الدفاع عن السنة - جامعة المدينة (بكالوريوس)

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 معنى الشبهة، واستعمالاتها، وموقفنا تجاهها.

الدرس: 1 معنى الشبهة، واستعمالاتها، وموقفنا تجاهها. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (معنى الشبهة، واستعمالاتها، وموقفنا تجاهها) أهمية السنة في الإسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه: السنة -كما نعلم جميعًا- تحتلّ مكانةً بارزة في الإسلام: هي ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو إقرار أو صفة خلقية أو خُلقية، حتى الحركات والسكنات في اليقظة وفي المنام قبل البعثة وبعدها. وهناك تعريفات مختصرة كلها تدور حول أن السنة هي ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته الخلقية والخُلقية، وما يتعلق بكل الأمور الصادرة عنه -صلى الله عليه وسلم. السنة مهمة جدًّا في الإسلام وفي حياة المسلمين، هي تبيِّن لهم القرآن الكريم وهي تُشّرع لهم كما يشرع القرآن الكريم؛ لذلك كانت السنة منذ أن بدأ أن يكون هناك أعداء للإسلام خارج الخط الإسلامي، وخارج التفكير الإسلامي الصحيح، كان هدفهم الأول دائمًا هو السنة؛ لما يعلمون من منزلتها؛ لأنهم يهاجمون القرآن الكريم من خلالها، بل لا نبالغ إذا قلنا: يهاجمون الإسلام كله؛ لأنه لو افترضنا أن بعض شبههم تنجح إذن نتوقف عن فهم القرآن، وعن تطبيقه حتى وإن بقي القرآن نصًّا مقدسًا نقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، لكننا قد نعجز عن تطبيقه في غياب السنة المطهرة. فهجومهم عن السنة هو هجوم على القرآن الكريم، وفي نفس الوقت هجوم على الإسلام؛ لأن الإسلام في نهاية الأمر هو القرآن الكريم وهو السنة المطهرة. أعداء الإسلام -سواء من أبناء الإسلام الذين أخذوا سبلًا أخرى تفرّقوا وابتعدوا

بها عن الإسلام ونهجه من الفرق المختلفة، ومن أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم- كلهم يعرفون أهمية السنة وخطورة الهجوم عليها؛ لذلك كانت هدفًا لهم، بل أنا أقول: ستظلّ هدفًا لأعداء الإسلام إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولذلك السنة المشرفة تحتاج -في كل جيل، وفي كل عصر، وفي كل مصر- إلى جنود مخلصين يدافعون عنها، ويذبون عنها الشبه والانحرافات والضلالات التي تحاول أن تثير الغبش حول بعض ما يتعلق بالسنة من رواتها، أو من مصادرها، أو من بعض الأحاديث، إلى آخر ما يثيرونه من شبه وإشكالات. إذن، ستظل السنة محطًّا دائمًا لمحاولات التشكيك وإثارة الشبه وغيرها، ولذلك كان من المهم جدًّا أن ندرُس الشبه التي يثيرها أعداء الإسلام -قديمًا وحديثًا- حول السنة المطهرة؛ أولًا لنفنّد تلك الشبه، ولنبين أنها خاطئة، وأنها تصدر عن غير وعي وعن غير فهم ... إلى آخره، وفي نفس الوقت نصون أبناءنا الدارسين -أبناء الإسلام- الذين نضنّ بهم أن يقعوا في فريسة لهذه الشبه التي يثيرها بعض أعداء الإسلام، فلذلك الحمد لله الآن كل المراكز العلمية من جامعات وغيرها تدرس الآن هذه الشبه، وأصبحت هناك مواد مستقلة تُدَرّس للشبه: ما هي الشبهة؟ وكيف يثيرونها؟ وما هي أدلتهم؟ ويفندونها، ويردّون عليها -كما قلت- لتبقى السنة كما كانت. السنة الحمد الله بفضل من الله -تبارك وتعالى- منذ أن قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى يومنا هذا سارت في رحلة من الصيانة والحفظ في عيون الأمة وفي قلوبها، يعني تخصص فيها جماعة من أفذاذ علمائنا ومن كبرائهم ومن أماجدهم؛ أفنوا حياتهم في خدمة السنة المطهرة؛ لما يعلمون من منزلتها، فالحمد لله وصلت إلينا نقية من كل

تعريف الشبهة لغة واصطلاحا، وبعض استعمالات القرآن والسنة لها.

شبهة خالية من كل انحراف أو ضلال، وبفضل الله -عز وجل- الأجيال اللاحقة تتواصل مع الأجيال السابقة على نفس الدرب، درب الدفاع عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. إذن -كما قلت- ستظل السنة محطًّا للأنظار وللإشكالات من الأعداء؛ لأنها الهدف الأول أو هي خط الدفاع الأول عن الإسلام وأهله، وعن القرآن الكريم، إذا جاز لنا أن نستعير بعض التعبيرات العسكرية أو غيرها السائدة الآن. تعريف الشبهة لغة واصطلاحًا، وبعض استعمالات القرآن والسنة لها ما هي الشبهة؟ ما هو مفهومها؟ ابن منظور -رحمه الله تعالى- في مادة شبَهَ يقول المشبهات من الأمور هي المشكلات، والمُتَشَابهات هي المتماثلات، يذكر لنا معنيين يدوران حول مادة شبه: الأول وهي كلمة تسوية وتمثيل، هذا شبه فلان يعني مثله، فهما متشابهان ومتساويان تمامًا، والأخرى تعني المشكلات، هذا الأمر مشتبه أو مشبه عليّ يعني فيه مشكلة في فهمه. يواصل ابن منظور كلامه ويقول: والفتنة إذا أقبلت شبَّهت على القوم، وأرتهم أنهم على الحق، حتى يدخلوا فيه ويركبوا متنها، يركبوا متن الفتنة، ومعناها يفعلون ما لا يحل، وإذا أدبرت وانقضت بان أمرها؛ فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ. إذًا الفتنة نوع من التلبيس شبَّهت على القوم وزينت لهم أنهم على الحق، فإذا دخلوا فيها وانحرفوا ووقعوا في أخطاء كثيرة بعد أن تنقشع هذه الفتنة يكتشفون أنهم كانوا على خطأ، لكن لاتَ ساعة مندم. وشبه عليه الأمر أي: خَلّط عليه حتى التبس بغيره، والشبهة هي الالتباس،

وأمور مشتبهة ومشبّهة مشكلة، أو يشبه بعضها بعضًا، يعني: المعنيان معًا. وتقول: شبّهت علي يا فلان، تقول هذه العبارة إذا خلّط عليك بين الأمر صواب أو خطأ، وما إلى ذلك. هذه بعض المعاني التي دار حولها ابن منظور في (لسان العرب)، وكما قلت: اخترنا من بينها معنيين: المعنى التماثل والتشابه، ومعنى الالتباس والخلط. في معجم (مقاييس اللغة) لابن فارس -رحمه الله تعالى- في نفس المادة يقول -رحمه الله: "الشين والباء والهاء" أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونًا ووصفًا، يقال: شِبْهٌ وشَبَه وشَبِيه. هذه يماثله: معنى المماثلة يعني، والشبه من الجواهر هو الذي يشبه الذهب، والمشبّهات من الأمور: المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا. إذن، نفس القضية يدور حولها ابن فارس: معنى التشابه بمعنى التماثل بمعنى الاختلاط أو الالتباس والإشكال. في (المعجم الوسيط) في مادة شبه أيضًا يقول: شبَّه عليه الأمر أبهمه، حتى اشتبه بغيره، وشُبّه عليه الأمر لُبّس، وفي التنزيل العزيز في القرآن الكريم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157)، وكأنه يشبه أو يفسّر {شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) في الآية بمعنى اختلط عليهم وسنتعرض للآية بعد قليل. واشتبه عليه الأمر: اختلط، وفي المسألة: شكَّ في صحتها، يعني: اشتبه عليه الأمر: اختلط عليه الأمر، واشتبهت عليه المسألة أي: شك في صحتها، والشبهة الالتباس. إذن، دارت مادة شبه في اللغة حول معنى المماثلة، هذا يشبه ذاك يعني يماثله في وجوه الشبه المختارة، وأيضًا فيها معنى الالتباس والاختلاط والإشكال في الفهم، أو ما شاكل ذلك.

وفي الشرع: ما التبس أمره، فلا يدرى أحلال هو أم حرام، وحق هو أم باطل. تعريف الشُّبه: ما التبس الأمر فيه، فلا ندري وجه الصواب فيه من الخطأ ووجه الحل من الحرمة. الشُّبهة تُجمع على شُبه. إذن، نخلص من هذه المناقشة اللغوية إلى أن مادة شبه لها معاني كثيرة من بينها معنيان وقفنا عندهما: معنى المشابهة والمماثلة، ولذلك عندنا التشبيه في البلاغة تشبيه شيء بشيء يجتمع معه في بعض وجوه الشبه أو أكثرها إلى آخره. معنى الإشكال والالتباس والخلط أي: الذي في فهمه مشكلة؛ لا نميّز هل هو حق أو هو باطل ... إلى آخره. إذا انتهينا إلى تعريف الشبهة في الشرع: ما التبس أمره، فلا يُدرى من باب الحلال هو أم من باب الحرام، وحق هو أم باطل، صوابٌ هو أم خطأ إلى آخر المتقابلات التي يمكن أن نتكلم فيها. بعض استعمالات القرآن الكريم لمادة التشابه، وهي وردت في مجموعة من الآيات: وردت في سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (البقرة: 25)، أظن {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (البقرة: 25) يعني: متماثلًا، يعني هم في الجنة ينعمون بنعيمها وبثمراتها، وهم في أماكنهم كلما تمنوا فاكهة جاءتهم، وجاءتهم أيضًا مثلها مما يشابهها مع أنه يختلف عنها. في سورة البقرة أيضًا في قصة البقرة، حين دعا سيدنا موسى -عليه السلام- قومه إلى أن يذبحوا بقرة امتثالًا لأمر الله في حوار طويل: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة: 70) الاشتباه هنا بمعنى

الاختلاط أو الالتباس؛ أي: لا ندري ما البقرة المراد ذبحها. هذا من المعنى الثاني الذي نحن بصدده. في سورة البقرة أيضًا: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (البقرة: 118) معناها: تشابهت قلوبهم مع قلوب الذين كانوا قبلهم، فقالوا قولًا واحدًا، تشابهوا في العمى والضلال والتكذيب للأنبياء والبعد عن الحق. هذا هو وجه الشبه الذي جمع بين الأولين والآخرين في موقفهم من رسل الله، ومن رسالات الله التي جاء بها هؤلاء الرسل إلى أقوامهم؛ ليخرجوهم من الظلمات إلى النور. في سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 7) إلى آخر الآية، الله -عز وجل- أنزل الكتاب الكريم منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فمن كان في قلبه ضلال وزيغ فيتتبَّع المتشابه؛ يفسره على هواه ابتغاء الفتنة، ومن كان في قلبه إيمان ردَّ المتشابه منه إلى المحكم. المتشابه في القرآن الكريم له تفسيرات متعدّدة: الذي لا يعلم تأويله إلا الله هذا معنى اختاره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (الفتح) في كتاب التفسير، كما سنشير الآن إلى بعض الأحاديث الواردة في السنة، هل هو المتشابه الذي يحمل وجوهًا متعددة من الفهم، أو من التأويل، أو التفسير؟ هل هو المتشابه الذي قد تَعِيَ بعض العقول عن فهمه؟

كل ذلك وارد لكن اختار ابن حجر أن المعنى المقصود: هو أنه لا يعلم تأويله إلا الله، كما ذكرت الآية التي معنا في سورة آل عمران، إذًا الاشتباه هنا أي: اختبار وامتحان للأمة في تفويضها أمر هذه الآيات إلى الله -تبارك وتعالى-. أيضًا في سورة النساء: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) وهي تحتمل الوجهين في الحقيقة، تحتمل أن يقال شُبّه أي: اختلط عليهم لم يميزوه؛ لأن القصة بإيجاز أن الله ألقى الشبه على بعض تلاميذ سيدنا عيسى -عليه السلام- فقتلوه بدلًا من سيدنا عيسى، هم لم يقتلوا سيدنا عيسى أبدًا كما قال القرآن الكريم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) فيا ترى، شبه لهم يعني التبس عليهم بغيره، أم بمعنى أن الله ألقى شبهه -أي مثله- على أحد تلاميذه فقتلوه، الآية تحتمل هذا وذاك، ولا بأس من إرادة المعنيين معًا، ما دام السياق يحتمل ذلك. في الأنعام: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (الأنعام: 99) وفي الآية 141: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (الأنعام: 141) الآيتان معًا بمعنى التماثل يعني هذا يشابه هذا ويماثله في كل عناصر الشبه من الحلاوة والجمال إلى آخره. في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (الزمر: 23) أي: الله نزّل أحسن الحديث أي: القرآن الكريم كتابًا متشابهًا، هنا بمعنى التماثل أيضًا والتشابه، أي: يشبه بعضه بعضًا في الفصاحة والبلاغة والتناسب، بدون تعارض وبدون تناقض أبدًا، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}. هذه هي الآيات في حدود البحث التي وردت فيها كلمة الشبه أو مادة الشبه، وكلها أو معظمها دارت حول معنى التماثل، وقليلٌ منها دار حول معنى الالتباس.

جاءت مادة شبه أيضًا في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة أيضًا بالمعنيين، من ذلك ما رواه البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) إلى آخر الآية، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تلاها: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم)). وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب التفسير، باب منه آيات محكمات. هؤلاء الذين يتتبَّعون المتشابه من القرآن الكريم يريدون أن يناقضوا القرآن ببعضه، يحاولون أن يبينوا أن بعض القرآن وبعضه اعتراضًا أو تضادًا، أو ما شاكل ذلك. هؤلاء في قلوبهم زيغ، والنبي -صلى الله عليه وسلم: ((هؤلاء الذين سمى الله)) أي: في قلوبهم زيغ وبُعد عن الحق، واستجابة للهوى وللشيطان، هؤلاء علينا أن نحذرهم، وأن نبتعد عنهم، وألا نكون منهم أبدًا بإذن الله تبارك وتعالى. أيضًا في حديث النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما- وهو الحديث المشهور: ((الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) إلى آخره. هنا كلمة ((المشتبهات)) هذا الحديث رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان باب: فضل من استبرأ لدينه وعرضه، وفي كتاب البيوع في باب الحلال بيّن والحرام بيّن، ورواه الإمام مسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات. أعتقد هذا نقلًا حتى عن الكتب: أن المشتبهات في الحديث معناها أنها ليست بوضاحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثيرٌ من الناس ولا يعرفون حكمها، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لا يعلمهن كثير من الناس)) لكن العلماء يعرفون حكمها بنصّ أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك.

من المهم جدًّا أن نفهم الحديث- يعني: ليس في الإسلام ولا في تشريع الله شيء مشتبه لا نفهمه؛ إنما قد يَعِيَ فهمه على غير أهل الاختصاص، وهذا شيء طبيعي، ووجود طائفة من الأمة متخصصة في دراسة العلوم الشرعية هذا الأمر مطلب شرعي، ثابتٌ بالقرآن والسنة، ثابت في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) فهذه الآية طلبت من المؤمنين أن يعملوا على توفّر طائفة متخصّصة في العلوم الشرعية؛ ليرجع الناس إليهم حين يشتبه عليهم أمر من الأمور التي تخصّ أمر دينهم، أو دنياهم. إذن، لا يؤخذ من الحديث أن في الإسلام مشكلات أو مشتبهات لكن يرجع فيها إلى أهل الاختصاص، والحديث قال: ((لا يعلمهنّ كثير من الناس)) إذن هناك قلة تعلمه، أو هناك مجموعة قد تكون أيضًا كثيرة مثل السابقة، لكنهم أهل العلم المتخصصون يعرفون حكمها كما قلت، ويردُّونها إلى قواعدها الشرعية كأن تدخل تحت نص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك. إذن الأمور التي تتردد بين الحل والحرمة ولم يكن فيها نصّ ولا إجماع، يجتهد المجتهدون الذين يملكون أهل الاجتهاد الحق يُلحقونها بالدليل الشرعي سواء هذا الدليل يفيد الحل أو يفيد الحرمة، وقد يكون هذا الدليل غير خالٍ من الاحتمال، فلا يقطع بسلامة وجهة نظره، وقد يكون الورع ترك هذا الشيء، وبذلك يدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)). المقصود من هذا النقاش أن كلمة المشتبهات استعملت في الأحاديث بمعنى الشيء المشكل الذي يصعب فهمه على بعض الناس، وعليهم أن يرجعوا إلى أهل الاختصاص في ذلك.

موقفنا من الشبه وواجبنا نحوها.

وأما مادة شبه بمعنى الشبيه، فهذه قد وردت في أحاديث كثيرة، منها مثلًا: ((وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غَشي المرأة فسبقها ماؤه؛ كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها)) الشبه هنا بمعنى المماثلة، وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم وذريته، هو جزء من حديث، وأيضًا رواه مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، في قصة غير قصة البخاري، يعني: كل واحد ساق للحديث قصة غير الآخر، لكن القدر المشترك منها هو استعمال كلمة الشبه هنا بمعنى الدلالة على المماثلة. الخلاصة: أن القرآن الكريم والسنة المطهرة استَعملا كلمة الشبه بالمعنيان الذي قلناهما، نقلًا عن كتب اللغة، ونخلص في النهاية إلى أن مادة شبه فيها معنى التشابه والتماثل، وفيها معنى الالتباس والإشكال في اللغة، وفي الشرع: ما التبس أمره، فلا يُدرى ما هو من باب الحلال أم الحرام، وهذا يرجع فيه إلى أهل الاختصاص. موقفنا من الشُبه وواجبنا نحوها لو أن أحدنا عرضت له شبهة في أمر من الأمور، ما هو موقفه؟ وفي الحقيقة تعرضت لها لأنها مسألة إيمانية مهمة، وتمثّل جانبًا من جوانب العظمة والروعة في الإسلام وعلاجه لما يعتلج في النفوس البشرية. نحن في رحلة الإيمان لنا أعداء، من الشيطان ومن النفس والهوى، كما هو ثابت بأدلة كثيرة، وقد ينزغ الشيطان في صدر المؤمن بما يُخالف الشرع، وقد تحدِّثه نفسه أو هواه شياطين الإنس أو الجن، فما هو الحل؟

عند الإمام مسلم في كتاب الإيمان، روى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذْ بالله، ولينتِه)) وفي رواية: ((فليقل: آمنت بالله)). إذن، ممكن تثار شبهة في النفوس، الشيطان يلقيها، أو أيّ جهة أخرى تلقيها من شياطين الإنس الآن، من الذين نقرأ لهم أو نسمع لهم في أي مكان، ما هو الحل؟ وأنقل كلامًا عن الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في أثناء شرحه لهذا الحديث في (شرح مسلم) يقول -رحمه الله تعالى: وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله))، وفي الرواية الأخرى: ((فليستعذ بالله، ولينْتَه)) فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه. بعض نزغ الشيطان يكفي في ردِّه أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد ورد في ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت: 36) {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) لكن إذا كانت شبهة؛ يعني: كثير من الخواطر البشرية السيئة يكفي في ردِّها أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما ورد في الحديث، ولتقطع المواصلة في التفكير عن هذا الخاطر بأي طريقة كانت؛ كأن تخرج من المكان الذي أنت فيه، كأن تغلق الكتاب الذي تقرأ فيه مثل هذا الكلام، أو الشريط الذي تسمع فيه هذا الكلام، أو تنتقل إلى مجموعة من أصحابك الصالحين تدير معهم حديثًا آخر بأي شكل كان. لكن لو كانت شبهة، ينقل الإمام النووي عن الإمام المازري في (المعلم) قوله:

قال الإمام المازري -رحمه الله: "ظاهر الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرّدّ لها، من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، لكن: والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين؛ فأما التي ليست بمستقرة، ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تُدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يُحمل الحديث، وعلى مثلها يُطلق اسم الوسوسة، فكأنه لمّا أراد أمرًا طارئًا بغير أصلٍ؛ دُفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له يُنظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها". كلام ثمين حقيقة ويفرّق بين أمرين مهمين: الأمر الأول: الخواطر التي لا تعتمد على أدلة، وهي من باب نزغ الشيطان أو حديث الهوى كما قلت: شياطين الإنس والجن، هذه لا أصل له، ولا تعتمد على أدلة؛ فالوقوف معها مَضيعة للوقت وللجهد، ويكفي الله -عز وجل- كفانا إيَّاها، بجهد بسيط وبأن نستعيذ به -سبحانه وتعالى- من نزغ الشيطان في صدورنا، لكن التي فيها شبهة أدلة لا بد من العمل على إزالة هذه الشبهة، هذا تفريق مهم، وهو كثير في المسائل العلمية، ووقفت عنده لأن له صلة بالمادة العلمية التي ندرسها المتعلقة بالشبه حول السنة. حقيقة، كثير من الشبه لا يستحق أن يُردَّ عليه، لكن البعض حاول أصحابها أن يُلبسوها ثوب البحث العلمي، وأن يقيموا عليها بعض الأدلة؛ فيجب الرد عليهم بأدلة، وليس الهدف من هذا الرّدّ أن نرضيهم، فقد لا يرضون أبدًا، وربنا -عز وجل- حدثنا عن اليهود والنصارى أنهم لن يرضوا عنَّا أبدًا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وإنما الإجابة على هذه الشبه والإشكالات إنما لتنقية صدورنا، وصدور أولادنا أبناء الإسلام.

في هذه الأيام المعرفة أبوابها مفتوحة كثيرة جدًّا عبر الحاسب الآلي، والإنترنت، والفضائيات، ولا نستطيع أبدًا إغلاق أبواب هذه الفتن؛ إنما المراد تحصين شبابنا وأولادنا ضدَّ هذه الفتن، التي هي في الحقيقة لا تعتمد على أدلة، لكن ما دام قد أثاروها وحاولوا أن يُقيموا حولها كلامًا يريدون به التنغيص على الإسلام وأهله؛ فلا بد من الرّدّ عليهم. إذا كان الأمر يعتمد على الأدلة فقاوم هذا الأمر بالأدلة، الإسلام دين العلم، دين التفكير الناضج، دين الاعتماد على الأدلة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)، إن كان الذي يثير إشكالًا له أدلة نقف مع هذه الأدلة، نناقشها، ونرد عليها، ونفحمها، ونبطلها، وإن كانت لا تعتمد على أدلة نُعرض عليها أيضًا، هذا أسلوب اعتمده القرآن الكريم واعتمدته السنة المطهرة، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) لم يردّ عليهم؛ لأن هذا مسخ للفطرة وانحراف بها، واحد ينكر إن الكون له رب يسيره، واحد يقبل أن هذا الإبداع في الكون وتلك العظمة في تسيير أموره من غير من يدبّر ذلك. هذا لا يتوقف عنده؛ بينما مثلًا أقام القرآن على الأدلة على الوحدانية، لأنها أم القضايا في الإسلام: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (المؤمنون: 91) {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22)، هذه تعتبر أدلة، ويمكن ترتيبها في مقدمات ونتائج، لكن لأن قضية الوحدانية هي أم القضايا التي يتفرع عنها كل القضايا في دين الإسلام؛ لذلك اهتم القرآن بها، وأقام الأدلة عليها، وردَّ شُبَهَ المنكرين لها.

أما قضية أن يكون الله موجودًا -جل في علاه- هذا أمرٌ فطرنا الله عليه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172، 173)، إذن ردّ القرآن الكريم على بعض الشبه، ولم يهتم ببعض الشُّبَه الأخرى. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) جاءت في أكثر من آية ردًّا على من يُثير شبهًا، أنت لا تملك دليلًا، ولذلك لم يردّ القرآن عليه في مثل هذه الأمور، وإنما طلب منه الإتيان بالدليل حتى يُردَّ عليه. إذن هو اهتم ببعض القضايا فرد عليه بالأدلة وترك بعض الأمور؛ لأنها تَفتقد الأدلة، ومن ثَمَّ يكون الوقوف معها مضيعة للوقت، وإتلافًا للجهد في غير طائل، والأولى أن تنصرف هممُ المسلمين، وأن يستثمروا جهدهم ووقتهم فيما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم. إذا عرفنا الشبه نقول: المشكلات التي يثيرها أعداء الإسلام حول السنة، الخلط الذي يُثيره أعداء الإسلام من المستشرقين ومن غيرهم حول السنة المطهرة، من يوم أن قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- السنة. وسيظل هذا الأمر، لم يخلُ عصر من العصور ممن يثيرون الشبه حول السنة. وجاءت الفرق الإسلامية وكان لها موقف من السنة يدرَّس في تاريخ السنة وفي موقف الفرق منها: المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، وغيرهم، والشيعة وغيرهم، وامتدادًا إلى العصر الحديث من العلمانيين، والجاحدين، والمنكرين، والمستشرقين يُثيرون الشبه حول الإسلام، وحول سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم.

لماذا كان هجومهم على السنة؟ لأنها هي خط الدفاع الأول عن الإسلام، لأنها التي تبين القرآن الكريم، لأنها هي التي تُشرع كما يُشرع القرآن الكريم، وهم يعلمون أن الهجوم عليها إنما هو هجوم على الإسلام ذاته، ممثلًا في مصدريه الرئيسين "القرآن الكريم والسنة المطهرة"، لو سُلم لهم هذا -والعياذ بالله- ما بقي لنا من إسلامنا شيء، ولذلك هذا الذي يجعلنا نقول: إن السنة لن يتوقف الهجوم عليها في أي عصر، طالما للإسلام أعداء من داخل أرضه ومن خارج أرضه. وأيضًا نطالب في الجهة المقابلة أن يكون للسنة المطهرة جنود يُدافعون عنها في كل زمان ومكان، وأن يُقبلوا على دراستها بروح الجندية، ولذلك أنا أطلب من أبنائي الذين يسمعونني الآن أن يُقبلوا على دراسة السنة بهذه الروح، ويعلمون أنهم على ثغرٍ من ثغور الإسلام يُحاول الأعداء أن يتسلَّلوا إلى الإسلام من قِبَله، ومن ناحيته، ليس بأسلوب عسكري، وإنما بأساليب ناعمة قد تخفى على البعض، وقد يلبسون لباس العلم، ويتمسَّحون بردائه ويُوهمون المتلقي أنهم يتتبَّعون المناهج العلمية. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 2 الاستشراق وموقفه من السنة المطهرة.

الدرس: 2 الاستشراق وموقفه من السنة المطهرة.

تعريف الاستشراق والمستشرقين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (الاستشراق وموقفه من السنة المطهرة) تعريف الاستشراق والمستشرقين الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: فنتكلم عن الاستشراق، وموقفه من السنة المطهرة، والمنهج الذي اتبعه المستشرقون في الدراسة، كمقدمة لدراسة شبههم التي أثاروها حول السنة المطهرة: الاستشراق في اللغة: الألف، والسين، والتاء للطلب، حين أقول: أستغفر الله؛ يعني: أطلب المغفرة من الله تبارك وتعالى، فاستشرق أصل المادة شرق، تقول: شرقت الشمس أي: طلعت، واسم المكان أو الجهة المَشْرِق: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة: 115). ويُقال: شتان ما بين مَشْرق ومغرب ... إلى آخره. وكلمة استشرق أي: طلب دراسة ما يتعلق بالشرق، المُسْتَشْرِق: اسم فاعل من استشرق أي: الذي طلب دراسة ما يتصل بالشرق، والاستشراق اصطلاحًا كما عرفته كثير من المصادر التي تكلمت عن الاستشراق ودلالاته: هو علم الشرق، أو علم العالم الشرقي، وهو تعبيرٌ أو مصطلح أطلقه الغربيُّون على الدراسات المتعلقة بالشرقيين، دراسةِ شعوبهم، وتاريخهم، وأديانهم، ولغاتهم، وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية وحضارتهم، كل ما يتعلق بهم، كان هذا معنى الاستشراق. ثم صار الاستشراق يُطلق على معنى خاص: بعد هذا المعنى العام الذي يعني دراسة الشرق بكل أحواله، صار يختصّ -أي: الاستشراق- بدراسة الإسلام والشعوب الإسلامية لخدمة أغراض التبشير، وخدمة أغراض الاستعمار الغربي

لبلدان المسلمين، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية. هذا المعنى قاله كثير من الذين تكلموا في الاستشراق: (أجنحة المكر الثلاثة وخوافها) للأستاذ عبد الرحمن الميداني، (الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري) للدكتور محمود زقزوق وغيرهم، (المستشرقون والتاريخ الإسلامي) للدكتور علي الخربوطلي، (رؤية إسلامية للاستشراق) للدكتور أحمد غراب، وكثير من الكتب اصطلحت على تعريف الاستشراق بهذا المعنى الذي نقوله. حُصر الاستشراق بعد أن كانت دراسة الشرق كله من كل جوانبه- حُصر الأمر في دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية، والغرض من هذه الدراسة خدمة أغراض التبشير، خدمة أغراض الاستعمار، إعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام والأمة الإسلامية. وتكوََّن من هذا الثلاثي ثالوث موجه ضد الأمة الإسلامية: التبشير، الاستعمار، الدراسات التي قام بها المستشرقون للسيطرة على بلاد الإسلام بعد أن يدرسوا المنافذ التي تؤدِّي بهم إلى ذلك. ومن هو المستشرق إذن؟ المستشرقون هم الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، ويقدِّمون هذه الدراسات للمبشِّرين وللقائمين على قيادة الدوائر الاستعمارية؛ لكي يستفيدوا بتلك الدراسات في تحقيق أغراضهم التي يبحثون عنها من الأمة الإسلامية؛ من

الاستيلاء على مصادرها الاقتصادية، من توهين عقيدتها الدينية ... إلى آخر ما يقصدونه من أغراض ومن أهداف. هذا الاستشراق كان دوره خطيرًا في الحقيقة؛ لأنه هو الذي صاغ التصورات الغربية عن الإسلام وأهله لكل أبناء الغرب، من سياسيين وغيرهم، هذا الاستشراق كان هو المقدمة، كان هو الطليعة للغرب في تقديم المعلومات من وجهة نظرهم للغرب، وكيف يتمكَّنون من السيطرة على الإسلام في كل الجوانب. والمستشرق هو الذي يدرس أحوال الشرق بهذا المعيار الذي قلناه من علماء الغرب، وليس من علماء الشرق، أي: يطلب الاستشراق دراسة أمور الشرق. وكما قلنا: إن هذا الاستشراق كان له أكبر الأثر في تصوُّر العالم الغربي بشكل عام عن الإسلام، استمدَّ الغرب معلوماتهم عن الإسلام وحدَّدوا موقفهم منه بناءً على هذه الدراسات الاستشراقية، وهذا هو وجه الخطورة في الاستشراق وما يتعلق به في جانب العقيدة، وفي جانب السنة التي سنقف معها. الاستشراق -بهذا المعنى الخاص الذي قلناه- يعتبر موقف عقائدي وفكري معادي للإسلام؛ لأنه انطلق لخدمة التبشير ولخدمة الاستعمار للقضاء على الأمة الإسلامية، إذن هو انطلق من موقف معادي بادئ ذي بدء، وهذه خطورة، وهو الذي يجعلنا نقف ونتصدَّى، ولذلك لم يتركوا شيئًا يتعلق بالإسلام وأهله إلا وتكلَّموا فيه، وصارت لهم المؤلفات. ويشهد الله أننا لا نفتعل المعارك، لا نحارب طواحين الهواء كما يقال، إنما هذه الحقيقة، والله -عز وجل- سجّل هذا الأمر في أكثر من آية في القرآن في الكريم:

ملامح منهج المستشرقين في دراسة الإسلام.

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة: 105)، وفي قوله تبارك وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: 109) إذن القرآن الكريم يسجِّل موقفهم قديمًا وحديثًا، وفي الحقيقة هم انطلقوا من هذه الروح العدائية التي اتجهوا بها ناحية المشرق بغرض الاستعمار، والسيطرة على الأمة الإسلامية، وإبعادها عن دينها، والقضاء عليها اقتصاديًّا وسياسيًّا، وهذا هو الذي حدث فعلًا، وإن شاء الله -تبارك وتعالى- تخرج هذه الأمة من هذه المعركة منتصرة بإذن الله؛ بعودتها الظافرة إلى كتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-. ملامح منهج المستشرقين في دراسة الإسلام نُنَبِّه عن منهج المستشرقين في دراسة الإٍسلام. هم يحاولون أن يُلبسوا دراستهم ثوبَ الدراسة العلمية الدقيقة، يُكثرون جدًّا من استعمال مصطلحات خادعة، مثل قولهم: إن التحقيق والموضوعية والتدقيق والتمحيص هو منهجهم في كل ما يبحثون، لا يُفرِّقون في ذلك بين عدوٍّ أو صديق، أو قريب أو بعيد، ويقولون: إنهم يعتمدون على المنهج العلمي وعلى المنهج التجريبي، وأنهم يدرسون العقائد الدينية على أسسٍ من المبادئ المستمدَّة من العقل والمنطق، هكذا يزعمون. يشهد الله أن هذا كلام بعيد جدًّا عن الحقيقة، ولا هناك أمانة علمية ولا ثوب علمي، ولا يمتُّون إليه بصلة. حتى من وُصف منهم بالإنصاف والدقة، ومحاولة الحيدة يعني: كثير من علمائنا

الذين درسوا الاستشراق يقطعون بأنه لا يوجد مستشرقٌ محايد ولا نزيه، حتى من أصدر بعض الكلمات التي ظاهرها يُشعر بالإنصاف للإسلام ونبي الإسلام؛ إنما دسَّ السمّ في العسل كما يقولون، وتتبعوا مقالاتهم في ذلك، وبيَّنوا هذا من ذاك. الآن نبين المنهج الذي اعتمدوا عليه، ومدى بُعده عن الحقائق العلمية، والمناهج العلمية المتبعة عند العلماء في كل مكان، وإثبات زَيْف ما يقولون: إنهم يُوافقون المناهج العلمية. وكيف نتصوَّر منهجًا علميًّا رصينًا ممن ينطلقون في أبحاثهم من موقف عدائي، كما أسلفنا قبل: الغرض التبشيري، الغرض استعمار البلاد الإسلامية، الغرض السيطرة على مُقَدَّرات الإسلام، هل يصدق العقل أن من ينطلق من هذه الروح العدائية سيكون حياديًّا في دراسته! حتى وإن زيَّف علينا وألبس دراسته ثوب البحث العلمي الدقيق، أو الذي يتَّبِع المناهج العلمية، الأمر أوضح من أن يقول فيه أحد، والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، فهم انطلقوا في دراستهم من نزعة دينية تحمل الحقد والعداء للإسلام وأهله، ومن نزعة سياسية استعمارية تريد أن تسيطر على العالم الإسلامي، وعلى مقدَّراته، وعلى أرزاقه إلى آخره. والبحث العلمي المجرد النزيه الخالص لا يمكن أن يكون بهذه الأوصاف حين ينطلق من هذه الروح العدائية، ولذلك عندنا العلم يُبتغى به وجه الله، نطلبه لله، والذي يطلب العلم لله لا يُمكن أن يُزيِّف ولا يمكن أن يظلم؛ لأنه متقي لله {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (البقرة: 282). إذن، الزعم بأنهم يكتبون بلغة علمية رصينة وباتباع للمناهج العلمية الدقيقة، هذا زعم فاسد وباطل، وهم لن يتخلَّوا أبدًا عن نزعاتهم في هذه الكتابة، وكيف

يكتب بروح محايدة من يُكِنُّ العداء للإسلام وأهله، ليته حتى قدَّم النظرية الإسلامية، ثم انتقدها مثلًا في أي مجال من المجالات في التشريعات وفي غيرها، هو يبدأ بالعداء مباشرة، يبدأ بالاتهام ويسوق القضية في سوق الاتهام في سياق التهمة التي تثير الشكوك حولها، وكتاباتهم تشهد عليهم بذلك، ونحن لا نفتري عليهم. كثيرٌ من الباحثين لخّص منهج المستشرقين في تناولهم للدراسات الإسلامية تلخيصًا حسنًا دقيقًا، نعتمد عليه. منهجهم يقوم على القواعد الآتية: أولًا: يُقدمون على دراسة الإسلام بفكرة مسبَّقة، ما هي الفكرة المسبقة؟ أن الإسلام متهم في تشريعاته، وفي كل شيء، ثم يُقيمون الأدلة على هذا، أظن هذا عداء واضح، قدِّم الإسلام كما هو من خلال مصادره الشرعية، ومن خلال فهم علمائه له! هذه هي الأمانة العلمية، أنا حين أُقدم نظرية غربية في أي مجال، حتى لو لم تعجبني، كيف يكون منهج التناول؟ أقدمها كما هي، وكما قال أصحابها، وكما أقاموا الأدلة عليها، ثم أنقد، لكن أن أسوق الفكرة من وجهة نظري أنا، منطلقة من العقيدة التي تحكمني، وهي عقيدة العداء للإسلام، فأسوقها بهذه الكيفية أولًا، يعني: أصوغها من أول الأمر في موقف الاتهام في قفص الاتهام، وأتخيَّر وأؤوِّلُ النصوص وأقطعها من سياقها حتى النصوص الإسلامية؛ محاولًا الوصول إلى هذه الفكرة وتثبيتها في ذهن المتلقي الغربي.

دور المستشرقين في منتهى الخطورة؛ لأنهم هم الذين صنعوا التصور الغربي عن الإسلام، حتى عند السياسيين الذين يقودون الدول الاستعمارية، ولم يكونوا متخصصين في دراسة الإسلام وأهله؛ أخذوا تصوراتهم عن الإسلام من دراسات المستشرقين، المجتمع نفسه، طلاب الجامعات الذين درسوا على يد هؤلاء المستشرقين في الجامعات، وعلى يد الكُتب التي ألفوها، وانتشرت في مجتمعاتهم، أو في البرامج المتلفزة، التي يَظهرون فيها. هذا المتلقي يتلقى عنهم هذا التصوُّر الذي يقدمونه، المبشِّرُون الذين يملئون العالم الإسلامي محاولين ردَّة أهله عن إسلامهم، هؤلاء انطلقوا من هذه التصورات الاستشراقية التي كتبها الأعداء. فهم أصلًا وضعوا الإسلام في قفص الاتهام، ثم درسوه من هذه الوجهة، وحاولوا أن يبتعدوا بالنصوص عن سياقها ليؤكدوا هذا الأمر. من منهجهم أيضًا: تحليل الإسلام ودراسته بعقلية أوروبية، فهم يعتمدون في الحكم على الإسلام على مقاييسهم الغربية، وهذا من أسوأ المناهج في الاحتكام إليها، يعني مثلًا: مجتمع يمجِّد عُرْي النساء، ومجتمع يرفضه انطلاقًا من شريعته، بالضرورة حين يتكلَّم المجتمع الذي يُبيح العري سينتقد هذا المجتمع؛ بينما هو مجتمع أخلاقي يبحث عن العفَّة والطهارة، لكنه حكَّم مقاييسه هو، وليست مقاييسي أنا في الحكم على الشيء، وهذا حقيقة في منتهى الخلل في المناهج العلمية، لا يمكن محاكمة عصر على مناهج عصر آخر، أو محاكمة أشخاص على مناهج أشخاص آخرين، هذا الذي نقوله الآن معروف في المناهج العلمية، يعني مثلًا: يتكلمون عن الديمقراطية الآن يقولون: حكم الخلفاء الراشدين غير ديمقراطي؛ لأنه لم يكن عندهم مجلس نيابي.

هذا خلل، كان عندهم شورى أروع بكثير كانوا يُقال لهم على المنبر وغير المنبر تقول لهم الرعية ما يريدون! إنما الاحتكام إلى مقاييس الواقعية في بيئة غير بيئة هذا خلل في المناهج العلمية؛ مثلًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ببنت صغير، هذا كلام سفيه لا يستحق الرَّدَّ عليه، هل البيئة كانت تنكر؟ هل قرأنا أن أبا جهل وأن أبا لهب وغيرهم من عتاة المعادين للإسلام أنكروا على النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الصنيع. هذا أمر كان مألوفًا في البيئة بل ظلَّ مألوفًا لمئات السنين، ظل هذا الأمر -كما قلت- سنة بين المسلمين، زواج الكبير من الصغيرة أو من الكبيرة التي تكبره؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج الكبيرة التي تكبره بخمسة عشر عامًا، وتزوج الصغيرة ... إلى آخره، لكن هذا مثال لخلل المناهج. فالمستشرقون كانوا يحتكمون إلى العقلية الأوروبية وإلى القواعد الأوروبية في الحكم على الإسلام، ومن ثَمَّ يستثيرون الغربيين ضدَّ الإسلام: هذا مخالف لكم، هذا يأتي بغير ما تعتقدون، هذا يأتي بغير ما تقولون، هذا يريد أن يبطل مجتمعاتكم. يملئونهم بروح العداء للإسلام مخالفًا للمناهج العلمية، كما قلت: هذا منهج يتبعه المستشرقون، ثم يزعمون أنهم أبناء حيدة وإنصاف في حكمهم على الإٍسلام. إذن، هم انطلقوا من الفكرة المسبقة، انطلقوا من المقاييس الغربية والمناهج عندهم في الحكم على الأشياء، ولم يحتكموا إلى المناهج الموجودة عند المسلمين. أيضًا، اعتمدوا على كثير من الروايات الضعيفة والشَّاذَّة، إن شاء الله حين نتعرَّض للشُّبَه بتفصيل سنقف على مثل هذا، أحيانًا يقولون: نحن لم نأتِ ببدع من القول، هذا موجود في مصادركم، وقد يَتصور غير

المتخصص أن هذا كلام دقيق يلبس الثوب العلمي، هم لم يأتوا به من عند أنفسهم، إنما أتوا به من مصادرنا نحن، كيف جئتم به؟ اعتمادهم على الروايات الشاذة والضعيفة، وغض الطرف وترك الأدلة الصحيحة الثابتة منها. الكتب التي تكلمت عن الاستشراق وأهله ساقت أمثلة لذلك أنا الآن حين أتكلم عن الخوارج -حتى لن أتكلم عن الغربيين- هل أتكلم عن الخوارج إلا من خلال فكره ما قالوه، ومن خلال مصادرهم، أتكلم عن الشيعة من خلال مصادرهم، ثم أنقد؛ إنما أتكلم من وجهة نظري أنا، فهذا غير إنصاف، هذا ليس اتباعًا للمناهج العلمية، إنما هذا يعني تزييف واتباع للمناهج الخاطئة، إذن يعتمد على روايات ضعيفة شاذة رفضها أبناء الإسلام وفقًا لمقاييسهم العلمية في الحكم على الروايات، لكنهم يجعلونها أساسية ليصلوا بها إلى أغراضهم التي يحاولون الوصول إليها. أيضًا، تحريف النصوص ونقلها نقلًا مبتورًا خارجًا عن سياقه يخدم فكرتهم، وتجربة يسيرة، وحتى ليست من مستشرقين، من كاتب إسلامي وهو كبير، ألف كتابًا في السيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: إنه لم يعتمد على مصادر السيرة، وعلى مصادر السنة في كتابه، مع أننا نقول: إن مصادرنا في دراسة السيرة هي القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب السيرة المعتمدة عند علماء التخصص، هو ابتعد عنها، وقال: إنه اتبع المنهج العلمي والمنهج التجريبي، ليكن. لكن حين أراد أن يستدلّ لماذا ترك السنة، فأراد أن يدمِّرها، السنة هذه تأخر تدوينها، يعني: يثير بعض الإشكالات التي يثيرها المستشرقون، لكن محل العجب ماذا قال؟ على سبيل المثال: الإمام النووي -رحمه الله تعالى- شرح مسلمًا، وكتب عدَّة مقدمات دقيقة ونفيسة تُكتب بماء الذهب، كما فعل ابن حجر تمامًا في مقدمته

لشرح البخاري (هدي الساري) من بين ما كتب الإمام النووي كتب فصلًا يردُّ فيه عن الشُّبه التي أثاروها حول (صحيح مسلم)، فبدأها بالآتي قال: "عاب عائبون مسلمًا لروايته عن الضعفاء" يعني: هناك من وجَّه بعض النقد للإمام مسلم لروايته عن بعض الضعفاء من وجهة نظره، ولم يبين كيفية روايته عنهم، هو لا يعتمدهم في الأصول أبدًا، هذا أمر آخر، لكن أن أضرب مثالًا للمنهج العلمي الذي يزعمونه. الإمام النووي قال هذه القولة: عاب عائبون مسلمًا لروايته عن الضعفاء، ثم شرع يردُّ عليها، والجواب عليها من كذا ومن كذا، هذا الناقل نقل هذه الكلمة فقط بدون الرَّدِّ عليها، وأتى بها في سياقٍ كأن الإمام النووي -رحمه الله تعالى- يُقرُّ بأن الإمام مسلمًا قد روى عن الضعفاء في كتابه، فاكتفى بنقل هذه الجملة يقول: قال الإمام النووي: "عاب عائبون مسلمًا لروايته عن الضعفاء"!! الذي يقرأ هذه الفقرة مبتورة من سياقها، ومقطوعة عما قبلها وعما بعدها يتصور أن الإمام النووي يُقرّ ذلك، هذه هي الأمانة العلمية التي يقولون عنها؛ بينما الإمام النووي أتى بها ليردَّ عليها، هذا كثيرٌ جدًّا في صنيع المستشرقين، يُخرجون النصوص عن سياقها ويبترونها عما قبلها وعما بعدها، يعرضون عرضًا ناقصًا مشوهًا مبتورًا؛ لتخدم فكرتهم، وإذا لم يجدوا سبيلًا إلى تحريف مقولات أساءوا فهمها، كل عداء إما أن يُحرّف في النقل، وإما أن يحرِّف في الفهم، انطلق من روح عدائية. أيضًا: غُرْبة كثير منهم عن اللغة العربية وعن الإسلام، جعلهم لا يفهمون النصوص على وجهها الدقيق، لا يفهمون ما فيها من بلاغة، ولا يفهمون ما فيها من دِقة وعظمة، ومن أوجه محتَملة؛ فعدم فهمهم وجهلهم

باللغة من بين الأسباب التي أوقعتهم في سوء الفهم، الذي انعكس على كتاباتهم عن الإسلام وأهله. وحتى لو تخصَّص أحدهم في دراسة جزئية من جزئيات الإسلام أيضًا لم تغبْ عنه هذه الروح الضعيفة؛ نظرًا لضعفه في اللغة وفي فهمه الإسلام. أيضًا: اعتمادهم على مصادر ليست معتمدة، حين أتكلم عن الحديث وعن مصادره أرجع إلى كتب السنة المعتمدة عند أهل العلم، التي طبقت المقاييس العلمية في الحكم على الأحاديث مثل: البخاري ومسلم وغيرهم، لكن تجدونهم يرجعون إلى كتاب (الحيوان) للدميري، (ألف ليلة وليلة)، (الأغاني)؛ بينما في نفس الوقت يُكذِّب ما ورد في مصادرنا الصحيحة مثل: كتب السنة الستة و (الموطأ) وغيرها. كل هذا اتباع للهوى، وكل ذلك يفعله انحرافًا عن الحق الذي يجب أن يكون، ثم هو يخدعنا بعد ذلك بأنه يلبس ثوب العلم والدقة. إذن اعتمد كما قلت مصادر الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. أيضًا: التركيز على الجوانب المعقّدة والخلافية في المسيرة الإسلامية: وكأنها هي مسيرة الإسلام، الكلام عن الفرق الإسلامية مثلًا، إحياء الشُّبَه، الكلام عن الخلافات في السياسة، أو في نحوها، وكأن ذلك هو مسيرة الإسلام طوال حياته، لا يذكرون أبدًا الجوانب الإيجابية، وهذه روح العدائية. هذا حالهم مع الإسلام، الإسلام ليس فيه ما نخجل منه، ليس فيه ما نخشاه، نحمد الله على نعمة الإسلام، ونسأل الله -عز وجل- أن يثبتنا على إسلامنا حتى نلقاه،

ونحن مسلمين بصدق الإيمان كله، أقول: نفخر، ونعتزّ، ونحمد الله تعالى على نعمته. مثلًا: حين يتعرَّضون لتاريخ هارون الرشيد أحد خلفاء الإسلام العظام، تجدهم يركزون على مجالس الشعر، أو ما شاكل ذلك، وينسون أنه كان يجاهد عامًا ويحج عامًا، وينسون احترامه للعلماء وحبه لهم، وتقريبه لهم في مجالسه، إلى آخر الإيجابيات العظيمة التي تملأ تاريخ الإسلام. أيضًا: هذا منهج مختلّ حين يركّز على السلبيات ويترك الإيجابيات. أيضًا: لأنه يحرِّف الكلم عن مواضعه، ويفهم النصوص على غير وجهها؛ نتيجة للتعصب؛ يصل إلى نتائج خاطئة مخالفة لما يعتقده المسلمون، ويؤكِّد عليها ويثبّتها، ويظلّ يلحّ عليها، النظرية المعروفة: "اكذبْ اكذبْ حتى تصدِّق نفسك في آخر الأمر"؛ لأنه يعلم أن المتلقي عنه لا يملك جهة أخرى يتلقى عنها غير هذه الجهة التي هو منها هذا المستشرق، الكتب، أو البرامج، أو الحلقات الدراسية، أو النقاشية، أو ما إلى ذلك. يظلُّ يتكلَّم عن أن الإسلام يهمل المرأة، ويسقط حقوق المرأة، ويُعيد ويزيد في هذه القضية حتى يترسَّخ في وجدان المتلقي أن هذه حقيقة من حقائق الإسلام الثابتة، ويتبع ما ذكرناه سلفًا من الاعتماد على الروايات الضعيفة، من تأويل النصوص على غير بابها، هم لا يتحرجون من أي مخالفة أخلاقية أو علمية أو منهجية، ويزعمون في نهاية الأمر أنهم يتابعون المناهج العلمية الدقيقة. أيضًا: الغرب من سماته أنه عالم مادي يعتمد على الأرقام، الدنيا في نظرهم: يعمل، وينتج، ويكسب، ويستمتع بها، جوانب الإيمان والتذوق والكلام عن الجهاد والجنة، والرجاء في مغفرة الله وفي رضوانه،

وهكذا، أمور بعيدة عن كثير منهم، فحين يكتبون وحين يدرسون أيضًا ينطلقون من هذه الحقائق المادية الجامدة، التي تقتل الأحاسيس، وتُميت المشاعر، وتُبعد الإنسان عن خالقه، وتجعل الشيطان يسيطر عليه في كل أمر من أموره. أيضًا: تفسير سلوك المسلمين بما يُناسب الأغراض السابقة، المسلمون يُجاهدون طمعًا في الدنيا، طمعًا في المكاسب، يريدون استعمار الدول، مع أنهم هم الذين فعلوا ذلك، لم يذهب المسلمون أبدًا إلى أرض بنيَّة احتلالها، لم ينقلوا خيرات بلد إلى بلدهم أبدًا، لم يُعاملهم أبناء البلاد المفتوحة كمحتلين بل فرحوا ببقاء المسلمين بينهم بدءًا من الصحابة ومن بعدهم لكنهم يصوِّرون الأمر على عكس ذلك، جاءوا ليستمتعوا بالنساء يعني: ما فيهم نقلوه إلى المسلمين، والمسلمون من هذا براء. هذه بعض ملامح المنهج الذي اتبعه المستشرقون في دراسة الإسلام بشكلٍ عام، ليس الأمر مقصورًا على التفسير في كلامهم عن الجهاد، في كلامهم عن القرآن، عن الحديث، عن السنة، عن الصحابة، عن المسيرة السياسية للإسلام وأهله، عن الخلفاء، عن البلاد التي فتحوها، هذه الأمور التي ذكرتها عشرة أو أكثر أو أقل، هذا المنهج هو الذي سيطر عليهم في كل دراساتهم المتعلقة بالإسلام وأهله، هذا المنهج سيتضح جليًّا حين نتكلم بشكل تطبيقي، وبشكل عملي حين نرى دراستهم للسنة المطهرة. نقلًا عن الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى- في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع)، وهو قد عقد دراسة مهمة للاستشراق ومنهجه، وهو من المصادر التي نعوِّل عليها في هذا البحث وغيره، ويعتمد عليها الباحثون كثيرًا،

وله كتاب آخر في الاستشراق وغيره (الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم)، يقول -رحمه الله تعالى-: "ترى لو استعمل المسلمون معايير النقد العلمي التي يستعملها المستشرقون في نقد القرآن والسنة وتاريخنا، في نقد كتبهم المقدسة وعلومهم الموروثة، ماذا يبقى لهذه الكتب المقدسة والعلوم التاريخية عندهم من قوة؟ وماذا يكون فيها من ثبوت؟ نعم، سنخرج بنتيجة من الشَّكِّ وسوء الظن أكبر بكثيرٍ مما يخرج به المستشرقون بالنسبة إلى مصادر ديننا وحضارتنا وعظمائنا؛ فحضارتهم مهلهلة رَثَّة الثياب، ورجال هذه الحضارة من علماء وسياسيِّين وأدباء يبدون في صورة باهتة اللون، لا أثر فيها لكرامة ولا خلق ولا ضمير. نعم، لو فعلنا ذلك -كما يفعلون- لرأوا كيف عاد هذا المنهج الذي زعموا أنهم يستخدمونه لمعرفة الحقيقة في ديننا وتاريخنا وَبَالًا عليهم، لعلهم يخجلون بعدئذٍ من استمرارهم في التحريف والتضليل والهدم". هذا النقل فيه بعض التصرف لكن هذا خلاصة كلامه -رحمه الله تعالى-. والشيخ الغزالي -رحمه الله تعالى- يقول: "الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث، وهي أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتحرر، وجمهرة المستشرقين مستأجرون لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه"، هذا كلام للشيخ -رحمه الله- في كتاب له اسمه (الدفاع عن العقيدة والشريعة) في ص8، والدكتور محمد البهي -رحمه الله- في (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي)، والدكتور محمود زقزوق في (الاستشراق)، وكتب كثيرة تُبيّن منهج الاستشراق.

