأحاديث، ما هي الصعوبة في أن أعود إلى المصادر لأنقل منها الحديث بنصه وفصه ولفظه بدون زيادة أو نقصان؟ كان من الممكن أن نناقش قضية الرواية بالمعنى -كما قلنا- لو كنا في عصر المشافهة قبل عصر التدوين التام، أما الآن فالذي يريد حديثًا يرجع إلى بطون الكتب ويأخذ الحديث. وما أيسر الحصول الآن على الأحاديث، يعني: التذييلات والاسطوانات والفهارس، يعني: في محاضرات سابقة ودروس سابقة قلنا: إن الحافظ من علماء أمتنا القدامى -رحمهم الله- حين كان يقول مثلًا عن حديث رواه البخاري لا بد أن يكون حافظًا للبخاري، رواه

الإمام أحمد يكون حافظًا لـ (مسند الإمام أحمد) وهكذا، وإلا فكيف يحصل عليه لم تكن هناك اسطوانات للحاسب الآلي كما هي موجودة الآن، لم تكن هناك فهارس للكتب إلى آخره، كان الحافظ يعتمد على ذاكرته. أما الآن -الحمد لله- يسر الله على أبناء العصر بتيسيرات لا حصر لها، كل المطلوب بعض الهمة اليسيرة في البحث عن الحديث بلفظه؛ حتى لا تقع تحت طائلة الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأنا أرجو أن أنقل هذا الإحساس لإخواني وأبنائي من أهل الدعوة ومن أهل العلم حين نقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا دين يجب اتباعه، وما حاجتك الآن إلى الرواية بالمعنى، كما قلت الكتب في مصادرها الآن. أيضًا هناك شرط اشترطوه وهي: البراعة في النحو، وفي البلاغة، وفي الفصاحة، وهذا يكاد يكون مفقودًا عند كثير من أبناء العصر، فأنا لا أبيح الرواية بالمعنى لقوم لم يتقووا جيدًا ولم يدرسوا اللغة جيدًا بفصاحتها وبلاغتها وتركيباتها ومفرداتها إلى آخره، ولم يدرسوا النحو لكي يضبطوا الكلمات من ناحية الإعراب ضبطًا دقيقًا، فلا أفتح الباب خصوصًا مع سهولة الحصول على الأحاديث بنصها. كانت هذه استطرادة. لكن نرجع لنلخص الشروط التي وضعوها للرواية بالمعنى للجمهور الذي أجازها: أن لا تجوز إلا لعالم بالألفاظ ومقاصدها، أن يكون بارعًا في النحو والصرف والأدب والبلاغة، أن يكون قادرًا على أن يؤدي الحديث خاليًا من اللحن ومن الركاكة ومن الضعف، أن يكون خبيرًا بما يحيل المعاني، وأن يكون بصيرًا بمقدار التفاوت بينها، وأن يوضح ما يدل على أنه قد روى الحديث بالمعنى، حتى لا يخدع

السامع، وحتى لا يظن السامع أنه قد أداه بلفظه فيأخذ من ورائه بدون تردد خصوصًا إذا كان الذي ألقى الحديث أحد الشيوخ، أو عالمًا كبيرًا، أو كذا، يعني ربما يخدع في البعض. أيضًا قلنا: إن هذا الأمر كان قبل عصر التدوين، أما بعد عصر التدوين فقد انتهى الأمر، أو أغلق الباب. مسألة جديدة الذين أجازوا الرواية بالمعنى استثنوا منها أمورًا وأحوالًا: أولًا: الأحاديث المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته لا تجوز روايتها بالمعنى؛ لأنها توقيفية، ولا يجوز التغيير فيها ولا التبديل، يعني: مثلًا بعض الكتاب حتى لو لم نشق عن قلب صادق ومخلص ويحب ربه ويحب نبيه -صلى الله عليه وسلم- ويحب الدين ويدافع عنه في بعض كتاباتهم مثلًا وهو يتكلم عن إتقان الله الصانع في كونه كله يقول: المهندس الأعظم، المخطط البارع، لا، هذا لا يجوز إطلاق هذا على الله -عز وجل- فما بالك لو استعملتها في أحاديث بالمعنى وغيرت أو استعملت وأنت تظن أنك على حق لا، هذه أسماء وصفات توقيفية لا يجوز لنا أن نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه في القرآن الكريم أو في أحاديث سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا من الأحاديث المستثناة من جواز الرواية بالمعنى أحاديث العبادات كأحاديث التشهد مثلًا، وكأحاديث الأذكار، وكأحاديث الآداب، يعني: مثلًا أذكار الصباح، أذكار المساء، آداب الطعام، آداب اللباس، آداب النوم، الأذكار التي تقال عند كل هذه المواقف والمناسبات، التشهد في العبادة، هل يجوز لي أن آتي بتشهد من عندي مثلًا، حتى لو احتوى على أصدق الألفاظ وأقواها في الثناء على الله تعالى وعلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لا؛ لأنها عبادات قصدت بذاتها وبألفاظها، فلا يجوز لنا أن نغير فيها أو أن نبدل، وإنما نأتي بها على ألفاظها. أيضًا من الأحاديث التي لم يسمح العلماء بأن تروَى بالمعنى: أحاديث جوامع الكلمة منه -صلى الله عليه وسلم- أي: التي وصفت بأنها من جوامع كلمه، وهذه أشار إليها كثير من

العلماء وضربوا لنا أمثلةً مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))، ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد))، ((كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل))، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) عبارات تكتب بماء الذهب احتوت على فوائد جميلة ودروس عظيمة، وهي مقصودة بذاتها وبحروفها وبألفاظها، فلا يجوز لنا أن نغير أو أن نبدل، ولنفترض أن أحدنا إذا نسي صيغة من الصيغ التي يتعبد بها فليتوقف عن استعمال النص، لكن لا تجوز له الرواية بالمعنى. أيضًا الأحاديث المتواترة المشهورة: ((مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))، ((بشِر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) إلى آخره، هذه أيضًا أحاديث فيها تواتر، وفيها جوامع كلم ولا تروَى إلا بألفاظها. أيضًا كُتُب النبي -صلى الله عليه وسلم- التي أرسلها إلى أي جهة إلى الملوك إلى الرؤساء إلى غيرهم يدعوهم إلى الإسلام، لا يجوز لأحد أبدًا أن يروي بالمعنى؛ لأن هذه الألفاظ مقصودة فيه العبادات، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابًا في الصدقات وأرسله اليمن، لو أحدنا غير بعض الألفاظ ربما غير المعنى، ربما غير المقادير، حين بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- رسائل إلى ملوك الأرض ورؤسائها يدعوهم إلى الإسلام، فلا يجوز لنا أن نغير من هذه الكتب التي أرسلها، حين وقع النبي -صلى الله عليه وسلم- معاهدات مع اليهود الذين كانوا يساكنونه في المدينة، يعني: وضع فيها القواعد المنظمة لأمر المجتمع هل يجوز لنا أن نغير أو نبدل؛ لأن هذا التغيير وهذا التبديل قد يؤدي إلى فساد المعنى، أو اختلال الشروط، أو تطبيقها بطريقة خطأ أو فهمها بطريقة خطأ، كل ذلك لا بد من أدائه باللفظ. أيضًا الأحاديث التي فيها مخاطبة كل قوم بلغتهم، مثل الحديث الذي عند مسلم مثلًا: ((ليس امبر امصيام في سفر)) هل يجوز لي وأنا أرويه أن أقول: ((ليس من البر الصيام في السفر)) لا، لماذا؟ لأن من ضمن الدروس المستفادة من الحديث أن

الشبهات التي أثيرت حول الرواية بالمعنى.

النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمل هذه اللغة؛ فهي جائزة وأنها من الفوائد الدعوية أنه يجوز لنا أن نخاطب بعض الناس الذي يجهلون العربية، أو الذين يدخلونها، أو حتى من أرباب العربية لكنهم ليسوا على اللغة الأم لغة قريش، لأوضح لهم المعنى، فالخطاب بهذه اللغة مقصود، فلا يجوز تغييره حتى لو أتينا بالمعنى كاملًا. إذن، الذين تكلموا على أن الرواية بالمعنى جائزة قالوا: إنها رخصة، وقالوا: إن ذلك كان قبل عصر التدوين، واستثنوا روايات، لا يجوز لنا أن نرويها إلا باللفظ، ولا تجوز روايتها بالمعنى. الشبهات التي أثيرت حول الرواية بالمعنى الشبهات التي أثارها البعض حول الرواية بالمعنى: لقد أثاروا شبهًا كثيرةً رد عليها العلماء، من هذه الشبه قولهم: أن الأحاديث كلها رويت بالمعنى، ولا نكاد نطمئن إلى حديث واحد قد ورد بلفظه كما هو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. الحقيقة مشايخنا الكرام جزاهم الله خيرًا ردوا على هذه الفِرية بأدلة كثيرة؛ فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة -رحمه الله- في رده على كتاب (أضواء على السنة النبوية)، والدكتور صبحي الصالح في (علوم الحديث)، وكثير من العلماء، والدكتور مسفر الدميني في كتابه عن (مقاييس النقد عند المحدثين)، والدكتور مصطفى الأعظمي في (منهج النقد عند المحدثين) ردوا على هذه الفرية وعلى غيرها من الفريات التي أثاروها. وخلاصة أقوالهم مثلًا قضية أن "لا يوجد حديث روي باللفظ" نقول: هذا زعم يرده اتفاق الروايات على ألفاظ أحاديث كثيرة جدًّا، مما يؤكد أن النقلة جميعًا قد نقلوه بلفظه، ورووه بكلماته كما هي، يعني: مجرد بعض الأمثلة نضربها مثلًا: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار))، ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق))،

((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... )) وإن كان هناك بعض الألفاظ اليسيرة في هذا الحديث: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))، ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)). مستعد أن أذكر عشرات الأحاديث حيثما قلبت روايتها المتعددة، فأنت أمام لفظ واحد قد اجتمع الرواة جميعًا عليه، مما يدحض هذه الفرية من أساسها وهي أن الأحاديث قد رويت كلها بالمعنى بدون اللفظ، وهو يقول هذه الكلمة ليشكك فيها، فأي لفظ أعتمد، وأي كذا، وأي حكم آخذ، يعني: كما يريدون أن يثيروا الشبهات حول السنة من رواء هذا الكلام. وأنا كما قلت أنتهج الفرصة لأنبه الآن أبنائي السامعين وأطلب منهم حسن المعايشة للسنة واتساع هذه المعايشة، نقرأ في مصادرنا، الحمد لله التي اجتهد العلماء جزاهم الله خيرًا في تركها لنا ستجد لن أقول حديثًا واحدًا ولا عشرات الأحاديث، ولا أبالغ إذا قلت مئات الأحاديث قد اشتركت في اللفظ، وحين اختلفت اختلفت اختلافًا يسيرًا لا يكاد يُذكر، ولا نستطيع مع هذا الخلاف اليسير أن نقول: إن هناك خللًا في الأداء باللفظ، ولذلك نجد علماءَنا قد اصطلحوا على ألفاظ تؤدي هذه الأغراض حين نقارن بين الروايات، هل رواه بمثله؟ هل رواه بمعناه؟ هل رواه بنحوه؟ هل رواه مختصرًا؟ هل رواه جزءًا من حديث؟ كل هذه عبارات اصطلح عليها العلماء ووضعوها للمقارنة بين الروايات؛ ليميزوا بين الراوي الذي أورد الحديث بلفظه، أو الذي لم يورد الحديث بلفظه. إذن، الأدلة من خلال السنة نفسها ترد على هذه الفرية. أيضًا كثير من الروايات الطويلة تكاد تكون رويت بألفاظها مع طولها، وخير مثال لهذا حديث بَدْء الوحي الذي روته أمنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- وذكرت فيها قصة بدء الوحي حين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخلو بغار حراء، وأول الحديث: ((أول ما بدئ

رسول الله من الوحي الرؤية الصادقة -أو الصالحة- فكان لا يرى رؤيًا إلا جاءت مثل فلق الصبح)) إلى آخر الحديث، وهو في الصحيحين وفي غيرهما، ويكاد يجمع الرواة على لفظه. إذن، الإتيان بالأحاديث بألفاظها لم يقتصر فقط على الأحاديث القصيرة التي يسهل حفظها أو استيعابها، ومنها العشرات بل المئات، وإنما أيضًا وجد اتحاد الألفاظ أو مع تفاوت يسير جدًّا لا يخل برأس القضية من أنها رويت باللفظ ولم ترو بالمعنى في أحاديث طويلة كثيرة جدًّا، والذي يراجع أحاديث الشفاعة وصفة الجنة والنار وما إلى ذلك يجد الأمثلة التطبيقية على هذا كثيرة. أيضًا مما يثيرونه من شبه: أن الرواية بالمعنى تتعارض مع الحث على الأداء باللفظ، كما في الحديث الذي أشرنا إليه من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فأداها كما سمعها ... )) إلى آخر الحديث، الرد نحن ذكرناه أثناء تعرضنا لهذه المسألة، ونحن نتكلم عن الأمور المتعددة المتعلقة بالرواية، لكننا نشير إليه على كل حال، نقول: لا ننسى ما ذكرناه من أمور هامة تتعلق بهذه القضية مثل أن أهل العلم جميعًا متفقون على أن الأصل في الرواية إنما هو الرواية باللفظ، حتى الذين أجازوا الرواية بالمعنى بشروط مع هذا الرأي، ونستطيع أن نقول: لا يسع عالم أن يتمكن من أداء الحديث بلفظه، ثم ينتقل إلى الرواية بمعناه، لا يقبلون منه ذلك. هذه نقطة ترد على هذه الفرية. أيضًا مما يرد عليها: أنهم قالوا: إن الرواية بالمعنى رخصة وليست عزيمة، كما في العبادات بشكل عام، الرخص يلجأ إليها عند الضرورة، فمثلًا المسافر يجوز له أن يقصر الظهر والعصر مثلًا، وأن يجمع بينهما، على تعدد في آراء المذاهب في ذلك، فهل يجوز لغير المسافر أن يفعل ذلك؟ لا، مثلًا المسافر يفطر في رمضان إذا أراد، لكن المقيم بدون عذر لا يفطر، وهكذا. إذًا هذه رخصة تستعمل.

أيضًا قالوا: إن الرواية بالمعنى كانت قبل عصر التدوين، أما بعد عصر التدوين فكأنهم الآن يقولون: إنها غير جائزة في زماننا هذا، إذا فهمنا هذه القضايا، نقول: إن هذا لا يتعارض مع حديث: ((نضر الله امرأً))، وأيضًا إن حديث: ((نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فأداه كما سمعه)) هو حث -يعني: فهم الحديث هو حث- على الرواية باللفظ، لكنه لا يغلق الباب، ليس فيه نهي عن الرواية بالمعنى، وليس فيه ما يدل على أن الذي يروي بالمعنى إنما هو آثم إن لم يفعل ذلك، فالحديث يُفهم على بابه أنه حث على الالتزام باللفظ، لكنه لا يؤثم الرواية بالمعنى، وحثه على الرواية باللفظ -كما قلنا- هذه قضية اتفق عليه أهل العلم حتى مَن قالوا بجواز الرواية بالمعنى. أيضًا من الشبه التي أثاروها أن الرواية بالمعنى أضرت بالدين -أعوذ بالله- كلام يدل على عدم صلة صاحبه بقضايا الاجتهاد في الأمة المسلمة، الصواب أن نقول: إنها أثرت الدين وكانت سببًا في تعدد الآراء الفقهية، فأعطت الأمة السعة في الأحكام الشرعية، يعني هناك من اعتمد رواية للحديث فأخذ بالحكم المستفاد من الرواية، وهناك من اعتمد رواية أخرى فأخذ بالحكم المستفاد من الرواية، وسنضرب بعض الأمثلة، لكن على كل الخلاصة أن الرواية بالمعنى أضافت إلى الدين ولم تضر بالدين، يضرب المتضرر أو القائل بأن الرواية بالمعنى أضرت الدين يضرب مثالًا بحديث التشهد الذي نقوله في الصلاة، وأنه ورد بألفاظ متعددة؛ منها حديث ابن مسعود، ومنها حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وغير ذلك، ماذا قال العلماء في ذلك؟ في (المغني) مع الشرح ال كبير ينقل عن الإمام أحمد يقول: "تشهد عبد الله أعجب إلي -تشهد عبد الله بن مسعود يعني الصيغة التي رواها عبد الله بن مسعود أعجب إلي- وإن تشهد بغيره جائز" إذًا المسألة لم تؤدِ إلى ضرر بالدين، وعلماء الأمة

فهموا على أن هذه سعة قد يرجح لفظًا على لفظ لكنه لم يؤثم المخالف، ولم يقل بابتداعه، ولم يقل بخطئه، ليس بالبدعة، ولم يقل شيئًا من هذا. ونقل ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (الفتح) عن الإمام الشافعي حين أخذ بحديث ابن عباس في التشهد، قال: "لما رأيته واسعًا -يعني: ألفاظه واسعة فيها معاني كثيرة- وسمعته عن ابن عباس -رضي الله عنهما- صحيحًا -يعني: يقصد الشافعي -رحمه الله- أن يقول: هو روى هذا الحديث بأسانيد صحيحة عن ابن عباس فثبت صحته، يعني: لما رأيته رأيته واسعًا وسمعته عن ابن عباس -رضي الله عنهما- صحيحًا- كان عندي أجمع، وأكثر لفظًا من غيره، وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح". إذن، هذان عالمان جليلان من أصحاب المذاهب المتبعة، ومن أهل القدوة في أهل الإسلام، الإمام الشافعي والإمام أحمد -رحمهما الله تعالى ورحم سائر علمائنا الأماجد الأماثل على مدار التاريخ كله- الإمام أحمد مال إلى تشهد عبد الله، والإمام الشافعي مال إلى تشهد ابن عباس وكلاهما أباح أن لكل مسلم أن يستعمل اللفظ الآخر ما دام قد ورد ذلك صحيحًا، فأي ضرر مثلته الرواية بالمعنى؟ أيضًا يضرب مثالًا آخر بحديث المرأة التي جاءت تهَب نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- والحديث في الصحيحين من رواية سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- يروي لنا: أن امرأة جاءت تهب نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي، والمهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقطع في أمرها بشيء حتى طال الوقت؛ فقام صحابي جليل مؤدب محترم يقول: "يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها" فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سأله: ((ما معك؟)) يعني: ماذا ستدفع من صداق، الحديث طويل وبعد مراجعات، قال: ((زوجتكها على ما معك من القرآن)) يعني: كان صداقها القرآن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- زوجها للرجل على أن يحفظها ما يحفظ من كتاب الله تعالى.

ما محل الشاهد في هذا الحديث؟ محل الشاهد أن اللفظ الذي استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تعددت فيه الروايات: ((أمكنكتها)) يعني: من التمكن، ((أنكحتكها))، ((ملكتكها))، ((زوجتك إياها بما معك من القرآن الكريم)). هذه الألفاظ المتعددة هم يقولون: مؤكد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استعمل لفظًا واحدًا خصوصًا أن الواقعة لم تتعدد، يعني: قصة المرأة الواهبة قصة واحدة، فالأغلب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استعمل لفظًا واحدًا وتعددت ألفاظ الرواة في التعبير عنه، لا بأس هذا ولد ضررًا كما يقولون أبدًا، كل الذي في الأمر أن العلماء ناقشوا ما هو اللفظ الذي يجوز به تزويج المرأة للرجل. هل إذا قال لها: "ملكتكها" مثلًا يجوز النكاح بلفظ التمليك، أو لا يجوز؟ عند بعض العلماء جاز وعند بعض العلماء لم يجز، أنا قلت: أثرت الدين وسببًا في تعدد الآراء الفقهية التي تحمل سعة للمسلمين، واستعملت عبارة "قل" قلت: سببًا في تعدد الآراء الفقهية ولم أقل: في تعارض الآراء الفقهية، أو فالتعدد ليس دائمًا شيئًا سيئًا، لا بالعكس هو تعدد تنوع وليس تعدد تضاد، فهذا ثراء وهذه سعة من الله -تبارك وتعالى- على عباده. إذن، المسألة لم تضر بالدين أبدًا، وليأتِ لنا الذين يزعمون ذلك بأي حديث تسببت تعدد الرواية فيه في خلل في المعنى، أو فساد في التطبيق، ولن يستطيعوا أبدًا أن يأتوا بمثال واحد على ذلك، وإنما هي عبارات يفخمونها، ويجازفون من غير أدلة علمية حين يزعم أحدهم أنه لا يوجد حديث واحد روي بلفظه. أنا لا أميل أبدًا إلى استعمال عبارات شديدة، لكن هذا بصر واحد لم يتعامل مع كتب السنة، هذا رأي واحد لم يقرأ البخاري كاملًا، أو لم يقرأ مسلمًا، أو لم يرَ الحديث الوارد عن جملة من الصحابة وقد اتفقوا على اللفظ إلى آخره. إذن، لم تضر بالدين في شيء.

أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- هو نفسه الذي كان في كثير من الأحيان يجيب على السؤال الواحد بإجابات متعددة، فلم لم يكن في الأمر روايات بالمعنى، إنما كان الأمر متعلقًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو يوسع لهم في أمور الدين، وأيضًا قد يكون ذلك لمراعاة الأشخاص، أو الأزمنة، أو الأمكنة، أو ما نحو ذلك، نضرب أمثلة أو مجرد مثال: النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله)) مرة ثانية مثلًا: ((أن تطعم الطعام، وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) إلى آخره: أي الإسلام خير؟ أي الإسلام أفضل؟ هو هنا الذي عدد الإجابات، والعلماء حين نظروا في هذه المسألة استنتجوا استنتاجات متعددة كلها محتملة ورائعة وعظيمة، قالوا: هذا من باب التيسير على الأمة، قالوا: هذا أيضًا من باب مسايرة الوحي، بمعنى أن الوحي كلما أخبره بشيء أخبر به. التيسير على الأمة أيضًا له أشكال متعددة، يعني: لا يخبرها بالأمور الواحدة أو المتعددة في حديث واحد وفي سياق واحد حتى يسهل عليها أن تستوعبه، لو ذكر لهم مثلًا كل صفات الفضل في الإيمان قد تطول، لو ذكر لهم الكبائر في سياق واحد قد تطول، لو ذكر لهم مثلًا مكارم الأخلاق في سياق واحد قد تطول، فإذًا هذا من باب مسايرة الوحي، ومن باب التخفيف على الأمة، ومن باب مراعاة الأزمنة والأشخاص والأحوال، بمعنى: مثلًا لو كنا في بيئة بخيلة مثلًا، أو مع شخص بخيل، أو في زمن فيه مجاعة، يعني: أقصد أن تكون مراعاة الأشخاص، أو الأزمنة، أو الأمكنة مثلًا أفضل الأعمال إطعام الطعام، الرجل البخيل نحثه على ذلك، البيئة المحتاجة نشيع هذا الأمر فيها، أيضًا لو كان مسافرًا وانقطع زاده أيضًا إطعام الطعام في حقه وهكذا. بيئة نزل العدو بأرضها أفضل الأعمال بالنسبة لها الجهاد، قوم يقصرون في الصلاة فأفضل الأعمال لهم الصلاة لوقتها، أو يؤخرونها عن وقتها وهكذا، مع

اشتراك الجميع في نهاية الأمر أن كل هذه الأعمال تشترك في كونها من أفضل الأعمال عند الله -تبارك وتعالى-. إذًا الأمر حتى كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يعدد الروايات وليس النقلة لحكم شرعية كثيرة، وإذا كان بعض النحاة لم يستدل به في النحو تحت دعوى أن الحديث قد روي بالمعنى وليس بالضرورة هو لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن العلماء قد ردوا عليه؛ الدكتور صبحي الصالح -رحمه الله- يرى أن النحاة واللغويين الذين وقفوا هذا الموقف أخطئوا خطأً جسيمًا على حد تعبيره؛ لأن الذين أولًا رووا بالمعنى هم الفصحاء البلغاء من الصحابة ومن بعدهم، وثانيًا النحاة استشهدوا بأشعار لم تصب في صدق نسبتها، وفي تحري ألفاظها كما فعل بالأحاديث النبوية، يعني: ينسبونها إلى أي شعر ونحن لسنا متأكدين من هذه النسبة، وأحيانًا قصائد تروى بألفاظ متعددة ولم نتأكد، يعني: لم يبذل فيها ما بذل في الأحاديث النبوية من التأكد من صحة السند ومن صحة المتن، ومع ذلك استدلوا بها، وعند الأحاديث وقف بعض -النحاة كلهم لم يقفوا هذا، وقف البعض- منهم هذا الموقف مما جعل بعض الناس يقول: إن الرواية بالمعنى أضرت وجعلت الحديث لا يستدل به، فالعيب ليس عيب الحديث وإنما عيب النحاة، وكما قلت الذي يستعمله الحديث يصبح أصلًا لغويًّا يجب على الأمة كلها أن تعمل به في لغتها وفي كل أمورها. هذه بعض أهم الشبهات المثارة حول الرواية بالمعنى أنها أضرت بالدين، أنها تتعارض مع حديث: ((نضَّر الله امرأً))، أن بعض العلماء أخذ موقف من الاستدلال بالنحو، أن الأحاديث كلها رويت بالمعنى، كل ذلك رددنا عليه بإيجاز. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 16 الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن.

الدرس: 16 الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن.

تعريف النقد لغة واصطلاحا.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن تعريف النقد لغةً واصطلاحًا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ ثم أما بعد: فالرّد على دعوى اهتمام المحدثين -رحمهم الله تعالى- بنقد سند الحديث دون المتن، وأنهم لم يوجهوا عنايتهم لدراسة المتن كما وجهوها لدراسة الإسناد. النّقْدُ في اللُّغَةِ: هو تَمييزُ الجَيِّدِ من الرديء من النقود، وكلمة النّقد أو النّقدين تَدُلّ على ما كان يتعامل به الناس فيما بينهم في البيع والشراء من نقود وتبادل السلع والأسعار فيما بينهم. الناقدُ للنّقود يُميز الأصلي منها من المزيف، يُميز الأصيلَ من الدخيل، انتقل التوسع اللغوي إلى كل مَن يميز بين أمرين؛ فمثلًا الجواهرجي نَذْهَب إليه بالذهب لينقده لنا، ما معنى يَنْقُد؟ ليُبَيّن لنا الزيف من الأصل، المزور من الأصلي الصّحيح، يقول: هذا ذهب حقيقي، وهذا ذهب مزيف ليس أصليًّا، ثم انتقل المعنى ليشمل كل تمييز للصحيح من الرديء في أي أمر، أو في أي عمل وفي أي ميدان. ولذلك انتقل الأمر إلى المُحدثين فعَملية النّقد بالنِّسبة للسند أو بالنسبة للمتن إنما تُوضح السند الصحيح من السند غير الصحيح، أو المتن الصحيح من المتن غير الصحيح، إذن النقد هو تمييزُ الجَيّدِ من الرديء من كل شيء هو أصله اللُّغوي، كان في النقود ثم توسعوا فيه شيئًا فشيئًا تمييز الجيد من الرديء من الإبل، تمييز الجيد من الرديء من التمر، تمييز الجيد من الرديء من كذا، حتى وصلوا إلى الأحاديث ليتميز الصحيح من الضعيف منها، ولذلك هذا المعنى اللغوي في الأصل.

الضرورات التي تحتم على أهل العلم توجيه العناية إلى نقلة الأخبار.

المعنى الاصطلاحي: نقد المتن معناه: تمييز المقبول منه من المردود في ضوء قواعد النّقد المُعتبرة التي اصطلح عليها أئمة الحديث ونقاده، ليحتكموا إليها في تمييز المتن الصحيح من المتن غير الصحيح، وكذلك الإسناد الصحيح من الإسناد غير الصحيح. إذن المتن هو: ألْفَاظ الأَحَادِيث التِي تَشْتَمِلُ على معانيه، ما المقصود بالمتن في الحديث؟ هو: الألفاظ التي نقلها لنا الرواة منسوبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تشتمل على المعاني التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا هو المتن، ألفاظ الحديث التي تشتمل على المعاني، والمُراد بنقده تمييز المقبول منه من المردود على ضوء القواعد التي اصطلح عليها أهل العلم ليحتكموا إليها في تمييز المتن الصحيح من غيره. السند: عبارة عن الرواة الذين نقلوا لنا الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بتسلسل يعني: راو عن راو يعني، مثلًا لو قلنا: إنّ البُخَارِيّ يروي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينه وبين النّبي -صلى الله عليه وسلم- إسناد رجال، كل تلميذ تلقى الحديث عن شيخه وأداه إلى تلميذه؛ فهؤلاء هم رجال الإسناد، أو يُعبر عنهم بإسناد الحديث أو برجال الحديث، أو بطريق الحديث، أي تعبير من هذا. الضرورات التي تحتم على أهل العلم توجيه العناية إلى نقلة الأخبار أستطيع أنْ أقُولَ بإيجَازٍ: هُناك ضرورات ثلاث حتمت على أهل العلم أن يوجهوا عنايةً فائقةً إلى نقلة الأخبار؛ أي خبر كان فضلًا عن أن يكون هذا الخبر هو حديثًا مرويًّا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. الضرورة العَقلية تحتم الاهتمام، لماذا؟ لأنّ واقِع النّاسِ يبين أن كثيرًا من العلاقات بينهم تقوم على الأخبار المتداولة المنقولة، في بيعهم، في شرائهم، في تَنَاكُحِهم، في صُلحهم، في خصامهم، في أكلهم، كل شيء يعتمد على الأخبار، على الأقوال.