يعني: هذه هي الروح العدائية التي انطلق منها المستشرقون وهذا منهجهم المختلّ. وفي النهاية هناك بعضهم حاول أن يَلبس لباس الإنصاف والحيدة، ذكر بعض المحاسن للإسلام. على كلِّ حال علّمنا القرآن الكريم أن نُنصف، وأن نعطي كل ذي حق حقَّه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} إذن ليسو سواء؛ لأنه تكلم عن بعضهم قبل ذلك بما فيهم من الخلل، وأيضًا تكلَّم عن بعضهم بما فيهم من الوجوه الإيجابية: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آل عمران: 75). علمنا الإسلام من خلال القرآن والسنة النَّصَفَة، وجادل بالحق، فنحن نذكر لبعضهم بعض المواقف التي كانوا فيها مُنصفين، مع أن كثيرًا من باحثينا يقطع بأن أحد منهم لا يوجد عنده إنصاف أبدًا، بل حاول أن يصوغ ذلك لكنه دسَّ السم في العسل. على كل حال، بعضهم هداه الله للإسلام، ولعل ذلك كان سببًا في جنون البعض أنه حين يقرأ بإنصاف وتعمُّق يهتدي إلى الإسلام، فأرادوا أن يعلنوها حربًا شرسة شديدة لتشويه الإسلام وصورته؛ فكان أن خرجوا عن ثوب الإنصاف والحيدة والعدل في تناول الإسلام وأهله. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 3 علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم.

الدرس: 3 علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم.

العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (علاقة السنة المطهّرة بالقرآن الكريم) العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: إنَّ المستشرقين أثاروا شبهًا كثيرة حول علاقة السنة بالقرآن الكريم، وأنه يمكن الاكتفاء بالقرآن الكريم، وأثاروا شُبَهًا حول حجة السنة وأنه لا يجب العمل بها، وحاولوا أن يجمعوا بعض الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة على أفكارهم الخاطئة؛ ليُثبتوا أنهم -كما زعموا- يتبعون المنهج العلمي في الاستدلال، وأن أدلتهم جاءت من عندنا نحن من قرآن ربنا، ومن سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي نحن نعتبرهما أنهما المصدران الرئيسان للإسلام نستمدُّ منهما قواعد الإسلام وتشريعاته. علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم: ما مفهوم هذا الموضوع؟ مفهومه بيان حدود العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة: هل يمكن أن نستغني بالقرآن الكريم عن السنة؟ هم يقولون ذلك، فمن خلال هذا الموضوع سيظهر مدى احتياج القرآن الكريم إلى السنة المطهرة في بيانه وتوضيحه، وتفصيل أحكامه للناس. أيضًا سيظهر من خلال هذا الموضوع المهم مدى زيف دعواهم في الاكتفاء بالقرآن الكريم، وأنَّ من قال ذلك إنما أراد ضياع الإسلام كله، كما سنثبت أيضًا بالأدلة ذلك. إذن، الموضوع مهم جدًّا، يردُّ على فرية الاكتفاء بالقرآن الكريم، يردُّ على زعمهم أنه يمكن فهم الإسلام من خلال القرآن الكريم فقط، سيثبت بالأدلة أنه لولا السنة المطهرة لما فهمنا القرآن الكريم. وبدايةً، نُبيِّن أن القرآن الكريم نزل ليُعمل به، أكدت حقائق القرآن الكريم هذا،

وآيات القرآن الكريم، وأكدته أيضًا أحاديث سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} (الأعراف: 157) النور الذي أنزل معه: هو القرآن الكريم، سماه الله -تبارك وتعالى- نورًا في أكثر من آية، لكن الآية طلبت اتِّباع القرآن الكريم يعني: العمل به، و {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} في سورة الإسراء {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء: 9)، والله -عز وجل- يبين أن القرآن الكريم أنزل هدى ورحمة للمؤمنين، ولن يعرض عنه إلا الأشقياء والعياذ بالله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الإسراء: 82). والنبي -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من حديث في الأحاديث المتفق عليها في الصحيحين بيَّن أن القرآن الكريم جاء ليُعمل به، في كتاب فضائل القرآن عند البخاري ومسلم وغيرهما: ((مثل المؤمن والذي يقرأ القرآن ويعمل به كمثل الأترُجّة ريحها طيب وطعمها طيب)) أُريد أن أضع خطوطًا وخيوطًا تحت قوله -عليه الصلاة والسلام- و ((يعمل به)). القرآن الكريم أيضًا لن يكون حجةً إلا لمن عملوا به، في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم: ((يُؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله، الذين كانوا يعملون به في الدنيا تَقدُمه سورة البقرة وآل عمران تُحاجان عن صاحبهما)) تُدافعان عن صاحبهما. ومن البديهي أن نقول: إن دفاع القرآن عن أصحابه لن يكون إلا للذين حفظوه وقرءوه وعلّموه وتعلموه، وقبل ذلك وبعده عملوا به.

إذن، القرآن الكريم نزل ليعمل به هذه من بدهيات الإسلام ومعروفة لدى الصغير والكبير عند المسلمين، لكي نعمل بالقرآن الكريم لا بد أن نفهم السنة؛ ففهمُ القرآن الكريم متوقف على السنة المطهرة، ولذلك هذه الدعوى التي قد يبدو أن ظاهرها فيه نوعٌ من القناعة أن القرآن حُفظ، ولم يحدث فيه تغيير ولا تبديل ولا كذا، والسنة تعرّضت لوضع وما إلى ذلك، يعني: الشُّبه التي يثيرونها حول السنة المطهرة، قد يُخدع البعض بهذا الزيف الذي قد يكون له بعض البريق الخادع، لكن الحقيقة أن الدعوى في منتهى الخطورة، لو سلمنا جدلًا بشبهتهم أو بقولهم: يمكننا الاكتفاء بالقرآن الكريم ولا داعي للسنة، سلمنا لهم ذلك، إذن سنطرح السنة جانبًا؛ وبالتالي لن نستطيع فهم القرآن، ولا تطبيق أحكامه؛ فالنتيجة هي ضياع الإسلام. إذا أعرضنا عن السنة، وإذا لم نفهم القرآن، وإذا لم نطبقه ونعمل به؛ فلا داعي لأن ننتسب إلى القرآن الكريم الذي ما نزل إلا ليُعمل به، وليخرج هذه الأمة من الظلمات إلى النور، وليهديها بفضل الله -عز وجل- ثم بجهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صراط الله المستقيم، الذي لن يقبل الله صراطًا سواه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا * وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (الشورى: 52، 53) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهدي إلى صراط الله المستقيم بالقرآن الكريم الذي ورد في الآية السابقة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} أي: القرآن، سمى الله مرة ثانية القرآن نورًا {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} و {إِنَّكَ} يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.

محاور العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية.

إذن، الذي يبين هداية القرآن، يبين نور القرآن، يبين منهج القرآن، يبين مراد الله -تبارك وتعالى- في كتابه الذي أنزله على خلقه؛ ليهتدوا به وليخرجوا به من الظلمات إلى النور- كل ذلك موكولٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولولا السنة المطهرة ما فهمنا القرآن الكريم وما طبقناه. إذن هذا غرضهم الذي يهدفون إليه، ومن ثمَّ كان هدفًا خطيرًا وخبيثًا، وهم يحاولون أن يصلوا إلى تطبيقه بشتَّى الأساليب، وبإثارة الشُّبه، ولذلك نحن نجيب عن تلك الشبه، ونبين مدى توقف القرآن الكريم في فهمه على السنة المطهرة. محاور العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية محاور العلاقة بين القرآن الكريم وبين السنة المطهرة: إن محاورها في ثلاثة: المحور الأول: أن تأتي السنة موافقة للقرآن الكريم بمعنى: أن القرآن الكريم يذكر القضية أو المسألة، ويأتي نفس الأمر في السنة المطهرة، العلاقة بينهما حينئذٍ تُسمَّى علاقة تَوَافق وتكامل، كلٌّ منهما يؤكِّد المعنى ويقرِّره؛ ليستقر في وجدان الأمة ضرورة العمل بهذا الأمر الذي نزل في القرآن الكريم، من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقول: ((المؤمن أخو المؤمن))، في رواية مسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)). هذا الحديث رواه مسلم في كتاب البر، باب تحريم الظلم، حديث المسلم أخو المسلم، هو أيضًا رواه البخاري جزءًا من حديث في كتاب المظالم، باب لا يظلم

المسلم المسلم، وفي كتاب الإكراه، ورواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم. إذن، القرآن الكريم بيَّن أن المؤمنين إخوة، والسنة المطهرة بيَّنت أن المسلمين إخوة. العلاقة بين الآية والحديث -كما قلت- علاقة توافق وتكامل الاثنان معًا تواردا وتعاضدا على تحقيق، أو على تأكيد حقيقة إيمانية مقرَّرة في الإسلام، وهي أن العلاقة بين المسلمين تقوم على الأخوة فيما بينهم. أيضًا، الله -تبارك وتعالى- يقول في سورة هود: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) وكذلك عقاب ربك وأخذه للظلم وللظالمين، إن أخذه أليم شديد، ونجد نفس المعنى تقريبًا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله ليُملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته)) هذا رواه البخاري في كتاب التفسير عند تفسير هذه الآية، عند تفسير سورة هود، ورواه الإمام مسلم أيضًا في كتاب البر، باب تحريم الظلم نفس الكتاب والباب السابقين. وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتعاطفهم، وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الأعضاء بالحمى والسهر)). هذا الحديث رواه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، ورواه مسلم في كتاب البر باب تراحم المؤمنين. التوافق بين آيات القرآن الكريم وبين السنة المطهرة، في كثير من الأحكام، الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} (النور: 32) يأتي

النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) وهذا أيضًا اتفق على رواية البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- في كتاب النكاح عند كل منهما. إذن، علاقة التوافق هذا أو التأكيد أو التعاون على إثبات الحقائق الإيمانية في كل جوانب الحياة، هذا منهج تلاقى فيه القرآن، وتلاقت فيه السنة المطهرة مع القرآن الكريم، وهو نوع من العلاقة التي أشار إليها العلماء بين القرآن الكريم وبين السنة المطهرة. لكن على كل حال قد يزعم البعض من خلال هذه العلاقة أنه يمكن الاكتفاء بالقرآن الكريم، لا داعي للأحاديث التي تؤكِّد القرآن أو توافقه؛ القرآن لا يحتاج إلى تأكيد ولا إلى موافقة، يكفي أنه كلام الله تعالى، وقد يكون لهذا الكلام خِداعه وبريقه. المحور الثاني: هو أن السنة تُبيِّن القرآن الكريم: هذا البيان ثابتٌ بنصِّ القرآن الكريم، يعني: أنها مهمة لا نمنحها نحن للسنة المطهرة من باب التعصب، أو من باب الرَّدِّ على الخصوم بدون أدلة، هذه المهمة هي مهمة قرآنية، بمعنى: أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أوكَل إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- مهمة بيان الذكر الذي نُزِّل إليهم، كما قال سبحانه في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)؛ فالله تعالى هو الذي أنزل الذكر. سواء قلنا: إن المراد بالذكر هو القرآن أو السنة أو هما معًا؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد بيَّن أن مهمة بيان القرآن الكريم موكولةٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

إذن، لا يستطيع أحدٌ أن ينازع في هذه المهمة للسنة، وإلا تناقض مع القرآن الكريم نفسه؛ فتبطل دعواه من الأصل بالاكتفاء بالقرآن، كما يزعم بعض أبناء هذه الدعوى. كيف تبين السنة المطهرة القرآن الكريم؟ في الحقيقة، أن كلمة بيان كلمة مفردة، لكن تحتها أنواع كثيرة: منها: أنها تفصِّل مجملًا، الأمر يأتي في القرآن الكريم موجزًا يحتاج إلى تفصيل، ولولا هذا التفصيل لما فهمنا المراد من القرآن الكريم، ولما استطعنا تطبيقَ أحكامه، وهذا نوعٌ من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم، يُسمِّيه العلماء تفصيل المجمل، من أمثلة ذلك "الصلاة"، ماذا ورد في القرآن الكريم عن الصلاة؟ كلها آيات تدعو إلى وجوب المحافظة على الصلاة وبيان أهميتها في الإسلام، وأنها أحدُ الأعمدة، وأحد الأركان الإسلام الحنيف، وامتدح الله -تبارك وتعالى- المؤمنين في أكثر من آية؛ لأنهم يقيمون الصلاة ويحافظون عليها، ومن ذلك قوله -سبحانه وتعالى- في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 1: 3)، وختم الآيات: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المؤمنون: 9) وفي سورة المعارج: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19: 23)، وورد الأمر الإلهي في سورة البقرة بضرورة المحافظة على الصلوات كلها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238)، وبيَّن الله -عز وجل- أن الصلاة على المؤمنين كتاب موقَّت محدد: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103).

لكن إذا أردنا أن نأخذ هذا الأمر الإلهي، وننزل به إلى موقع التنفيذ، هيا بنا نُقيم الصلاة من خلال القرآن الكريم فقط، الظهر أربعًا، أين نجدها في القرآن الكريم؟ العصر أربعًا، الظهر عند استواء الشمس في كبد السماء، كما يقول الفقهاء في تحديد وقته، العصر عندما يصير الظل كل شيء مثليه، المغرب عند غروب الشمس إلى آخره. هذه التفصيلات التي نعرفها في الفقه من خلال أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأركان الصلاة، وسنن الصلاة، وأوقات الصلاة، والقراءة في الصلاة، ومبطلات الصلاة، وشروط صحة الصلاة، تفصيلات استغرقت أحاديث كثيرة، وكُتب كثيرة عُنيت بها، كل كتب السنة التي جمعت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ستجد فيها كتاب الصلاة، عند البخاري، وعند مسلم، وعند الترمذي، وعند النسائي؛ لأهمية الصلاة، ولتفصيلاتها الكثيرة يعني: أفردوها في كتب، وكتب الفقه أفردتها في شروح كثيرة. هكذا نرى أن السنة هي التي فصّلت الصلاة، ولولا السنة ما استطعنا إقامة هذا الركن الهام والخطير، الذي يفصل بين المؤمن وغيره من ضمن ما يُفصل به بين أهل الإيمان وأهل الكفر، لولا السنة لما استطعنا تطبيق هذا الركن الهام في الإسلام. ومثل الصلاة الزكاة، وهي الركن التالي للصلاة، أيضًا وردت آيات تحثُّ على الزكاة، وتبيّن أنها أمر هام في الإٍسلام، وأنها أحد أركانه، وأيضًا في نفس سورة المؤمنون: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون} {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (المزمل: 20) إلى آخر الآيات الكثيرة، لكن إذا أردنا أن نَنزل بالزكاة إلى واقع التطبيق لن نستغني أبدًا، بل لن يمكننا أبدًا أن نفعل ذلك إلا من خلال السنة المطهرة، أين توجد زكاة عروض التجارة في السنة؟ أين توجد زكاة الإبل والغنم في السنة؟

الصيام والحج، ورغم أن الحج قال العلماء: إن القرآن الكريم تعرَّض لأركان الحج: الوقوف بعرفات: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (البقرة: 198) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) ذِكْر الصفا والمروة، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الحج: 29) الطواف، لكن بقي للسنة أيضًا تفصيلات كثيرة يعني: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} كيف نطوف؟ ومن أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ وما عدد الأشواط؟ وما شروط صحة الطواف؟ وماذا نقول في طوافنا؟ أيضًا نفس الكلام عن السعي، وعن الوقوف بعرفة إلى آخره، يعني رغم أن القرآن الكريم ذكر مجرد الذكر لأركان الحج إلا أن السنة تولَّت التفصيلات، التي لا يمكن أن يطبَّق الركن إلا من خلال فهمها ووجودها معنا، وهي أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي بينت تلك التفصيلات. حين نضرب أمثلةً بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فإننا نضرب أمثلةً بأركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين. وبإيجاز شديد نستطيع أن نقول: لولا السنة لما استطعنا إقامة بنيان الإسلام، في الحديث الصحيح المتفق عليه عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب الإيمان عند البخاري ومسلم: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، وصوم رمضان))، روايات قدمت الحج على الصوم، وروايات قدمت الصوم على الحج. أركان الإسلام الأربعة التي بعد الشهادتين، التي بدونها لن يُقام الإسلام، ولن يُبنى الإسلام، ولن يكون هناك إسلام، كل ذلك متوقف على السنة المطهرة، وأنا لا زلتُ في نوعٍ واحد من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم، وهو تفصيلُ

المجمل، وتفصيل المجمل لا يقتصر على بيان الأركان فقط، أمور أخرى كثيرة جدًّا في العبادات وفي غير العبادات تتوقف تفصيلاتها على السنة المطهرة. حين يقول الله تعالى مثلًا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور: 32) هذا أمرٌ إلهي للأمة كلها، أن ننكح الأيامى أي: الذي لا زوج لهم من الرجال والنساء، نريد أن نطِّبق هذا الأمر الإلهي، فماذا نفعل؟ إذا أراد رجل أن ينكح فماذا عليه أن يفعل؟ ما هي الخطوات العملية؟ بأي شيء تبدأ؟ تأتي السنة لتبين الخطبة، وأنها إعلان رغبة في النكاح، وتضع حدودًا ومعالم لهذه الخطبة: ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه))، وأنه يجوز النظر إلى المخطوبة فقط لتأكيد الرغبة في نكاحها، فإذا وجد في نفسه ما يدعوه إلى نكاحها تقدم إلى وليِّها، وهو بدون عقدٍ أجنبي عنها، إلى آخر الأحكام، لكن السنة بيّنت: كيف تكون الخطبة؟ ما هي حدود العلاقة بين الخاطب ومخطوبته أثناء الخطبة، ما هو العقد؟ ما هو شروطه؟ كيف يصير صحيحًا، أو فاسدًا، أو باطلًا؟ بتفصيلات كثيرة نعرفها في كتب الفقه، وفي كتب السنة. حين يقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) ما هي صور البيع الحلال؟ وما هي صور الربا الحرام؟ كيف أتحاشى الحرام وأتعامل بالحلال فقط؟ كل ذلك يتوقف فهمه على السنة المطهرة، التي بيَّنت أنواع الربا، ربا النسيئة وربا الفضل، والتي بيّنت أيضًا الأنواع التي يدخل فيها الربا، والتي لا يدخل فيها الربا، الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر ... إلى آخر الأحاديث الواردة في ذلك. تفصيلات لا حدَّ لها، ماذا أقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) نريد أن نأكل موافقين لمنهج الشرع، تأتي الأحاديث النبوية: ((يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك))، ((ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))

((ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه)) إلى آخر الأحاديث الواردة التي نستطع أن نضعها بجوار بعضها؛ لنستخرج منها ما يمكن أن نسميه بمنهج الإسلام في الطعام، بمنهج الإسلام في الثياب، مثلًا: ((ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته باليمين الكاذب))، ((إن الله لا ينظر إلى من جرَّ ثوبه خيلاء أو بطرًا))، أحاديث كثيرة بينت لنا حدود اللباس الشرعي من شكله، ومن تفصيلاته، ومن مقاسه ... إلى آخره، لكن ورد الأمر في القرآن الكريم مجملًا موجزًا مختصرًا، تكفَّلت ببيانه السنة المطهرة. نوع آخر من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم، وهو ما يمكن أن نسميه بتخصيص العام: والعام لفظٌ ينطبق على أفراد كثيرين، إذا قلت مثلًا: كل الطلاب ناجحون، هذا بمقتضى هذه الجملة ينطبق على كل ما يُمكن أن يُوصف بأنه طالب في الدنيا كلها، لو قلت في جملة ثانية مثلًا: أقصد طلاب جامعة كذا، ماذا فعلت جملة: أقصد طلاب جامعة كذا، مع الجملة الأولى كل الطلاب ناجحون؟ خصَّصتها يعني: قصرت الحكم العام الوارد في الجملة الأولى على بعض أفراده، بدل أن كان ينطبق على كل الأفراد الذين يدخلون تحت عموم الجملة بأنه طالب في أي مكان في الدنيا، صار الحكم مقصورًا أو مخصوصًا بالجامعة التي ذكرتها مثلًا: جامعة كذا. هذا هو تخصيص العام يعني: اللفظ العام الذي ينطبق على أفرادٍ كثيرين قُصر على بعض أفراده، بدل أن كان ينطبقُ على العموم المطلق الوارد في السياق الأول، في القرآن الكريم آياتٌ عامة فيها أحكام عامة، جاءت السنة المطهرة

وخصصتها، من ذلك مثلًا قول الله -تبارك وتعالى- في آياتِ المواريث في سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (النساء: 11) إلى آخر الآية. والآية التي بعدها: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النساء: 12) إلى آخر الآيات. لو أخذت الآية بظاهرها سأطبقها على كل حالات الإرث، بصرف النظر عمن هو الموروث ومن هو الوارث، الآية بعمومها تنطبق على كل أصل موروث يرثه فرعه الوارث على التفصيلات المذكورة في الآيات، وأيضًا في الأحاديث الواردة في هذا، جاءت السنة وخصصت ذلك العموم، مثلًا ((لا نورث ما تركناه صدقة)) هذا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلم عن الأنبياء يقول: ((لا نُورث ما تركناه صدقة)) يعني: الأنبياء لا يُورثون، هذا رواه البخاري في كتاب الفرائض، باب قوله "لا نورث"، ورواه مسلم في كتاب الجهاد باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا نورث"، يعني: الأنبياء لا يُورثون، أو لا يُوَرَّثُون ما تركوه صدقة، لا ينتقل بالإرث من أبنائهم أو غير أبنائهم؛ حسب الترتيب المذكور في آيات المواريث وفي أحكامه. هذا الحديث خصََّص الآية، وليس هو المُخصِّص الوحيد للآية، هناك مخصصٌ آخر، وهو اختلاف الديانتين بين الأصل الموروث والفرع الوارث، وذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا يرث الكافرُ المسلمَ))، هذا أيضًا رواه البخاري في كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، ومسلم رواه أيضًا في كتاب الفرائض في أوله، من حديث أسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنهما-. إذن، هذا أيضًا مخصص آخر، مخصص ثالث إذا قتل الفرع الوارث أصله الموروث لا يرثه؛ وذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث القاتل)) وهذا حديثٌ رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، في الجزء واحد ص49، ورواه أبو داود -رحمه الله تعالى- في كتاب الديات، ورواه غيرهم أيضًا. إذن، هناك مخصصات للآية، جاءت من خلال السنة، وكأن الآية يكون معناها على الوجه التالي بعد هذه المخصصات: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} إلى آخره، نستطيع أن نقول: إلا إذا كان الأصل الموروث نبيًّا؛ فإنه لا يُورث؛ وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث))، وعند اختلاف الديانتين بين الأصل الموروث والفرع الوارث؛ فإنه لا توارث، وذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا يرث الكافر المسلمَ))، وأيضًا إذا قتل الفرع الوارث أصله

الموروث فلا يرثه، وذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يرث القاتل))، هذه المخصصات لهذه الآية لعمومها في القرآن الكريم من أين أتينا بها؟ من السنة المطهرة، لم نأتِ بدعًا من عند أنفسنا، ولا يستطيع مسلم أن يتدخل في التشريع الإلهي أبدًا، التشريع الإلهي نستمدُّه من قرآن ربنا، ومن سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، إذن لولا السنة لطبقنا آيات المواريث خطأ. ونحن نعلم أنه قد حدثت قصة من النقاش بين الخليفة الأول أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- وبين فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- في قضية الميراث، وأبو بكر -رضي الله تعالى عنه- كان حريصًا على تطبيق السنة، فلم يعطها الإرث؛ تطبيقًا لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-. إذن، لولا السنة لما فهمنا هذه الآيات على وجهها الصحيح ولطبقناها بطريقة خاطئة، تُخالف مراد الله -عز وجل، وأعرف الناس بمراد ربه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكما قلنا: فإن الذي أعطاه مهمة بيان ما في القرآن الكريم هو الله -تبارك وتعالى-

ولم نعطها نحن تعصبًا له أو منحة أو هدية، هذا حكم الله -سبحانه وتعالى- الذي على كل مؤمن يُؤمن بالقرآن والسنة أن يخضع له. أيضًا، من الآيات التي وردت بلفظ عام، وخصصتها السنة المطهرة قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) هذه الآية لما نزلت وجل الصحابة جدًّا، وخافوا، معنى الآية بإيجاز: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: لم يخلطوا إيمانهم بظلم، لم يخلطوا إيمانهم بأي نوع من أنواع الظلم، هؤلاء فقط الذين لهم الأمن ولهم الهداية. إذا عرفنا الظلم كما يقول العلماء: هو وضع الشيء في غير محله، في أي ميدان، تُطلق بصرك إلى غير ما يجوز، هذا وضع للبصر في غير محله، فهذا ظلم، إنفاقك للمال أو جمعك له من غير ما يجوز، أو في غير ما يجوز هذا ظلم، إرسالك للسمع ليستمع إلى ما لا يجوز لك أن تسمعه هذا ظلم، رِجلك إذا سعت إلى شيء خطأ، وهكذا وهكذا، على هذا المعنى هل يوجد واحد من المؤمنين لم يظلم نفسه بصورة ما؛ لذلك خاف الصحابة وهم أهل الورع والتقوى، وهم الذين عاشوا كأنهم عاينوا الجنة والنار، وكأنهم رأوها رأي العين، فخافوا ووجلوا قالوا: ((يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟)) فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليصحح لهم هذا الفهم: ليس كما تفهمون، بيَّن أن المراد بالظلم في الآية هو الشرك، هذا الحديث رواه البخاري بسنده إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: ((لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قلنا: يا رسول الله، أيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك)) ففسر الظلم هنا بالشرك، واستدل على ذلك، قال لهم: ((أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13))).

هذا البيان النبوي الكريم لهذه الآية ماذا فعل؟ خصص العام، يعني: قصر الظلم على بعض أنواعه وهو الشرك، بدل أن كان يشمل كل أنواع الظلم أصبح مقصورًا على نوع واحد من أنواعه، وهو الشرك. ماذا فعل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الآية القرآنية؟ خصصها، ما معنى خصصها؟ يعني: قصَر الحكم على بعض أفراده بدل أن كان المراد هو كل الأفراد، هذا بيان بعض الأمثلة، والأمثلة كثيرة جدًّا من تخصيص السنة لعام القرآن الكريم وتوضيحها لبعض الأمور. أيضًا، من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم ما يُسميه العلماء بتقييد المطلق: تقييد المطلق يعني الشيء يأتي مطلقًا في القرآن الكريم، تقيِّده السنة، في المعنى بتفصيل المجمل، تعريف المجمل، تعريف المطلق، تعريف العام، تعريف المقيد، أو التقييد، كل ذلك له تفصيلات في علم أصول الفقه. المطلق: شيء واسع يأتي في القرآن الكريم، أو تأتي السنة لتقيّده، مثال ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38) الله -سبحانه وتعالى- يُحدِّد عقوبة السارق بأن تُقطع يداه؛ جزاءً له بما اقترف من الإثم، وهذه العقوبة نكالٌ من الله تبارك وتعالى. هذا معنى الآية بإيجاز. هيا بنا نُطبِّق حدَّ السرقة في ضوء القرآن الكريم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} اليد في اللغة وفي الشرع أيضًا تُطلق على هذا العضو منَّا من أول الأصابع إلى المنكب، يعني: على طول الذراع كله، استعمالها في القرآن الكريم واستعمالها في السنة المطهرة بهذا المعنى كثيرًا جدًّا، في آيات كثيرة، نعم هي تتكون من أجزاء،

تتكون من أصابع، وكل أصبع من بنان إلى عقد وبراجم إلى آخره فيه كفّ له بطن وظهر، فيه ساعد، من أول الرسغ إلى المرفق، فيه عضد من المرفق إلى المنكب إلى آخره. كلها أجزاء لكنها في النهاية تكون مجموعًا واحدًا يُطلق عليه اليد. ولذلك في آية الوضوء مثلًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (المائدة: 6) إلى المرافق، إلى المرافق لماذا جاءت؟ لتبين الغاية، أو المدى الذي تُغسل فيه اليد، ليس إلى المنكب، وإنما إلى المرافق، ولو جاءت الآية فاغسلوا أيديكم فقط، ولم يكن يُنقل لنا شيء من السنة بالتقييد لكان يجب علينا أن نغسلها إلى المنكب، لكن لمَّا أراد الله -عز وجل- هذا القدر فقط حدَّده بقوله -تبارك وتعالى- إلى المرافق ليبين أن اليد تُطلق كما ذكرنا في اللغة، وفي الشرع على ذلك العضو من أول الأصابع إلى المنكب أي: إلى التقاء العضد بالكتف، التقاء العضد بالكتف يُسمى منكبًا، هذا ظاهر الآية، بالإضافة إلى أن الآية لم تُحدّد نصاب السرقة يعني: ما هو القدر المسروق الذي تُقطع فيه اليد؟ وما هي شروط السرقة، وهذه تفصيلات أخرى جاءت في السنة. كيف طبَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- حدَّ السرقة حينما جاءه سارق قد سرق؟ في الحديث أخرجه مجموعة من كتب السنة، البيهقي وغيره: ((أُتي بسارق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقطع يده من مِفْصَل الكَفِّ -يعني: بمقدار الكف فقط)) الآية لو أنني أخذت بها كما وردت: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} سأقطع اليدين معًا لكل سارق، لم يقل الله -تبارك وتعالى-: فاقطعوا يداهما، إنما قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} إذن نقطع اليدين معًا لكل سارق، وبالمقدار الذي ذكرناه من أول الأصابع إلى المنكب. السنة طبقت الحد: أُتي بسارق للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقطع الكف فقط، ومن يد واحدة، النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلم الأمة بمراد ربه -عليه الصلاة والسلام-، وهو الذي أوكل الله -تبارك وتعالى- إليه

مهمة بيان القرآن الكريم الذي نُزِّل للناس لعلهم يتفكرون ويتدبرون في أمور دينهم ودنياهم، هذا التطبيق النبوي للآية قيَّد مطلقها، وأصبح مثالًا لتقييد السنة لمطلق القرآن الكريم، وأيضًا الأمثلة على ذلك كثيرة موجودة في الكتب لمن أراد أن يرجع إليها. إذن السنة تقيد المطلق بعد أن خصصت العام، وبعد أن فصّلت المجمل. للسنة أيضًا مهمة في البيان أخرى: وهي أنها توضّح ما أَشكل وأُبهم من القرآن الكريم، يقولون: توضيح المبهم، وأنا أميل إلى تسميته بتوضيح المشكل، أو ما أَشْكل -يعني: هي مشكلة في فهمنا نحن، وليست في القرآن الكريم، فإنه لا يوجد فيه شيء مبهم، وعلى كل حال هو تفريق من وجهة نظري يقتضيه الورع مع القرآن الكريم. لكن خلاصة هذا النوع: هو أنه تأتي بعض الألفاظ، أو المراد بعض السياقات التي لا يُفهم معناها، ولا يُحدَّد المراد منها، فيأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليبين ذلك، وهي أشبه ما تكون ببيان نوع الكلمة أو معنى الكلمة، الكلمة ونوعها، من ذلك مثلًا بيان السنة للمراد من الخيط الأسود والخيط الأبيض الوارد في قول الله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد الخيط الأبيض هو النهار، والخيط الأسود هو الليل. روى البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى سهل بن سعد -رضي الله تعالى عنه- قال: ((نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ولم ينزل من الفجر -يعني: لم تكن هاتان الكلمتان "من الفجر" لم يكن قد نزلتا بعد- وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما -يعني حتى يتمكَّن من رؤيتهما، والتمييز بينهما يظلُّ يأكل- فأنزل الله -تبارك وتعالى- بعده {مِنَ الْفَجْرِ})) وبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن سواد الخيط الأسود المقصود به هو سواد الليل، وأن

الخيط الأبيض هو بياض النهار، والخط الفاصل بينهما الذي ينتهي عنده سواد الليل، ويبدأ عنده بياض النهار هو الفجر. ومن هنا يبدأ المسلم صومه من عند أذان الفجر إلى المغرب من كل أيام من رمضان، ومن أيام أخرى يريد صيامها. إذن، السنة المطهرة تفصل مجمل القرآن الكريم، تخصِّص عامَّه، تقيد مطلقه، توضح ما أُبهم منه على بعض الأفهام، أو ما أشكل فهمه على بعض الأفهام. من خلال هذا الاستعراض هو موجز، لا نستطيع فهم القرآن الكريم إلا في ضوء السنة المطهرة، لا نستطيع أبدًا تطبيق الأحكام ولا فهمها إلا في ضوء السنة المطهرة، ومن ثَمَّ تظهر خطورة هذه الدعوى: "علينا الاكتفاء بالقرآن الكريم فقط" ويظهر خبث الهدف من ورائها، بأنهم يريدون هدم الإسلام، ماذا بقي لنا من إسلامنا بعد أن تضيع السنة، وبعد أن يتعطل القرآن الكريم عن الفهم والتطبيق. الهدف واضح، ولذلك رددنا بنوع من التفصيل على هذه الدعوى من خلال بياننا لعلاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة. السنة المطهرة توافق القرآن الكريم وتؤكد الحقائق التي ذكرها، هذه علاقة، وعلاقة أخرى تُبين السنة تبين القرآن الكريم بواحد من أنواع البيان المعروفة عند أهل العلم، وأنواع البيان: هي تفصيل المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتوضيح المشكل أو المبهم، ورغم خطورة هذه المهمة وتوقف القرآن الكريم في فهمها على السنة، من خلال هذه المهمة؛ إلا أن دور السنة المطهرة مع القرآن الكريم لم يقتصر على الموافقة أو البيان فقط، وإنما لها دور هام وخطير، هو استقلال السنة بالتشريع؛ يعني: السنة تشرّع كما يشرع القرآن الكريم تمامًا. وهذه مهمة أخرى للسنة المطهرة مع المهمتين اللتين ذكرناهما وهي بيان السنة للقرآن الكريم بأنواع البيان أو موافقة القرآن الكريم في أحكامه التي أشرنا إليها هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 4 تابع علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة.

الدرس: 4 تابع علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة.

المحور الثالث من محاور العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (تابع علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة) المحور الثالث من محاور العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد: فلا يزال حديثنا موصولًا عن المحور الثالث من محاور العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة: وهي أنها تشرِّع وتؤسّس للناس أحكامًا لم يسبق لها ذكرٌ في القرآن الكريم، وهي في هذا واجبة الاتباع تمامًا مثل القرآن الكريم يعني: السنة تُوافق القرآن الكريم، وتُؤكد أحكامه، تُبيِّن القرآن الكريم بأنواع البيان التي أشرنا إليها، وقبل ذلك وبعد ذلك ومع ذلك هي تشرِّع كما يشرِّع القرآن الكريم تمامًا. بعض الأمثلة لتشريعات السنة المطهرة التي لم يسبق لها ذكر في القرآن الكريم: من هذه الأحكام التي أسَّستها السنة المطهرة، وشرَّعتها "زكاةُ الفطر" مثلًا، الذي أوجبها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والبخاري -رحمه الله تعالى- روى بسنده إلى عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: ((فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة)) الذي فرض هو رسول الله، هكذا جاءت الرواية في الصحيحين، الحديث رواه البخاري -رحمه الله تبارك وتعالى- في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، واللفظ الذي أوردناه هنا هو لفظ البخاري -رحمه الله تبارك وتعالى- من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما. وزكاة الفطر واجبة تمامًا مثل زكاة المال، ولها تفصيلاتها في كتب الفقه، أبين أهميتها، وأنها واجبة، وتستقر في ذمَّة المسلم، وعليه أن يؤدِّيها؛ بل إن هناك من العلماء من قال: يُقاتل مانعها كما يقاتل مانع الزكاة تمامًا بتمام وسواء بسواء؛

للدلالة على أهميتها، أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- ورغم أن القرآن الكريم في المواريث فصَّل كثيرًا، آيات المواريث في النساء وفي غيرها {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) ذكر الله الميراث بتفصيل موسَّع، وهذه من المواطن في القرآن الكريم التي وسّع وفصّل فيها القرآن الكريم، ومع ذلك أبقى أشياء للسنة، وبينت السنة بعض التشريعات المتعلقة بالميراث، رغم تفصيل القرآن الكريم لأحكام الميراث بتفصيل موسع في آيات سورة النساء. جاءت الجدَّة تطلب حقَّها في الميراث من أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- هذا مثال آخر لتشريع السنة، فأبو بكر -رضي الله تعالى عنه- قال: "لا أجد لكِ في كتاب الله شيئًا" ولننتبه إلى إجابة أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- لو أن التشريع من القرآن الكريم فقط كان من الممكن أن يقتصر الصديق -رضي الله تعالى عنه- على هذا القدر من الإجابة لكنه يعلم أن السنة تشرّع كما يشرِّع القرآن الكريم تمامًا فقال لها: ولا أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى لكِ بشيء، إذن الصديق يعلم يقينًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُشرّع كما يشرّع القرآن الكريم وهو في هذا واجب الاتباع، كما يجب اتباع القرآن الكريم والأدلة على وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- هي نفسها الأدلة على حُجيّة السنة. إذن هذان مثالان لتشريع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجال الإيجاب وهناك أمور كثيرة، في الحديث في الصحيحين في كتاب الحج وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحُجّوا، قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- سكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قالها الرجل ثلاثًا، ثم قال: بعد ذلك لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم))، محل الشاهد هنا الذي جعلنا نسوقه في مجال العلاقة بين السنة المطهرة والقرآن الكريم هو أنه واضح في الدلالة على أن النبي -صلى الله عليه وسلم-

يشرّع لو قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل: نعم، يجب في كل عام؛ لكان هذا الأمر واجبًا على المسلمين جميعًا، ولما استطاعوا. إذن، قوله يُوجب على الأمة، وكان على السائل أن يتفطَّن إلى أن الحج لو كان واجبًا في كل عام لبيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير سؤال؛ لأن تأخير البيان عن موطن الحاجة لا يجوز، فلو كان الحج واجبًا في كل عام لبيّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الذكر الأول، وكان على السائل أن ينتبِه إلى هذا الأمر؛ ولذلك تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات لعله يتذكر، فلما استمر في سؤاله قال: ((لو قلت: نعم؛ لوجبت ولما استطعتم)) كأنه قال: كان عليك أن تتنبَّه إلى أن سكوتي يعني: أنه ليس بواجب، فلا تؤدي المسألة إلى مشقة على المسلمين، هذا أمرٌ غير مرغوب في الإسلام، لكن على كل حال المثال لتشريع السنة في مجال الإيجاب، كما ذكر في زكاة الفطر، وكما غيرها من الأحكام التي أشرنا إليها. في مجال التحريم: حَرَّمت السنة أشياء كثيرة جدًّا جدًّا، في كتاب النكاح، في تحريم نكاح المتعة، في كتب السنة نرجع عند البخاري ومسلم وغيرهما، النبي -صلى الله عليه وسلم- حرّم نكاح المتعة: وهو أن ينكح الرجل المرأةَ إلى أجل على قدر معلوم بينهما يعني ثلاثة أشهر سنة كيفما يتفقان، المهم أن العقد محددٌ بوقت، وأن النكاح ينتهي بمجرد انتهاء العقد، هذا نكاحٌ كان قد شُرع، ثم نسخ وحرم، المهم أن الذي أباح هو النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي حرّم بعد ذلك هو النبي -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا، في نفس حديث نكاح المتعة حرَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحُمُر الأهلية -أي حرم أكلها- وكانت قدورهم تغلي بها في يوم خيبر، فلما بلغهم نهي النبي -صلى الله عليه وسلم؛ ألقوا القدور بما فيها، وثبت تحريمها، والذي حرمها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا، النبي -صلى الله عليه وسلم- حرَّم أن تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها، يعني: القرآن

الكريم في مجال ذكره للمحرمات في النكاح قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ} (النساء: 23) إلى أن قال سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} يعني: لا يجوز للرجل أن يجمع تحته في وقت واحد بين المرأة وأختها. يجوز أن ينكحها واحدة بعد الأخرى، كأن تطلق الأولى أو تموت كما فعل سيدنا عثمان مع بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج رقية، ثم تزوج أم كلثوم، لكن أن يُجمع بينهما في وقت واحد تحت رجل واحد، هذا حرام، وفاعله يُعاقب بتفصيلات أيضًا في كتب السنة وكتب الفقه، لكن محل الشاهد هنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم كما حرم القرآن الكريم تمامًا. إذن هذا تشريع حرمته أيضًا السنة المطهرة. أيضًا، النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم كلَّ ذي ناب من السباع في أحاديث كثيرة موجودة في كتب السنة، وحرم خطبة الرجل على خطبة أخيه، وحرم بيع الرجل على بيع أخيه، وحرم أن نتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، وهناك تشريعات كثيرة وردت في هذه الأحكام، في البيوع، وفي النكاح، وفي الطلاق، وفي العدة، وفي الرضاع، تفصيلات كثيرة جدًّا جدًّا، المستقر عند العلماء أن السنة المطهرة تشرع كما يشرع القرآن الكريم سواء بسواء. هذه علاقة ثالثة بين القرآن الكريم وبين السنة المطهرة، السنة المطهرة تُوافق القرآن الكريم، السنة المطهرة تُبين القرآن الكريم، السنة المطهرة تُشرع كما يُشرع القرآن الكريم تمامًا. هكذا تحددت معالم العلاقة بين القرآن الكريم وبين السنة المطهرة.

نقاط حول علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم.

نقاط حول علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم أولًا: قضية بيان السنة المطهرة للقرآن الكريم، وأنها نوع من أنواع العلاقة المؤكدة بين القرآن الكريم وبين السنة المطهرة، هذا أمر مستقر عند العلماء وتكلموا فيه: يقول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه الرائع (الرسالة) بأسلوبه الفصيح البليغ: "فجماع ما أبان لخلقه في كتابه -أي: جماع الأمور التي بينها الله -تبارك وتعالى- لخلقه في كتابه مما تعبَّدهم به لما مضى من حكمه جل ثناؤه -يعني: ما مضى من حكمه مما تعبد به عباده جل ثناؤه- أنه بيَّن لهم ما يريده منهم من وجوه، منها ما أبانه لخلقه نصًّا -يعني: الله -عز وجل- بيَّن بالنص ما يُريده من خلقه، مثلًا في بيان فرائضه، في أن عليهم صلاة، وزكاة، وحجًّا، وصومًا، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم الزنا والخمر، أو خص الزنا والخمر بالذكر، وحرم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف كان فرض الوضوء، من أمور كثيرة بيَّنها نصًّا -جل في علاه- في كتابه، النوع الثاني: ومنه ما أحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيِّه مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه، ومنه ما سَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما ليس لله فيه نص حكم -ما سن يعني: ما فرض وما شرع وقد فرض الله في كتابه طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والانتهاء إلى حكمه، فمن قَبِل عن رسول الله فبفرض الله قَبِل. هذا الكلام عن أن السنة تُشرع وعلينا أن نسمع وأن نطيع، وبفرض الله على الأمة أن تتبع رسولها، ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم -أي: فتح

لهم باب الاجتهاد في فهم بعض النصوص، وهذا نوع من الاختبار من الله -تبارك وتعالى- كما اختبرهم في طاعته بأحكام شرعية أخرى غير باب الاجتهاد. إذن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في هذا النص يبين لنا حدود العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة. أيضًا الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه (دراسات حول الحديث النبوي الشريف) أيضًا قال وهو يستعرض السنة ومكانتها في الإسلام: "إذا أردنا تحديد مكانة السنة النبوية في الإسلام، فعلينا مراجعة الموضوع في كتاب الإسلام الأول، وهو القرآن الكريم؛ لمعرفة منزلة السنة ومنزلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه في ضوء القرآن، وبدراسة القرآن الكريم؛ نجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ووضع رقم واحد، وقال مبينًا لكتاب الله، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) فمن وظيفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يُبيِّن للناس ويفصِّل ويشرح بفعله وقوله، فيفصّل لهم ما أُجمل ويبين لهم ما أشكل، وهذه الوظيفة من الله سبحانه، وهو الذي عيَّن رسوله شارحًا ومبينًا لكتابه، ومن البديهي أن الشرح والبيان هو شيء زائد على التلاوة، وكثيرًا ما يحتاج الشارح إلى التوضيح عمليًّا، وقد فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فهل بالإمكان تجريد شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذه الوظيفة؟ وهل يتفق رفض ما شرحه من الكتاب من الإيمان بالكتاب نفسه" -يعني: هل إذا أنكر أحد شرح النبي -صلى الله عليه وسلم- للسنة الذي نعبّر عنه بالبيان، هل يكون مؤمنًا بالكتاب نفسه وهو القرآن الكريم، الذي أوكل هذه المهمة للنبي -صلى الله عليه وسلم؟ أليس هذا إنكارًا للكتاب نفسه؟ " هذا حديث الدكتور الأعظمي عن بيان السنة للقرآن. ثم يستطرد ويقول في المهمة

الثانية: "وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة يجب على المسلمين اتباعه قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21) ". قال الدكتور الأعظمي: "وهو -صلى الله عليه وسلم- مطاعٌ وجوبًا"، ثم ذكر بعض الأدلة على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- الرسول -صلى الله عليه وسلم- صاحب سلطة تشريعية ثم ذكر آيات الأعراف، هذا تعبير الدكتور مصطفى الأعظمي صاحب سلطة التشريعية: وهو ما نُعبّر عنه باستقلال السنة بالتشريع، أو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُشرِّع كما يُشرع الله -عز وجل- تمامًا، قال الدكتور الأعظمي بعد أن ذكر آيَتَيْ الأعراف، وهي قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 157، 158). كيف يَستخرج الدكتور الأعظمي من الآيات أو من هذه الآيات الحكم، أو أن السنة تُشرّع؟ يقول -جزاه الله خيرًا-: تتضمن هذه الآيات الأمر بالإيمان بالله ورسوله، كما تتضمن مقتضى هذا الإيمان وهو اتباعه -صلى الله عليه وسلم- فيما يأمر به ويُشرعه، واتباع سنته

وعمله، وليس هناك رجاء في هداية الناس فيما يدعوهم إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا باتباعه فيما يدعو إليه، ولا يكفي أن يؤمنوا به بقلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي الكامل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يبلِّغه عن ربه، وفيما يشرِّعه ويسنّه. كما تتضمن بيان سلطة النبي -صلى الله عليه وسلم- التشريعية التي منحها الله -سبحانه وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فالتحليل والتحريم هنا أسنده الله إلى رسوله، وما حرمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحلله كلاهما واجب الطاعة والامتثال بدرجة واحدة. هذان نقلان لبيان فهم العلماء والنقول كثيرة جدًّا، هذه النصوص وغيرها تُؤكّد أن الأمة أجمعت على هذا الفهم في حدود العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة، بأن السنة تُوافق القرآن الكريم، وتبين القرآن الكريم، وتشرّع كما يُشرع القرآن الكريم. أيضًا: من النقاط التي نُكمل بها الموضوع: أنه ليس معنى أن السنة تفصّل مجمل القرآن الكريم، أو تخصص عامه أن كل مجمل في القرآن الكريم، أو كل عامٍّ في القرآن الكريم، أو كل مطلق في القرآن الكريم- لا بد من تقييده، أو يحتاج إلى تقييد، لا. هذا ما اقتضت حكمة الله أن يُبيّنه، لكن هناك من تشريعات القرآن ما هو باقٍ على عمومه، ما هو باقٍ على إطلاقه، ما هو باقٍ، يعني: حسب مراد الله تبارك وتعالى، وأعرف الناس بمراد الله -عز وجل- هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الأحكام الشرعية كلها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77) كل هذه أحكام عامة باقية على عمومها ولا تحتاج إلى مخصص. بل نذكر أمرًا عظيمًا وعجيبًا يُمثِّل وجهًا من وجوه العظمة في الإسلام، ومعجزة

من معجزات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معجزة تتعلق بالمستقبل: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه أخبر بوجود هذه الطائفة التي تزعم أنها تكتفي بالقرآن الكريم، يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((ألا إني أُوتيتُ الكتاب ومثله معه)) أي: السنة ((ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بالقرآن؛ فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموه، ألا يحلُّ لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لُقَطُ معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها)) إلى آخر الحديث، هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب السنة، في باب لزوم السنة، ورواه أيضًا الترمذي وابن ماجه في كتب السنة من حديث المقداد بن معد يكرب -رضي الله تعالى عنه-. النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا عن هذه الطائفة: ((ألا يُوشك رجلٌ شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه)) هذه هي الدعوى التي تتكرَّر هذه الأيام، وستأتي أيضًا في الأجيال القادمة بعد أن أشبعت دراسة وردَّ عليها بكثير جدًّا من اجتهادات العلماء، ومع ذلك يلوكونها دائمًا حينما يريدون أن يهاجموا الإسلام، ونقول ذلك لنبين أن الدعوى في خبثها وفي هدفها النهائي تحاول القضاء على الإسلام من خلال التشكيك في السنة، ومن خلال عدم الربط، أو عدم بيان العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة. شيخنا العلامة فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة -رحمه الله تعالى- يعلِّق على هذا الحديث الذي ذكرناه الآن، يقول -رحمه الله-: "قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((يُوشك رجل شبعان)) يُحذِّر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما ليس له في القرآن ذكرٌ على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تمثَّلوا بظاهر القرآن الكريم، وتركوا السنن التي تتضمَّن بيان الكتاب؛ فتحيَّروا وضلُّوا، وأراد

بقوله: ((متكئ على أريكته)) أنه من أصحاب الترف والدِّعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم" إلى آخر ما قال -رحمه الله تعالى، هذا كلامه في كتاب (الدفاع عن السنة). يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة -رحمه الله- تتمَّة لكلامه السابق: "وقد دلَّ الحديث على معجزة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ظهرت فئة في القديم والحديث تدعو إلى هذه الدعوة الخبيثة، وهي الاكتفاء بالقرآن عن الحديث، وغرضهم هدم نصف الدين، أو إن شئت فقل: تقويض الدين كله؛ لأنه إذا أُهملت الأحاديث والسنن فسيؤدِّي ذلك -ولا ريب- إلى استعجام كثير من القرآن على الأمة، وعدم معرفة المراد منه، وإذا أُهملت الأحاديث واستعجم القرآن فقل على الإسلام العفاء". فالشيخ -رحمه الله- يوضح هدف هذه الدعوى الخبيثة، بأن غرضها هو تضييع الإسلام؛ من عدم الأخذ بالسنة، ومن استعجام القرآن الكريم الذي يتوقَّف في فهمه على السنة المطهّرة، ونستطيع أن نقول: إن هناك أحاديث أخرى وردت في بيان هذه الطائفة من ذلك ما رواه أبو رافع، فعن أبي رافع -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)). قوله: ((لا أُلفينَّ)) ينهى يقول: لا أجدن، يعني: لا أريد أن أجد أحدًا يصل إلى هذه الحالة، النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى هنا عن هذه الحالة على سبيل المبالغة، وعلى سبيل النهي الجازم الذي لا يصح أن يصل إليه مسلم في معاداته للسنة المطهرة واكتفائه بالقرآن الكريم. وأيضًا، الانتباه إلى هذا الرجل المتكئ على أريكته بمعنى: أنه في دعة وترف، ولا يُعاني في طلب العلم، ولا في أفهام العلماء، ولا يدور على المشايخ، إلى آخر ما

نعرفه من مناهج شيوخنا وعلمائنا وسلفنا الصالح في تلقي العلم، وتكبّد المشاق في سبيل ذلك، والرحلات إلى البلاد المختلفة على الناقة وعلى غيرها، وفي البر والحر والبرد، إلى آخر ما نعلمه جميعًا. إذن، هو نهي عن الوصول إلى هذه الحالة، والحمد لله هذه الحالة لم تظهر في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، لم يوجد أحدٌ أبدًا من الصحابة يقف موقف التردُّد، لا أقول الرفض في السنة وترك العمل بها، الحمد لله، برئ هذا الجيل الطاهر المبارك من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من التردِّي إلى مثل هذا الدرك السحيق. إذن، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيَّن وجود هذه الطائفة في أكثر من حديث كما قلنا، ولذلك الإمام البيهقي -رحمه الله تعالى- يُورد هذين الحديثين في كتاب (دلائل النبوة) يعني يجعل إخباره -صلى الله عليه وسلم- هنا من الدلائل على نبوته -صلى الله عليه وسلم-؛ أولًا في وجود هذه الطائفة في أنها تكاد تُنكر السنة المطهرة، أو لعلها تنكرها وتكتفي بالقرآن الكريم، وأيضًا من وصفهم بأنهم متكئون على أرائكهم في شِبع وترفٍ، يقولون: علينا بالقرآن الكريم فقط، إلى آخر ما ذُكر، فهذا أيضًا إخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم-. يعني، السنة في كثير من النصوص أخبرت بوجود هذه الطائفة، جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن بين يدي الساعة كذَّابين فاحذروهم))، وهذا أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الإمارة، يكذبون على النبي -صلى الله عليه وسلم-، يكذبون على سنته، يقفون منها موقف المعاند الجاحد المنكر، يريدون أن يضيّعوا الإسلام من خلال الزعم بالاكتفاء بالقرآن الكريم وبالسنة المطهرة. أيضًا: من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينبعث دجّالون كذَّابون، قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)) هؤلاء ما داموا يزعمون ذلك فقد وقفوا من السنة موقف المعاند، بل من القرآن نفسه، الذي أخبر أن النبوة انتهت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40).