مثلًا: فُلان يريد شراء هذا الأمر، فلان يريد بيع هذا الأمر، فلان يقول عنك كذا وكذا؛ فلان يسبك ويقول كذا إلى آخره، معاملات الناس أكثر من تسعين في المائة منها أخبار الباقي يعتمد على أنه رأى الأمر بنفسه أو درسه بنفسه أو قرأه إلى آخره، وأظن أنّ أيَ واحدٍ يَرْصُد الواقع يتأكد من هذه الحقيقة، وكم من علاقات تدمرت بسبب خبر كاذب نقل، كم من شريكين كانا أمينين متعاونين مُتحابين فنُقل خبر لأحدهما عن الآخر أفسد الود بينهما، وفسدت الشركة، كم من علاقة أسرية انفصمت بسبب خبر جاء من هنا أو من هناك، كم من صداقة قطعت إلى آخره. وكل واحد من الناس له تجارب في هذا الصدد كثيرة تبين أهمية الأخبار وخطورتها، بل إنّ العلاقات بين الدول تتوقف على الرواية، وعلى نقل الأخبار، وآية الحجرات التي نعتبرها من الأدلة الرئيسة في ضرورة الاهتمام بالأخبار وبرواتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} (الحجرات: 6). يعني كادت أن تشتعل حرب بين المسلمين وبين غيرهم؛ لمجرد أن الناقل للخبر تصور أن القوم الذين خرجوا للقائه كأنهم خارجون لقتاله، فأخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فكادت أن تشتعل الحرب، يعني: إلى هذا الحد تصل خطورة الأخبار أنها تتسبب في إشعال الحروب ليس بين الأفراد فحسب، بل بين الدول أيضًا. إذن هذه ضرورة عقلية، ما دام العقل يرى هذا الخطر الداهم، وهذا الأثر البليغ للأخبار؛ فلا بد من التحقق منها ومن رواتها، الذي ينقل هذا الخبر ما هدفه؟ وما أخلاقه؟ وهل يكذب أو لا يكذب؟ ... إلى آخره. أيضًا الضرورة الواقعية هي متممة للضرورة العقلية، ما دُمنا نَرَى أنّ الوَاقِع يَتوقف في كثير من جوانبه في بيعه وشرائه وحِلِّه وتِرحاله، وبُغضه وحُبّه،

وعَدَاوته وموالاته، كل ذلك يتوقف على الأخبار؛ إذن الواقع أيضًا يحتم الاهتمام بالأخبار ورواتها. إذن، أيضًا الضرورة الشرعية، يعني: حينَ يَكُونُ الأمْرُ مُتعلقًا بالأخبار الشرعية، يَزْدَادُ الأمر خطورة، نحن قلنا في مناسبات كثيرة إننا حين نقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن ما بعد هذا القول دين يجب اتباعه؛ فلا بد من التّحري أضيف إلى الضرورة العقلية وإلى الضرورة الواقعية ضرورة شرعية، وهي أن الأخبار المنقولة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تمثل الدين الذي يجب علينا اتباعه؛ فهي إما تبين أمر الوارد في القرآن الكريم، أو تشرع أمرًا لم يرد له ذكر في القرآن الكريم وفي كِلْتَا الحَالتَينِ هي تتضمن أحكامًا هَامّة، وخَطيرة للناس في عقائدهم وفي عباداتهم؛ فلا بد من التحري فيها. إذنْ، الاهْتِمَامُ بالسَّنَد الذي هو عبارة عن نقلة الأخبار اهتمام ضروري جدًّا، تُحَتّمه الضرورة العقلية، وتحتمه الضرورة الواقعية وتحتمه الضرورة الشرعية، حين تجد قومًا يهتمون بالأسانيد وبنقلة الأخبار ينبغي عليك أن تحمد هذا، وأن تُثني على هذا، وأن ترى هذا الصنيع العظيم من الأمة التي تُوَثِّقُ أخبارها ولا تقبلها من أي راو خصوصًَا إذا كان هذا الخبر المنقول جاءنا عن سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- الذي يجب علينا اتباع أمره، واجتناب نواهيه؛ فلا يكون هذا مذمّة، ولا يقال: إن هذا عيب بل هذه محمدة عظيمة جدًّا، تدل على وعي الأمة وانتباهها، وإدراكها لقيمة مصادرها الشرعية، وأنها -يعني: هذه المصادر- تأخذ منها أحكامها الشرعية، في عقيدتها، وفي عباداتها، وفي معاملاتها ... إلى آخره. إن من أسباب اتهام المُستشرقين للمُسلمين العِظام بهذا الاتهام؛ لأنهم ليست لهم أسانيد إلى متونهم، لا يَعرفون إلا المتن، ولذلك -كما ذكرت قبل- يعني: أنا أدرك أو أحس

أنهم يحسدوننا على النعم التي اجتبانا الله بها، ولا تُوجد عِندهم، وذَكرتُ رُبّما في الدرس السابق، أو الذي قبله أنّ المُستشرقين من أين أحاديثهم عن أنبيائهم التي وردت إليهم بالأسانيد المتصلة كما حدث مع نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟! لا يوجد عندهم؛ لذلك يحسدوننا فيعبرون عن هذا الحسد بإثارة الشبهات والاهتمامات. إذن، الاهتمام بالسند هو الأصل وهو مسألة طبيعية جدًّا، لا ينبغي لأحد أن يُماري فيها؛ لأنه كما ذكرت الضرورات الشرعية تُحَتّم هذا، والضرورات العقلية والضرورات الواقعية التي أشرت إليها. يقول الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتاب (منهج النقد عند المحدثين نشأته وتاريخه) نقلًا عن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- وهذا الكلام موجود في (الرسالة) في الفقرة 399 يقول الشافعي: ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلّا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحَدّثَ المُحَدّث بما لا يَجُوز أن يكون مثله، أو ما يُخالفه وما هو أثبت وأكثر دلالة في الصدق منه. يَقْصِدُ أن يقول: أكثر ما يستدل على صدق الحديث إنما بصدق المخبر وكذبه، وفي غير ذلك من الممكن أن ننظر في النص نفسه -في المتن- كما نقول عند المحدثين، هذا الإمام الشافعي يبين أنّ الاهتمام بالأسانيد وبنقلة الأخبار هو الأصل، والدكتور الأعظمي يوضح المسألة فيقول: إنّه لا يَشُكُّ عَاقِلٌ في وجود النبي -صلى الله عليه وسلم- من الناحية التاريخية، وأنه عاش على هذه الأرض، ومن طبائع البشر الأكل والشرب والنوم وما إلى ذلك. فإذا ورد في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يأكل بيمينه، ويشرب في ثلاثة أنفاس، ويدعو بكذا عند نومه، وكذا عند استيقاظه؛ فكُلّ هذا ممكن عقلًا؛ كَمَا أنّ ضِدّه

مُمكن، جائز لرجل أن يأكل بيمينه أو بيساره، ويُمكن له أن يَشرب في نَفَس واحد أو نفسين، كذلك لا يستحيل دعاؤه، لكنه ليس هناك شيء يجبره على الدُّعاء. أيضًا كُلُّ ذلك مِنَ النَّاحِية العَقْلية مُمكن، تدعو أو لا تدعو، تأكل أو لا تأكل، تأكل باليمين أو باليسار هذا في الميزان العقلي، ما الذي يُغلب جانبًا على آخر؟ ما الذي يُرَجِّحُ صدق رواية على أخرى؟ ما الذي يجعلنا نقول: إنّ الأكل باليمين هو الأصل الشرعي؟ لأنّ الروايات وردت بذلك؛ اعتمادًا على صدق الذين نقلوها لنا، وإلا من غير الصدق هذا تستوي كل الدلالات، إذا كان العقل هو الذي يعمل فقط يستوي هذا وذاك، في كثير من الأخبار هذا مثال توضيحي يبينه الدُّكتور الأعظمي؛ ليؤكد أن الاهتمام بالأسانيد أمر طبيعي، بل هو الأول. وهذه المقولة التي قالها الدكتور الأعظمي وقالها غيره الدكتور محمد لقمان السلفي في اهتمام المحدثين بنقد الحديث أيضًا يبين أنّ السند هو الأصل، هو يتكلم عن فصل عقده، ونظرًا لأنّ العَقْلَ يُساوي بين الأخبار المنقولة من ناحية الصدق والكذب، إنّما يميل الأمر ناحية واحدة من اثنتين بِناءً على ما نثق به من أحوال المخبرين. واحد أخبرني أنّ محمدًا سافر، والآخر أخبرني أنّ محمدًا لم يسافر، كيف سنفصل بين الروايتين؟ في ميزان العقل سواء؛ لكنّ الترجيح سيكون على أساس صفات المُخبر؛ قطعًا أي فطرة سليمة، وأي عقلٍ ناضِج سيقول: نأخذ بخبر الأصدق منهما والأعدل منهما، هذا أمر لا يختلف عليه اثنان إلا إذا كنا نحب الجدال لذات الجدال، أمّا إذا كنا نبحث عن الحق لنَتمَسّك به فإنّ البَدَاهَة والفِطْرَة -كما قُلت- والعقل يقولون: نقدم خبر أهل الصدق على أهل الكذب.

هل اهتمام العلماء بالسند كان على حساب عنايتهم بالمتن؟.

وهذا الذي يَسير عليه العالم كله؛ إذن الاهتمام بالسند أمر طبيعي جدًّا؛ بل هو الاهتمام الأول، بل هو الأصل الذي تتوجه إليه العناية، ومن ثَمّ فإنّ اهتمام المحدثين بالأسانيد إنما هو اهتمام متوافق مع العقل ومع الواقع ومع الضرورة الشرعية والواقعية والعملية ... إلى آخر ما ذكرنا، وهذا أمر قد وفقهم الله إليه، وسبقوا إليه لدرجة أن حُسدوا عليه فلم يجد الحاسد إلا أن يشكك فيما حباهم الله به من تلك الميزات. هل اهتمام العلماء بالسند كان على حساب عنايتهم بالمتن؟ لكنّ السُّؤال الذي ننتقل إليه بعد ذلك: هل اهتمامهم بالسند مع أنه الأصل ومع أنه الأول كان على حساب عنايتهم بالمتن، هذا ما يُرْجِف به المُرجفون، وهذا ما نتحدث حوله. النقد عند المحدثين دار حول ثلاثة: دار حول الراوي، ودار حول السند، ودار حول المتن. فنقدوا الراوي ونقدوا السند ونقدوا المتن، كيف؟ قد يَشْتَبه القول بأنّ عِندنا نقدًا للراوي ونقدًا للسند وهما ليسا شيئًا واحدًا، نقد الراوي أي: نقد الراوي على حدة مثلًا: حدثني سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد. مَن هو سفيان بن عيينة؟ وما هي صفاته؟ طبعًا هو عالم كبير أنا أضربه فقط لمجرد مثال؛ هذا أبين معنى نقد الراوي. نقد الراوي أحوال الراوي من حيث الصدق والأمانة إذا اجْتَمَع عند الراوي الصدق والعدالة واجتمع له الضبط الدّقيق، فقد حاز على لقب الثِّقَة وروايته صحيحة. ماذا يعني نقد السند؟ نَقْدُ السَّنَدِ يَعني نقد السند جملة، السّند عبارة عن مجموعة من الرُّواة، قد يكون كل راو منهم عدلًا لكن هل التقوا ببعضهم؟ هل لا يوجد في السند

انقطاع من أي زاوية أو من أي مكان؟ طبعًا عند المحدثين اصطلاحات تبين الخلل في الإسناد، وعلم دراسة الأسانيد هو عبارة عن التّأكُد من استيفاء شروط الصحة الخمسة، التي اصطلح عليها العلماء لصحة السند، وهي: اتصال السند، عدالة الرواة، ضبط الرواة، خلو الحديث من الشذوذ، خلو الحديث من العلة القادحة. قد يسلم الرواة ولا يسلم الإسناد ككل. وهذا معنى قولنا: "نقد الرواة ونقد السند"، ولذلك نجد بعضَ العُلماء يقول: هذا إسناد رجاله موثقون؛ فنجد بعض الباحثين يحمل هذه الكلمة على صحة الإسناد، لا، لماذا عدل العالم الجهبذ الكبير عن قوله: هذا إسناد صحيح، إلى قوله مثلًا: هذا إسناد رجاله ثِقَات؟ رجاله ثقات معناه: أن العالم الذي حكم بهذا الحكم قد اطمأن إلى أحوال الرواة من ناحية العدالة والضبط، فدرسها واطمأن إلى أنه من الثقات؛ لكن لم يطمئن إلى بقية شروط الإسناد من اتصال السند، بمعنى أن يكون كل راو قد أخذ الحديث عن شيخه، بمعنى خلو الإسناد من الشذوذ ومن العلة القادحة إلخ. فقد يكون الرواة موثقين لكن بقية الشروط لم تتحقق؛ وهذا معنى أنه يلزمنا أن ندرس الراوي على حدة، وأن ندرس السند وأن ندرس المتن، وهذه الدراسة أوجدت قواعد عند علماء الحديث لنقد الراوي ونقد السند، ونقد المتن، إذن الدراسة الحديثية اقتضت دراسة الثلاثة ونقد الثلاثة، واقتضت وضع الضوابط لدراسة الثلاثة: نقد الراوي، نقد السند، نقد المتن.

نقد المتن، والقواعد الضابطة لنقده.

نقد المتن، والقواعد الضابطة لنقده ننتقل الآن إلى نقد المتن. أقول: منذ عصر الصحابة أنفسهم والاهتمام بنقد المتن، أود أن أوضح أن المثال المضروب لمجرد توضيح أصل مسألة بصرف النظر عن الصواب مع أي جهة عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يروي الحديث في الصحيحين أيضًا: ((إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)). أمنا عائشة ردت وقالت: "إن هذا كان في يهودية تعذب وهم يبكون عليها، أمنا عائشة تقول: "إن الميت ليُعذّب، وإنّ أهْلَهُ ليَبْكُون عليه"؛ نلتفت إلى الفرق بين الروايتين: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" أي: بسبب بكائه عليه، لكن الرواية الأخرى تقول: إن الميت يعذب في نفس الوقت الذي يبكي عليه أهله ولو كانوا يعلمون الحقيقة لما بكوا عليه، وإنما عملوا على تخفيف العناء عنه، والعذاب مثلًا بالدعاء له ... إلخ. أمنا عائشة هذا مما انتقدته هو هنا نقد للمتن واستدلت على ذلك بالقرآن الكريم، قالت: أين هذا من قول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) أو {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (النجم: 38) يعني: رأت أن عذاب الميت ببكاء أهله عليه إنما هو تعذيب بسبب ذنوب آخرين هو ليس مسئولًا عنها، سيتعارض مع الآية. هذا النّقد يعني أمنا عائشة ليس الحق معها في هذا النقد هو هنا المثال المضروب، ما هو المثال المضروب؟ أن حقه قد حدث نقد للمتن في ضوء القرآن الكريم، يعني هي رأت الرواية التي رواها عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- تتعارض مع القرآن الكريم بصرف النظر -كما قلت- في أول الكلام الصواب مع مَن، والخطأ مع مَن؟ المهم أنه قد حدث نقد للمتن. نقد المتن بدأ من الصحابة الحديث بروايتيه، صحيح الرواية التي انتقدتها أمنا

عائشة صحيحة، وقد شرحها العلماء. وقد قال العلماء: إنه يُعَذّب بِبُكاء أهله عليه، إذا كان قد علم بذلك ورضي به، أو إذا كان قد وصى به، خصوصًا أنّ ذلك كان من عادات أهل الجاهلية، المفاخرة وتعداد المآثر للأموات، أما إذا عُلم بأنه وصى بعدم ذلك، أو سَجّل بأنه لا يرضى هذا فهذا لا فإذن الحديث له محمل صحيح في معناه فلا يُرَدّ. لكنْ يَبْقَى المِثَالُ المَضروب هو أنه -كما قُلت- مِثالٌ على أن حركة النقد للمتن وليس الإسناد، من ناحية الإسناد جيل الصحابة كلهم عدول، ونحن بعد في جيل الصحابة لم تتعدد طبقات الإسناد، ما زلنا مع الطبقة الأولى التي هي أجل الطبقات، وأعظم الطبقات وهي طبقة الصحابة بإجماع الأمة؛ فلم يكن يُكَذِّبُ بعضهم بعضًا إنما الاعتراض كان على متن الحديث. لما أبو هريرة روى حديث: ((مَن تبع جنازة حتى تدفن فله قيراط، ومَن تبعها حتى يصلى عليها فلها قيراطان)) كأنه استعظم الأجر، فسأل أمنا عائشة، فصدقت أبا هريرة، فقال بعد ذلك: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة". أيضًا المَرأة التي طَلّقها زوجها ثلاثًا هل لها سُكنى ولها نفقة، فظاهر القرآن: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطلاق: 6). فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي ثلاثًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا سكنى لك ولا نفقة)). فقال عمر -رضي الله عنه- قال: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة". لم يطعن في عدالتها، صحابية جليلة؛ لعلها حفظت أو نسيت، هنا نقد للمتن أيضًا. بل إنه بدأً من عصر التابعين بدأ وضع القواعد الضابطة لنقد المتن: يعني: من عصر التابعين وخصوصًا العصر المُتأخر للتابعين بعد أن بدأ الوضع يظهر هم

يقسمون التابعين إلى ثلاث طبقات: "كبار التابعين، أوساط التابعين، وصغار التابعين" كبار التابعين تكاد تكون حلقةً متممةً للصحابة في عدالتهم، وفي نقائهم، وفي صدقهم، وأوساط التابعين يقتربون من هذا. وأيضًا التّابِعُون كَكُل فهم من الأجيال الممدوحة؛ لكن مع أواخر التابعين الذين امتد عصرهم إلى سنة مائة وخمسين هجرية، ورُبّما إلى بعد ذلك على خلاف في انتهاء عصر التابعين متى يكون؟ المشهور أنه سنة 150 وهناك من قال بعد ذلك بناء على أن أحد التابعين مات سنة 180 أو 181. وهذه قضية عالجها السيوطي في (تدريب الراوي) وهو يتكلم عن التابعين لمن أراد أن يرجع. المهم: مع نهاية عصر التابعين يعني اتسعت الدولة، وبدأ الوضع وبدأت الخلافات المذهبية، فأصبحتْ الحَاجَةُ إلى تمييز الحديث سندًا ومتنًا، من الحاجات المُلِحّة في واقع الأمة، ومن الضرورات التي حَتّمت دِراسة السند ودراسة المتن معًا، وبدأت القواعد الضابطة تتبلور في مَن الذين نقبل روايتهم كالرجال، ومن الذين لا نقبل روايتهم. قال ابن مهدي: إني لأدعو اللهَ لقومٍ قَدْ تَركْتُ حَديثَهم. والمهم أنّ نَقْدَ المتن بدأ من عصر الصحابة ذاته، وتطور إلى أن تبلور تقريبًا مع التابعين وتابعي التابعين؛ إلى أن أخذ الشكل النهائي في القواعد التي يحتكم إليها في نقد المتن. أيضًا نَدخل الآن إلى عصر الضوابط التي وضعوها لتبين اهتمامهم بالمتن كما اهتموا بالسند؛ من بين هذه الضوابط: التفرقة بين حديث الثقة وحديث الصدوق. ما هو الأساس الذي تمت عليه هذه التفرقة؟ نحن قلنا: إنّ الثِّقَة هو مَن جمع بين العدالة والضبط. العدل: هو المسلم البالغ العاقل الخالي من الفسق ومن خوارم المروءة، وهذا أمر يدرس في المصطلح.

تجتمع له العدالة تأكدنا من إسلامه وبلوغه وعقله، وخلوه من الفسق ومن خوارم المروءة، فأصبح عدلًا. هل العدل ثقة؟ لا لا بُدّ من الضبط، الضبط هو أن يؤدي الحديث كما تلقاه بدون زيادة أو نقصان، وبتغيير أو تبديل. يؤدي الحديث كما تلقاه من شيخه بدون زيادة أو نقصان. هذا تعريف الضبط، كيف يعرف؟ المسألة اقتضتني أن أتكلم عن معنى الصدوق والضبط؛ لأبين أن هذه القاعدة مما تتصل بضبط المتن؛ ردًّا على الذين يقولون: إن العناية اتجهت للسند فقط، لم ينتبهوا إلى هذه القواعد، الثقة مَن جمع بين العدالة والضبط، هناك أناس ثبتت لهم العدالة، الرجل في قمة الصلاح لكن لم يكن ضبطه دقيقًا، إن خف ضبطه قليلًا أصبح صدوقًا نزَل عن منزلة الثقة إلى الصدوق، ويصبح حديثه حسنًا بعد أن كان صحيحًا لو كان تام الضبط. ولذلك الحديث الحسن يختلف عن الحديث الصحيح في هذه المسألة فقط، شروطه هي واحدة: "اتصال السند، عدالة الرواة، ضبط الرواة، خلو الحديث من الشذوذ، خلو الحديث من العلل القادحة". غير ما في الأمر أن الضبط في الحديث الحسن قد نزل قليلًا بدرجة محتملة. كيف عرفنا أن هذا نزل من رتبة الثقة إلى الصدوق؟ خفة الضبط أو كثرته ليست لها معايير "ترمومترية" فيه أدق من المعايير ليس هناك ترمومتر، إنما الترمومتر هو استقراء أحاديثه، أخطأ في كم، وهذا الاستقراء يتم بمقارنة روايات غيره. نفس الحديث هذا ورد من طرق أخرى؛ لماذا خالفهم؟ إذا كثرت مخالفته قد يصل إلى درجة الضعف الذي لا يقبل، وهناك من أنواع خلل الضبط الذي ترد الرواية بسببه؛ فحين يُفَرِّقُون بين حديث الثقة، وحديث الصدوق، فهذا تفريق تم على

أساس المتن، على أساس ولو كثرت مخالفته يصبح ضعيف الضبط ينتقل حديثه إلى درجة الضعيف. حين تنظر في هذه القاعدة ولا تنتبه إلى دلالتها على نقد المتن، وتراها أنها في ضوء نقد السند فقط، فالذي لا يُسْتَوعبُ هو المتهم وليست القاعدة، وليس جُهد علماء الأمة، الذينَ وَضَعُوا هذه المصطلحات لضبط المتن ولضبط السند، ولذلك في ضوء هذا أقول: تأتي عبارة ابن مهدي التي ذكرتها، وقلت: إنه يقول: إني لأدعو الله لقوم قد تركت حديثهم. وهناك عبارات أخرى عن يحيى بن معين: "إنا لنطعن على رجال ربما حطوا رواحلهم في الجنة". ورواية أخرى: "إنا لنطعن على رجال، وإنا لنرجو شفاعتهم أمام الله يوم القيامة". هذه العبارات ما مدلولها؟ مدلولها أن هؤلاء الرجال ثبتت لهم العدالة؛ لكنّ الضّبْطَ قد اختل، وهو أمر متعلق بالمتن، لم يخدعنا صلاحهم، ولم ننجرف بعواطفنا وبحبنا وبتقديرنا لصلاحهم إلى أن ننسى الرواية والمتن؛ فنُحِبُّهم لعدالتهم، لكنَّنَا نخشى على الرواية، ولذلك قالوا في وصفهم: "لهم صلاحهم وعلى الرواية غفلتهم، أو خفة ضبطهم". لذلك هم يردون حديثهم في نفس الوقت الذين يرجون شفاعتهم أمام الله يوم القيامة، في نفس الوقت الذي يعتقدون فيه أنه ربما قد حطوا رواحلهم في الجنة، في نفس الوقت الذين يدعون الله تعالى لهم لصلاحهم لكنهم يتركون حديثهم. أرجو أن أكون قد وفقت في بيان علاقة هذه القاعدة بنقد المتن حتى لا يتقول متقول أن علماء الحديث قد اهتموا بدراسة الإسناد دون المتن.

قاعدة أخرى تفرقتهم بين قولهم: هذا حديث صحيح أو حسن وبين قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد، هذه أيضًا تتعلق بالمتن، حين تقول: هذا حديث صحيح الإسناد، فمعناه أنك قد اطمأننت إلى صحة الإسناد من اتصال السند، ومن عدالة الرواة، ومن ضبط الرواة، لكن هل يلزم من صحة الإسناد أن يكون المتن صحيحًا؟ لا، أنت لم تنظر في المتن، هل خلَا الحديث من الشذوذ أو العلة القادحة؟ وكثير من صور الشذوذ تكون متعلقة بالمتن، وكثير من صور العلة القادحة تكون متعلقة بالمتن أيضًا كما سنبينه. إذن حين يضعون قاعدةً يفرقون بمقتضاها بين قولهم: هذا صحيح الإسناد، وبين قولهم: هذا حديث صحيح، فإنما ذلك من العناية بالمتن، والذي لا يفهم هو حر، ينظر إلى نفسه، لكن القاعدة واضحة، لماذا لم يقولوا: إنه حين يحكم على الحديث بأنه صحيح الإسناد تلزم صحة المتن؟ لا، وإن كان في الأعم الأغلب العلاقة بينهما واضحة، لكن أيضًا يوجد حالات قد يسلم الإسناد، ومع ذلك تبقى في المتن علة تمنع القول بصحته -كما سنبينه- لكن القاعدة الآن التي أشير إليها هي ترد على فِرية عناية المحدثين بالإسناد دون المتن. هذا وللحديث بقية. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 17 تابع: الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن.

الدرس: 17 تابع: الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن.

القواعد الدالة على عناية المحدثين بالمتن.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر تابع: الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن القواعد الدالة على عناية المحدثين بالمتن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطِّيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ ثم أما بعد: فقاعدة: "لا تلازمَ بين صحة المتن وصحة الإسناد" تدل على أن للمتن ضوابط كما للإسناد ضوابط، وأنّ الدارس المحقق للعالم الدقيق يتأكد من وجود الضوابط الخاصة بالمتن؛ كوجود الضوابط الخاصة بالإسناد، حتى يَسْلَم له الإسناد والمتن معًا، وإلّا اقْتَصَر حُكْمُه على الإسناد دون المتن. الآن نتكلم عن القواعد التي أصبحت جزءًا من الأمور أو المسائل المتفق عليها عند أهل العلم: والتي ندرسها للطلاب في مواد السنة المختلفة في المصطلح وفي الريجان وفي مناهج المحدثين؛ لنبين لهم أن هناك عدة قواعد تبين أن عناية المحدثين بالمتن لا تقل عن عنايتهم بالإسناد، وها أنا ذا أواصل الكلام عن بعض هذه القواعد التي بدأتها بإذن الله -تبارك وتعالى-. أيضًا كثير من أنواع علوم الحديث تتعلق بالمتن كما تتعلق بالإسناد؛ فمثلًا: الدراسات المُتعلقة بالمُدْرَج، بالمُصَحّف، بالمضطرب، بالمقلوب. كلها تتعلقُ بالإسناد، قد يكون هناك إدراج في السند، وفي المتن، وتصحيفٌ في السند وتصحيف في المتن، واضطراب في السند واضطراب في المتن، وقلب في السند وقلب في المتن. وفي كل الأحوال قد يصح أحدهما دون الآخر، فمثلًا قد يكون الإسناد صحيحًا لكن هناك قلبًا في المتن؛ مثلًا روى الإمام مسلم: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)) فجعل الإنفاق للشمال مع أن المعلوم من كل الأدلة أنّ الإنفاق إنما هو باليمين وليس بالشمال؛ والرِّوَايات الأُخرى للحديث التي تملأ دواوين السنة بينت ذلك، بالإضافة إلى أننا نعلم أن اليمين تستعمل للمكرومات، ومنها الإنفاق في سبيل الله تعالى.

إذن، هذا نوع من القلب يتعلق بالمتن؛ الحديث ورد بأسانيد صحيحة، وهذه الأسانيد الصحيحة لم تجعل المحدثين يقبلون المتن بدون نظر وبدون دراسة. أيضًا مثلًا الراوي ينبغي أن يكون -كما ذكرنا قبلًا- عَدْلًا، ضابطًا، إذا اجتمع الأمران العَدْلُ والضّبْطُ أصبح ثقة، وكما ذكرتُ إذَا اخْتَلّ ضَبْطُه أصبح صدوقًا. العِلَل التِي وَضَعَها العُلَماء بِمَا يُمكن أن نُسمِّيه بعلل الضبط كلها أو معظمها على الأقل تتعلق بالمتن، مثل: "الخطأ" كيف يَخْتَلُّ ضَبْطُ الرّاوي؟ وما هي المصطلحات التي وضعها العلماء للإشارة إلى خلل الضبط عند الراوي، ونستعملها في الحكم على الرواة، وتصبح علة ترد حديثه؟ كُلُّها أو مُعظمها يتعلق بالمتن؛ حينَ مثلًا يقولون: صدوق يخطئ مثلًا، أو سيئ الحفظ، أو مغفل، أو له مخالفات للثقات، أو عنده إدراج. لو نظرنا إلى فحوى هذه العيوب المتعلقة بالضبط سنجدها مُتَعِلّقة بالمتن في المقام الأول، هذه قواعد تدل على العناية بالمتن كما تدل على العناية بالإسناد تمامًا. "سوء الحفظ" مُتعلق بالمتن، "الغفلة" تتعلق بالمتن، "إدخال حديث هذا في حديث ذاك" تتعلق بالمتن، كان يُلقَّنُ فيَتَلَقّن، تتعلق بالمتن، مُخَالفته للثقات تتعلق بالمَتْن، عيوبٌ كثيرة تتعلق بالضبط وبها يُحكم على ضبطه إن كان قد اختل كثيرًا، أو لم يختل إلخ. أو نزل قليلًا حسب اتساع حفظه وكثرة روايته، يَحْكُمون عليه. إذن هذه الضوابط التي وضعوها للحكم على الضبط متعلقة بالمتن، وهي أيضًا من الأمور التي تدل على عنايتهم بالمتن، كما اعتنوا تمامًا بالإسناد، بل أقول أمرًا جديدًا: إنّ العِنَايَة بالإسناد الذي يَتّهم الخُصُوم به المُحدثين، إنّما كان لأجل توثيق المتن، ما سَبب عنايتهم بالإسناد؟ يَشهد الله إنه كان ذلك لتوثيق المتن، أي: للتأكد من صدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- يعني: علوم الإسناد كلها كانت في خدمة

المتن ليصل إلينا النّصُّ النبوي سليمًا صحيحًا؛ فقد تأكدنا تمامًا من صدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-. فالرِّوَايَةُ تقوم على جناحين: الرِّجَالُ الذين نقلوا لنا، والنَّصُّ أو المتن الذي نُقل لنا، لا بد من دراسة الأمرين معًا؛ إذا جاءنا الخبر عن الصدوق أو الثِّقة، الذي نطمئن إليه، إذًا نطمئن إلى صدق خبره؛ فمعرفة أحوال الرُّواة التي نسميها بمصطلح الحديث "دراسة الإسناد" هي لخدمة المتن؛ لو أنّنا مثلًا أخبرنا ثقة أنه قد رأى هلال رمضان. رؤيته لهلال رمضان هذا خبر، سنصبح ملزمين بالصيام، والذي لا يصوم غدًا حين يُخبرنا المُخبر بذلك يكون آثمًا. نَحْنُ تأكدنا من صدق المخبر، لماذا؟ لنَطمئن إلى سلامة الخبر الذي نقله لنا، وهو روايته رؤية الهلال، فمتى أطمأننا إلى صدقه أصبحنا ملزمين بالصيام غدًا، هذا الإلزامُ جاء نتيجة اعتقادنا صدق المخبر الذي نقل لنا الرواية، ولو لم نعتقد صدقه لَمَا أصبحنا ملزمين بخبره؛ فلماذا تُصبح الأمة كلها آثمة؟ أو يصبح بعضها آثمًا إذا لم يصم؟ لأنه قد خالف خبر الثقة الذي عليه أن يصدقه أو يعمل بمقتضاه. إذن، هذا مجرد توضيح ليُبين أن دراسة الإسناد كانت في المقام الأول لخدمة المتن، لذلك قَسّم المحدثون دراسة الحديث إلى: "علم الحديث دراية"، وإلى "علم الحديث رواية". علم الحديث دراية: يتعلق بدراسة الإسناد بالرِّجال بأحوال الرجال، وعلم الرواية يتعلق بالمتن ودراسته وشرحه ودفع التعارض عنه، واستنباط الأحكام منه، وبيان فصاحته وبلاغته إلى آخر ما يتعلق بدراسة المتن. إذن، نَسْتَطِيعُ أنْ نَقُول: إنّ عِنَايةَ المُحَدّثين بالإسناد إنما كانت في المقام الأول لخدمة المتن، ولتَوثيقه، وكما قلت: وللتأكد من صدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك مثلًا نجدهم يقولون: "الذي كذَب ولو مرة واحدة لا نقبل حديثه ما لم يتُب".