والنبي -صلى الله عليه وسلم- حدثنا عمّا فضَّله الله تعالى به عن الأنبياء فقال: ((فُضلت على الأنبياء بستٍّ))، وهي روايات كثيرة والخصال كثيرة، لكن محل الشاهد هنا ((وخُتم بي النبيون)) إذن هؤلاء الذين يقفون هذا الموقف من السنة دجَّالون وكذَّابون، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنهم يقفون موقف المعاندة، ليس من السنة فحسب، بل من الإسلام كله، وأيضًا وردت أقوال عن الصحابة وعن السلف الصالح بشكل عام، مرت بنا كلمة عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنه-، عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: "من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب" يعني: سيقول: لا نجد الرجم في كتاب ربنا، القرآن الكريم ثبت بالسنة، هناك أحاديث كثيرة في هذا. وأيضًا أهل التفسير يقولون: إنه وُجد في القرآن حُكمًا، ونُسخ تلاوة، لكن سيكون رفض البعض مبنيًّا على أساس أنه لم يردْ في السنة، فهذا موقف من العداء للسنة، ولقد أمر القرآن الكريم بالعمل بالسنة، فالذي يرفض العمل بالسنة يرفض العمل بالقرآن، ومن هنا يأتيه الكفر. يقول أيوب السختياني إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن؛ فاعلم أنه ضالّ مُضلّ". هذا كلام السلف قال الأوزاعي -رحمه الله تعالى- معلقًا على كلام أيوب: "قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولَ فَخُذُوهُ} (الحشر: 7) وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) وهذا يؤوّل القرآن برأيه! يفهمه على هواه! يصرفه عن ظاهره بدون سند، ويزعم أننا نكتفي بالقرآن الكريم فقط دون السنة! ". ابن حزم -رحمه الله تعالى- أيضًا يقول: "لو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرًا بإجماع الأمة"، هذا كلام ابن حزم في (الإحكام) ج2 ص80، والنقول التي نقلناها عن أيوب والأوزاعي وغيرهما موجودة في (الكفاية) وفي غيرها من المصادر الإسلامية.

إذن، هذا كلام النبي -صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع الأمة وسلفها الصالح من لدن الصحابة، ومرورًا بالعصور التالية كلها، وإلى عصرنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ستظلّ الأمة تعمل بالسنة المطهّرة، وتعرف دورها مع القرآن الكريم على الوجه الذي ذكرنا؛ بل إننا نستطيع أن نقول من غير مبالغة: إن القرآن الكريم نفسه تنبَّأ بوجود هذه الطائفة التي ستقف من النبوة نفسها، ومن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- موقف العداء والمعاندة والمشاققة، يعني: مثلًا حين نقول: قال الله تبارك وتعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}، والآية التي قبلها: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الذين يقولون بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط هؤلاء يعاندون هذه الآية وغيرها ووجه المعاندة واضح، الله تعالى يقول في هذه الآية: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ولذلك نحن ذكرنا استدلال الدكتور مصطفى الأعظمي بهذه الآية على ما سماه هو سلطة النبي -صلى الله عليه وسلم- التشريعية؛ يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- يُشرِّع، وما دام النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرع؛ فالأمة يجب عليها أن تسمع وأن تطيع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لو كان الله -عز وجل- لم يعطِ لرسوله سلطة التشريع على حدِّ تعبير الدكتور الأعظمي هل كان لقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فائدة؟ أعوذ بالله من هذا الفهم الذي قد يتردَّى بصاحبه إلى دوائر الكفر من حيث يشعر أو لا يشعر، ونسأل الله -عز وجل- السلامة، ونسأله الهداية أيضًا لكلِّ متعثّر استحوذ عليه الشيطان؛ فأنساه الحق وأعماه عن القرآن وعن السنة، ووقف منها موقف المعاند الجاحد، والعياذ بالله تبارك وتعالى. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 5 أدلة حجية السنة المطهرة (1).

الدرس: 5 أدلة حجية السنة المطهرة (1).

معنى الحجية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (أدلة حجية السنة المطهرة (1)) معنى الحُجِّيَّة الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، ثم أما بعد: فنبدأ الحديث بعون من الله -تبارك وتعالى وتوفيقه- عن حجية السنة: الحجية معناها: أن السنة حُجَّة من حجج الله -تبارك وتعالى- على خلقه، يجب العمل بها، الله -عز وجل- من ضمن حُجَجِه على خلقه أنه ألزمهم بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا ورد في آيات كثيرة، وفي أحاديث. أهمية المسألة: المسألة في الحقيقة مسألة إيمانية، ومسألة عقدية، وقضية قرآنية؛ مسألة إيمانية بمعنى: أن إيمان المؤمن يتوقَّف على إيمانه بهذه الحقيقة، وهي وجوب العمل بالسنة المطهرة، وهي مسألة عقدية؛ لأنها جزءٌ من عقيدته التي يدين الله تعالى بها، والتي سيُحاسب عليها حين يلقى ربه، وهي قضية قرآنية؛ لأن القرآن الكريم اهتمَّ بها من ناحية أنها قضية إيمانية. أما كونها قضية قرآنية فهي فعلًا قضية قرآنية، بمعنى: أن القرآن الكريم اهتمَّ بها جدًّا وأولاها عناية فائقة، تتمثَّل في مجموعة من المظاهر، من ذلك كثرة الآيات التي تحدثت عن هذه القضية، قضية وجوب العمل بالسنة -أي: وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم، حين نستعرض القرآن الكريم، القرآن الكريم له قضايا اهتمَّ بها جدًّا: قضايا الوحدانية. نستطيع أن نقول بلا مبالغة: لا تكاد تُوجد صورة قصيرة أو طويلة إلا وتعرضت للوحدانية بشكل مباشر أو غير مباشر، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 255) وردت في البقرة، في آية الكرسي، ووردت في أول آل عمران: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، (النساء: 36) حين نستعرض القرآن الكريم سورة سورة سنجد التعرض للوحدانية وإثباتها؛ لأنها أم القضايا في الإسلام، ولأنها تتفرع عنها القضايا الأخرى، والبشر الذين لا يسلمون بالوحدانية يخرجون عن دائرة الإيمان، ولذلك هذا مثال للقضايا القرآنية لدرجة أن القرآن الكريم أقام الأدلة على

أدلة حجية السنة من القرآن الكريم.

الوحدانية، مثلًا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22)، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91) هذه تُصاغ في أدلة تتكوَّن من مقدمات ونتائد؟ قضية البعث مثلًا، وإنكار البعث خطير يترتب عليه إنكار كلّ ما بعد البعث: إنكار الحشر، وإنكار الجنة والنار والحساب، والصراط والميزان والحوض، ما دام لا يُوجد بعث فلا يوجد ما بعد البعث، لذلك أيضًا اهتمَّ القرآن الكريم بهذه القضية، ولا توجد سورة تقريبًا -وخصوصًا السور المكية في مواجهة أهل مكة الذين ينكرون البعث- إلا وعنيت بهذه القضية، وأقامت عليها الأدلة. كذلك قضية الاهتمام بالسنة، قضية وجوب الاحتجاج بالسنة، قضية وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحينما أدخل إلى الآيات سأستعرض عددها لأبين صدق هذه المقولة من أنها قضية قرآنية. إذن هي قضية قرآنية لاهتمام القرآن الكريم بها عبر عدد الآيات الكثيرة، أو من خلال الآيات الكثيرة التي تحدَّثت عن هذه المسألة، وأيضًا طريقة العرض؛ ما بين آيات تحذِّر من المخالفة، ما بين آيات تدعو إلى وجوب الطاعة، ما بين آيات تبيِّن جزاء المخالفين وجزاء المطيعين، وما بين آيات تعلّق الإيمان على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-. أدلة حجية السنة من القرآن الكريم منهج القرآن في معالجة القضية وطريقة عرض القرآن الكريم طريقة عجيبة، تنخلع لها القلوب فعلًا حقيقة؛ لأن المسألة خطيرة فالقرآن الكريم اهتم بها جدًّا؛ من طريقة ذكر الآيات، ومن طريقة عرض الآيات. مثلًا من الممكن أن أستدل بآية البقرة في آخرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} وأيضًا مثلًا في قول الله

-تبارك وتعالى- قبل ذلك في سورة البقرة: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} (البقرة: 252) {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} تقتضي الإيمان برسالته واتباعه في كل ما يأمر به وينهى عنه، لكن قد يجادلني البعض: أنا مؤمن برسالته لكن الآية ليست قاطعة في وجوب اتباعه، سنغلق الباب أمام هذا النقاش العقيم بالتركيز على الآيات التي قطعت في وضوح وجلاء بما لا يدع مجالًا للبس والتوقف في إعلان الآيات صراحة عن وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم. ولذلك سأبدأ بسورة النساء بعد أن وضحت طبيعة العلاقة أو منهج الاستدلال بالآيات يقول الله -تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59) في الآية مجموعة من الدلالات التي تُبيّن وجوب اتباع السنة، وتحذّر من خطورة اجتنابها أو الابتعاد عنها، بل تعلق الإيمان على ذلك. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا نداء بصفة الإيمان، وحين نستعرض القرآن الكريم نجد القرآن الكريم قد نادى بأوصاف متعددة، نادى الناس جميعًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم} (البقرة: 21)، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (الحج: 73) فالناس جميعًا مُرادون بهذا النداء، ونادى بني آدم: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف: 26) {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} (الأعراف: 27)، وقد تكرر النداء بـ "يا بني آدم" في القرآن الكريم خمس مرات: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} منها أربعة في سورة الأعراف، والخامسة في سورة يس، ونادى حتى الكفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}، ونادى

الرسل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (المؤمنون: 51). ونادى نبينا -صلى الله عليه وسلم- في نداءات كثيرة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} في مطلع سورة التحريم، وفي مطلع سورة الطلاق، وفي مطلع سورة الأحزاب، وفي آيات كثيرة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (المائدة: 41) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) كل نداء من هذه النداءات مقصود، وحين يقول الله -تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا" فإن ما بعد هذا النداء هو من مطلوبات الإيمان. وكأن الله -تبارك وتعالى- يقول لنا: لا تستحقون أن تُنادوا بهذا الوصف إلا بعد أن تُطبّقوا ما بعد النداء؛ لأنه من مطلوبات الإيمان، وكمثال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (الحج: 77) من عناصر الإيمان الركوع والسجود، {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}، ولو لم نفعل ذلك؛ لا نستحقُّ أن نُنادى بوصف الإيمان. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (الحجرات: 2) إلى آخر هذه النداءات، فحين يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59) إذن النداء بوصف الإيمان يقتضي وجوب العمل بما بعد النداء، وأنه من متطلبات الإيمان، وإلا لا نستحق أن ننادى بهذا الوصف، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فطاعة الرسول واجبةٌ على المؤمنين بمقتضى هذا النداء وبدلالته، هذا وجه من وجوه الدلالة في الآية. أيضًا، تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله -تبارك وتعالى- ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم- بينما لم

يذكر الفعل أطيعوا مع أولي الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يقول العلماء: تكرار الفعل أطيعوا هنا دلَّ على أن طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة تمامًا كطاعتنا لله -تبارك وتعالى. هذه طاعة وتلك طاعة، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، بينما طاعة أولي الأمر مرتبطة بطاعتهم لله -تبارك وتعالى-؛ لذلك لم يذكر الفعل معهم أطيعوا على وجه الاستقلال، هذه دلالة أخرى في الآية. أيضًا، رغم أهمية هاتين الدلالتين إلا أن الآية عادت وعلَّقت الإيمان على ذلك، فقال الله -تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} علَّقت الإيمان على ردِّ التنازع إلى الله وإلى الرسول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. إذن، أيُّ أمر نختلف فيه حكمه إلى الله {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى: 10) وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الآية، وتعليق الإيمان على ذلك يُبيّن أن الذي يُنازع في هذه المسألة ليس له حظّ في الإيمان. ونلاحظ بلاغة القرآن الكريم: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ما الفرق بين التعبيرين؟ واضح. {إِلَى اللَّهِ} أي: إلى كتاب الله، وهذا من البدهيَّات، كيف سنردُّه إلى الله، وهذا فهم إجماع الأمة على ذلك: ردُّوه إلى الله أي: إلى كتاب الله -تبارك وتعالى-، وإلى الرسول لو قال: إلى محمد هؤلاء الناس الذين يجادلون في كل شيء ربما قال أو زعم قال: إن محمدًا قد مات، فانتهى الرَّدّ إليه بموته، لو كان التعبير فردُّوه إلى الله وإلى محمد، كيف نأتي بمحمد لنردَّ إليه الأمر، لكن بما أن رسالته باقية إلى يوم

القيامة من خلال القرآن ومن خلال السنة؛ فالرّدّ إليه باقٍ أيضًا إلى يوم القيامة، وبذلك نحن مُلزمون بمقتضى إيماننا أن نردَّ أي أمر نناقشه ونتنازع حوله ونختلف فيه إلى الله -تبارك وتعالى- أي: إلى القرآن الكريم، وإلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. ثم سياق الآيات بعد ذلك سياقٌ عجيب، يبيِّن الموقف من التطبيق العملي لطوائف الناس، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (النساء: 60) هؤلاء زعموا باختيارهم أنهم آمنوا بما أنزل إليك يا رسول الله -عليك الصلاة والسلام- وبما أنزل من قبلك أيضًا، هذا الإيمان أو هذا الزعم بمقتضى الآية السابقة يلزمهم بأن يردُّوا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا هم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والحق أنهم قد أُمروا أن يكفروا به. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} الكفر بالطاغوت من ضرورات الإيمان، الطاغوت هنا مادة طغى فيها التجاوز والعدوان والاعتداء، وهو اسم لكل ما يمكن أن يتجه إليه من غير الله -تبارك وتعالى-؛ سواء في عبادة أو في تشريع، أو أي شيء، من ذلك. لذلك مثلًا من مهمة الرسل أن يعلموا الناس الكفر بالطاغوت: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) لا نعبد الله فقط؛ لأنه ممكن البعض يتصوّر لو لم تأتِ جملة "واجتنبوا الطاغوت" ربما يقول: أعبد الله وأعبد الطاغوت، فإغلاقًا لباب الفهم السقيم هذا نصَّت الآيات

على ضرورة الكفر بالطاغوت مع الإيمان بالله، وفي سورة البقرة قُدَّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لبيان ذلك، التخلية قدمت على التحلية؛ ليجتمع السياق كله، مرة تقدم التحلية، ومرة تقدم هذا. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة: 256) إذن هذه هي مهمة الرسل الكفر بالطاغوت، هؤلاء رغم زعمهم بأنهم آمنوا بالله وبالرسول يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والعقيدة الصحيحة مع الطاغوت هي الكفر به، {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 60) لو أحسنا الظن بهذه الطائفة، وبيّنّا موقفها هذا قد يكون عن سوء فهم، ليس عن عناد وجحود وإنكار، يعني: هم يتصورون مثلًا أن عدم استجابتهم للسنة، وأن إنكارهم لها لا يتعارض مع إيمانهم، ما موقفنا معهم أو منهم؟ سنحاول أن نفهمهم نقول لهم: هذا خطأ وخطر على إيمانكم، ويتعارض مع دلالات القرآن والسنة المطهرة. وهذا هو الذي يعلمنا إيَّاه القرآن الكريم، قبل أن نتهمهم نُحاول أن نفهّمهم، أن نجلِّي لهم الحقائق، وهذا في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (النساء: 61) إذن هم زعموا بأنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك، هذا الزعم يقتضي منهم أن يستجيبوا لما أمر الله تعالى به، ولما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ بدل أن يستجيبوا نازعوا وجادلوا، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، أحسنا النية نحوهم، وحاولنا أن نُفهمهم فإذا بهم لم يستجيبوا، ولذلك كان وصف القرآن لهم بالنفاق: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} هذا وصف الله تعالى لهم بعد أن أقيمت عليهم الحجة، ببيان الأدلة التي تحتّم ضرورة الاتباع، وفي نفس الوقت أيضًا

بإقامة الحجة عليهم في تصحيح الفهم لهم إن كان خطؤهم ناتجًا عن فهم خاطئ، لم نسارع إلى اتهامهم بادئ ذي بدء؛ إنما وضحنا لهم الحقائق جلية أولًا، هذه آية، والتناسق بين آيات القرآن الكريم والترابط بينها أمر يعرفه كل من عايش القرآن الكريم، ويعلمه لنا المفسرون، لماذا ذكر هذه الآيات بعد آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}؟ وكأنها تبين موقفًا عمليًّا لما يجب أن يكون عليه المؤمنون بهذه الحقيقة؛ أنهم لا يتحاكمون إلى الطاغوت أبدًا، وإنما يتحاكمون إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل شأن من شئون حياتهم. وتمضي الآيات في سورة النساء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64) هذه جملة ممكن أن نعتبرها خبرية، أو إنشائية جاءت في سياق خبري، يخبر الله تعالى، أو يأمر الله تعالى المؤمنين بأن يستجيبوا للرسول؛ بل يُبيّن الله لنا -عز وجل- أنها ليست قاعدة في شأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل هو منهج إلهي يقرّره الله -تبارك وتعالى- مع الرسل جميعًا، على أقوامهم أن يتبعوهم وأن يستجيبوا لهم. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، إن الرسل لم يأتوا إلا لخير البشر، في كل شيء في تصحيح عقائدهم، في تصحيح أخلاقهم، في تصحيح سلوكهم، في تصحيح وتطهير أموالهم، في تصحيح علاقتهم الاجتماعية، الله -عز وجل- أرسل الرسل لهداية البشر، لإنقاذهم من الهلكة، وأي عاقل يفكر بطريقة صحيحة عليه أن يسير في الطريق الذي أراد الله فيه هدايته. يسأل بعض الرجال عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن فعل يفعله، لماذا فعلت هذا؟ إجابة رائعة تدل ليس على إيمان قوي متين فحسب، بل على فهم عميق، هذا

الرجل يفهم لماذا هو مؤمن؟ ولماذا يتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتبع القرآن، ويتبع أوامر الإسلام! يقول: لقد كنا ضُلالًا فهدانا الله بمحمد -صلى الله عليه وسلم. نحن كلنا ضلالًا -يعني: أمر لا نُتهم به من قبل بعضنا حتى ننازع فيه، هذا وصف أطلقه القرآن الكريم على الناس قبل الإسلام، وامتنَّ الله -عز وجل- بنعمة النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأمة، بهذا النبي العظيم الذي أخرجها من الظلمات إلى النور: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164) كنا ضلالًا فهدانا الله بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فمثلما وجدناه يفعل نفعل، نحن هدانا الله به، طريقه هو طريق الهداية، وكل الطرق سواه هي طرق الضلالة والغواية والعياذ بالله، فأي عاقل رشيد يمشي في طريق الهداية، أو في طريق الغواية؟!. هذا الرائع في إجابة عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه يعلمنا لماذا نحن مسلمون؟ ولماذا اخترنا الإسلام ونسير في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم؟ هو طريق النجاة من الهلكة، الفوز بالجنة هو طريق الخروج من الجهالة من الظلمات من الشرك من كل الموبقات، التي من الممكن أن تؤدي بالإنسان إلى الدرك الأسفل، والعياذ بالله. {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} هذه آية من أرجى آيات القرآن الكريم في العفو ورجاء الرحمة والمغفرة، إذن على البشر أن يفهموا أن الرسل لخيرهم ولسعادتهم في الدنيا والآخرة، فعليهم أن يؤمنوا بهم وأن يتبعوهم فهذه دلالة الآية. أيضًا، في سورة النساء لا زلنا في سورة واحدة، وتركت البقرة وآل عمران؛ لأني التزمت بالآيات القاطعة في هذا حتى نغلق الباب أمام المجادلة التي لا فائدة من ورائها، يقول الله -تبارك وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65)

هذه الآية خطيرة جدًّا، فيها قسم من الله -تبارك وتعالى، وأسلوب القسم يتكوَّن من أربعة أركان: مُقْسِم ومُقْسَم به، ومُقْسَم عليه، وأداة قسم، المُقسم: هو الله تعالى، والمقسَم به أيضًا هو الله -تبارك وتعالى-، من وجوه الخطورة في الآية اتَّحد المقسم والمقسم به، وأيضًا هي من المرات القليلة التي أقسم الله -تبارك وتعالى- فيها بذاته بنفسه. ما هي القضية المقسم عليها؟ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} لا هنا نافية، بدلالة رفع الفعل المضارع بعدها بثبوت النون، وهو من الأفعال الخمسة، وهي لا تصلح من ناحية المعنى إلا أن تكون نافية، لا تصلح هنا أن تكون ناهية، عن أي: شيء ينهاهم، إنما هي نافية تنفي الإيمان. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} يا رسول الله في كل ما شجر بينهم، في كل شأن من شئون حياتهم، كما نرى التزمت ببيان الآيات وبيان دلالتها؛ لنستشعر خطورة المسألة. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} لم تتوقف الآية عند هذا الحد ولم تكتف بهذا القدر إنما انظر إلى الباقي {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} لا يجدوا في أنفسهم حرجًا، أي ضيقًا أو رفضًا أو إباء، أو تمنعًا مما قضيت ليس نفي الحرج فقط هو المطلوب، بل والتسليم والخضوع التام بحكم النبي -صلى الله عليه وسلم. بل إني أقول والله الذي يتذوق الإيمان يقبل على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بسعادة بفرح بحمد لله على نعمة أن وفقه الله -عز وجل- إلى حسن الاتساء والاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم. لماذا اشترط الله -عز وجل- علينا ضرورة الرضا بهذا الحكم؟ لا نجد في أنفسنا حرجًا، بل علينا أن نخضع له؟

هذا الاشتراط هو المتسق مع قضية الإيمان، هو الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، ليس في الآية شرط شديد لا يستطيعه أحد، واضح جدُّا أن هذا هو ما يقتضيه الإيمان كيف؟ يعني لو سألنا سؤالًا متى يرفض الإنسان الحكم، حين يتصور أنه حكم جائر مثلًا، أو حكم ناقص، أو أن هناك حكمًا أفضل منه، هل يجوز شيء من هذه المعاني مع حكم الله -تبارك وتعالى- أو حكم النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ أن نعتقد أن غيره أفضل، أو أنه يحتاج إلى تتمة؛ لنكمله من التشريعات الأخرى، أو ما شاكل ذلك؟ لا. {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} واضح جدًّا أن الإيمان المقنع يفرض على أتباعه أن يعتقدوا أن هذا الحكم هو أعدل الأحكام، وهو سيد الأحكام، ولذلك يخضعون له في حبّ ورضا، واستسلام، وقناعة بأن هذا الحكم خير الأحكام وسيد الأحكام وأعدل الأحكام وخير الأحكام إلى آخره. في صحيح البخاري يقول الصحابي: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمر كنا نرى فيه خيرًا، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأرشد" أصاب كبد الحقيقة، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأرشد، آيات كثيرة ستأتي معنا؛ لكني أردت هنا أن أبين أن اشتراط الرضا وليس مجرد الاكتفاء بالحكم فقط؛ إنما هو ليس فيه تصعيب ولا مشقة على المسلمين، إنما هو كما قلت، هو الذي يلتقي مع حلاوة الإيمان، مع تذوق الإيمان، بل مع حمد الله على نعمة أنني وفقت إلى تطبيق هذا الحكم الشرعي الذي أصلًا شُرع لصالحي في ديني ودنياي. ولذلك كان من الإيمان الواضح الجلي أن يشترط هذا الشرط: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

وفي سورة النساء أيضًا يقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} (النساء: 66) لننظر التناسق بين الآيات {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (النساء: 66) يعني: لو فُرض أن الأوامر النبوية أو الأوامر الإلهية وصلت إلى حدّ أن نؤمر بقتل أنفسنا، أو أن نخرج من ديارنا نقول: سمعنا وأطعنا، {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (النساء: 66 - 68) انظر إلى الجزاء الذي أعده الله إلى الفئة التي ارتقت في استجابتها إلى حد أنها لو كُلفت بأن تقتل نفسها، أو تخرج من ديارها؛ لقالت: سمعنا وأطعنا، ولذلك كان جزاؤها {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، وليس هذا فحسب، بل ننظر إلى الآية بعدها: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}. هذا إغراء من الله للمطيعين، أولًا لكي يطيعوا، ثم لكي يثبتوا على طريق الطاعة إلى أن يُرزقوا هذه الرفقة المباركة التي تعني العلوَّ في الدرجات في الآخرة، بعد أن كانت عالية في الدنيا بإذن الله -تبارك وتعالى. ولا زلنا مع سورة النساء أيضًا بعد ذلك بآيات في الربع الذي يلي هذا الربع: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} يخبر الله -عز وجل- أن طاعة الرسول هي طاعة لله -تبارك وتعالى-، ومن ثَمَّ فإن معصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي معصية لله تعالى، ولا يستطيع زاعمٌ أبدًا مهما يعني جادل أو طاول أو ناقش أن يدَّعي أنه مؤمن بالله في الوقت الذي يجحد فيه سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم، أو يجحد فيه الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أبدًا نزعم أننا مؤمنون بالله -تبارك وتعالى- في الوقت الذي نعاند أو نجحد فيه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.

سورة النساء كما نرى فيها آيات كثيرة، تركنا آية في سورة آل عمران نعود إليها لأنها واضحة في ذلك يعني هي من الآيات التي تقطع بضرورة اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويعني أقدم لها فأقول: نحن لو سألنا أحدًا في الدنيا: هل تحب الله تبارك وتعالى؟ ستكون الإجابة بالقطع نعم، بل قد يُستنكر السؤال: وهل يوجد مؤمن لا يحب الله تعالى، لكن العلامة الفارقة بين المؤمن الحقيقي والمحبّ الدعي هي التي وضعها الله -عز وجل، ونلاحظ هنا أن الذي وضعها هو الله -تبارك وتعالى-، لم يضعها النبي -صلى الله عليه وسلم، لم نضعها نحن حتى لا يُقال: إننا نعطي النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يعطه الله تعالى له، أعوذ بالله من هذا الفهم! {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} (آل عمران: 31) ماذا تفعلون كتعبير عن حبكم لربكم؟ قل لهم يا محمد، قل للأمة جميعًا إلى يوم القيامة إن قلتم إنكم تحبون الله، فعلامة الحب هذه التي اشترطها الله -عز وجل- للمحبين له هي أن يُطيعوا نبيه -صلى الله عليه وسلم، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وننطلق مع سور القرآن الكريم وسنحاول أن نقف -كما قلنا- مع الآيات التي قطعت بضرورة اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، في سورة المائدة يتكلم الله عن الخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 90، 91) هذه أحكام شرعية انظر إلى ما جاء بعدها: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (المائدة: 92) ذكر هذه الآيات بعد هذه الأحكام الشرعية، ويقطع بأننا نطيعهم في كل أمر ونهي، حتى لو خالف أهواءنا، هب أن رجلًا يحب الخمر -والعياذ بالله- يستطيع أن يجادل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} بعد الآيات وسياقها في التحذير الشديد: فهل أنتم منتهون؟ سؤال تحذيري خطير بعد أن بين مفاسدها كثيرًا يهمُّنا

هنا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} قد أدَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما عليه وبلغ في بيان وفي وضوح وفي جلاء أحكام الخمر وغير أحكام الخمر، كل ما كلفه الله -تبارك وتعالى- بيّنه ووضحه وجلّاه، وأشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة على ذلك في خطبة الوداع: ((اللهم قد بلغت، وإنكم ستسألون عن ذلك، هل بلغت؟ فيقولون: نشهد، فيرفع يديه إلى السماء ثم ينكت بها في الأرض: اللهم هل بلغت اللهم فاشهد))، {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي: فإن أعرضتم وجادلتم وتوقفتم، فإنما على رسولنا البلاغ المبين، وقد أدَّى ما عليه، وهي آية تتضمن التحذير، وتتضمن بيان النتيجة، فإن الذين يعاندون سيتحملون نتيجة هذه المعاناة. أيضًا، في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (الأنعام: 153) هذا صراط الله المستقيم المتمثل في القرآن والسنة، الآية صريحة في الدلالة على القرآن والسنة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كتوضيح لفهم هذه الآية فيما رواه الحاكم وغيره جلس، ورسم لأصحابه على الأرض خطًّا مستقيمًا، ورسم خطوطًا فرعية تخرج من هذا الخط المستقيم على الأرض، وبيَّن لهم أن هذا الخط المستقيم إنما هو منهج الله، دين الله المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، أو المستمد منهما، وأن هذه الخطوط الفرعية التي تخرج من هذا الخط الرئيس إنما على رأس كلٍّ منها شيطان، يحاول أن يبتعد بالإنسان عن السير على الطريق المستقيم، الذي هو كتاب الله تعالى، وسُنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. في سورة الأعراف الآيتان المتتاليتان وهما من أوضح الدلالات في حجية السنة، وضرورة اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (الأعراف: 157) يُبيّن لهم بعض مهمّات النبي -صلى الله عليه وسلم- في إسعاد هذه

الأمة، يأمرهم بكل ما هو خير ومعروف، وينهاهم عن كل منكر وقبيح يسبب لهم الأذى ويسبب لهم الفشل أو يسبب لهم الشر في دينهم أو في دنياهم، وينهاهم عن المنكر، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}، كل حلال طيب، وكل حرام خبيث، ولن تجد طيبًا أبدًا في الحرام، ولن تجد خبيثًا في الحلال، قواعد كلية أرساها القرآن الكريم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} جاء لرحمتنا، جاء لإنقاذنا من الهلكة، جاء لرفع الإصر، جاء لفكّ القيود والأغلال بحسن اتباعه؛ فيكون ذلك طريقًا إلى الجنة بإذن الله. {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} فقط {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}، أولئك هم المفلحون جملة معرفة الطرفين، أولئك مبتدأ، وهو من أسماء الإشارة، وهو أحد أنواع المعارف، وهم ضمير فصل للتأكيد، والمفلحون خبر، والجملة المعرّفة الطرفين، جملة تفيد القصر هذا من أساليب القصر، يعني: الفلاح مقصور على هذه الطائفة التي آمنت به وعزرته -يعني: احترمته، ووقرته، وقدرته وأنزلته منزلته اللائقة به -صلى الله عليه وسلم- من خلال الأدلة الواردة في هذا؛ {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} نصروه حيًّا، ونصروه ميتًا بنصرة سنته أيضًا؛ باتباعها، بالدعوة إليها، بالدفاع عنها، بالتمكين لها، بردّ الشبهات حولها. {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} هؤلاء فقط الذين نالوا الفلاح، والفلاح كما نعلم هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، وهو نتيجة أو أمل أو رجاء يجب أن نسعى إليه جميعًا، نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا الجنة، وهي قمة ما نرجوه من فلاح، وأن ينجينا من النار وهي قمَّة ما يُخشى من المهالك، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (آل عمران: 185)، فهذا

هو الفوز الحقيقي الذي يسعى إليه كل مؤمن، وسبيله وهو الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ونصرته، ونصرة دينه وسنته، واحترامه، وتوقيره، وتقديره، وإنزاله المنزلة اللائقة به من حسن الاتباع، والإيمان به، واتباع القرآن النور الذي أنزل معه. والآية بعده {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (البقرة: 21) قل يا محمد للخلق جميعًا هنا، والنداء هنا للناس، لماذا؟ ليبين لهم أنه رسول إلى الخلق جميعًا، وهذه الآية من الآيات الدالة على عموم رسالته -صلى الله عليه وسلم- في وضوح وقطع إلى كل البشر، من لدن بعثته -صلى الله عليه وسلم- وإلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها، قل لهم يا محمد: علِّمهم أن عليهم أن يعلموا أنك رسول إليهم جميعًا، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ما المطلوب منا؟ {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} (الأعراف: 158) اتبعوا هذا النبي الذي جاء إليكم جميعًا. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. الفلاح في الآية السابقة كان مرتبطًا بالإيمان به ونصرته، ونصرة سنته واحترامه، واتباع النور الذي أنزل معه، وأيضًا هذه الآية تُعلّق الهداية جاءت بأسلوب الرجاء "لعلكم"، والرجاء من الله -تبارك وتعالى- محقق، إذا حُقق فينا ومنا ما علّق عليه هذا الرجاء، وقد علّق الله -عز وجل- في هذه الآية الهداية على حُسن اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم. والآيات مستمرة وننتقل إلى سورة الأنفال، وهي أيضًا من السور التي وردت بها آيات كثيرة تطلب طاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أول

آياتها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) يعني: السورة في مطلع آياتها تحدِّد معالم أهل الإيمان اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، وتُعلّق الآية الإيمان على ذلك {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثم شَرَعت الآيات بعد ذلك في بيان صفات أخرى للمؤمنين، لكنها جعلت على رأس هذه الآيات: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. وتستمرّ آيات سورة الأنفال أيضًا يقول الله -تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20، 21). وأيضًا الآية نادت بصفة الإيمان التي لها دلالتها التي أشرنا إليها، وكأننا لا نستحق أن ننادى بهذا الوصف إلا إذا أطعنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 6 أدلة حجية السنة المطهرة (2).

الدرس: 6 أدلة حجية السنة المطهرة (2).

تتمة أدلة حجية السنة من القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (أدلة حجية السنة المطهرة (2)) تتمة أدلة حجية السنة من القرآن الكريم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه: كنا قد وصلنا إلى سورة الأنفال وأشرنا إلى الآية في مطلعها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الأنفال: 1) هذا أمر بطاعة الله ورسوله، وهنا في هذه الآية جعله الله تعالى من علامات الإيمان. أيضًا في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20، 21)، وفي سورة الأنفال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (الأنفال: 24) بينا أن الله -عز وجل- حين ينادي بوصف الإيمان؛ فإن ما بعد النداء يكون من مطلوبات الإيمان، التي على المؤمن أن يحققها في نفسه؛ لكي يستحق أن ينادى بهذا الوصف الإيماني. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا} فعل أمر، يطلب الله -عز وجل- من المؤمنين ويناديهم بصفة الإيمان؛ أن يستجيبوا لله وللرسول في كل ما يأمران به وينهيان عنه، {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا} يا أمة الإيمان أن الله -عز وجل-، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا يدعوان ولا يأمران بشيء إلا إذا كان فيه حياة الأمة، استجيبوا لله ورسوله إذا دعاكم لما يحييكم، وليس المقصود بالحياة هنا الحياة التي نعرفها من أكل ومشرب ومطعم؛ لا، إنما الحياة العزيزة الحياة الكريمة، الحياة الطيبة، الحياة المطمئنة. حياة العلو، والعز والتمكين، والتوفيق والسداد، والهداية والرشاد، حياة القرب من الله -عز وجل- والتماس الرضا منه سبحانه وتعالى، كل ذلك مرتبط باستجابة الأمة لكتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} على المسلم أن يعتقد اعتقادًا جازمًا أن ما يطلبه الله من عباده ما يأمر به وما ينهى عنه، وكذلك ما يأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه الفلاح والفوز والهداية والنجاح، وفيه -السعادة في الدنيا والآخرة- {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. وفي سورة الأنفال أيضًا بيان لأسباب النصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (الأنفال: 45) هذا سبب، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الأنفال: 45، 46) يعني: تبين الآيات أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إنما هي من أسباب النصر، التي تجلب العون والتوفيق والحماية من الله -عز وجل- وتستنزل نصره وتأييده وإعزازه للفئة المؤمنة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 45، 46). وأيضًا في سورة التوبة، يجعل الله -عز وجل- طاعة الله تعالى وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أهم مقومات المجتمع المؤمن، من أهم العلامات التي تُميّز المجتمع المؤمن عن غيره من المجتمعات، في قوله تعالى خصوصًا بعد أن تحدث الله -عز وجل- عن المنافقين قبل هذه الآيات، انتقل القرآن الكريم إلى الكلام عن المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: 71) ما شأنهم؟ {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (التوبة: 71) طاعة الله تعالى وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أهم سمات المجتمع المؤمن، {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

الفئة المؤمنة عُوقبت في أكثر من غزوة بأن تخلَّى عنها النصر، أو ابتعد عنها لما تخلَّت عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك في غزوة أحد مثلًا، لما ترك الرماة الموقف الذي أوقفهم إيَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلب إليهم ألا يغادروه مهما كان وضع المعركة بين المسلمين والكفار، لكنهم تصوَّروا أن المعركة انتهت لما كان النصر في أول الأمر للمسلمين؛ فنزلوا من على الجبل وكُشف ظهر المسلمين، وكان ذلك سببًا من أسباب انكسار المسلمين في تلك الغزوة بعد أن كان النصر معهم في أول المعركة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ولأننا قلنا من أول الأمر: إننا سنتوقف مع الآيات التي دلَّت في صراحة ووضوح على وجوب اتباع السنة، فإننا لن نتوقف مع الآيات التي تتضمن ذلك ضمنًا؛ حتى لا ينازع منازع في سلامة الأدلة التي نسوقها للاستدلال على هذه القضية الإيمانية العقدية الخطيرة، وهي وجوب اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. في آل عمران، وفي النساء مجموعة من الآيات كثيرة، في المائدة، في الأنعام، في الأعراف، في الأنفال، في التوبة، القرآن على مسيرته. في سورة النور مجموعة من الآيات التي تُحتّم طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد طاعة الله تعالى، وأيضًا سياق الآيات خطير حقيقة في سورة النور، كما كان في كثير من الآيات التي أشرنا إليها؛ لأننا أيضًا ننبه إلى ضرورة التنبه إلى دلالات الآيات، ليس المراد سرد الآيات فقط، وإنما التنبه إلى دلالاتها على القضية التي نستدلّ بها عليها.

في سورة النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} (النور: 47)، وبمقتضى هذا القول يلزمهم أن يطيعوا الله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يأمران به أو ينهيان عنه، لكن فعلهم لم يتطابق مع قولهم، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (النور: 47) لننظر هنا إلى حكم الله تعالى عليهم رغم قولهم: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، لم يقولوا: وعصينا، كما قالت طوائف من البشر من بني إسرائيل، إنما قالوا: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} لكنهم لم يتطابق قولهم مع فعلهم، ثم يتولى، ثم يعرض ويبتعد فريق منهم بعد ذلك عن مقتضيات هذا القول، ولم يحسِنوا الاستجابة لأوامر الله تعالى ونبيه -صلى الله عليه وسلم؛ فكانت النتيجة أن حكم الله عليهم بعدم الإيمان: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} لا يستجيبون للحق أو للمنهج الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزلت به آيات القرآن الحكيم وأحاديث سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا كان فيه منفعتهم، إلا إذا كان فيه خير لهم، إلا إذا تصوروا أن ذلك يجلب نفعًا لهم، {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}. وفي تقسيم القرآن لمثل هذه الطائفة تقسيمٌ عجيب، هؤلاء الناس الذين لا يَقتربون من منهج الحق إلا بمقدار انتفاعهم به فحسب، هؤلاء يَندرجون تحت واحدٍ من ثلاثة: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} (النور: 50) هذا تقسيمهم العقلي والواقعي لمن يتوقف ويتردد ويمتنع عن حكم الله -تبارك وتعالى-، وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ إما في قلبه مرض النفاق والعياذ بالله، وإما عنده شكٌّ، وإما يعتقد بظلم الحكم الإلهي؛ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}، وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة كافٍ في تدمير أصحابه

والذهاب بهم إلى الهلكة وإلى النار، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} نعم، هم الظالمون لأنفسهم، والظالمون لأمتهم، والظالمون لدينهم، والظالمون لقرآنهم، ولسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- حين تجافى قولهم مع فعلهم، وحين أعرضوا عن حكم الله -تبارك وتعالى-، وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم، وبحثوا عن أحكام أخرى تتوافق كما يَرونه موافقًا لمصلحتهم. وفي الحقيقة، فإن القرآن الكريم حدثنا عن طائفةٍ من الناس، اقترابها من منهج الإيمان بمقدار انتفاعها منه، لو كلفهم الإيمان مثلًا تكلفة مالية أو بدنية، في الجهاد في الصدقات كذا- ربما تثاقلوا ولم يستجيبوا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج: 11) والعياذ بالله! هؤلاء صنف من الناس -كما قلنا- اقترابهم من منهج الإيمان هو اقتراب نفعي مبنيّ على المصلحة، ليس على صدق اليقين، وعلى قوة الاعتقاد، وعلى الفهم الناضج الذي بمقتضاه يعلمون أن ما حكم به الله تعالى وما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو سيد الأحكام، وأعدل الأحكام وخير الأحكام، لكنهم نظروا فقط بمقدار منفعتهم العاجلة التي يبحثون عنها. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (النور: 47 - 49) لا يستجيبون للحق ولا يخضعون له إلا إذا كان في صالحهم وفي جانبهم، أما إذا كان عليهم فهم لا يستجيبون له، ولذلك وضعهم الله -تبارك وتعالى- تحت صنفٍ من هؤلاء الأصناف الثلاثة، وحكم عليهم بعدم الإيمان، {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} خصوصًا إذا تصاعد اعتراضهم إلى درجة الإنكار والجحود، والعياذ بالله.

ثم جاءت الآيات لتبين بعد ذلك موقف المؤمنين الخُلَّص السعداء، الفاهمين، الواعين، المدركين لعظمة هذا الدين، وعظمة أوامره، وأنها جاءت كلها لصالح المؤمن في دنياه وفي آخرته: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 51) هذا شأن المؤمنين ولذلك حكم الله لهم بأن قال -عز من قائل-: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52) فلاح وفوز، ارتبطا معًا بطاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} نالوا الفلاح ونالوا الفوز {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ختام الآيتين جاء بأسلوب القصر عن طريق تعريف الطرفين: المبتدأ والخبر، المبتدأ والخبر في كلا الجملتين جاء معرفة؛ في الآية الأولى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أولئك: مبتدأ، والمفلحون: خبر، أيضًا إشارة إلى أن الفلاح مرتبطٌ بطاعة الله -تبارك وتعالى- والاستجابة لحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} أيضًا الفوز في الدنيا وفي الآخرة مرتبط بخشية الله، بطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجاءت الجملة أيضًا معرفة الطرفين للدلالة على هذه الحقيقة وتأكيدها. في سورة النور أيضًا: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} قل للمؤمنين: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54) الفوز والفلاح والهداية كما كان في سورة الأعراف، وكما كان في غيرها من الآيات، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} كل

واحد يبوء بالحمل الذي وضعه الله -تبارك وتعالى- عليه وكلّفه به، الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلَّغ، وأدَّى، ونصح، وكشف؛ فجزاه الله تعالى عن أمة الإسلام خيرًا، وعن كل مسلمٍ استجاب له، وهداه الله به إلى معالم الهدى والإيمان. وأيضًا بعد ذلك بآيات: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} جملة من الآيات متقاربة في سورة النور أشرنا إليها، وهي أيضًا من السور التي ذكرت صراحة اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. سورة الأحزاب فيها آيات أيضًا تحثُّ على الطاعة، وتطلب من المؤمنين حسن الاستجابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) هذه الآية تنفي الاختيار عن المؤمنين حين يكون هناك حكم لله -تبارك وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم. الاختيار في حقيقته يكون بين شيئين أو بين مجموعة من الأشياء، والذي يختار يُقارن بين هذه الأشياء؛ ليختار من بينها في النهاية ما يؤدِّي إليه اجتهاده، من أنه أكثر فائدة وأقلّ ضررًا، مثلًا أشتري قطعة الأرض هذه أو تلك، أركب هذه السيارة أو تلك، أفعل كذا أو كذا أو كذا إلى آخره، أصلُ عملية الاختيار أنها لا تتم إلا بين خياراتٍ متعددة. المؤمن سيختارُ بين حكم الله -تبارك وتعالى- وحكم من لا يَستقيم في منهج الإيمان أبدًا أن يختار المسلم بين حكم الله -تبارك وتعالى- وحكم الرسول -صلى الله عليه وسلم، وبين حكم غيرهما. المقارنة أصلًا معقودة لصالح حكم الله -تبارك وتعالى- وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم؛ بل الدقة تقتضي أن نقول: لا يجوز أن ترِد المقارنة على الذهن أبدًا، كيف أقارن بين منهج الحق وبين غيره من المناهج؟ الذي يأتينا من عند الله

هو الحق ولا حق سواه، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: 32) كيف؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) أشرنا في الدروس السابقة إلى قول الصحابي الجليل: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمرٍ كنا نرى فيه خيرًا، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأرشد" نعم خير وأرشد وأنجح، وأكثر سعادة وتوفيقًا وهداية، طريق الهدى الذي عصم الله به البشرية من التردِّي في مهالك الرذيلة، ومن السير في طريق الغواية والضلالة، والظلمات والجهالة، كشف الله كل ذلك بمنهج الإيمان المتمثّل في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة. ولذلك كان نسق الآية عجيبًا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) كان من الممكن مثلًا أن يكون التعبير القرآني: وما كان لرجل وامرأة أو لذكر وأنثى أو لبشر إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. إنما آثر القرآن الكريم التعبير بوصف الإيمان، هل يوجد مؤمن في الدنيا تردُ على ذهنه المقارنة بين حكم الله -تبارك وتعالى- والنبي -صلى الله عليه وسلم- وبين حكم غيرهما؟ مستحيل، ولذلك اختار الله -عز وجل- صفة الإيمان التي تنبّه المؤمن العاقل الرشيد إلى أنه لا يجوز له أبدًا أن يُقارن هذه المقارنة الظالمة الآثمة التي قد تؤدِّي بصاحبها إلى الهلاك والتردِّي والعياذ بالله، ولذلك أيضًا ختم الله -تبارك وتعالى- بقوله -عز من قائل-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} وكأن ختام الآية بوصف المعصية بالضلال؛ لتبين لنا أن مجرد الاختيار، أو أن يرد على الذهن اختيار أو ترد مقارنة، هذه في حد ذاتها معصية، حتى لو انتهى المؤمن بعد ذلك إلى اختيار

حكم الله -تبارك وتعالى- وحكم نبيه -صلى الله عليه وسلم. ما موقفه إيمانًا أو إيمانيًّا من الأوقات التي توقّف فيها، وجلس يقارن بين حكم الله -تبارك وتعالى- وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- من ناحية، وبين حكم غيرهما. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أيضًا في سورة الأحزاب، وهي وإن كانت في ترتيبها قبل هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) في الحقيقة الله -عز وجل- في هذه الآية حصر أسوة المؤمنين في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقصرها عليه، بمقتضى هذه الآية ليس من حقنا أبدًا أن نأتسي بغير النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا القصر أودُّ أن ألفت النظر إليه عن طريق إعراب الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} نقول: اللام للتأكيد، وقد حرف تحقيق، كان فعل ماض، هذا من البدهيات، كان لكم: جار ومجرور متعلق بالأسوة، هذه الأسوة لكم يا مؤمنون، لقد كان لكم: أين اسم كان وخبرها؟ لقد كان لكم في رسول الله: هذا جر في رسول جار ومجرور خبر مقدم، أو متعلق بمحذوف خبر مقدم كما يقول النحاة، ولفظ الجلالة مضاف إلى رسول، في رسول: خبر مقدم أو متعلق بخبر مقدم، ولفظ الجلالة مضاف إليه، وأسوة: هي المبتدأ، أو هي اسم كان، وأسوة نكرة، وأهل النحو يقولون: لا يجوز الابتداء بالنكرة إلا بمسوغات، ومنها أن تُوصف كما هي هنا، حسنة: صفة لأسوة، وترتيب الجملة على النسق النحوي: لقد كان أسوة حسنة في رسول الله لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. وفي الحقيقة فإن علم النحو لا يمنع من أن تأتي الجملة على ترتيبها النحوي المعهود: المبتدأ أولًا والخبر ثانيًا، خصوصًا أن كلمة "أسوة" كما ذكرنا وُصفت، وما دامت قد وُصفت فلا مانع من أن تأتي بها أولًا، وقد جاء ذلك في القرآن الكريم في سورة الممتحنة مثلًا {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} (الممتحنة: 4)

الجملة هناك في سورة الممتحنة جاءت على ترتيبها النحوي المعروف، إنما في سورة الأحزاب لم تأتِ على ترتيبها النحوي رغم أن علم النحو -كما ذكرنا- لا يمنع؛ نظرًا لأن المبتدأ -وإن كان نكرة- إلا أنه وُصف؛ إذًا فإن السبب هنا بلاغي، وهو إفادة القصر، بمعنى أن الله -عز وجل- جاء بالجملة على النسق البلاغي؛ بمعنى تقديم الخبر أولًا على المبتدأ؛ ليبين أن أسوة المسلمين وقدوتهم محصورةٌ في رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ليس من حقهم أبدًا أن يأتسوا، أو أن يقتدوا بغيره أبدًا، ولذلك {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} لكم: الخطاب لمن؟ للمؤمنين، هو لا يخاطب الذين لم يؤمنوا برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} أسوتنا بمقتضى هذه الآية محصورة في النبي -صلى الله عليه وسلم، أو فيمن يبيح لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نأتسي بهم، كما في الحديث الصحيح مثلا: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)). حين يبيح لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نأتسي بسنة الخلفاء الراشدين المهديين هل هذا متعارض مع الآية؟ لا. لأن استجابتنا لهدي الخلفاء الراشدين إنما هو اتباع للسنة من وجهين: الوجه الأول: أن اتباعنا لهديهم هو امتثال لأمره -صلى الله عليه وسلم- الذي قال لنا ذلك: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي))، وأيضًا لأن هدي الخلفاء الراشدين لا يُخالف هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بل هو تابع له؛ فاتباعنا لهم إنما هو اتباعٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- من هذين الوجهين معًا. وحين تقصر الآية أسوة الأمة في النبي -صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يوضّح بجلاء حجية السنة؛ لأننا نطرح تساؤلًا: كيف نأتسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؟ الائتساء به يكون بامتثال أمره

واجتناب نواهيه، ولذلك كما قلنا في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59) لماذا آثر التعبير بالرسول؟ ولم يقل: فردوه إلى الله وإلى محمد؟ لإغلاق الباب أمام أي زاعم يزعم: أن محمدًا قد مات، فانقطع الرد إليه بموته، نفس القضية هنا في سورة الأحزاب "لقد كان لكم في محمد أسوة حسنة" لا. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، إذن بما أن رسالته مستمرة فالائتساء به مستمرٌ إلى يوم القيامة، ولو جاءت الآية "لقد كان لكم في محمد" لربما زعم زاعم من المعاندين دائمًا يقول: إن محمدًا قد مات، فالأسوة به قد انقطعت بموته، لكن رسالته باقية، وسنته قائمة؛ فالائتساء بهما قائم إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والخطاب هنا للمؤمنين، ومعنى ذلك: أنهم قد يتخلون عن منهج الإيمان إذا لم ينفّذوا هذا الأمر الإلهي الكريم، وهو حصر الأسوة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي سورة الأحزاب أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70، 71) الفوز العظيم الذي لا تصور لعقل بشري لمداه مرتبط بطاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وهذا الفوز يستمر بصاحبه إلى أن ينجيه الله تعالى من النار، وأن يدخله الجنة كما ورد في قوله -تبارك وتعالى- في سورة آل عمران: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185)، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 71). أيضًا في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ

حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 17). قبلها في سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- سورة القتال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 33)، في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1) ونلفت النظر أيضًا إلى دلالة النداء بوصف الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بعد أن نادانا الله -تبارك وتعالى- بهذا الوصف ماذا يطلب منا؟ {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أين مفعول لا تقدموا؟ ينهانا الله أن نقدم ماذا؟ هنا حُذف المفعول للعموم؛ لا تقدموا حبًّا على حبهما، لا تقدموا ولاء على ولائهما، لا تقدموا حكمًا على حكمهما، لا تقدموا طاعة على طاعتهما، لا تقدموا انقيادًا لأحد على الانقياد لهما، لا تقدموا، لا تقدموا، كل ما يمكن أن يتصوره العقل من صور التقديم لأي شيء تتعلق به أهواؤنا أو نفوسنا، أو يدفعنا إليه الحرص على المال، أو المنصب، أو ما شاكل ذلك، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم} (الحجرات: 1). بل إن القرآن بالأحرى يطلب من المؤمنين ألا ترتفع أصواتهم فوق صوت النبي، وأيضًا ليست بعيدة هذه الآية عن الاستدلال للسنة، الذي مجرَّد أن يرفع صوته مع النبي -صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان النبي حيًّا أو ميتًا، فإنما يبوء بوزر عظيم، وقد يتعرض لخطر شديد كما وردت الآية: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الحجرات: 2) رفع الصوت فقط قد يؤدِّي إلى أن تحبط الأعمال والعياذ بالله، فما بالك بمن يقدّم حكمًا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!.

تحذير القرآن الكريم من مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

في سورة المجادلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} طاعة الله ورسوله فإن لم نفعل قد نتعرَّض لخطر شديد نبهنا إليه مرارًا، إذا لم نقدم بين يدي نجوانا صدقات على مناقشة لأحكام هذه الآية، فإن لم تفعلوا فطاعة الله ورسوله واجبة حتمًا عليكم، وعليكم أن تستجيبوا لهذا الأمر الإلهي. أيضًا في سورة التغابن: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (التغابن: 12) أمر بطاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لما نتعرض لحجية السنة من القرآن الكريم لا يكاد البعض يتصوَّر إلا آية الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) ولذلك قلنا في أول حديثنا عن حجية السنة من خلال آيات الذكر الحكيم: أنها قضية قرآنية. هذه دلالات كثيرة في الآيات تبين خطورة المسألة وأنها فعلًا قضية قرآنية. تحذير القرآن الكريم من مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- والآن سنعود لنبدأ مع القرآن من جديد لنقف أيضًا مع آيات أخرى في طريقة عرضها لهذه القضية، وهي الآيات التي حذَّرت من مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 31، 32) إن وصلت معاندة السنة إلى حد التولي والإعراض، والإنكار والجحود؛ فإن ذلك ينتقل بصاحبها من معسكر الإيمان إلى معسكر الكفر والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، والدليل على ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.

أيضًا، في سورة النساء حين تحدثت الآيات الكريمة عن قضية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) ختم الله الآيات بعد ذلك {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}؛ إشارة إلى كل ما ذكره من تفصيلات في الميراث، وإياك أن تُعرض عن حدود الله، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 13، 14) إشارة إلى الحدود، تشريعات من الله -عز وجل-، لا يجوز لنا أن نتجاوزها، وتشريعات من النبي -صلى الله عليه وسلم- في المواريث وفي غيرها، هذا ما حدَّه الله تعالى، وهذا ما حدَّه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ما بيَّنه للأمة، على الأمة أن تقول: سمعنا وأطعنا، ولذلك مُدح المؤمنون بأنهم وقَّافون عند حدود الله، محافظون عليها، مستجيبون لها، مستمسكون بها، لا يحيدون عنها قيد أنملة، في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة: 112) {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أي: الذين يستجيبون لحكم الله -تبارك وتعالى-، وحكم نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فيأتمرون بما أمر به وينتهون عما نهى عنه. وفي سورة النساء أيضًا: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115) كيف تكون مشاققة الرسول ومعاندته ومحاددته؟ بالإعراض عن سنته، بعدم الاستجابة لأمره، ولن يشفع لأي متقوّل -حتى لو قال: آمنت بالله وبرسوله- ما لم يعضد قوله بالتنفيذ والاستجابة لحكم الله -تبارك وتعالى- وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم-.

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} وحتى الآية نصَّت على الرسول فقط هنا؛ للدلالة على أهمية المسألة، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وفي سورة الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 13) سُلَّط على المعاندين العذاب، لماذا؟ لأنهم شاقوا الله ورسوله، {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وآية النساء التي ذكرناها: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} شدَّة العقاب التي أشار الله إليها في سورة الأنفال وردت في آيات كثيرة، ومنها سورة النساء التي ذكرناها، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. أيضًا في سورة التوبة من الآيات التي حذَّرت من مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبيَّنت مغبَّة ذلك قول الله -تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 63) ذلك الخزي العظيم المتركز في محاددة الله -تبارك وتعالى- ومحاددة رسوله -صلى الله عليه وسلم- {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} شديد عقابه، خزي عظيم في الدنيا والآخرة يتسلط عليه؛ لمعاندته ومشاققته ومحاددته لمنهج الله -تبارك وتعالى-، ومنهج رسوله -صلى الله عليه وسلم. في سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) يصيبهم بلاء، فتنة، ضلال، أو عذاب أليم، حين تُخالف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتصدر عن هدي غير هديه، وتطبّق منهجًا غير منهجه؛

فأنت قد عرّضت نفسك لغضب الله، ولذلك العقاب الشديد الذي أشارت إليه الآيات {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. في سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} (محمد: 32) الضرر واقع عليهم، البلاء محيط بهم، إحباط أعمالهم، تضييع ثمرة جهدهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}. في سورة المجادلة آيتان: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (المجادلة: 5) كبت، مهانة، ذلّ، خسار، حسرة، ندم {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}. أيضًا في سورة المجادلة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّين} (المجادلة: 20) الذين يُحادون الله ورسوله، هؤلاء ضُربت عليهم الذلة والمسكنة والمهانة، والخزي والعار والندامة، أتوا به لأنفسهم وجلبوا كل ذلك لهم؛ بمعاندتهم ومحاددتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومحاددتهم لله -تبارك وتعالى-، وأيُّ محاددة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي محاددة لله -تبارك وتعالى-؛ لأن الله -عز وجل- هو الذي أوجب طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك خُتمت السورة ببيان أن العزة والفلاح للفئة المؤمنة المطيعة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، المقدّمة لولائها لله -تبارك وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- على أي ولاء آخر. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّين * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (المجادلة: 20، 21) قضى الله تعالى قضاء محكمًا مبرمًا لا بد أن يقع حتمًا بأنه هو الغالب ورسله -عليهم الصلاة والسلام-، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، لا توجد مواددة

أبدًا بين مؤمن وبين من حادّ وعاند، وشاقق وخالف وعاند منهج الله -تبارك وتعالى- ومنهج رسوله -صلى الله عليه وسلم: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة: 22). بعد الاستعراض لهذه الآيات، هل يجادل أحد في أن حجية السنة قضية إيمانية، وقضية عقدية، وقضية قرآنية؟ وهل إذا تعرضنا لهذه المسألة لا نكاد نذكر إلا آية الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولَ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} رغم أهميتها، ونترك هذا العدد الهائل من الآيات التي جاءت على امتداد القرآن كله من السور الطويلة، والسور القصيرة إلى آخره؟! وصلِّ الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 7 أدلة حجية السنة المطهرة (3).

الدرس: 7 أدلة حجية السنة المطهرة (3).

أدلة حجية السنة من الأحاديث النبوية الشريفة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (أدلة حجية السنة المطهرة (3)) أدلة حجية السنة من الأحاديث النبوية الشريفة الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: حجية السنة المطهرة من خلال أحاديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وكما اهتمَّ القرآن الكريم بقضية السنة اهتمت السنة أيضًا، نبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثيرٍ من الأحاديث إلى ضرورة اتباعه واتباع هديه -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك عَقَد المُحدِّثون كُتبًا في أبوابهم؛ لضرورة اتباع السنن واجتناب البدع، فعل ذلك الترمذي، وفعل ذلك أبو داود -رحمهم الله جميعًا- والإمام البخاري عقد كتابًا، باب الاعتصام بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والاهتداء بهديه -صلى الله عليه وسلم. إذن، الأحاديث كثيرة جدًّا، وأيضًا سنتوقف مع الأحاديث التي تدل في صراحة ووضوح على ضرورة اتباع السنة المطهّرة، روى البخاري ومسلمٌ -رحمهما الله تعالى- من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قولَه -صلى الله عليه وسلم: ((كل أُمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) هذا حديثٌ رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والحديث له دلالته: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) فقد عاند وجحد، الذي يتوقف في السنة وفي حجيتها، وفي وجوب طاعتها وحين سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الذين أبوا عرَّفهم بأنهم هم الذين عصوا الرسول -صلى الله عليه وسلم، الذين عاندوه، وشاققوه، وحاددوه، وابتعدوا عن هديه، والتمسوا هديًا آخر غير هديه -صلى الله عليه وسلم-، هؤلاء هم اختاروا طريقهم هم أحرار، لكن القضية أن تشتدّ الظلمات عليهم، فيتصورون أنهم لم يبتعدوا عن هدي القرآن الكريم، أو عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وفي الحقيقة القرآن الكريم والنبي -صلى الله عليه وسلم- نزلت عليه هذه الآيات؛ لتبين أن هناك أناسًا قد تضيع أعمارهم في الشرِّ والباطل، وهم يتصورون أنهم يحسنون صنعًا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103، 104) نسأل الله -عز وجل- أن يبصّرنا، وأن يهدينا، وألا تصل بنا العماية إلى هذا الحد المهين والعياذ بالله! فتضيع الأعمار، ويتصور أصحابها أنهم قد أفنوها في خير، أو في برّ، يظل طوال عمره يجحد السنة، ويشكك في الأحاديث، وفي هدي النبي -صلى الله عليه وسلم، ويؤلف الكتب في ذلك، وهو يتصور أنه قد يقدّم خيرًا لإسلامه، فنسأل الله العصمة والسلامة. أيضًا، من الأحاديث التي وردت في هذا حديث رواه البخاري ومسلم، وله قصة، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا، قالوا: أفي كل عام يا رسول الله؟ سكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قالها الرجل ثلاثَ مرات، ثم قال: لو قلت: "نعم" لوجبت، ولما استطعتم)) القائل هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قال: نعم؛ فقد وجبت الطاعة. إذن، النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين أنه يشرع وأن تشريعه يجب على الأمة، وبعد ذلك حذر الأمة فقال: ((ذروني ما تركتكم)) ما دام أنا سكت اسكتوا أنتم، ولو كان الأمر واجبًا في كل عام لبيّنته من غير سؤال؛ لأن تأخير البيان عن موضع الحاجة لا يجوز، كيف أتأخر عن بيان أمرٍ كلفني الله -تبارك وتعالى- به وهذا هو موطنه، هل كان الحج واجبًا على الناس في كل عام، أو هل يكون الحج واجبًا في كل عام، ثم يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا)) ويسكت من غير أن يبين أنه في كل عام، ولذلك كان على السائل أن يتنبَّه إلى أن سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- دلالة على أنه ليس مفروَضًا في كل عام.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأحوال يخشى أن تؤدِّي كثرة المسائل إلى مشقَّة على المسلمين، فيكون صاحبه من أعظم الناس جُرمًا حين تؤدِّي أسئلته إلى مشقة على المسلمين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الرءوف الرحيم بهذه الأمة، ولذلك طلب من الأمة ((ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم))، ولعله -صلى الله عليه وسلم- يشير إلى ما ورد في سورة البقرة من موقف بني إسرائيل حين طلب منهم الله -عز وجل- على لسان نبيه موسى -عليه السلام- أن يذبحوا بقرة، ولو أتوا إلى أي بقرة وذبحوها لكانوا قد استجابوا لأمر الله، ولكنهم جعلوا يضعون أسئلة يشقُّون على أنفسهم؛ فشق الله عليهم ولم يجدوها إلا بصعوبة. على كل حال، هذا حديث يُبيِّن أن على المسلمين أن يستجيبوا لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم، وألا يسألوا أو يجادلوا ما دام الأمر واضحًا وجليًّا. أيضًا، من الأحاديث التي تدل على اتباع السنة: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه))، أو ((وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) هذا حديث أيضًا رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأيضًا هو من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه: ((إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) هذا توجيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة أن تفعل ما يأمرها بها، أو ما يأمرها به نبيها -صلى الله عليه وسلم- وأن تنتهي عما نهى عنه. لكننا نلاحظ أنه في مجال الأمر قال: ((فأتوا منه ما استطعتم))، ونطرح هنا تساؤلًا هل ينطبق ذلك على الواجبات، لا، لماذا؟ لأن الواجبات لا بد من فعلها، حتمًا على المسلم أن يفعل ما أوجبه الله تعالى عليه، أو ما أوجبه عليه رسوله -صلى الله عليه وسلم- يعني: مثلًا لما ضربنا مثالًا لما أوجبته السنة بزكاة الفطر مثلًا، فهل يملك المسلم ألا يخرج زكاة الفطر، لا يستطيع ذلك، ولا يملك هذا: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) أمرٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نبدأ الصيام حين نرى هلال

رمضان، وأن نفطر حين نرى هلال شوال، هل نملك غير هذا؟ لا نملك غير هذا، إنما "استطعتم" تنصرف إلى غير الواجبات، لا تُحمل على الوجبات لسببين: السبب الأول: أن الوجبات لا بد من فعلها. والسبب الثاني: أن الله -تبارك وتعالى- ونبيه -صلى الله عليه وسلم- لم يُوجبا على الأمة إلا ما تستطيع أن تفعله؛ لأن أصل التكاليف مبنيٌّ على القدرة والاستطاعة، {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، ورفع الله الإصر عن هذه الأمة؛ تكريمًا لنبيها -صلى الله عليه وسلم- في صور كثيرة، وخفف عنها في أحكام كثيرة. إذن، ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) لا يحق لأحد أن يأخذ منه دليلًا على الكسل أو التراخي في الاستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في غير الواجبات، بل إن الحديث يضع قاعدة هامة جدًّا هنا وهي أن العلاقة بين المسلم وبين أمور الشرع غير الواجبة هي أن يأتي منها ما استطاع، بعبارة أخرى: ألا يتركها حين يكون مستطيعًا، إننا لو أخذنا معنى السنة بالمعنى الفقهي: ما يُثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فهل منا من هو مستغنٍ عن الثواب، لا أحد من المسلمين يستغني عن الثواب أبدًا، وقد يحتاج ميزانه يوم القيامة إلى بضع حسنات تثقل وترجح بهما كفة الحسنات حتى ينجو الإنسان من هول ذلك اليوم الشديد. إذن ((فأتوا منه ما استطعتم)) تربية للأمة أن العلاقة بين الأمة وبين أوامر شرعها المستمدة من كتاب ربها ومن سنة نبيها -صلى الله عليه وسلم- هي علاقة حب، هي علاقة أداء برغبة، بتطلع، بشغف، بحمدٍ لله على التوفيق إلى نعمة الاستجابة. كثير ما نلاحظ في واقع الأمة يعني: هذا أمر سنة، يعني: ليس واجبًا! يكسل عنه البعض، هذا يتعارض مع قوله -صلى الله عليه وسلم: ((فأتوا منه ما استطعتم)) لا نستهين

بشيء من أوامر الشرع، ولا نقول: إنه ليس بواجب، أنت لست مستغنٍ عن الثواب. وفي الحقيقة، هذا كان منهج الصحابة في التعامل مع أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم، لم يدخلوا إلى المسألة من باب: هل هذا واجب أو غير واجب؟ وإنما يكفيهم شرف الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولذلك مثلًا لم نسمع أن صحابيًّا لم يكن ملتحيًا مثلًا؛ لأنهم لم يدخلوا إلى الأمر بالمناقشة التي تُجرى الآن: واجبة أو غير واجبة؛ إنما النبي -صلى الله عليه وسلم- ملتحٍ فليقتدوا به، يلبسون كما يلبس، ينامون كما ينام، يأكلون كما يأكل، يعني: يتتبعون هديه في كل صغيرة وكبيرة بشغف وحب وتقدير واحترام، ورغبة صادقة في هذا الائتساء العظيم؛ رجاء ما عند الله، وأن يفوزوا، وأن ينالوا القرب من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة وشفاعته بإذن الله -تبارك وتعالى-. أيضًا، من الأحاديث التي تدل على وجوب اتباع السنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حقيقة خطير وهام، حديث حذيفة -رضي الله تبارك وتعالى عنه- في الصحيحين، وهو حديث فيه فوائد عظيمة وجليلة، لكني سأقتصر على الجزء الخاص بمتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومتابعة القرآن الكريم، هذا الحديث يقول حذيفة -رضي الله تعالى عنه- في مطلعه: ((حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال)) يعني الفطرة أمانة التكاليف بمعنى: أن الله فطرنا عليها وعلى معرفتها، إما أن نطبق بعد ذلك أو لا نطبق، ((حدثنا أن الأمانة نزلت في جَذر)) جَذر وجِذر، يجوز فتح الجيم وكسرها، وهي الجذر: أصل كل شيء، كما هو أصل النبات هو أصل كل شيء، محل الشاهد: ((ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة))، السنة تُشرّع كما يُشرع القرآن الكريم تمامًا، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة.

وبإيجاز، الله -عز وجل- فطرنا على معرفة الحق والاهتداء إليه، ولكن الله -عز وجل- لم يُقم حجته علينا بالفطرة فقط؛ لأن الله -عز وجل- يعلم أن الفطرة قد تُنسخ بفعل فاعل، كما ورد في الحديث الصحيح: ((كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدناه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)) ولكي لا يعتذر معتذر بأن فطرته قد مُسخت، ولم يعد يعرف الحق من الباطل، أو يعرف الخطأ من الصواب أنزل الله ما يريده من عباده في كتاب تعهد بحفظه، وفي سنة أيضًا تعهد بحفظها، أرسل بالاثنين معًا رسوله -صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن؛ فعلموا من القرآن وعلموا من السنة)) أي: أقام الله عليهم الحجة برسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الكريم، وبالسنة المطهرة. ولا يستطيع مسلم أن يزعم الآن أنه لا يعرف ما يُراد منه على وجه التحديد، إلا أن يكون ذلك من باب المجادلة العقيمة، أو من باب التنطع، ونسأل الله -عز وجل- السلامة من كل ذلك. حديث حذيفة هذا رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الرقاب باب رفع الأمانة، وفي الفتن باب إذا بقي حثالة من الناس، ورواه في كتاب الاعتصام باب الاقتداء بسنن الله -صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان باب رفع الأمانة والإيمان من القلوب. أيضًا من الأحاديث التي تدل على وجوب اتباع السنة ما ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث رواه الترمذي -رحمه الله تعالى- ورواه أيضًا أبو داود وغيرهما. قال عنه الترمذي: إنه حسن صحيح، من حديث العرباض بن سارية -رضي الله تعالى عنه- قال: ((صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا -أي: وإن كان الذي تولَّى أمركم عبدًا حبشيًّا-

فإنه من يعشْ بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)). هذا حديثٌ رواه الإمام أحمد ورواه الترمذي، وكما قلنا: رواه الترمذي في كتاب العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع. العصمة من البدعة العصمة من الاختلاف، العصمة من التنازع، العصمة من تعدد الأهواء، كل ذلك مرهون باتباع كتاب الله -تبارك وتعالى، واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم. ((تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) لا تفرطوا فيها أبدًا، لا تستبدلوها بغيرها، لا تركنوا إلى أي حكم آخر غير حكم الله -تبارك تعالى- وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- ((تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))، نسأل الله السلامة من الضلالات ومن البدع. إذن، السنة عصمة من الاختلاف، عصمة من البدع، وفي الحقيقة أنا أقول لكل مسلم: لا وسط، أنت في أي موقف من المواقف إما أن تكون على بدعة، وإما أن تكون على سنة، حين لا تكون على سنة فبالضرورة يكون الموقف على بدعة؛ لأنه لا وسط بينهما، هذان من الأمور المتضادة التي لا تجتمع معًا ولا ترتفع معًا، في أي قضية من القضايا في جمعك لمالك أنت متبع للسنة، أو مخالف لها فأنت على بدعة، في معاملتك لأهلك وأولادك، في طعامك في شرابك، لا وسط، ((وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة)) والبدعة ضلالة، وقد تؤدي بصاحبها إذا استمسك بها واستمر عليها أن يكون من أهل النار، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. أيضًا، من الأحاديث التي وردت في وجوب اتباع السنة ما رواه البخاري -رحمه الله-

من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنهما- قال: ((لعن الله الوَاشِمَات والمُسْتَوْشِمَات، والمُتنمّصات))، وفي رواية: ((والنَّامِصَات والمُتَنَمِّصَات، والمتفلِّجات للحسن، المغيرات خلق الله)) قالت له امرأة من الأنصار تُسمى بأم يعقوب: ما هذا؟ وفي رواية: "فقالت امرأة في ذلك" بمعنى: أن المرأة تستغرب من عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- وهو أحد أكابر الصحابة في علمه، وفهمه، وزهده، وورعه، ومن أصحاب الصلة الوثيقة بكتاب الله -تبارك وتعالى، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ومن السابقين للإسلام يقول: ((لقد رأيتني وأنا سادس ستة ما يوجد على الأرض مسلم غيرهم)). الحديث كأنه في الرواية هذه هو من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه في هذه المرة كأن عبد الله هو الذي قال ما نسميه موقوفًا، أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال؛ إذن عبد الله بن مسعود هو الذي يقول. ماذا قال؟ قال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات)) إلى آخر ما ذكرنا، المرأة المسلمة الصالحة الأنصارية خافت عليه أن يشرّع من قبل نفسه فقال -رضي الله تعالى عنه: ((وما لي لا ألعن من لعنه رسوله الله، وهو في كتاب الله))، قالت المرأة: ((والله لقد قرأتُ ما بين اللوحين فما وجدته)) المرأة هنا تبحث في القرآن عن ((لعن الله الواشمات والمستوشمات، ولعن الله النامصات والمتنمصات، ولعن الله المتفلّجات للحسن المغيرات خلق الله)) كأنها تريد هذا النص بذاته في القرآن الكريم، لكن عبد الله قال لها: "والله لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، ألم تقرئي قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) " هذا داخل تحت هذه الآية، وتحت غيرها من الآيات التي تُوجب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فالحديث فوق دلالته على وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أيضًا قاطع في دلالته على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُشرّع كما يُشرّع الله تعالى، وعلى المسلمين أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.

أيضًا، من الأحاديث التي تدل على ذلك حديث وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم، بل ليس أن نطيعه فقط، بل أن نطيع أميره الذي أرسله، لو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل أميرًا في قيادة ما على أي مستوى من المستويات، على الأمة أن تستجيب لهذا الأمير، أولًا في حديث: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) يعني: على الأمة -كما قلت- لا تطيع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط، بل تطيع من أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- في أي أمر من الأمور، لو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل رسولًا يأتي بزكوات، أو يقود غزوًا "سرية مثلا" أو كلَّف مؤمنًا بأن يُصلي بالمسلمين، أيّ تكليف للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو طاعتنا لأمره -صلى الله عليه وسلم- إنما هو طاعة له -عليه الصلاة والسلام- ومن ثَمَّ أيضًا هي طاعة لله -تبارك وتعالى- لأن من أطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أطاع الله، ومن عصى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد عصى الله تعالى والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. أيضًا، من الأحاديث التي تدل على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((إني تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)) هذا حديثٌ رواه الحاكم في كتاب العلم وهو حديث صححه العلماء، ويلتقي مع كل الروايات الواردة في هذا الأمر، طاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- طاعة القرآن الكريم وطاعة السنة المطهرة، ما دمتم تستمسكون بهما فلن تضلوا أبدًا؛ لأنهما طريق الهداية وطريق الرشاد، والعصمة من الزلل: كتاب الله -تبارك وتعالى- وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا، الأحاديث في الحقيقة أكثر من أن تحصى في هذا المجال، ولذلك هنا نقل للإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في (الرسالة) يقول: "وكل ما سن فقد ألزمنا الله باتباعه -أي: كل ما سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته -أي: جعل في اتباعه النبي -صلى الله عليه وسلم- طاعة الله تعالى، وفي العنود عن

اتباعها -أي: عن السنة معصيته" -أي: حين تُعاند ولا تستجيب للسنة وتماري وتتوقف؛ فأنت معاند، نسأل الله -عز وجل- ألا تتردى في الهلاك بسبب ذلك الموقف. "وكل ما سنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها -أي: عن السنة- معصيته، التي لم يعذر بها خلقًا ولم يجعل له من اتباع سنن الرسول مخرجًا" الله -عز وجل- لم يعذر خلقًا أبدًا في عدم اتباعهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يوجد لهم مخرجًا إلا أن يتبعوه -عليه الصلاة والسلام- لن تجد أبدًا مخرجًا يخرج بك إلى أي خير إلا في اتباعك للنبي -صلى الله عليه وسلم. أما المخارج إلى غير ذلك فهي كثيرة، ونسأل الله العصمة. فالصحابة كانوا يقتدون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يأمر به، وفي كل ما ينهى عنه، حتى فيما لم يفهموا حكمته، الفاروق -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يقبل الحجر الأسود ويقول: ((إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقبّلك ما قبلتك))، هذا رواه البخاري في كتاب الحج باب ما ذكر في الحجر الأسود وباب تقبيل الحجر، ورواه مسلم أيضًا -رحمهما الله تعالى- في كتاب الحج باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف. سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- قبَّل الحجر لمجرد اتباعه لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم أنه حجر لا يضر ولا ينفع، هو لا يلتمس نفعًا عند الحجر، ونحن نعلم جميعًا أن النافع والضار هو الله -سبحانه وتعالى- فهو لم يلتمس من الحجر أيَّ منفعة؛ إنما قبله اتباعًا لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأيضًا، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: واحد من الناس يقول له: لا نجد صلاة السفر في القرآن يقصد الهيئة أن يصلي ركعتين فقط وما شاكل ذلك، قصر الصلاة الرباعية أو الجمع أو ما شاكل هذا، مع أنها

من أدلة حجية السنة: دليل الإيمان.

فيها إشارة في القرآن الكريم، إشارة موجزة: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (النساء: 101) فبماذا أجابه عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه-؟ قال: "إن الله -عز وجل- بعث إلينا محمدًا ولا نعلم شيئًا، فإنما نفعل كما رأينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يفعل". نقول: إنه اتباع مبنيٌّ على فهم، فهم عميق، هو يتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه طريق الهداية والعصمة من الضلالة، ومن الغواية، ومن الجهالة، ومن الظلمات؛ فسواء بَدت وظهرت لنا الحكمة من الفعل أو لم تظهر لنا؛ فيكفينا شرفُ الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم، هذه بعض الأحاديث في الدلالة على ضرورة اتباع السنة المطهرة. من أدلة حجية السنة: دليل الإيمان هناك ما سماه العلماء بدليل الإيمان، ما مفهوم دليل الإيمان هذا؟ الله -عز وجل- يطلب من عباده المؤمنين أن يؤمنوا برسوله فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (النساء: 136)، ويقول -عز من قائل-: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) فمقتضى ذلك أن نؤمن بالله وبرسوله، وأن نصدِّق بكل ما جاء به هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن حدث عكس ذلك -والعياذ بالله- كان شكًّا وارتيابًا في الرسالة والرسول معًا، نسأل الله -عز وجل- أن يعصمنا، لماذا تتوقف؟ طلب الله منك أن تؤمن بالرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ومن مفهوم الإيمان بالرسول ومما يدخل تحت الإيمان به ما تعلمناه من علماء العقائد، إذ لا يكفي أن تقول: آمنت بالرسول -صلى الله عليه وسلم، إنما جزء من إيمانك وتصديقك بهذا الرسول أن تتبع ما جاء به، وإلا كيف تكون مؤمنًا به ثم لا تستجيب لحكمه، هذا يتناقض مع إيمانك به؛ لأن من جملة الإيمان به أن تعتقد أن ما جاء به من عند الله هو الحق، وهو الصدق، وهو العصمة، وهو الفلاح، وهو الخير، وهو الرشد، ولا خير في طريق سواه. إذن، الآية وغيرها تفرض اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الإيمان، ولذلك أسماه العلماء دليل الإيمان أي: الآيات التي طلبت من المؤمنين أن يؤمنوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتبعًا لذلك عليهم أن يُصدِّقوا، وأن يتبعوا كلَّ ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يحدث منهم عكس ذلك، وإلا كان ذلك شكًّا وارتيابًا في الرسالة والرسول معًا، وحينئذ ينتفي الإيمان -والعياذ بالله-. ولذلك أيضًا عبارة رائعة للإمام الشافعي في رسالته يقول -رحمه الله تعالى- معلقًا على هذه الآيات في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}: فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبعٌ له الإيمانَ بالله، ثم برسوله -صلى الله عليه وسلم- فلو آمن عبدٌ به، ولم يؤمن برسوله؛ لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدًا، حتى يؤمن برسوله معًا". وأود أن أنبه إلى أن كلمة كمال الإيمان التي قالها الإمام الشافعي لا تدل على أن الإيمان ينعقد بغير ذلك، والمراد كمال الإيمان فقط، وليس أصل الإيمان، لا. بدليل أنه يتكلم عن الإيمان بالرسول أولًا، ويقول: "فلو آمن عبدٌ به -أي: بربه- ولم يؤمن برسوله -صلى الله عليه وسلم؛ لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدًا، حتى يؤمن بالله وبرسوله معًا"، فلا بد من الإيمان، وطبعًا نحن نعلم أن الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما

أدلة حجية السنة من خلال إجماع الأمة.

هو من أركان الإيمان التي لا ينعقد الإيمان إلا بها؛ فكلمة تمام الإيمان التي استعملها الإمام الشافعي يقصد كمال انعقاده. ومن هنا وجبت طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى هذا الإيمان، لا يصلح أن تكون مؤمنًا، ثم أنت غير طائع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، حتى لو زعمت أنك طائع لله، وهذا المعنى الخطأ يقع فيه كثيرٌ من الناس؛ بل إن -كما ذكرنا- يُزيّن لهم سوء عملهم، فيتصورون أحيانًا أنهم يدافعون عن السنة، وعن الإسلام، وعن تخليص كتب السنة من الأحاديث التي يرونها غير موافقة لفهمهم، أو للواقع، أو التي تسبب حرجًا من وجهة نظرهم للإسلام في أي مجال، وتصاعد الأمر ببعضهم إلى أن رفعوا قضايا أمام المحاكم؛ لكي يُلزموا الأزهر الشريف والهيئات العلمية بأن تنقّي البخاري ومسلم -هذان الكتابان اللذان أجمعت الأمة على أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله تبارك وتعالى- من الأحاديث التي يرونها غير صحيحة، ولو فُتح الباب لتلك الأهواء ما سلم لنا حديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أدلة حجية السنة من خلال إجماع الأمة أيضًا من الأدلة على حجية السنة الإجماع، أجمعت أمة الإسلام قديمًا وحديثًا على التمسك بالسنة، والعض عليها بالنَّواجذ، وعلى ضرورة تطبيقها والسير على هديها في كل جوانب حياة المسلمين، لم يمارِ في الحقيقة في هذه المسألة إلا نفر حقيقة ممن لا يُعتدُّ بخروجهم عن إجماع الأمة من بعض الخوارج ومن الروافض. هذا أمر كان واضحًا جليًّا في حياة الأمة، من لدن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمة بأن تتبع هديه، وأن تجمع سنته، وأن تفهمها وأن تطبقها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بنضارة

الوجه، فيما رواه الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- لمن سمع حديثًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- فأدَّاه كما سمعه من غير زيادة ولا نقصان، فرب مبلغ أوعى من سامع، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-. إذن، الأمة وعت دور السنة وأهميتها، وأن القرآن لا يفهم بدونها، وأن الإسلام لا يُطبَّق بدون فهم القرآن الكريم وبدون السنة المطهرة، فلذلك حرصت على السنة وعضت عليها بالنواجذ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليبلغ الشاهد الغائب)) يعني: كل من بلَغه حديث أو شهد واقعة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمع حديثًا عليه أن يبلغه للأجيال اللاحقة حتى تتواصل الأمة بكل أجيالها عبر القرون، وإلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها على حب الله -تبارك وتعالى- وحب النبي -صلى الله عليه وسلم، وحب سنته، وضرورة تطبيقها في حياته. ولذلك انعقد الإجماع على ذلك، على حجية السنة، وعلى ضرورة الالتزام بها، وعلى استقلالها بالتشريع. قد نقرأ نقاشات، مثلًا يُناقش البعض أحيانًا: هل الذي جاءت به السنة ينبثق عن أصل قرآني أو لا ينبثق؟ هذا نقاش في نظري لا يغير من جوهر الحقيقة شيء، وهو أنه يجب اتباع السنة، وأن السنة تستقل بالتشريع؛ فسواء انبثق الحكم النبوي الذي جاء في السنة عن أصل قرآني، أو لم ينبثق هذا النقاش، لا يُغيّر في المسألة شيء، فهو حكم جديد. فمثلًا، حين يحرم القرآن الكريم الجمع بين المرأة وأختها: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 23) وحين جاءت السنة لتحرم الجمع بين المرأة وعمتها، فإن ذلك يراه البعض منبثقًا عن أصل قرآني، ويراه البعض

حكمًا جديدًا لا ينبثق عن أصل قرآني، أيًّا كان الأمر فإن الخلاف هنا لا يُغيِّر من جوهر المسألة، وهي أن السنة تشرع، هذا حكم جديد ليس في القرآن؛ سواء كان منبثقًا عن أصل قرآني أو غير منبثق، لكنه في كل الحالات حكم جديد أتت به السنة المطهرة. أقول: انعقد إجماع الأمة على حجية السنة وعلى استقلالها بالتشريع، ويقول الشوكاني -رحمه الله تعالى: "إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يُخالف في ذلك إلا من لا حظَّ له في الإسلام" هذا الكلام الخطير قاله الإمام الشوكاني -رحمه الله- في كتابه (إرشاد الفحول) ص29. ذكرنا الأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، ودليل الإيمان، ودليل الإجماع على حجية السنة المطهرة. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 8 أدلة حجية السنة المطهرة (4)، دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (1).

الدرس: 8 أدلة حجية السنة المطهرة (4)، دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (1).

بقية الأدلة على حجية السنة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (أدلة حجية السنة المطهرة (4)، دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة (1)) بقية الأدلة على حجية السنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله، وأحبابه، وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: قد تكلمنا في الدروس السابقة عن الأدلة من القرآن الكريم وعن الأدلة من السنة المطهرة والإجماع ودليل الإيمان. وفضيلة الشيخ عبد الخالق -رحمه الله تعالى- في كتابه (حجية السنة) يُضيف أدلة أخرى إلى حجية السنة -أي: وجوب العمل بها، مما ذكره -رحمه الله- - دليل العصمة: وخلاصة هذا الدليل: أن الأمة أجمعت على عصمته -صلى الله عليه وسلم- عمَّا يخلُّ بالتبليغ، يعني: هذا محل إجماع الأمة كلها؛ أن الله -تبارك وتعالى- قد عصم نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن أيِّ خللٍ يقع فيما يتعلق بتبليغه للرسالة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67)، لكي ينفَّذ هذا الأمر الإلهي لا بدَّ أن يقوم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمهمة التبليغ، ولا بد أن يُعصم؛ حتى يكون التبليغ على الوجه الذي يُرضيه -سبحانه وتعالى-، فهل يُعقل أن يبلغ بأحاديث من عنده، ولم يوحِ إليه بها ربه؟! الرسول -صلى الله عليه وسلم- معصومٌ أن يضيف، أو أن ينقص، أو أن يُغيّر، أو أن يبدل شيئًا مما أمره الله -تبارك وتعالى- من تبليغه، خطورة النقص مثل خطورة الزيادة مثل خطورة التحريف أو التغيير أو التبديل، كل ذلك قد عصم الله منه نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، ومن يعتقد عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في التبليغ، فلا بد أن يعتقد بحجية السنة، التلازم والترابط بينهما واضح جدًّا، الله -عز وجل- عصمه من أي خلل في أمر التبليغ؛ إذن السنة من جملة ما بلّغ به، وإلا يكون قد أتى بها من عند نفسه، وإذا كان قد أتى بها من

عند نفسه فقد أخل بضرورة التبليغ، وهذا ليس طعنًا في السنة فحسب، وإنما هو طعن في الرسالة ذاتها، والعياذ بالله. - أيضًا من الأدلة التي يضيفها فضيلة الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- فهمُ الصحابة للسنة، وتطبيقهم لها، وتمسكهم بها في كل أمور حياتهم: عشرات الأدلة على أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا لا يُقدمون على أمر إلا بعد أن يعرفوا حكم الله -تبارك وتعالى- فيه، وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه. هذا الجيل الذي عاصر الوحي وشاهد الوقائع وساهم فيها، وعلم أسباب النزول، وأسباب ورود الأحاديث وما إلى ذلك، فهمه قاضٍ على الأمة كلها، وقد فهم هذا الجيل المبارك الذي هو خير أجيال هذه الأمة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) وهو حديث متفق على صحته في الصحيحين في فضائل الصحابة- هذا الجيل أجمع على ألا يفعل شيئًا من أمور الدين أو الدنيا إلا بعد أن يرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، حتى لو كانوا بعيدين عنه؛ فإنهم ينتظرون إلى حين مجيئهم إليه، قد تقع بعض الأمور بعيدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم في غزو مثلًا، أو وهم في سفر فحين يعودون يذكرون للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما حدث، ويعرفون الحكم الشرعي فيه، هذا الإجماع على ذلك الأمر من الصحابة يدلُّ في جلاء ووضوح على أن السنة عندهم حجة لا بدَّ من الرجوع إليها والعمل بها، والاستجابة لأحكامها. الأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، ويكفي أن نشير إلى بعض الأحاديث الصحيحة في هذا الأمر، مثلًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث بعثًا، وأمَّر عليه أميرًا، هذا الأمير كان يصلي بهم، وفي صلاتهم جهرية؛ سواء كان ذلك في صلاة المغرب أو العشاء أو الفجر وهي الصلوات الجهرية، يقرأ بهم الفاتحة ثم يقرأ بهم ما شاء الله

أن يقرأ من القرآن، ويختم قراءته بـ سورة قل هو الله أحد لما رجعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبروه: الأمير الذي أمَّرته علينا كان يفعل كذا وكذا، فقال -صلى الله عليه وسلم: ((سلوه: لأي شيء يفعل ذلك؟ قال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال -صلى الله عليه وسلم: بلغوه أن الله تعالى يُحبُّه))، هذا حديث في الصحيحين، رواه الإمام البخاري في كتاب التوحيد؛ إذن حدث هذا بعيدًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعادوا ليسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حكم الشرع في مثل هذا الصنيع. وحتى هذا الحديث نضربه مثالًا لإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة على بعض أفعالهم التي تصبح جزءًا من السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم بها وأقرهم عليها. أيضًا، أم سليم، الحديث أيضًا في الصحيحين في كتاب الطهارة عند البخاري ومسلم من حديث أم سليم -رضي الله تعالى عنها- ((أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء)) الصحابية الجليلة أم سليم تعرف أنه لا بد من معرفة حكم الشرع في ذلك، فرجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله. أيضًا، علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-: "كنت رجلًا مذَّاء، فاستحييت أن أسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-"؛ لموقعه ولموقع ابنته منه وبعث من يسأل له عن حكم هذا المذي الذي يصاحبه في بعض أوقاته، وعلم أن الحكم الشرعي أنه لا يُوجب الغسل، وأنه يغسل نفسه ثم يتوضأ ويصلي. حديث ابن عمر في كتاب الطلاق عند البخاري ومسلم، وهو حديث صحح مشهور، وهو أصل لمن قالوا: بأن الطلاق البدعي لا يقع، ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- كان قد طلّق امرأته وهي حائض، فأبوه عمر -رضي الله تعالى عنه- أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: ((مره فليراجعها)) إذن، يسألون عن أحكام عشرات، بل مئات الأمثلة على هذه القضية؛ إذن فالصحابة مجمعون على أن السنة حجة، وأنه إذا طرأ لأحدهم أمر

لا بد أن يتجه للنبي -صلى الله عليه وسلم، أحيانًا تنزل الآيات بحكم الشرع كما في قصة الظهار خولة بنت ثعلبة، التي سمع الله تعالى قولها وهي تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ظاهر منها زوجها: ((إن لي منه صبية صغارًا، إن ضممتهم إليّ ضاعوا، وإن ضممتهم إليه جاعوا)) حتى نزلت الآيات بحكم الظهار، وبينه لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في القرآن الكريم. يعني: إما أن ينزل الحكم في القرآن الكريم، وكثير من الأحكام تعتمد على السنة المطهرة. أيضًا، في صلاة العصر في بني قريظة لما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة))، وتعدَّدت أفهام الصحابة في ذلك؛ فمنهم من صلى في الطريق مخافة أن يخرج الوقت عن وقته، لأنهم يعلمون أن هناك أدلة تنصُّ على وجوب أو استحباب أداء الصلاة في أول وقتها، وهناك من أصرَّ على تنفيذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بحذافيره، فأجّل الصلاة حتى وصل إلى ديار بني قريظة، ورُفع الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقرَّ كلّا من الفريقين على فهمه. إذن، الصحابة بإجماع يعلمون ويعتقدون أن السنة حجة، وأنهم لا يسعهم أن يُقدِموا على أي عمل يتعلق بأمر دينهم أو دنياهم إلا بعد أن يعلموا حكم الله فيه من خلال القرآن الكريم، أو من خلال السنة المطهرة، وقد رجعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في عشرات، بل في مئات المسائل، ولذلك يعتبر العلماء منهج الصحابة في التعامل مع السنة إنما هو دليل على حجية هذه السنة، وأنه لا بد من العمل بها، وقد مرَّ بنا ما قاله الصديق -رضي الله تعالى عنه- للمرأة الجدة التي جاءت تسأل حقها في الميراث فقال لها أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: "لا أجد لك في كتاب الله شيئًا، ولا أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى لك بشيء"، إذن هو يعلم يقينًا أن السنة حجة، وأنها تشرع كما يشرع القرآن الكريم، وأنه على المسلمين أن يقولوا: سمعنا وأطعنا في كل حكمٍ قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

- من الأدلة على وجوب العمل بالسنة: استحالة العمل بالقرآن الكريم وحده: وأيُّ مدرك لعلاقة السنة بالقرآن الكريم يعلم ذلك جيدًا؛ أنها تبين القرآن الكريم بوسيلة من وسائل البيان المعروفة عند العلماء، وهي مثلًا تفصيل المجمل، تقييد المطلق، تخصيص العام، توضيح المشكل، وهي أيضًا تُشرّع كما يُشرع القرآن الكريم تمامًا. إذن، الاكتفاء بالقرآن الكريم تضييع للإسلام، وأن هذه الدعوى تحمل في طياتها هدفًا خبيثًا جدًّا، وهو تضييع الإسلام نفسه؛ لأن كيف نصلي الظهر أربعًا من خلال القرآن الكريم؟ كيف نصلي العشاء أربعًا؟ كيف نخرج زكاة الأموال بنسبة ربع العشر؟ أين زكاة عروض التجارة في القرآن الكريم؟ أين زكاة الماشية في القرآن الكريم؟ أين أين؟ أمور الإسلام في أركانه وفي غير أركانه تتوقف على السنة المطهرة، فيستحيل عمليًّا وواقعيًّا أن نكتفي بالقرآن الكريم وحده. هي دعوى ظاهرها خدَّاع لكن باطنها هو تضييع الإسلام كله؛ لأنه لو سلمنا جدلًا بهذه المقولة ونحَّينا السنة، فسيتوقف القرآن عن الفهم والتطبيق، وبالتالي يضيع الإسلام الذي هو في المقام الأول يعتمد على القرآن الكريم وعلى السنة المطهرة. - من الأدلة على حجية السنة: أنها وحي من عند الله -تبارك وتعالى: وما دامت وحيًا فلا بد من الاستجابة لها واتباعها، أما أنها وحيٌ من عند الله -تبارك وتعالى- فقد قامت على ذلك أدلةٌ كثيرة، من ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 1: 4) أي: كل ما يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم- مقصورٌ على كونه وحيًا من عند الله -تبارك وتعالى-، كل ما يقوله هو وحيٌ من عند الله -تبارك وتعالى- الآيات لم

تستثنِ شيئًا، والذي قاله هو القرآن الكريم وهو السنة المطهرة، وأيضًا الآيات التي ذكرت القرآن الكريم والسنة المطهرة، أو والحكمة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34)، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2)، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين} (آل عمران: 164). كل الآيات التي جمعت بين الكتاب والحكمة العطف بينهما يقتضي المغايرة، بالضرورة الحكمة غير الكتاب؛ لأنه لا يجوز عند النحاة عطف الشيء على نفسه، فإذن الحكمة غير الكتاب، وما هي الحكمة؟ يتحتَّم أن تكون الحكمة هي السنة، وقد قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في (الرسالة): "سمعت من أرضى من أهل العلم يقول بأن الحكمة هي السنة"، وكون الحكمة في هذه الآيات سنة أجمع عليها علماء الأمة، واستقروا على هذا الفهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتانا بالقرآن الكريم وأتانا بالسنة المطهرة، ولا بد من حمل الحكمة على السنة؛ لأنه لم يأتنا بغير ذلك، وإذا كانت الحكمة هي السنة، فإن الكتاب والحكمة قد نزلا من عند الله -تبارك وتعالى-، والدليل على ذلك في آية النساء: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113) يعني: الآيات التي سبقت في سورة البقرة ذُكرت: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 129)، وفي آل عمران ذكرت: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وفي سورة الجمعة، وفي سورة الأحزاب: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ثم آية النساء التي تضيف أمرًا آخر وهو أن السنة والحكمة

كليهما نازل من عند الله -تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113). الآيات السابقة لم يأتِ فيها هذا الأمر، قد يقول قائل من خلال الآيات السابقة: ليس هناك ما يدل على أن الحكمة -حتى وإن سلمنا بأنها هي السنة- ليس هناك ما يدل على أنها نزلت من عند الله -تبارك وتعالى- فتأتي آية النساء قاطعة في هذا الأمر: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}، إذن السنة بمقتضى آيات القرآن الكريم وحيٌ من عند الله -تبارك وتعالى، وأيضًا على ذلك جاءت الأحاديث الكثيرة التي تُثبت هذا الأمر عند الإمام أحمد بسندٍ صحيح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- أنه كان يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهته قريشٌ عن ذلك، وقالت له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا، بمعنى: أنه قد يقول أقوالًا بمقتضى بشريته ليست منهجًا، ليست تشريعًا، مَن الذي يحسم المسألة؟ هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، هو الذي يقضي في المسألة، فرُفع الأمر إليه فقال له: ((اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)) النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا الحق الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى-: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) أيضًا: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) أوتيت: بالبناء للمجهول، أوتي القرآن وأوتي مثله معه، وهذا المثل يُحمل بالضرورة عند كل عاقلٍ رشيد على أنه السنة المطهّرة. هذه الأدلة كلها دلَّت على أن السنة وحيٌ من عند الله -تبارك وتعالى-، وما دامت وحيًا من عند الله فهي واجبة الاتباع، كما أن القرآن الكريم وحيٌ من عند الله -تبارك وتعالى- فهو واجب الاتباع أيضًا، والفرق أن القرآن الكريم هو كلام

الله -تبارك وتعالى- وأن الحديث النبوي هو كلام سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- لكنه أوحي إليه بمعناه من عند الله -تبارك وتعالى-. وحتى الأمور التي قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- باجتهاده، وهناك وقائع تثبت هذا في قصة أسرى بدر، وفي غيرها النبي -صلى الله عليه وسلم- قال باجتهاده، لكن دور الوحي معه هو إما أن يصحح له إذا كان الأمر يحتاج إلى تصحيح، أو أن يقرََّه على ما ذهب إليه اجتهاده إن لم يكن يحتاج إلى تصحيح، وفي كلتا الحالتين القِسم الذي قاله باجتهاده مردُّه أيضًا إلى الوحي، إما بالإقرار وإما بالتصحيح، وبالتالي فإن السنة كلها وحي من عند الله -تبارك وتعالى-. كل هذه أدلةٌ على وجوب العمل بالسنة المطهرة، القرآن الكريم والآيات التي ذكرنها. إنها قضية قرآنية، وقضية عقدية، وقضية إيمانية، وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة الذي انعقد على وجوب العمل بالسنة، وكلمة للإمام الشوكاني في هذا: "دليل الإيمان، وخلاصته أن إيمان المؤمن لا ينعقد إلا إذا حكّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل شأن من شئون حياته"، وهذه قضية ذكرتها آياتٌ كثيرة، وعلّق الله -تبارك وتعالى- عليها الإيمان؛ بل أقسم على هذه القضية، أقسم -جلّ في علاه- بذاته الشريفة أن إيمان المؤمنين لن يكون إلا إذا حكّموا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل شأنٍ من شئون حياتهم، وذلك في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} (النساء: 65)، والأدلة الأخرى التي ذكرها فضيلة الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- في كتاب (حجية السنة). وهذه الأدلة تتلخص في دليل العصمة، وفي تمسك الصحابة بالسنة الذي يدل على أنهم فهموا أنها حجة، ولا بد من الرجوع إليها، وأيضًا استحالة العمل بالقرآن الكريم

وحده، وإلا كان ذلك تضييعًا للإسلام كله، وأيضًا إثبات أن السنة وحيٌ من عند الله -تبارك وتعالى- وما دامت وحيًا فهي واجبة الاتباع وواجبة التطبيق في حياة المسلمين. لم يُنازع في ذلك أحدٌ من المسلمين الذين ينعقد بهم الإجماع، أجمعت الأمة على كل هذه الأدلة، وعلى خلاصة الأمر وزبدته في أن السنة لا بد أن تُتبع، وأن يُعمل بها، وأن نستجيب لكل حكم حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. في أثناء أبحاثه في كتابه (حجية السنة) يُعلِّق فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى- تعليقًا يقول فيه -حاكمًا على من نازعوا في هذه القضية- يقول: "وليت شعري، كيف يُتصور أن يكون نزاع في هذه المسألة بين المسلمين! وأن يأتي رجلٌ في رأسه عقل ويقول: أنا مسلم، ثم يُنازع في حجية السنة بجملتها، مع أن ذلك مما يترتب عليه عدم اعترافه بالدين الإسلامي كله من أوله إلى آخره، فإن أساس هذا الدين هو الكتاب، ولا يمكن القول بأنه كلام الله مع إنكار حجية السنة جملةً، فإن كونه كلام الله لم يثبت إلا بقول الرسول الذي ثبت صدقُه بالمعجزة، إن هذا كلام الله وكتابه، وقول الرسول هذا من السنة التي يُزعم أنها ليست بحجة، فهل هذا إلا إلحاد وزندقة، وإنكار للضروري من الدين يُقصد به تقويض الدين من أساسه، فإن قلت: لا نُقرّك على أن كون الكتاب كلام الله؛ لا يثبته إلا ذلك القول، وإنما ثبت بإعجازهم مباشرة، قلت: نعم، جميع القرآن وسورة منه وثلاث آيات يُمكن أن يقال فيها: إنه ثبت كونها كتاب الله بإعجازها، ولا حاجة لقول الرسول فيها، وذلك لقيام الإعجاز بها. أما الآيتان والآية وبعض الآية فلم يقم بها صفة الإعجاز، حتى نعلم أنها كلام الله؛ فلا يمكننا العلم حينئذٍ بأنها منه إلا بقول الرسول الذي ثبت صدقه بإعجاز القرآن كله، أو سورة منه وبغير ذلك من المعجزات- إنها من كلام الله.

ونحن في استدلالنا على عقيدة دينية أو حكم شرعي من كتاب الله، إنما نستدلّ بالآية أو ببعضها، فلو لم يكن هذا القول من الرسول حجة؛ لما أمكن للاستدلال بالآية أو ببعضها. ولا يخفى عليك أن كون الآية، أو كون بعضها من القرآن أصبح ضرورة دينية، لا يسع مسلمًا إنكاره بحال، وكذا الاستدلال بشيء من ذلك على حكم شرعي. وإذا كان هذان الأمران الضروريان متوقفين على حجية السنة؛ كانت هي أيضًا ضرورة دينية، فكيف يمكن لمن يعتنق دين الإسلام أن يقدِم على إنكار حجيتها أو الشك فيها؟! " خلاصة كلام الشيخ في هذا الجزء: أن السنة هي التي بيَّنت أن القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- وكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعجزة القرآن قال: إن هذا كلام الله وكتابه، فمن لم يؤمن بالسنة فأنكر القرآن الكريم؛ لأن السنة من طرق إثبات القرآن الكريم، ونقل على لسان البعض قد لا يُقرّون هذا، بمعنى: أن القرآن الكريم الذي هو كلام الله لا يُثبته إلا ذلك القول من النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه كلام الله، بل ثبت بإعجازه مباشرة، سلّم الشيخ بقولهم، لو قلنا جميع القرآن، أو سورة منه، أو ثلاث آيات -القدر الذي يتفق عليه العلماء- بأنه يتحقق به الإعجاز، ثبت كونها من كتاب الله بكونها معجزة، لكن الآيتان والآية وبعض الآية، وكثير من الأحكام الشرعية نستدلُّ بها بآية واحدة أو بآيتين، وأحيانًا ببعض آية؛ فإذن الأحكام الشرعية تتوقف إثباتها على آية أو بعض آية، وهذا القدر لم يتحقق به الإعجاز على ما ذهب إليه علماء التفسير وعلوم القرآن. إذن، لا بد من حجية السنة لكي نؤمن بالقرآن أيضًا، وينتهي إلى أنه قد يصل الأمر بقائل هذه الأقوال إلى حكم الرّدّة، كما قال ذلك، وهذا بعض كلامه في

هذا: "وليت شعري كيف يمكن القول بأنها ليست ضرورية دينية، مع العلم بأن كثيرًا من المسائل التي أجمع الفقهاء عليها، وعلى أنها معلومة من الدين بالضرورة، وأن إنكارها يُوجب الرّدّة، كعدد ركعات الفرائض متوقفة عليها، وكيف يَتوقف الضروري على ما ليس ضروريًّا، وزعم إمكان فهم هذه المسائل من الكتاب وحده باطلٌ بالضرورة، ومحاولة هذا الفهم محاولةٌ لتحقيق المُحال، ولقد كان الأئمة السابقون أقدر منا على ذلك، واعترفوا بالعجز عنه -يعني: محاولة إثبات الأدلة على الأحكام الشرعية من القرآن فقط، وإذا كانت هذه المسائل الضرورية -الصلاة مثلًا، وكون الظهر أربعًا، وكون العصر أربعًا أيضًا- كل ذلك يتوقف على السنة، وهي مسائل ضرورية -يعني: معلومة من الدين بالضرورة وإنكارها كفر- وإذا كانت هذه المسائل الضرورية متوقفة على حجية السنة، فكيف يتأتى من مؤمن أن يُنازع فيها، مع أن النزاع فيها يستلزم النزاع في هذه المسائل -يعني: النزاع في حجية السنة يستلزم النزاع في كون الظهر أربعًا، في كون أن الزكاة ربع العشر، في كون المواشي عليها زكاة ... إلى آخره، وهذا يستلزم الارتداد؛ فإن قيل: إن هذه الأحكام دليلها الإجماع فهي ليست متوقفة على حجية السنة! قلت: هذا عبثٌ من القول، فإن الإجماع لا بد له من مستند، وليس هذا المستند في هذه المسائل الكتاب -القرآن فقط- إذ لا يمكن فهمها منه، وليس القياس، ولو ذهبنا إلى أنه قد يكون مستندًا للإجماع فيما يكون له أصلٌ معقول المعنى؛ لأن كثيرًا من هذه المسائل -أي: مسائل العبادة- لا مجال للعقول فيها، وليس لها أصلٌ تُقاس عليه؛ فتعيّن أن يكون هذا المستند السنة، بل قد أجمعوا على أن المستند في هذه المسائل هو السنة لا غير، وهذا يستلزم إجماعهم على حجيتها وضروريتها". انتهى كلام الشيخ رحمه الله -تبارك وتعالى-.

دفع شبه منكري حجية السنة.