وهناك كلام في علم المصطلح حول قبول رواية التائب من الكذب، وفرقوا بين التائب من الكذب في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين التائب من الكذب في حديث الناس، والتفصيلات يرجع إليها في علم المصطلح. لكن الذي يَسْمَعُ الكلام لأول مرة أن الذي كذب لا يُقبل حديثه، ولا تُقبل روايته هذا يتعلق بالرجال، أيضًا هو في خدمة المَتن في المقام الأول؛ ما دام كذب سينقل لنا خبرًا مكذوبًا فلن نقبله، المُبتدع الذي يدعو لبدعته لن نرده، وإنّما سنتوقف في قبول حديثه، نحن هنا توقفنا في قبول المتن بناءً على حالة الإسناد؛ ليتضح جليًّا أنّ حَالة الإسناد ترتبط بالمتن، وأنّ عُلوم الإسناد كانت في خدمة المتن. مثلًا: مُبتدع ينقل حديثًا يتعلق ببدعته، ما الذي يجب علينا؟ سنتوقف في قبول الرواية حتى نتأكد من صدقه؛ لكن شيعي مثلًا ويروي حديثًا في فضل علي -رضي الله عنه- أو في ذم مُعاوية؛ لماذا لم نقل: نرد حديثه؟ قد يكون حديثه صحيحًا، لكننا على الأقل توقفنا حتى نتأكد من ورود الحديث من طُرق أخرى. لكن الذي أُريد أن أقوله: هذا الذي نوضحه الآن أن دراسة الإسناد كانت للعناية بالمتن، هذا أمر لم يفقهه المستشرقون ومن دار في فلكهم، وتصورا أن هناك فصلًا كاملًا بين دراسة الإسناد وبين دراسة المتن، وأنّ المحدثين عنوا الأول دون الثاني، لا إنّما كانت العناية بالأول في خدمة الثاني؛ لأنّنا في النهاية -كما قلت- نَبْحَثُ عن صدق نسبة الحديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه متى صحت نسبته -صلى الله عليه وسلم- أصبح حديثًا صحيحًا، وأصبحنا مُلزمين بالعمل به، ولا يسع أي مسلم أبدًا أن يصح الحديث عنده، ولا يَعمل به، هذا غير وارد عند أمة الإسلام أبدًا. إذًا كانت العناية بالإسناد لخدمة المتن، وهذا يرد على الفرية من أساسها بل يهدمها عند أي عقل رشيد، لو كان هناك بحث عن الحق، واستجابة له متى ظهر.

أيضًا كثير من "أنواع الضعيف" الضعيف أكثر من تسعة وأربعين نوعًا، والحديث يُقَسِّمُونه -كما نعلم جميعًا- إلى: "صحيح، وحسن، وضعيف" ويُعَرِّفُون الضعيف فيقولون: هو ما فَقَدَ شَرْطًا من شروط الصِّحّة أو من شروط الحسن. فمثلًا: المَقْلُوب الذي أشرنا إليه قبله، والمُضّطرب هو من أنواع الضعيف؛ الاضطراب قد يكون في المتن، وقد يكون في الإسناد. القصة مشهورة، ذلك الامتحان الذي قُدِّمَ للإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عند قدومه لأول مرة إلى بغداد، حينما اجتمع إليه المحدثون وحاولوا أن يختبروه؛ لأن صيته وسمعته كانا قد سبقاه إلى بغداد، فأرادوا أن يستوثقوا من أحواله، وهل فعلًا هو جدير بتلك المكانة والمنزلة التي سبقته قبل أن يصل إلى بغداد؛ فاختبروه في مائة حديث، فقلبوا أسانيدها ومتونها؛ يعني: أدخلوا حديث هذا على ذاك الإسناد، وهذا المتن إلخ. وبفضل من الله -تبارك وتعالى- رَدّها جميعًا إلى الصواب، ويقولون: العجب ليس مِن رَدِّها إلى الصواب فقط بإلحاق كل متن بإسناد معروف عند المحدثين، إنما العجب أنه رتبها لهم على نفس الترتيب الذي ذكروه، يعني: هو استوعبها عنهم من أول مرة ذكروها. والمهم أنّ كثيرًا من أنواع الضعيف تتعلق بالمتن: "المضطرب، المقلوب، المصحف، الموضوع أيضًا" وكثيرٌ من علامات الوضع تتعلق بالمتن. أيضًا: قد يكون الراوي الذي نقل الخبر لم يُتّهم بالكذب، ومع ذلك؛ فإن الناقد الفاحص الخبير في الحديث يرى أنه غلط، وأدخل حديثًا على حديث، ولهذا يرد الرواية، مع أن الراوي من أهل الفضل ومن أهل العلم. أبو حاتم مثلًا: أعَلّ حديثًا رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري؛ مع أن الليث جبل، ولكنّهم تصوروا أنّ الحديث أدخل على الشيخ، (لسان الميزان) في ترجمة

من القواعد التي وضعوها لدراسة المتن: قانون الاعتبار.

الفضل من الحباب يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: روى ابن عبد البر في (الاستذكار) من طريقه حديثًا منكرًا جدًّا، ما أدري مَن للآفة فيه؟ قال: حدثني فضل بن حباب، حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي، حدثنا شعبة، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- يقول: سمعتُ الرّسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته". الحافظ يقول: الظَّاهِرُ أنّ الغلط فيه من أبي خليفة، ولعله ابن الأحمر سمعه بعد احتراق كتبه، لماذا أعلوه؟ لأنّ المتن منكر، ولم يرد من طرق أخرى صحيحة؛ فلذلك توقفوا فيه، وجَعَلُوا يفحصون سبب الوقوع في الخطأ، من أي الرواة وقع، الأمثلة في كتب الحديث، ولو رجعنا إلى كتب العلل وكتب الموضوعات سنجد أمثلة لهذا كثيرة جدًّا. ابن أبي حاتم في كتابه (العلل): هذا خبر باطل متعلق بالمتن. لم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- كذا، وإنما قال كذا، هذا متعلق بالمتن. من القواعد التي وضعوها لدراسة المتن: قانون الاعتبار أيضًا من القواعد التي وضعوها في دراسة المتن قانون الاعتبار، الاعتبار حالة من حالات الدراسة؛ الناقد الدقيق الكبير من علماء الحديث يعتبر الحديث بكل طرقه، يدرسه بكل طرقه بأساليبه ومتونه وشواهده، ويُقارن بينها، ويَنْظُر بعد هذه الدراسة وهذا الاعتبار أنّ المتن يُقبل أو لا يُقبل، مثلًا حماد بن سلمة يروي حديثًا لم يتابع عليه، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فينظر هل روى ذلك ثقة غير أبوب عن ابن سيرين؛ فإن وجد علم أن للخبر أصلًا يرجع إليه، وإن لم يوجد ذلك فهل هناك ثقة آخر رواه عن أبي هريرة عن ابن سيرين، أو هناك صحابي آخر؟

هذه الدراسة التي يسمونها الاعتبار في كثير من الأحوال تتعلق بدراسة المتن؛ كتَعُلّقها بدراسة الإسناد؛ إن لم تزد عن الاهتمام بدراسة الإسناد. إذا نظرنا إلى أنواع العلل التي يدرسها المحدثون سنجد كثيرًا منها تتعلق بالمتن، ولذلك ونحن ندرِّس مادة العلم لطلابنا، نقول لهم: إن هناك عللًا متعلقة بالإسناد، وهناك عللًا متعلقة بالمتن وهناك عللًا متعلقة بهما معًا. لكن أن يضعوا القواعد يُعرف بها المتن الجيد من غيره، هذا دليل عن عنايتهم بالمتن. بل إن الميدان الأول لعلم العلل هو أحاديث الثقات، أحاديث الثقات المفترض كما نقول في دراستنا المصطلح أنشروط الحديث الصحيح اتصال السند وعدالة الرواة وضبط الرواة، وخلو الحديث من الشذوذ، وخلو الحديث من العلة القادحة، اطمأننا إلى خلو الحديث من عدالة الرواة وضبط الرواة، وإلى بقية الشروط، نقول: هذا إسناد صحيح كما مر بنا، ولا نقول: هذا حديث صحيح. كون العلماء يجمعون على أن أحاديث الثقات في المقام الأول هي مَيدان علم العلل هذا من أقوى الأدلة على العناية بالمتن. إذن، كونه ثقة لم يغلق الباب أمام النظر في حديثه مرة ثانية، وهذا النظر لن يكون إلا في ضوء المتن؛ لأنّ الإسناد سَلِم من رواية الثقات، بل إن من أسباب صعوبة علم العلل هو هذا الأمر، يعني صعوبة علم العلل له أسباب كثيرة منها أنه يحتاج إلى جمع الروايات، وإلى جمع الطرق وإلى المقارنة بينها وإلخ. أيضًا الضُّعفاء أحاديثهم مَعْلُولة لكنها لا تَحْتَاجُ إلى نَظر دقيق، يعني المبتدئ في دراسة الحديث يستطيع أن يعل الحديث بالضعفاء، يقول: هذا إسناد مثلًا فيه كذاب، فيه وضاع، فيه متروك؛ فهو إسناد ضعيف. لكن أن ينظر في أحاديث الثقات، فالنظر في هذه الحالة إنما هو في المتن؛ ليُقارن بينها وبين روايات غيره من

الثقات، وهل وافقهم وهل خالفهم، ولماذا كانت المخالفة، وهل هذه المخالفة تضر بالمتن؟ وهل وافقه أحد عليها، وهو انفرد بها؟ نقاط كثيرة يدرسونها لتبين أن هذا الثقة لم يخطئ في هذا الحديث. ولذلك نَتَعَجّب مثلًا حين نفتح كتب الرجال نجدُ بعض الأحكام على بعض الرجال الكبار مثلًا، يقولون: ثقة له أوهام. لماذا ثقة وله أوهام؟ ثقة له أفراد، ثقة له غرائب، نعم، جرب عليه الوهم، سجلوه لم يخافوا من كونه ثقة، وهذا الوهم أيضًا لم يقدح في توثيقه؛ لأنّه نسبة قليلة فنحينا أحاديثه التي وهم فيها، وقَبِلْنَا ما عداها؛ لكنّ الذي أعلق عليه، أو أركز عليه أن هذه الدراسة المتعلقة بالمتن، فكيف يقال: إن المحدثين لم يعتنوا بالمتن؟ هذا كلام غير الخبير الذي لم يتصل لا من قريب ولا من بعيد بجهد المحدثين في دراسة السنة ككل. وها أنا ذا أقول: إن المحدثين حين يعيدون النظر في أحاديث الثقات مرةً ثانيةً؛ ليفحصوها، فإن ذلك في الغالب يتجه نحو المتن، وإلا فإنه من ناحية سلامة السند قد سلم السند؛ لأنّ الرُّواة ثقاة ومع ذلك نحن لم نكتفِ بهذا، وإنما أعدنا النظر في أحاديث الثقات، وهذه القواعد التي وضعوها وساروا عليها، وأصروا عليها، واصطلحوا عليها، وأجمعوا عليها، إنما كلها كانت لدراسة الإسناد ولدراسة المتن؛ ليصل إلينا في النهاية متن صحيح متى اطمأننا إلى صحته وجب علينا العمل به. فإذن، حين يضع المحدثون أحاديث الثقات تحت المِجهر فإنما ذلك لكي يفحصوا المتن. أيضًا كل أنواع العلل تحتاج إلى جمع الطرق، وإلى جمع الروايات لا يستطيع أحد أن يتكلم في العلة إذا جمع الأسانيد ولم يجمع المتون، والعكس أيضًا صحيح؛ لكي تتكلم في العلل لا بد من جمع الأسانيد والمتون معًا؛ حتى يسلم

لك الإسناد، فتنتهي في النهاية إلى أنّ الحديث صحيح -كما ذكرنا قبلًا- لكن كون الحديث لكي نتكلم في علله، لا بد من جمع الطرق وجمع الروايات الاثنان معًا، والعلماء يقولون: الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه. ويقولون: كنا نجمع الحديث من ستين طريقًا، ومن ثلاثين طريقًا. وهذه الأرقام الكبيرة التي نسمعها عن حفظ علمائنا الكبار مثل الإمام أحمد والبخاري ومسلم، ومَن على شاكلتهم من تلك الألوف المؤلفة للأحاديث، إنّما هي حفظ للأحاديث بطرقها بأسانيدها ومتونها، المتن ورد من عدة طرق سواء عن صحابي واحد، أو من عدة طرق عن كل صحابي، كل ذلك لا بُدّ أن يُجمع لكي أتكلم في علة الحديث، بل أيضًا يقولون: "الذي يقول إنه لا يخطئ فإنه كذاب". هذه من القواعد المقررة عند المحدثين، يعني: لا أحد يكابر في الخطأ أبدًا؛ لأنه لا يوجد بشر الذي لم يخطئ، ولذلك أعادوا النظر مرة ثانية في أحاديث الثقات ليفتشوا فيها؛ حتى نطمئن تمامًا إلى سلامة الإسناد، وسلامة المتن معه. هناك بالإضافة إلى ذلك بعض القواعد التي وضعها المحدثون لدراسة المتن، مثلًا عرض روايات الحديث الواحد بعضها على بعض، هذا من القواعد التي وضعها العلماء، نجمع الحديث الواحد بكل طرقه وبكل ألفاظه؛ لنقف هل هناك إضراب في المتن؟ هل هناك قلب أو اضطراب أو تصحيف أو تحريف؟ هل هناك زيادة؟ يعني: زادها بعض الثقات، وهل هي صحيحة ولا وهن فيها؟ كل نوع من الذي أقوله الآن المحدثون خصصه لهم مبحثًا من المباحث الخاصة به في مصطلح الحديث. أيضًا هناك مؤلفات عني أصحابها مثل ابن قتيبة والطحاوي وغيرهم في الجمع بين الأحاديث التي يبدو في ظاهرها التعارض، وإذ هي في معظمها متعلقة بالمتون، متن يتعارض مع متن؛ مثل قول: ((لا عدوى ولا طيرة)) ومثل قوله:

((فِر من المجذوم فرارك من الأسد)) هذا نظر في المتن الأحاديث صحيحة هل هذه أحاديث متعارضة، أو يُمكن دَفْعُ التّعَارُض بَيْنَها؟ المثال الذي ذكرته دفع التعارض واضح فيه: ((لا عدوى)) أي: لا عدوى مؤثرة بذاتها. نفَي العدوى هنا؛ ليُبين نفي إنها مؤثرة بذاتها، إنما الفاعل لكل شيء على حقيقة هو الله تعالى. وفي نفس الوقت خذ بالأسباب، ولا تختلط بالمريض؛ حتى لا تتأثر عقيدتك في نهاية الأمر، وتقول: إن اخْتِلاطك كان سبب نقل المرض، ولذلك لما اشتكى الصحابي من الإبل التي أصابها الجرب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فمَن أعدى الأول؟)) يعني: إذا قلنا: إن العدوى هي السبب، فمن أين الناقة الأولى أو الجمل الأول من أين أتاه المرض؟ إذًا هذا أيضًا من القواعد التي وضعوها، أن يَنْظُروا في الأحاديث التي يبدو في ظاهرها التعارض؛ ليَجْمَعُوا بينها أولًا، ولهم مناهج فيها، القَولُ بالجمع أولًا، أو بالنسخ أو بالترجيح تفصيلات كثيرة؛ لكن القاعدة هنا أننا نجمع الأحاديث المتعارضة، ثم نحاول أن نجمع بينها أو نوفق لكن كلامنا هنا بسبب أن هذا من النظر في المتن. أيضًا هناك عرض متن الحديث على ما يتعلق به من الوقائع والحقائق التاريخية، المتفق على ثبوتها؛ قصة مشهورة وقعت في زمن الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- الذي توفي سنة أربعمائة ثلاثة وستون هجريًا: اليهود جاءوا بكتاب قالوا فيه: "إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع الجزية عن يهود خيبر" وجواب مختومٌ بخاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: ومكتوب فيه كتبه معاوية بن أبي سفيان وشهد عليه سعد بن معاذ. ماذا يفعل وهذا حكم شرعي، هل نرفع الجزية عنهم أو لا نرفع، فمن الذي يفصل في الأمر؟ أحدُ كِبَار عُلماء الحديث جاء الخطيب البغدادي نظر في الخِطاب؛ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا كتاب مزور. -هذا محل للشاهد نظر في المتن في ضوء القواعد التاريخية والوقائع المتصلة به، قال: يهود خيبر خيبر فتحت في صفر

الضوابط التي وضعها ابن القيم لمعرفة كون الحديث موضوعا.

سنة سبعة من الهجرة، لم تكن الجزية قد فرضت بعد. إذًا هو تاريخيًّا علم أن الجزية لم تفرض إلا بعد غزة مؤتة سنة تسعة في آيات التوبة وهي من آخر ما نزل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29). ثم دليل آخر: أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- لم يكن قد أسلم أيام خيبر، أيام خيبر سنة سبعة وهو أسلم في سنة ثمانية، هذا دليل آخر على البطلان. أيضًا سعد بن معاذ الذين قالوا: إنه شهد على الكتاب مات بعد الأحزاب هو جرح في غزوة الأحزاب، وعاش بعدها بأيام قلائل وهو الذي حكم على يهود بني قريضة بالحُكم الذي قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات يا سعد)). إذن هذه وقائع نظر في المتن من خلالها وبالاستناد إليها؛ فثبت تزوير الكتاب وسعد به جدًّا الخليفة أمير المؤمنين بهذا التوفيق الذي حباه الله به. أيضًا مُخالفة الحديث للأصول والقواعد الشرعية المقررة؛ هذا من القواعد التي وضوعها للنظر بالمتن. ومما يعرف به الحديث الموضوع ركاكة اللفظ أو ركاكة المعنى. الضوابط التي وضعها ابن القيم لمعرفة كون الحديث موضوعًا والآن ننتقل إلى ابن القيم -رحمه الله تعالى- وله كتاب في هذا اسمه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) وحققه فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله- وكان قد طُرح على ابن القيم سؤال: هل يمكن النظر في الحديث والحكم عليه بدون الرجوع لإسناده، وبدون معرفة أحوال الإسناد؟ نلاحظ أن هذا السؤال يتعلق بالمتن، ابن القيم قال: هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وهديه فيما يأمر به وينهي عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول -صلى الله عليه وسلم- كواحد من أصحابه. روى جعفر بن جسر عن أبيه، عن ثابت، عن أنس يرفعه: "من قال: سبحان الله وبحمده غرس الله له ألف ألف نخلة في الجنة، أصلها من ذهب". قال: وجعفر هذا هو جعفر بن جسر بن فرقد أبو سليمان القصاب البصري، قال ابن علي: أحاديثه مناكير. وقال الأزدي: يتكلمون فيه إلى آخر ما ذكر نبين العلة. الضوابط التي وضعها ابن القيم: يقول: ونحن ننبه على أمور كلية، يُعرف بها كون الحديث موضوعًا، منها: اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي كثيرة جدًّا كقولهم: في الحديث المكذوب: "من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان؛ لكل لسان سبعون ألف لغة، يستغفرون الله له". إلخ يقول: وأمثال هذه المجازفات البالغة، التي لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية الجهل والحُمق، وإما أن يكون زنديقًا قصد التنقيص بالرسول -صلى الله عليه وسلم- بإضافة مثل هذه الكلمات إليه، كلمات تكتب بماء الذهب، الذي يقع في هذا إما إنه في غاية الجهل، لا يعرف بلاغة الكلم وفصاحته وقدره ومنزلته، وإما أن يكون زنديقًا يقصد الإساءة لمن سبق. أيضًا: تكذيب الحس له: الحس والواقع مثل: "الباذنجان لما أكل له"، "الباذنجان شفاء من كل داء". يقول ابن القيم: قَبّحَ اللهُ وضاعوها؛ فإن هذا لو قاله يحنس أمهر الأطباء لسخر الناس منه، ولو أكل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة، وكثير من الأمراض لم يزيدها إلى شدة. ولو أكله فقير ليستغني يعني لن يغتني بأكل الباذنجان، ولو أكله جاهل ليتعلم لن يفيده العلم.

"إذا عطس الرجل عند الحديث فهو غير صدق" إلخ. "عليكم بالعدس". منها: "سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه" ويذكر أدلة: "لو كان الأرز رجلًا لكان حليمًا، لو أكله جائع لأشبعه" فهذا من السمج البارد الذي يُصان عنه كلام العقلاء فضلًا عن كلام سيد الأنبياء، وحديث: "الجود دواء والجبن داء" إلخ. "لو يعلم الناس ما في الحوت لاشتروا ما بوزنها ذهبًا" إلى آخر ما يضربه أمثلة. يسميها: "سماجة الحديث". أيضًا من القواعد: "مناقضة الحديث بما جاءت به السنة الصريحة مناقضةً بينةً" مثل حديث: "مَن اسمه أحمد أو محمد، وأن كل من يتسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار" أو يُسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار". يقول ابن القيم: هذا مناقض لما هو معلوم من دينه -صلى الله عليه وسلم- أن النّار لا يُجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالأعمال الصالحة وبالإيمان. أيضًا من العلامات: أن يُدّعَى على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه. كما يزعم أكذب الطوائف: "أنه -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمحضر من الصحابة كلهم وهم راجعون من حجة الوداع؛ فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: "هذا وصيي وأخي والخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوه". ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغييره ومخالفته. فلعنة الله على الكاذبين. وكرواية: "أنّ الشمس رُدّت لعلي بعد العصر" لكنّ القاعدة هنا أن يدعى -صلى الله عليه وسلم- أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر الصحابة. ومنها أيضًا: "أن يكون الحديث باطلًا في نفسه" فيدلُّ بُطلَانُه أنه ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل المِجَرّة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش". و: "إذا غضب الله أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية" إلخ هذه كلها كلمات سمجة.

أيضًا منها: "أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء" يعني: ركيك في المعنى أو ركيك في اللفظ، فضلًا عن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي هو وحي من يوحى مثلًا: "ثلاثة تزيد في البصر النظر إلى الخضرة، والماء الجاري، والوجه الحسن". وهذا الكلام مما ينزه عنه أبو هريرة وابن عباس؛ لأنهم ينسبون الوقت إليهم، بل سعيد بن المسيب والحسن، وأحمد ومالك -رحمهم الله- يعني: هؤلاء لا يقولون هذا الكلام. هل يجوز النظر إلى الوجه الحسن؟! خصوصًا إذا كان امرأة، يعني لكي تزيد في البصر هل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا الكلام؟! وحديث: "النظر إلى الوجه الحسن يجلي البصر"، و"عليكم بالوجوه الملاح والحدق السود، فإن الله يستحي أن يعذب مليحًا بالنار". يقول: فلعنة الله على واضعه الخبيث. وحديث: "النظر إلى الوجه الجميل عبادة". "إن الله طهر قوم من الذنوب بالصلعة في رءوسهم، وإن علي لأولهم". يعني: هذا كلام لا يجوز أبدًا، من العلامات الضابطة لنقد المتن: "أنْ يَكُون في الحديث تاريخ" مثل قوله: "إذا وقعت سنة كذا كذا إلى آخره هذا أيضًا؛ "إذا انكسف القمر في محرم كان الغلاء، والقتال وشغل السلطان كذا كذا" كلها كذب مفترى كما يقول ابن القيم. منها: "أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأنيق" كحديث: "الهريسة تشد الظهر" أن "أكل السمك يوهن الجسد". إلى آخره. منها أيضًا: أحاديث العقل كلها كذب "لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل" ثم إلى آخره. الأحاديث التي يُذكر فيها الخضر وحياته، كلها كذب وأنّ الخَضِر حيٌّ الآن، ولا يصح في حياته حديث واحد، مثل حديث: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في المسجد؛ فسمع كلامًا من ورائه فذهبوا ينظرون، فإذا هو الخضر". وساق ابن

القيم أدلة كثيرة على تعارض هذا الحديث مع القرآن الكريم ومع السنة المطهرة، وحتى مع المعقول بين أن هذا الحديث يُصادم العقول من وجوه عشرة. كلامه طيب جدًّا في هذا. أيضًا يقول: أن يكون الحديث مما تكون الشواهد الصحيحة على بطلانه. يقول أيضًا: مُخالفة الحديث بصريح القرآن؛ كحديث: "مقدار الدُّنيا، وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن في الألف السابعة". إلى آخره كل ذلك الذي يهمنا هنا أن هذه كلها ضوابط للمتن، تضحد دحضًا شديدًا مُهلكًا فِرية أن المحدثين لم يعتنوا بالمتن، بل اعتنوا بالمتن، ووضعوا هذه القواعد. أختم بالذي قاله ابن الجوزي: "إذا وجدت الحديث يُباين المنقول، ويُخالف المعقول، ويُصادم الأصول؛ فاعلم أنه موضوع". هذه الضوابط الثلاثة تكتب بماء الذهب إذا وجدت الحديث يباين المنقول يعني: المنقول من القرآن والسنة يُباينه مباينة تامة، بحيث لا يمكن الجمع، ويُصادم العُقول: العقول السليمة والفِطر النّقية، التي لم تتلوث بالمستشرقين ولا بغيرهم. و"يصادم الأصول" أي: يصادم قواعد الشرع العامة، حديث يدعو إلى الشدة، ليخالف فرائض الإسلام ... إلى آخره. كل هذه دلالة على وضع الحديث، غايةُ ما في الأمر أن الذي ينظر في المتن ليقول: إن هذا حديث مخالف للأصول، أو مباين للعقول أو مصادم لكذا، إنما هو عقل مسلم حريص مخلص، حريص على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينظر عقل لم يقرأ في الإسلام شيئًا، وإنما كل ما قرأه إنما قرأه على يد أعداء الإسلام، ثم يأتي لينظر في الحديث، ويقول: هذا يصادم كذا أو هذا يصادم كذا، هذا لا يجوز أبدًا. لكن الغرض كان هو إثبات أن المتن لقي عناية فائقة جدًّا من المحدثين كعنايتهم بالإسناد، بل إن العناية بالإسناد كانت لخدمة المتن. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 18 الاستشراق ومنهجه وموقفه من السنة المطهرة.

الدرس: 18 الاستشراق ومنهجه وموقفه من السنة المطهرة.

تعريف الاستشراق ومنطلقه، وأغراضه الأساسية في الدراسة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر الاستشراق ومنهجه وموقفه من السنة المطهرة تعريف الاستشراق ومنطلقه، وأغراضه الأساسية في الدراسة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فبعون من الله -تبارك وتعالى- وتوفيقه نتكلم عن الاستشراق وموقفه من السنة المطهرة، وعن المنهج الذي اتبعه المستشرقون في الدراسة، كمقدمة لدراسة شبهاتهم التي أثاروها حول السنة. معنى الاستشراق: الاستشراق كما نقول في لغتنا العربية: الألف والسين والتاء للطلب، إذا قلتُ: أستغفر الله، يعني: أطلب من الله تعالى المغفرة، إذن المادة فيها معنى الطلب. "شرق" جاءت من شرقت الشمس؛ أي: طلعت، والمقصود بها أيضًا الجهة الشرق، فنقول مثلًا: شتان ما بين مشرق ومغرب، فمادة شرق إذا أطلقت تُطلق على الجهة التي تُشرق منها الشمس، عندي جهة وهي الشرق وعندي ألف وسين والتاء للطلب، فالاستشراق يعني: معناها طلب دراسة ما يتعلق بالشرق، بِناءً على أن الألف والسين والتاء للطلب، فيكون "المستشرِق" بكسر الراء: اسم فاعل مِن استشرق، أي: الذي طلب دراسة ما يتصل بالشرق، هذه مناقشة لُغوية ندخل منها إلى معنى الاستشراق اصطلاحًا كما عرّفته كثير من المصادر: هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي. الغربيون انكبوا على دراسة العالَم الشرقي بكل تفاصيله، دراسة الشعوب وتاريخهم وأديانهم ولغاتهم، وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحضارتهم، وكل ما يتعلق بهم. العالم الغربي يدرس العالم الشرقي، أين يقع العالم الإسلامي؟ العالم الإسلامي يقع في شرق الكرة الأرضية، والعالم الغربي يقع في غربها. إذًا علماء الغرب اتجهوا لدراسة الشرق بكل التفاصيل التي أشرت إليها؛ التاري،

خ العادات، اللغات، الأديان، الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية، السياسة، الحضارة، إذًا أهل الغرب يدرسون أهل الشرق، ثم حُصر معنى الاستشراق في دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية. العالم الشرقي جغرافيًّا يشمل حتى اليابان والصين شرق الكرة الأرضية، في الغرب، إذن الدراسة تشمل كل هذا، لكنها في النهاية انحصرت لدراسة الإسلام والشعوب الإسلامية، لماذا؟ ما دام الاستشراق في النهاية استقر على دراسة أحوال المسلمين فقط ودراسة الإسلام ذاته كدين بكل تفاصيله، كان ذلك لخدمة أمرين: لخدمة أغراض التبشير، ولخدمة أغراض الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين، فالاستشراق قام بإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام، وتحطيم الأمة الإسلامية، يعني: هذه الدراسة الاستشراقية لم تكن للعلم أو لمعرفة أحوال هذه الشعوب؛ لكي يتفاعلوا معها أو يتعاونوا معها ويستفيدوا بطيبها ويتوقوا خبيثها مثلًا، ويتبادلوا المنافع فيما بينهم، إنما كانت لغرضين؛ أغراض التبشير التي تعني ردّ المسلمين عن دينهم، وأغراض الاستعمار الذي يعني السيطرة على بلاد ومُقدّرات المسلمين؛ الاحتلال العسكري والاقتصادي والسياسي كما نعلم جميعًا. هذا الكلام الذي أقوله لم آتِ به من عند نفسي، كل الذين تكلموا في الاستشراق مثلًا كِتاب (أجنحة المكر الثلاثة) للأستاذ عبد الرحمن الميداني (الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري) للدكتور محمود زقزوق، (المستشرقون والتاريخ الإسلامي)، (رؤية إسلامية للاستشراق) للدكتور أحمد غراب، كثير من الكتب قالت هذا الكلام.