دفع شبه منكري حجية السنة الكلام عن شبه الذين يعارضون في حجية السنة، وأقوالهم في هذا الأمر: لا يمكن لأي مسلم أن يرفض السنة النبوية وأن يعتمد على القرآن وحده، لكن بعض الناس قد تخفى عليهم الأمور فيحتاجون إلى بيان وإلى توضيح، ومع ملاحظة أنهم أثاروا الشبه بعد أن كوّنوا هذا الرأي، لكن هناك مَن توقَّف في الاستدلال بالسنة وهو لا يعلم حجيتها، ليس عن موقف نابع من فكر أو فهم أو قراءة، أو ما شاكل ذلك؛ إنما هو فهم خاطئ بمجرد أن يصوَّب له يُردُّ إلى الصواب. هناك شُبه بُنيت على آيات من القرآن الكريم، أخذوا منها شبهة الاكتفاء بالقرآن الكريم، وعدم الحاجة إلى السنة المطهرة، هناك آيات كثيرة في هذا الصدد، من ذلك قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون} (الأنعام: 38)، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ... } (النحل: 89)، في سورة الأنعام أيضًا: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (الأنعام: 114) وفي سورة الأنعام أيضًا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (الأنعام: 115)، وفي سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، في سورة الأنعام: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19)، في سورة الأعراف: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين} (الأعراف: 170)، وقال -عز وجل-:

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51). آيات مثل هذه يجمعونها مثل قوله -تبارك وتعالى-: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30)، ومثل قوله -سبحانه وتعالى-: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} (الأعراف: 185) يحاولون أن يجمعوا الآيات التي يبدو من ظاهرها أنها تدعو إلى الاعتماد على القرآن الكريم فقط، وبعد أن يجمعوا هذه الآيات يُحاولون أن يُثبتوا أنها تدل على الاعتماد على القرآن الكريم فقط، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن موقفنا هذا إنما هو مبنيٌّ على الاستمساك بالقرآن الكريم، الذي دعا إلى التمسك بالقرآن الكريم وحده. بداية نرد ردًا إجماليًّا فنقول: قل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً ... حفظتَ شيئًا وغابت عنك أشياءُ ركَّزت على هذه الآيات، ونسيت آيات كثيرة، ما موقفك من قول الله -تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)؟ ما موقفك من قوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}؟ ما موقفك من قسم الله -تبارك وتعالى- حين يُقسم بذاته المعظّمة الشريفة أن إيمان المؤمنين لا يكون إلا إذا حكَّموا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما شجر بينهم؟ بل إن الله -تبارك وتعالى- اشترط على المؤمنين ألا ينفذوا الحكم فقط، بل عليهم أن يرضوا به وأن يخضعوا ويستسلموا له خضوعًا كاملًا، واستسلامًا تامًّا، وآياتٌ كثيرة جدًّا تدل على وجوب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يأمر به، وينهى عنه. إذن، كأنك تؤمن ببعض الكتاب وتكفُر ببعض، تأخذ منه الآيات التي تناسب

هواك وتتفق مع فكرك، وتلتقي مع أهدافك، أو هكذا أنت تتصور، وتترك الآيات التي تُفنِّد شُبَهك، والقرآن الكريم يكمِل بعضه بعضًا، ويتمم بعضه بعضًا. وكل الذين يعرفون استمداد الأدلة من النصوص الشرعية يعرفون جيدًا أنه ليس من حقهم أن يأخذوا نصًّا، وأن يغيِّبوا عن عمدٍ، أو عن جهل نصًّا آخر له اتصال وثيق بنفس القضية، وبنفس المسألة؛ بل إن الحكم الشرعي في أي قضيةٍ من القضايا لا يُؤخذ إلا من خلال النصوص الكاملة المتعلقة به في القرآن الكريم والسنة المطهرة، بل بعد ذلك نرجع إلى أفهام العلماء من المفسرين، ومن شارحي الأحاديث النبوية، ومن موقف الصحابة من ذلك كله؛ ليستقيم فهمنا مع فهمهم، ولنعرف: كيف مضى سلف هذه الأمة في التعامل مع هذه الآيات؛ ليمضيَ عليها أيضًا خلفها على نفس المنهج وعلى نفس الطريق، الذي سار عليه السلف الصالح -رضوان الله عليهم-. إذن، هذا ردٌّ إجمالي، كما أنك نظرت إلى هذه الآيات، فهناك آياتٌ دعتْ في جلاء ووضوح، وقطعٍ لا لَبْسَ فيه إلى ضرورة التمسك بالسنة المطهرة. حين تعمد إلى بعض الآيات فتذكرها وتعمَد إلى البعض الآخر فتهمله، أو تبتعد عنه؛ هذا في المناهج العلمية خللٌ شديد، وفهم سقيم، والرجوع إلى الحق أولى من ذلك كله. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 9 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (2).

الدرس: 9 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (2).

قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة (2)) قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ ثم أما بعد: فكنا قد بدأنا في ذكر الشبه التي اعتمد عليها أعداء السنة وقلنا: إنها تنقسم إلى شبه يحاولون أن يأخذوها من القرآن الكريم، وإلى شبه تتعلق بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى شبه أخرى -سنشير إليها بالتفصيل إن شاء الله، ونحن نرد عليها- وذكرنا بعض الآيات التي اعتمدوا عليها في محاولتهم الابتعاد عن حجية السنة، زاعمين أن هذه الآيات تؤدي إلى ما ذهبوا إليه من إنكار للسنة المطهرة أو لحجيتها، ومن هذه الآيات قول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام: 38). الشبهة الأولى: حشدوا لها وجمعوا لها آيات كثيرة يتصورون بها أنهم قد أصابوا هدفًا أو حققوا غرضًا وهم يعتسفون التأويل. على كل حال، لا نريد أن نستطرد مع فهمهم، إنما نبين ضعفَ هذا الفهم، ومخالفته لأفهام الأمة التي التقت على هذا. هم فهموا من قول الله -تبارك وتعالى-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} أنه القرآن؛ يعني المقصود بالكتاب هو القرآن، مجموع الآيات في الحقيقة -التي قبل هذه الآية وبعد هذه الآية- ترد على هذا الفَهم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} هناك آيات ذُكر فيها اسم الكتاب -أو كلمة الكتاب- وهي لا تدل على القرآن الكريم، إنما تدل على اللوح المحفوظ؛ يعني المراد بالكتاب في هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} معناها اللوح المحفوظ، سياق الآيات يشعر بهذا. والآيات الأخرى المناظرة أو المماثلة لهذه الآية أيضًا يُعطي الدليل على هذا، من

ذلك مثلًا في القرآن الكريم قول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود: 6) يعني هذا الكتاب مفصح بأسمائها وأعدادها، وكل ما يتعلق بها في حركاتها وسكناتها إلى آخره، السياق يشعر بأنه اللوح المحفوظ. فهل كل دابة في الأرض على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين، هل ممكن أن نفهم من هذه الآية أن الكتاب هو القرآن؟ أين الكلام عن أرزاق الناس بالتفصيل؟ أين الكلام عن المستقر والمستودع الذي ورد بالنسبة لهذه الدواب في القرآن الكريم؟ إذن لا بد من حمل هذه الآية على اللوح المحفوظ، وليس على القرآن الكريم، ويرجح هذا -أو يقطع- ما ورد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما-وهذا حديث رواه الإمام مسلم في كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى -عليهما السلام- قال عبد الله بن عمرو بن العاص: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (هود: 7))). إذن، واضح من هذه الكتابة أنها في اللوح المحفوظ، وأنها كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومقادير الخلائق فيها الرزق وفيها الأجل وفيها المستقر وفيها المستودع الذي ورد في سورة هود: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. وأيضًا في سورة الأنعام نفسها: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام: 59) هذا الكتاب المبين لا يمكن أن يكون القرآن، وإلا أين نجد في القرآن مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو؟ وكل ما في البر والبحر؟ وما تسقط

من ورقة إلا يعلمها؟ ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين؟ هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ يقينًا. أيضًا ما ورد من قوله -تبارك وتعالى- {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سبأ: 3) هذا الكتاب المبين لا بد أن يكون هو اللوح المحفوظ، وليس المراد به القرآن الكريم، وإلا فأين نجد تفاصيل كل ذرة في السموات أو في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في هذا القرآن الكريم؟ إذن، في ضوء هذه الآيات نفهم أن المراد في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} المراد بالكتاب هو اللوح المحفوظ، والقول بأنه القرآن الكريم حقيقةً قول يأباه السياق العام للآية، ومعلوم أن الآيات تُفهم في ضَوْء ما قبلها وفي ضَوْء ما بعدها، الآيات تتكلم عن أن الله -عز وجل- علِمَ كل صغيرة وكبيرة، أن بقية المخلوقات أمم تماثل أمة الإسلام، لها الأرزاق ولها الآجال، كل المخلوقات: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} ولا طائر من الطيور ومن الدواب ومن الحشرات، كلها أمم أمثالكم، سُجّلت كل تفاصيلها كما سجل تفاصيل الإنسان في الكتاب، فهذا الكتاب لا بد أن يكون هو اللوح المحفوظ، وإلا لو أخذنا الآية في سياقها الذي تتحدث عنه أين هي تفاصيل حياة هذه الأمم التي هي أمم مثل أمة الإسلام؟ وأين الكلامُ عن أرزاقها وآجالها، ومستقرها ومستودعها، وتفاصيل حياتها، ومناهجها ولغاتها؟ كل ذلك أين نجده في القرآن الكريم؟ فاقتطاع الجملة من سياقها العام لأستخدمها في دليل فيه اعتساف لا يتوافق ولا يتناسق مع سياق الآية، أمر لا يقول به أحد من أهل العلم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون} (الأنعام: 38) كل هذه الأمم تحشر إلى ربها، أيضًا هذا سياق الآية فيما قبلها وفيما بعدها.

فتنتزع هذه الجملة: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} وتصر على أن الكتاب هو القرآن، هذا خلل في الفهم لا يساعد عليه سياق الآية ولا الجملة التي قبلها ولا الجملة التي بعدها، ومع افتراض أن الكتاب هنا مقصود به القرآن الكريم، وهذا افتراض جدلي من باب منازلة الخصوم، نعم: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، ذكر الله القواعد العامة للأمور كلها، لكن التفصيلات تركها للسنة المطهرة، ومن بين ما لم يفرط الله -تبارك وتعالى- فيه أنه أوجب في القرآن الكريم طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59) أدرِجها تحت قوله -تبارك وتعالى-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} من بين ما لم يفرط الله فيه في القرآن الكريم: أنه أوجب طاعة رسوله، فلماذا تستبعد إذن هذه الآية، ولا تريد أن تفهم الأمر على هذا النحو؟ الأوفق لسياق الآية أن يقال: إن الكتاب هو اللوح المحفوظ، ومعظم المفسرين درجوا على هذا، ولا نريد أن نطيل بذكر أقوالهم، وهناك من قال: نعم، إنه القرآن لا ننازع في هذا، وهناك من قال: إنه القرآن، لكن القول الأشهر عندهم أنه اللوح المحفوظ، وقلنا: إن سياق الآية يرشح ويرجح هذا الفهم، وكما قلنا: كلمة الكتاب وردت بمعنى غير القرآن الكريم في آيات كثيرة، ذكرنا بعضها، ومن ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آل عمران: 145) لا يمكن أن يُفهم هذا الكتاب إلا على أنه القدر مثلًا، أو الحكم الثابت الذي لا يقبل النقض ولا الإبرام، والوقت المحدد والأجل المحتوم الذي كتبه الله لكل نفس. لا أحد يموت إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي كتبها الله -تبارك وتعالى- له: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (فاطر: 11) {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُون} (الأنعام: 2) وحين يقول الله -تبارك وتعالى- مثلًا: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103) أي: مفروضًا محددًا.

إذن، كلمة الكتاب في القرآن الكريم تأتي بمعاني متعددة: وقد يأتي الكتاب أيضًا بمعنى القرآن، كما في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 1) وكما في قوله -تبارك وتعالى-: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين} (البقرة: 1، 2) هذا القرآن لا ريب فيه ولا شك فيه، و"ذلك" اسم إشارة للتعظيم، أيضًا: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (آل عمران: 2، 3، 4) إلى آخر الآيات التي سياقها يحتم أنه القرآن الكريم: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين} (الأعراف: 2) السياق قاطع في أن المراد بهذا الكتاب هو القرآن الكريم. إذن حين تتعدد معاني الكلمة في اللغة وفي الاستعمالات، فإنه من المتفق عليه عند العلماء أن السياق هو الذي يحدد المعنى المراد، لذلك نظائر كثيرة في اللغة العربية، كثير من ألفاظ اللغة العربية تتعدد معانيها، والذي يحدد المعنى هو السياق، مثلًا: كلمة "العين" تأتي في اللغة بمعاني متعددة: منها مثلًا عين الماء، منها العين الباصرة أي: أداة البصر التي خلقها الله تعالى لنبصر بها، ومنها الجاسوس؛ فمثلًا حين يقول الله -تبارك وتعالى- وهو يتكلم عن الجنة: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (الغاشية: 12) هذه عين الماء، حين أقول مثلًا: للأعداء عين في بلادنا مثلًا -والعياذ بالله- معناها الجاسوس، حين أقول: رأيت بعيني معناها العين الباصرة أداة البصر التي نبصر بها بفضل الله -تبارك وتعالى- السياق هو الذي يحدد المعنى المراد، ولا أستطيع أن أحمل المعنى على غير ما يحتمله السياق وإلا كان ذلك فسادًا في المعنى. فلو قلت مثلًا: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} (الغاشية: 12، 13) والآيات تتحدث عن الجنة أقول: إن المراد بالعين هنا هي العين الباصرة!! فهذا فساد في المعنى وخلل في الفهم، لا يحق لمسلم أن يقع فيه، ومع ذلك نحن نقول {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} واضح من سياقها وهي تتحدث عن أن كل المخلوقات أمم

قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}، {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا}.

تماثل أمة الإسلام، وقد سجل كل شيء يتعلق بها في الكتاب، السياق يحتم أنه اللوح المحفوظ، ومع ذلك لو سلمنا جدلًا بأن المراد بالكتاب في الآية هو القرآن الكريم وهذا فهم بعيد، وافتراضنا له إنما هو افتراض جدلي، فإن هذه الآية لا تعارض حجية السنة أبدًا، ولا يُفهم منها أننا نكتفي بالقرآن الكريم فقط؛ لأنه كما قال العلماء-: إن هذه الآية لا تتعارض؛ لأنها تدخل أيضًا تحت ما لم يفرط الله -تبارك وتعالى- فيه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. قد أوجبنا طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كثير من الآيات، فهي داخلة في قوله -تبارك وتعالى-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على أساس أن الكتاب المراد في الآية هو القرآن الكريم، مع استبعادنا لهذا الفهم، ومع إقرارنا بأن الكتاب المراد به اللوح المحفوظ، كما ذكرنا مرارًا. قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} ننتقل إلى آية أخرى أيضًا يحتجون بها، من ذلك مثلًا: قول الله -تبارك وتعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89) ننتقل إلى آيات أخرى حاولوا أن يستدلوا بها؛ من ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (الأنعام: 114). والكتاب في سياق الآيتين المراد به هو القرآن الكريم: {نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: هذا لا يُعارض فيه أحد: {هُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} المراد بالتفصيل هنا وبالبيان تفصيل وبيان كل شيء من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة، هذا أمر لو قلتَ: إنه تفصيل لكل صغيرة وكبيرة

لكان من العبث استمرار النقاش، لا يصلح أن نتناقش في البدهيات؛ لأن نقاش البدهيات يزيدها غموضًا، وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل! لماذا أقول هذا الكلام؟ لو أنك تصرّ على فهم كلمة "مفصلًا" يعني كل صغيرة وكبيرة، سأعود إليك وأقول: أين صلاة الظهر من القرآن الكريم أربعًا؟ أين العصر؟ أين أين؟ تفصيلات كثيرة، حين تكلمنا عن علاقة السنة بالقرآن الكريم قلنا: إن هناك نوعًا اسمه التفصيل المجمل، أمور كثيرة جدًّا وردت مجملة في القرآن الكريم. واعتمدت في تفصيلها على السنة المطهرة. يعني مثلًا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) ما هو الربا المحرم؟ الأصناف التي يدخلها، نريد أن نعرف الذهب بالذهب، مِثلًا بمثل، يدًا بيد، سواءً بسواء، "فمن زاد أو استزاد فقد أربى"، هاتِ هذا التفصيل من القرآن الكريم؟! الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب ... إلى آخر الأصناف المتماثلة التي ذُكرت في روايات الأحاديث، ومنها هذا الحديث وغيره، أين هي في القرآن الكريم؟ أين تفصيلها؟ نما لا بد أن نفهم أن التفصيل والبيان هنا، إنما هو تفصيل الأحكام من خلال قواعدها العامة، أما التفصيل الذي يشمل الجزئيات وأحكامها وما يتعلق بها، فهذا موكول إلى السنة المطهرة، وإلا فما معنى أن يقول الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم، وحتى في نفس السورة التي وردت فيها هذه الآية: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الكتاب بيّن كل شيء من خلال هذه الآية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، هل الآيتان متعارضتان؟ التعارض لا يكون إلا في ذهن من لا يحسن التعامل مع القرآن الكريم ومع النصوص الشرعية، لا تعارض أبدًا، لم يقل أحد من علماء الأمة الذين يعتد بأقوالهم: أن هذه الآية:

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} شملت كل صغيرة وكبيرة، وإلا فإن الواقع يُبعد هذا الفهم، كيف؟ بأي شيء نضرب الأمثلة؟ بالزواج مثلًا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} (النور: 32) حين أريد أن أنزل هذا الأمر منزلة التنفيذ، من أختار؟ أين هو في القرآن الكريم؟ كيف علاقتي بها أثناء الخطبة؟ كيف بعد العقد؟ قبل الدخول؟ كيف كيف كيف؟ تفصيلات كثيرة جدًّا أوكلها القرآن الكريم إلى السنة المطهرة. المنازعة في هذا أُصرّ على أنها منازعة في البدهيات، لا يستقيم معها أي شيء في فكر الإنسان، وبالتالي تكون النقاشات مضيعةً للوقت وللجهد، وإنما المقصود أن الكتاب الكريم -أي: القرآن- وضع القواعد العامةَ للحلال والحرام، وما إلى ذلك، ثم ترك تفصيلات كل ذلك للسنة المطهرة، وهذا وارد في قوله -تبارك وتعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فقاعدة اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو وجوب اتباعه والتحاكم إلى سنته، هي من القواعد العامة أيضًا التي فصلها القرآن الكريم ودعا إليها، وأوجب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرت الآيات الكريمة في هذا الصدد. {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 64) وضع القواعد العامة التي تنظّم الاختلافَ، والكتاب هدًى وهو رحمة، من استمسك به فقد هُدِيَ، وقد كتبت له الرحمة في الدنيا وفي الآخرة، كل ذلك حق، لكن الأحكام الشرعية بتفصيلاتها ليست مذكورةً في القرآن الكريم، والواقع يؤكد هذه الحقيقة: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. إذًا هذا التبيان يحتاج إلى السنة، بل هو موكول إلى السنة، ولذلك قال الأوزاعي -رحمه الله، وهو أحد كبار علماء هذه الأمة- وقد ذكر ذلك ابن كثير في أثناء تفسير هذه الآية قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}

أي: بالسنة، يعني: بيّنا لك بالسنة؛ لأن السنة هي التي تكفلت ببيان معظم الأحكام الشرعية، وتفصيلاتها، إما استقلالًا -أي: بدءًا- من غير أن يسبق لها ذِكر في القرآن الكريم، وإما قد يُذكر أصلها في القرآن الكريم، لكن السنة هي التي تتولى التفصيلات. ابن مسعود يقول: "بُين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء". وقال مجاهد: كل حلال وكل حرام، فهل معنى هذا أنهم فهموا كل التفصيلات؟ لا، ولذلك قد يستند البعض، وأيضًا ذَكر هذه الأقوال ابن كثير وهو يتعرض لهذه الآية، يعني قد يقول: إذا كنت قد ذكرت قول الأوزاعي: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أي: بالسنة، فلماذا لم تذكر قول ابن مسعود: "قد بُين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء". وقال مجاهد: كل حرام وكل حلال، القرآن اشتمل على كل علم، سأقول في فَهم ابن مسعود ما فهمه هو ولم آتِ به من عند نفسي، وما سبق لنا ذكره، حين لعن عبد الله بن مسعود النامصات والمتنمصات، والواشمات والمستوشمات؛ أي: التي تُرقّق حاجبها وهي النامصة، والمتنمصة: أي التي تطلب والتي تفعل لنفسها أو لغيرها، والواشمات أي: اللواتي يضعن علامات على وجوههن؛ تجمُّلًا مثل المساحيق التي يضعونها في أيامنا هذه، هؤلاء واشمات، لُعنت الواشمة ولُعنت المستوشمة، التي تطلب والتي تفعل، سواء كان فعلها لنفسها أو لغيرها، يعني: لا تعتذر واحدة بأنها لم تفعل ذلك لنفسها وإنما فعلته لغيرها! فهي واقعة في الإثم أيضًا بنص الحديث. والمتفلجات للحسن: أي: اللواتي يبردن أسنانهن ويفرقن بينها؛ لتبدو في شكل جميل، هذا أمر يعرفه النساء فيما بينهن. المهم لعن عبد الله بن مسعود الواشمة والمستوشمة، النامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، وامرأة من الأنصار قالت له في ذلك:

ماذا بك لكي تلعن ولكي تفرض أحكامًا فيها حلال وفيها حرام؟ قال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو موجود في كتاب الله". وقالت المرأة: والله لقد قرأتُ ما بين اللوحين أو ما بين الدفتين فلم أجد، وكأنها تبحث عن هذا النص: "لعن الله أو لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الواشمات والمستوشمات" فلم تجدها في كتاب الله، فقال لها عبد الله بن مسعود: "والله لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه". نُصِرّ على أن لا نفهم النصوص بعيدًا عن فَهم الصحابة، ويقولون لنا في لججهم ومجادلاتهم: إن هذا عودة بالأمة إلى الخلف. تعبيرات ما أنزل الله بها من سلطان. هؤلاء الصحابة هم حجة علينا في فهمهم؛ لأنهم هم الذين تلقوا عن الأستاذ الأول وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعرفوا الوحي وعرفوا اللغة وعرفوا مدلولاتها، وعاينوا الأحداث، وشاهدوا أسباب النزول، وكل ذلك يُعين على فهم النصوص الشرعية وتحديد المراد منها. عبد الله بن مسعود الذي يقول: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} يعني: فيه علم كل شيء، ومجاهد يقول: كل حلال وكل حرام، هل فهم عبد الله بن مسعود أن كل شيء مذكور في القرآن الكريم بتفصيلاته؟ لماذا قال للمرأة: "لئن قرأتيه فقد وجدتيه، ألم تقرأي قول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} " (الحشر: 7) في هذه الإجابة ماذا فعل عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-؟ وضع هذا الحديث تحت قاعدته الكلية التي وردت في القرآن الكريم في قوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) هذا يدخل تحته كل حديث قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه. إذن مثل هذا هو المراد بتبيان القرآن: القواعد العامة، وضع القرآن الكريم القاعدة في أنه لا بد من طاعة الرسول، ليس في آية الحشر فحسب، بل في كثير من الآيات التي تكلمنا عنها سابقًا، إذًا أصبحت هناك قاعدة كلية قرآنية، وهي

وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحت هذه القاعدة الكلية أقول مثلًا: ((لعن الله آكل الربا، وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)) حديث رواه الإمام مسلم في تحريم الربا، أين هو في القرآن الكريم؟ بالإضافة إلى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) إنما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو لعن الله، هذه تندرج تحت قاعدة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وتحت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. إذن هذا فهم الصحابة؛ أن القرآن بين القواعد الكلية العامة التي جاءت السنة وبينت كثيرًا من تفصيلاتها ومن جزئياتها، وشرّعت أيضًا كما يشرّع القرآن الكريم، واستقام الفهم الإسلامي طوال عصوره وإلى يوم أن يرث الله الأرضَ ومن عليها على هذا الأمر؛ القرآن يضع القواعد العامةَ ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هو أعلم الأمة بمراد ربه، وهو الذي يفسّر القرآن الكريم، ويوضّح مراد الله -عز وجل- من القرآن الكريم، وعلى الأمة أن تسمع له وأن تطيع. وإذا بحثتَ عن الأدلة في وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ستجدها في آيات كثيرةٍ من القرآن الكريم، وبذلك تكون طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي من بين ما لم يفرط الله -تبارك وتعالى- فيه في قوله -تبارك وتعالى-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وهي في نفس الوقت أيضًا تندرج تحت: تبيان القرآن لكل شيء، فقد بين القرآن الكريم طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا، هناك آياتٌ كثيرة تبين هذه الحقائق، وهي أن لا بد من هذا الفَهم، وإلا تناقضت النتائج التي يحاول منكرو السنة أن يصلوا إليها، مثلًا: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} ما علاقتها بقوله -تبارك وتعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}؟ الآيتان تبينان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يبين:

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} أنزل الله الكتاب لكي تبين أنتَ يا رسول الله لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فمهمة البيان موكولةٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. إذن، لو أننا لم نفهم الفهمَ الذي نشير إليه: أن القرآن وضع القواعد العامة وجاءت السنة وذكرت التفصيلات، واجتهاد العلماء يُنزل كل تفصيل تحت قاعدته العامة من خلال السنة المطهرة، لتصورنا أن القرآن الكريم يُناقض بعضُه بعضًا، ليست المشكلة مع السنة فحسب، بل هي أيضًا ستصبح مع القرآن الكريم، كيف ذلك؟ الآيات التي بينت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي سيبين للناس ما نزل إليهم، كيف تتعامل معها في ضوء إصرارك على أن القرآن الكريم فقط هو الذي يبين كل شيء؟ كل الرافضين لحجية السنة لا بد أن يلتزموا بهذه النتيجة، وهي أن القرآن الكريم وضع القواعد العامة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} إلى آخر ما ذكرناه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} بل إن الله -تبارك وتعالى- بين أن هذه مهمة الرسل جميعًا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) كل رسول يبين لأمته ما نُزّل إليهم، ويوضح لهم مراد الله -عز وجل- من الأحكام التي افترضها على عباده، ولولا بيان الرسول لكل أمة من الأمم، لَمَا استقامت أمة أبدًا على منهج الله؛ يعني: هذا فهمٌ لا بد أن يقول به كل عاقل رشيد، الرسل جاءت لتبين لأممها مراد الله -عز وجل- من خلقه، وتبين لهم ما افترضه سبحانه عليهم؛ لكي يقوموا به وينفّذوه، والرسل يقدمون للأمم القدوةَ العملية والتطبيقَ الصحيح لما أراده الله -عز وجل- من الأمم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) يعني: حتى الذين أوتوا الكتاب سيبينون للناس ما نزل إليهم، وإذا كتموه فقد تعرّضوا لعقاب الله -تبارك وتعالى-.

ولذلك كان من الضروري أن يكون كل رسول يتحدث بلسان قومه؛ حتى يستطيع أن يتفهم معهم في كل ما يريد أن يوضحه لهم، والذين أوتوا الكتاب أيضًا يبينونه للناس، وأخذ الله الميثاقَ عليهم من ذلك، ولذلك من كتم علمًا أعطاه الله إياه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، حتى العلماء الذين هم غير الأنبياء عندهم علم وعندهم أفهام؛ لما ورد في كتاب الله -تبارك وتعالى- ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء العلماء مِنحة من الله -تبارك وتعالى- لأممهم، رزقهم الله أفهامًا وآتاهم الأدوات العلمية التي في ضوئها يستطيعون أن يفهموا كلام الله -عز وجل- وأن يفهموا أحاديثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يقدموا هذا الفهم للأمة في ضوء قواعد اللغة العربية، وفي ضوء القواعد الشرعية، وفي ضوء قواعد كثيرة اصطلح العلماء على ضرورة وجودها فيمن يتصدى لفهم أدلة الشرع المأخوذة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة. فإذا كان كل الرسل يبينون لأقوامهم، وإذا كان أولو الكتاب أُخذ عليهم الميثاق ألا يكتموا علمًا علمهم الله إياهم، سواء كان أهل الكتاب من الأمم السابقة أو من أمة الإسلام الذين رزقهم الله أفهامًا في كتاب الله -تبارك وتعالى- وحُذر العلماء من أن يكتموا علمًا تعلموه أو نقلوه عن أسلافهم، وإلا ألجموا بلجام من نار يوم القيامة، أين هذه النصوص كلها من قول الله -تبارك وتعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}؟ ما حاجتنا للعلماء إذا كان القرآن قد نزل الكتاب تبيانًا لكل شيء؟ وكيف نفهم هذه الآية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}، {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون}؟ لكن ما العمل مع قوم البدهيات والمسلمات واضحة وقاطعة من خلال الأدلة، ومن خلال عمل الأمة كلها، ومن خلال فهم الأجيال الفاضلة، ومن خلال

قوله تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.

فهم الجيل الذي تلقى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعايش الأحداث؟؟ لم ينقل عن أحد من الصحابة أبدًا أنه قال: القرآن يكفي، ولم ينقل عن واحد منهم أبدًا أنه بحث عن الحكم في القرآن الكريم فلما لم يجده، اقتصر على ذلك، وحتى إذا وجده في القرآن الكريم يبحث أيضًا عن الأدلة في السنة، ففيها مزيد من التوضيح والبيان والتفصيل والإضافات، وما إلى ذلك. هذا أمر نضيع الوقت في إثباته، لكن على كل حال نرد على الآيات التي أوردوها وهم يتصورون أنهم بذلك يثيرون شبهًا أوقعوا أهل الإسلام في حيص بيص، وأقاموا عليهم الحجة، أبدًا الأمور أبين وأوضح من هذا، ولا تحتاج إلى كل هذا العناء الذي يجهدون أنفسهم فيه. قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أيضًا، لأنهم يبحثون عن الشبهات بأي طريقة من الطرق، يأتون بآيات لا يَسلم لهم الاستدلال بها؛ فمثلًا حين يقولون: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) أي دليلٍ في هذه الآية على التمسك بالقرآن الكريم وحده؟ {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19) هل الآية قالت: لا إنذار إلا بالقرآن؟ إذا قلتَ ذلك، فماذا تفعل في قول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الأحزاب: 45) النبي -صلى الله عليه وسلم- نذير، ليس بالقرآن فقط وإنما بالسنة أيضًا: ((أنا النذير العريان)) الأحاديث الذي وردت فيها حين أمر بأن يصدع ويجهر بدعوته بعد الفترة الفردية أو السرية، ونزل قول الله -تبارك وتعالى-: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين} (الحجر: 94) ونزل قول الله

قوله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب ... }، {والذين يمسكون بالكتاب}.

-تبارك وتعالى-: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214)، والحديث في الصحيحين: ((صعد على جبل الصفا، ونادى قبائل قريش كلها، ولما اجتمعوا: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، آيات كثيرة والنبي -صلى الله عليه وسلم- خطبهم وحذرهم وأنذرهم وبشّرهم، يعني: ((أفلا أبشر الناس؟)) ((من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة))، ((لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أأبشر الناسَ يا رسول الله؟ يقول: إذن يتكلوا)). أحاديث كثيرة جدًّا الذي بشر هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- والذي أنذر هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأي دلالة في الآية على الاكتفاء بالقرآن الكريم وحده؟ إنهم يجمعون آيات يتصورون أنها تسعفهم فيما ذهبوا إليه من إنكار حجية السنة، وكأنهم وقعوا على ما لم تقع عليه الأمة من قبلهم. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... }، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} (العنكبوت: 51) {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين} (الأعراف: 170). {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} يعني: التمسك بقوة، ومهما كان هناك من عقبات وما إلى ذلك، أي دلالة في الآية على الاقتصار على القرآن الكريم؟ نريد من الكل أن يتمسك بالكتاب وبالقرآن الكريم، وندعو المسلمين جميعًا إلى كل ذلك، بل ندعو الناس إلى هذا، ومن يتمسك بالقرآن الكريم ويطبّقه بالضرورة

سيطبق السنة؛ لأن آيات كثيرة أوردناها ونحن نتكلم عن حجية السنة وقلنا عنها: إنها قضية قرآنية. الذين يمسكون بالكتاب سيمسكون بقوله -تبارك وتعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء: 65) الذين ينذرون بالقرآن الكريم سينذرون الأمةَ إذا هم قصّروا في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيكون قول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} من بين الأدلة الدالة على ذلك. يعني: آيات كثيرة -كما قلت- يجمعونها ويذكرونها، وكأنهم كما قلت: وقعوا على كنز، إنما والله هو من باب التعسف في الدليل، وإلا فلا دلالة أبدًا في الآيات عن أن المراد هو الاقتصار على القرآن الكريم. من الممكن أن يُقال: يعني الآيات التي قد تشتبه عليهم في فهمها التي توقفنا معها طويلًا: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، وبينا أنه اللوح المحفوظ في المقام الأول وأيضًا {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (الأنعام: 114)، لا والله، لا أريدك أن تبتغي غير الله حكمًا أبدًا أخي المسلم في أي مكان في الدنيا ولا أريدك أن تعدل عن حكم الله في الضرورة اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. يا من تنكر حجية السنة أنت ابتغيت حكمًا غير حكم الله، ابتدعت حكمًا من عند نفسك وأقنعت به نفسك، وإلا فأين أنت من كل الآيات الدالة على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ماذا ستفعل بها؟ {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} هل أنت احتكمت إلى ربك وإلى كلامه في القرآن الكريم حين قلت: إن السنة ليست حجة؟ حين أنكرت هذا الكم الهائل من

قوله تعالى: { ... إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}.

الآيات التي بينت منزلة السنة وضرورة اتباعها؟ نريدك أن تبتغي حكم الله وحده، وأن تنزل على حكم الله وحده وألا تحتكم إلى منهج سواه، هذا ما نريده منك ومن كل مسلم: التمسك بالقرآن الكريم. قوله تعالى: { ... إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} هناك آيات أخرى أيضًا حاولوا أن يستدلوا منها أدلة على ابتعادهم عن السنة أو عدم حجيتها، من ذلك مثلًا قول الله -تبارك وتعالى-: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30). وهذا عجيب في فهمهم، إنه فهم لم يقل به أحد من الأمة، هل الذين يتمسكون بالسنة اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، أم الذين ابتعدوا عن السنة هم الذين هجروا القرآن؟ الصواب واضح، الذين ابتعدوا عن السنة وحاولوا أن يسقطوا حجيتها هم الذين هجروا القرآن وهجروا أحكامه وهجروا آياته، كل الآيات التي دعت إلى اتباع السنة المطهرة قاطعة الدلالة في وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف تهجرونها؟ وكيف تقاطعونها؟ وكيف لا تقولون بها؟ ثم تزعمون أنكم تدافعون عن القرآن الكريم، وتدعون إلى التمسك به!! وتستدلون بهذه الآية التي هي عليكم وليست لكم؟ الذي يحث بل يُوجب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} الذي يقول: إن طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست واجبةً، وإن السنة ليست حجةً ولا يجب العمل بها، ماذا سيفعل مع قول الله -تبارك وتعالى-:

قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون}، {اليوم أكملت لكم دينكم}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}؟ وماذا سيفعل مع قوله -تبارك وتعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وغيرها من الآيات الكثيرة التي ذكرناها مرارًا؟ هم الذين اتخذوا القرآنَ مهجورًا، هم الذين جفوه وقاطعوه، وقطعوا أحكامه، وخالفوا نهجَه، عصوا الله -عز وجل- وعصوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببعدهم عن هذه الآيات. إذن، هذه الآية لا دلالة فيها أبدًا، هل الذي يطبق السنة يهجر القرآن، ما هذا الفهم؟ إنه فهم سقيم حقيقة، مخالف للآيات مخالف للقرآن مخالف للسنة، بل الذي -كما قلت- يعارض في حجية السنة هو الذي يهجر القرآن، ويقاطع القرآن، ولا يطبق القرآن، مهما زعم من صلته بالقرآن ومهما ادعى الغيرة على القرآن وعلى أحكامه. قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أيضًا آية: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 185) نؤمن بالقرآن، ونعلم أنه حق وأنه من عند الله -تبارك وتعالى- وأنه نزل به الروح الأمين وسيدنا جبريل على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، نعلم ذلك كله ونتيقنه، وندين الله تعالى به، ونعلم أننا أيضًا لا نؤمن بغير القرآن، إنما نستجيب للقرآن وللسنة؛ استجابةً لأوامر القرآن، السنة مع القرآن، السنة التي أوصى الله -تبارك وتعالى- بها في القرآن الكريم، هل آمنت بالقرآن حين أنكرت حجية السنة؟ نعم: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ولا بأي حديث غيره يا رب، إنما حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- هو جزء من القرآن، هو الذي يبين القرآنَ، هو الذي يشرع مع القرآن، هو الذي أوجب الله -تبارك وتعالى- طاعته في القرآن الكريم في عشرات الآيات.

فالذين يُعاندون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤمنون بحجيتها هم الذين عاندوا القرآن وجحدوه، وجحدوا أحكامه وجحدوا آياته، واتبعوا منهجًا غير منهجه، وسبيلًا غير سبيله، نعم: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} نؤمن بكتاب الله -تبارك وتعالى- نؤمن بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، نؤمن بأنه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- الذي يخبر عن الله -تبارك وتعالى- والذي هو أعلم هذه الأمة بمراد الله -تبارك وتعالى- والذي أوكل الله -تبارك وتعالى- إليه بيانَ القرآن الكريم للناس أجمعين إلى يوم القيامة، ويواصل مهمته أهلُ العلم الذين هم ورثة الأنبياء على ما استقرت عليه أفهام الأمة من سلفها إلى خلفها، ومن قديمها إلى حديثها، وأيضًا أجمع الجميع ممن يعتد بإجماعهم على ذلك من أهل السنة والجماعة، الذين نحن منهم بإذن الله -تبارك وتعالى-. أيضًا آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) نعم لا دلالة في هذه الآية على البعد عن السنة، ولا أي شبهة لا من قريب ولا من بعيد، كل الأمة مجمعة على أننا نأخذ الإسلام من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، وهما المصدران الرئيسان للإسلام، وأحكامه، وتشريعاته، وعقيدته، وعبادته، وأخلاقه ... إلى آخره، والأدلة الأخرى التي يلجأ إليها العلماء على نقاشٍ فيما بينهم من القياس ومن الإجماع، إنما كل ذلك مرده إلى الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم، وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- في السنة المطهرة. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الذي هو دين الإسلام: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أتم الإسلام وكمل الإسلام، وتم تشريع الله، وكمل شرع الله الحنيف: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، الحمد لله، ونحن رضينا بالله -تبارك وتعالى-

ربًّا وبالإسلام دينًا وبسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، ونعلم أن الإسلام إنما يؤخذ من القرآن الكريم ويؤخذ من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. والذين يجافون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- هم على جفوة مع القرآن الكريم، هم على جفوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل أين رضاهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وما علامة رضاهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؟! الذي أمرنا أن يكون هذا من الأذكار اليومية، وأن نعلنه صباحًا مساءً: "رضيت بالله -تبارك وتعالى- ربًّا وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا". لم يرضَ الإسلام دينًا مَن جحد السنةَ، بل لم يرض الله ربًّا؛ لأنه خالف أمره في عدم اتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولم يرضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يقر برسالته، لكن المنافقون زعموا أنهم قالوا: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} (المنافقون: 1) والله -عز وجل- سجّل عليهم الكذبَ. معاندة السنة قد تصل بالإنسان إلى ما هو أسوأ من النفاق -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ولا دليلَ على الرضا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن نصدق بأنه النبي الصادق المصدوق الذي أمرنا الله -تبارك وتعالى- باتباعه، وهو صادق في كل ما بلغه عن الله -عز وجل- وصادق في كل قول يقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4). هذا ما ندين الله -تبارك وتعالى- به، ونعلم أن الإسلام هو القرآن، وهو السنة المطهرة، والدليل المأخوذ منهما هو الدليل الشرعي الذي تسير عليه الأمةُ في كل أحكامها الشرعية. وهذه معظم الآيات التي يستند إليها المعاندون للسنة، ويتصورون أنهم بذلك قد أتوا بأدلةٍ تحث على اتباع القرآن الكريم وحدَه، وقد رددنا عليها بما وفّق الله -تبارك وتعالى- به أقول: إننا نتناقش في البدهيات، آيات القرآن الكريم واضحة الدلالة في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- بل في وجوب اتباعه، بل في تعليق الإيمان على ذلك، كما ذكرنا مرارًا. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 10 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (3).

الدرس: 10 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (3).

شبهة: أن الله سبحانه تكفل بحفظ القرآن ولم يتكفل بحفظ السنة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة (3)) شبهة: أن الله سبحانه تكفّل بحفظ القرآن ولم يتكفَّل بحفظ السنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ ثم أما بعد: فنرد أيضًا على بعض الشبه التي أثارها المشككون في حجية السنة، رددنا على فهمهم لكثير من الآيات التي حاولوا أن يستدلوا بها على غير بابها، وبينا أن فهمهم مخالف لفهم الأمة بأجمعها من سلفها وخلفها وقديمها وحديثها. نواصل -بعون من الله تبارك وتعالى وتوفيقه- الرد على زعمهم بأن السنة المطهرة لم تحفظ، وهي شبهة أثاروها أيضًا، محاولين أن يستدلوا بها على ابتعادهم عن السنة وعدم تمسكهم بها، وعدم اعترافهم بحجيتها. يقولون: إن القرآن الكريم قد حُفظ، وهذا الحفظ قد سجله الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم في قوله -تبارك وتعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} (الحجر: 9) وإن هذه الآية تدل على أن القرآن وحده هو الذي حُفظ، ويستدلون أيضًا بأن السنة تعرضت لمشاكلَ كثيرة من وضّاعين، ومن من حاولوا أن يضيفوا إليها، وأن يحذفوا منها وأن يسقطوا الاحتجاج بها ... إلى آخر ما يحاولون إثارته من شبه؛ ليستدلوا بها على أن السنة النبوية لم تُحفظ، وما دامت لم تحفظ فهي يتطرق إليها الشك والاحتمالُ، ومن ثم لا تكون لها حجية في الشرع، ولا نستطيع أن نحتكم إليها. هذا هو هدفهم الذي يحاولون أن يصلوا إليه، وأن يحاولوا أيضًا إثباته من خلال الأدلة. الرد من مجموعة من الجوانب: أولًا: اتفقنا من خلال الأدلة من القرآن الكريم: على أن السنة تبين القرآن الكريم، وبداهةً لا يُمكن حفظ المُبيّن -وهو القرآن الكريم- بدون حفظ المبيّن -وهو

السنة المطهرة- وإلا لما كان هناك معنى؛ لأن السنة غير المحفوظة -على زعمهم- تُبيّن نصًّا محفوظًا اعترفوا هم بحفظه فقط دون السنة المطهرة، ما قيمة حفظ المبيَّن إذا لم يحفظ المبيِّن الذي بينه؟! اللهم إلا إذا نازعوا في أن السنة تبين القرآن الكريم، وحينئذٍ يتصادمون مع القرآن نفسه كما أوردنا قبل ذلك. على أن الذكر في آية الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} كثيرٌ من العلماء قال: بأن المراد به القرآن والسنة، المراد به رسالة الإسلام، وقالوا: إن الآيات التي وردت تبين هذا، ويقصدون سياق الآيات التي تكلمت عن الكافرين، وأنهم يستهزئون بالقرآن الكريم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 3: 9) هؤلاء السفهاء من الكفار يستهزئون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتهمونه بالجنون، وما دام مجنونًا فإن الذي أتى به -سواء من القرآن أو من السنة- لا يمكن أن يكون محفوظًا، ولا له قيمة؛ لأنه صدر عن شخص مجنون، فدافع الله -عز وجل- عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله- سبحانه وتعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. فسياق الآيات يُشعر بأن الذكر المراد في الآية إنما هو القرآن والسنة؛ أي: كل الذي نطق به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاء به من عند الله -تبارك وتعالى- ردًّا على هؤلاء الكافرين المستهزئين الذين سخروا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واتهموه بالجنون -قاتلهم الله وانتقم منهم بقوته سبحانه وتعالى-. وهذا الفَهم كثير من العلماء قاله، وقالوا: إن المراد أيضًا بـ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الضمير في "له" يعود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: نزلنا الذكر

وحفظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَستلزم بالضرورة حفظ سنته، حفظ ما قاله، يعني: كيف يحفظ هو في ذاته فقط من الاتهامات؟ إنما أيضًا يحفظ من الاتهامات الظالمة؛ من اتهامه بالجنون، من أن ما جاء به ليس من عند الله، بأنه لا ينطق عن الحق ... إلى آخر ما اتهموه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حفظ للقرآن الكريم، وحفظ لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ابن جرير -رحمه الله تعالى- في تفسيره قال: الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يعود على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه، هذا رأي أورده بعد أن بيّن أيضًا أن: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: يعود على القرآن الكريم أيضًا في المقام الأول، ونزيد نحن في استدلال ابن جرير نقول: حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقتضي حفظ سنته، هذا من البدهيات، وإلا فلا معنى لحفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عدم حفظ سنته؛ لأن الباب للتشنيع عليه ولاتهامه وللسخرية منه سيظل مفتوحًا ما لم تُحفظ سنته بحفظ الله -تبارك وتعالى-. أيضًا هذا الرأي -أي: الضمير في عودته على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاله الألوسي -رحمه الله تعالى- ونسبه إلى الفراء، وقال -النقل عن الفراء-: وإنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) يقول الألوسي: والمعول عليه الأول -أي: الرأي الأول- في أن المراد به القرآن، وابن كثير أيضًا ذكر هذا الرأي في تفسيره. يقول -رحمه الله تعالى-: ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} على النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} والمعنى الأول أولى؛ أي: المعنى الأول أن المراد به القرآن وهو المناسب للسياق. انتهى كلام ابن كثير.

وذكره الزمخشري -رحمه الله تعالى- في (الكشاف) عند تفسيره لهذه الآية، رأيًا ثانيًا، لكنه لم يستبعده كما استبعده ابن كثير وكما استبعده الألوسي، وفي تفسير أبي السعود -رحمه الله تعالى- المسمى بـ (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم) ذكره أيضًا ولم يستبعده، وذكره الفخر الرازي -رحمه الله تعالى- في تفسيره الموسوم بـ (التفسير الكبير ومفاتح الغيب)، ونسَبَه إلى الفرّاء وقال: زاد أيضًا، وقوّى ابن الأنباري هذا القول؛ يعني: ابن الأنباري قوى القول بأن مرجع الضمير يعود أيضًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- واعتبره رأيًا قويًّا، ونقل الفخر -رحمه الله- في تفسيره قول ابن الأنباري هذا. إذن نحن أمام جملة من العلماء، وإن كان بعضهم قد استبعد إلا أنهم ذكروه رأيًا من بين الآراء في الآية، يعني: هذه الأقوال من قديم ليست من واردة اليوم وليست من فهمنا نحن؛ حتى يتهمنا البعض بأننا ندافع عن السنة بتعسف، هي أقوال قديمة موجودة: أن المراد بالحفظ أيضًا للقرآن وللنبي -صلى الله عليه وسلم- وكما قلنا: من المعلوم بداهة أن حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلزم حفظ سنته، وإلا فإن الباب لم يغلق أمام سخرية الساخرين ومعاندة المعاندين، وجحود الجاحدين إذا بقيت السنة من غير حفظ على زعمهم. وعلى فرض أن المراد بالذكر في الآية -كما قلنا- هو القرآن الكريم فقط؛ فإننا نؤكد أن حفظ القرآن بالضرورة يستلزم حفظ السنة، وأنه لا معنى لحفظ السنة بدون حفظ القرآن الكريم، وهذا أمرٌ من البداهة بوضوح؛ بحيث لا نقف عنده كثيرًا. على أنه أيضًا توجد أدلة أخرى من القرآن الكريم في حفظ السنة، من ذلك: قوله -تبارك وتعالى- في سورة القيامة عن القرآن الكريم: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16 - 19) قد يقال: إن آية الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

دلالتها ليست إلا عن طريق اللزوم والتتبع؛ يعني: يلزم من حفظ القرآن حفظ السنة، والسنة تتبع القرآن، فكما حُفظ القرآن تُحفظ السنة، وهذا الدليل قد يعترض عليه البعض، إلا أن آيات سورة القيامة التي قرأناها نصّ صريح في حفظ الله -تبارك وتعالى- للسنة بطريق الأصالة والاستقلال، وليس عن طريق اللزوم أو الدلالة الالتزامية. دلالة الآيات على ذلك من وجوه: أن بيان القرآن الكريم على الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} الله -عز وجل- تكفل ببيان القرآن كيف؟ أوكل إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- هذه المهمة، كما في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) يترتب على ذلك أن الله -تبارك وتعالى- أوحى ببيانِ القرآن الكريم للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما أوحى له بالقرآن الكريم ذاته، الله -عز وجل- قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يعني: نحن الذين سنبين القرآن الكريم ثم في سورة النحل في أكثر من آية أوكل الله مهمة بيان القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم-. إذن، كما أوحى الله -تبارك وتعالى- بالقرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم- أوحى أيضًا ببيان القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهي السنة المطهرة، وكون السنة المطهرة وحيًّا من عند الله -تبارك وتعالى- هذا أمر ثابت بالأدلة، يترتب على أن الله -عز وجل- أوحى بالسنة كما أوحى بالقرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أن هناك وحيًّا متلوًّا وهو القرآن الكريم، ووحيًّا غير متلو وهو السنة المطهرة، وما دامت السنة وحيًّا من عند الله -تبارك وتعالى- وهي بيان للقرآن الكريم، فإن الله قد حفظ القرآن الكريم وحفظ بيانه، حفظ القرآن الكريم وحفظ السنة، وإلا كيف نفرق بينهما مع أن كليهما وحي من عند الله -تبارك وتعالى- ومع أن الله هو الذي تكفل ببيان القرآن على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-!!

هل يُنكر أحدٌ يفهم الأدلة الواضحة أمامه في أن الله -تبارك وتعالى- قد أنزل الذكر، وأنزل بيانه بالسنة المطهرة، مع افتراض أن الذكر هو القرآن الكريم فقط على حدّ ما زعموا، قد يشغب مشاغب ويقول: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: الله وحده هو الذي يُبين القرآن الكريم، وليس النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس الأمة من علمائها الوارثين للنبوة، بدليل قوله -تبارك وتعالى-: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. الرد على هذا الإشكال أو هذه المشاغبة من وجهين: أولًا: تعارض ذلك مع القرآن الكريم: في أن الله تعالى أوكل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- مهمة ما في القرآن الكريم، أنت إذا قلت: إن الله -تبارك وتعالى- وحده هو الذي بين القرآن الكريم ولم يبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبينه علماء الأمة فقد تعارضت مع القرآن الكريم على الأقل فيما يتصل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم الواضح القاطع الصريح في أن الله -تبارك وتعالى- كلّف نبيّه مهمة بيان القرآن الكريم كما في قوله -تبارك وتعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، أيضًا يتعارض هذا مع قوله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} من الذي جمعه؟ لو قلت: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) تفيد بأن الله وحده هو الذي بيّنه وليست السنة، الآية التي قبلها: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي: وقراءته، من الذي جمع القرآن الكريم؟ المسلمون جمعوه جمعين: في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- الجمع الأول، وفي عهد عثمان -رضي الله تعالى عنه- جمعه الجمع الثاني، في مصحف عثمان، ومعروف القصة للجميع، وهذه مسائل تدرس في علوم القرآن. إذن، الأمة هي التي جمعت القرآن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي بين القرآن الكريم للأمة من خلال السنة المطهرة.

إذن، لو قلت بأن علينا بيانه مقصود بها الله -عز وجل- تعارضت مع القرآن الكريم من زاويتين: الزاوية الأولى: آية النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وأيضًا في سورة القيامة: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} قبلها قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} والله -عز وجل- لم يجمع القرآن؛ بمعنى أنه لم يجمعه الجمع المعروف أنه جمع الآيات ... ، الوحي كان ينزل بها إلى كذا، لكن لم يوجد بيننا كتاب يقول: هذا جمع الله -تبارك وتعالى- للقرآن الكريم، إنما كان يوحى به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يبلغ الأمة بترتيب الآيات وترتيب السور، ثم إن الكل يعلم أن الخليفة الأول -رضي الله عنه- هو الذي جمع القرآن كله، ثم جاء الخليفة الثالث -رضي الله عنهم أجمعين- وجمع الأمة على مصحف عثمان الذي نعرفه جميعًا. إذن، من يشاغب في هذا فإنه لا يشاغب معنا إنما يعاند القرآن الكريم، فهذا يتصادم مع القرآن الكريم، وكما حفظت الأمة القرآن الكريم فهي أيضًا حفظت السنة المطهرة بوسائل متعددة وبجهد جبار في ذلك يُدرّس في مواد خاصة في مادة مثلًا تاريخ السنة أو مناهج العلماء، نتتبع فيه جهد الأمة في صيانة السنة المطهرة. إذن، وضح من خلال آيات القيامة أنها تحتوي على الدليل القاطع الأكيد في حفظ الله -تبارك وتعالى- للسنة المطهّرة. وأشرنا إلى أن السنة وحيٌ من عند الله رب العالمين، هذا ثابت بالقرآن والسنة، في قوله -تبارك وتعالى-: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم: 1: 5) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} -صلى الله عليه وسلم- {إِنْ هُوَ} أي: كل ما ينطق به: {إِلَّا وَحْيٌ} هذا أسلوب قصر عن طريق النفي والاستثناء، يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق إلا بوحي من الله -تبارك وتعالى- سواء كان من القرآن الكريم أو من السنة

المطهرة، وإن حاول البعض أن يجعل الضمير في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} أي: القرآن، فهذا تضييق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ستقصرها على القرآن أيضًا، هو نطق بالقرآن وبغيره، نطق بالسنة المطهرة، فكيف تجعل الضمير يعود على بعض المنطوق ويترك البعض الآخر؟ حتمي هنا أن نقول: {إِنْ هُوَ} أي: القرآن والسنة؛ أي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق في أي شيء ينطق به إلا بالقرآن الكريم والسنة المطهرة أي: بوحي من الله -تبارك وتعالى-. وأيضًا في آيات كثيرة في سور متعددة في البقرة وآل عمران والأحزاب، والجمعة: يمن الله علينا بأنه: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2)، هذه الآيات التي ورد فيها ذكر القرآن والحكمة: يتلى عليكم الكتاب والحكمة تقتضي هذه الآيات أن الحكمة غير القرآن، بدليل المغايرة، ويعلمهم الكتاب والحكمةَ، لا بد أن تكون الحكمة غير القرآن؛ لأنه من البدهيات المعروفة عند النحويين أنه لا يجوز عطف الشيء على نفسه، بل إن العطف يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه، إذن الحكمة غير الكتاب. الآيات الأخرى من البقرة وآل عمران والأحزاب والجمعة بينت أن الحكمة غير الكتاب بدليل العطف الذي يقتضي المغايرة، ثم جاءت آية النساء لتبين أن القرآن والحكمة كليهما نازلٌ من عند الله -تبارك وتعالى-: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} بقي أن نقول: إن الحكمة هي السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأتنا بغير القرآن والسنة، فلزم حتمًا أن تفسّر الحكمة بالسنة، ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الرسالة): فسمعت من أرضى من أهل العلم يقول: إن الحكمة هي السنة.

أدلة ابن حزم وابن القيم وغيرهما على حفظ الله سبحانه للسنة.