هذا الاصطلاح الذي اصطلح عليه في تعريف الاستشراق استقر عليه القول عند أهل العلم والمتخصصين في هذا الأمر، وهو بعد أن كان الأمر يقوم على دراسة الشرق كله، حُصر الأمر في دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية، وكما قلنا الغرض من هذه الدراسة: 1 - خدمة أغراض التبشير. 2 - خدمة أغراض الاستعمار. 3 - إعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام. هذه الدراسات كانت ليقدموها إلى العسكريين وإلى السياسيين، كيف تتوغلون في الأمة الإسلامية؟ يدرسون عادات الشعوب وأخلاقها وتقاليدها .. إلخ لكي يجدوا سبلًا ينفذون من خلالها للسيطرة بمعنى الاستعمار، وللتبشير الذي يعني محاولة إخراج المسلمين عن دينهم. الدراسات التي قام بها المستشرقون بهذا الهدف، يدرسون المنافذ التي تؤدي بهم إلى ذلك. إذن، عرفنا الاستشراق وأغراضه والهدف من دراسته، مَن هو المستشرق إذن؟ المستشرقون هم الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، المستشرقون جهة علمية في المقام الأول، يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، يعني هم من أبناء الغرب، ويقدمون هذه الدراسات -كما قلنا- للمبشرين وللقائمين على قيادة الدوائر الاستعمارية؛ لكي يستفيدوا بتلك الدراسات في تحقيق أغراضهم، التي يبحثون عنها للأمة الإسلامية، من الاستيلاء على المصادر الاقتصادية والسياسية، من محاولة توهين عقيدة الأمة الدينية، من صرف الأمة عن الجهاد

والعلو العلمي؛ لتظل ضعيفة إلى آخر ما يرصدونه من أغراض وأهداف، وهم دائمًا يدرسون ويجددون أهدافهم ويعقدون المؤتمرات لبيان ما تحقق من أهدافهم، وما الذي لم يتحقق، والذي لم يتحقق لماذا لم يتحقق؟ وما هي العوائق؟ في الحقيقة، لا بد أن نقر بنفسهم العلمي المستمر في ذلك، وتعاقب الأجيال على هذا وتعاونهم مع بعضهم، بل ربما أحيانًا يوظفون بعض أبناء الشرق الذين تأثّروا بمناهجهم أو بفكرهم ليقوموا بهذه الدراسات وليعاونوهم فيها، لكن الأصل أن هذه الدراسات يقوم بها الغربيون. إذن، هذا الاستشراق دوره خطير، لماذا؟ لأنه هو الذي صاغ التصورات الغربية عن الإسلام وأهله لكل أبناء الغرب، من سياسيين ومن اقتصاديين، بل للعوام، اليوم مثلًا وقبل اليوم كيف يتلقى أبناء الغرب المعلومات عن الإسلام المشوشة، الذي يتهمونه بالاضطراب أو بالإرهاب أو ما شاكل ذلك أو التخلف، يستمدون هذه المعلومات من دراسة المستشرقين، إذًا هذا الاستشراق دوره خطير؛ لأنه يقع في المقدمة من هذه الجيوش الغربية المتقدمة الأغراض السياسية والعسكرية، هو الذي يقدم لهم التصورات عن الإسلام، ويقدم لهم الدراسات، ويحدد لهم السبل التي يتسللون من خلالها للنيل من أمة الإسلام. يعني نقول: الاستشراق له أكبر الأثر في التصور العام عن الإسلام، الذي استمد الغرب المعلومات عن الإسلام من خلاله بناء على هذه الدراسات الاستشراقية، وفي الحقيقة هذا وجه الخطورة في جانب الاستشراق؛ ولذلك لأن الهدف كما قلنا الإسلام ونحن يشهد الله لا نفتري عليهم بل نستعين بكتب المتخصصين في هذا، كان هجومهم أيضًا على عقيدة الإسلام وهجومهم على السنة النبوية التي هي محل دراستنا والتي سنتكلم عن موقفهم منها، المستشرقون لماذا يهتمون

بالسنة؟ السنة مصدر تشريع هام، وحياة المسلمين تتوقف على السنة، إذًا نفسد عليهم حياتهم بمحاولة اتهام السنة إلى آخره. إذن الاستشراق يعبّر عن موقف فكري معادي للإسلام بكل أسف، لم ينطلق من أغراض طيبة معاوِنة للشرق أو بمحاولة فهمه أو بإحسان التعامل معه، إنما نبين أنه لخدمة التبشير والاستعمار والقضاء على الأمة الإسلامية. وجه الخطورة فيه أنه انطلق من موقف معادٍ بادئ ذي بدء، لم ينطلق من موقف محايد -كما يزعمون- أو محاولة بحث عن حق، هو من الأصل انطلق من موقف معادٍ رافض للإسلام وأهله، وبالتالي أثار الاتهامات حتى من غير دراسة، ولهم مواقفهم -كما قلت- من كل أمور الإسلام، وبالضرورة دراستنا هنا ستقتصر على موقفهم من السنة، إنما أردنا فقط في الأول أن نبين المنطلق السياسي والفكري والعقدي الذي انطلقوا منه لمواجهة الإسلام كعدو -بكل أسف- وليس كقاسم مشترك يعيش معهم على الأرض، يشاركهم ملكية الأرض، ويشاركهم اقتصادها ومواردها إلى آخره. هم انطلقوا من نظرة استعلائية استعمارية تبشيرية، فأساءوا سواء في التصرفات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأيضًا في هذا المنطلق الخطير، أنا حينما أدرُسك من موقف معادي لك أنا أبحث عن المثالب بل أفتري المثالب، إنما لو كنت أدرسك لكي أتعاون معك ولكي أصاهرك مثلًا أو أشاركك في التجارة أو كذا، قطعًا فإن الدراسة ستختلف، وستبحث عن القواسم المشتركة التي تجمع بين الجميع؛ لكي نحسن التعامل مع بعضنا. وبكل أسف، فإن المتهم في النهاية هم المسلمون، الذين يرفضون الآخر! نتعجب الحقيقة أنا دائمًا أعلل هذا بأن السبب هو ضعف المسلمين الذي أغرى بهم أعداءهم ويجعلون يتكوكبون عليهم من كل حدب وصوب، ولكي يجعلونا

منهج المستشرقين وقواعدهم الجائرة في دراسة الإسلام.

دائمًا في موقف الدفاع، ويحصروننا في الدائرة الضيقة، هم يوجهون التهم وعلينا أن ندافع، يوجهون التهم إلى موقف الإسلام من المرأة موقف الإسلام من الميراث موقف كذا، وكما قلت: أنا أركز على دراستي للسنة. إذن، انطلق من موقف عدائي للإسلام، يشهد الله أننا لا نفتعل معارك، إنما هذه هي الحقيقة، والله -عز وجل- سجل ذلك في القرآن الكريم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة: 105) وقوله تعالى أيضًا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ @@ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: 109). إذن، القرآن يسجل موقفهم قديمًا وحديثًا، ومهما يكن من أمر فإنهم قد انطلقوا من هذه الروح العدائية التي اتجهوا بها ناحية الشرق، لغرض الاستعمار والتبشير، والسيطرة على الأمة الإسلامية، وإضعافها، أو القضاء عليها اقتصاديًّا وسياسيًّا ... إلى آخره. منهج المستشرقين وقواعدهم الجائرة في دراسة الإسلام بعد هذه اللمحة في تعريف الاستشراق ومنطلقه وأغراضه الأساسية في الدراسة، نتكلم الآن عن منهج المستشرقين في دراسة الإسلام، والمستشرقون لهم منهج على عكس ما يزيفون به وعلى عكس ما يخدعوننا به. بكل أسف كثير منا خُدع بكلام المستشرقين، وكأنهم يسوقون الكلام في قوالب علمية أو في قواعد دقيقة! هم أبعد ما يكونون عن ذلك بالأدلة العملية الواقعية التي تؤكد هذا، هم يحاولون أن يلبسوا دراستهم أثواب الدراسة العلمية الدقيقة، يُكثرون جدًّا لدرجة المبالغة في كثير من الأحيان من استعمال مصطلحات

خادعة، مثل قولهم: التحقيق، الموضوعية، التدقيق، التمحيص، هو منهجهم في كل ما يبحثونه، يزعمون أن دراساتهم محايدة لا تفرق بين عدو أو صديق أو قريب أو بعيد، ويقولون: إنهم يعتمدون على المنهج التجريبي وعلى المنهج العلمي، وأنهم يدرسون العقائد الدينية على أسس، ووفقًا لقواعد مستمدة من العقل ومن المنطلق. كل هذا زعم، وهذا كلام بعيد جدّا عن الحقيقة، لا توجد هناك أمانة علمية ولا ثوب علمي، ولا يمتون إلى ذلك بصلة، حتى من وُصف منهم بالإنصاف والدقة، ومحاولة إظهار الحياد، كثير من علمائنا الذين درسوا الاستشراق يقطعون بأنه لا يُوجد مستشرق محايد ولا نزيه، حتى مَن أصدر بعض الكلمات التي يُشعر ظاهرها بالإنصاف للإسلام ولنبي الإسلام، إنما هو دَسٌّ للسم في وسط العسل كما يقولون، للخداع، أنت حين تجد جملة يمدحون فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أو القرآن تتصور أن القوم منصفون، فتقرأ كلامهم إلى نهايته، فيدسون السم في العسل، فينخدع بهم مَن لا رصيدَ من العلم والثقافة من ورائه، أو من يعتمد عليهم فقط، أو مَن يحسن النية بهم، ويصدقهم في دعاواهم من اتباع المناهج العلمية إلى آخره. ملامح المنهج أو القواعد التي يحتكمون إليها ومدى بُعده عن الحقائق العلمية، وعن المناهج العلمية المتبعة عند كل العلماء في كل زمان. هل تتصور أن هناك منهجًا علميًّا رصينًا ممن ينطلقون المنطلق الأساسي كان من موقف عدائي كما ذكرت قبل؟ الغرض نفسه من الاستشراق يدينهم، الغرض التبشير، الغرض استعمار البلاد الإسلامية، الغرض السيطرة على مقدّرات الإسلام، هل يصدق العقل أو المنطق أن مَن ينطلق من هذه الروح العدائية

سيكون حياديًّا في دراسته حتى وإن خدعنا أو حاول أن يزيّف علينا بإظهار أن بحثه يلبس الثوب العلمي، هذا لا ينخدع به إلا البسطاء، أما الحمد لله رب العالمين، علماؤنا الذين تصدوا لدراسة الاستشراق بينوا زيف هذا الكلام. تحديد معالم منهجهم: كثير من الباحثين لخص منهج المستشرقين في تناولهم للدراسات الإسلامية تلخيصًا حسنًا، نعتمد نحن عليه هنا، وذكرنا المصادر، وسنذكر أيضًا المصادر الأخرى لمن يريد أن يرجع إليها. أول سمة من سماتهم يقبلون على دراسة النصوص بفكرة مسبّقة، ويقدِمون أيضًا على دراسة الإسلام بفكرة مسبقة، الإسلام متهم، هم يدرسون الإسلام المتهم؛ ليثبتوا أنه متهم فعلًا، فهو لا ينطلق من البحث عن الحقيقة، تخيّل أنا أعتقد أنك متهم بشيء ما، فدراستي ستقوم على البحث عن الأدلة التي تؤكد اتهامي، أنا لم أنطلق في دراستي من البحث عن الحقيقة، لا، أنت في نظري متهم بأنك القاتل مثلًا، كل دراستي ستتجه إلى إثبات أنك القاتل، هل أنا تجردت عن هذا الأمر وبحثت عن الحقيقة: من القاتل؟ لا، أنا عندي قناعة مسبّقة بأنك القاتل مثلًا، إذن كل دراساتي ستدور في هذا الإطار، هو نفس ما فعله المستشرقون؛ أقدموا على دراسة الإسلام بفكرة مسبقة، خلاصتها: أن الإسلام متّهم في تشريعاته وفي عقيدته، متهم في ظلمه للمرأة، وأقم الأدلة على ذلك، متهم أنه إرهاب يدعو للقتل وأقم الأدلة على ذلك، إلى آخر ما كُتب. وهم يطبقون قاعدة: أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، هم دائمًا يضعوننا في موقع الاتهام، وعلينا أن نثبت أننا غير متهمين، انظروا إلى هذه المعادلة العجيبة؛

كل هَم المسلمين أن يثبتوا أنهم غير متهمين، ونفي هذه التهمة هم نجحوا فيه، أنت إرهابي؛ لكي تثبت أنك لست إرهابيًّا اترك الجهاد. أنت لا تظلم المرأة، إذن شرّع قوانينَ تخالف شرع الله بالمساواة في الميراث وبالسماح بالتبرج، وما إلى ذلك، هذا الإصرار على الاتهام جعلنا في موقع المدافع دائمًا الذي لا يملك المبادرة، والأخطر من كل هذا أنه جعلنا لكي ننفي التهمة ونثبِت أن هذا الكلام غير صحيح، تجدنا في النهاية نترك بعض أمور ديننا، وفي النهاية هم لا يرضون بعد كل ذلك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120). إذن، أول خصيصة منهم أنهم أقبلوا على دراسة الإسلام بفكرة مسبقة، خلاصتها أن الإسلام متهم في كل جوانبه، وعليه أن يثبت العكس، واقتربوا من الإسلام لكي يؤكدوا هذا الفهم، وليس لكي يبحثوا عن الحقيقة؛ ولذلك أنا أقول: هم يقدمون نظرية غربية نحو الإسلام، وليس دراسة علمية، هم -كما قلت- حكموا على الإسلام أولًا، ثم راحوا يؤكدون هذا الحكم من خلال دراستهم، وهذا خلل في المنهج العلمي خطير، المفروض أنني أعرض رأيك كما هو من خلال مصادرك أو من أقوالك، ثم إذا بان لي أن هذا الرأي يحتاج إلى نقد أو إلى تصحيح أبيّن بالأدلة. انظروا إلى الفرق، هذه من القواعد المقررة عند علمائنا؛ أنك إذا نقلت عن عالم خطأ فقد ظلمتَه، ومن الممكن أن تحاسَب على ذلك، ينبغي أن تنقل عن العالم بدقة رأيه وفهمه، إذا لم تفهمه لا تتعرض له، أما إذا فهمته وتحاول أن تشوّش عليه؛ فهذا ظلم بيّن، يبدأ الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))، ويستمر الأمر في تحريم الكذب على كل الخلق، بأي صورة من الصور، ومن أبشع صور الكذب أن تنقل رأيه خطأً وأنت تعلم أنك مخطئ في نقل أو في تصوير هذا الرأي، إنما تفعل ذلك لكي تخدم أغراضك، فهم يُقبلون

على الدراسة للإسلام انطلاقًا من فكرة مسبقة، ثم يضعون المسلمين والإسلام في قفص الاتهام، وعليهم أن يثبتوا العكس. من خصائصهم: أنهم يشرحون الإسلام، أو يقدمون الإسلام من وجهة نظرهم هم، وليس من خلال حقيقة الإسلام، أو من خلال فهم علماء الإسلام للإسلام، كما قلت: أي نظرية أنا أريد أن أنقد النظرية الشيوعية، عليّ أن أقدمها أولًا كما هي، ثم أبين مثالبها وعيوبها، أي نظرية! هم -كما قلت- يقدمون الإسلام من وجهة نظرهم، ثم بعد ذلك يحكمون عليه كما فهموه هم، وليس كما هو عند المسلمين، أو كما تعمدوا أن يشوّهوه في الحقيقة، هم أحيانًا يفهمونه على الوجه الصواب، لكنهم يحسدوننا، فيمنعون إظهار الحق، هذا التناول هذا المنطلق جعلهم -كما قلت- يقدمون الإسلام من وجهة نظرهم، وليس من وجهة نظر أبنائه، من خلال مصادره من خلال القرآن والسنة ومن خلال فهم علماء الأمة للقرآن والسنة، إنما فقط -كما قلت- من فهمهم. ثالثًا: قطعوا النصوص من سياقها: حتى النصوص الإسلامية ممكن يستشهد بكتابات المسلمين: الإمام النووي في (شرح مسلم) ابن حجر وهذا منهج في منتهى الخطورة؛ هذه النصوص ممكن أن يؤولها أو أن يقطعها من سياقها؛ أن يؤولها بما يخدِم فِكرَه، ما معنى يقطعها من سياقها؟ يعني: الكلمة في وسط السياق لها مفهوم، لكنه يقطعها من وسط السياق؛ لتخدم فكرة عنده، سأضرب مثالًا من عمل أحد العلماء المسلمين الذي تأثر بالدراسات الاستشراقية، مع أن كتابه في السيرة كتاب طيب، لكن انظروا إلى بعض الصنيع، هو لم يعتمد في كتابه في السيرة على القرآن والسنة كمصادر، وقال: أنا اعتمدت على المنهج التجريبي والمنهج العلمي كما يقول المستشرقون تمامًا، لما عوتب: لماذا لم تعتمد على السنة الصحيحة والسيرة التي كتبها علماء المسلمين؟ حاول أن

يُدافع عن منهجه الذي اختاره، فكان مما قال: أنا لم أعتمد على السنة؛ لأن السنة في مصادرها حولها كلام، وتأخر تدوينها. تلك الطنطنة التي يتشدقون بها في كل وقت وحين، وهي مردود عليها من أساسها، ولكي يؤكد هذا قال: نحن نعلم أن (صحيح مسلم) هو ثاني المصادر الإسلامية بعد (صحيح البخاري)، الإمام النووي في مقدمة شرحه لـ (صحيح مسلم) يقدم مجموعة من الفصول، من ضمنها أنه يرد على مَن ادّعوا أن مسلمًا روى عن بعض الضعفاء، يبين وجه الرواية هذه، فماذا قال النووي -رحمه الله-؟ وضع عنوانًا قال فيه: عاب عائبون مسلمًا لروايته عن الضعفاء. هذا العنوان وضعه النووي لكي يرد عليه والجواب شرع في الجواب، فماذا فعل هذا العالم الذي يقولون: إنهم يتحلون بالمنهج العلمي وبالحياد إلى آخره، جاء بهذه الكلمة مبتورة من سياقها، وكأن النووي -رحمه الله- يقر بأن هذا من العيوب التي وجهت لمسلم، يعني: هو جاء بها كإقرار من النووي -رحمه الله- بأنه مع هذا العيب الذي وجهه العائبون لـ (صحيح مسلم) أنه روى عن الضعفاء، ها هو النووي يعترف بأن مسلمًا فيه رواية عن الضعفاء، مع أن النووي قد أتى بالكلمة؛ ليرد على هذه الفِرية من أساسها. إذن، هم أقبلوا على دراسة النصوص بفكرة مسبّقة، هم قدّموا الإسلام من وجهة نظرهم، هم أوّلوا النصوص؛ بالنسبة للنصوص فعلوا فيها الأفاعيل، تخيروا النص الذي يخدم فكرهم، أولوه إن عاكسهم على غير وجهه، صرفوه عن غيره وجهه، على الوجه الذي يرضي أفهامهم، بتروه من سياقه -كما قلت- حرّفوا في بعض كلمه، كما سنثبت بالأدلة، هذه كلها مواقف من منهجهم العلمي، الذي يزعمون أنهم اتبعوا المناهج العلمية الدقيقة في دراسة الإسلام.

أيضًا، هم يحللون الإسلام من خلال الدراسات الأوربية الغربية، بمعنى: يعتمدون على ما قاله المستشرق الفلاني، على ما قاله المستشرق العلاني، ما خطورة هذا الأمر؟ حين تُقدم على دراسة الأمر؛ يعني: مثلًا أنا لو درستُ مجتمعًا يبيح أكل بعض المحرمات التي ليست عندنا، هم لا يؤمنون بالإسلام حتى يؤمنوا بهذا حرام، إنما ممكن أنقد لو كان فيه ضرر صحي مثلًا وما إلى ذلك، إنما كونه حرام يحتاج أولًا إلى إيمانهم بالإسلام، ماذا يقولون؟ أن تدرس الأمر بعقليتك أنت بوجهة نظرك أنت، هذا أمر خطير، من أسوأ المناهج العلميّة، لماذا؟ مجتمعك مثلًا لا يرى عيبًا في عري النساء وهناك مجتمع يرفضه انطلاقًا من شريعته، حين يدرس دارس من المجتمع الذي يبيح عُري النساء المجتمع الذي لا يبيحه، سيكون منتقدًا وعيبًا من وجهة نظره؛ لأنه حكّم عقليته ومنهجه هو في الدراسة، لم يقل مثلًا: إنه محرم عندهم ويحترم هذا التحريم، لا، إنما عابه عليهم، أنا أضرب مثالًا لخطورة الاعتماد على هذا المنهج، أن تدرسني بعقليتك أنت وليس بعقليتي أنا أو بقيمي أنا أو بمصادري الشرعية، تحكم عليّ من خلال ما تربيت عليه أنت، لا. عري النساء عندهم ليس عيبًا، يرونه حرية شخصية، أن تكشف المرأة عن مساحات واسعة من جسدها، هذا ليس عيبًا! أن تصادق خليلًا ليس عيبًا! لكننا نرفضه، هذا الذي يقبل هذا الأمر حين يتكلم عن مجتمعنا مؤكّد سينتقدنا، بينما هو مجتمع أخلاقي مثلًا، يبحث عن العفة والطهارة، له مقاييسه التي يرجع إليها، وليست مقاييسي أنا، التي يحكم عليها، هذا في الحقيقة خلل علمي رهيب، لا يمكن محاكمة منهج على غير قواعده، ولا محاكمة عصر على غي

ر عصره، مثلًا واحد يقول: الخلفاء الراشدون لم يكن حكمهم ديمقراطيًّا؛ لأنه لم يكن عندهم مثلًا مجلس نيابي، هذه سفاهة، يقيسون الديمقراطية بمقاييسهم هم، وأن الخلفاء الراشدون ليسوا ديمقراطيين؛ لأنه لم يكن عندهم مجلس نيابي! ما هذا السفه؟! لا يمكن محاكمة عصر على مناهج عصر آخر، أو محاكمة مجتمع على قيم ومبادئ مجتمع آخر، أو على أشخاص وسلوكهم أو فهمهم ... إلى آخره. هذا من الخلل في المناهج العلمية، والذين يزعمون أنهم يتبعون المناهج العلمية في الدراسة هم يخالفونها، فإذن أنت حين تحاكمني تحاكمني إلى قيمي ومبادئي، أضرب أمثلة من أجل أن أوضح خلل المنهج الذي احتكموا إليه: النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج بنتًا صغيرة، هذه جريمة كبيرة!! مَن الذي قال؟ هل المجتمع كان يرفضها؟ هل انفرد النبي -صلى الله عليه وسلم- بها؟ لذلك لم نجد واحدًا من المشركين العتاة في عدائهم للإسلام عابوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وهم كانوا في خندق العداء للإسلام، لماذا؟ لأن الأمر كان مألوفًا عندهم. أما أنت تأتي بعد أربعة عشر قرنًا وتحاكم الإسلام ونبي الإسلام وأخلاق الإسلام على قيمك أنت -على فسادها- وتزعم أن هذا هو الحق، ثم تثير الشبه وتخطئ في حق الآخرين، وتدعي أنك تتبع المناهج العلمية الرصينة، أي منهج علمي رصين وأي خداع فيها؟! الأمور واضحة، الخلفاء الراشدون كانت الرعية تخاطبهم على المنابر وهم على المنابر بكل ما يريدون، أعظم من الديمقراطية التي يزعمونها بكثير بكثير بكثير، وعندنا عشرات الأمثلة على هذا، لم يبرم أحدهم أمرًا بدون شورى، هذا لا ندخل فيه، إنما هذا مجرد أمثلة أضربها؛ لبيان خلل المنهج الذي اعتمدوا عليه في النقطة التي أتكلم فيها، وهو أنهم يدرسون الإسلام ويحللونه بعقليتهم الأوربية وبأخلاقهم، وبعرفهم الاجتماعي، ويحكمون على الإسلام من خلاله، وأبين أن هذا خلل علمي.

وصدقوني هذا كلام لا يستحق الرد عليه، ليس استعلاءً؛ لأنه خلل علمي، لكن ماذا نفعل! نجحوا في وضعنا في خانة المتهمين الذين عليهم أن يبرهنوا على نفي التهم التي يثيرونها مَن لا يفهموا الإسلام يومًا، أو من لا يتبعون المناهج العلمية. أيضًا، من قواعدهم المختلة التي احتكموا إليها: اعتمادهم على كثير من الروايات الضعيفة والشاذة: الحقيقة، هذا أمر واضح جدًّا، وحين ننتقل إلى الشبه التي أثاروها، في الحقيقة سنضرب أمثلة لهذا كثيرة، إنما الآن نتكلم عن منهجهم في التعامل مع النصوص. أيضًا، قلت: تحريف النصوص ونقلها نقلًا مبتورًا خارجًا عن سياقها ليخدم فكرتهم، وضربت مثالًا ما فعله بعضهم مع النووي، وكلامه -رحمه الله تعالى. أيضًا جهل كثير منهم باللغة العربية، وفصاحتها، وبلاغتها، ودقتها، وعظمتها، وحملها لأوجه كثيرة، كان من بين الأسباب التي أوقعتهم في سوء الفهم، وقد انعكس ذلك على كتاباتهم عن الإسلام وأهله، وأنا حين أقول: ضعف اللغة كان سببًا في بعض أخطائهم، فإني والله أنصفهم، أنصفهم فعلًا؛ لأني أحاول أن أبحث عن أسباب علمية لبعض أخطائهم، مع أنه كان الممكن إذا لم يتقنوا اللغة ألا يتكلموا عنها، هذا منهج علمي، أو أن يستعينوا بالمتخصصين فيها، هذا الذي تقتضيه الدراسات العلمية الجادة. أنا الآن مثلًا لا أجيد الإنجليزية، فلا أتكلم عنها، ولا أتكلم عن ثقافتها إلا إذا أتقنتها أو إذا استعنت بمتخصص فيها على مسئوليته ينقل لي ما أريد أن أنقله وما أريد أن أنقده، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لزيد بن ثابت -انظروا إلى المنهج العلمي الدقيق-: ((تعلم لي لغة يهود؛ فإني لا آمنهم على كتابي))، ما دمت تريد أن ترد على لغة بلغة أهلها أتقنها، يقول زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "فحذقتها في خمسة عشر يومًا" يعني: وصل إلى قمة الإتقان والإجادة في خمسة عشر يومًا، هذه قضية أخرى، لكن انظروا إلى منهج ومنهج.

قبل أن يتكلموا عن المناهج العلمية الدقيقة لماذا لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا: هاجم اليهود بلغتنا، وقل في شأنهم كذا، لا، إنما تريد أن تتكلم عنهم أتقن لغتهم، وافهمها على وجهها الصحيح، ثم بعد ذلك احتكم إليها أو تكلم عنها، فمن ضمن ما وقعوا فيه من أخطاء أنهم كان لديهم ضعف في اللغة العربية، بدل أن يعالجوه بإتقانها عالجوه بطريقة خطأ، ما هي؟ عالجوه بتحكيم فهمهم للغة على قواعد الشرع في الإسلام، أو على فهم المسلمين، لا، هو فهم من النص هذا، وفهمه هو الصواب، ويطرح فهم المسلمين ومصادرهم، ويريد أن يحتكم إلى ذلك. أيضًا، يعتمدون على مصادر ليست معتمدة عند المسلمين في بعض المسائل، من البدهيات في هذا الأمر وفي المناهج العلمية، أن كل علم له مصادره المتعلقة به، أنا حين أريد أن أعرف رأي المذهب الشافعي -رحمه الله- في مسائل، أرجع إلى كتب الشافعية، أريد أن أعرف كلمة في اللغة، أرجع إلى قواميس اللغة، أريد أن أرجع في الحديث إلى كتب الحديث وإلى أهل الحديث، يعني: إلى الكتب المتخصصة وإلى العلماء المتخصصين، هذا من المقاييس العلمية المتفق عليها عند العلماء، إنما مثلًا أتكلم عن حديث عند البخاري ومسلم أرجع إلى كتاب (الحيوان) للدميري مثلًا أو للجاحظ، أرجع إلى كتاب (ألف ليلة وليلة) أرجع إلى كتاب (الأغاني) ما هذا السفه؟ ما هذا الأمر؟ كثيرٌ جدًّا يقول: قال في الكذا، أين مصادر السنة المحترمة عندنا المجمع عليها؟ يعني كما قلت: لكل علم مصادره، أنا إذا أردت مسألة في الطب سأرجع إلى كتب الطب وإلى أهل الطب، وحتى حين أبحث عن المصادر أبحث عن المصادر العلمية المحترم الموثقة، وليست المصادر التي تخدم غرضي وهي ليست موثقة عند أهل الاختصاص المعتمَدين في هذا الأمر، هذا أمر مصطلح عليه في كل الدنيا وفي كل التخصصات. كل فن من الفنون له أمران: علماء متخصصون فيه، وكتب متخصصة أُلِّفت فيه، حين أريد معلومات عن هذا الفن أرجع إلى الأمرين؛ إلى العلماء

المتخصصين فيه وإلى الكتب المتخصصة في هذا، أما أن أقرأ أنا وأفهم أنا، وأجعل فهمي هو الحاكم على قواعدهم، فهذا ما لم يقل به أحد أبدًا في الدنيا إلا المستشرقين الذين يحكمون مناهجهم في دراساتهم عن الإسلام، خصوصًا إذا انضم إلى هذا الخلل المنطلق الذي انطلقوا منه -كما قلت- وهو العداء للإسلام؛ لأن عداءهم للإسلام -بالإضافة إلى وجوه الخلل التي ذكرتها- جعله يبحث عن المصادر غير المعتمدة، جعله يبتر النصوص من سياقها. وأيضًا من قواعدهم التركيز على الجوانب الخلافية في المسيرة الإسلامية، وبيان أن هذه هي مسيرة الإسلام: كأن الإسلام طوال حياته كان كذلك، مثلًا يقدمون ويبرزون الخلاف الذي حدث بين الصحابة، ويصورونه على أنه هذا هو تاريخ الإسلام، كل المسيرة الإسلامية كانت حروبًا وكانت خلافًا وكانت مشقة ... إلى آخره. ماذا تنتظر من شخص يكتب عن الإسلام بروح عدائية؟ هل سيبحث عن محاسن الإسلام؟ هل سيبحث عن المواقف العلمية الرصينة التي تؤكد عظمة الإسلام؟ لا، هي عين العدو اللدود، التي يبحث بها عن المثالب، وعن الأخطاء، وحتى يصطنع الخطأ اصطناعًا؛ يفسر القرآن وفقًا لهواه، أو يقرأ بعض الآيات الخطأ، ثم هو يروّج علينا أنه لا يخطئ، وأنه حيادي وأنه علمي، هذا الرصد الذي أقوله الآن إنما هو من خلال دراسات المتخصصين، لم أنقله من عند نفسي، تحريف الكلام عن مواضعه؛ يعني: حتى هم الذين ابتدعوا النظرية هذه في الإعلام نظرية "جوبلز": اكذب اكذب حتى تصدق نفسك، وحتى تخدع المتلقي عنك بأنك صادق، تكلم كثيرًا كثيرًا كثيرًا عن أن الإسلام أسقط حقوق المرأة، وعِدْ وزِدْ وكرِّرْ بمَلل وكذا، حتى تستقر القضية في وجدان المستمعين، وتصبح جزءًا من ثوابتهم؛ أن الإسلام ظلم المرأة.

وكلما دُعي أحدهم إلى نقاش أو إلى برنامج أو إلى كتاب، هو هذه قضيته، حتى من تلاميذهم من أبناء البلاد الإسلامية، هو يأتي إلى أي برنامج لإثبات هذه الحقيقة: أن الإسلام ظلم المرأة، ليس لبحث موقف الإسلام من المرأة مثلًا في ضوء الأدلة، إنما هو اقتنع كما قلت بالفكرة المسبقة. أيضًا، الجانب الإيماني عندهم ضعيف جدًّا، فانعكس على دراستهم: قضية الأديان لا يبالون بها، بعضهم لا ديني، لا تهمهم قضية الأديان، هو يعيش في الدنيا يعمل ويكسب ويستمتع، أما جوانب الإيمان والجهاد والجنة والنار، البحث عن رضا الله تعالى وعن مغفرته، وعن الاستعداد للجنة، الخوف من الاستعداد ليوم الرحيل، كل هذا كلام في نظرهم كلام متخلف، كلام يفقد المرء الاستمتاع بالحياة، ويجعل الدنيا ظلامًا، ويجلس بجوار الحياة في انتظار الموت، كل كلام عن الآخرة وعن الاستعداد لها، وعن الجنة، هذا في نظره كلام عبث. فهو سلّط ابتعاده عن الدين على فكره، فرفض كل ما يعارض هذا الفكر. وهذا في الحقيقة منهج نحن نفنده؛ لأنهم يزعمون أنهم يقولون إنهم أتباع منهج علمي، لا، القرآن حدثنا عن قوم لوط، ما موقفهم من لوط؟ ما دام قد رفض نجاستهم إذًا: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (الأعراف: 82)، فجريمتهم التطهر، هو نفس المنهج، يحكّمون أخلاقهم ومبادئهم في الآخرين، ويريدون أن يقولوا إن هذا صواب وهذا خطأ، في ضوء ما يعتقدون وليس في ضوء الحقائق الثابتة. هذه بعض الملامح العامة التي اتبعها المستشرقون في دراستهم الإسلام، وكما قلت كثير مَن تكلموا عن الاستشراق الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- في (السنة ومكانتها في التشريع) كثير من العلماء نقلنا بعض أقوالهم؛ لنبين أن هذا الخلل الذي اتبعوه علميًّا أدى إلى إثارة الشبهات حول السنة. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 19 رد شبهات المستشرقين ودفع افتراءاتهم تجاه السنة.

الدرس: 19 رد شبهات المستشرقين ودفع افتراءاتهم تجاه السنة.

رد شبهة: أن الأحاديث وضعت نتيجة لتطور المسلمين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (رد شبهات المستشرقين ودفع افتراءاتهم تجاه السنة) رد شبهة: أن الأحاديث وُضعت نتيجة لتطور المسلمين الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنتكلم عن بعض شبه المستشرقين تجاه السنة: هناك شبه كثيرة أثارها المستشرقون تجاه السنة، ونقلها عنهم كثيرٌ من الذين تأثروا بالدراسات الاستشراقية حول الإسلام بشكل عام، وحول السنة بشكل خاص. من الشبه التي وضعوها في ذلك: قولهم: إن الأحاديث وُضعت في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين، هذه شبهة. شبهة أخرى تقول: إن الأمراء الأمويين والعباسيين بدءًا من معاوية -رضي الله تعالى عنه- واستمرارًا مع الدولة الأموية ومع الدولة العباسية، استغلوا بعض علماء المسلمين لوضع الأحاديث؛ مساندة لهم، وإعانة لهم على تثبيت ملكهم، والرد على مناوئيهم وعلى خصومهم، وما إلى ذلك. شبهة ثالثة تقول: إن حملة الإسلام من الصحابة ومن التابعين، كانوا جنودًا للأمراء في ذلك؛ يعني: استعانوا بالعلماء الكبار المتخصصين الذين يحبهم الناس ويستمعون إليهم، استعان الأمراء بهم في تحقيق هذه الغاية من وضع الأحاديث في تثبيت ملكهم وإعانتهم على خصومهم ونحو ذلك. يقولون أيضًا: إن بعض علماء المسلمين استجادوا الكذب؛ تأكيدًا لهذه الأمور، أو إثباتًا لها. ثم أيضًا من شبههم: يسوقون بعض الأدلة التي يرونها تؤكد هذا الاتهام؛ من أن العلماء المسلمين أرادوا أن يوفروا للأمراء والحكام مستنداتٍ شرعيةً تعينهم على إقامة الحجج على مناوئيهم، وعلى تدعيم ملكهم، وتثبيت أركان حكمهم، وما إلى ذلك.

هذه بعض الشبه، وإذا اتسع الوقت للرد على شبهٍ أخرى نرد عليها بإذن الله، ونرد على الشبه واحدةً واحدةً. من المعلوم أن الذي تولى كبر هذا الأمر هو "جولد تسيهر" في كتبه المعروفة عن الإسلام ونحوه، وفي التفسير والحديث، وما إلى ذلك، وهذه الكتب كانت مصدرًا لكثير ممن كتبوا في هذه المسألة بعد ذلك ونقلوا عنه هذه الأفكار، واعتبروها أفكارًا علمية تقوم على البحث، وعلى تأكيد الأمور بالأدلة الشرعية من خلال كتب المسلمين، هو ينقل من كتب المسلمين وكأنه يوهمنا أنه يعتمد أو أنه لم يأتِ بهذه الأقوال التي يعتمدها فرية على المسلمين، وإنما هي تعتمد على نقول أو نصوص منقولة من كتبهم ومنسوبة إليهم. يقول "جولد تسيهر" -نحن لا ننقل الكلام بالنص-: إن القسم الأول من السنة أو الأكبر من السنة ليس إلا نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول والثاني الهجريين؛ يعني: كلما حدث تطور سياسي اجتماعي ديني في حياة المسلمين وضعوا له الأحاديث، بإيحاء من الخلفاء أو بأمر منهم، أو بأي ظروف تدعو إلى هذا الوضع الذي ينسجم مع هذا التطور الذي حدث في حياة الأمم؛ يعني مثلًا: حدث خلاف بين سيدنا علي وسيدنا معاوية -رضي الله عنهما- الأمراء والحكام استعانوا ببعض العلماء لوضع أحاديث تؤيد موقف الأمويين مثلًا، وتنتقد موقف الذين ساندوا عليًّا -رضي الله عنه- إذا حدث تطور اقتصادي وضعوا أحاديث تُواكب هذا التطور الاقتصادي ليقننوه وليشرّعوه -على حد زعم الزاعمين من هؤلاء المفترين-. هذه الفِرية، كيف نرد عليها؟ نقول: يكذبها واقع المسلمين، كيف ذلك؟ أولًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- حين انتقل إلى الرفيق الأعلى، كانت قد تمت معالم الدين وكمل

بنيانه، فلا مجال لإضافة أو حذف بعد ذلك أيضًا لا من خلال القرآن الكريم ولا من خلال السنة المطهرة، الله -عز وجل- سجل ملته على عباده باكتمال هذا الدين وبتمامه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) فالقول بأن العلماء المسلمين أو الأمراء أو أي شخص، قد وضع حديثًا أو نصًّا يساعد أو يتوافق مع التطور الذي حدث في حياة الأمة، هذا قول زائف، لا نجد عليه أدلةً أبدًا، وسنرد على ما زعموه أنه أدلة وبعض شبهات هذا الأمر. لكن أردنا أن نوضح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين هاجر إلى المدينة بدأ بتأسيس الدولة الإسلامية، وضع لها القواعد والأسس التي بنى عليها المسلمون بعد ذلك وأسسوا عليها دولة الإسلام، وكل بلد يفتحه الله تعالى على المسلمين يتّبع الصحابة ويتبع المسلمين فيه المنهج الذي أخذوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إقامة الشرع وإقامة الحدود ومن بناء المساجد ومن الفصل بين الرجال والنساء ومن العفة والطهارة والاستقامة، دولة قد تحددت معالمها وتبينت أسسها، والله -عز وجل- هو الذي وضع تلك الأسس والنبي -صلى الله عليه وسلم- قام بتنفيذها؛ ولذلك نقول نحن: إن مجتمع المسلمين صنعة إلهية، يعني: حدد الله للأمة الإسلامية كيف تصوغ مجتمعها وتبنيه، ولا دخلَ لأحد أبدًا في هذا البناء إلا من حيث أن يفهم النصوص، وأن يطبقها على الوجه يرضي الله -عز وجل-. إذن، الإسلام تم وكمل، هذا الإسلام تضمنه القرآن الكريم وتضمنته السنة المطهرة، هذا الإسلام لا مجال فيه للزيادة ولا للنقصان، هناك شرحٌ لبعض النصوص، نعم، هناك استنباط للأحكام منها، نعم، هناك اجتهاد في ضَوْء النصوص التي كملت وتمت، وليس بمعزل عنها ولا زائد عليها، نرجو أن نكون واضحين في ذلك.

الاجتهاد الذي تم والذي يتم والذي سيظل إلى يوم القيامة، هو اجتهاد في فهم النصوص وتطبيقها على ما يُستحدث في حياة الناس من وقائع، كان ذلك قديمًا وسيظل ذلك إلى يوم القيامة، إن تطور الحياة لا يتوقف، لكن هذا التطور أبدًا، لا يصطدم مع الأدلة الشرعية، بل ينبغي أن يكون خاضعًا لها ومحكومًا بها ومندرجًا تحتها. الأمر استقر في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحددت معالم المجتمع وصار الخلفاء والحكام من بعد ذلك على هذا النهج الذي أسسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذن لم يكن هناك مجال لئن تُوضع لَبَنات جديدة في بناء الإسلام؛ نتيجة لتطور الدين أو الاقتصادي أو السياسي كما يزعم الزاعمون. إنما كانوا يأتون بالنصوص -وأنا ألح على هذه النقطة؛ لأنها تدحض فريتهم من أولها لآخرها- كانوا يأتون بنصوص يفهمونها ليطبقوها على المستحدثات في حياة الأمة، من الوقائع التي جاءت جديدة، وهذه مهمة أهل العلم؛ أن يدخلوا هذه الأمور المستحدثة تحت قواعدها الشرعية العامة الكلية المنظمة لها، وهذه النصوص جاءت وهذه القواعد جاءت في القرآن الكريم وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا مجال إذًا لإضافة نصوص جديدة، لا من القرآن الكريم ولا من السنة المطهرة، كلا وحاشا. ولكي أزيد المسألة توضيحًا أضرب بعض الأمثلة: مثلًا في زماننا هذا وفي كل عصر تستحدث القضايا؛ من التبرع بالأعضاء، من أعمال البنوك، من نظام البورصة والمضاربة فيها، من بعض النظم الاجتماعية التي تأتي من شرق أو من غرب، من أنواع الأطعمة التي تأتي مستوردة من الخارج.

أمور كثيرة جدًّا تستحدث في حياة الناس، ماذا يحدث من أهل العلم؟ هل يضعون لها أحاديث لكي تتواءم مع الشرع؟ أم يجتهدون في محاولة إدخالها تحت النصوص الشرعية القائمة الثابتة التي أجمعت عليها الأمة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة؟ هذا مثال واضح جدًّا حين يقولون مثلًا: مَن يجيز تعامل البنوك؟ يقول: الأدلة كذا وكذا، من يحرّمها؟ الأدلة كذا وكذا، والاختلاف في فهم النصوص أمرٌ وارد؛ لأن هذا ما هو تعبدنا الله تعالى به؛ أن نجتهد في فهم النصوص، ليس مع النص، هناك فَرْق في الاجتهاد في النص والاجتهاد مع النص، الاجتهاد مع النص أن يقول النص كلامًا ويقول المجتهد كلامًا آخر: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) يقول: نساوي بين المرأة والرجل، لا، أما أن نفهم الحكمة ومن وراء النص أو أن نفهم النص مثلًا: ملامسة النساء ناقضة للوضوء: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ما المراد بالملامسة؟ هذا هو الاجتهاد في النص. إذن، لا أحد يقول: إن الملامسة غير ناقضة؛ لأن الملامسة ونقضها للوضوء ثابتان بالقرآن الكريم، لكن ما المراد بالملامسة؟ هذا اجتهاد في فهم النص، قد يصيب صاحبه وقد يخطئ وهو في كلتا الحالتين مأجور، لكنه ليس اجتهادًا مع النص، إذًا الذي صنعه العلماء قديمًا وحديثًا: أنهم لم يضعوا أحاديث؛ لتناسب وتتواكب مع التطور الذي حدث في حياة المسلمين، وإنما يجتهدون في فهم النصوص التي بين أيديهم، ومحاولة تطبيقها على واقع المسلمين. إذن، هذه فِرية، وكلنا نعلم أن أي حديث يُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الشرط الأول من شروط صحته: أن يكون الإسناد متصلًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما معنى الإسناد المتصل؟ يعني: أن يكون كل راو قد تلقى الحديث من شيخه الذي فوقه مباشرة

بدون انقطاع في السند، بدون خلل، بدون فجوة، يعني: لا بد أن يتصل الإسناد أو السند من أول الراوي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. البخاري مثلًا حين يروي الحديث في كتابه، فإنه يرويه عن شيخه، وشيخه يرويه عن شيخه، وهكذا، إذا كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- سبعة ثمانية ستة خمسة، حسب علو الإسناد ونزوله، فلا بد أن نتأكد كأبناء للمدرسة الحديثية أن كل راوٍ قد تلقى الحديث من شيخه مباشرة بدون انقطاع، بالإضافة إلى دراستنا لأحوال الرواه وصدقهم وعدالتهم وأمانتهم .. إلى آخر ما نعلمه من مصطلح الحديث ومن شروط صحة الحديث. إذن، كيف يأتي واحد بعد قرن أو اثنين ويضع حديثًا ولا تتنبه الأمة لذلك، وتوضع في مصادرها الصحيحة؟ قد يرد عليّ الآن بعض الناس ويقول: الوضاعون يأتون بأسانيدَ وربما يأتون بسلاسلَ الذهب المعروفة عند المحدثين في أسانيدهم؛ لينسبوا إليها الأحاديث الموضوعة. أقول: حدث هذا، لكن علماء الأمة قد انتبهوا، ولم ينطلِ عليهم أبدًا أي حديث موضوع خدعهم، وميزوا الصحيح من الموضوع. إذن عندنا أمور كثيرة تدل على أن هذه الفرية باطلة، فمفهوم التطور لم تضطر معه الأمة إلى وضع أحاديث -كما قلت- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تركنا على المحجة البيضاء وأيضًا اتصال الأسانيد. ثم نقول: ما هو التطور الذي فَرض على المسلمين وضع أحاديث تواكب هذا التطور في أي مجال سياسي أو اقتصادي، سبحان الله! اختلفت الأمة في عهد عثمان بعد مقتله -رضي الله عنه- ليس في عهده بعد مقتله، واختلفت بعد ذلك، ووصل الخلاف في بعض الأحايين إلى القتال، وما اهتزت ثوابت الأمة، ولا تغيرت

معالم المجتمع، الخلاف لم يفتح الباب لاهتزاز الثوابت، أيضًا اتسعت الدولة ودخلت أمم كثيرة في دين الله أفواجًا، غرب الصين كشرقٍ للأمة الإسلامية، أفغانستان وما بعدها، إلى المغرب إلى أواسط روسيا شمالًا، إلى جنوب أفريقيا جنوبًا .. إلى آخره. دولة واسعة جدًّا صلاتها واحدة، قِبلتها واحدة، صومها واحد، حجها واحد، قرآنها واحد، نبيها واحد، سنتها واحدة، لم يتغير شيء من ذلك أبدًا تحت وطأة التطور الذي يحدث داخل المجتمعات. ثوابتها، في عقائدها، في أخلاقها، في عبادتها، في معاملتها، في ماليتها في أسس حلالها وحرامها، في الزواج، في الأسرة، في جمع المال، في إنفاق المال، كل ذلك ظل ثابتًا على رغم ما نشأ وطرأ على الأمة المسلمة وعلى أقطارها المتعددة من تطور كما يقول الزاعمون في كل مجالات الحياة، حدث تطور حتى في زماننا هذا؛ تبرج النساء فهل وضع العلماء أحاديث تسوّغ للناس التبرج؟ تعامل بعض الناس بالربا، فهل سمح أحد من أهل العلم أن يضع حديثًا ييسر للناس التعامل بالربا؟ هناك فرق بين أن تجتهد في أن هذه الصورة من التعاملات هي معاملات ربوية أو غير ربوية، هذا اجتهاد كما قلت، يعني: أن يقال مثلًا: معاملات البنوك ربوية أو غير ربوية، أنا لا أفتي الآن لكن أقول المسألة خلافية، لكن أحدًا من الذين قالوا بإباحتها لم يفهم أبدًا أنها ربا، ثم هو يجيزه ويسيغه للأمة لأنه ربا، اجتهاده انصب على أن هذا ليس من الربا المحرم، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، هذه مسألة اجتهادية -كما قلت- لكن هل قال الرجل أنه ربا وأنا أسيغه اتساقًا مع تطور الأمة ولأن الظروف الاقتصادية أصبحت مضطرة إلى ذلك؟ لم يقل أحدًا بذلك أبدًا، إنما اجتهاده -كما قلت- كان منصبًّا على أنه ليس من الربا، لا العلماء المحدثون ولا الأقدمون وهم أشد من المحدثين ورعًا وتقوى

وعلمًا لا يسمحون لأنفسهم أبدًا بأن يُضيفوا شيئًا إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- اتساقًا مع بعض الظروف التي طرأت على المجتمع، كل ذلك لم يحدث أبدًا. يقول الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى في هذا الصدد-: فما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد كان الإسلام ناضجًا تامًّا، لا طفلًا يافعًا، كما يدعي هذا المستشرق "جولد تسيهر" نعم، لقد كان من آثار الفتوحات الإسلامية أن واجهت المسلمين جزئيات وحوادث لم يُنص على بعضها في القرآن والسنة، فأعملوا آراءهم فيها قياسًا واستنباطًا، حتى وضعوا الأحكام المناسبة لها وهم في ذلك لم يخرجوا عن دائرة الإسلام وتعاليمه، وحسبك -لا يزال كلام الشيخ موصولًا- أن تعلم مدى نضوج الإسلام في عصره الأول، أن عمر -رضي الله عنه- سيطر على مملكتي كسرى وقيصر، وهما ما هما في الحضارة المدنية، فاستطاع أن يسوس أمورهم، ويحكم شعوبهم بأكمل وأعجب مما كان كسرى وقيصر يسوسان بها مملكتيهما. أتُرى لو كان الإسلام طفلًا كيف كان يستطيع عمرُ حينئذٍ أن ينهض بهذا العلم، ويسوس ذلك المُلك الواسع، ويجعل له من النظم ما جعله ينعم بالأمن والسعادة ما لم ينعم بهما في عهد ملكيهما السابقين. على أن الباحث المنصف يجد أن المسلمين في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يتعبدون عبادة واحدة، ويتعاملون بأحكام واحدة، ويقيمون أسسَ بيوتهم وأسرهم على أساس واحد، وهكذا كانوا متّحدين في العبادات والمعاملات والعقيدة والعادات غالبًا، ولا يمكن أن يكون ذلك لو لم يكن لهم قبل مغادرتهم جزيرة العرب نظام تام ناضج وضع لهم أسس حياتهم في مختلف نواحيها. ولو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني في القرنين الأولين لنجم حتمًا ألا تتحد عبادة المسلمين في شمال أفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب

الصين، إذ إن البيئة في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب، وبينهما من البُعد ما بينهما؟ يعني: لو أن هناك أحاديثَ توضع -قطعًا الظروف التي في شرق الصين غير الذي في المغرب من ناحية المناخ وتوفر المياه وما إلى ذلك ونظام الأكل والشرب واللباس، كان ممكن على هذا الزعم توضع مناهج لمن في الشرق غير المناهج التي للذين في الغرب. إن كل المجتمعات الإسلامية طورت حياتها بما يتوافق مع شرع الإسلام، غيروا عاداتهم وتقاليدهم، وغيروا عاداتهم الاجتماعية في نظام النكاح، قطعًا الأمم التي كانت قبل الإسلام ودخلت الإسلام كانت لها عاداتها وتقاليدها، في نكاحها في طعامها في شرابها في كل ذلك، توحدت مع الإسلام وانسجمت معه، وانقادت له وخضعت لأحكامه، سبحان الله! هو الذي أثر، الإسلام لم يتأثر ولم توضع أحاديث توافق التطور الاجتماعي، بل بالعكس، انتهى الاحتكام إلى العادات وإلى التقاليد وإلى العرف الاجتماعي، من عهد الصحابة الاحتكام إلى الإسلام، وكل الدول التي دخلت الإسلام غيّرت مناهجها؛ لتتلقاها من الإسلام. مَن كان عندهم عُري النساء تسترت نساؤهم، من كانوا يأكلون الحرام من المذبوحات أو من أنواع الأطعمة انتهى الأمر، من كانوا يشربون الخمور، من كانوا عندهم الزنا منتشر ... إلى آخره، كل هؤلاء تغيروا مع الإسلام. ولم يتغير الإسلام معهم ولم يضع نصوصًا تتوافق مع طبائعهم ومع عاداتهم الاجتماعية كما يزعم الزاعمون، بل إن هذه الأمم هي التي توافقت مع الإسلام، وخضعت وانقادت له، مما يدحض هذه الفرية من أساسها. كيف تقول عن أمة مساحتها شاسعة من الصين شرقًا إلى المغرب غربًا، وكل ذلك والعادات واحدة والأخلاق واحدة والمعاملات واحدة والحلال والحرام واحد،

وكل ذلك يقوم على أسس واحدة ولا ينكره منكر منهم أبدًا، صيامهم كما قلت في رمضان حجهم في ذي الحجة، هذا التطور الذي يتحدث عنه ذلك المستشرق أو غيره لم يحدث اختلافًا أبدًا ما بين مشرق ومغرب، وكان الأحرى به لو كان هذا التطور هو الذي يحكم لكانت الأمور قد تغيرت تمامًا، خصوصًا مع اختلاف البيئات والثقافات والظروف الاقتصادية والاجتماعية وغيرها ومع اختلاف الألسنة ومع اختلاف الشعوب. أقول: العكس هو الذي حدث، كل هؤلاء قد انصهروا في بَوتقة واحدة، لا يحدث بينها خلاف في أمر أصيل من أمور الإسلام، وإنما الخلاف الذي حدث في جزئيات تتعلق بفهم النصوص في المقام الأول، إذًا هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، وتظل الأمة بمعالمها الأساسية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، كل ذلك قد كان. أيقال بعد ذلك: إن الأحاديث أو بعضها أو القسم الأكبر منها وضعت نتيجة لتطور المسلمين الديني أو السياسي، كلما استجدت لهم أمور سياسية وضعوا لها أحاديث، وكلما طرأت عليهم عادات اجتماعية وضعوا لها أحاديث! هذا هراء وليس هناك دليل واحد عليه من واقع الأمة، وأين التباين بين آثار الأمة؟ وهؤلاء الذين رددوا هذا الكلام من وراء هذا المستشرق، أين اجتهادهم في دراسة تاريخ أممهم، وفي معرفة أحوال عاداتهم وأخلاقهم الاجتماعية؟ لماذا خُدعوا بهذا الكلام الذي لا أساسَ له من الصحة وكل واقع الأمة يبطله؟! كان أي حاكم من الدولة الأموية أو الدولة العباسية يحكم الدولة الواسعة كما ذكرنا، هل هناك نص واحد في أنه قد أبيح للشرق ما لم يبح للغرب، أو أن ما شرّع في الجنوب غير ما شرع في الشمال؟ كل ذلك لم يكن، وإنما العكس هو الصحيح.

أقول: إن هذه الأمم قد انصهرت في بوتقة الإسلام، وأصبح الإسلام هو الحاكم لكل صغيرة وكبيرة في حياتنا. وسيرًا مع هذا التطور مثلًا، لماذا في عصرنا هذا لا يوجد من يبيح للمسلمين الاختلاط بين الرجال والنساء؟ لماذا لم يوجد من يسمح لهم بالتبرج ويقول: إن التبرج حلال، لماذا لم يسمح التطور بأن يقال أن الظلم أصبح مستساغًا ومقبولًا؟ لماذا لم يضع أحد أحاديث كأن مثلًا الذبح بغير الطريقة الشرعية حلال ونأكله؟ لماذا ولماذا ولماذا؟ حتى في العصور المتأخرة التي لا أريد أن أقول: ضعف التمسك بالإسلام، الحمد الله هناك صحوة رشيدة وطيبة، لكن أقول: حدث تطور وبعض المسلمين تأثروا ببعض العادات التي جاءت من شرق أو من غرب، وهم يعلمون أنهم في استجابتهم هذه مخالفين للشرع. لكن أحدًا لم يقل أبدًا: أن السفور هو الحلال والأصوات النشاز التي تصدر بين حين وآخر تحمل هذه الأفكار الرديئة، سرعان ما تنطفئ وتخبو، وتعود إلى جحورها مدحورة، ويظل الثابت هو الذي أجمعت عليه الأمة، من القرآن الكريم ومن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-. المستشرقون وصولًا إلى هذه الغاية يُحاولون أن يثيروا بعض الشبهات التي رددنا إليها، يعني مثلًا: قد يستعينون على أن هناك وضعًا للأحاديث في القرن الأول والثاني ببعض الشبهات، مثل قولهم: إن السنة قد تأخر تدوينها، وهذا فتح الباب للإضافة والزيادة والنقصان، وهذه فرية عالجناها في أكثر من درس من دروسنا في هذه المادة، ورددنا بالأدلة على هذه الفرية وأن السنة قد بُدئ في تدوينها من عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتتبعناها خلال العصور المتعددة، إلى أن وضعت رحالها -بعون من الله وتوفيقه- في رحلة تامة من الصياغة والحفظ والرعاية في بطون الكتب المعروفة لدينا الآن،

ونحيل على هذه الدروس حتى لا نكرر ما قلناه قبل ذلك. أيضًا، هناك مَن يقول: أن هناك وضعًا في السنة، ونحن لم ننكر هذا، وهناك عوامل من الظروف الاجتماعية التي نتحدث عنها أدت إلى الوضع، مثلًا كالاختلافات السياسية والذهبية كل ذلك حق، لكن الذي يقول ذلك عليه ألا يغفل أبدًا جهود الأمة في مقاومة ذلك الوضع، هل انطلى هذا الوضع على الأمة؟ هل قبلته؟ الحكام الذين يتقولون عليهم كانوا يتقربون إلى الله بدماء الزنادقة الذين يتجرءون على دين الله، بل إن العلماء المخلصين الذين يدافعون عن السنة ويذبون عنها كان من بين أساليبهم في مقاومة الوضع والوضاعين أن يشتكوا هؤلاء الوضاعين، ويرفعوا أمرهم إلى الحكام، والحكام يعاقبونهم، لم يفرحوا بوضعهم للأحاديث، بل هناك كثير من العبارات التي تفيد أن حكام الأمة مطمئنون إلى العلماء المخلصين الذين يذبون عن حياض السنة، ويتصدون لهؤلاء بالمرصاد، فالحكام والعلماء قاموا بدَوْرهم في مقاومة الوضع والوضاعين، إلى أن انتهت موجة الوضع والآن بين أيدينا كتب كثيرة في الأحاديث الموضوعة، وبيّنت علامتها إلى آخر ما نعلمه جميعًا. إذن، لو أن هناك وضعًا للأحاديث، فليس ذلك دليلًا على أنه التطور الاجتماعي حدث، لا، الأمة تصدت، وأنا أعجب من بعض أقلام المسلمين التي تثير الشبهات حول الوضع مثلًا أو بعض الكتابات حول السنة، ولا ترد ولا تلتفت إلى الردود عليها، يعني: اقتنع بالشبهة ولم تلتفت إلى الردود عليها، نتكلم عن أن هناك وضعًا حدث وننسى عن عمد أو نتناسى عن عمد أن الأمة قد قاومت هذا الوضع، وتصدت له، وردت الوضاعين على أعقابهم مدحورين، وصارت لدينا كتب الآن تسجل الخزي عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن هؤلاء من الوضاعين وبمجرد أن نراه في سند حديث لا نقبل هذا السند أبدًا، ولا نقبل هذا المتن إذا كان ورد من طريقه هو فقط.

رد شبهة: أن الاختلاف بين المذاهب كان من أسباب الوضع.

أمور اتفقت عليها الأمة، فإذن فالمسيرة نقية وجلية، والتطور أبدًا لم يؤدِ للأمة في الوضع، بل ظل محكومًا في عصور الإسلام الأولى بالأدلة الشرعية المأخوذة من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- بل نقول: إن هذه المجتمعات هي التي تطورت -إن جاز التعبير- بما يتوافق مع الإسلام وليس العكس، وتاريخ الأمة دليلٌ على ذلك، دليل جليّ واضح، والذي يستطيع أن يأتي بأن أي أمة دخلت في الإسلام، استمرت على تشريعاتها أو تغيرت فليأتِ لنا بأدلة ولن يجد إلى ذلك سبيلًا. أيضًا، نقول ردًّا على هذه الفرية: إن أحدًا من علماء الأمة لا يستطيع ولا يقبل أن يخالف النص أبدًا، لا يستطيع أن يأتيَ بنص يواكب المجتمع المتطور أو ما شاكل ذلك، لا بد أن يعتمد على الدليل الصحيح، ومتى وجد الدليل الصحيح من القرآن الكريم والسنة المطهرة فالاحتكام إليه، إن أحدًا من علماء الأمة لم يكن ولم يحدث ذلك أبدًا إلى يوم القيامة، أن يقول مثلًا: إن هذا حديث ثبتت صحته عندي وأنا لا أعمل به. لماذا أقول هذا الكلام في الرد على هذه الفرية؟ لأبين أن الأمة قد اصطلحت على أن الاحتكام للقرآن الكريم وللحديث الصحيح بشروطه المعروفة عند الأمة كلها. رد شبهة: أن الاختلاف بين المذاهب كان من أسباب الوضع من الفرية أو الكذبات التي يقولها أيضًا: أن الاختلاف بين المذاهب كان من أسباب الوضع عند الأتباع وليس عند العلماء، واحد يضع حديثًا في تأييد أبي حنيفة في ذم الشيخين، هذا هراء لم تقف عنده الأمة كثيرًا، وصرنا نتندر به تندرًا يدل على سخف ما وقع منه، أما أن العلماء في اختلافهم قد التجئوا إلى أحاديث تؤيد مذهبهم، العلماء "أصحاب المذاهب"! أعوذ بالله هذه الفرية الظالمة.

العلماء المخلصون الجادون لا يستطيع أحد أبدًا أن يضع حديثًا، بل هم الذين تصدوا -كما ذكرنا- للوضّاعين ووضحوا أمرهم وغيّروا زيفهم ... إلى آخره، العلماء لا يستطيع أحد أبدًا أن يأتي بنص من عنده أو أن يصادر النص الأصلي الذي جاءه من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة، ومثلًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- له كتاب طيب جدًّا اسمه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وأيضًا البيهقي له (اختلاف العلماء) وهكذا، كلهم يذكرون الأسباب التي بسببها اختلف العلماء، منها أن الدليل قد لا يصل إليهم، ومنها أنه قد ينسى، يعني: الصحابة أنفسهم على شدة معايشتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- إما أنه بعض الأدلة لم تصل إليهم. هل نتصور أن كل صحابي قد أحاط بكل أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ هذا مستحيل، عندنا روايات تدل على أن بعض الأحكام قد فاتتهم، في قضية الاستئذان وميراث الجدة وغيرها، ولكن أحدًا أبدًا لم يحتَج إلى وضع أحاديث لا نتيجة التطور ولا غير التطور، ولا يوجد واحد من علماء الأمة -صغر أو كبر- يقبل ذلك، وحكّام الأمة الذين يحاولون أن يشوهوا صورتهم، لا نجد رواية واحدة تبيّن أن واحدًا من الحكام الأمويين أو العباسيين، واشتم في أحدهم ما شئت، ولا نوافقك لكن افترض، لكنك أبدًا لن تستطيع أن تأتي بدليل تبين أن هذا الخليفة مثلًا، قد أمر بوضع حديث أو حتى قبِلَ بحديث وُضِع له من غير أمرٍ منه. وعندنا المهدي في قصة الحمام، لما كان يحب اللعب بالحمام، فواحد من الوضاعين قال: "لا سبق إلا في نصل أو حافر أو حمام"، قال: والله أشهد أن قفاك هذا قفا كذاب، بل إن المهدي ترك اللعب بالحمام بعد هذه الحادثة، التي فهم منها أن ذلك قد يدفع بعض الوضّاعين إلى مجاملة الحاكم في ذلك، أما أن الحاكم قد أمر أو رضي، فلم تجدًا أبدًا دليلًا على هذا. حتى النصوص التي احتكموا إليها أو التي استشهد بها المستشرقون ومَن شايعهم

اتهام الإمام ابن شهاب الزهري بوضع الأحاديث التي تخدم مصالح أمراء وحكام بني أمية.