ومن السنة المطهرة أيضًا أحاديث كثيرة، تبين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق إلا بوحي، وأوضح شيء في هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- حين كان يكتب كل شيء يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- فنهته قريشٌ عن ذلك، فرفع الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)) يقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنه لم يخرج منه إلا حق؛ أي: إلا وحي من عند الله -تبارك وتعالى-حق وصدق نزل به الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) المثل الذي أوتيه مع الكتاب هو السنة التي بينت القرآن الكريم. كل هذه بإيجاز أدلة على أن السنة وحي، وما دامت وحيًّا وما دامت هي مبينة للقرآن الكريم فإذن لا بد أن تحفظ كما حفظ القرآن الكريم، ولذلك قلنا عن آيات سورة القيامة: إنها تدل دلالة قاطعة وصريحة في غير لبس على أن السنة محفوظة بحفظ الله -تبارك وتعالى-. أدلة ابن حزم وابن القيم وغيرهما على حفظ الله سبحانه للسنة الإمام ابن حزم -رحمه الله تبارك وتعالى- في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) يضيف دليلًا قويًّا وعظيمًا، يقول -رحمه الله تعالى-: لمّا بينا أن القرآن هو الأصل المرجوعُ إليه في الشرائع، نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووجدناه -عز وجل- يقول فيه واصفًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فصحّ لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله -عز وجل- إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- على قسمين؛ أحدهما: وحيٌ متلو مؤلف تأليفًا معجز النظام وهو القرآن، والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلّف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المبيّن عن الله -عز وجل- مراده منّا.

قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني -يقصد السنة- كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن، ولا فرق، فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع؛ أولها عن آخرها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} (النساء: 59) فهذا أصلٌ وهو القرآن، ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحّ لنا بنصّ القرآن أن الأخبار -أي: الأحاديث- هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59). والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن وإلى الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن الأمة مجمِعة على أن هذا الخطاب متوجّه إلينا، وإلى كل من يُخلق ويُركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهده -صلى الله عليه وسلم- وكل من أتى بعده -عليه السلام- وقبلنا ولا فرقَ؛ يعني: الأمة كلها من أول النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد الصحابة إلى يوم القيامة مخاطبة بهذه الأصول، عند التنازع رد الأمر إلى القرآن الكريم وإلى السنة المطهرة وإلى أولي الأمر، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيلَ لنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: كيف سنرد الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى؟ هذا معنى كلامه، لا بد أن يكون الأمر إلى سنته. يقول: وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكنه لقاء رسول -صلى الله عليه وسلم- لما أمكنه هذا الشغب في الله -عز وجل- إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى،

فبطَلَ هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا، إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن الكريم، وإلى كلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- المنقول على مرور الدهر إلينا جيلًا بعد جيل، يعني: الرد في الآية: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يستلزم بالضرورة الرد إلى القرآن وإلى السنة، لو شغب مشاغب وقال: الرد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو حي، أي: فردوه إلى الرسول، فهل يمكنه أن يشاغب على هذا القول في الرد لله تعالى؟ يعني: فإذا فهمت هذا الفهم، فكيف تفهم الرد إلى الله -تبارك وتعالى-؟ هل يمكن لأحد منا أن يكلم الله تعالى ويسأله عن شيء؟ مستحيل، فإذن لزم بالضرورة الواضحة الجلية أن الرد إنما يكون إلى كتاب الله -تبارك وتعالى- وإلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثم يواصل كلامه -رحمه الله تعالى- ويقول: وأيضًا آية النساء المذكورة: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ذكر للقاء، ولا مشافهة أصلًا، ولا دليل عليه وإنما فيه الأمر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم، وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله -صلى الله عليه وسلم- موجودة عندنا، منقول كل ذلك إلينا، فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر. ثم يواصل كلامه ويقول: والقرآن والخبر الصحيح بعضهما مضافٌ إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهما حكمٌ واحد في باب وجوب الطاعة لهما؛ لما قدمناه آنفًا في صَدْر هذا الباب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20، 21) فبين الله تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإقرارَ بالطاعة

لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا عملٍ بأوامره واجتناب نواهيه، وهذه صفة المقلّدين؛ فإنهم يقولون: طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجبة، فإذا أتاهم أمر من أوامره يقرون بصحته، لم يصعب عليهم التولي عنه وهم يسمعون -نعوذ بالله من ذلك- وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} (الأنبياء: 45) فأخبر تعالى -كما قدمنا- أن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وحيٌ، والوحي ذكرٌ بلا خوف، يعني: من غير أن نخاف نقول: والوحي بلا خوف الذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن الكريم، فحين يقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فبالضرورة الذكر هنا يشمل القرآن والسنة؛ لأن كليهما وحي من عند الله -تبارك وتعالى- والذكر -الذي هو القرآن والسنة- محفوظ بنص الله تعالى. بعد هذه المقدمات الطويلة؛ من أننا أمرنا من أن نطبق القرآن والسنة، وأن نرد التنازع إلى الله وإلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا الرد لا يمكن إلا من خلال اللقاء والمشافهة، الآية لم تشترط ذلك، ويصعب بل يستحيل مخاطبة الله عز وجل- ومن المعلوم أيضًا من المقدمات التي ذكرها أن الأمة كلها إلى يوم القيامة مطالبة برد الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القرآن الكريم، هل نقول: إن هذه الآية المخاطب بها الصحابة فقط؟ وحتى لو قلنا هذا، هل الأمة لا تجب عليها العمل بالآية؟ وحتى لو قلت ذلك، هل يمكن مخاطبة الله -تبارك وتعالى-؟ إذن، كل هذه المقدمات تؤكد حتمًا أن الرد إنما هو إلى القرآن الكريم وإلى السنة المطهرة، وكلاهما وحيٌ من عند الله -تبارك وتعالى- والوحي ينذر به النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال القرآن: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}. بعد هذه المقدمات يخلص ابن حزم -رحمه الله تعالى- إلى هذه النتيجة التي سقنا

هذا الكلام من أجلها يقول: فصح بذلك أن كلامه -صلى الله عليه وسلم- كله محفوظ بحفظ الله -عز وجل- مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدًا، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى: 10)، فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما قدمنا آنفًا، فلم يسع مسلمًا يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أن يأتي عما وجد فيهما -أي: أن يبتعد ولعلها خطأ مطبعي- أو أن يبتعد عما وجد فيهما، فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق، وأما من فعله -أي: ابتعد عن القرآن والسنة- مستحلًّا للخروج عن أمرهما وموجبًا لطاعة أحد دونهما؛ فهو كافر لا شك عندنا في ذلك. على كل حال، مهما يكن الحكم فالمراد من نقل كلام ابن حزم بكل هذه المقدمات التي أشار إليها وهي واضحة جلية: أن السنة النبوية محفوظة بحفظ الله -تبارك وتعالى- وقد أقام الله الحجة علينا بحفظ القرآن والسنة، فلله الحجة علينا أبدًا، ومن ثم لا يسع مسلمًا أبدًا يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير الله -تبارك وتعالى- وإلى غير الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق إن لم يستحل ذلك، وأما من فعله مستحلًّا فهو كافر لمصادمته للقرآن الكريم. هذا كلام ابن حزم رحمه الله -تبارك وتعالى- عن حفظ السنة، وأن هذا أمر واضح وجلي ولا ينازع في ذلك منازع، ثم أردفه بالحكم على مَن يعاند في ذلك إما جحودًا وإما استبعادًا. الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- يضيف أيضًا أدلةً من كلام الله -تبارك وتعالى-

في القرآن الكريم على تكفله -سبحانه وتعالى جل جلاله- بحفظ السنة، وذلك في مثل قوله -تبارك وتعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85)، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: فنقول لمن جوّز أن يكون ما أمر الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من بيان شرائع الإسلام غير محفوظ، وأنه يجوز فيه التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطًا لا يتميز أبدًا: أخبرونا عن إكمال الله تعالى لنا لديننا، ورضاه الإسلام لنا ديننا، ومنعه من قبول كل دين سوى الإسلام؟ أكل ذلك باقٍ علينا ولنا إلى يوم القيامة؟ أم أن ذلك كان للصحابة فقط أو لا للصحابة ولا لنا؟ هذه آيات تبين أن الله -عز وجل- اختار لنا الإسلام دينًا، ويمنُّ علينا بنعمة كماله وتمامه -جل في علاه- وأنه -صلى الله عليه وسلم- أوكل إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- مهمة بيان الإسلام. فهل ما بين به النبي -صلى الله عليه وسلم- من شرائع الإسلام غير محفوظ؟ وهل يجوز فيه التغيير والتبديل؟ وهل يجوز أن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطًا لا يتميز أبدًا؟ كيف نقول بذلك؟! وكيف نفهم أن الله أكمل لنا ديننا ورضي الإسلام دينًا ولن يقبل منا أي دين سوى الإسلام؟! هل الاحتمالات العقلية أو التقسيمات العقلية البدهية التي لا تحتمل غير ذلك، هل كل هذا الأمر لن يقبل غير الإسلام وهو الذي ارتضاه لنا وأكمله وأتمه، هذا الأمر باقٍ علينا إلى يوم القيامة أو هو للصحابة فقط أو ليس لنا ولا لهم؟ هل هناك تقسيم عقلي غير هذا؟ أبدًا لا يوجد تقسيم عقلي غير هذا. فإن قالوا: لا للصحابة ولا لنا -كلام ابن القيم رحمه الله تعالى- كان قائل هذا القول كافرًا لتكذيبه الله جهارًا، وهذا لا يقوله مسلم، وإن قالوا: بل كل ذلك

لنا وعلينا وإلى يوم القيامة، صاروا إلى قولنا ضرورة، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة، والنعمة بذلك علينا تامة، وهذا برهان ضروري وقاطع على أن كل ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ، لا يختلط به ما ليس منه أبدًا. وإن قالوا: بل كان ذلك للصحابة فقط، قالوا: الباطل، وخصصوا خطاب الله بدعوى كاذبة؛ إذ خطابه بالآيات الكريمة التي أشرنا إليه -يقصد: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85) {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19) إلى آخره- عموم لكل مسلم في الأبد، ولزمهم مع هذه العظيمة -أي: وهي اقتصار الأمر على الصحابة فقط- أن دين الإسلام غير كامل عندنا نحن الأجيال المتأخرة عن الصحابة، فكأن الله أكمل الدين للصحابة فقط ولم يكمله لنا، والله تعالى رضي لنا ما لم يحفظه علينا، وألزمنا منه ما لا ندري منه أين نجده. إذن سنجد فيها كلام الوضاعين، لا هو حفظ كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قاله ولا منع منه كلام الوضّاعين الذين زادوا فيه وحرّفوا فيه، فافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة ووضعوه على لسان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو وهم فيه الواهمون ممن لم يقله نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام، بل هو دين إبطال لدين الإسلام جهارًا، ولو كان هذا -ومعاذ الله أن يكون- لكان ديننا كدين اليهود والنصارى، الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله، ونحن قد أيقنا بأن الله تعالى هو الصادق في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213) وأنه تعالى قد هدانا للحق، فصح يقينًا أن كل ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدانا الله تعالى له، وأنه حق مقطوع به،

حفظه الله تعالى وقد قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43) وقال تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس: 64) فلو جاز أن يكون ما نقله الثقات -الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقول بأنه سنة الله وبيان نبيه- يمكن في شيء منه التحويل أو التبديل؛ لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل كذبًا، وهذا لا يجيزه مسلم أصلًا، فصح يقينًا لا شك فيه: أن كل سنة سنها الله -عز وجل- ورسوله، وسنها رسوله -صلى الله عليه وسلم- لأمته لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبدًا، وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يُوجب العلم بأنه حق كما هو من عند الله -سبحانه وتعالى-. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. أيضًا من الأدلة على ذلك، يقول الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- في كتابه القيم (حُجية السنة): كما يثيرها أصحاب الشبهة أن الله -تبارك وتعالى- تكفل بحفظ القرآن دون السنة على زعمهم كما يدل عليه قوله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولو كانت السنة حجة ودليلًا مثل القرآن، لتكفل الله بحفظها، والجواب، يقول -رحمه الله-: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الشريعة كلها؛ كتابها وسنتها، كما يدل عليه قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32) ونور الله شرعه ودينُه الذي ارتضاه لعباده، وكلّفهم به، وضمنه مصالحهم، والذي أوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من قرآن أو غيره؛ ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وبعد أن بيّن مرجع الضمير في قوله -تبارك وتعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} على الوجه الذي أشرنا إليه عاد وقال -رحمه الله-: ولقد حفظها

الله تعالى كما حفظ القرآن الكريم، فلم يذهب منها ولله الحمد شيء على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة، ينقل عن الشافعي في (الرسالة) -رحمه الله تعالى- يقول في صدد الكلام على (لسان العرب): ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا ولا نعلم يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه؛ لا نعلم رجلًا جمع السنن فلم يذهب منها على شيء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منها ذهب على شيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجودًا عند غيره ... إلى آخر ما قال. وخلاصة القول: أن العلماء يجمعون من خلال الآيات المتعددة التي ذكرت على أن الله -تبارك وتعالى- قد حفظ القرآن الكريم وحفظ السنة المطهرة، وهذا أمر حتمي. من الأدلة من السنة على أن الله -عز وجل- حفظ السنة الحديث الذي أشرنا إليه أيضًا وخرجناه: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا تأمر عليكم، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) إلى آخره: ((وتركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)) هذا ورد عند الحاكم وغيره، كلها أدلة على حفظ السنة. حين يأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن نتبع السنة وأن نعض عليها بالنواجذ، فهل يأمرنا باتباع شيء غير محفوظ؟ كلا وحاشا! هذا الذي يقول ذلك إنما يفتري على الله الكذب،

ويزعم ما لا دليلَ له عليه؛ إذ كيف يطلب منا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نتمسك بالسنة وأن نعض عليها بالنواجذ في الوقت الذي لم تحفظ فيه، وهي عرضة للتغيير أو للتبديل أو للزيادة أو النقصان إلى آخره؟!. هذا دليل من السنة أيضًا ونضم إليه كل الأدلة التي تطلب منا اتباع السنة، كيف يأمرنا باتباع ما لم يحفظ؟ وكيف يستقيم هذا الأمر مع شيء غير محفوظ؟ كما قلنا مرارًا: المناقشة في البدهيات مضيعة للوقت والجهد، لكن الأمر لأنه دين ولأنه دفاع عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فنحن نتوقف مع هذه الأفهام التي لم توفق إلى الفهم الصحيح لكتاب الله -تبارك وتعالى- ولسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لما النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) من أطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل الجنة يطيعه في شيء غير محفوظ، ويعلق النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة والنار على ذلك؟ إلا إذا كان الله -تبارك وتعالى- قد حفظها كما حفظ القرآن الكريم. نختم هذه النقطة بالإشارة إلى مسألة مهمة، وهي أيَضًا تتضمن دليلًا على حفظ السنة المطهرة، وهو تتبع جهد الأمة في صيانة السنة، نستطيع أن نسميه بالدليل التاريخي أو الدليل الواقعي، تتبع جهد الأمة في الحفاظ على السنة، البعض يتصور أن تعرض السنة للوضع وللشبهات ولإثارة البلبلة نحوها دليلٌ على أنها لم تحفظ، بالعكس، هذا من أقوى الأدلة على حفظها. يعني: حاولوا ولم يتمكنوا، من الذي قال: إن العصمة للسنة أو الحفظ لها يقتضي ألا تتعرض أبدًا لأي محاولات للنيل منها؟ بل كيف تظهر قيمة الحفظ وقيمة الرعاية والعناية من الله -تبارك وتعالى- لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لم تتعرض السنة لمحاولات؟ كمثال توضيحي يقرب المسألة إلى الأذهان، حين قال الله -تبارك وتعالى-:

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) هل عصمة الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وحفظه له -صلى الله عليه وسلم- من الناس تعني أنه لا يتعرض لمحاولاتِ الإيذاء؟ هل قال أحد بذلك؟ أبدًا، بل إن قيمة حفظ الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- لا تظهر إلا من خلال محاولات الإيذاء، ثم ترد هذه المحاولات على أعقابها، تعرض للإيذاء طوال الفترة المكية، وتعرض للإيذاء في المدينة المنورة في غزوة أُحد، وتعرض في سنة 7 في خيبر، لمّا المرأة اليهودية وضعت السم في الشاة، والشاة قد نطقت أن بها سمًّا والنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأكل منها بعد أن كان قد مضغ بعَضًا منها، هذه العصمة يدبرون ويكيدون، والله يحبط مكرهم وكيده، م ويرده إلى نحورهم، هنا تظهر قيمة الحفظ والعناية والرعاية. كذلك السنة تعرضت، وهذا التعرض هو الذي ضاعف من همة العلماء، وشحذ من قواهم لكي يتصدوا لهذه الموجات التي تحاول النيل من السنة، بل إني أقول: أن السنة ستظل إلى يوم القيامة الخط الأول للدفاع عن الإسلام، وهي أيضًا محط الهجوم الأول لأعداء الإسلام؛ لأن الكل يعلم أن الإسلام قرآن وسنة، وأننا لا نفهم القرآن إلا في ضَوْء السنة، وكررنا: من أن السنة تبين القرآن الكريم، وتشرع مع القرآن الكريم، والقاصي والداني يعرف هذه الحقيقة، إذًا سنظل نهاجم السنة؛ لأن الهجوم عليها يعني الهجوم على القرآن، والهجوم عليهما يعني الهجوم على الإسلام، الإسلام في نهاية الأمر قرآن وسنة. ولذلك تحتاج السنة في كل زمان ومكان وفي كل عصر ومصر إلى طائفة من أهل العلم يدرسونها بروح الجندية، وهم يعلمون أنهم على ثغر من ثغور الإسلام، يحاول الأعداء أن يتسللوا إلى الإسلام من قِبله، لكنهم يجدون هؤلاء الجنود المرابطين المدافعين المنافحين الذابين عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان الأمر من لدن الصحابة -رضي الله عنهم- ومرورًا بالعصور الذهبية للسنة، وسيظل هذا الأمر إلى يوم القيامة بإذن الله -تبارك وتعالى-.

شبهة: عرض السنة على القرآن.

شبهة: عرض السنة على القرآن بقي أن نشير إلى شبهة عرض السنة على القرآن واستدلالهم بحديث موضوع في هذا، وهو "إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فخذوه، وما خالف فاتركوه" وهذا قد روي بروايات متعددة، وأئمة الحديث مجمعون على أن هذا الحديث موضوع مختلق على النبي -صلى الله عليه وسلم- وضعته الزنادقة كي يصلوا إلى غرضهم للنيل من السنة، وعلماء السنة قالوا: إن الحديث يحمل الدليل على وضعه في طياته، كيف؟ قالوا: إننا لا نجد آية في كتاب الله -تبارك وتعالى- تأمرنا بعرض كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن الكريم؛ يعني: لو طبقنا القاعدة التي يطلبها هذا القول عليه لوجدناه دليلًا على بطلانه، الذين يزعمون بهذا الرأي أو غيره يأتون لنا بآية تطلب منا أن نعرض كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن الكريم، بل أمرنا في وضوح وجلاء: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) وهكذا تبطل شبههم شبهة بعد شبهة. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 11 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (4)

الدرس: 11 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (4)

تقسيم الحديث باعتبار عدد الرواة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة المطهرة (4)) تقسيم الحديث باعتبار عدد الرواة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: المتواتر والآحاد: والكلام عن المتواتر والآحاد له نقاط عديدة؛ منها: أن نبين أن المحدّثين لهم تقسيمات متعددة للحديث باعتبارات متعددة: فمثلًا: ينقسم الحديث عندهم باعتبار صحته أو عدم صحته إلى ثلاثة أقسام: صحيحٍ، وحسن، وضعيف، وينقسم أيضًا باعتبار آخر إلى: مقبول، ومردود. فالمقبول -عند هؤلاء الذين قسموا هذا التقسيم- يشمل الصحيح والحسن معًا، والمردود يشمل الضعيف بكل أنواعه، وهناك من يجعله نوعًا من أنواع الضعيف، أو يجعله قسمًا ثالثًا مع الصحيح، والحسن، والضعيف، يصبح هو قسمًا رابعًا بالإضافة إلى هذه الثلاثة. إذن، هناك تقسيمات متعددة باعتبارات متعددة، الذي يتكلم عن صحة الحديث وحسنه وضعفه يقسم تقسيم ... إلى آخره. لكن نحن أمام تقسيم باعتبار عدد الرواة في كل حلقة من حلقات الإسناد؛ نحن نعلم أن الإسناد هم الرجال الذين نقلوا الحديث لنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ من أول العالِم الذي روى الحديث في كتابه -أو في غير كتابه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. مثلًا: لو أخذنا البخاري -رحمه الله تعالى- كمثال لهذا؛ البخاري في صحيحه يروي الأحاديث بأسانيده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمثلًا الحديث الأول: ((إنما الأعمال بالنيات)) من حديث شيخه الحُميدي، عبد الله بن الزبير، يرويه عن سفيان بن عيينة، يرويه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، يرويه عن محمد بن إبراهيم

التيمي، يرويه عن علقمة بن وقاص الليثي، يرويه عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يرويه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. الرجال الذين بين البخاري -رحمه الله تعالى- وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- نسميهم برجال الحديث، إسناد الحديث، أو سند الحديث، أو طريق الحديث؛ إذن الإسناد هو: الرجال الذين نقلوا لنا الحديث في حلقات متتابعة، كل تلميذ يروي عن شيخه، وكل واحد من هؤلاء الرواة يسمى حلقة من حلقات الإسناد، في المثال الذي ذكرناه: البخاري حلقة، يروي عن الحميدي شيخه، أجلّ شيوخ المكيين عبد الله بن الزبير المتوفى سنة 219هـ، يروي عن سفيان بن عيينة، الحميدي حلقة، سفيان بن عيينة حلقة، يحيى بن سعيد حلقة، محمد بن إبراهيم التيمي حلقة، علقمة حلقة، الخليفة الراشد الفاروق -رضي الله عنه- حلقة من حلقات الإسناد، إلى أن ينتهي الإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. إذن، عندنا الإسناد: الرجال الذين نقلوا لنا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل واحد منهم يسمى حلقة من حلقات الإسناد. فما هو العدد المطلوب في كل حلقة من حلقات الإسناد؟ هذا هو الأمر الذي يعالجه هذا المبحث -مبحث التواتر والآحاد- إذن هو تقسيم للحديث باعتبار عدد الرواة في كل حلقة، حين يصل العدد إلى رقم معين أو إلى صفات معينة يُسمى عندهم بالحديث المتواتر -وهذا سنناقشه تفصيلًا- وإن قلّ عن ذلك سُمّي آحادًا؛ فهذا -في نهاية الأمر- تقسيم باعتبار عدد الرواة في كل حلقة، وليس تقسيمًا على أساس صحة أو الحسن أو الضعف الذي هو التقسيم الأول -الذي أشرنا إليه- مع ملاحظة أن هذا التقسيم "باعتبار عدد الرواة في كل

حلقة" لم يكن معروفًا لدى الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-، إنما كان المعوَّل عليه هو عدالة الرواة وثقة الرواة. متى كان الراوي ثقة -أي: عدلًا، ضابطًا، دقيقًا- نطمئن إلى سلامة ما رواه؛ فالحديث صحيح، وما دامت ثبتت صحته؛ وجب العمل به بإجماع الأمة. إذن، قبل أن يصطلح علماء الإسلام على هذا التقسيم -المتواتر والآحاد، باعتبار عدد الرواة في كل حلقة- جميع أهل الإسلام من أجيال الصحابة والتابعين وأهل الخير وأهل السلف الصالح كانوا على قبول خبر الواحد الثقة، من أول السند إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يبحثون عن عدالة الرواة، وعن ضبط الرواة، والراوي الذي تتوافر فيه العدالة ويتوافر فيه الضبط إذا جمع بينهما معًا، هذا هو الثقة الذي اصطلحوا على تسميته بالثقة ... الثقة: الراوي الذي ثبتت له العدالة وثبت له الضبط، بالمعايير التي اصطلحوا عليها في إثبات هذه الأمور للرواة الذين نقلوا لنا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلى أن بدأت الفتن، ومن ضمن علاماتها: التشكيك في خبر الآحاد على يد متكلمي المعتزلة، ولم يكن ذلك إلا مع نهاية القرن الثاني الهجري أو بعده، ابتدءوا يتكلمون في خبر الآحاد وعن حجيته وعن تعريفه؛ فعرّفوه مثلًا في (شرح الأصول الخمسة) بأنه: ما لا يُعلم كونه صدقًا ولا كذبًا، واشترطوا العدد في الرواية، كما اشترطوا في الشهادة، وهم بذلك خرجوا عن إجماع الأمة التي كان المعوّل عليها عندهم على عدالة الرواة وضبطهم. فالأمر اختلف من هذا التاريخ وبهذا الصنيع الذي بدأه بعض متكلمي المعتزلة وكما يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (مختصر الصواعق المرسلة): كان قصدهم من ذلك: رد الأخبار وتعطيل الأحكام، وتلقّف ما قالوه بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدمٌ ثابتة، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول.

التواتر لغة واصطلاحا.

وأيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أشار إلى أن جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول -يعني: قبلوا هذا الخبر أو عملوا به- يوجب العلم، وأشار إلى ذلك في (مجموع الفتاوى). نريد أن نقول من هذا الاستعراض الموجز: أن تقسيم التواتر والآحاد لم يكن في أجيال الأمة السابقة؛ وإنما كان المعوّل عندهم على ثبوت عدالة الرواة وضبطهم؛ فمتى اطمأنوا إلى ذلك حكموا على الخبر بالصحة وإن كان حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به على ما اصطلحوا عليه من قواعد في هذا، إلى أن جاءت بعض الفرق وأرادت أن تُعمِل العقل في النصوص وأن توجد بعض الشبه لبعض الأدلة التي تعارض ثوابت مذهبهم؛ ابتدعوا هذا التقسيم إلى متواتر وآحاد، واشترطوا شروطًا في الآحاد تفاوتوا فيما بينهم؛ لكن -على كل حال- هذا تاريخ هذا الأمر هو أصبح مبحثًا من مباحث علم المصطلح، وأيضًا يبحث في أصول الفقه، ونحن نتكلم عنه اليوم بهذا الاعتبار: أنه تقسيم للحديث باعتبار عدد الرواة في كل حلقة: التواتر لغة واصطلاحًا ما هو التواتر وما هو الآحاد في كل من اللغة والاصطلاح: التواتر في اللغة: مجيء الواحد إثر الواحد بفترة بينهما، وذلك كما ورد في قوله -تبارك وتعالى- في سورة المؤمنون: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (المؤمنون: 44) أي: متتابعين، رسولًا بعد رسول بينهما فترة، في (القاموس المحيط) مادة: "وَتَر"، يبين أن التواتر: هو مجيء الشيء بعد الشيء بعضه في إثر بعض، وترًا وترًا، أو فردًا فردًا، يعني: من غير فترة بينهما.

التعريفان يشتركان في أن التواتر: مجيء الشيء بعد الشيء؛ لكن الاختلاف بينهما هو: هل لا بد من التراخي بين مجيئهما، أو أن التراخي غير مطلوب؟ صاحب (القاموس المحيط) ذكر الاثنين معًا، قال: والتواتر التتابع أو مع فترات، أما صاحب (الصحاح)؛ فقد اعتبر التراخي شرطًا في التواتر؛ حيث قال: والمواترة: المتابعة، ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة؛ وإلا فهي مداركة ومواصلة. والخلاصة من كل ذلك: أن التواتر هو التتابع مع التراخي أو بدون التراخي، على قول صاحب (الصحاح): القول بالتراخي هو الأقوى؛ لأنه سمى المواترة التي لا فاصل بينها بأنها مداركة ومواصلة، ويقول بالنص: "ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة" ... كل هذه مناقشة لغوية للمتواتر، خلاصتها: أن التواتر هو مجيء الشيء إثر الشيء بفترة بينهما أو بدون فترة، على التتابع المباشر بدون انقط اع. إذا انتقلنا إلى الاصطلاح: نجد له تعريفات متعددة: يقول ابن حجر -رحمه الله تعالى- عن المتواتر في (نزهة النظر): فإذا جمع هذه الشروط الأربعة وهي: عددٌ كثير، وأحالت العادة تواطؤهم على الكذب، ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند انتهائهم الحس، ويضاف إلى ذلك أن يصحب خبرَهم إفادةُ العلم لسامعه؛ فهذا هو المتواتر. ابن حجر -رحمه الله تعالى- نلاحظ أنه عرّف المتواتر هنا من خلال ذكر شروطه، اشترط له أربعة شروط: - عددٌ كثيرٌ في كل حلقة. - يستحيلُ في العقل وفي العادة أن يتواطئوا على الكذب. - الثالث: أن يتوفر ذلك في كل حلقة من حلقات الإسناد، من أوله إلى منتهاه،

وهو ما عبّر عنه بقوله: ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء. - وكان منتهى خبرهم الحس، هذا الشرط الرابع. - ثم قال: ويضاف إلى ذلك: بأن يصحب خبرهم إفادة العلم لصالحه، وقال: فهذا هو التواتر. أما الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- فيعرِّف المتواتر في "كفايته" فيقول: فأما خبر التواتر: فهو ما أخبر به القوم الذين بلغ عددهم حدًّا يُعلَم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم؛ فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم؛ قُطِع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة. هو تعريف طويل، وأيضًا ركز فيه الخطيب -رحمه الله تعالى- على عدد الرواة وصفاتهم نلاحظ أنه يركز على أن هؤلاء القوم الذين أخبروا بالخبر المتواتر، يستحيل بمستقر العادة أن يتفقوا على الكذب، وأن الكذب منهم محال، وأن التواطؤ بينهم في مقدار الوقت الذي انتشر فيه الخبر متعذر، وأن الخبر الذي أخبروه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، ولا يوجد عندهم سبب واحد يدعوهم إلى الكذب ... كل الأسباب التي تؤدي إلى الكذب منفية عنهم من قهر وغلبة ومصلحة وما إلى ذلك ... أما ابن الصلاح في "مقدمته" -رحمه الله- يعرف الحديث المتواتر بأنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواياته من أوله إلى منتهاه. وإذا نظرنا أيضًا إلى تعريف ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- نجده يركز على شرطين من شروط المتواتر: وهو أنه لا بد أن يوجد في ناقلي الخبر المتواتر الصدق

شروط الحديث المتواتر.

الذي نجزم به ويوفر لنا العلم ضرورة بصدقهم، وأيضًا هذا الشرط يتوفر في كل الحلقات من أول السند إلى منتهاه، عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه -أي: من نثق به ضرورة- ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في روايته من أوله إلى منتهاه -يعني: في كل حلقة من حلقات الإسناد. على كل حال؛ مهما يكن من عباراتهم في تعريف المتواتر؛ فإننا نستطيع أن نصوغ منها تعريفًا يحتوي في طياته على الشروط التي وضعوها للمتواتر، مع ملاحظة أن مُعرفي المتواتر كثيرون جدًّا ... كل من تكلم أو كتب في علوم الحديث وتعرض لهذا الأمر عرّفه، وهي كلها تعريفات -على كل حال- قريبة من بعضها. نستطيع أن نصوغ تعريفًا من خلال ما ذكروه فنقول: المتواتر: هو الذي يرويه جمعٌ يستحيل في العقل تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم اتفاقًا من غير قصد، عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه، ويكون منتهى خبرهم الحسّ. شروط الحديث المتواتر هذا التعريف الذي يحمل في طياته الشروط التي لا بد من توافرها في الحديث المتواتر، ونجمل هذه الشروط -كما ذكر ابن حجر وغيره- فيما يلي: الشرط الأول: العدد الكثير: بمعنى أن يجتمع في كل حلقة من حلقات الإسناد عدد كثير من الرواة. وقد ذهب العلماء في تحديد هذا العدد مذاهب شتى؛ تبعًا لاعتبارات متعددة؛

فبعضهم قال: إنهم أربعة؛ قياسًا على شهود الزنا الذين تثبت بهم جريمة الزنا ويقام الحد على فاعله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 4) وحاول أصحاب هذا الرقم أن يضيفوا إليه بعض الأدلة الأخرى بأن يقولوا مثلًا: بأن الخلفاء الأربعة أو الأئمة الأربعة لو اجتمعوا على شيء فإن القول قولهم والرأي رأيهم؛ يسوقون مثل هذه الأقوال تأييدًا لرأيهم الذي ذهبوا إليه من اشتراط أربعة على الأقل في الخبر المتواتر. القاضي أبو بكر الباقلاني مثلًا -كما نقل عنه العلماء- لم يقتنع بهذا العدد في إثبات التواتر؛ بل قال: أتوقف في الخمسة، والخمسة هذه قالها بعضهم قياسًا على الصلوات الخمس وغيرها من الأرقام التي حملت خمسة في الأحكام الشرعية الإسلامية. ومن العلماء من اشترط سبعة؛ لاشتمالها على العدد المطلوب في كل نوع من أنواع الشهادات، وهي: الأربعة، والاثنان، والواحد. ومنهم من اعتبر أقل عدد التواتر عشرة؛ وذلك لقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) ووصفها بالكمال، ولأنها أول جموع الكثرة، واختار ذلك السيوطي -رحمه الله تعالى- وسار عليه في كتابه الذي جمع فيه الأحاديث المتواترة (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواتر)؛ فقال -رحمه الله تعالى-: كل حديث رواه عشرة من الصحابة؛ فهو متواتر عندنا معشر أهل الحديث. وهناك من قال: يشترط في العدد أن يكون اثني عشر مثل نقباء بني إسرائيل: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (المائدة: 12). ومنهم من قال: عشرون؛ لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (الأنفال: 65).

ومنهم من قال: أربعون؛ لأن عند هذه السن يُبعث الأنبياء، وهي تدل على اكتمال العقل والأشد عند الإنسان؛ فمتى بلغ الإنسان أربعين سنة فقد كمل نضجه العقلي والبدني: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} (الأحقاف: 15). ومنهم من قال: يشترط في العدد أن يكون سبعين، مثل من اختارهم موسى -عليه السلام- لميقات ربه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} (الأعراف: 155). ومنهم من قال: ثلاثمائة، مثل أهل بدر ومن كانوا مع طالوت ... إلى غير ذلك. اعتبارات متعددة في اشتراط العدد كلها تبحث عن العدد الذي يطمئن القلب والعقل معًا إلى صدقهم وإلى عدم وقوع الكذب منهم ولو اتفاقًا. إنما هناك من ذهب إلى أن العدد لا يُحصَر برقم معين؛ وإنما متى تحقق الاطمئنان إلى أن هذا الجمع يستحيل أن يتواطأ على الكذب وألا يقع منهم ذلك ولو من قبيل المصادفة، وأن نتأكد من عدم وجود الداعي عندهم للكذب أو وجود أسباب له؛ فقد تحقق التواتر، وقد يتحقق بعشرة، وقد لا يتحقق بملايين يُجمِعون على الكذب، وهذا يحدث في زماننا كثيرًا؛ فقد ينقل الأعداء مثلًا أخبارًا تتعلق بالإسلام وأهله أو بمصادره وهي كاذبة، وينشرونها بين الناس ويتناقلونها بالملايين. إذن، اشتراط العدد المحدد قد لا يكون ضرورة بقدر التركيز على اطمئناننا إلى صدقهم وعدالتهم وأنه يستحيل أن يقع منهم الكذب. ولعل هذا ما ذهب إليه بعض محققي أهل الحديث -وفي الحقيقة عدد كبير منهم- يقول الكتاني في (النظم المتناثر في الحديث المتواتر) -رحمه الله تعالى- نقلًا عن كتاب (ظفر الأماني): والتحقيق الذي ذهب إليه جمع من المحدّثين: هو أنه لا

يشترط للتواتر عدد؛ وإنما العبرة بحصول العلم القطعي؛ فإن رواه جمعٌ غفير ولا يحصل العلم به لا يكون متواترًا، وإن رواه جمع قليل وحصل العلم الضروري به يكون متواترًا ألبتة. وعلى كلٍّ نستطيع أن نقول: إن الخلاف هنا ليس خطيرًا حقيقة، ولا كبيرًا، الكل يبحث عن عدد يطمئن القلب والعقل إلى صدقهم ... من الممكن لنا ألا نحصره في عدد معين -كما ذهب إليه كثير من محققي الحديث- أو إذا اشترطنا عددًا؛ لعل اختيار السيوطي هو أن يرويه عشرة من الصحابة. وفي الحقيقة؛ فإن الذي يتتبع عمل العلماء في إحصائهم للحديث المتواتر يكاد يلمح إلى أنه قد استقر اصطلاحهم على هذا الأمر؛ فيُبحث عن التواتر من ناحية الصحابة؛ فإذا وُجد عشرة من الصحابة رووا الحديث وكانت الطرق إليهم صحيحة أو حسنة؛ حُكم على الحديث بأنه متواتر ... كل من جمعوا الأحاديث المتواترة مثل (لقط اللآلئ المتناثرة) ومثل كتاب الكتاني وغيره، كلهم اتبعوا هذه القاعدة: يحسبون العدد من ناحية الصحابة وأحيانًا يخرّجون الأحاديث، يقولون: حديث أبو هريرة مثلًا رواه فلان وهو من أصحاب الكتب ... حديث أنس رواه فلان، إلى أن يكتمل عندهم عشرة من طرق صحيحة أو حسنة يطمئنون إلى التواتر ويذكرونه في كتابهم على أنه من بين الأحاديث المتواترة. نستطيع أن نقول: تقريبًا هذا هو الذي استقر عليه الاصطلاح، مع ملاحظة أن العدد لا يُبحث عنه في الحلقات التالية للصحابة على الأعم الأغلب؛ باعتبار أن كل صحابي قد روى عنه مجموعة من التابعين، وكل واحد من هؤلاء التابعين قد روى عنه تلامذته ... وهكذا تتواصل الحلقات وتتكاثر بحيث يستحيل أن نحصي العدد بدقة في كل حلقة؛ لكن يطمئنون إلى أنه متى ثبت لدينا أن عشرة من

الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- قد رووه فيطمئنون إلى صدقه وإلى صحته ويعتبرونه من المتواتر الذي يفيد العلم الضروري. الشرط الثاني: أن يطمئن العقل والقلب معًا إلى عدم اتفاق هذا العدد على الكذب: وهذا في الحقيقة متوقف على وجود صفات القبول المعروفة عند العلماء في هؤلاء الرواة مهما كان عددهم، فإن توفّرت شروط القبول مع العدد أيضًا واطمئن العقل والقلب إلى صدق خبرهم؛ حينئذ قد تحقق معنى التواتر، مثل: أن يكونوا مثلًا من بلاد متفرقة، مثل أن يكونوا من مهن مختلفة، مثل أننا نتأكد من أنه لا توجد عندهم دواعي للكذب؛ ليسوا أصحاب مصلحة في نقل خبر معين، مثلًا صُناع ينقلون خبرًا عن الصنعة الخاصة بهم، أو مثلًا طلابًا ينقلون خبرًا يتعلق بدراستهم، هذه الدواعي كلها تنتفي عندهم ونتأكد من هذا. ولذلك وفقًا لهذا المعيار ناقشوا مسألة: هل يُشترط الإسلام في رواة الخبر المتواتر؟ - الحقيقة اختلفت المعايير حول هذا ... ذكرنا مرارًا أن معيار صحة الحديث عندهم: هو توفر شروط القبول في الراوي، وهي شروط الصحة الخمسة: اتصال السند، عدالة الرواة، ضبط الرواة، خلو الحديث من الشذوذ، خلو الحديث من علة القدح. متى اطمأنوا إلى صحة الحديث؛ فهم حكموا عليه بالصحة بصرف النظر عن كونه آحادًا أو خبرًا؛ وبالتالي فإنهم قد اشترطوا في الراوي أن يكون مسلمًا وقت أدائه للحديث؛ لأن الإسلام عندهم هو أول شروط العدالة التي بموجبها تُقبل رواية الراوي.

نعم ... المحدثون قبلوا أن يتحمل الكافر؛ لكنهم اشترطوا أن يكون وقت الأداء مسلمًا: عملية الرواية: تحمل وأداء، التحمل: هو أن يأخذ التلميذ الحديث من شيخه بواحد من طرق التحمل المعتمدة عند العلماء، والأداء: هو أن يؤدي الشيخ الحديث إلى تلميذه بواحد من طرق الأداء المعتبرة عند العلماء، وهي ثمانية، وهذا له مبحث خاص في علوم الحديث "مبحث التحمل والأداء". علماء الحديث اشترطوا وقت الأداء أن يكون المؤدي مسلمًا؛ لأنه ينقل لنا ديننا، ولا نطمئن إلى نقل الدين من غير المسلمين؛ لكنهم قبلوا أن يتحمل الكافر، يعني: لو أن كافرًا سمع الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم- فلن نقبل منه أن يؤدي إلا بعد إسلامه، لن نقبل أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينقل لنا الخبر إلا إذا كان مسلمًا. ولذلك وُجد في الصحيحين رواة تحملوا وهم كفار من الصحابة ومن غيرهم، وكمثال على ذلك: حديث أبي سفيان المشهور في لقائه مع هرقل، كان ذلك في سنة سبع للهجرة، حينما أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسائله إلى الملوك والرؤساء من أهل الأرض يدعوهم إلى الإسلام، وجاءت رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل -وكان بالشام- وسأل عمن يستطيع أن يحدثه عن هذا النبي الذي هو من مكة المكرمة؛ فأخبروه أن أبا سفيان في تجارة بالشام، فاستدعاه والذين معه وسألهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سؤالًا. هذه القصة وقعت وقت أن كان أبو سفيان كافرًا؛ فإنه لم يسلم إلا بعد فتح مكة في سنة ثمانية؛ لكن أداءه للحديث كان بعد الإسلام؛ ولذلك قبل منه العلماء. الخلاصة: أن علماء الحديث يشترطون في ناقل الخبر للحديث النبوي خاصة بشكل ضروري أن يكون مسلمًا، بصرف النظر عن كون الحديث متواترًا أو كونه

آحادًا ... هذا تقسيم لم يتوقفوا عنده من حيث ضرورة توفر شرط الإسلام في ناقله. ويعبر عن رأي المحدثين في هذا الخطيب البغدادي حيث يقول -رحمه الله تعالى- في (الكفاية): ويجب أن يكون وقت الأداء مسلمًا؛ لأن الله تعالى قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) وإن أعظم الفسق الكفر؛ فإذا كان خبر المسلم الفاسق مردودًا مع صحة اعتقاده؛ فخبر الكافر بذلك أولى. ثم يروي الخطيب -رحمه الله تعالى- بسنده إلى بهز بن أسد أنه ذُكِر له الإسناد الصحيح فقال: هذه شهادات الرجال العدول لبعضهم على بعض، يقصد: أنهم عدول يشهدون على بعضهم بأن كل واحد منهم سمع من الآخر؛ فلا بد أن نتأكد من إسلامهم ومن حسن توفر الثقة فيهم ... لا بد من التأكد من ذلك، ولا سبيل لهذا إلا الإسلام، وإذا كان الله -عز وجل- قد طلب منا أن نتوقف في قبول خبر الفاسق مع صحة اعتقاده؛ فمن باب أولى نتوقف في خبر الكافر. يقول الأصوليون: إنهم لا يشترطون الإسلام في رواة المتواتر عند أدائهم له ... نقل العلامة القاسمي -رحمه الله تعالى- في (قواعد التحديث) كلام النووي فقال: وقع في كلام النووي في (شرح مسلم) في المتواتر: أنه لا يشترط في المخبرين بالإسلام، وكذا قال الأصوليون، ولا يخفى أن هذا اصطلاح للأصوليين؛ وإلا فاصطلاح المحدثين فيه: أن يرويه عدد من المسلمين؛ لأنهم اشترطوا فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلًا ضابطًا بأن يكون مسلمًا بالغًا؛ فلا تقبل رواية الكافر في باب الأخبار وإن بلغ في الكثرة ما بلغ، إلى آخر ما قاله -رحمه الله تعالى. والذي أعتقده في ذلك: أنه لا تقبل رواية الكافر للحديث الشريف أبدًا مهما كثر

عددهم، ومهما كان اتصافهم بالصدق من وجهة نظر البعض؛ فهم مع صدقهم وكثرة عددهم لا يؤتمنون على الإسلام، ونحن نعلم موقفهم من الإسلام ومن أهله ومن قضاياه -ولا نريد أن نتوسع في هذه القضية- لكننا نؤكد أن الرواية للحديث الشريف شرفٌ لا يستحقه إلا من نال شرف الإيمان بالله تعالى وبهذا الرسول الكريم الذي ننقل كلامه، والذين لم يشرفوا أنفسهم بهذا الإيمان لا يجوز لهم أبدًا أن ينالوا شرف رواية حديث الطاهر -صلى الله عليه وسلم-. على كل حال، الذي ينظر إلى أحوال كثير من غير المسلمين نجدهم يثيرون الشبهات حول السنة، ويتهجمون على الإسلام، ويتجرءون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويكيلون الاتهامات جزافًا؛ فكيف يطمئن القلب والعقل بعد ذلك إلى قبول روايتهم لحديث نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم ... قد نقبل روايتهم في غير الأحاديث النبوية ... في الأخبار العادية السياسية والاقتصادية أو العلمية أو ما شاكل ذلك؛ لكن الحديث النبوي دين لا يؤخذ إلا عن من نثق في دينه وأمانته، ومن يحبون هذا النبي العظيم ويؤمنون برسالته ويتعبدون بطاعة الله تعالى وبطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-. نعود إلى الشرط الأول من شروط المتواتر لنقول: إنه العدد، ولنلخص الكلام في أننا إما أن نعتبر أن الحديث الذي رواه عشرة من الصحابة قد حدث له التواتر ولا يجهدون أنفسهم في تتبع الحلقات بعد ذلك اعتمادًا على أن الحلقات بعد هذا لا بد أن تكثر؛ فكل صحابي روى عنه مجموعة، وكل واحد من هؤلاء المجموعة روى عنه مجموعة، وتتبع ذلك يجهد كثيرًا، وعلى ذلك سار عمل من جمع الأحاديث المتواترة في كتبهم، وأكاد أقول: إن هذا الذي استقر عليه الاصطلاح، وعلى كل؛ لو قلنا: بأن العدد لا يحصر، وأنه متى اطمأن القلب إلى صدقهم فيحدث التواتر ... أرى أن هذين الرأيين قريبان من بعضهما؛ وإن كنت أميل إلى

الرأي الأول باشتراط العدد حتى يكون عندنا اصطلاح محدد نقف عنده ونحتكم إليه؛ حتى لا يقال: إن قضايانا غير محددة أو لا يوجد لها ضوابط ملتزمة. الشرط الثاني: أن يطمئن العقل والقلب معًا إلى عدم اتفاقهم على الكذب: هذا متوقف -في الحقيقة- على وجود صفات القبول المعروفة عند العلماء في هؤلاء الرواة مهما كان عددهم، ونحن قلنا: متى اطمأن القلب والعقل إلى صدقهم حدث التواتر ... لعل هذا يؤيد ما ذكرناه من استبعاد تواتر الكفار؛ لأنه كيف يطمئن القلب والعقل إلى صدقهم ... ذكرنا أن هذا الاطمئنان يتحقق بمراعاة أمور كثيرة، منها: صدقهم في الأخبار، منها: سلامة عقيدتهم، منها: عدم كيدهم ضد الإسلام، منها عدم وجود مصلحة لهم في الكذب إلخ؛ فمتى اطمأننا إلى ذلك حكم لخبرهم بالتواتر الذي يفيد العلم الضروري. الشرط الثالث: أن يتوافر العدد المطلوب في كل حلقة من حلقات الإسناد مع وجود صفات القبول فيهم أيضًا؛ فليس التركيز على العدد وحده؛ بل لا بد أن ينضم إليه وجود صفات القبول فيهم في كل حلقة من حلقات الإسناد؛ فإذا اختل العدد أو فُقد شرط القبول -ولو في حلقة واحدة من حلقات الإسناد- اختل التواتر حينئذ حتى لو توفرت الشروط في بقية حلقات الإسناد؛ فالمطلوب هو وجود صفات القبول في كل رواة الحديث المتواتر في كل حلقة من حلقات الإسناد، مع كثرة العدد في كل حلقة. الشرط الرابع: أن يكون منتهى خبرهم الحس؛ بمعنى: أن يقولوا في نهاية الخبر: رأينا، أو سمعنا؛ لأن الإدراك الحسي يفيد اليقين: أي: يروون شيئًا لنا في نهاية الكلام يعتمد على الحس، أي: على واحد

من أدوات الحس التي تفيد اليقين عند الإنسان، مثل: السمع، أو البصر، أو التذوق، أو اللمس، أو ما شاكل ذلك. الشرط الخامس الذي أضافه ابن حجر -رحمه الله تعالى-: وهو أن يفيد الخبر اليقينَ والقطع لدى سامعه: وهذا نتيجة؛ ولذلك بعض العلماء توقف في قبوله كشرط، قال: هو نتيجة حتمية للشروط الأربعة السابقة؛ لأنه متى توفر العدد، وتوفرت صفات القبول في كل حلقة، وفي كل حلقات الإسناد مع انتهاء الخبر إلى الحس؛ بالضرورة سيطمئن القلب إلى سلامة الخبر، وسيقع التصديق به يقينًا. على كل حال، ابن حجر يراه شرطًا، نحن نقلنا قوله: أن يفيد الخبر اليقين والقطع لدى سامعه؛ وذلك بأن يمطئن قلبه وعقله معًا أن ما حدثوه به هو الحق والصدق، ومقطوع بصدق نسبته إلى قائله ... إن أفاد الخبر ذلك؛ فهو متواتر. والحقيقة -كما قلنا- أنه قد دار نقاش طويل حول هذا الشرط الطويل الخامس؛ هل لا بد من وجود اليقين عند وجود السامعين أو نكتفي ببعضهم؟ نستطيع أن نقول: إن العلم الحاصل من كثرة العدد يوجب اليقين لدى كل السامعين؛ خصوصًا حين تنضم إلى ذلك بقية الشروط التي ذكرناها من شروط الحديث المتواتر؛ أما إذا كان اليقين في الخبر تحقق لقرائن أخرى غير كثرة العدد؛ فإن اليقين يتحقق لمن قويت عنده هذه القرائن؛ لأن القرائن قد تقوم عند البعض دون الآخرين، وقد يعتقدها البعض -أو يؤمن بها البعض- ولا يراها الآخرون قرائن قوية. يقول صاحب (التعليق على نزهة النظر): والحق أن التواتر يحصل تارة بكثرة

المخبرين، ويحصل تارة بصفاتهم -كدينهم وضبطهم- ويحصل تارة بأخبار المخبرين، مع ما ينضم إلى ذلك من القرائن التي تحتف بالخبر؛ ككون كل من المخبرين قد أخبر بمثل ما أخبر به الآخر مع التيقن بعدم تواطؤهم، ويحصل التواتر أحيانًا لسامع ولا يحصل لسامع آخر لفطنة الآخر وذكائه مثلًا، أو لمعرفته بأحوال المخبرين؛ فأهل العلم بالحديث والفقه قد يتواتر عندهم من السنة ما لم يدرك العامة تواتره؛ كوجوب الشفعة ... ونحو ذلك، وفي مثل هذه الحالة يجب على العامة التسليم لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحته. خلاصة هذه النقاشات -كما رأينا من أقوال العلماء-: أن التواتر لا يتوقف على العدد فقط؛ وإنما توجد هناك أحيانًا قرائن أخرى قوية تشفع لقلة العدد؛ فتجعل الخبر -مع قلة العدد متواترًا- مثل أن يكون رواته من أهل الورع والصدق والتثبت والثقة، وقد يكثر العدد ولا يتحقق التواتر؛ كأن يكون رواته من أهل البدع، أو يجمعهم هوى معين، أو يخضعون لسلطان قاهر قد يؤثر في خبرهم ... وهكذا؛ فمتى توفر العدد واستحال في العقل بحكم سنة الله تعالى الجارية في الناس أن يتواطأ هؤلاء القوم على الكذب؛ فإن الخبر حينئذ يكون متواترًا. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 12 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (5)

الدرس: 12 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (5)

أقسام الحديث المتواتر.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة المطهرة (5)) أقسام الحديث المتواتر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فالحديث المتواتر عند العلماء ينقسم إلى قسمين: المتواتر اللفظي، والمتواتر المعنوي. التواتر اللفظي: هو ما تواتر لفظه ومعناه، بمعنى أن الرواة الذين بلغوا حد التواتر قد اتفقوا على رواية اللفظ والمعنى معًا. هناك فريق من العلماء يدخل في المتواتر اللفظي ما يسمونه بتواتر الواقعة الواحدة؛ حتى وإن جاء التعبير عنها بألفاظ مترادفة وأساليب متعددة، ما دامت الروايات قد اتفقت جميعًا على أصل الواقعة الواحدة، هذا إلحاق بالمتواتر اللفظي أن واقعة واحدة تتعدد، مثلًا: رواة ينقلون لنا شيئًا من غزوة من الغزوات تباينت أو اختلفت ألفاظهم؛ لكن أصل الواقعة ثابت في هذه الروايات المتعددة يلحقونه بالمتواتر اللفظي، هذا جهد بعض العلماء. وهناك من أصر على أن المتواتر اللفظي هو أن يكون قد ورد باللفظ المحدد بدون تغيير أو تبديل عند الرواة جميعًا. التواتر المعنوي: وهو ما تواتر معناه فقط دون لفظه، بمعنى: أن يتفق الرواة جميعًا على أصل المعنى ويتم التعبير عنه بألفاظ متعددة، وهذا غير ما ذكرناه في المتواتر اللفظي من تواتر الواقعة الواحدة ... من أدخلوا الواقعة الواحدة؛ هي واقعة واحدة لكن جرى التعبير عنها بأساليب متعددة؛ أما هنا الوقائع تعددت ... قد لا تبلغ كل واحدة منها على حدة حد التواتر؛ لكنّ القدر المشترك بين هذه الوقائع جميعًا قد تعدد بتعدد الوقائع؛ فيكون التواتر حينئذٍ تواترًا معنويًّا. مثال ذلك: أحاديث رفع اليدين في الدعاء: فقد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- نحو مائة حديث

الدرجة التي يفيدها الحديث المتواتر من العلم.