في بعض هذه المواقف، هي من مصادر مزيفة، ويبترون التاريخ ويبترون النصوص من سياقها، يزيفون التاريخ، قد كنت أشرت في الدرس السابق إلى ملامح منهج المستشرقين، وهي ملامح تدمي القلب، على هذا الكذب والافتراء، الذي يجعلونه منهجًا علميًا ويخدعون به البعض. اتهام الإمام ابن شهاب الزهري بوضع الأحاديث التي تخدم مصالح أمراء وحكام بني أمية من العجيب أنهم يتجهون إلى أركان الرواية وإلى كبار علماء الأمة ليتهموهم في وضع الحديث مثل الزهري مثلًا، محمد بن يوسف بن شهاب الزهري المولود سنة 50هـ والمتوفى سنة 124 أو 125هـ على خلافٍ في الروايات في تاريخ الوفاة، والرجل قرشي زهري من بني زهرة من أخوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحد كبار علماء الأمة، وأحد أركان الرواية، والقصص والروايات التي وردت في مهابة الأمراء له، وفي استعلائه بإيمانه وورعه وتقواه، وبخشيته لله، وحبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أي تُرهات فيما يزعمون؟! أنا أحيل أبنائي إلى أن ينتقدوا أو أن يقرءوا ترجمة ابن شهاب في (سير أعلام النبلاء) له فيه ترجمة واسعة وتهذيب الكمال وغيره، وانظروا إلى مكانة الزهري عند الأمة العامة، وعند الأمة الحكام والعلماء. حديث: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام المسجد النبوي المسجد الأقصى)) يعني: روايات وافتراءات مضحكة، وضعه تأييدًا لعبد الملك، حينما أراد أن يصرف الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام، حين كان بيت الله الحرام تحت ولاية عبد الله بن الزبير. عبد الله بن الزبير بعد موت مروان بن الحكم سنة 65 هـ دعا لنفسه، ودخلت بعض الأقاليم في خلافته، منها مصر والحجاز، فكانت الحجاز تحت ولايته، عبد الملك بن مروان كان في الشام، آل

الأمر إليه، فأراد أن يمنع الناس من الذهاب إلى الدولة التي بها ي عبد الله بن الزبير حاكمًا يسيطر عليها، فأمر الزهري أن يضع أحاديث، ومنها ضمنها هذا الحديث، هكذا تقول الرواية. هنا حقائق تاريخية نود أن نقولها: عبد الملك بن مروان توفي سنة 86 هـ وكان عمر الزهري حينئذٍ ستة وثلاثين عامًا وعاش الزهري بعد ذلك قريبًا من أربعين سنة وربما أكثر، مع كثير من الأمراء بعد عبد الملك؛ مع ابنه الوليد، وبعد الوليد سليمان، وبعد سليمان عمر بن عبد العزيز، إلخ، كلهم كانوا في موقع التلميذ بالنسبة له، يحسنون الاستماع إليه ويتلقون عنه، ويقدرونه قدره، وينزلونه منزلته ويعلمون أنه شيخهم الكبير، يؤدب أولادهم ويعلم أمراءهم، وكل ذلك من خلال الكتاب والسنة، وعلاقتهم به لم تخرج أبدًا عن كونها علاقة التلميذ بأستاذه. هذا الأمر أن الزهري يضع هذا الحديث، هذه فِرية لأدلة كثيرة: أولًا: ذكرنا سنّ الزهري، هو في خلافة الملك، حتى هناك خلاف كبير، يعني: في دخوله دمشق، هو أصلًا كما قلنا مدني من المدينة وهو أصل من مكة من بني زهرة، لكن رحل إلى أيه إلى الشام عبد الملك بن مروان مثلًا ستة وثمانين، عبد الله بن الزبير قتل سنة 73هـ، سنة 73هـ كان عمر الزهري 23 سنة، فهل كان عالمًا كبيرًا جدًا جدًا، اتسعت مكانته بالعالم الإسلامي بحيث إذ وضع حديثًا كان يسكت عنه الناس، لأنه إذا فرض أن هذا الحديث وضع، فكان سيوضع في خلافة عبد الله بن الزبير، حتى يمتنع الناس عن الذهاب؛ لأنه بعد مقتل عبد الله بن الزبير سنة 73 هجرية دخل الحجاز في خلافة بني أمية، بعد أن قتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- وانتهت مسألة خلافته التي كان قد دعا إليها، وعاد الحجاز مرة ثانية بكل أقاليمه إلى لواء الدولة الأموية، في سنة 73 هـ وفي مدة الخمس سنوات.

وإذا قيل: إن عبد الله بن الزبير دعا لنفسه 65 هـ وعمر الزهري كان 15 سنة، فهل وضع الزهري هذا الحديث الذين يزعمونه، سيكون ما بين سنة 65 هـ إلى 73 هـ لماذا لأن هذه المادة التي كانت الحجاز تحت ولاية عبد الله بن الزبير، وعلى زعمهم فعبد الملك يريد أن ينصرف الناس عن الذهاب إلى الحجاز، ويريد أن يخترع لهم مكانًا للحج جديدًا كما يزعم هؤلاء الزاعمون. الرد -كما قلت- في طيات الكتب التاريخية، هذه الفترة كان الزهري صغيرًا صغيرًا جدًّا، ثم إن ملك أو خلافة عبد الله بن الزبير عادت إلى بني أمية، فلا حاجة أبدًا، ثم إن أحدًا لم يقل أبدًا في فهم حديث: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) أن الذهاب إلى المسجد الأقصى يعوض الذهاب إلى المسجد الحرام ويغني عنه ويسد عنه. الحديث واضح الدلالة في أن هذه المساجد الثلاثة هي التي تُضرب إليها أكباد الإبل خاصة ليصلى فيها؛ لأنها هي الأماكن التي شرفها الله تعالى، وميزها بالأجر الزائد عن غيرها في الصلاة فيها، على تفاوت بينها في المرتبة، وكل العلماء مجمعون على أن أفضل المساجد المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى، هذه الممالأة لعبد الملك لم تدعُ أحدًا أن يقول: إن المسجد الأقصى أولى من الكعبة في أي شيء. هذا حديث واضح الدلالة هو صحيح أخشى أن يروج "جولد تسيهر" اليهودي لهذا الكلام؛ انتصارًا ليهوديته ليبين مثلًا أن المسجد الأقصى لم يكن في ملك المسلمين، أو ليوهم أنه أفضل من الكعبة أو ما شاكل ذلك؛ حتى ينصرف المسلمون عن احترام كعبتهم وعن الدفاع عنها ... إلى آخره. أحيانًا الفرية تكون بتهافتها وضعفها وهوانها بحيث لا تستحق الرد عليها، ولولا أنها سجلت في كتب علمية، وأن بعض الدارسين قد تأثر بها ما كانت تحتاج لرد أبدًا.

أيضًا من الردود التي نقولها: العلماء الخلفاء -هؤلاء وهؤلاء- من الورع والتقوى بحيث والله لا يقبل أحد منهم وضع حديث، ومهما قلت في حاكم أنه وقع في بعض الأخطاء من حكام الدولة الأموية أو الدولة العباسية، أنا لا أريد أن أنتقل إلى الخلفاء وسيرتهم، هذا بحث تاريخي، لكن على ما قد يقع في الدولة، فهي كانت دول إسلام، الحكم فيها لله، ولسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحترم العلم والعلماء، حتى وإن اختلفت معهم أحيانًا وعاقبت بعضهم أحيانًا كما في خلق القرآن، والحدود مقامة، والشريعة مصانة، والنساء محجبات، والجهاد قائم، ماذا أقول؟ دول إسلامية بكل ما يعنيه الإسلام من شمول وفهم وتطبيق، فلا احتياج أبدًا إلى حديث يؤيد مذهبهم أو فكرهم أو يدعم دولتهم. تدعيم دولتهم في المقام الأول كان يأتي من شدة تمسكهم بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن الكريم بالإسلام، هذه هي الشرعية التي كانت تؤهلهم للاستمرار على بقاء كرسي الحكم وحسن علاقة الرعية بهم؛ أنهم قائمون على حدود الله وعلى أمر الله، يقيمون شرع الله، لم تكن لهم شرعية غير ذلك أبدًا، لا من وضع حديث ولا من أي شيء من هذا الأمر. معاوية صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وصهره أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكتب له الوحي، وكتم سره -رضي الله عنه وأرضاه- معاوية يثبت له كل ما يثبت للصحابة -رضي الله عنهم- من العدالة ومن الصدق ومن الأمانة ومن العفة والطهارة، ومن الحرص على القرآن والسنة، أي افتراء عليه لا يجوز، أي خطأ في حقه مردود، هذا من كيد الشانئة المغرضين الرافضة، وإن شاء الله كيد الجميع مردود إلى نحورهم؛ يعني صفحة معاوية وصفحة أبي هريرة وغيرهم أكبر من أن تنالهم هذه الترهات. أبو هريرة يضع حديثًا إرضاء لمعاوية!! الزهري في خلافة معاوية كان صغيرًا، معاوية مات سنة ستين والزهري كان عمره عشر سنوات، لا معاوية يحتاج؛ لأن

الله ثبّت ملكه، ودولته كانت دولة إسلام، بل إن الحقائق التاريخية تقول: إن معاوية لم يدعُ لنفسه أبدًا بالخلافة في زمن علي -رضي الله عنه- ولم يكن الخلاف بينهم قائمًا على الخلافة، فما نازع أحد عليًّا الخلافة أبدًا لا معاوية ولا غيره، إنما كان الخلاف بينهم على قتلة عثمان، وأقول: هذا أمر تاريخي، فحين انتهى الأمر إلى معاوية كان بإجماع الأمة، لم يكن محتاجًا أبدًا إلى حديث يؤيده ويعضّد ملكه، انتقل الأمر إليه بتنازل الحسن -رضي الله عنه- وبموافقة الأمة كلها على ذلك، وبمبايعته له؛ ولذلك اصطلحت الأمة على تسمية هذا العام بعام الجماعة، فلا الواقع التاريخي ولا الظرف الزمني أتى فيه سيدنا معاوية كان محتاجًا إلى أن يوضع له حديث يعضد ملكه أو يثبت دعائم حكمه، كما يزعم الزاعمون إلخ. أيضًا المستشرقون يقولون "جولدتستير ومن شايعه": لقد وضعوا أحاديث تؤيد الحكام مثل: ((مَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) وأنا لا أدري ماذا في هذا الحديث من الممالأة لحكام المسلمين، وحين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبد حبشي)) وكل هذه أحاديث صحيحة في مصادرنا الصحيحة، وغير ذلك من الأحاديث، ونهى عن الخروج على ولي الأمر: ((إلا أن تروا منه كفر بواحًا عندكم فيه من الله برهان)) ماذا في هذه النصوص من ممالئة للحكام؟ إنه قيام بحق ولي الأمر وحفظ للجماعة من الاختلاف، محافظة على وحدة الأمة، محافظة للوقاية من الفتن، من التفكك. إن الأمم غير المسلمة تضع في دساتيرها ما يحافظ على وحدة الأمة، ووحدة الأمة -كما يقال في زماننا هذا- أمنٌ قومي، غير مسموح لأحد أن يعبث به، كل الأمم تضع نصوصًا في دساتيرها تحافظ على وحدتها، وكما ذكرت: غير مسموح لأحد أبدًا أن يعبث بهذه الوحدة، وأن يعرض أمن الأمة للخطر، فهذه

الأحاديث تحافظ على وحدة الأمة، ثم إن هناك أحاديث -لن أقول مقابلة- إنما متممة: مثلًا: "النصيحة للمسلمين"، لدرجة أن النصيحة أمر يبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه الأمة، ((بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، والمنشط والمكره، والنصيحة لكل مسلم))، الحديث الآخر: ((النصح لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)). إذن، هم حافظوا على وحدة الأمة، ولم يسكتوا على تجاوز الأمراء، بل نبهوهم، كل الأمر كان في أسلوب التصحيح، ليس بشدة تؤدي إلى فتنة: ((مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطِع فبقلبه))، ((الدين النصيحة، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) إلخ. بل إن من مهمة الأنبياء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (الأعراف: 157) إلخ. فهذه القواعد التي هي من مهمة الأنبياء، ومن مهمة الخلفاء بعدهم، ومن مهمة العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن أن يطيع أحدًا في معصيته، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بايع الصحابة على ذلك، في حديث الصحيحين "حديث عبادة بن الصامت" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وحوله عصابة من أصحابه من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا بمفتر تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف)) انظر إلى هذا القيد: ((ولا تعصوا في معروف))، النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يبايع الأمة على هذا الأمر: ألا يعصوا في معروف؛ يعني: لا بد أن تكون الطاعة في معروف،

فإذا كانت في غير معروف فهي حرام، لماذا لم يكتب العلماء هذا القيد؟ وقالوا: ولا تعصوا فقط، لماذا لم يكتبوا حديث: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) لماذا لم يكتبوا "النصيحة للأمراء" وغيرهم؟ عندنا كتب في السيرة الشرعية تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فلم يكن هناك حكام الذين يحتاجون إلى وضع الأحاديث، ولم يكن هناك علماء الذين يقبلون ذلك، لو كانت هناك أمور توجه إليهم بذلك. هذه فرية مردود عليها بما ذكرناه وكل الأحاديث التي وردت في ذلك وضحناها بشكل يوضح الفهم الصحيح لها من خلال أقوال الأمة، فشبه المستشرقين أن الأحاديث تطورت نتيجة تطور المسلمين إلخ، كل ذلك مردود عليه بالأدلة، وفرية مكذوبة، ونأسف أن ينخدع البعض بهذا الكلام الزائف، وفي الأمر تفاصيل أخرى ما أشرنا إليه كفاية ويقاس عليه. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمدًا وعلى آله وصحبه.

الدرس: 20 حديث الذباب والرد على الشبهات التي أثاروها حوله.

الدرس: 20 حديث الذباب والرد على الشبهات التي أثاروها حوله.

رد الشبه المثارة حول حديث الذباب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (حديث الذباب والرد على الشبهات التي أثاروها حوله) رد الشبه المثارة حول حديث الذباب الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنتكلم عن حديث الذباب، والرد على الشبهات التي أثاروها حول هذا الحديث. لماذا حديث الذباب؟ هو يمثل مجموعة من الأمور: يمثل حدود العقل مع النص. يمثل توضيحًا للشبهات التي يثيرونها حول السنة. في بداية دروسنا قلنا: إن الهجوم على السنة لم يترك شيئًا في السنة إلا هاجمه: رواة السنة مصادر السنة، تدوين السنة، الصحابة الذين رووا السنة، لم يسلموا من الهجوم، المطلوب القضاء على السنة! هذا هو الهدف؛ لذلك لم يتركوا شيئًا لم يهاجموه، والقضاء على السنة قضاءٌ على الإسلام، وفي دروسنا الأولى بيّنا دور السنة في حياة الأمة بإيجاز، بقدر ما يتسع له المقام، وأنها تبين القرآن الكريم وتشرع مع القرآن الكريم، وأنه لولا بيان السنة للقرآن الكريم لَمَا فهمنا القرآن، لما طبقنا القرآن؛ لأن فهم القرآن يتوقف على السنة. إذن، بيان السنة للقرآن يجعل القرآن متوقفًا في معنى السنة، ثم لم يقتصر دور السنة على بيان القرآن، فهي تشرع مع القرآن الكريم؛ ولذلك لم يتركوا شيئًا أبدًا في السنة بدون هجوم. حديث الذباب مثال لما يثيرونه؛ من أن العقل لا يقبل هذا الحديث، ويثير هذه القضية: ما هي حدود العقل مع النص؟ وما عَلاقة العقل بالنص؟ وهذه علاقة افتعلوها أو معركة افتعلوها وتوهموها، لا صدام أبدًا بين العقل والنص.

وحين كنا نتكلم في بعض دروسنا قلنا: إن المحدثين هم أول من بينوا أنه إذا الحديث باين المنقول أو خالف المعقول أو صادم الأصول فاعلم أنه موضوع، لم نكن بحاجة إلى من يعلمنا أنه كيف تفهم العقول النصوص، إنما من سابق عهدنا ونحن أبناء المدرسة الحديثية، ونحن أحد تلاميذها بفضل الله -عز وجل- ندرك جيدًا أن العقل له دَوْر في فهم النص، وهذا يجعلني أشير بسرعة قبل أن أتكلم عن هذا الحديث، وعن الشبهات التي أثاروها حوله- إلى علاقة العقل بالنص، العقل دوره هو فهم النص، ولا يشرّع مع النص، العلاقة الواضحة الجلية والتي صاغها علماؤنا في القاعدة المعروفة: لا اجتهاد مع النص، النص يقول شيئًا وأنت تقول شيئًا آخر؛ هذا مرفوض، إنما يعمل عقلك في فهم النص في ضوء القواعد المقررة عند العلماء في فهم النصوص، وأن يستنبط منها الأحكام وأن يدرك العلاقات إلى ذلك، فهذا ما لم يمنعه أحد أبدًا، نحن الذين لم نفهم الفرق بين الأمرين؛ بين الاجتهاد في النص والاجتهاد مع النص. وكمثال توضيحي ضربناه مرارًا قلنا مثلًا: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} (النساء: 43) ملامسة النساء ناقضة للوضوء، لا أحد يقول غير ذلك، وإذا قال أحد غير ذلك فإنه يصادم النص، يقول مع النص، يجتهد مع النص، أما أن تجتهد العقول في فهم المراد بالملامسة، فهذا هو الاجتهاد في فهم النص، وقد أعمل الصحابة عقولهم في فهم النص، في قصة مشهورة جدًّا قصة الصلاة في بني قريظة: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قُريظة)) هذا نصٌّ لا يستطيع أحد أن يخالفه، لكن كيف نحققه؟ كيف نطبقه؟ هذا هو الاجتهاد في الفهم، فريق صلى في الطريق، وفهم أن المراد من النص هو الإسراع، وليس المراد تأجيل الصلاة حتى تخرج عن وقتها؛ لأنهم يعلمون من

خلال النصوص الكثيرة أن الصلاة في أول وقتها هي من أفضل الأعمال على الإطلاق؛ فلذلك فهموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد منهم أن يسرعوا بالذهاب إلى ديار بني قريظة، لكن لا يريد منهم أن يخرجوا الوقت عن وقته الأصلي، هناك فريق أصرَّ على أن يعمل النص على ظاهره ولم يصلِّ إلا في ديار بني قريظة، وكتدريب للأمة على الاجتهاد في فهم النصوص، قابل النبي -صلى الله عليه وسلم- الفهمين معًا، ولم يعِب على أحد منهما، هذا مجرد مثال. المشكلة والله جاءت من أنهم حاولوا أن يُدخلوا العقل فيما ليس من ميدان عمله، وهذه قضية خطيرة، كانت من بين القضايا الهامة التي عالجها ما يسمونهم الفلاسفة الإسلاميون وغيرهم، حدود العلاقة بين العقل وبين النص. النص -كما قلت- يوثق مِن خلال الطرق المعروفة في توثيقه، ومن بينها العقل، لكن أي عقل ينظر في النص؟ هذه هي المشكلة! عقلٌ تربَّى على مائدة المستشرقين وتأثر بأفكارهم، بل لم يقرأ لغيرهم، هذا نريده أن يتحكم في النصوص وفي فهمها ويقول: هذا حديث صحيح، وهذا حديث كذا؟! عقل تلقى تعليمه في شرق أو في غرب، كل ذلك لا يجوز إنما العقول التي تنظر في النصوص هي العقول المحكومة بكتاب الله وبسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبحث عن الحق، وتسعى إليه. إذن، حديث الذباب حديثٌ أنموذج لما زعموا أنه يخالف العقل، وزعموا أنه يخالف القواعد الطبية، والحديث رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الطب، باب إذا وقع الذباب في الإناء، وأخرجه في كتاب الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، وله طرق كثيرة، الحديث في (صحيح البخاري) -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء))

هذا نص الحديث عند الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- مع تفاوتٍ بين الروايات في بعض الألفاظ اليسيرة مثل: ((فليطرحه كله، أو يغمسه كله)) وردت في بعض الروايات ولم ترد في بعض الروايات الأخرى. الحديث مشكلته -كما يقولون- عقلية، أنه مخالف للعقل، وسبب مخالفته للعقل لما هو معروف طبيًّا من أن الذباب ناقل للعدوى، فكيف يكون فيه شفاء؟! إلى آخر ما أثاروه من شبهات حول هذا الموضوع. وما نتكلم به عن حديث الذباب نتكلم به عن أحاديث كثيرة ردوها، في الصحيحين، حديث فقأ موسى لعين ملك الموت، حديث السحر، المنهج لا يتسع للرد على كل هذه الأحاديث حديثًا حديثًا، وهناك كتب عَنيت بذلك، وما نتناوله في دروسنا إنما يفتح الباب لأبنائنا المتلقين؛ لكي يتابعوا القراءات مع الكتب التي عُنيت بالموضوع، عندنا عشرات الكتب عنيت بالرد على الشبه حول السنة من الدكتور مصطفى السباعي والدكتور محمد أبو شهبه والدكتور محمد زهرة، وكثيرين من المحدثين، وهناك مواد الآن في الكليات حول الشبهات التي أثيرت حول السنة، فيما يتعلق بكل فروعها وتفصيلاتها من الصحابة ومن الرواة ومن الكتب ... إلى آخره. فما نذكره يكون أنموذجًا لآخرَ. إذن، حديث الذباب معناه: أن الذباب إذا وقع في إناء أحدنا، فماذا عليه أن يفعل؟ أن يغمسه كله، يعني: يضع الذبابة كلها في السائل الذي في الإناء، يُغرق الذباب في السائل الذي في الإناء، ثم بعد ذلك يقذف بالذباب إلى خارج الإناء؛ أي: ليطرحه أي: ليلقيه بعيدًا عن الإناء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلل يقول: ((إن في إحدى جناحيه داء، وفي الأخرى شفاء)). أعداء السنة -قديمًا وحديثًا- يتكلمون عن هذا الحديث، والذين تطاولوا على

أبي هريرة، قالوا: إن هذا الحديث من رواية أبي هريرة، وقالوا: إنه حديث آحاد يفيد الظن، نفس القضايا التي أثيرت حول السنة تثار من خلال هذا الحديث وغيره مما قلناه. قضية أنه حديث آحاد يفيد الظن، هذه رددنا عليها في الدروس المتعلقة بالمتواتر والآحاد، وبيّنا أن حديث الآحاد عند كثير من العلماء يفيد القطع؛ أي: نقطع بنسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وحتى مع القول بإفادته بالظن، بمعنى: أن نسبته إلى -صلى الله عليه وسلم- مظنونة- فهذا لا يمنع العمل به؛ فإن العلماء قد أجمعوا على أنه يجب على الأمة أن تعمل بما غلب على ظنها، وقد أشرنا إلى هذه المسألة -كما قلت- في الدروس المتعلقة بالمتواتر والآحاد. بقية الشبهات: أنه مخالف للعقل، مخالف للشرع، كيف هو مخالف للشرع؟ يقولون: إن الشرع قد حدثنا على اجتناب الضار، واجتناب النجاسة، والعلم يقطع بمضار الذباب، يعني: النصوص التي تمنع المسلمين من أن يقعوا في الضرر كثيرة جدًّا: بل إن كثيرًا من المحرمات حرمت لضررها، مثل الخمر وما إلى ذلك على الصحة، ومثل التدخين إلى آخر ما نعرفه. الشرع الحنيف حرص من خلال الأدلة المتعددة على الحفاظ على صحة الإنسان، والحفاظ على الصحة هي إحدى الكليات التي حافظ الإسلام عليها، فكيف نأتي بحديث نقول: إنه من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: إن الذباب فيه داء وشفاء، فليفعل كذا -يعني: الذي قلناه من غرس الذبابة- ثم طردها إلى خارج الإناء. أيضًا، يقولون: إن هذه ليست عقيدة، وهذا أمر ليس من عبادات الإسلام ولا من شرائعه حتى ندافع عنه، وحتى نستمسك به، وهم يريدون أن يفتحوا الباب لأنفسهم أنه إذا اعترضوا على هذا الحديث فلا غبار عليهم؛ لأنهم لم يتجرءوا

على قواعد الشرع ولا على عقائده ولا على عبادته، بل إن بعضهم يتصور أنه يدافع عن الإسلام ويطهره -هكذا يقولون- مما قد يثار حوله أنه يخالف العلم أو يأخذ بالمضرات إلخ، بل يقولون: إن هذا الحديث وغيره إن الاشتغال به إنما هو صرف للناس عن أمور هامة في مجال الاختراعات والمكتشفات، والوقوف عند مثل هذه الأحاديث التي تعطل الناس على الانطلاق في هذه المجالات لا يجوز أن نأخذ بها. هذه بعض الشبه، وآثارها خصوم الإسلام، ومنذ يومين فقط قرأت في إحدى الصحف لمن يدافع بشدة عن رفض الحديث، وهم أصحاب جرأة على أهل العلم الذين يرفضون ذلك، ويتهمونهم بالتخلف وبالظلام، ولعل الأبناء الذين يتابعون شيئًا من هذا ويقفون على صنعهم، وكأن جزءًا من منهجهم أن يخيفوا العلماء المخلصين بالاتهامات وبالسب وبكذا، حتى يتوقفوا عن الدفاع عن السنة المطهرة. على كل حال، نحن ذكرنا الشبهات التي أثاروها، رددنا على أنه حديث آحاد، وبينا بإيجاز أن العمل بالآحاد واجب حتى مع القول بأن نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- مظنونة، حتى الفريق الذي قال: بأن خبر الآحاد يفيد الظن ولا يفيد القطع، لم ينازع أبدًا في وجوب العمل بها، بل إننا هناك قلنا: إن الأثر الوحيد لهذه القضية هو عند الترجيح، بمعنى أنه: إذا تعارض حديث متواتر مع حديث آحاد، ولم يمكن الجمع بينهما بحال وانتقلنا إلى الترجيح، فإن المتواتر يتقدم؛ لكونه أقوى ثبوتًا من حديث الآحاد، لكن أقوى ثبوتًا لا تعني أن حديث الآحاد غير ثابت، ولا تعني أنه ضعيف، فمتى ثبتت صحته وجب العمل به على العين والرأس، وهذه من القواعد التي قررها العلماء وانتهوا منها والعودة إليها لا تجوز، إذن هذه الشبهة مردود عليها.

الحديث ثابت في أصح مصادرنا، الحديث رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، وأبو عبيد، وأبو يعلى، وابن الجارود، وابن خزيمة، وابن حبان، البزار، ابن قتيبة، الطبراني، البيهقي, الطحاوي، الحاكم، ابن السكن، النجار، ابن أبي خيثمة، ابن عبد البر، كل هؤلاء وغيرهم من أصحاب كتب السنة قد خرّجوا الحديث بطرق متعددة، يعني الحديث ليس في كتاب واحد ولا هو عند البخاري فحسب، والذي ذكرناه بإيجاز، والأستاذ الدكتور الشيخ ملا خاطر -حفظه الله- له كتاب طيب في حديث الذبابة بالذات نحيل عليه، اسمه (الإصابة في صحة حديث الذبابة) يتكلم عن حديث الذبابة كما ذكر هو في عنوانه من النواحي الفقهية والطبية والحديثية، الحديثية بمعنى ثبوته. إذن، الحديث نستطيع أن نقول: يملأ دواوين السنة، هذا من ناحية. من ناحية أخرى لم ينفرد أبو هريرة -رضي الله عنه- بروايته، ولو انفرد أبو هريرة بروايته فعلى عيننا وعلى رأسنا، وأبو هريرة راوية الإسلام، وعالم السنة الفحل، وأحفظ هذه الأمة للسنة كما وصفه الإمام الشافعي، لن يخيفنا كلام أحدهم عن اعتقاد هذه الحقائق اليقينية، جزى الله أبا هريرة خيرًا عن الإسلام وعن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن نحن نتكلم بشكل علمي. لقد تتبع الدكتور ملا خاطر طرقه بوضوح في كتابه، فهو قد ورد من رواية أبي هريرة ومن رواية أبي سعيد الخدري ومن رواية أنس بن مالك ومن رواية عدي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين- إذن ورد عن طريق جملة من الصحابة وليس صحابيًّا واحدًا، ولو ورد من طريق صحابي واحد -كما قلت- من هؤلاء فضلًا أن يكون هو أبا هريرة، فعلى عيننا وعلى رأسنا، وفي قلوبنا وفي عيوننا، ونقول: سمعنا وأطعنا. لكن هذا اتباع للأساليب العلمية في الرد على الشبهة، وهو أن نجمع طرق

الحديث؛ لنبين أن من بين الرد على شبهاتهم أن أبا هريرة لم ينفرد بروايته، إذا كنت ستشكك في أبي هريرة -ولن نقبل- لكن هب أنك ستجترئ عليه، فماذا تقول في رواية أبي سعيد ورواية علي بن أبي طالب ورواية أنس بن مالك؟ وكل ذلك قد جمع طرقه العلامة شيخ ملا خاطر أحيل عليه حتى لا أطيل، لكنها كلها طرق صحيحة تؤكد صحة الحديث، ولو لم يرد إلا في البخاري لحسبنا هذا. لكن هذا يفيد في قضية أخرى، أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول وملأ دواوينها، كنا في انتظار أحد حتى هذا العصر حتى يأتي ليبين لنا أن هذا الحديث لا تقبله قواعد الشرع، ولا تقبله القواعد الطبية ولا ما يقولون! هذا كيف مر على عقول الأمة وقلوبها، وقبلته وساغته وروته، وحفظته وعملت به، ثم بعد ذلك يأتي من يدحض ذلك كله؟! على كل حال، يقول الشيخ ملا خاطر في ختام كلامه عن دراسته لطرقه وأسانيده وأنه في أعلى درجات الصحة: ومن الغريب جدًّا أن هذا الحديث بعينه -وهو حديث الذبابة- لم يكن مما قد استدركه أحد من أئمة الحديث على الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بل هو عندهم جميعًا مما جاء على شرطه، وفي أعلى درجات الصحة، ولم يتكلم فيه إلا من لا خَلاق له في العصور المتأخرة، كما قال الإمام الخطابي -رحمه الله تعالى- تكلم عن هذا الحديث من لا خلاق له. إذن، هذا الحديث الصحيح، أجمع العلماء على تلقيه بالقبول، العلماء الذين انتقدوا بعض الأحاديث في الصحيحين، لم يجعلوا هذا الحديث من بين الأحاديث التي انتقدوها، لا من ناحية الإسناد ولا من ناحية المتن. لكن دعنا نفرغ الآن من تأكيد هذه الحقيقة، وهو أن الحديث صحيح إسنادًا ومتنًا، وأنه في أعلى درجات الصحة، بل نقول: إن أمتنا كلها قد تلقت هذا الحديث بالقبول، وأجمعت على أنه صحيح بنسبة مائة بالمائة أو كما يقال في لغتنا المعاصرة كتأكيد: مليون في المائة، لا يخالف الواقع

المعجزة النبوية في حديث الذباب، ودفع شبهة تعارضه مع الطب.

ولا العقل ولا الطب في شيء مما سنذكره فيما بعد، لكن نحن أشرنا إلى المسألة الأولى وهي أنه قد ورد في دواوين السنة وبطرق صحيحة، ومن طرق الصحابة الأربعة وأن أبا هريرة -رضي الله عنه- لم ينفرد بروايته. الشيخ الألباني أيضًا في دراسته لهذا الحديث في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، تكلم عن هذا الحديث، وذكر له ثلاثة طرق، وهي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وأنس -رضي الله عنهم- ولم يشر لحديث علي بن أبي طالب، الذي أضافه الشيخ ملا خاطر -رحمه الله تعالى-. وفي بعض روايات الحديث عن الزيادات: ((وإنه ليتقي بجناحيه الذي فيه الداء، فليغمسه كله)) ماذا يتقي؟ يعني: هو حين ينزل في السائل ينزل بجناحه الذي فيه الداء، ثم عليك أن تغمسه؛ لتَحدث المعادلة. إذن الحديث في أعلى درجات الصحة، ونفعل ذلك لأنه -كما قلت- ينزل بالجناح الذي فيه الداء، فإذا غمستَه كله في الإناء قوبل الداء بالدواء أو بالترياق، فتحققت المعادلة، وتحقق الغرض الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. المعجزة النبوية في حديث الذباب، ودفع شبهة تعارضه مع الطب يقول الشيخ محمد أبو شهبة -رحمه الله- في كتابه الطيب (الدفاع عن السنة) وضع له عنوانًا من ضمن العناوين في دراسة الكتاب، بين أنه معجزة نبوية ليس حديثًا عاديًّا فقط، وإنما هو معجزة نبوية. يشير الشيخ ملا خاطر إلى قضية جميلة طريفة كأسلوب من أساليب الرد على الشبه، هناك أمر مستغرب وهناك أمر مستحيل؛ المستحيل هو الذي يستحيل وقوعُه، أما المستغرب فيعود إلى ضعف المتصور نفسه وعدم إدراكه؛ يعني:

الأمر مستغرب بالنسبة لي، أنا لا أستطيع أن أفهمه، كثير من الناس يخلطون بين المستحيل وبين المستغرب، وحتى في غير التشريعات، لو أن أحدنا جاءنا يحدثنا عن أمر مستغرب؛ كنا نستغرب الطائرات في أول الأمر، كنا نستغرب النزول على سطح القمر، كنا نستغرب أمور كثيرة، كنا نستغرب أن ينتقل البث التلفازي في أي مكان في الأرض إلى كل أرجاء الأرض في وقت واحد، كل ذلك لو تحدثتَ به منذ خمسين سنة أو منذ مائة سنة أو مائتي عام لكان ضربًا من الجنون. الآن أصبح أمرًا واقعًا يعيشه الناس، ويدركونه، فهناك أمر مستغرب لكنه مستحيل. يوضح الشيخ المثل يقول: لو جئت مثلًا برجل عامي وكلمته عن الأوزون، وعن اختراقه، وعن هبوط الإنسان على سطح القمر، ربما استبعد ذلك جدًّا، بل في استبعاده ربما رأى أنه مستحيل، لكن الذين تمرّسوا في المسائل العلمية لا يستبعدون هذا، فهناك فرقٌ بين أن تستبعد وتقول له: مستحيل، وبين الاستغراب. الإسلام -بفضل من الله تعالى- ليس فيه أبدًا ما يخالف العقلَ، ولا ما يرفضه الواقع، ولا يحكم باستحالته، إسلامنا -بفضل الله -عز وجل- بريء من كل هذا، بل أنا دائمًا أقول في مناسبات كثيرة: إننا نفخر بإسلامنا، ليس في إسلامنا ما نخجل منه، ولا نحاول أن نداريه ولا نتمنى أنه لو لم يكن، لا، كل ذلك غير وارد بالنسبة للإسلام. إسلامنا نأخذه من المصادر الصحيحة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة. إذن، قد يُقبل استغراب البعض لهذا الحديث لكنه لا يقبل منه أبدًا أن ينكره، أو أن يحكم باستحالته، وعلاج الاستغراب واضح، الاستحالة نوع من العناد إنما

الاستغراب المعالجة له بمزيد من العلم، الأمر الذي تستغربه أدرسه علميًّا وشاور فيه أهل الاختصاص، وانظر مدى إمكانية وقوعه، أو هل العلم يؤيده؟ هل الواقع يؤيده أو هل العقول تقبله؟ أما أن تبني رفضك له على استغرابك له، فهذا ما لم يقل به أحد من قبل. ولذلك ننتهي إلى أن الحديث صحيح، وأن الأمة قد أجمعت عليه، وأن أحدًا من علمائنا الأثبات القدامى الذين نظروا في السنة ومَنحوا الإجماع لـ (صحيح البخاري) و (مسلم) لم يتوقفوا مع هذا الحديث، بل تلقوه بالقبول، ولا تجد رواية واحدة أعلت هذا الحديث بأي نوع من أنواع العلل. يقولون: كيف ألهم الله الذباب من وجوه قولهم: أنه يتعارض مع العقل، كيف الهم الله الذباب أن ينزل بالجناح الذي فيه الداء؟! هل له إدراك وأنه يحمل في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء؟! وكيف ينزل بالجناح الذي فيه الداء؟ وهل الذباب عاقل حتى يدرك ذلك كله؟! نقول: ما دام الكلام بالعقل -كما يقولون-: هناك مخلوقات كثيرة فيها نفس القضية أو غيرها، مثلًا الحية مليئة بالسم وفيها الترياق أيضًا، النحل فيه السم وفيه العسل، كل ذلك يعرفه أهل العلم، النملة تحمل الحَبّة وهي تحملها تخرقها، لكي لا تنبت؛ حتى تستطيع أن تحتفظ بها، يعني: عشرات المخلوقات التي ليست من أصحاب العقول بالمستوى الذي نتصوره في العقل تصدرُ عنها أفعال عاقلة، بل في قمة النضج، بل مليئة بالحكمة. فهذا كله ثابت بالأدلة، ثابت بالواقع العملي الذي نراه، كل الحيوانات التي تتقي الخطر عن نفسها؛ لأن هناك فطرة فطر الله المخلوقات كلها عليها، ليس شرطًا أن يدرس المخلوق من الحيوانات في جامعة علمية، أو أن يدخل إلى المعامل التجريبية، إنما هناك فطرة فطَر الله تعالى الخلق جميعًا عليها، ومن هؤلاء الخلق

كل المخلوقات، وكل صنف من المخلوقات أمة من الأمم: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38). النحلة تخرج العسل والسم، الحية فيها السم وفيها الترياق، ويستفيد أهل الصيدلة جدًّا من سمها ومن ترياقها أيضًا، الهدهد الذي تكلم في: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (النمل: 25) النملة التي قالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} (النمل: 18) كل هذه المخلوقات التي تبحث لنفسها عن مأوى عن مهرب، بمجرد أن ترى الخطر أو حتى تلمحه ولو من بعيد، حين يرى حيوانٌ ضعيف حيوانًا مفترسًا فإنه يهرع بالفرار وبالهروب حتى لا يتعرض لأذاه، ما الذي حرك كل ذلك؟ هذه المخلوقات بالفطرة، فاستبعاد أن يدرك الذباب أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، رددنا عليها بالمخلوقات نفسها، ولم نذكر عشرات، وأعتقد أن كل واحدًا يعني يرى ذلك جيدًا جدًّا في كل الحيوانات المحيطة به. ائتِ أي حيوان مثلًا وألقي به في النار، واترك له الحرية في أن يبتعد عنها، قطعًا لن يدخل، كيف عرف هذا؟ هل هناك عقل كما يقولون؟ هذا أمر فطري فطره الله عليه، لماذا يفر الفأر حين يرى القط مثلًا؟ ولماذا يهرب القط حين يرى الكلب؟ أسئلة تبين في وضوح وجلاء أن الفطرة عرفت الذباب هذا الأمر، ثم إن الذي خلق فيه الدواء والداء هو الذي ألهمه بذلك، لماذا نستبعد هذا: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا مما في بطونه من بين فرث ودمًا لبنًا خالصًا} (النحل: 66)، سبحان الله! استبعدت أن يلتقي الترياق مع الداء في كائن واحد ها هو القرآن يتحدث: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِين} (النحل: 66) دم وفرث وكلاهما متعب يخرج من بينهم شراب خالص سائغ للشاربين، وهو اللبن الطيب الذي نشربه بفضل الله -عز وجل- نعلمه جميعًا.

إذن، أي عقل يستبعد أن يدرك الذباب هذا الأمر، وقد ضربنا له أمثلة كثيرة. إذن، هذا ليس مخالفًا للعقل، إنما الأدلة عليه أتكلم من ناحية إدراك الذباب لما فيه من أمور الخلق، وأنه ينزل بالجناح الذي فيه الداء ليتقيَ ثم علينا أن نغمسه. ننتقل إلى رد آخر: الحديث هل فيه أمر بضرورة فعل ذلك؟ لم يفهم أحدٌ من العلماء أبدًا بالقول بوجوب ذلك، وهم يشرحون الحديث، وأنا هنا أحيل على شرّاح الحديث من كتب السنة، في (فتح الباري) وفي غيره من كتب شروح البخاري وشروح السنة كلها، ومن كتب الطب التي تعرضت له ومن غيرها -غيرها كثير- أحيل عليها؛ لأبين أن أحدًا من علماء الأمة لم يقل بالوجوب، ماذا يعني هذا الكلام في الرد عليهم؟ يعني: إذا طابت نفسك بالاستفادة من هذا المشروب أو السائل الذي في الإناء، إذا وقع فيه الذباب فافعل ذلك، وإن لم تفعل فاطرحه، إذا لم تقبل، فاطرحه، لكن لا تعترض على الحديث، لمجرد أنك تستبعده أو تستغربه. وقد ضربنا له الصلة بما يشابهه وبما هو أقوى، بما لا يقل عنه في الغرابة إذا أردت أن نستغرب، لكن في ليس في الاستحالة، واستدللنا بالقرآن، هم في السنة يجترءون ويقولون: هذا حديث آحاد وربما أخطأ الراوي، وما إلى ذلك، فماذا سيقولون في القرآن: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِين}، وحينما أثبت الإدراك للهدهد وللنملة وللسماء والأرض: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} (فصلت: 11). هذه أدلة كثيرة تدل على الإدراك عند هذه المخلوقات، الإدراك الذي خلقه الله تعالى بما يريد وكيف يريد بالفطرة، وليس شرطًا أن تكون لها عقول كما يتوهم الواهمون، حتى تدرك هذه الأشياء.

أقول في الاستدلال الآخر: ما الذي في الحديث من غريب؟ إذا لم تطب نفسك باستعماله فأرِقْه، لكن -كما قلت- لا تعترض على الحديث، بل إني سأنتقل إلى النقطة الأخرى، وأقول: إن في هذا الحديث سبقًا اقتصاديًّا عظيمًا؛ إنه سبق اقتصادي يتناسب مع المجتمعات المتوسطة والفقيرة. لو أن الذباب وقع مثلًا في إناء من العسل فيه جملة من الكيلوات، لو وقع في إناء من اللبن، لو وقع في إناء من السمن، أنلقي ذلك كله ونرميه؟ نقابل ربنا بأي وجه، وهب أنك ستقول: إنك رجل غني تستطيع أن تعوض ما ألقيته من هذا، فماذا يفعل الفقراء؟ دائمًا أقول: هاتِ أي سيدة من سيداتنا الحريصات على البيوت وعلى المعاش كما نعرفها جميعًا، واطلب إليها إذا وقعت ذبابة في إناء من العسل أو من اللبن أو من السمن أو من غير ذلك مما له قيمة وقل لها: ألقيه في اليم أو في الأرض ولا تستعمليه! ستستغرب ذلك جدًا، وستحاول بفطرتها أيضًا وبعقلها أن تتغلب على ما قد يقال: إنه من الضرر، مثل: أن تدخله النار مثلًا، أن تغليه في النار أو أن تقدحه في السمن حتى تموت الميكروبات، حتى من غير أن ترى أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، لكنها بفطرتها بحرصها سيشق عليها جدًّا أن تهدر هذا الأمر الذي يتكلف مع غلاء الزمان الذي نعيش فيه. أقول: إن هذا الحديث سبق اقتصادي، وتفوق في التجاوب مع الظروف الاقتصادية التي تطرأ، وتصبح هذه الأشياء غالية، مع أننا يمكننا أن نستفيد بها من غير ضرر -بإذن الله رب العالمين-. وقد لا يروق للبعض هذا الرد -التفوق أو السبق الاقتصادي- أقول: ليس في الحديث إجبار على أن تستعمله، لكن لا تنكر عن الذين تستعملونه، الآفة أنهم

لا يقبلون غير رأيهم، حتى لو قلنا: المسألة اجتهادية، هي ليست اجتهادية؛ لأنه حديث، لكن ليست واردة بأدلة غير الحديث حتى نجتهد فيها، إنما نجتهد في فهمها، والعجب أنهم لا يكتفون بجرأتهم على الحديث، بل الشيطان يسول لهم ويملي لهم ويزين لهم أنهم يدافعون عن إسلامهم، وأننا الذين نتمسك بهذه الأحاديث نحن الذين نأتي بالاتهام للسنة المطهرة. إذن، فيه سبق اقتصادي، ليس فيه أمر بضرورة الاستفادة بهذا الأمر، بل كما قلت خلاصته: أنك إذا طابت نفسك باستعماله فعلى الرحب والسعة، وإذا لم تطب من الممكن أن تريقه، لكن في كل الأحوال ليس من المسموح لك أن تعترض على الحديث الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول. أيضًا، قضية أن الحديث يتعارض مع الطب في أن الذباب يحمل الجراثيم، اقرءوا الحديث جيدًا، وليأتِ أحدنا بأي نص أو بأي جملة في الحديث تقول: إن الذباب لا يحمل الجراثيم، هم يحمّلون للحديث؛ لأنهم أصلًا لم ينظروا فيه وفي دراسته، ولم يقرءوا أقوال العلماء، إنما يسارعون بالهجوم من غير تبدر وتأمل وتفكير ورويّة. بل بالعكس، هو يقرّ إن في أحد جناحيه داء، هذا هو الضرر، وهو يدلنا على كيفية اتقاء هذا الضرر بأن نغمسه فيه. إذن، ليس في نص الحديث أبدًا ما يجعلهم يقولون: إن هذا يتعارض مع الطب؛ لأن الذبابة حاملٌ للجرثومات أو للأمراض، بل أقول: إن هذا الحديث يؤكد هذه الحقيقة؛ لأنه بين لنا أنه يحمل في أحد جناحيه داء، والله -عز وجل- بفضله وبمنه وبكرمه وضع ترياقًا مقابلًا لهذا الداء في الجناح الآخر، وكل المطلوب منك إذا أردت أن تستفيد من هذه المادة التي وقع فيها الذباب، أن تغمسه فيه، ثم تنزعه وتطرحه بعيدًا عن الإناء، ثم استفِدْ بهذا الذي في الإناء إن قبلت وإن أردت.

إذن، الحديث لم يُنكر أن في الذباب جراثيم وبلاء، بل هو يدلنا على اتقاء هذه البلاءات التي في الذباب نفسه، ثم -في فهمي- الحديث يحمل رحمةً من الله تعالى للناس جميعًا، وليس للمسلمين فحسب، كيف؟ الذباب لا نستطيع أن نتقيه، هو يملأ حياتنا، صحيح نقاومه بوسائل متعددة، لكننا لا نقضي عليه تمامًا، يعني هو في حياتنا إن شئنا أو أَبينا، يدخل علينا حجرات نومنا، ويلقي بنفسه على طعامنا ونحن نتناوله، رغم أخذنا بالأسباب الاحتياطية، فالله تعالى من رحمته ومن كرمه ومن فضله ومن إحسانه على هذه الأمة، أنه يعلم بعلمه الكشفي الإحاطي، أنهم لن يستطيعوا أن يدرءوا الذباب عن أنفسهم مهما حاولوا، فأوجد لهم هذه الطريقة التي تدفع ضرر الذباب عنهم. بما أنك لن تستطيع أن تدفع الذباب فاستعمل هذه الفائدة الإلهية، بأن تطرحه في الإناء إذا وقع فيه، إذا لم يقع فيه فلا مشكلة، أين المشكلة! أما إذا وقع فيه وأردت أن تستفيد به فافعل ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فالحديث سبق أيضًا، وفضل، وكيف يخفى ذلك. يقول الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله-: والحقيقة أن الحديث لا يخالف الأطباء في ذلك -أي: في أن الذباب يحوي الجراثيم- بل هو يؤيده؛ إذ أخبر أن في أحد جناحيه داء، ولكنه يزيد عليهم -أي: على أهل الطب- وفي الآخر شفاء، فهذا مما لم يحيطوا بعلمه، فوجب عليهم الإيمان به إن كانوا مسلمين، وإلا فالتوقفُ إذا كانوا من غير المسلمين إن كانوا عقلاء؛ لأن العلم الصحيح يشهد بأن عدم العلم بالشيء لا يستلزم عدمه، يعني: أنا لا أعلم أن محمدًا قد سافر، فهذا لا ينفي أنه قد سافر، فالذي ينفي الشيء؛ لأنه لا يعلم به -يقول: هو غير موجود- هو يتصادم مع بدهيات العقول، هو رتّب نتيجةً على مقدمة لا

تُؤيده في ذلك، أنا لا أعلم بهذا الشيء يكون غير موجود، هذا ما لم يقل به أحد من العقلاء ولا من العلماء. وننتقل الآن إلى جانب آخر من جوانب الرد على الشبهات وهو أخطر مشكلة من المشاكل التي أثاروها، وهو أن الطب الحديث أثبت أن الذباب ضار وليس في أحد جناحيه وفي الآخر دواء: هذه الفرية يرد عليها أيضًا العلماء الذين تكلموا في هذا، الشيخ ناصر الألباني يقول: وقد قرأت قديمًا -يشير إلى مجلةٍ علمية قرأها قبل ذلك-: لا مانع من أن أنقل إلى القراء خلاصة محاضرة ألقاها أحد الأطباء في جمعية الهداية الإسلامية في مصر حول هذا الحديث، فيقول هذا الطبيب: يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضها بأطرافه ويأكل بعضها، ويتكون في جسمه من ذلك مادة سامة يسميها علماء الطب مبعد البكتيريا، وهي تقتل كثيرًا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حيةً أو يكون لها تأثير في جسم الإنسان في حالة وجود مبعد البكتيريا هذا، وأن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب هو أنه يحول البكتيريا إلى ناحيته. وعلى هذا، فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقَى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واقٍ منها هو مبعد البكتيريا الذي يحمله الذباب في جوفه قريبًا من أحد جناحيه، فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه، وغَمْس الذباب كله وطرحه كافٍ لقتل الجراثيم التي كانت عالقةً، وكافٍ في إبطال عملها. هذا كلام الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- نقلًا عن أحد الأطباء. ويتكلم أيضًا الشيخ محمد أبو شهبة -رحمه الله تعالى- في كتابه (الدفاع عن السنة): وقد شاء ربك العالم بما كان وبما يكون أن يظهر سر هذا الحديث، وأن

يتوصل الأطباء إلى أن في الذباب مادة قاتلة للميكروب، فيغمسه في الإناء، تكون هذه المادة سببًا في إبادة ما يحمله الذباب من الجراثيم، التي ربما تكون عالقةً به. وبذلك أصبح ما قال العلماء الأقدمون تجويزًا حقيقةً مقررةً. وينقل الشيخ أبو شبهة نقلًا آخرَ، يقول: وفي "مجلة التجارب الطبية" الإنجليزية، عدد 1307 - 1927 ما ترجمته: لقد أُطعم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض، وبعد حينٍ من الزمن ماتت تلك الجراثيم، واختفَى أثرها، وتكون في الذباب مادة سامة تسمى بـ"كتريوفاج"، ولو عُملت خلاصة من الذباب لمحلول الملح لاحتوت على هذه المادة التي يمكنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض. على كلٍّ، النقول الطبية في هذا الأمر كثيرة، وهناك طبيبان أشار إليهما الشيخ محمد أبو شهبة كتب في "مجلة الأزهر" في عدد رجب سنة 1378: أشار إلى كثير من البحوث التي قام بها كثير من علماء البلاد الغربية، هذه البحوث في بلادهم، وأشار أيضًا الطبيبان اللذان كتبا هذا المقال إلى المصادر التي ذكرت تلك المعلومات، ذكروا العلماء بالاسم، وذكروا بحوثهم والمجلات التي نشرتها في آخر هذا البحث، يعني: استعملوا أساليب التوثيق العلمي الدقيقة؛ ليردوا على هذه الفرية. والخلاصة: أن هذا الحديث من الناحية الحديثية ثابت وفي أعلى درجات الصحة، في عدم مخالفته للفطرة، وضربنا نظائر لهذا، حتى أكبر شبهة أثاروها وهي مخالفته للطب فيما يزعمون، كثيرٌ من أبحاث الطب تُثبت صدقه، وحتى ولو لم تثبت فيكفينا أنه كلام سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-.

ويشير الشيخ مُلا خاطر -رحمه الله- إلى أشياء أخرى، أفادها الحديث غير ما ذكرناه، أفاد أن الحديث ناقل للأمراض ونحترز منه ما أمكن، أفاد أنه يقدم سمه ويؤخر الشفاء، وقال العلماء بعضهم: وجدناه يتقي بجناحه الأيسر فعُلم أن الأيمن الذي فيه الشفاء، وأيضًا علم أن الجناح الذي فيه الشفاء يقضي على المرض الذي في جناحه الممرض -والعياذ بالله-. وهذا الحديث من دلائل نبوته، الذي يخبر بذلك في زمن لم تكن فيه معامل ولا أبحاث ... إلى آخره، كل ذلك ذكره العلماء، ولو لم يكن في هذا الحديث إلا أنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلى عيننا ورأسنا، بل إن الشيخ ملا خاطر يقول: إن هذا الحديث فيه معجزات: معجزة إثبات الداء والمرض في الذباب قبل أن يتوصل العلم إلى ذلك بقرون، معجزة إثبات الشفاء في الذباب، أو قل إثبات عنصر الشفاء والدواء والمضاد له؛ يعني: الداء والدواء في كيان واحد، والعقل والفطرة والأدلة العلمية والأدلة الحديثية، كل ذلك يُثبت صحة الحديث. وفي النهاية فإن الذي لا تطيب نفسه به فلا يعترض على الحديث، ولكن إذا أراد أن لا يستفيد به فإنه ليس في الحديث ما يفيد الإجبار. وهذا الحديث أُنموذج -كما قلت- لافتراءاتهم في الأحاديث الأخرى، ولنرجع إلى علمائنا المتخصصين، الذين دافعوا عن السنة قديمًا وحديثًا لنستفيد من علمهم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 21 الرد على كتاب (الأضواء القرآنية) للشيخ سيد صالح.

الدرس: 21 الرد على كتاب (الأضواء القرآنية) للشيخ سيد صالح.

التعريف بكتاب (الأضواء القرآنية)، وبيان شبهه ومصادره.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون الرد على كتاب (الأضواء القرآنية) للشيخ سيد صالح التعريف بكتاب (الأضواء القرآنية)، وبيان شُبهه ومصادره الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنتكلم بعون من الله -تبارك وتعالى وتوفيقه- على أحد الكتب التي اجترأت على السنة وعلى مصادرها الصحيحة، وحاولت أن تتهم أو تثير الشبهات حول الأحاديث النبوية. والساحة الآن تمتلئ بكثير من هذه الكتب، التي تملأ الساحة، يعني: أمر يوجع القلب، لكن على كل حال، الحمد الله رب العالمين أهل العلم: يدافعون عن سنتهم، ويثبتونها بالأدلة القاطعة الصريحة. هذا الكتاب اسمه (الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية، وتطهير البخاري منها) يعني: هذا الكتاب يكتسح الأحاديث الإسرائيلية، ويطهر البخاري منها، (صحيح البخاري) الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، كان في انتظار من يأتي من أهل العصور المتأخرة، الشيخ سيد صالح أبو بكر صاحب هذا الكتاب؛ ليطهر البخاري منه، هو يضع لنفسه أسسًا؛ ليسير عليها، هو كتب عدة مقدمات. يعني: ما الغاية من هذا الكتاب؟ يقول: في أمرين، ألا نصدق بكلام يخالف كلام الله وهدي رسوله، فنقع في خطيئة الشرك العلمي، سماه هكذا شركًا علميًّا؛ وذلك بمنازعة الله في حق الكلمة والتشريع. وأنا أهدف إلى أن أبين خطورة هذا الكلام، هذه الجملة: "وذلك بمنازعة الله في حق الكلمة والتشريع"، يريد من خلالها أن يقول: إن السنة لا تُشرع، من أجل أن تتضح هدفهم، هم: تختلط كلماتهم حتى يموه علينا، هذا في أول صفحات

الكتاب، انظر: "ألا نصدق بكلام يخالف كلام الله، وهدي رسوله" -صلى الله عليه وسلم- هو لم يقل -صلى الله عليه وسلم- وفي كل كتاب يضع "صاد". لكن على كل حال قد يخدع البعض بكلمة: "وهدي رسوله" فيتصور هو لم يقل: وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهدي رسوله أحيانًا يقول في أثناء الكلام: السنة العملية المتواترة يعني: يعني: أنت إذا قلت له مثلًا: إن الصلاة أحاديث آحادية يقول: لا، هي سنة عملية تواترت بنقل الأمة كلها، فهو لا يريد أن يقبل من السنة إلا هذا الهدي المتواتر على حد جمع الهدي العملي، يعني: هو يؤلف الكتاب من أجل ألا ينازع أحد الله -عز وجل- في حق الكلمة والتشريع، يعني: لا نقول: إن السنة تشرع. ثم بعد هذا، الكتاب قسمان: قسم أول يتعرض فيه لبعض القضايا، يقول: العرض الكامل لقضية الحديث، وأقوال العلماء فيها، تقدير حصيلة للفحص الدقيق للأحاديث المعارضة للقرآن، والمنافية لما يليق بالله ورسوله، والتي جمعناها في (صحيح البخاري) باعتباره عمدة المراجع في هذا المجال، وعددها مائة وعشرون حديثًا، والتعقيب القرآني على كل منها، بما يثبت أنها دخيلة على كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويسوق عشرة أهداف لا أدري ماذا أسميها، نسميها أسسًا يقيم عليها كتابه، يعني: هو يهدف إلى العرض الكامل لقضية الحديث، والدعوة العملية إلى تقسيم الحديث المنسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: حديث يوافق القرآن في المضمون أو في معناه. والنوع الثاني: هو حديث يأتينا بفضائل الأعمال، ولا يعارض القرآن. وهذان النوعان يفرض الله -تبارك وتعالى- الإيمان بهما كجزء من رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ونوع ثالث: يأتينا بمعان أو أحكام أو قصص يقرر القرآن في مضمونه أو في معناه، وهذا النوع يجب رفضه، وتبرئة النبي -صلى الله عليه وسلم- منه. أنا أوضح الأهم أن نرد على الأسس التي أقام عليها الكتابة، أنا أشرت أنه يريد أن يبعد السنة عن كونها تشريعًا، هنا قضية أخرى. هو يقسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام، ليس التقسيم المعروف عند أهل العلم، صحيح وحسن وضعيف، إنما يقسمه إلى حديث يوافق القرآن في مضمونه أو في معناه، وحديث يأتينا بفضائل الأعمال ولا يعارضه القرآن، لم يأتِ في القرآن ما يعارضه، هذان نوعان مقبولان بالنسبة له، ونوع ثالث يأتينا بمعان أو أحكام أو قصص يخالف القرآن في مضمونه، أو في معناه، وهذا النوع يجب رفضه، وتبرئة النبي -صلى الله عليه وسلم- منه. وذلك -انظر إلى كلامه- عمل على تطهير ديننا من شوائب الدس الإسرائيلي؛ حتى يعود إليه الرونق الجميل، الذي يحمل العالم على احترامه والدخول فيه. تقديم حصيلة للفحص الدقيق للأحاديث المعارضة للقرآن، والمنافية لما يليق بالله وبرسوله، والتي جمعناها من (صحيح البخاري). المحور الذي يدور عليه: الحديث الذي يوافق القرآن قبلناه، والحديث الذي لا يوافق القرآن لم نقبله، ضم هذه إلى تلك. الأولى: أن السنة ليست مشرعة. الثانية: أن المعيار في قبول الأحاديث أو رفضها هو موافقتها للقرآن، أو عدم موافقتها للقرآن. إلى أن يقول: إلى إثبات أن دين الله هو القرآن بدايةً ونهايةً، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ ذروة الأمانة وقمة الوفاء في بلاغه للناس نصًّا كاملًا، بالنسبة للقرآن، وفي

بيانه لهم تطبيقًا وعملًا، والتأكيد القوي على أن كل ما يأتينا من أخبار منسوبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وليس لها سند قرآني، إنما هي من وحي الخيال الخرافي الشارد. انظروا إلى التعبيرات الجريئة، لا أريد أن أصفها بغير هذا، إنما هي من وحي الخيال الخرافي الشارد، أو الكيد الإسرائيلي اللعين، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو صاحب الساحة البريئة من تلك الأخبار؛ لأنه لا يستطيع أن يضيف إلى كتاب الله شيئًا من عنده، بعد أن ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وأكد تمامه بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ} (الأنعام: 38). أظن أو أعتقد المحور الأساسي الذي يهدف إليه الكاتب قد وضح، هو له مقدمات أخرى غير ذلك. يعني: يعرض الاهتمام بالأسانيد ويسميها عبادة الأسانيد، يقول: إقامة الحجة القوية على الذين يتعصبون لآراء شيوخهم، أو معتقدات آبائهم، أو يلغون عقولهم أمام أسانيد تأتيهم بأحاديثَ تكذب كتاب الله؛ زعمًا منهم أن الشلل الإرادي لعقولهم -هو طبعًا فيه أخطاء نحوية كثيرة- احترام لتلك الأسانيد، وهو التعبد المطلوب متناسين أن تقديس رجال الإسناد هو التعبد المرفوض، وقد أنساهم الشيطان أن تقديس هؤلاء الرجال في ما يخالف كتاب الله، هو أعظم أنواع الشرك الصريح؛ لأنه -انتبهوا- منازعة لله في حق الكلمة والتشريع، وذلك أعظم ما لله من حقوق على خلقه ... إلى آخر. ويعود إلى البند الحادي عشر: كتابنا هذا يستند إلى كتاب الله نصًّا ومعنًى. يؤكده مرة ومرات. وقد سلكنا في تدوينه درب الأحرار المفكرين من الموحدين والسلفيين، الذين يلتزمون بالقرآن، وبتطبيق النبي تعبدًا وتشريعًا. فقط. إذن نفهم من الآن أنه يستبعد السنة التشريعية، وأنه القرآن فقط، إذن هو