تفيد رفع يديه أثناء الدعاء؛ لكنها جاءت في وقائع مختلفة ومناسبات متعددة، كل قضية منها أو واقعة منها على حدة لم تبلغ حد التواتر؛ لكنّ القدر المشترك بينها وهو رفع اليدين في الدعاء قد ورد فيها جميعًا؛ كأن يروى عنه مثلًا في الحرب دعا فرفع يديه، في صلاة الاستسقاء رفع يديه ... القدر المشترك بين هذه الروايات جميعًا هو رفع الدعاء؛ فوصل الأمر بذلك إلى تواتر المعنى باعتبار مجموع الروايات المتعددة في ذلك، هذا أمر قاله الكتاني في (نظم المتناثر) وهو معروف، وقاله السيوطي في (الأزهار المتناثرة) إلخ، وقاله غيرهم في التفريق بين تعدد الواقعة وبين تواتر اللفظ، كلاهما قسم خاص؛ هذا تواتر معنوي، وهذا تواتر لفظي. الدرجة التي يفيدها الحديث المتواتر من العلم الدرجة التي يفيدها الخبر المتواتر من العلم: حصول العلم في النفس له طرق متعددة: هناك علم وُلدنا به "علم فطري": مثلًا أن الله -عز وجل- ركز معرفتنا به في فطرنا؛ فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (الأعراف: 172) هذا أمر ولدنا به، هناك أمر نراه بالمشاهدة يتحقق به العلم القطعي اليقيني: السماء فوقنا والأرض تحتنا، هناك علم يتحقق بالبداهة: الواحد نصف الاثنين، والاستدلال عليه يكون صعبًا، والاستدلال على البدهيات يزيدها تعقيدًا: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل فما الدرجة التي يفيدها الخبر المتواتر من العلم؟ هل أقطع مثلًا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال هذا الحديث، أو يغلب على ظني أنه قد قاله؟ ذهب الجمهور من المحدثين والأصوليين إلى أن الحديث المتواتر يفيد العلم اليقيني

القطعي، يعني: مقطوع ومتيقن بصدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا مجال للشك أو الإنكار في ذلك، ولا يحتاج -بعد ثبوت تواتره- إلى أدلة أو براهين؛ فمتى ثبت التواتر أفاد العلم اليقيني المقطوع به لدى سامعه، كما يُقطع أيضًا بصدق نسبته إلى قائله ... إن كان الخبر منقولًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن غيره ما دامت قد توافرت شروط التواتر؛ فأصبح الخبر يقينيًّا، ولا نحتاج بعد ثبوت التواتر إلى أدلة أخرى لكي نطمئن إليه أو لكي نتيقن وقوعه. هناك أناسٌ جادلوا في هذا، منهم: الكعبي، وأبو الحسن من المعتزلة، ومنهم: إمام الحرمين، والغزالي من أهل السنة، يعني: قال بأن الخبر المتواتر يفيد العلم النظري وليس القطعي اليقيني. الفرق بين العلم القطعي اليقيني، والعلم القطعي النظري من زوايا: منها مثلًا: أن العلم اليقيني الضروري الذي يفيده الخبر المتواتر يستقر في النفس مثل البدهيات؛ فلا يمكن دفعه عن النفس، كما أنه لا يحتاج -كما ذكرنا مرارًا- إلى أدلة تثبته أو إلى براهين تؤكده، ولا يحتمل الخلاف حوله كمثل الخلاف الذي يجري في النظريات. أما العلم النظري؛ فإنه يحتاج إلى براهين ويتوصل إلى نتائج بمقدمات. كمثال لهذا العلم النظري -وهو أيضًا يصل إلى نتيجة قطعية؛ لكن بعد نظر واستدلال-: نظريات الهندسة: حين يقولون مثلًا: إن المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا، هذه نظرية هندسية، هي إلى الآن مجرد افتراض، علينا أن نثبته؛ لن نتوصل إلى القطع بها كنتيجة علمية مؤكدة إلا بعد أن نستدل عليها؛ فمثلًا يعلموننا في الهندسة أن نقول: أن الفرض هو كذا، الفرض هو رأس

النظرية: المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا، المطلوب: إثبات هذا الفرض، البرهان: بما أن ... وبما أن ... وبما أن ... إذن النتيجة: هي أن المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا أو المثلث المتساوي الزوايا متساوي الأضلاع، وصلنا إلى هذه النتيجة وأصبحت معلومة يقينيًّا مقطوعًا بها بعد أن استدللنا عليها، هذا هو العلم النظري القطعي. كلمة "نظري" بمعنى: أنه جاء بناء على استدلال ونظر، و"قطعي" بمعنى: أنه وصلنا إليه كنتيجة مقطوع بها يعني: حتميّة ... الخبر المتواتر لا يحتاج إلى نظر واستدلال، هو بمجرد ثبوت التواتر يفيد القطع واليقين، ونسبة الخبر إلى قائله نسبة يقينية مقطوع بها؛ خلافًا لما ذكرناه من الكعبي وأبو الحسن من المعتزلة وإمام الحرمين والغزالي الذين يقولون: إن إفادة الخبر المتواتر للعلم هي إفادة نظرية. وأيضًا، من الفروق بين العلم الضروري والعلم النظري: أن العلم الضروري يقع لكل سامع به -سواء كان عالمًا أو ليس من أهل العلم- يقع القطع به، أما العلم النظري؛ فلا يقع القطع به إلا لمن هو عنده أهلية النظر، ولمن هو يدرك هذا التخصص، وهذا الفهم، مثلًا المثال الذي ضربناه: المثلث المتساوي الزوايا متساوي الأضلاع؛ الرجل العادي لا يشتغل بها، ولا يهتم بها إلا المتخصصون في العلوم الهندسية ويأخذون هذه النظرية بعد تأكيدها لتطبيقها في أمور علمية متعددة ينتفعون بها في حياتهم. وهناك من ينكر إفادة المتواتر للعلم لا نظري ولا قطعي، وهؤلاء لا يستحقون عناء الرد عليهم أصلًا؛ لأنه مخالف للبدهيات، وأجدر الآراء بالقبول -وهو الحق لا جدال في ذلك- هو رأي الجمهور الذي يؤكد أنه: متى توافر الخبر أصبح

العلم به علمًا ضروريًّا، يعني: توفر في قلوبنا وفي يقيننا بعد أن تواتر الخبر؛ لكنه بعد ذلك لا يحتاج إلى نظر واستدلال. هذا -على كل حال- هو الدرجة التي يفيدها الخبر المتواتر من العلم، وإذا طبقنا ذلك على الحديث النبوي: يفيدنا أنه متى ثبت تواتر الحديث فقد تيقَّنَّا بالضرورة بصدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصبح الإيمان بذلك إيمانًا حتميًّا لا يستطيع أحدٌ بعد أن يثبت تواتر الحديث أن يتكلم في صدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعكس ما يتكلمون به في شأن الخبر الآحاد. ولذلك ترتب على ذلك كلام العلماء في قضية أخرى وهي: ما حكم منكره وجاحده؟ ما دمنا قد قطعنا بأنه يفيد العلم اليقيني القطعي الضروري، ولا يحتاج بعد ثبوت التواتر إلى أدلة وقطعنا بصحة نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذه النسبة المقطوع بها قد تحققت بكثرة الطرق المعتبرة المؤكدة لذلك؛ فأصبح الخبر المتواتر قطعي الثبوت. رتبوا على ذلك مسألة وهي أن منكره وجاحده كافر؛ لأنه ما دامت نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقطوعًا بها؛ فإن جاحده مكذب للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا بلا جدال يخرج صاحبه من الإيمان. يقول فضيلة الدكتور أديب صالح عن حكم الحديث المتواتر: ولقد قرر العلماء أن المتواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا مجال فيه للتكذيب ويكفر جاحده؛ لأنه قطعي الثبوت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاحده مكذّب للرسول، وشأنه في إفادة العلم شأن ما يفيده الحس بالمشاهدة وغيرها. يريد أن يقول في مسألة إفادة العلم: كما نرى بأدوات الحس، يعني: كما أرى

بعيني الشيء وكما أسمع بأذني وأتيقن يقينًا جازمًا لا شبهة فيه؛ فكذلك إذا ثبت تواتر الخبر فقد أفاد درجة العلم التي تفيدها المشاهدة. وهكذا نرى أن المتواتر لا يحتاج إلى شيء من البحث والنظر، كما نعلم مثلًا وجود عمر وعلي في الصدر الأول، وكما نعلم وجود دمشق وبغداد وقرطبة من غير حاجة إلى البحث والتأمل. إذن الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي، وبالنسبة للحديث فإن نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقطوع بها. الحديث المتواتر جرى نقاش بين العلماء؛ هل هو موجود بكثرة في السنة؟ ابن الصلاح يقول: من تطلب المتواتر عز وجوده، لعله يقصد المتواتر اللفظي بنصه؛ لكنّ المتواتر كثير جدًّا في الأحاديث. وابن حجر -رحمه الله تعالى- يرد على كلام ابن الصلاح في ادعاء العزة في وجود الخبر المتواتر يقول: وما ادعاه من العزة ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذب أو يحصل منهم اتفاق على ذلك. ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودًا وجود كثرة من الأحاديث: أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب -إلى آخر الشروط- أفاد العلم اليقيني، ومثل ذلك في الكتب المشهور كثير.

وأيضًا السيوطي ينقل كلام ابن الحجر السابق في (التدريب) ويؤكده ويعقّب عليه بأنه ألف في الأحاديث المتواتر كتابًا، ثم اختصره في كتاب آخر، هذا كله يدل على أن المتواتر موجود، وأنه قد أُلِّفت فيه الكتب. من الفوائد أيضًا المتعلقة بالحديث المتواتر أن نقول: إنهم حين يذكرون كلمة "المتواتر" هكذا مطلقة؛ فإنما يقصدون المتواتر اللفظي. أيضًا، من المسائل الهامة: حين نقول بوجود المتواتر في السنة بكثرة؛ فليس معنى ذلك أن الأغلب في السنة هو الخبر المتواتر؛ وإنما الأغلب هو الآحاد، وهذا لا يقلل من شأن الآحاد ولا يزيد في المتواتر. إذن الحديث المتواتر موجود؛ لكنّ الأغلبية في السنة للحديث الآحاد. المؤلفات كثيرة في الحديث المتواتر، منها كتاب (قطف الأزهار) و (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) و (الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة) وكلها للسيوطي، وهناك من جعلهما كتابين فقط وليست ثلاثة كتب، و (البرهان) للزركشي، ألف قبل السيوطي كتابًا في الأحاديث المتواترة أشار إليه السخاوي في (فتح المغيث)، وهناك (نظم المتناثر من أحاديث المتواتر) تأليف أبي الفيض جعفر الحسن الشهير بالكتاني، وهناك (اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة) لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن علي بن طولون الحنفي الدمشقي الصالحي، وهناك (لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة) لأبي الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي المصري. وهناك كتب كثيرة، ومعظم هذه الكتب مطبوع بفضل الله -عز وجل- ومعظمها أيضًا في جزء واحد لا يصعب طلبه من المكتبات، ولا يصعب الوقوف عليه مما لا نطيل بذكر التفصيلات حول هذه الكتب كثيرًا، ذكرناها للفائدة. هناك أحاديث متواترة كثيرة: من أمثلتها: حديث: ((من كذب عليّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)) ابن الصلاح في مقدمته -رحمه الله- قال: نقله من

حديث الآحاد.

الصحابة العدد الجم، وهو في الصحيحين مروي عن جماعة منهم، والعراقي في تعليقاته على المقدمة أفاد أن بعض من جمع طرقه وصل بهم إلى ثمانية وتسعين نفسًا، وذكرهم بالاسم الزبيدي في (لقط اللآلئ المتناثرة)، وذكر من أخرج رواية كل منهم من أصحاب الكتب؛ فمن بين الصحابة الذين رووه مثلًا غير العشرة المبشرين بالجنة: أبو هريرة، وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو قتادة، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، في نفر كثير من الصحابة -رضوان الله عليهم-، وقد أخرجه الشيخان -رحمهما الله تعالى- من رواية علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وأنس، والمغيرة، وغيرهم كثير؛ كما انفرد البخاري -رحمه الله- ببعض طرقه مثل انفراده من طريق الزبير بن العوام وعبد الله بن عمرو بن العاص وهكذا، ويكاد هذا الحديث يوجد في كل كتب السنة تقريبًا. حديث: ((الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة))، حديث: ((لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا))، حديث: ((من غشنا فليس منا)) أو ((من غش فليس منا)). حديث الآحاد حديث الآحاد الذي هو القسم الثاني من أقسام الحديث باعتبار عدد الرواة في كل حلقة من حلقات إسناده: الآحاد جمع أحد بمعنى الواحد، ويعرّفه العلماء فيقولون: هو ما فَقد شرطًا من شروط الحديث المتواتر، ويعرّفه غيرهم فيقولون: هو ما لم يبلغ درجة التواتر، التعريفان قريبان من بعضهما، نستطيع أن نقول بمعنى واحد تقريبًا.

بإيجاز، الحديث الآحاد له أقسام: منها: الحديث المشهور: واختُلِف في تعريفه، مثلًا ابن حجر -رحمه الله- في (شرح النخبة) يقول: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، وقيل في تعريفه أيضًا: ما رواه في كل طبقة من طبقاته ثلاثة فأكثر دون أن يصل إلى درجة التواتر. هذه التعريفات -على كل حال- متقاربة، مدارها على أن المشهور لا ينبغي أن يقل العدد في كل طبقة من طبقاته عن ثلاثة رواة في كل حلقة من حلقات الإسناد على الأقل، ليس معنى هذا: أنه يشترط أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة عن ثلاثة، بمعنى وجود ثلاثة في كل حلقة لا يزيدون ولا ينقصون نحن نريد ألا ينقص العدد عن ثلاثة ولو في حلقة واحدة من حلقات الإسناد، إذا قل العدد عن ثلاثة لا يصبح مشهورًا وينتقل إلى العزيز. ننبه إلى أن الحديث المشهور تعتريه أحكام الصحة والحسن والضعف، بمعنى آخر: ليست شهرة الحديث دليلًا على صحته؛ وإنما لا بد من التثبت في شأنه، والحكم بما يليق به صحة أو حسنًا أو ضعفًا. أيضًا ما نقوله في هذه المسألة نقوله أيضًا في أقسام الآحاد من العزيز والغريب التي سيأتي الكلام عنها، ذكرناه فقط عند المشهور لأنه ربما تصور البعض أن شهرة الحديث دليلٌ على صحته، وكثير من نسأل من الناس عن بعض الناس فنقول لهم: إنها ضعيفة؛ فيقولون: إنها مشهورة جدًّا وتنتشر على الألسنة إلخ؛ ولذلك هناك مؤلفات في الأحاديث المشتهرة على الألسنة مثل: (المقاصد الحسنة) للسخاوي، ومثل (كشف الخفاء) للعجلوني، وغيرهم، يحكمون على الأحاديث المشهورة على الألسنة على كل حديث بما يليق بحاله من الصحة والحسن والضعف. هناك كلام كثير جدًّا عن المشهور مظنه في كتب المصطلح حديث مشهور عند أهل

الحديث وأهل العلم جميعًا والعوام مثل: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) وهناك مشهور عند المحدثين خاصة، ويقول العراقي -رحمه الله تعالى- في ألفيته: كذا المشهور أيضًا قسموا ... بشهرة مطلقة كالمسلم أي: حديث: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) والمقصور على المحدثين من المشهور: قنوته بعد الركوع شهرًا ... ومنه ذو تواتر مستقر يعني: يقصد بالحديث المشهور الذي هو عند أهل الحديث خاصة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظل يقنت على بعض القبائل شهرًا بعد الركوع لما فعلوه من قتل المسلمين في الرجيع وبئر معونة، وهناك مشهور عند الأصوليين، وعند الفقهاء، وعند النحاة، وقد لا يكون لا أصل له إلخ؛ لكنها تقسيمات للعلماء باعتبار ما دار على ألسنة الناس من الحديث كما هو معروف. للحنفية في الحديث المشهور قولٌ أشار إليه الأستاذ الدكتور: محمد أديب صالح، بأن المشهور عند الأحناف له اصطلاحٌ خاص: إذا كان الحديث باعتبار عدد رواته ينقسم عند المحدثين إلى متواتر وآحاد -كما ذكرنا- فإنه عند الحنفية ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى متواتر، ومشهور، وآحاد ... على ذلك؛ المشهور ليس قسمًا من أقسام الآحاد؛ وإنما هو قسيم للمتواتر والآحاد؛ فهو قسم ثالث من أقسام الحديث باعتبار عدد رواته في كل حلقة. الأحاديث المشهورة على الألسنة لها مؤلفات كثيرة. النوع الثاني من حديث الآحاد: هو حديث العزيز: وسمي بهذا الاسم إما لقلة وجوده؛ لأنهم يقولون: عز الشيء يعز، يقصدون: أنه قل؛ وقد يكون سُمي بذلك لأنه قوي واشتد بمجيئه من طريق آخر من

قولهم: عَزَّ يعَزُّ، بفتح العين في المضارع، أي: اشتد وقوي، ومنه قوله -تبارك وتعالى-: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} (يس: 14) أي: قوينا وشددنا أمر الرسولين برسول ثالث. "العزيز": هذه صفة مشبهة على وزن "فعيل" من عزّ؛ إنما تعريفه: ما لم يقل الرواة فيه عن اثنين ولو في طبقة واحدة، أو يقولون: ما تحقق في رواته اثنان ولو في طبقة واحدة، ولم يقلّ الرواة عنهما في أي طبقة. ك ما ذكرنا عن حكم الحديث المشهور من أنه تعتريه أحكام الصحة والحسن والضعف؛ فكذلك نقول عن العزيز. والغريب أيضًا القسم الثالث من أقسام حديث الآحاد: هو أولًا لغويًّا: مشتق من الغربة؛ بمعنى: المنفرد أو البعيد ... الرجل الغريب: هو المنفرد أو هو البعيد عن أهله ... الحديث الغريب: سمي بذلك لأن راويه قد قد انفرد بالرواية عن غيره، مثل الغريب الذي انفرد وابتعد عن وطنه وعن أهله. العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي علاقة واضحة، يعرفه ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الاصطلاح فيقول عنه: ما تفرد بروايته شخص واحد في أي موقع وقع التفرد به في السند. هم يقسمونه إلى غريب نسبي وغريب مطلق، وكما قلت: هذا محله كتب المصطلح؛ لكن متى وُجد راو ٍ واحد ولو في حلقة من حلقات الإسناد يسمونه بالحديث الغريب. هذه هي أقسام حديث الآحاد بإيجاز؛ لأن مظنتها هي كتب المصطلح ... ولأننا بعد ذلك إن شاء الله -تبارك وتعالى- سنرد على الشبه التي أثاروها حول العمل بخبر الآحاد وكأنهم يريدون أن يضيعوا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-:

حكم العمل بحديث الآحاد: كما تكلمنا عن حكم العمل بالحديث المتواتر وأنه مقطوع بصدقه ومقطوع بصدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأيضًا منكر المتواتر كافر؛ لأنه كما يكون قد أنكر شيئًا من القرآن الكريم ... القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر، سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تلقاه عن سيدنا جبريل -عليه السلام- ثم تلقاه الصحابة الكرام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلقاه من بعدهم عن الصحابة، هذا القرآن وظلت الأمة تتناقله بالملايين جيل عن جيل إلى عصرنا، وإلى ما بعد عصرنا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ كذلك الحديث المتواتر نقل إلينا بالعدد الكبير الذي يطمئن القلب إلى عدم وقوع الكذب منهم. إذن، إنكار شيء من الحديث المتواتر هو أيضًا كإنكار شيء من القرآن الكريم؛ ولذلك حكم العلماء بكفر هذا وكفر ذاك. بادئ ذي بدء نفرق بين مسألتين: ما الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم؟ ثم ما حكم العمل بحديث الآحاد؟ حين تكلمنا عن الخبر المتواتر قلنا: إنه يفيد العلم الضروري الذي يحصل اليقين لسامعه بصدق الخبر، لا يحتاج بعد ثبوت التواتر إلى نظر واستدلال. فما الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم؟ آراء العلماء في هذا متعددة؛ منهم من قال بإفادة خبر الآحاد للعلم القطعي، بمعنى أننا نقطع بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاله، ومنهم من قال بإفادته للعلم الظني. الظن يعرفه الأصوليون بتعريفات متعددة تدور حول: أنه العمل بالقول الراجح أو ترجيح أحد الاحتمالين. الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في مقدمة (صحيح

مسلم) ينقل وينسب هذا القول إلى المحققين والأكثرين من الأصوليين والمحدثين -وهذه الأكثرية في الحقيقة فيها نظر وقد تعقبه بعض العلماء في ذلك- ينقل أن أكثر العلماء من المحدثين والأصوليين يقولون بإفادته للظن، يعني: يغلب على ظننا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاله ولا نقطع بصدق نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-. كثير من المحدثين من أهل العلم قالوا بإفادة خبر الآحاد للعلم النظري، أي: المبني على نظر واستدلال، نحن نصل إلى صحة الحديث بدراسة الإسناد ودراسة المتن، تعلمون أن علماء الحديث قد وضعوا شروطًا إذا توفرت في الإسناد حكم عليه بالصحة ووضعوا شروطًا للمتن: ألا يباين المنقول، أو يخالف المعقول، أو يصادم الأصول؛ وإذا كان كذلك فيكون صحيحًا، بالإضافة إلى معايير أخرى ذكروها في هذه المسألة. إن العلماء الذين قالوا: إن خبر الآحاد يفيد القطع النظري، يعني: المبني على نظر واستدلال؛ لكننا نقطع بصحة نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: قد درسنا الإسناد في ضوء القواعد المقررة عند العلماء ودرسنا المتن في ضوء القواعد المقررة عند العلماء لدراسة المتن؛ فسلِم لنا الإسناد والمتن معًا؛ فلماذا نتردد في القطع بصحة نسبة الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم؟! إلى هذا الرأي ذهب صاحب (المحلى) ابن حزم، وذهب الشيخ شاكر، والشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- وذهب كثير من العلماء. وهناك من قال بإفادة الآحاد القطع؛ لكنه قصره على أحاديث الصحيحين مثل ابن الصلاح في (المقدمة) قال: بأن أحاديث الصحيحين فقط هي التي نقطع بصحة نسبتها للنبي -صلى الله عليه وسلم- وواضح أن مبنى هذا الرأي عند ابن الصلاح على أن الصحيحين قد أجمعت الأمة على تلقيهما بالقبول، ومن ثم فأصبح الأمر

إجماع أمة وليس مجرد رواية البخاري ومسلم فقط، ومن هنا أعطى لآحاد الصحيحين بالأحرى إفادة القطع، أي: نقطع بصحة نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم. ابن حجر -رحمه الله تعالى- أضاف إلى ابن الصلاح فائدة أخرى: لم يقصر حكم إفادة العلم، أي: صدق النسبة والقطع بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أحاديث الصحيحين فقط؛ إنما ألحق بأحاديث الصحيحين كل حديث احتفت به قرائن تكسبه مزيدًا من القوة، قال فريق كثير من العلماء بأن الصحيحين أو آحاد الصحيحين يفيد القطع بصحة نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما توافر للصحيحين من إجماع الأمة ... أيضًا ما المانع أن نلحق بهذا الأمر كل حديث قامت قرائن وأدلة على أنه يرتقي إلى أحاديث الصحيحين ... قرائن أكسبته مزيدًا من القوة، خصوصًا وأننا نعلم أن الصحيحين لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة ولم يلتزما بهذا. مثلًا الحديث المسلسل بالأئمة الأجلاء: حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- مثلًا أو عن الزهري عن ابن عمر ... هذا حديث نستطيع أن نسميه بأنه مسلسل بالأئمة الأجلاء الكبار، فلو كان هذا الحديث عند غير الصحيحين ألحق ابن حجر مثل هذه الأحاديث بأحاديث الصحيحين. بما أنني قد تأكد من صحة السند وتأكدت من صحة المتن وسلِم لي الاثنان معًا- فلماذا لم أقطع بصحة نسبة الحديث للنبي -صلى الله عليه وسلم؟! متى صح الحديث وجب العمل به: العلماء أجمعوا جميعًا على أن الحديث متى صح وجب العمل به بصرف النظر عن إفادته بالنسبة لنسبته إليه -صلى الله عليه وسلم- الظن أو القطع ولا يصرف عن وجوب العمل

به إلا بصارف شرعي كأن يكون منسوخًا مثلًا، أو عامًّا وخُصص، حتى النووي -رحمه الله- لما تكلم من وجهة نظره عن أن خبر الآحاد يفيد الظن حكى إجماع العلماء على أن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها ... ليس شرطًا أن أصل إلى درجة القطع لأعمل بمضمون الخبر، هذا أمرٌ مقرر للعلماء. مثلًا، حين يخبرنا مخبر أنه قد رأى هلال شوال أو هلال رمضان: في هلال رمضان يجب على الأمة أن تصوم، ومن أصبح مفطرًا بعد أن تأكدنا من عدالة الناقل للخبر بأنه رأى الهلال سيفطر يومًا لا يجوز فطره وله عقوبته المقررة عند العلماء في كتب الفقه، وكذلك أيضًا من صام حين يُرى هلال شوال سيصوم يومًا حرم صيامه على المسلمين بإجماع الأمة على ذلك، والحج ينبني على ما يراه الرائي بالنسبة لهلال شهر ذي الحجة ... البينات ... الأحكام من الحدود وغيرها ... مثلًا حين يشهد اثنان بأن فلانًا قتل فلانًا وتأكد القاضي من عدالة الرواة سيقتص منه، والاثنان خبر آحاد، والواحد الذي رأى الهلال خبر آحاد، والحدود كلها؛ حتى أشد الحدود أو أكثر الحدود طلبًا للعدد: وهو حد الرجم طُلِب فيه أربعة شهود؛ كما ورد في القرآن الكريم؛ حتى الأربعة على الرأي الأغلب عند العلماء ليس خبرًا متواترًا؛ إنما هو أيضًا خبر آحاد؛ وإنما زاد العدد في الأغراض لأنها مبنية على الصيانة والتحوط. يشهد اثنان عليّ بأنني مدين بمبلغ كذا لفلان ... متى اطمأن القاضي لعدالة الرواة؛ حكم بأن المبلغ عليّ، ولا يحتاج الأمر إلى إقراري، وعليّ أن أؤدي المبلغ كما ذكره الشهود إلخ ... إلخ ... أمور كثيرة جدًّا من أحكام الفقه والشرع تنبني على خبر الآحاد، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن الأمة يجب العمل عليها بخبر الآحاد. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 13 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (6)

الدرس: 13 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (6)

الشبه المثارة حول حجية خبر الواحد، والرد عليها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة المطهرة (6)) الشبه المثارة حول حجية خبر الواحد، والرد عليها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: هناك محاولات لإثارة الشبه حول حجية خبر الواحد، ويقولون بها، ويريدون أن ينتهوا إلى نتيجة: وهي أنه لا يجب العمل بخبر الواحد. من أقوى ما حاولوا أن يستدلوا به قول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) وقالوا: إن العمل بخبر الواحد اقتفاء لما ليس لنا به علم، وشهادةٌ وقولٌ بما لا نعلم؛ لأن العمل به موقوف على الظن ... هؤلاء يصرون على إفادته للظن، ويقولون: قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وقالوا: قد ذمّ الله -تبارك وتعالى- من اتبع الظن وبيَّن -جل في علاه- أن الظن لا يغني من الحق شيئًا؛ فهم يتبعون دليلًا واهيًا، لا قوة له، لا يفيد في إثبات الحق شيئًا ... هذه شبهة قال بها بعض المعتزلة وقال بها بعض من تبعهم من المحدَثين. وحاولوا بعد هذه القاعدة أن يستدلوا بأدلة من السنة؛ مثلًا في قصة ذي اليدين، وهي قصة مذكورة في الصحيحين، وذكرها البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام ... إلخ، ورواه الإمام مسلم في كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له. وهذا لفظ مسلم: روى بسنده -رحمه الله تعالى- إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ((صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشي -إما الظهر، وإما العصر- فسلم في ركعتين، ثم أتى جذعًا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبًا، وفي القوم أبو بكر وعمر؛ فهابا أن يتكلما، وخرج سرعان الناس قالوا للرسول -صلى الله عليه وسلم-: قصرت

الصلاة. فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله؛ أقصرت الصلاة أم نسيت؟ نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- يمينًا وشمالًا فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق؛ لم تصلّ إلا ركعتين. فصلى ركعتين وسلم ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع؛ ثم كبر وسجد ثم كبر ورفع وسجد)) الخلاصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتم الصلاة بناء على إخبار ذي اليدين بعد أن سأل الصحابة -رضي الله عنه- ذو اليدين هو الخرباق بن عمرو السلمي، يقال له "ذو اليدين"؛ لأنه كان في يديه طول، وبعض الأقوال تقول: لأنه كان قصير اليدين؛ هو صحابي جليل، ترجم له في كتب الصحابة مثل (الإصابة) و (أسد الغابة) وغيرهم من الكتب التي ترجمت للصحابة -رضوان الله عليهم. وجه استدلالهم بهذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل قول ذي اليدين بادئ ذي بدء إلا بعد أن سأل الصحابة، وكأنه لم يثق بخبر الواحد إلا بعد أن أكده الذين كانوا معه. وأيضًا، يجمعون إلى ذلك أدلة كثيرة كلها تدور حول هذا المعنى: أن مواقف من الصحابة احتاجوا فيها إلى قول آخر يساند القول الأول. من ذلك مثلًا: حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- في توقفه في قبول خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان: أبو سعيد يقول: "كنا في مجلس عند أبي بن كعب؛ فأتى أبو موسى الأشعري مغضبًا حتى وقف فقال: أنشدكم الله؛ هل سمع أحدٌ منكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الاستئذان ثلاث؛ فإن أذن لك وإلا فارجع)) قال أبي بن كعب: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات؛ فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئته اليوم فدخلت عليه؛ فأخبرته أني جئت أمس

فسلمت ثلاثًا ثم انصرفت. قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل؛ فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك! قال: استأذنت كما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال. فقال الفاروق -رضي الله عنه-: فوالله لأوجعنَّ ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا. فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنًّا؛ قم يا أبا سعيد. فقمت حتى أتيت عمر؛ فقلت: قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا". حديث أبي موسى هذا رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، ورواه مسلم -رحمه الله- في كتاب الآداب، باب الاستئذان. أيضًا، قصة أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- حين توقف في ميراث الجدة لما جاءته تسأله حقها في الميراث: "قال لها: لا أجد لك في كتاب الله شيئًا، ولا أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى لك بشيء؛ أشرنا إلى عظمة كلام أبي بكر -رضي الله عنه- وذكائه وفطنته وأشرنا أيضًا إلى الحديث ومدى دلالته على حجية السنة، بعد أن كان الخليفة الراشد الأول أبو بكر -رضي الله عنه- قد رد المرأة، وقال لها: ارجعي. حتى سأل الناس؛ فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس. وهي لم يذكر فرضها في القرآن؛ فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، وذكر مثل ما قاله المغيرة بن شعبة؛ فأنفذه لها أبو بكر -رضي الله تبارك وتعالى عنه-". وقصة أبي بكر -رضي الله عنه- رواها أبو داود في كتاب الفرائض باب في الجدة ورواها الترمذي في كتاب الفرائض أيضًا باب ما جاء في ميراث الجدة، وعقب عليه الترمذي -رحمه الله تعالى- فقال: وهذا أحسن وأصح من حديث ابن عيينة، يعني: يرجح إحدى الروايتين؛ لكنه حكم لها بالصحة -على كل حال. إذن، هذه أدلةٌ، المنكرون لحجية خبر الآحاد يتصورونها أنها أدلة على أن الصحابة لم يقبلوا خبر الواحد.

ونريد أن نرد على هذه الشبه، ثم نذكر الأدلة على قبول خبر الواحد وهي أدلة كثيرة جدًّا، وسنقف معها مع (رسالة الإمام الشافعي) -رضي الله تعالى عنه- وغيره من الكتب الواردة في هذه الموضوع: المسألة الأولى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) يقولون: إن هذه الآية قد ذم الله فيها الظن، وبيَّن أنه لا يغني من الحق شيئًا، يعني: من أراد الحق وطلبه؛ فلا يكتفِ بأدلة الظن؛ إنما لا بد له من الوصول إلى القطع واليقين، وأحاديث الآحاد تفيد الظن. مثل هذه الآيات جمعوها واستدلوا بها، ونريد أن نقول: إن الظن هنا في هذه الآيات هو الذي يوضع في مقابلة اليقين؛ فكأنه نوع من الوهم، وإلا فإن الظن درجة من درجات العلم يبنى عليها، والظن: هو ترجيح أحد الاحتمالين أو هو القول بالعمل الراجح -على تعريفات متعددة للظن عند الأصوليين. دعونا نستدل من القرآن الكريم على أن الله -تبارك وتعالى- في آيات كثيرة قد اعتبر الظن: من ذلك مثلًا في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 45 - 46) لم تقل الآية: الذين يعتقدون أنهم ملاقو ربهم، أيضًا، سورة المطففين: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين:1 - 5) مع أن إيماننا باليوم الآخر يجب أن يكون معتقدًا مقطوعًا به؛ إلا أن الله -عز وجل- اعتبر الظن هنا درجة كافية في وجوب الإيمان باليوم الآخر؛ بل إن هنا لفتة أشار إليها بعض العلماء حين قال: عبّر الله بالظن في مجال يقتضي اليقين؛ ليبين لنا أنه حتى ولو غلب على ظن الأمة أو غلب على ظن بعض أفراد الأمة أن

يوم القيامة واقع لكانت غلبة الظن هذه كافية في أن يحسنوا الاستعداد لهذا اليوم وألا يفعلوا ما فعلوه من مخالفات جسيمة حين طففوا الكيل والميزان؛ ألا يعتقدون يومًا سيحاسبون فيه على تطفيف الميزان وغيره؟! هذا الظن أو هذا الاعتقاد عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}. الخلاصة: أن الظن في هذا الفهم درجة من درجات العلم القوية التي، حتى وإن لم تصل إلى درجة اليقين؛ فهي كافية لأن ينتسب العبد إلى مضمون الخبر الذي غلب على ظنه بأنه صحيح، وهناك من العلماء من فسّر بأن الظن هنا: هو اليقين، وقالوا كذلك: الظن بمعنى اليقين، وسواء هذا أو ذاك؛ فهي اجتهادات في تفسير الآية. ونخلص من ذلك كله إلى أن الاستناد إلى الآية: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} إنما هو استنادٌ إلى فهم خاطئ في معنى الظن ... واضح جدًّا من السياق هنا أنه الوهم، أو الذي ليس له أي درجة من الصدق أو الحجية. فسياق الآية واضح في أن الظن هنا ليس هو الظن الذي عرفه الأصوليون بأنه: ترجيح أحد الاحتمالين، أو العمل بالقول الراجح؛ وإنما هو الظن المرادف للوهم الذي لا يَعتمد على أي دليل ولا حتى شبهة دليل؛ وإنما يخرف به أصحابه من غير استناد إلى آثارة من علم أو برهان حتى ولو كان ضعيفًا. إذن هذا الدليل وأمثاله مما حاولوا أن يستدلوا به على أن خبر الآحاد لا يُعمل به لإفادته الظن مردودٌ عليه -كما وضح من القول. أما ما ذكر من استدلالهم بقصة ذي اليدين التي أشرنا إليها وبقصة عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- في قصة الاستئذان مع أبي موسى، وفي قصة ميراث الجدة كلها لا تدل على ما ذهبوا إليه. أولًا: الصحابة كلهم عدول، وأبو موسى عدل من العدول الكبار في عالم الصحابة، وذو اليدين أيضًا؛ إنما الصحابة -رضوان الله عليهم- علمونا التثبت في رواية

أدلة الإمام الشافعي على حجية خبر الواحد.

الأخبار، لم يشكوا أبدًا من خبر أبي موسى، ولم يشك الصديق في خبر المغيرة، ولم يشك النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذي اليدين؛ إنما أرادوا التأكد فقط؛ فهل بعدما شهد شاهد مع أبي موسى أو مع المغيرة أصبح الخبر متواترًا؟! لا، لا يزال خبر آحاد كما هو؛ لأنه من رواية اثنين فقط، ورواية اثنين -باتفاق الجميع- من أخبار الآحاد، وليس من أخبار التواتر. خصوصًا أن المواقف الثلاثة التي أشرنا إليها تحمل أحكامًا شرعية في قصة ذي اليدين. أيضًا ميراث الجدة، القرآن على تفصيله في آيات المواريث لم يذكره؛ ولأن قصة الجدة نادرة، يندر أن تظل الجدة حية إلى أن ترث حفيدها؛ فيكون الخبر ليس معروفًا عند كثير من الصحابة ... هذا أمر وارد جدًّا؛ فلذلك أراد الصديق -رضي الله عنه- أن يستوثق؛ لأن هذا أيضًا حكم شرعي، وكذلك الأمر في قصة أبي موسى، ويتضمن حكمًا بأن الذي يستأذن ثلاث مرات ولم يؤذن له؛ فليرجع. إذن، الاستدلال أيضًا بهذه النصوص ليس استدلالًا قويًّا؛ بل هو ضعيف ومتهافت -كما ذكرنا- والعلماء الذين ذكروا هذا ذكروا أدلةً كثيرة على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن الصحابة -رضوان الله عليهم- قبلوا كثيرًا جدًّا من أخبار الآحاد. أدلة الإمام الشافعي على حجية خبر الواحد ونأتي الآن إلى أدلة الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله تعالى- في (الرسالة) عقد فصلًا ممتعًا تحت عنوان: الحجة في تثبيت خبر الواحد: ذكر فيه مجموعة من الأدلة الكثيرة جدًّا ربما تقترب من ثلاثين دليلًا لإفادة خبر الواحد أو لحجيته ووجوب العمل به، وكل العلماء الذين تكلموا في هذا: الشيخ الألباني عليه -رحمه الله- له كتاب في هذا ... الشيخ أحمد شاكر له كتاب في هذا ... وكثير من العلماء.

نشير إلى العمدة في هذا وهو كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: يقول -رحمه الله-: فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنصّ خبر أو دلالة فيه أو إجماع -يعني: بنص خبر صريح، أو خبر يدل على هذا ولهدلالة التزامية أو تضامنية أو ما شاكل ذلك أو بإجماع- فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ... )) إلى آخر الحديث. الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- هنا يروي بإسناده، ورواه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على ترديد السماع، وقال عن حديث عبد الله بن مسعود هذا: حسن صحيح، ورواه أيضًا من حديث زيد بن ثابت، وقال عنه: حديث حسن، ورواه أبو داود في كتاب العلم، باب نشر العلم، ورواه غيرهم كثير. وجه الدلالة من النص -كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى-: فلما ندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأً يؤديها والامرؤ واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدي إليه؛ لأنه إنما يؤدى إليه حلال يفعل وحرام يجتنب وحد يقام ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا -يعني: أحكام الشرع كلها تنقل- ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظًا ولا يكون فيه فقيهًا، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين -إن شاء الله- لازم. ويستطرد الإمام الشافعي -رحمه الله تبارك وتعالى- يقول: أخبرنا سفيان، قال: أخبرني سالم أبو النضر: أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال: قال

النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نَهيت عنه أو أمرت به؛ فيقول: لا ندري؛ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) يقول: قال ابن عيينة: وأخبرني محمد بن المنكدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثله مرسلًا، وفي هذا تثبيتُ الخبر عن رسول الله وإعلامهم أنه لازم له، وإن لم يجدوا له نصّ حكم في كتاب الله، وهو موضوع في غير هذا الموضع. والحديث له روايات أخرى: ((إلا إن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله تعالى)) بين في نهاية الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرع كما يشرع الله -تبارك وتعالى. هذه أدلة على حجية خبر الواحد. ويستطرد الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- مع أدلته؛ فيروي أن رجلًا قبل امرأته وهو صائم؛ فوجد من ذلك وجدًا شديدًا -يعني خاف وتألم- فأرسل امرأته تسأل عن ذلك؛ فدخلت على أم سلمة -أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها- فأخبرتها أم سلمة؛ فقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحل الله لرسوله ما شاء؛ فرجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها، فقال رسول الله: ((ما بال هذه المرأة؟)) فأخبرته أم سلمة فقال: ((ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟! فقالت أم سلمة: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها؛ فأخبرته؛ فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله؛ يحل الله لرسوله ما شاء! فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: والله إني لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده)). يقول الشافعي -رحمه الله تعالى-: وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله؛ لأنه رواه مرسلًا: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وعطاء بن يسار من الصحابة: تابعي، فالشيخ أحمد شاكر

-عليه رحمة الله تعالى- يقول: وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن عطاء، عن رجل من الأنصار، وهو في (مسند الإمام أحمد): حدثنا عبد عبد الرزاق، أنبأنا ابن جريج، أخبرني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار: أن الأنصاري أخبر عطاء: أنه قبل امرأته على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم ... ". فذكر الحديث، والهيثمي -رحمه الله- في (مجمع الزوائد) قال عنه: ورجاله رجال صحيح، والشيخ شاكر عقب وقال: وهو كما قال. لكن الشيخين -رحمهما الله- روياه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقبّلها وهو صائم، وهو موجود عندهم في كتاب الصيام في حكم القبلة للصائم، وأيضًا الإمام مسلم روى من حديث عمر بن أبي سلمة -وهو ابن أم سلمة- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيقبل الصائم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سلْ هذه)) لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له)). على كل حال: الحديث صحيح، ووجه الدلالة منه: أن المرأة جاءت من عند زوجها -وهي واحدة- وأخبرتها أم سلمة -وهي واحدة- وعادت إلى زوجها، وعادت مرة بعد العودة إلى زوجها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل ذلك أم سلمة تخبرها والمرأة تعود وتتكلم إلى أن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إني والله لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده)) دلالة واضحة في الحديث على أن الخبر الواحد يُعمل به بدون تردد أبدًا. قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في الإسناد أيضًا: في ذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك)) دلالة على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وفي خبرها ما تكون الحجة لما أخبرته، وهكذا خبر امرأته إن كانت من الصدق عنده.

ثم انتقل الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- إلى دليل آخر على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة عملوا بخبر الواحد: قال: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح؛ إذ أتاهم آتٍ فقال: "إن رسول الله قد أنزل عليه قرآن، وقد أُمر أن يستقبل القبلة؛ فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة"، وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفِقْه وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعو فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة -هل يتركون ما افترضه الله عليه من وجوب الاتجاه إلى بيت المقدس إلا بحجة غيرت هذا الحكم، وهم لم يسمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، هم في صلاتهم آتاهم آتٍ أخبرهم أنه قد أنزل الليلة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرآن يأمر بتحويل القبلة- ولم يَلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة؛ فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا بخبر عامة. يعني: هم كانوا متتبعين لقبلتهم أولًا؛ لأن لهم فيها ما أنزل الله -عز وجل- من كتاب الله وأيضًا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ظل سبعة عشر في المدينة بعد الهجرة يصلي بهم إلى بيت المقدس. وانتقلوا عن هذا الحكم السابق في القرآن والسنة بخبر واحد؛ إذ كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قد أتى عليهم بتحويل القبلة، أو ولم يكونوا ليفعلوه -إن شاء الله- بخبرٍ إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق، ولا ليحدِثوا أيضًا مثل هذا العظيم -الذي هو تحويل القبلة- في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثة، ولا

يدَعون أن يخبروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما صنع منه، ولو كانوا ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة وهو فرضٌ مما يجوز لهم؛ لقال لهم إن شاء الله رسول الله: قد كنتم على قبلة ولم يكن لكم تركها، إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني، أو خبر عامة، -خبر العامة في استعمال الإمام الشافعي يقصد به خبر المتواتر. الإمام الشافعي يريد أن يقول: لو كان هناك خطأ في هذا لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرهم أنه: ما كان لكم أن تنتقلوا القبلة التي كنتم عليها إلا بعد علم تقوم عليكم به الحجة، إما من سماعكم مني مباشرة أو بخبر عامة -يعني بخبر متواتر- فلما لم يحدث ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- دل ذلك على قبول خبر الآحاد. الصحابة تحولوا وهم في الصلاة إلى القبلة إلى بيت الشام بدون أن يترددوا في ذلك لحظة واحدة. حديث تحويل القبلة بروايات متعددة عن البراء بن عازب وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وغيرهما، رواه البخاري في كتاب الصلاة: باب التوجه نحو القبلة حيث كان، وأخرجه أيضًا في مواطن أخرى من صحيحه تزيد على عشرة مواطن، ورواه الإمام مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. والصحابة هنا في الحقيقية أعطونا درسًا في منتهى العظمة لسرعة التلبية لأوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أوامر القرآن الكريم، والذين درسوا تحويل القبلة يجدون أن هذا الأمر قد تكرر، وكل ذلك في الصحيحين؛ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتحويل القبلة فاستدار وهو في الصلاة، هذا الذي ينزل عليه الوحي، وكان في صلاة الظهر أو في صلاة

العصر في ديار بني سلمة ... إلى آخر الروايات الواردة في هذا ... المهم كان قد صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابي مر على قوم في مسجد يصلون العصر فشهد أنه صلى الآن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتحول عن القبلة -أي قبلة بيت المقدس- إلى الكعبة، حدث هذا في صلاة العصر لما أخبرهم المخبر سواء كان تحويل القبلة في الظهر أو في العصر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أدرك القوم في صلاة العصر وأخبرهم؛ فتحولوا بدون تردد. ووصل الخبر إلى قباء مع صلاة الفجر؛ فنفس ما حدث من الصحابة في صلاة العصر بالأمس حدث اليوم في صلاة الفجر حين أخبرهم مخبر 180 درجة في الصلاة تحولوا من ناحية الشمال بالنسبة للمدينة بيت المقدس إلى ناحية الجنوب -أي مكة المكرمة- امتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى- والمخبر في الحالتين هو رجل واحد، يعني: هو هو خبر آحاد. وللحديث بقية بإذن الله. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 14 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (7)

الدرس: 14 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (7)

بقية الأدلة على حجية خبر الواحد عند الشافعي.

بسم الله الر حمن الرحيم الدرس الرابع عشر (دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة المطهرة (7)) بقية الأدلة على حجية خبر الواحد عند الشافعي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فيستمر الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في استعراض أدلة وجوب خبر الواحد: يروي بإسناده عن الإمام مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابًا من فضيخ وتمر -يعني: شراب يتخذ من البسر أي: التمر المشقوق- فجاءهم آتٍ فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها. فقمت إلى مهراس لها؛ فضربتها بأسفله حتى تكسرت ... المهراس: عبارة عن حجر مستطيل ومنقور من وسطه كأنه آنية يتوضأ منه وتطحن فيه الأشياء -مثل: الهون، في لغة المصريين التي يطحن به الأشياء- فقام أنس بن مالك أمسك بهذا المهراس وكسر به الجرار التي هي مملوءة بالخمر استجابة لأمر أبي طلحة الذي نفذ الأمر حين سمعوا من يقول لهم: إن الخمر قد حرمت. أيضًا، وجه الدلالة على أن الذي أخبرهم بتحريم الخمر واحد وهم يشربون، وبدون تردد قاموا وكسروا الجِرار. يعبر الإمام الشافعي -رضي الله عنه- بأسلوبه العظيم يقول: وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتقدم صحبته في الموضع الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلال يشربونه، فجاءهم آتٍ وأخبرهم بتحريم الخمر؛ فأمر أبو طلحة -وهو مالك الجرار- بكسر الجرار، ولم يقل هو ولا هم ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قربه منا أو يأتينا خبر عامة -يعني الخبر المتواتر-.

وذلك أنهم لا يهرقون حلالًا إهراقه سرف وليسوا من أهله -يعني هم لا يهرقون الخمر إذا كانت ما زالت مستمرة على حلها- والحال في أنهم لا يدعون إخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعلوا، ولا يدع لو كان قبلوا من خبر الواحد ليس لهم أن ينهاهم عن قبوله -يعني: إذا كانوا لا يقبلون خبر الواحد يقولون: ما نهينا عن شربه! إذن لم يفعلوا ذلك؛ لتلكئوا ولاعتذروا ولقالوا: ننتظر حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيخبرنا ولقالوا: ننتظر حتى يكون الخبر خبر عامة على حد تعبير الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أي: خبرًا متواترًا، وليس خبر خاصة أي خبر آحاد؛ وإنما امتثلوا بدون أدنى تردد لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا دليل. الدليل الآخر ينتقل إليه الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في قصة العسيف، والحديث أيضًا في الصحيحين في كتاب الحدود، مطلعه هكذا: "إن ابني كان عسيفًا عند هذا فزنى بامرأته؛ فأخبروني أن على ابني مائة شاة ووليدة؛ فافتديت ابني بمائة شاة ووليدة"؛ حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه الحكم الصادق الموافق لشرع الله؛ فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن على ابنه جلد مائة وتغريب عام؛ لأن الولد كان بكرًا لم يكن متزوجًا، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنيس الأسلمي صحابي جليل: ((واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها)) فاعترفت فرجمها. هنا يعلّق الإمام الشافعي -رضي الله عنه- بعد أن روى الخبر يقول: وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنيسًا أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زنت؛ ((فإن اعترفت فارجمها))؛ فاعترفت فرجمها. ثم ساق سند الحديث إن مالك وسفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما- رويا هذا الحديث، وكما قلنا: هو في الصحيحين؛ إذن امتثلت المرأة لرجل واحد جاءها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا واحدًا.

وهذه الأمور التي ذهب بها رجل واحد أو أخبر بها رجل واحد؛ إنما هي أحكام شرعية ليست في فضائل الأعمال، وليست في الوعظ والإرشاد؛ إنما هي أحكام شرعية مهمة جدًّا ... في قصة قباء مثلًا أو في قصة تحويل القبلة، فيها حكمٌ شرعي خطير وهام بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وحدَث أن الصحابة أُخبروا مرتين في مسجدين مختلفين وبينهما زمنٌ وفسحة، ومع ذلك استجابا بدون أدنى تردد وهم في الصلاة ... لم ينتظروا حتى يفرغوا في الصلاة ويقولوا: ننظر الأمر أو شاكل ذلك، لم يحدث هذا، وأيضًا قصة الخمر، وجاءهم آتٍ وأخبرهم أن الخمر حُرّمت، منهم أبو طلحة جالس وبعض الصحابة معه، وبدون تردد: "اكسر يا أنس الجرار"؛ كسرها، ولم يتعللوا بأن المخبر واحد، أو لم يقولوا: ننتظر حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قريب منهم ... إلخ، هذا حكم شرعي أيضًا فيه تحريم الخمر. والحديث الذي نحن معه في قصة العسيف يتعلق بإقامة الحدود ... أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا واحدًا إلى امرأة ليسألها: هل زنت مع هذا الشاب الذي زعم أنه زنى بها أم لم تزنِ؛ لأن الأمر لم يثبت بالبينة، أي: بالشهود؛ إنما ثبت بالإقرار، ولا نأخذ بقول الشاب في تلك المرأة؛ فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا واحدًا إليها؛ فاعترفت فرجمها. وأيضًا، يستمر الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- مع أدلته: يروي عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت: بينما نحن بمنًى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- على جمل يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن هذه أيام طعام وشراب -أي: أيام منى بعد الفراغ من وقفة عرفة يعني بدءًا من العاشر والحادي عشر من أيام ذي الحجة- فلا يصومن أحدٌ)) فاتبع الناس وهو على جمله يصرخ

فيهم بذلك، يعني: يتتبع الناس في تجمعاتهم تنفيذًا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويخبرهم بعدم الصيام. يقول الإمام الشافعي: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يبعث بنهيه واحدًا صادقًا إلا لزم خبره عن النبي بصدقه عند المنهيين عما أخبرهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه. معنى هذه العبارة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعثُ بنهيه واحدًا صادقًا -وهو علي- ويلزم خبره -صلى الله عليه وسلم- باعتراف أو بإقرار المنهيين بصدقه؛ وكأن هذا إشارة إلى القاعدة المعروفة: أنه متى ثبت صدق الراوي وعدالته؛ فنقبل خبره، وهذا من مثل هذا الكلام، هذا تقعيد، يعني: أخذ العلماء القواعد لشروط الحديث الصحيح: ما اتصل سنده برواية العدل الضابط عن العدل الضابط من أول السند إلى منتهاه. إذن، صدّقوا عليًّا وهو صادق -والحمد لله- أخبرهم بنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الإمام الشافعي -استطرادًا مع الكلام- يقول: ومع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحاج -يقصد الحجيج جميعًا- وقد كان قادرًا على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عددًا وليس واحدًا. يعني: إما أن يرسل إلى الحجيج ليأتوا له ليحدثهم وإما أن يرسل إليهم أكثر من واحد لو كان خبر الواحد ليس حجة كما يزعم من يزعم من الذين يتوقفون في خبر الواحد، فبعث إليهم واحدًا يعرفونه بالصدق، وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فإذا كان هكذا مع ما وصفتُ من مقدرة النبي على بعثه جماعة إليهم- كان ذلك -إن شاء الله- فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم وأمكن فيهم أولى أن يثبت به خبر الصادق. يعني: أنه كان يمكنه أن يرسل إليهم أكثر من جماعة وكان هم يأتونه ومع ذلك لم يفعل ذلك؛ فدل ذلك على قبول خبر الصادق الواحد الذي بعثه إليهم ليخبرهم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يحرم الصيام في هذه الأيام.