قرآني، حتى وإن ادَّعى أنه يحتكم إلى السنة التطبيقية، أو المتواترة والعملية، إذًا المسألة واضحة في أنه يهدف إلى تضييع السنة. ماذا نناقش هنا؟ ناقشناها كثيرًا، لكن لا مانع من أن نذكر أبناءنا بهذا، هنا الأمر متعلق بحجية السنة بكل المحاضرات، التي سمعتموها ودرستموها من عندي ومن عند غيري في حجية السنة، متعلق بالآيات القرآنية الكثيرة جدًّا، أنا في بداية الدروس تكلمت عن حجية السنة، وقلت: إنها قضية قرآنية، وقضية عَقَدية، وقضية إيمانية، إيماننا لا يتم ولا ينعقد إلا باعتقاد أن السنة تشرع كما يشرع القرآن، وأن طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة كما يجب علينا طاعة الله تعالى، سواءً بسواء، ومثلًا بمثلٍ، من غير خوف أو اضطراب من أحد. ذكرنا عشرات الأدلة، قلنا: قضية إيمانية، قضية عقدية، هي جزء من اعتقادنا، قضية قرآنية بمعنى: أن القرآن أولاها اهتمامًا كثيرًا جدًّا. وهذا ينقلنا إلى القضية الثانية، هل هناك في القرآن أو في السنة أحاديث أو آيات طلبت منا أن نعرض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن والسنة قبل أن نقولها؟ نحن الآن نناقشه في الأساس الذي يبني عليه كتابه؛ لأنه متى انهدم هذا الأساس انهدمت كل القضايا التي في الكتاب. عندنا لا توجد آية واحدة تقول: اعْرِضوا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن، فما وافقه فاقبلوه وما لم يوافقه فارفضوه، أو اتركوه، والقرآن الكريم موجود أمام الدنيا كلها، فليخرج لنا واحد آية، تقول: لا تقبلوا الحديث إلا بعد عرضه على القرآن. في هذه الأسس هو يضع أساسًا جديدًا لقبول الأحاديث لم يسبق إليه أحد من علماء الأمة، وهي أن أنواع الأحاديث ثلاثة: يوافق القرآن في مضمونه أو في معناه، والنوع الثاني: حديث يأتينا بفضائل القرآن ولا يعارضه القرآن، هذان فقط، أما النوع الثالث الذي يأتي بمعان أو أحكام أو قصص يخالف القرآن في مضمونه، أو في معناه، هذا النوع يجب رفضه. أساس المخالفة هنا كيف يكون؟ يخالف القرآن يعني: لم يذكره القرآن هو ليس مخالفًا، إنما لم يذكره القرآن، انظروا إلى التمويه في الكلام، يعني: هو سيعتبر أن كل حديث ذكر حُكمًا ليس في القرآن معارض للقرآن ومخالف للقرآن؛ لماذا؟ لأن القرآن لم يذكره، ولم يقل أحد

من علماء الأمة: إن هذه الأحكام التي سكت عنها القرآن مخالفة للقرآن، إنما يقولون عنها: إنها أحكام سكت عنها القرآن الكريم، كيف تعارضه وليس فيها -أي: ليس في القرآن- ما يعارضه، أو يخالفه؟ هذه المخالفة أن يقول القرآن شيئًا، وأن يقول الحديث شيئًا آخرَ. أما أن يأتي الحديث بأمر لم يذكر في القرآن، أو يأتي القرآن بأمر لم يذكر في الحديث، هذا لم يكن، ولا هو عند العلماء من الذي يطلق عليه المخالف، هذا أمر جديد لم يسبق له ذكر في أحدهما، فهذا تشريع. أنت تصدق أن السنة تشرع أو لا تشرع؟ إذا صدقتَ أن السنة تشرع، وهذا ثابت بالأدلة القطعية، فيجب عليك ما جاء في الحديث حتى لو لم يأتِ له ذكر في القرآن الكريم، هذه قضية إيمانية عقدية؛ ولذلك كان عندنا موضوع آخر، وهو علاقة السنة بالقرآن الكريم، ماذا تفعل السنة مع القرآن الكريم؟ واستدللنا على ذلك بأدلة كثيرة، السنة تبين القرآن، وتوافق القرآن، وتشرع مع القرآن. وهناك قضية ناقشها العلماء لا يجب أن تلتبس علينا، وهي هل الأحكام النبوية تصدر عن أصل قرآني، أو ليس شرطًا؟ ذكرها الشاطبي وغيره يعني: بعض العلماء يستعملونها استعمالًا يوافق أغراضهم، القضية ليست خلافًا خطيرًا، هناك من يقول: إن كل الأحكام التي جاءت بها السنة الجديدة هي منبثقة عن أصل قرآني، ليست مشكلة، المهم: أنها حكم جديد، لا أحد ينازع في أنها حكم جديد، لم يسبق له ذكر في القرآن الكريم، لكن هل ينبثق عن أصل قرآني أو لا ينبثق؟ هذه قضية أخرى. مثلًا: حين يحرِّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الجمع بين المرأة وأختها، بين المرأة وعمتها أو خالتها، يقول فريق من العلماء: إن هذا منبثق عن أصل قرآني في فكرة تحريم الجمع

أحيانًا، وهي أن القرآن حرم الجمع بين المرأة وأختها، وجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وحرم الجمع بين المرأة، وعمتها، أو خالتها، والفريق الآخر يقول: لا، هذا حكم جديد، لكن الفريق الأول لا ينكر أنه حكم جديد، وإن كان عنده منبثقًا من أصل قرآني، الخلاف ظاهري كما يقول أو خفيف، لكن في النهاية الكل يجمع على أنه حُكم جديد، لم يسبق له ذكر في القرآن الكريم، فهل تعرض القرآن لتحريم الجمع بين المرأة وخالتها وعمتها؟ هذا حكم في السنة انبثق عن أصل قرآني أو لم ينبثق، لكنه جديد، فالسنة تشرع كما يشرع القرآن الكريم. إذن، الهدف هو نفي السنة عن التشريع، الهدف هو الاقتصار على القرآن، ونحن أشبعنا هذه القضية كلامًا الاقتصار على القرآن ضياع للإسلام، لماذا؟ لأننا سنضيع الأحكام التي جاءت في السنة، وفَهْمُنا للقرآن سيُعطل؛ لأننا لن نحتكم إلى السنة التي تبينه، هذا ما يهدفون إليه. أقول: لا يوجد نص في القرآن الكريم يقول: علينا أن نعرِض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن الكريم، فما وافق القرآن قبلناه، وما لم يوافق القرآن رددناه. إذا انتقلنا إلى السنة المطهرة استندوا إلى حديث: "عَرْض السنة على القرآن" الكريم، انظروا إلى هذه الأحاديث كلها أو بعضها ضعيف جدًّا، وبعضها موضوع، والقرآن الكريم والسنة النبوية كلاهما وحيٌ من عند الله، لا يمكن أن يتعارضَا أبدًا؛ لأنهما نبعا من مشكاة واحدة، وهي أنهما وحي من عند الله -عز وجل- فالقرآن الكريم نور الله والسنة النبوية أيضًا من عند الله -عز وجل-. الحديث الذي استندوا إليه: "إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو مني وما لم يوافقه فإنه ليس مني"، إلى آخره، يروى الحديث بعبارات متعددة؛ ولأنه أصلًا موضوع، فعبارته ركيكة، يعني: أيًّا كان اللفظ الذي ورد، لكننا نناقش أصل القضية.

علماؤنا قالوا عن هذا الحديث: إنه يحمل الدليل على وَضْعه في طياته، وبالمناسبة فإن هذا من باب نقد المتن الذي أفردنا له دروسًا حسب المنهج، وبينَّا أن علماء السنة قد اهتموا بالمتن كما اهتموا بالأسانيد، ووضعوا لكل منهما ضوابطَ دقيقة؛ لتمييز الصحيح من غيره منها، والمهم هنا نقد للمتن. الحديث على زعمهم هو حديث من باب المشاكلة اللغوية، لكنه ليس حديثًا بالمعنى الاصطلاحي، يعني: لم يأتنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من قوله ولا من فعله ولا من إقراره، هو الحديث على زعمهم يحمل الدليل على وضعه في طياته، هو نفسه يعارض القرآن. كيف؟ هل في القرآن آية تطلب منا أن نعرض كلام نبينا على القرآن الكريم؟ وأن قبولَنا للأحاديث النبوية يتوقف على مدى موافقتها للقرآن الكريم؟ لا توجد آية تدل على ذلك، فهذا دليل على أن الحديث يحمل الدلالة على وضعه في طياته؛ حتى من غير أن نحتاج إلى دراسة أسانيده. أيضًا أنتقل إلى نقطة هامة في للشيخ ما هي المصادر التي اعتمد عليها في كتابه؟ كلها بدون استثناء هي المصادر التي تناوئ السنة، يكاد يكون أخذ كتاب الشيخ أبي رية ووضعه في كتابه، لا توجد صفحة من صفحات الكتاب، إلا وفيها نقل عن الشيخ وعن صاحب كتاب (الأضواء) أبو رية، وهو متأثر جدًّا بكلام أبي رية. أكثرَ جدًّا عن نقل من المستشرقين من "دائرة المعارف" وغيرها، وإن كان يحاول أن يلبس علينا بأن يتهم المستشرقين في نياتهم، لكنه يقبل كلامهم، فيقول مثلًا بعد أن نقل كلامهم، فيقول: بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تستطع الآراء والمعاملات الدينية الأصلية التي سادت الرعيل الأول أن تثبت على حالها من غير تغيير، فقد حل عهد جديد للتطور، وبدأ العلماء يدخلون شيئًا من التطور في النظام من الأعمال والعقائد، يتوائم والأحوال الجديدة، فقد أصبح الإسلام بعد الفتوح

العظيمة، يبسط سيادته على مساحات شاسعة، واستعمل الشعوب المغلوبة على أمرها آراءه الجديدة، وتأثرت حياة المسلمين وأفكارهم حينذاك في كثير من النواحي بآراء النصرانية والإسرائيلية وحدها، بل وبغيرها مثل البوذية وغيرها. هذه المسألة رددنا عليها في الدرس قبل الماضي، حين استكملنا كلام المستشرقين وفكرة الشبهة أنه قد حدث تطور في حياة المسلمين، وهذا التطور ألجأهم إلى أن يضعوا أحاديث تواكب هذا التطور في الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. ها هو صاحب كتاب (الأضواء القرآنية) يردد هذا الكلام ويقبله، ويعقب عليه، ويقول: وما قاله المستشرقون هو حق أرادوا به باطل، يعني: هو أقرهم أن الأحاديث الموضوعة تناولت الأحكام، كالحلال والحرام والطهارة، وأحكام الطعام والشريعة وآداب السلوك إلى آخره. ومع مضي الزمن ازداد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم- من قول وفعل شيئًا فشيئًا، وغزوات إلى آخره. كلامه هنا طويل، لكنه يقبل أنه قد حدث تطور في حياة الأمة أدى إلى أن العلماء الكبار يضعون أحاديثًا تتوافق مع هذا التطور. هل يخدعنا قوله: "إن المستشرقين أرادوا بهذا الكلام ... ". قد رردنا عليه وفندناه، وبينا حتى هذا اليوم لا يقبل أحد من المسلمين، حتى لو كان رقيق الدين، أن يضع حديثًا يؤيد به أمرًا جديدًا جاء في حياة الناس. لا يمكن أمر جاءنا من شرق أو من غرب أو من هنا أو هنا نضع له حديثًا، هذه لم تحدث في العصور المتأخرة، بل قلت في ردنا: إن المجتمعات التي دخلت في الإسلام هي التي طورت -إن جاز التعبير- حياتها؛ لتتواءم مع الإسلام، فغيرت عاداتها وتقاليدها ونظمها الاجتماعية وأخلاقها وأعرافها ... إلى آخره، وأصبحت تستمد ذلك كله من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، ويشهد على ذلك واقعُ المسلمين، وقلنا: حتى عادتهم في الطعام كانت واحدة.

هل كان يأكل أحد بشماله؟ استجابةً لثقافة اجتماعية تركها قبل الإسلام؟ غُير كل شيء حتى يتوافق مع الإسلام. فالشيخ هنا يقبل ما قاله المستشرقون، وكما قلت: يعتمد على مصادر هي التي تناوئ السنة. في صفحة 30 يقول صاحب (أضواء على السنة)، ينقل كلامه ويقول الأستاذ أبو رية في كتابه (أضواء على السنة)، في صفحة 99، وهذا كلام الشيخ في صفحة 31 إلى آخره. يكاد أن يكون قد نقل كلام الشيخ، وفرقه في كتابه كما نقول، وبنَى عليه كتابه هذا، أو تعاون معه، ثم إنه كما قلت: يكثر من النقل عن المستشرقين، ويكثر من النقل عن الكتب التي أصحابها هناك لها شبهات من التشيع، وما إلى ذلك، يزين بها كتابه أو يعتمد عليها في المصادر، ويستشهد بكلام الأستاذ أحمد أمين، وبكلام المدرسة التي حكَّمت العقل في النص، وأرادت أن تجعل العقل قاضيًا على النص، وما قبله العقل قبلوه، وما رفضه رفضوه ... إلى آخره، كل ذلك اعتمد عليه في كتابه. يقول: الوضَّاعون في عهد العباسيين بإرضائهم. يعني: كثر الوضاعون في العهد العباسيين؛ لإرضاء العباسيين، وهي نفس الفرية التي رددنا عليها، أن الحكام قد استمالوا من العلماء مَن يضع لهم أحاديثَ تُعضد مُلكهم، وهذه فرية، بل إن الحكام كانوا يتقربون إلى الله بدماء مَن تجرءوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو هنا في هذا الصدد، يأتي بأحاديث يضع عنوانًا، فيقول: معاوية يضع نفسه. يقول: يروي عن الواقدي: أين قال الواقدي هذا الكلام؟ انظر راجع ص361 (شرح نهج البلاغة) الحديث. وهو كتاب شيعي معروف.

أنا هنا أستعرض مصادره التي بنى عليها، يعني: استعرضت أسسه التي يبني عليها كتابه، وفكرته الأصيلة التي يدندن حولها، ويحوم حولها، وهي أنه يريد أن يهدم السنة وأن يضيعها. ويعتمد في ذلك على المصادر التي تشترك معه في الغرض وفي الهدف، من كتب المستشرقين، ومن كتب الشيعة، ومن كتب المحدثين الذين تجرأت على السنة، ومن الشيخ أبي رية وغيره، ويردد نفس الشبهات والفريات التي اجتمعوا حولها جميعًا، من اتهام الحكام بدفع العلماء للوضع، بأن العلماء تمالئوا مع الحكام، مع أن هذه كلها أحاديث أجمعت الأمة على أنها موضوعة. يعني: روى البزار عن أبي هريرة أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال للعباس: "فيكم النبوة والمملكة"، وأخرجه كذلك أبو نُعيم في (الدلائل)، وابن عدي في (الكامل)، وابن عساكر: "فيكم النبوة وفيكم المملكة"، إلى آخره. هو هنا لا يذكر لا كتابًا ولا بابًا، يعني: إذا أردت أن تحاسبه فابحث، هذا الكلام حقيقة أو غير حقيقة، الله أعلم. لكن على فرض حقيقته، مَن الذي قال: إن العلماء قبلوا هذه الأحاديث، وعملوا بمقتضاها؟ هي أحاديث موضوعة بإجماع الأمة، كيف تحاكم الأمة على أحاديث هي لم تقبلها، وعاقبتْ الوضَّاعين وفضحتهم، وألفت كتبًا حددتهم؛ ليكون الخزي لاحقًا بهم إلى يوم القيامة، وفي نفس الوقت جمعت هذه الأحاديث الموضوعة في كتب وبينت وَضْعها، وبينت الأسباب التي دعت إلى وضعها، وأن هناك مَن أراد أن يفتري على الله وعلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقبل الحكام ذلك، ولم يقبل العلماء ذلك، ولن تجد عالمًا أبدًا ذا شأن -ولو قليلًا- وضع حديثًا أبدًا، الوضاعون هؤلاء قوم كذابون، ليس من بينهم واحد من أهل العلم المحترمين أبدًا. إلخ.

إذن، هو يأتي بروايات وكأن العُرف الإسلامي أو كأن الواقع الإسلامي قبلها. وكأنهم أقروا أن هذه الأحاديث رضيناها، وعمِلنا بها، وأصبحت في مصادرنا المعتمدة، ولم نشر إلى ضعفها وإلى وضعها. هذا خداع، هذا خلاف للمنهج العلمي، يعني: أنا لا أريد أن استعمل عبارات شديدة، كل كتابه مدمر من هذا الأمر من أساسه الذي بنَى عليه، من مصادره التي اعتمد عليها، من مخالفته لقواعد المنهج العلمي في أنه يسوق القضايا وكأنها مقررة عند الأمة، وكأنها رضيت به، من اعتماده على المصادر المناوئة للإسلام ... إلى آخره. يقول: نكتة لطيفة في التعريض بالوضاعين ومؤسفة في وضع الحديث ص139 من (أضواء على السنة) كتاب الشيخ أبي رية: وقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يضعون الأحاديث لأسباب تافهة، ومن أمثلة ذلك ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي، قال: كنت عند سعد بن طريف، فجاءه ابنه من الكتاب يبكي، فقاله: ما لك؟ قال: ضربني المعلم، قال: لأخزينهم اليوم، حدثنا عِكرمة عن ابن العباس مرفوعًا: "معلمو صِبيانكم شِراركم، أقلهم رحمةً لليتيم، وأغلظهم على المساكين". قال الأستاذ أبو رية صاحب (أضواء على السنة): سيف بن عمر كان كذَّابًا، وكان أشهرَ مَن روى عنهم الطبري في (التاريخ) وغيره من كتبهم. ماذا أقول؟ كان كذابًا لم يأتِ بها صاحب (الأضواء) من عند نفسه، هو معروف عند المحدثين، هل وجده في كتب المحدثين؟ هل ذكره أحد؟ هذا التعقيب من أبي رية لماذا جاء به؟ كأنه يقول: إن سيفًا هذا كان معتمدًا عند أهل العلم. وانظر إلى الخداع، روى الطبري عنه في (التاريخ) الطبري معروف، هو يعلم أنه

بتر استخدام النصوص فيما يوافق أغراضهم.

كان كذابًا وغيره روى عنه، الطبري لم يقل في منهجه في كتاب (التاريخ) أنه سيعتمد على الروايات الصحيحة فقط، لم يقل هذا، بل هو اعتمد على جَمْع الروايات بأسانيدها ثم بعد ذلك تُمَحَّصُ. ولذلك وإن الطبري يعلم أن هذا كان كذابًا وغيره من الرواة كان كذابًا، وجاء بروايته؛ لأنه كان يريد أن يحافظ على المرويات التاريخية، كما جاءت بأسانيدها؛ تمهيدًا لنقدها، سواء على يده هو أو على يد غيره، نستطيع أن نقول: جمع المادة العلمية. يقول الأستاذ أبو رية صاحب (أضواء على السنة): سيف بن عمر كان كذَّابًا، وكان أشهر مَن روى عنه الطبري في (التاريخ)، كأنه يريد أن يقول: إن الطبري اعتمد عليه ووثق بكلامه، وكل ذلك لم يحدث. وليرجع إلى الطبري وغيره، وكما قلت: منهج الطبري كان مهمته الجمع. بتر استخدام النصوص فيما يوافق أغراضهم علامات وبراهين تكشف كذب الحديث المختلق: صـ140 من (أضواء على السنة)، كما قلت ويذكر العلامات، وهذه العلامات لم يأتِ هو بها ولا شيخه الذي اعتمد على كتابه من عند نفسه، لكنهم يكذبون: مخالفته لظاهر القرآن، مخالفته للسنة المتواترة، مخالفته للإجماع القطعي، مخالفته للقواعد المقررة في الشريعة، أو البُرهان العقلي، مخالفته للحِس والعيان، اشتمال الحديث على مجازفات، كل ذلك قال به ابن القيم وغيرُه، وقد ذكرنا بعض أقوالهم في كتبهم. لكن هل هنا كلام مخالفته لظاهر القرآن مخالفة لا يمكن الجمع بينها، ولن تجد حديثًا ذلك أبدًا، هذا من القواعد، انظر إلى المنهج العلمي الذي يعتمدونه: بتر القواعد، بتر

استخدام النصوص فيما يوافق أغراضهم، يعني: مصادرهم متهمة، أعمالهم متهمة، ليست متهمة يقينًا، يعني: هم أصلًا نحاسبهم بأقوالهم لا نفتري عليهم، واضح جدًّا عداؤهم للسنة، واكتفاؤهم بالقرآن، ويحاولون الدندنة حول هذه المسألة. مخالفته للسنة المتواترة، بحيث يتعذر الجمع ويستحيل الجمع، والعلماء وضعوا مناهجَ للتعامل مع النصوص التي يبدو من ظاهرها التعارض مع القرآن، والقرآن مع السنة، والسنة مع القرآن، وحتى القرآن مع القرآن. مخالفته لظاهر القرآن هكذا من غير أن تتم المسألة، قل: مخالفته لظاهر القرآن مخالفة يستحيل معها الجمع، أو الترجيح أو النسخ، حين يوجد نص شرعي ظاهره يتعارض مع نص شرعي آخر، العلماء لهم مناهج في الجمع بينهم، لكن هكذا بمجرد ما يبدو من مخالفة أو تعارض نقول: هذا الحديث مردود هكذا، ويزيف على الناس، ويقول: هذا منهج علمي، لا، ويقول: أو إن كان مناقضًا لما جاءت به السنة الصريحة العملية، أو كان باطلًا في نفسه، أو إن قامت الشواهد الصحيحة على بطلانه. مثل ماذا؟ وَمن الذي يحكم بذلك؟ يعني: هو يأخذ القواعد وهم لم يأتوا بهذه القواعد من عند أنفسهم، وإنما أخذوها عن علماء الأمة، لكنهم يريدون أن ينحرفوا بها في التطبيق، يقول: أنا لم آتِ بهذا الكلام. لكنه يريد أن ينحرف بها في التطبيق، فيقول: هذا حديث معارض للقرآن والسنة فأرفضه، بدون أن يعمل مناهج العلماء في كيفية التعامل مع النصوص التي يبدو من ظاهرها التعارض. أيضًا يستمر في هذا في الجزء الأول، إلى أن ينتقل إلى قواعد عامة يقول: عدد الأحاديث المنسوبة لكل صحابي .. يعني: أنموذج آخر، وأيضًا يعتمد على

مَن؟ يعتمد على حتى وضع تحقيق العلمي ص254 من كتاب (أضواء على السنة) يعني: كأننا ندرس الكتابين معًا. هنا انظر إلى الافتراء في التاريخ، يقول: عرفنا أن أبا هريرة روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 5374، روى منها البخاري 446 في حين أنه لم يصاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عامًا وتسعةَ أشهر، وبقي أن تعرف ما رواه الذين سبقوه بالإيمان، وكانوا أدنى منه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلم بالدين، ولهم خبرة عملية بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى آخره. فقال: ما رواه أبو بكر 142 حديث، ورواه عمر ... إلى آخره. أرقامه خطأ طبعًا، ما رواه عمر خمسون حديثًا، المسثبت 539 لعمر، لكن وقفة هنا مع أبي هريرة في تزييف المعلومات؛ لأنه متأثر بكلام أبي رية، وأيضًا واضح في كلامه هنا أن أبا هريرة صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- عامًا وتسعة أشهر فقط، هذا كذب. أبو هريرة صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعةَ أعوام كاملة، لأنه باتفاق العلماء أن أبا هريرة جاء إلى المدينة أيام فتح خيبر، يعني: في المحرم وصفر من السنة الثانية، جيش المسلمين تحرك نحو خيبر في محرم، وحاصروها، وفتحها الله للمسلمين في صفر. النبي -صلى الله عليه وسلم- تُوفي في ربيع الأول سنة 11، يعني: أن أبا هريرة أمضى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أعوام كاملة، أنا لن أرد على الشبهة المتعلقة بأبي هريرة، أنا كل نقاشي هنا أنني أدمر أفند كل الأسس التي يبني عليها كتابه؛ لأنها تزييف في تزييف، وكذب في كذب، كما رأينا وبالأدلة، إذًا هو يريد أن يصعب الأمر على أن أبا هريرة عام وتسعة أشهر، ويروي أكثرَ من أبي بكر مع أنه في محاضرات في مواد أخرى ذكرنا أن ظروف الرواية غير ظروف السماع، كيف؟ يعني: لا أظن أن أحدًا من المسلمين يشك أن أبا بكر -رضي الله عنه- سمع أكثرَ من أبي هريرة، هذه مسألة بَدهية لا تحتاج إلى أدلة، أبو بكر كان صديقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليس من أول

الإسلام فحسب، حتى في الجاهلية من قبل الإسلام، وكان رفيقَ الدعوة، وكان ثاني اثنين في الإسلام -رضي الله عنه وأرضاه- هذا أمر -كما قلت- بدهي، والمؤكد أنه سمع أكثر من أبي هريرة، بل ربما مرات ومرات، هذه قضية لم ينازع فيها أحد، لكن السؤال المطروح: متى أُتيحت ظروف الرواية لأبي بكر؟ هل أُتيحت ظروف الرواية لأبي بكر كما أتيحت لأبي هريرة؟ الأمر مختلف، نعم، سمع أكثر من أبي هريرة، لكنه لم تتح له ظروف الرواية؛ لأسباب كثيرة، فهو أولًا قد تولى الخلافة، والخلافة أعباؤها ثقيلة ولا تسمح للإنسان بالرواية، ثم هو عاش مدة وجيزة يعني: سنتان ونصف مثلًا على الأكثر بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بضعة أشهر بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فمتى أتيحت له ظروف الرواية؟ ثم إن عصره كانت فيه بعض أمور الفتن التي تحتاج إلى تسكين، مثل: الردة، ومانعي الزكاة ... إلى آخره، فلم تتح لأبي بكر -رضي الله عنه- ظروف الرواية، إنما أتيحت لأبي هريرة، عاش بعد حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- نصف قرن على الأقل، مات سنة 57 أو 58 أو 59، على خلاف في سنة الوفاة، وأصبح له تلاميذ، وجلس إلى الرواية ... إلى آخره. كل ذلك يثبت أن هذه الأرقام بالنسبة لأبي هريرة ليست صعبة، ثم هيا نعد الأيام السنة بالتقويم القمري الهجري 354 يوم، أربعة وخمسون يومًا وثلاثمائة، أمضى أبو هريرة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع سنوات، يعني: ألف وأربعمائة يوم، وزيادة، أنا لا أحسب الكسور، 1400 يوم، إذا حسبته 5374 حديث على 1400 يوم، يعني: أربعة أحاديث في اليوم أو أقل، لو أن أحد الذين يسمعونني الآن يجري القسمة على آلة حاسبة، تخرج له النتيجة بدقة، هل كثير أن يسمع صحابي يلازم النبي -صلى الله عليه وسلم- ملازمةً تامةً، أربعة أحاديث، يعني: أربعة أسطر أو عشرة أسطر في كل يوم، أو عشرين سطر في كل يوم، حتى لو طال الحديث وكانت ألفاظه كثيرة؟!! بعض الأحاديث لا تتجاوز سطرًا واحدًا.

يعني: من الناحية البدهية العقلية لا نِقاشَ في هذا أبدًا، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كل ما يصدر عنه حديث من أقواله أو أفعاله أو من تقريراته، فإذا كان الصحابي المتفرغ يروي عنه أربعة أحاديث في اليوم، فهذا عدد يسير جدًّا جدًّا، يستطيع أي طالب أن يتلقاه عن شيخه في نصف ساعة من كل يوم. إذن، استعملوا تزييفَ التاريخ، واستعملوا تزييفَ المعلومات، مر بنا الإشارة إلى أن سيف بن عمر اعتمد عليه الطبري، وكأنه قبله، تزييف المعلومات بالنسبة لأبي هريرة، الاعتماد على المصادر -كما قلت- النية الواضحة في هدم السنة، التقويمات أو الاستنتاجات التي تخالف الواقع، المناهج العلمية التي لم يجمع عليها الأمة، الحديث الذي يخالف ظاهر القرآن مردود. من الذي قال ذلك؟ إلا بعد أن نتأكد من هذه المخالفة، لم تعالج بالأساليب العلمية التي اعتمدها العلماء عندنا، ولماذا ألف العلماء كتبًا في الجمع بين الأحاديث المتعارضة؟ ليدفعوا هذا التعارض، لا ليردوا أحد الدليلين، وكان العلماء واثقين من توافق المصادر الشرعية مع بعضها، فيقول العالم: ائتوني بأي أحاديث تقولون عنها: إنها متعارضة، وأنا أدفع لكم هذا التعارض؛ لأنهم يعلمون أن هذه الأحاديث إنما جاءت من مشكاة واحدة من الوحي عن الله -تبارك وتعالى-. انظر إلى تشنيع آخر في ص77، يقول: الاستدراك على البخاري ومسلم، عنوان، قال النووي في (شرح مسلم): استدرك جماعةٌ على البخاري ومسلم أحاديثَ أخلَّا بشرطيهما فيها، فنزلت إلى درجة مَن التزمها، وقد ألف الإمام الحافظ الدارقطني في بيان ذلك في كتابه المسمى بـ (الاستدراك والتتبع)، ولأبي مسعود الدمشقي، صاحب (الأطراف) استدراكٌ عليه، وكذا لأبي علي الغساني في كتابه (تقييد المهمل). هذا كلام لو وصفتُه بخيانة الأمانة العلمية كان وصفًا خفيفًا.

هو يأتي بهذا الكلام كأن النووي -رحمه الله- قبله، وكأنه أقره، مع أن النووي رد عليه جملةً وتفصيلًا، ورد عليه أثناء شرحه للأحاديث التي تكلموا عنها، ثم إن استدراك هؤلاء العلماء ليس في أصل الصحة، حتى العبارة واضحة: نزلت عن درجة مَن التزمها، هو استدراك ليس مسلمًا في كل الأحوال، وليس اتهامًا بالضعف، إنما هو يقول: هذا حديث هو صحيح، لكن لم تتوفر فيه الشروط التي قلتها. لكن انظروا إلى صياغة القضية: قال النووي في (شرح مسلم) ... ثم لم يأتِ بتعقيب النووي على هذا الكلام، وكأن النووي قبله، هل هناك خيانة أكثر من ذلك؟ هذه مناهجهم، وهذا كتاب تطبيقي لما ذكرناه، وقد كنتُ أتمنى أن يتسع الوقت؛ لندخل إلى بقية قضاياه، ثم إلى بعض الأحاديث التي أثارها، وحاول أن يبين أنها أحاديث ضعيفة، وفي (الصحيحين)، وهو يطهر البخاري الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول منها!! لكن هذا كلام من الناحية العلمية زائف، أنا رددت على بعض أسسه التي بنى عليها كتابه، وأشرتُ إلى بعض الخيانات العلمية، وإلى كذا وإلى كذا، وأعتقد أن هذا كافٍ للرد على الكتاب، والكتاب يحتاج إلى أكثر من ذلك، لكنه أنموذج على كل حال للكتب التي تملأ الساحة، وللمناهج التي يعتمدون عليها، وهي مناهج زائفة، قد يُخدع بها بعض غير المتخصصين، أما المتخصصون فهم لها بالمرصاد -بإذن الله تبارك وتعالى-. نسأل الله -عز وجل- أن يجعل ما قدمناه في هذا المنهج وفي غيره في موازين حسناتنا، وأن يتقبل منا، وأن يجمعنا على خير ما يجمع به بين عباده الصالحين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1