ينتقل الإمام الشافعي إلى أدلة أخرى: يروي بإسناده عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خالٍ له يقال له: يزيد بن شيبان، قال: كنا في موقف لنا بعرفة -يباعده عمرو من موقف الإمام جدًّا، يعني: هو بعيد عن موقف الإمام جدًّا- فأتانا ابن مِربع الأنصاري فقال لنا: ((أنا رسولُ رسولِ الله إليكم، يأمركم أن تقفوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم)) عمرو هذا يقول: إنه كان بعيدًا عن الإمام. أي: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأرسل إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسولًا يقول: ((أنا رسولُ رسولِ الله إليكم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يأمركم أن تقفوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم)) هذا الرجل واحد ذهب إليهم بحكم شرعي. ويستمر الإمام الشافعي يقول: وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر واليًا على الحج في سنة تسع، وحضره الحج من أهل بلدان مختلفة وشعوب متفرقة؛ فأقام لهم مناسكهم وأخبرهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما لهم وما عليهم، وبعث علي بن أبي طالب في تلك السنة؛ فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من سورة براءة، ونبذ إلى قوم على سواء وجعل لهم مددًا، ونهاهم عن أمور، يعني: هذه كلها أحكام شرعية معروفة في كتب الفقه والاستطراد مع بيانها يطيل الأمر جدًّا ... أمّر أبا بكر وهو واحد، وأخبرهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بما لهم وبما عليهم وبعث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في تلك السنة قرأ عليهم آيات من براءة وهو واحد، ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليبعث إلا واحدًا إلا والحجة قائمة بخبره على من بعثه إليهم: لا يرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- واحدًا بأمر ما وهو يعلم أن الحجة قائمة على المبعوث إليهم بوصول هذا الرسول إليهم ليخبرهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أمر به وما نهى عنه. الشافعي -رضي الله عنه- يقول: فرّق النبي -صلى الله عليه وسلم- عمّالًا على نواحي، عرفنا أسمائهم

والمواضع التي فرقهم عليها، ثم ذكر؛ فبعث قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وابن نويرة إلى عشائرهم لعلمهم بصدقهم عندهم، بعثهم بأوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقدِم عليهم وفد من البحرين بعث معهم ابن سعيد بن العاص، وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب ... )) إلخ، كل هؤلاء بعث بهم واحدًا، ومعاذ بن جبل -رضي الله عنه- مع أدلة أخرى نذكرها؛ ذهب بعقيدة وبأحكام، البعض يتوقف في حديث الآحاد في العقائد. نعم؛ كل ذلك خبر ثبت بخبر الواحد: معاذ بن جبل لما ذهب إلى اليمن والحديث أيضًا في الصحيحين في أكثر من موطن: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فاطلب إليهم أن يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا إلى ذلك ... -هذه هي العقيدة: الشهادتان اللتان هما عنوان على دخول المرء في الإيمان- فأخبرهم أن الله تعالى قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله -تبارك وتعالى- قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم؛ واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ... )) إلخ ما قال، هنا معاذ -رضي الله تعالى عنه- ذهب بعقيدة وذهب بأحكام شرعية، وكل ذلك خبر الواحد يعلمهم ما فرض الله عليهم، ويأخذ منهم ما أوجبه الله عليهم من زكوات وغيرها، وهم يعرفون معاذًا ويعرفون صدقه وأمانته وأنه صادقٌ في كل ما أخبر به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا من الأدلة التي ذكرها الإمام الشافعي: أرسل أمراء سرايا إلى كثير من البلاد، وقد بعث بعث مؤتة وولّاه زيد بن حارثة وهو واحد؛ وإن أصيب فجعفر وإن أصيب فابن رواحة، وبعث ابن أنيس بسرية وحده، وكل أمير سرية يعتبر حاكمًا فيما بعثه فيه: يصلي بهم، ويعلمهم أمور دينهم، ويقودهم في الحرب، وعليهم أن يسمعوا له وأن يطيعوا، وهذا حقه عليهم؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:

((من أطاع أميري فقد أطاعني؛ ومن عصى أميري فقد عصاني)) وقد كان يمكنه أن يبعث أكثر من رسول إلى جهة ما؛ لكنه كان يبعث واحدًا، وبعث إلى ملوك الأرض ورؤسائها يدعوهم إلى الإسلام: بعث إلى هرقل عظيم الروم، وبعث إلى كسرى عظيم الفرس، وبعث إلى المقوقس عظيم مصر، وبعث إلى النجاشي ... وبعث إلى غيرهم. يقول الإمام الشافعي: بعث في دهر واحد -أي في وقت واحد- اثني عشر رسولًا إلى اثني عشر ملكًا يدعوهم للإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة فيها ... إلى آخر ما قال -رحمه الله تعالى-. إذن، هم أيضًا ذهبوا بعقيدة، وكانت رسالتهم إلى الملك من الملوك يقول له: ((اسلم تسلم يأتيك الله أجرك مرتين -إذن هي دعوة العقيدة- فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين)) كتب بذلك إلى هرقل، وكتب به إلى كسرى، وإلى غيرهم من الملوك الذين بعث إليهم، وها هو الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: إنهم كانوا اثني عشر ملكًا. يقول الإمام الشافعي: ولم تزل كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولًا إلا صادقًا عند من بعثهم إليهم ... لا يسع أحدٌ أن يترك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمبعوث إليهم أيضًا ما داموا قد صدقوا الرسول الذي جاءهم فهو حجة عليهم ... إلخ. وسار المسلمون هكذا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستخلفوا أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- ثم استخلف أبو بكر عمر، ثم استخلف عمر أهل الشورى ليختاروا واحدًا ... إلى آخر الأدلة الواردة في هذا. إذن، الولاة ينفذهم أيضًا من القضاة وغيرهم: يقضون فتنفذ أحكامهم ويقيمون

الأدلة على حجية خبر الواحد من (صحيح البخاري) ومناقشتها.

الحدود، ويأمرون الناس بأوامر الشرع وينهونهم عما نهى عنه الشرع، والناس يسمعون لهم ويطيعون. هذه أدلة من رسل بعثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعون إلى الإسلام، وقواد قادوا المسلمين في غزوات ... إلى آخر التفصيلات. الإمام الشافعي عنده أكثر من ثلاثين دليل تضمنت العمل بحديث الآحاد في العقائد في الأحكام في كل أمور الإسلام لا تفريق بين أمر وآخر. الأدلة على حجية خبر الواحد من (صحيح البخاري) ومناقشتها ننتقل إلى (صحيح البخاري) -رحمه الله تعالى- والباب رقم 95 عنده، وهو في الجزء الثالث من (فتح الباري) والكتاب سماه كتاب أخبار الآحاد، أول باب فيه يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام، وقول الله تعالى ... وأنا أعتقد أن الصدوق في هذا الاستعمال تعني الثقة الذي يجمع بين العدالة والضبط. باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الآذان في الصلاة في الصوم في الفرائض في الأحكام، وقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) يعني: الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وكما نعلم جميعًا أن فقهه في تراجمه أي: في عناوين الأبواب: الكتاب عنده اسمه كتاب آخبار الآحاد، وهي القضية

التي نعالجها منذ عدة دروس وبيان حجية خبر الآحاد وأنه يعمل به في سائر أمور الشرع من عقائد وغيرها. جعل عنوان الباب فيه عدة أمور: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق يقول: في الآذان، في الصلاة، في الصوم، في الفرائض، في الأحكام ... يعني في كل أمور الشرع، ثم يذكر أدلة من القرآن الكريم على ذلك يقول: وقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122). الآية تطلب أن ينفر من المؤمنين من كل فرقة طائفة مهمتها أن تتفقه في الدين وأن تعلّم الأمة أمور دينها ... ما وجه الاستدلال بهذا؟ يقول الإمام الشافعي: ويسمى الرجل طائفة: يعني: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الطائفة: تطلق على الواحد وعلى الاثنين وعلى الجماعة ... ما دلالة إطلاقها على الواحد؟ كلام الإمام البخاري في عنوان الباب: قال: ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية، يعني: هو يستدل هنا على أن الطائفة ربما تكون واحدًا، ليس المفهوم المتبادر من ظاهر الكلمة أنها تعني الجماعة، وحين يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} هذه الطائفة تكون واحدًا أحيانًا أو اثنين، وهي أيضًا خبر الآحاد سيتفقهون في الدين وينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، وعلى قومهم أن يسمعوا لهم وأن يطيعوا؛ رغم أنهم قد يكونون واحدًا أو ربما اثنين، والاثنين والثلاثة في إطار خبر الآحاد ولم يصبحوا بعد خبرًا متواترًا. ويستدل أيضًا الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله -تبارك وتعالى-:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6)؛ فهنا الحكم مأخوذ من مفهوم الآية، يعني: العلة في عدم قبول خبره أنه فاسق وليس واحدًا، هذا المنطوق ... فما المفهوم؟ إن كان عدلًا؛ حتى وإن كان واحدًا فاقبلوا خبره؛ لأن العلة في رفض قبول خبر الأول ليس لأنه واحد؛ وإنما لأنه فاسق أي بسبب فسقه. وأيضًا يقول الإمام البخاري: وكيف بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أمراءه واحدًا بعد واحد؛ فإن سها أحد منهم رُد إلى السنة ... أيضًا إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- الواحد بعد الواحد دليل على حجية خبر الآحاد. ثم ذكر في الباب مجموعة من الأحاديث كلها تدور في هذا الفلك "إثبات حجية خبر الواحد" ذكر حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: ((أتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن شببة متقاربون ... -يعني شبان متقاربون في السن- فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقيقًا؛ فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا؛ سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلّموهم ومروهم)) وذكر أشياء أحفظها ولا أحفظها ... -يعني يحفظ بعضها ولا يحفظ بعضها- وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم)). إذن بعث كل واحدًا إلى الجهة التي جاء منها وعلمه ماذا عليه أن يفعل من إقامة الصلاة والآذان وأن يؤمهم أكبرهم إلى آخر ما قال -صلى الله عليه وسلم- والذاهب بذلك هو واحد فقط أيضًا، ذكر حديث بلال في الآذان "حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن بلالًا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم)) وجه الدلالة: أنا سنأكل ونشرب حتى نسمع كلام ابن أم مكتوم -رضي الله تعالى عنه- وهو واحد فقط، يخبرنا أن الفجر قد ظهر فعلينا أن نمسك عن الطعام والشراب. هذا حكم شرعي.

أيضًا من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: ((صلى بنا النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر خمسًا فقيل: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قال: صليت خمسًا، فسجد سجدتين بعد ما سلم)). وجه الدلالة: أن الذي أخبره واحد واستجاب لخبره، يعني: ماذا حدث في الصلاة؟ قالوا صليت خمسًا فسجد سجدتين للسهو، وهناك أحكام تفصيلية كثيرة متعلقة بحكم السهو ... وما إلى ذلك ووقت الزيادة ووقت النقصان ... إلخ. أيضًا، ذكر فيه قصة ذي اليدين: وهو رجل من المسلمين صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وانصرف بعد ركعتين؛ فذو اليدين قال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ ولننظر إلى أدب الصحابة: الاحتمال الأول: أن تكون الصلاة قد قصرت ويستبعد نسيان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أصدق ذو اليدين؟)) فقال الناس: نعم، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى ركعتين أخريين، ثم سلم ثم كبر ثم سجد مثل سجوده أو أطول ... إلخ الحديث. وأيضًا، ذكر الإمام البخاري قصة القبلة وتحويلها التي أشرنا إليها في أكثر من رواية، وذكر قصة الخمر التي وردت في قصة أبي طلحة -رضي الله عنه- حين أمر أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن يكسر الجرار بناء على خبر الواحد، وأيضًا حديث حذيفة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأهل نجران: ((لأبعثن إليكم رجلًا أمينًا حق أمين؛ فاستشرف لها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فبعث أبا عبيدة -رضي الله تعالى عنه)). وذكر أيضًا حديث: ((لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة)) -رضي الله تعالى عنه-. ذكر أيضًا قصة العسيف التي فيها: يعني: فيها أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابيًّا جليلًا

وهو أنيس الأسلمي إلى امرأة الرجل، وقال: ((اغدُ يا أنيس لامرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها)). هذه كلها أدلة ذكرها الإمام البخاري -رحمه الله تبارك وتعالى- في صحيحه تتعلق بهذا الأمر، وهو حجية خبر الواحد. وهكذا نرى من مجموع الأدلة التي سقناها من خلال الرسالة للإمام الشافعي، ومن خلال إجازة خبر الواحد الصدوق عند الإمام البخاري -رحمه الله- كل هذه أدلة على وجوب العمل بخبر الواحد في العقائد وفي الأحكام وفي سائر أمور الإسلام. قبل أن ننتهي من هذا الموضوع تمامًا نشير إلى بعض شبههم التي يثيرونها من قديم -من المعتزلة مرورًا بكل المدارس التي تقف موقف المناوأة من السنة ومن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم كُثر في هذه الأيام؛ لكن الله -تبارك وتعالى- لن يمكنهم من نيل غرضهم أبدًا ما دام في الأمة علماء متيقظون وأمة منتبهة ترد الكيد إلى أصحابه: يستدلون بأدلة يتصورون أنها تثير زوابع في وجه الاستدلال بحجية خبر الواحد: من ذلك مثلًا: قول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36)، يقولون: إن اتباعنا لخبر الواحد هو اقتفاءٌ لما ليس لنا به علم. وهذا كلام ضعيف جدًّا؛ بل بدون أدنى مبالغة: هذه الآية حجةٌ لمن يقولون بحجية خبر الواحد، هي عليهم وليست لهم: نحن لم نقف ما ليس لنا به علم كلا وحاشا؛ بل قامت الأدلة الصحيحة من القرآن والسنة على حجية خبر

الواحد ووجوب العمل به ... التي ذكرناها من القرآن: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ثم كل هذه الأدلة التي ذكرها الإمام الشافعي وذكرها البخاري، وذكرها غيرهم من العلماء من أهل السنة والجماعة جيلًا بعد جيل، مستدلين بالقرآن والسنة على ثبوت وحجية خبر الواحد. إذن، حين نتبع خبر الواحد؛ فنحن اقتفينا ما لنا به علم، ما لنا به حجة، ما قامت عليه الأدلة من القرآن والسنة؛ بل الذين يقفون في المعسكر الآخر ويجادلون في حجية خبر الواحد هم الذين فعلًا يقفون بما ليس لهم به علم، وليس لهم سند؛ بل هم -لا أريد أن أقول يعاندون- أرجو أن يكون ذلك نابعًا من عدم فهم؛ وحين تتضح لهم الصورة يستجيبون اسأل الله عز وجل ذلك، وألا يكون ذلك موقفًا مبدئيًّا عندهم فيه تعنت ورفض للسنة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لأن هذا خطير على إيمانهم. إذن، هذه الآية حجة لمن يقول بخبر الواحد، والأدلة العلمية القاطعة من القرآن والسنة قاطعة في هذا كما أشرنا إليها: يقول الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى-: ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه؛ فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيّره من المعلوم صدقه، وكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، ومن هذا القسم أحاديث صحيحة للبخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- فسقط اعتراضهم بهذه الآية أو بغيرها؛ لأنه ما دام الخبر صحيح؛ فهو يفيد العلم ويجب العمل به. أيضًا، يحاولون أن يشوشوا بمقولة: أن خبر الآحاد يفيد الظن، وقد وردت أدلة كثيرة تنهانا عن اتباع الظن، وقد أشرنا إلى هذه المسألة.

هناك رأيان في المسألة، يقول رأي منهم: إن خبر الآحاد يوجب العلم القطعي؛ بمعنى: أننا نقطع بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاله أو أن نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظنية؛ حتى لو قلنا بالظن فقد أثبتنا هناك أن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها، وذكرنا الأدلة على هذا، وأننا يجب أن نصوم إذا أخبرنا مخبر وتيقنا صدقه وأمانته أنه قد رأى هلال رمضان مثلًا؛ ومن يصبح مفطرًا فهو آثم لأنه أفطر يومًا يجب صيامه، ويُعاقب بعقوبات المقررة شرعًا، وأيضًا إذا قال مخبر: إنه رأى هلال شوال، وقلنا: إن الدعاوى كلها تثبت بشاهدين وأقصى دعوى -وهي دعوى الزنا- تثبت بأربعة شهود، وأربعة شهود ما زالوا في إطار خبر الواحد؛ لأنهم لم يصلوا إلى أقل عدد للتواتر على ما اصطلح عليه علماء الأمة. ويستدلون بالآيات التي تنهى عن اتباع الظن: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)) قلنا: إن الظن المذموم هنا هو الوهم الذي يوضع في مقابلة العلم، واستدللنا على أن القرآن اعتبر الظن كدرجة من درجات العلم وأقام به الحجة، واستدللنا بمطلع سورة المطففين: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} (المطففين:1 - 4) الظن: هو العمل بالقول الراجح أو هو ترجيح أحد الاحتمالين ... إلى آخر التعريفات التي وردت عند الأصوليين. إن المدرسة الحديثية في مجملها أو في مجموعها ترى أن خبر الآحاد الذي ثبتت صحته نقطع بصحة نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا عن نفسي هذا ما أدين الله تعالى به وأنا مطمئن القلب جدًّا، ومن خلال الأدلة العلمية القاطعة في هذا الأمر أنه متى ثبت صدق الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنني أقطع بصحة نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، بل إني أقول: إن مبحث التواتر والآحاد في الأصل ليس مبحثًا حديثيًّا: هو جاء إلى المحدثين من

عند علماء الأصول، الذين يعتنون بمدى قوة الأدلة ... عندهم التقسيمات المعروفة: هذا دليل قطعي الثبوت، وهذا دليل ظني الثبوت، وهذا دليل قطعي الدلالة، وهذا دليل ظني الدلالة ... تقسيمات اقتضاها تخصصهم، لا نعتب عليهم فيها؛ هم أهل علم وفضل؛ لكن المحدثين معنيون بمسألة أخرى: وهي أنه الحديث: ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ومتى ثبت صدق المخبرين ووضعوا لذلك شروط الصحة التي نعلمها جميعًا؛ فهم يقطعون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالها، ومع افتراض أنه يفيد الظن ونسلم تسليمًا جدليًّا بهذا -حتى لا نطيل في النقاش- فإنه يجب على الأمة -وجوبًا- العمل بما غلب على ظنها -وهذا أمر مجمع عليه عند العلماء. إذن، استدلالهم بـ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ليست في بابها أبدًا؛ لأن الظن المذموم هو الذي يوضع في مقابلة العلم اليقيني، لا قسيمًا له، يعني: إما تتبع علم يقيني إما أنت تظن أي تَهِم، وليست لديك أدلة، أي: العلم أو الظن الذي يفتقد الأدلة؛ أما الظن بمعناه الاصطلاحي عند أهله المتخصصون: فهو العمل بالقول الراجح أو ترجيح أحد الاحتمالين، وهذا أيضًا يجب العمل به والقرآن قطعي الثبوت؛ لكن كثير من أدلته ظني الدلالة، يعني: ليس قطعي الدلالة، {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) مثلًا؛ لماذا اختلف العلماء في المراد بالملامسة؟ لأن الدلالة هنا ظنية وليست قطعية، ولو كانت قطعية لما اختلف المسلمون حول مفهوم الملامسة المقصود في الآية. إذن، استدلالهم بهذا يعني لا ينتهض أبدًا حجة لهم في هذا الأمر. أيضًا، من الأدلة قصة أبي بكر في ميراث الجدة -وكنا قد أشرنا إليها- حين طلب شاهدًا مع المغيرة بن شعبة، وقصة عمر -رضي الله عنه- حين طلب شاهدًا مع أبي موسى

الأشعري في قصة الاستئذان حين استأذن عليه كل؛ هذه أمور حتى مع القول بأنه لا بد من اثنين لو افترضنا وسلمنا -ونحن لا نسلم بهذا؛ لأن عندنا عشرات المواقف الصحابة فيها قبلوا بخبر الواحد؛ جاءهم مخبر واحد؛ فعملوا به في الأحاديث وفي الأحكام وفي غيرها؛ فأيضًا إذا قلنا بأنهما اثنان؛ فالاثنان أيضًا خبرهما خبر واحد. سيدنا عمر مثلًا قبل خبر عبد الرحمن بن عوف وحده، في أخذ الجزية من المجوس؛ لمّا قالوا: ماذا نصنع معهم؟ عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: أشهد لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((سُنوا بهم سنة أهل الكتاب)) وهذا الحديث قد رواه البخاري -رحمه الله- في كتاب الجزية باب الجزية والموادعة. مثلًا: كان هو وجار له -عمر رضي الله عنه- يتناوبان جلوس مجلس علم النبي -صلى الله عليه وسلم- لئلا يفوتهم منه شيء وجاءه الأنصاري بخبر الواحد في ذلك اليوم وهو خبر واحد ... عشرات الأدلة مع أبي بكر ... مع عمر ... كلهم قبلوا خبر الواحد ولم يتوقفوا أبدًا في قبوله؛ لا في العقائد ولا في الأحكام ولا في غيرها. وبالله التوفيق. وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 15 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (8)

الدرس: 15 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (8)

شبهة: وضع الأحاديث في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة المطهرة (8)) شبهة: وضع الأحاديث في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه، وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: نستعرض بعض الشُّبَه التي أثارها أعداءُ الإسلام من المستشرقين، واقتنع بها بعض المسلمين، ورددوها من وراء المستشرقين. من هذه الشبه: إن الأحاديث وُضعت في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين، وشبهة أخرى تقول: إن الأمراء الأمويين والعباسيين بدءًا من معاوية -رضي الله عنه- استغلُّوا علماء المسلمين لوضع ما يثبّت ملكهم، وشبهة ثالثة أن حملة الإسلام من الصحابة ومن التابعين ومن بعدهم كانوا جنودًا للأمراء في ذلك، وشبهة أنهم استجازوا الكذب -أي: علماء المسلمين- تأكيدًا لهذه الأمور أو إثباتًا لها، ويسوقون في ذلك أيضًا كشبهة خامسة بعض الأحاديث التي يرون أنها وُضعت تأكيدًا لملك الأمويين والعباسيين، وإثباتًا للحجة، أو استنادًا إلى حجة شرعية من خلال وضع أحاديث تؤيِّد هذا المنحى، الذي يزعم الزاعمون أنه قد ثبت أن علماء المسلمين قد وضعوا هذه الأحاديثَ؛ تأييدًا لموقف الخلفاء، وتثبيتًا لملكهم كما ذكرنا. نردُّ على شبهة شبهة: أولًا: الذي تولَّى كِبَرَ هذا الأمر هو "جولدت سيهر" في كتبه المعروفة التي كانت مصدرًا لكثير ممَّن كتبوا في هذه المسألة، ونقلوا عنه كثيرًا من أفكاره واعتبروها أفكارًا علمية تقوم على البحث، وعلى تأكيد الأمور بالأدلة الشرعية من خلال

كتب المسلمين في هذا الأمر، يقول: "جولدت سيهر" في الشبهة الأولى: "إن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة للتطور الديني، والسياسي، والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول والثاني"، ولا ندري ما مصدره في هذه الفرية، لكن مفهوم الشبهة أنه كلما حدث تطور ديني، أو سياسي، أو اجتماعي في الإسلام وضع الوضاعون له بأمر من الخلفاء، أو بإيحاء منهم، الأحاديث التي تؤيِّد أو تؤكد ما يُريده الحكام أن يقولوه في هذا الصدد. هذه الفرية يكذّبها واقع المسلمين كيف؟ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ بتأسيس الدولة الإسلامية، ووضع لها القواعد والأسس التي بنى عليها المسلمون بعد ذلك؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يترك الدولة إلى وقد تحدَّدت معالمها، وتبينت أسسها، والله -عز وجل- قد أكمل رسالة الإسلام في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله -تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) إذن الإسلام كمل، وتمَّ، أي: هذا الدين الكامل التام الذي تضمنه القرآن الكريم، وتضمنته السنة المطهرة قد كمل وتم، ولا مجال فيه لزيادة ولا نقصان، فهناك قد يكون شرح لبعض النصوص واستنباط الأحكام منها، هذا اجتهاد في ضوء النصوص التي كملت وتمَّت، والتي نزلت وانتهى أمرها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك استقرَّ الأمر على أن المصدرين الأساسيين للإسلام هما القرآن والسنة، وقد تعهَّد الله بحفظهما، ووردت الأدلة القاطعة في وجوب تحكيم القرآن الكريم، وتحكيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر من أمور الإسلام. إذن الإسلام قد استكمل بنيانه ووضحت معالمه وأسسه في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن هناك إذن مجال لأن توضع لَبِنَات جديدة في بناء الإسلام؛ نتيجة للتطور

الاقتصادي والديني والسياسي إلى آخره، إنما كانوا يأتون بالنصوص التي قُرِّرت من قبل ذلك ليطبقوها على المستحدثات في حياة الأمة، من الوقائع التي تستجد في حياة الناس، ومهمة أهل العلم في هذا أن يدخلوا هذه الأمور المستحدثة تحت قواعدها الشرعية الكلية المنظمة لها، والتي ثبتت قبل ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. إذن ليس هناك مجال لإضافة نصوص جديدة، لا من القرآن، ولا من السنة، حاشا وكلا، والكل يعلم ذلك، تمامًا كما في عصرنا هذا حين يبحث العلماء مثلًا عن بعض القضايا المستحدثة في حياة الناس، مثل التبرع بالأعضاء، وأعمال البنوك، وما إلى ذلك؛ فإنهم لا يأتون بنصوص شرعية استحداثًا من عند أنفسهم، إنما كل اجتهادهم هو في إدخال هذه الأمور المستحدثة تحت قواعدها المنظمة لها من خلال الأدلة الواردة شرعًا في القرآن والسنة، هل ينطبق مثلًا على أعمال البنوك مفهوم الربا، أو لا ينطبق؟ هل يجوز التبرع بالأعضاء أو لا يجوز؟ إلى آخر القضايا المستحدثة في حياة الناس، هل نستطيع أن نقول في زماننا هذا مثلًا: إن هناك -ونحن لا نساوي الجيل الأول في الورع والتقوى- منا من يجرؤ على وضع حديث يؤيِّد به أمرًا استحدث في أمور الناس؟ الصحابة قد أدُّووا ما عليهم من حفظ الدين وصيانة الشريعة، وكما قلت: كل الاجتهادات التي حدثت هي في فَهم النصوص واستنباط الأحكام منها، وفي إدخال الجزئيات والأمور التي حدثت جديدًا في حياة الناس تحت قواعدها الكلية المنظمة لها، وهذا عمل المجتهدين في كل زمان ومكان. إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تركنا على المحجة البيضاء، تركنا على الطريق الواضحة الجلية ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك، ولذلك أمرنا في خطبة الوداع بأن نستمسك بكتاب الله -تبارك وتعالى- وأمرنا في أحاديث أخرى عند الحاكم

وغيره بأن نستمسك بالقرآن والسنة: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله وسنتي))، هو يأمرنا بالرجوع إلى هذين الأمرين المصدرين الرئيسين للإسلام، وهما القرآن والسنة، بعد أن انتهى أمرهم تم نزولهما تم توثيقهما، تمت معرفة الأمة بهما، طُلب من الأمة بالنسبة للسنة أن تتواصل في تبليغها: ((ليبلغ الشاهد الغائب))، ((بلغوا عني ولو آية)) تلقفت الأمة الكريمة هذه الأوامر النبوية العظيمة، وسارعت إلى حفظ الروايات، وإلى نقلها إلى الأجيال التالية بعد ذلك؛ إلى أن أُودعت بطون الكتب المعروفة لدينا، والتي تعتبر هي مصادرنا الأساسية في استدلالنا على أمور الشرع أي: القرآن الكريم والسنة المطهرة. إذن هذه الفرية مفتراة، وكل حديث له إسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إسناده المتصل الذي هو الشرط الأول من شروط صحة الحديث، ومعنى اتصال السند أن كل راوٍ يتلقى الحديث من شيخه الذي فوقه مباشرة بدون انقطاع، بدون خلل، بدون فجوة في الإسناد، أيًّا كان السند بين الراوي للحديث، مثلًا مثل البخاري وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- سبعة ثمانية أكثر أقل نشترط ونتأكد من ذلك من خلال المعلومات المتوافرة عن كل الرواة أنه لا بد من أن يثبت لدينا أن كل راوٍ قد تلقَّى الحديثَ بواحدٍ من طرق التلقي المعتمدة عند العلماء معروفة بطرق التحمل والأداء، بدون أي خلل، وقد وضعوا تسمية لكل خلل في الإسناد ما بين منقطع، ومعضل، وما بين مرسل ... إلى آخره، في تفصيلات كثيرة في علم مصطلح الحديث. والذي نركز عليه في هذا الأمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد كمل بناء الإسلام، وتمت مصادره من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة في وضوح وجلاء.

يقول فضيلة المرحوم الشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى- في هذا الصدد: "فما توفي رسول الله إلا وقد كان الإسلام ناضجًا تامًّا، لا طفلًا يافعًا، كما يدَّعي هذا المستشرق، نعم لقد كان من آثار الفتوحات الإسلامية أن واجه المشترعين المسلمين جزئيات وحوادث، لم ينصَّ على بعضها في القرآن والسنة؛ فأعملوا آراءَهم فيها قياسًا واستنباطًا حتى وضعوا لها الأحكامَ، وهم في ذلك لم يخرجوا عن دائرة الإسلام وتعاليمه، وحسبك أن تعلم مدى نضوج الإسلام في عصره الأول أن عمر سيطر على مملكتي كسرى وقيصر، وهما ما هما في الحضارة والمدنية، فاستطاع أن يسوس أمورهم، ويحكم شعوبهما بأكمل وأعدل مما كان كسرى وقيصر يسوسان بها مملكتيهما، أترى لو كان الإسلام طفلًا كيف كان يستطيع عمر أن يننهض بهذا العبء، ويسوس ذلك الملك الواسع، ويجعل لهم من النظم ما جعله ينعم بالأمن والسعادة ما لم ينعم بهما في عهد ملكيهما السابقين؟ على أن الباحث المنصف يجد أن المسلمين في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يتعبَّدون عبادة واحدةً، ويتعاملون بأحكام واحدة، ويُقيمون أسس أسرهم وبيوتهم على أساس واحد، وهكذا كانوا متحدين في العبادات، والمعاملات، والعقيدة، والعادات غالبًا، ولا يمكن أن يكون ذلك لو لم يكن لهم قبل مغادرتهم جزيرة العرب نظام تامّ ناضج، وضع لهم أسس حياتهم في مختلف نواحيها، ولو كان الحديث، أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني في القرنين الأولين؛ للزم حتمًا ألا تتحدَّا عبادة المسلم في شمال أفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، إذ أن البيئة في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب وبينهما من البعد ما بينهما؟ ".

كلام طيب جدًّا، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الإسلام قويًّا كبيرًا عظيمًا، لم يتركه طفلًا كما يقول هذا المستشرق. نعم، كما ذكرنا المجتهدون من علماء الأمة واجهوا جزئيات وحوادث نتيجة اتساع الدولة، ودخول بعض الأمم في الإسلام، ونتيجة ما استجد من أمور في حياة الناس هذا أمر وارد، لكنّ دراستها لم يخرج عن دائرة القرآن والسنة، نحن نقول: إن مهمة المجتهدين أن يدخلوا هذه الجزئيات والمستحدثات تحت قواعدها الكلية، لا يأتون بنصوص جديدة، وإذا كان أتوا بنصوص جديدة فما السبب في توقف الإتيان بالنصوص المفتراة، كما يزعم ذلك المستشرق؟ ولا يزال التطور يحدث في حياة الناس، بل إن التطور في عصرنا هذا يُعدُّ تطورًا هائلًا في كل جوانب الحياة، ولماذا لا يوجد الوضع الذي يحاول أن يستدلَّ على هذه الأمور بأدلة شرعية كما يزعم ذلك المستشرق؟ إنما كل جهد المجتهدين -كما قلنا- إدخال تلك الجزئيات تحت قواعدها الشرعية المنظمة لها، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، وذلك كان من أسباب اختلاف العلماء في بعض المسائل الفقهية؛ وفقًا لاجتهاداتهم في إدخال هذه الجزئيات تحت قواعدها الكلية. ويشير الدكتور مصطفى إسماعيل إلى مسألة هامة، كيف تتطور حياة الناس والدولة الإسلامة أصبحت متسعة من حدود الصين شرقًا إلى حدود المغرب غربًا، ومن أواسط روسيا شمالًا إلى نيجيريا جنوبًا؟ يعني: تقريبًا المسلمون يحكمون نصف الكرة الأرضية المعروفة في ذاك الزمان السالف، كان المعروف ثلاث قارات: أوربا وأفريقيا وأسيا، والدولة الإسلامية تقريبًا تحكم نصف هذه الكرة، هل من أفغانستان شرقًا إلى المغرب غربًا العادات واحدة، العبادة واحدة، الأخلاق واحدة، المعاملات واحدة، الأسر تقوم على أسس واحدة، وكل ذلك لا يُنكره منكر؟ صيامهم واحد في رمضان، حجهم واحد في ذي الحجة ... إلى آخر

كل ذلك، هذا التطور الذي يتكلم عنه ذلك المستشرق ولا يحدث اختلاف ما بين مشرق ومغرب، مع اختلاف البيئة، مع اختلاف الثقافات، مع اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، مع اختلاف الألسنة، مع اختلاف الشعوب كل ذلك ينصهرون في بوتقة واحدة، لا يحدث بينها خلاف أبدًا في أمر أصيل من أمور الإسلام؛ إنما الاختلافات التي حدثت هي في تعدد الأفهام في النصوص، هو اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، وتظل الأمة بمعالمها الأساسية ثابتة لا تتغيّر، ولا تتبدَّل، ويقال بعد ذلك: إن الأحاديث وضعت نتيجة تطور المسلمين الديني والسياسي، كلما استجدت فيهم أمور سياسية وضعوا لها أحاديث، وكلما استجدت أمور اجتماعية وضعوا لها حديثًا، ما هذا الهراء؟ وأين الدليل عليه من واقع الأمة؟ وأين التباين بين أفراد الأمة، ولا أدري كيف يُخدع بعض الناس بهذا الكلام الذي لا أساس له من الصحة، ولا من الواقع، ويرددونه في كتبهم بكل أسف؟ إذن القول بأن التطور الاجتماعي والسياسي للأمة هو الذي فرض بعضًا أو كثيرًا من الأحاديث التي وضعت، هذا قول مردود جدًّا على صاحبه قد يحاول البعض أن يستشكل على ذلك بأن السنة تأخر تدوينها، ولذلك الشبهات متكاملة، أو هم يحاولون أن يصنعوا بينها خطًّا متكاملًا يخدم فكرة واحدةً، وهي الطعن في السنة، وإسقاط حجيتها، وعدم العمل بها، وصولًا إلى تعطيل القرآن عن الفهم والتطبيق؛ ليضيع الإسلام كما يتصورون هم، ولن يحدث ذلك أبدًا بإذن الله -تبارك وتعالى- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الأحاديث كانت متداولة بين الأمة، وقضية التدوين لها ظروفها، وهناك اجتهادات ورسائل علمية أثبتت أن التدوين بدأ من عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبإذن

منه، وكان آخر الأمرين من النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الإذن بالكتابة؛ فكتب كثير من الصحابة هذه الأحاديث كانت تتناقلها الأمة بين علمائها الكبار عن طريق الرواية بالمشافهة، وأيضًا عن طريق الصحف المكتوبة، ونحن لم ينتصف القرن الثاني الهجري إلا وقد وجدت لدينا مصنفات، وأبرز مثال على ذلك (موطأ الإمام مالك) المتوفى سنة 179 - رحمه الله تعالى- (سيرة ابن إسحاق) وهو متوفى سنة 151 أو 152 على خلاف في سنة وفاته، كانت قد كتب المصدر الذي اعتمد عليه الناس بعد ذلك في السنة، يعني: تميزت العلوم وصنِّف فيها، بل وصلنا إلى عصر النضوج العلمي بالمصنفات الكاملة. إذن تطور المجتمع لا علاقة له بإضافة أحاديث كذب، بل إن هذا التطور ظل محكومًا في عصور الإسلام الأولى، وفي نقائه وصفائه بالأدلة الشرعية المأخوذة من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- والأدلة على ذلك كثيرة ويكفي أن نشير إلى ما ذكره فضيلة الشيخ مصطفى السباعي عليه رحمة الله ورضوانه من أن هذه الأمة كانت أحكامها واحدة، وعبادتها واحدة، وأسرهم واحدة لم يفرق بين الأمة في شيء، ولم توضع قوانين مثلًا في المغرب تناسب البيئة المغربية، وقوانين في مصر مثلًا تناسب البيئة المصرية، وقوانين في أفغانستان تناسب البيئة الأفغانية، كل يحكم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. وقيام المذاهب الذي يحاول أن يستدل به البعض في هذه الفترة، إنما هي تأخذ من القرآن والسنة. هذه العبارة تقريبًا وردت عن أئمتنا الكبار الذين يعول عليهم في أمور الدين: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، و"كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-" المشروعية هي للقرآن الكريم ولسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. رغم التطور الهائل في حياة الأمة لا تجد أمرًا استُجدَّ ويستدلون عليه بالقرآن

والسنة إلا وقد سبق بأقوال من الصحابة والتابعين، وهم لا يقول أحد منهم قولًا إلا بالأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، فليس هناك مجال للوضع أبدًا، ولا يوجد أيُّ دافع لهذا، بل إن تقوى العلماء وورعهم أشهر من أن نتوقف معه أو أن نقيم عليه أدلة، لكن سنشير إليه أيضًا لنثبت كذب الفرية في أن هناك من العلماء من استجاب لدعوة الأمويين والعباسيين في وضع الأحاديث؛ تأكيدًا لأمرها، أو لحكمها. يقول المستشرق "جولدت سيهر": بأنه قد حدث خلاف بين الأمويين والعلماء الأتقياء -علماء الحديث- جماعة الأمويين جماعة دنيويين، لا هَمَّ لهم إلا الفتوحات والاستعمار. هم يصورون الفتوحات الإسلامية على أنها استعمار، هذا كلام المستشرقين. وأنهم كانوا لا يستقيمون على تعاليم الإسلام؛ إنما يسيرون في حياتهم العادية على ما يَهْوُون أو ما يحبون، على آداب وقيم ومبادئ لا تتصل بالإسلام. هذا افتراء على التاريخ والواقع، وأنا عمومًا نتيجة خبرات السنين والقراءات وما إلى ذلك، أعلم ليست السنة الآن هي التي تتعرَّض للهجوم فقط، بل أمور الإسلام ومصادره، التاريخ الإسلامي يشوَّه، يعني: تصوير الأمويين والعباسيين على أن الحكام كانوا أصحابَ شهوات، وغناء، وطرب، ورقص، وسهر، هذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، كيف يفتح الله لهم بلادًا وهم على هذا القدر من الجَفاء مع الإسلام، والبعد عن تعاليم الله -تبارك وتعالى، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم؟ هذا افتراء يحاولون أن يتصيَّدوا بعض الوقائع التاريخية التي من وجهة نظرهم تُسجِّل خروجًا على الإسلام، ويصورون تاريخ الإسلام كله من خلال هذه النقطة.

وأعجبني تشبيه ساقه أحد الكتاب في بعض كتبه يحاول أن يستدل بالتطور الإعلامي، أو بالحيل الفنية -كما يقولون- التي يصنعونها، يعني: مثلًا نتصوَّر أن رجلًا يلبث ثوبًا ناصعَ البياض نقيًّا جميلًا، لكن فيه بقعة صغيرة، المصور التلفازي مثلًا يعمد إلى هذه البقعة الصغيرة فيملأ بها الشاشة، يكبرها، ويكبرها، فيملأ بها الشاشة؛ ليتصور الناظر أن الثوب كله غير نظيف. هذه من الخدع، هذا ما يفعله أعداء الإسلام ليس مع السنة فحسب، بل مع التاريخ الإسلامي، يتصيدون واقعة يرون فيها أن بعض الحكام مثلًا قد أخطأ، هذا هو تاريخ الإسلام!! هؤلاء هم حكام المسلمين!! نزوات إيماء غناء رقص استمتاع!! هم يستدلون بهذه الحوادث على أنه قد حدث تطور وأن العلماء يضعون الأحاديث للحكام يهيِّئون لهم الذي يعملونه من أخطاء، أو يصوبونه لهم. الدولة الأموية على أقصاها قد وقعت، هي دولة الإسلام، ودولة فتوحات، ودولة جهاد، ودولة أقيمت لتشريع الله، وتحكيم للقرآن والسنة، كل ذلك حقيقة مؤكدة، ولذلك كانت بلادًا يمدُّها الله بالخير من كل الجهات، وكذلك الدولة العباسية الأولى على الأقل لم يكونوا بحاجة إلى أن يضعوا أحاديث تساندهم، بالعكس، كانوا هم الحكام حراسًا على الحديث، علماء المسلمين كانوا يستعينون بالحكام على مقاومة الوضَّاعين، كانوا يشتكون إلى الحكام صنيعَ الوضاعين حينما هبت الأمة لمقاومة الوضع، والحكام كانوا يُعاقبون هؤلاء الوضَّاعين بعقوبات شديدة، ولنا في ذلك قصص، الحكام مع الأمة يسيرون في خط واحد وهو الحفاظ على القرآن والسنة، وليس هذا فحسب؛ بل والاستمداد من القرآن والسنة، ولا يحتكمون إلى شرع غير القرآن وغير السنة المطهرة. إذن فلا التطور الطبيعي كان سببًا في أن وضعت أحاديث كما يقولون؛ لأن أكبر ردٍّ على هذا هو ثبات المجتمع الإسلامي في كل أرجاء الدولة الإسلامية، على

التباعد بين أقطارها -كما قلنا- والتباين على منهجها المستمد من القرآن والسنة، ولم يسجل التاريخ أبدًا أنه قد حدث اختلاف في عبادة، أو في صيام، أو في كذا، بلد تصوم رمضان يوم السبت والأخرى، وأخرى تصوم يوم الأحد هذا بناء على اختلاف الرؤيا لا يستعملون الحوادث استعمالًا خاطئًا، وخصوصًا أنه لم تكن هناك اتصالات، ويتولَّد فقه يناقش هل لكل بلد مطلع خاص، أو من الممكن اشتراك البلاد؟ هذه نقاشات فقهية في ضوء الأدلة، لكنها لا تدل على اختلاف، ونشوء المذاهب كان من خلال القرآن والسنة أيضًا، ولا يوجد عالم يستدلُّ على قضية إلا من خلال القرآن والسنة، يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط. وأيضًا في بعض الكتابات من المستشرقين يستدلون مثلًا باختلاف العلماء على أنه قد حدث وضع. هذا كلام فارغ، اختلاف العلماء له أسبابه الكثيرة التي ذكرها العلماء؛ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- له كتاب في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وهو كتاب عظيم، والبيهقي وغيره لهم كتب في هذا، يذكرون فيها الأسباب التي اختلف العلماء بسببها، منها: أن الدليل قد لا يصل إليه، والصحابة -رضوان الله عليهم- على شدَّة اقترابهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتتهم بعض الأحاديث، هذه ليست مشكلة، حتى الأدلة التي كانوا يحاولون أن يستدلوا على عدم قبول خبر الواحد -كما يزعمون- مثلًا توقف أبي بكر في ميراث الجدة، هذا دليل على أنه لم يعلم أن هناك حكمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة، وهو قال ذلك للمرأة: "لا أجد لك في كتاب الله شيئًا، ولا أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى لك بشيء"، فهذا هو أكبر عظماء الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم- تغيب عنه أحاديث. عمر في قصة الاستئذان، وعشرات المواقف، وقد يكون نسي الدليل، وأيضًا هناك أدلة على ذلك، وقد يصله الدليل إلى العالِم من طريق صحيح ويصل الآخر من طريق ضعيف،

فيكون حجةً على من ثبت عنده صحة الحديث، وليس حجةً عند من لم يره صحيحًا؛ لأنه لم يصل إليه إلا من خلال طريق ليس بقوي. الخلاصة: أن الواقع الإسلامي كان واضحَ الدلالة في أنه أبدًا لم يحتج الأمر إلى وضع أحاديث، لا نتيجة التطور، ولا علماؤنا يقبلون ذلك على دينهم، ولا حكام الأمة الذين يحاولون أن يشوِّهوا صورتهم من الأمويين، من العباسيين، من حكام الأمة على مدار تاريخها، لم يطلب أحدٌ من الحكام من عالِم أن يضع له حديثًا يؤيِّد له موقفًا ما؛ سواء في الجوانب الدينية، أو في الجوانب السياسية، أو الاقتصادية، أو في تدعيم ملكه، كما يزعم الزاعمون من هؤلاء المستشرقين. رسالة الإسلام كَمُلت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- المصدران الرئيسان بإجماع الأمة محفوظان، وكَمُلَا القرآن والسنة، كل حكم شرعي يُردُّ إلى القرآن والسنة إذا وجد هناك اختلاف، فإنه هو اختلاف في الفهم؛ نتيجة أن الله -عز وجل- يتعبَّدنا بنصوص ليست قاطعة الدلالة، هي قاطعة الثبوت في القرآن والسنة، لكنها قد لا تكون دلالتها قاطعة، كما ضربنا أمثلة على هذا، كل هذه من أسباب تعدُّد الآراء في الأمة، لكن بقيت الأمة في نسيجها كله أمة واحدة في عقيدتها، في عبادتها، في أسس قيام أسرها، في أخلاقها إلى آخره، مما يضحد هذه الفرية من أساسها. يستندون إلى بعض النصوص في إثبات أن بعض الحكام لهم مواقف فيها بعض الخطأ. أولًا: هذه المواقف محتاجة إلى مراجعة من الناحية الشرعية، أو من حيث ثبوتها كتطبيق قواعد الجرج والتعديل المعروفة عند المحدثين في التصدِّي لهذه الوقائع، هل ثبتت

أم لم تثبت؟ لكن أن يقال: إن هناك حوادث تاريخية حدثت ويستدلون بها على ما يريدون أن يصلوا إليه بدون توثيق بهذه الأمور، فهذا ما يُرَدّ عليه فيه. أيضًا من العوامل الباطلة أن حملة الإسلام من الصحابة والتابعين كانوا جنودًا للأمراء في ذلك، والعجيب أنهم يختارون أسماء هي من عمد الرواية وأركانها، وهم من الورع والتقوى بحيث لا تتطرق إليهم أدنى شبهة، بل إن قلوب الأمراء كانت تمتلئ مهابةً لهؤلاء العلماء، يختارون الزهري مثلًا ويتكلمون عنه، والزهري محمد بن موسى بن شهاب الزهري أحد كبار علماء الرواية، وأحد أركانها المولود سنة 50 هجرية، والمتوفى سنة 124، أو 125 هجرية -رضي الله عنه وأرضاه- وهو واحد من علماء الأمة الكبار، هل أنتقل إلى ذكر قصص في ورعه في مهابة الأمراء له في استعلائه بإيمانه، وبورعه، وبتقواه، وبخشيته لله -عز وجل- وبحبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أيِّ طُرَّهات مما يزعمون. أنا أحيل إلى ترجمة ابن شهاب الزهري، ولا أريد أن أستطرد إلى الكلام عن الزهري، والأمر لو كان كتابًا واسعًا لترجمنا للزهري، ولذكرنا مواقفه التي فيها صيانة الدين، وصيانة السنة، وصيانة الشريعة إلى آخره. هناك أقوال في وصول الزهري إلى دمشق، يعني بعد وفاة عبد الملك التقى به قليلًا إلى آخره. أولًا عبد الملك بن مروان -رحمه الله تعالى- مات سنة 86 هجرية، وكان عمر الزهري 36 سنة؛ لأنه مواليد 50 هجرية وعاش الزهري بعد عبد الملك يخدم السنة أكثر من 40 سنة مع كثير من الأمراء من بعد عبد الملك: الوليد، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، وكلهم كانوا في موقع التلاميذ بالنسبة له، الذين يحسنون الاستماع إليه والتلقي عنه، ويقدرون قدره، ويُنزلونه منزلته،

ويعلمون أنه شيخهم الكبير الذي يؤدِّب أولادهم، ويعلم أمراءهم الحديث والقرآن والسنة، وكانوا يختبرون العلماء -قصة اختبار للزهري- هشام بن عبد الملك كتب له أربعمائة حديث، وفي العام القادم طلب منه أن يكتبها له فإنها قد فقدت منه، ثم قارن بين النسختين فما وجد مغايرة في حرف واحد. هل الوضاع يكون ذكورًا، لا يغير، ولا يبدل إلى آخره، وهو يعلم أنه يخترقها للتو الآن من اللحظة فهل يتذكر ما اختلقه في العام الماضي؟ أو هو دين يعلم أنه يحمله، ولا يجوز له أن يغير، أو أن يبدل فيه، ويعلم المصدر الذي سمعه منه إن كان تبعيًّا، أو إن كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ إذن، لا الخلفاء الأمويون ولا العباسيون طلبوا من العلماء أن يضعوا لهم أحاديث، ولا العلماء وضعوا أحاديث، كما قلت: كانوا يشتكون الوضاعين إلى أولي الأمر ليحاسبوهم على جرأتهم على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم، وكانت الشكوى إلى ولي الأمر واحدة من الوسائل التي اتبعها العلماء في مقاومة الوضع، ومناهضة الوضاعين، يهددونهم برفع الأمر إلى ولي الأمر؛ لكي يحاسبهم، إن لم يستجيبوا ويتركوا الوضع في السنة. إذن لا توجد وقائع تاريخية تدل على هذا الأمر، والوقائع التي يذكرونها إنما هي تحتاج إلى مراجعة، وإلى دراسة أخبارها. أبو هريرة راوية الإسلام الذي حفظ الله به السنة، يتجرءون عليه، ويتقولون عليه، ويفترون عليه كذبًا وبهتانًا، وهو واحدٌ من أوعية العلم الذين حفظ الله بهم السنة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد دعا له بالحفظ وبقوَّته، والأحاديث كثيرة في هذا، وشهد له بالحرص على الحديث، حديث الشفاعة، وهو عند البخاري: ((يا رسول الله، مَن أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة)) قبل أن يجيبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على

شبهة: استغلال الأمراء الأمويين والعباسيين علماء المسلمين لوضع ما يثبت ملكهم.

سؤاله، قال: ((يا أبا هريرة، لقد ظننت أن لا يسألني أحد أول منك عن هذا الحديث؛ لِمَا أعلم من حرصك على الحديث)) فهي شهادة نبوية صادرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، لأبي هريرة بالحرص على الحديث، وهذا الحرص كان سببًا في اهتمامه ومحافظته على السنة وكثرة روايته لها، ثم أجابه بعد ذلك قال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبل نفسه)). الخلاصة: أن القول بأن الأحاديث وضعت في القرن الأول والثاني الهجري نتيجة لتطور المسلمين هذه فرية ضعيفة، الواقع التاريخي للأمة الإسلامية يفندها تفنيدًا شديدًا يأتي عليها من أساسها. شبهة: استغلال الأمراء الأمويين والعباسيين علماء المسلمين لوضع ما يثبت ملكهم الأمراء الأمويون والعباسيون بدأً من معاوية -رضي الله عنه- استغلوا علماء المسلمين لوضع ما يثبت ملكهم. معاوية صحابي جليل على رغم أنف مَن يحاول أن ينال من قدره، أحد علماء الأمة سُئل -ونحن نعلم أن عمر بن عبد العزيز أحد أئمة الهدى، وهو خامس الخلفاء الراشدين، كما هو مسجل له في الفقه الإسلامي- أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ يجيب إجابةً يستنكر فيها طرح السؤال بهذه الصيغة: معاوية صِهره، وكاتب وحيه، وأمين سرّه، وصاحبه. أيُّ ميزة من لهذه لعمر بن عبد العزيز؟ وهناك خلاف في إسلام معاوية هناك روايات تقول: أنه أسلم قبل الحديبية أو بعد الحديبية، وكان عند فتح مكة مسلمًا، وكان عند الحديبية مسلمًا، وَهَبْ أنه أسلم عام الفتح لا بأسَ. الله -عز وجل- امتدح كل الصحابة الذين

تقدَّم إسلامهم، أو تأخر إسلامهم يقول الله -تبارك وتعالى-: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (الحديد: 10) نعم. هناك تفاوت في الفضل بين الصحابة، لكنهم جميعًا أفضل أجيال هذه الأمة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: ((خير القرون قرني)) إلى آخر الأحاديث الواردة في هذا. معاوية صحابي جليل يَثبت له ما يثبت للصحابة من عدالة، ومن صدق، ومن أمانة، ومن عفَّة، ومن طهارة، ومن استقامة، ومن حِرص على القرآن والسنة، أيُّ افتراء عليه لا يجوز، أيُّ خطأ في حقّه مردود على أصحابه، هذا من كيد الشانئة المغرضين الرافضة. معاوية صحابي جليل صاحبه -صلى الله عليه وسلم- كاتب وحيه، أمين سره الذي ائتمنه الصحابة على مشاركتهم في حكم بعض البلاد، ولاه عمر الشامَ، وظل عليها إلى أن تولى الخلافةَ في سنة 40 هجرية أو في سنة 41 هو عام جماعة الذي وحد الله فيه الأمة الإسلامة بعد أن كان قد ظهر الخلاف بينها بعض الشيء. إذن الصحابة: معاوية، أبو هريرة، وغيرهم، ممن تكلموا في حقهم أجل وأعظم وأسمى من أن يكونوا جنودًا للأمراء في ذلك، ولا الأمراء أنفسهم طلبوا أحاديث، ولم نجد مواقفَ طلب فيها بعضُ الحكام من العلماء أن يضعوا أحاديث يساندون بها أي موقف لأي حاكم يريد أن يتخذه في قضية ما؛ سواء كانت قضية دينية، أو علمية، أو سياسية، أو ما شاكل ذلك. بعض الأحاديث التي يحاولون أن يستدلوا بها على ذلك: مثل الأحاديث التي تحث على طاعة الأمراء، الفقه السياسي الآن سبق به الصحابة، وهو العمل على استقرار الأمة، وسدِّ باب الخلاف، وسدِّ باب

النزاع، وعدم الجرأة على أولياء الأمر حتى لا تحدث فتن، ولذلك في الدول التي لا تدين بالإسلام تضع في دساتيرها ما يحفظ وحدة الأمة، حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) ماذا في هذا الحديث من الممالئة للحكام المسلمين، حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فاسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي)) الانقسام أو الحفاظ على وحدة الأمة هو الأولى، إن فكر أهل والجماعة في هذه القضية يتَّجه إلى المحافظة على استقرار الأمة، لا عند خوف، ولا عن جبن، وإنما هو ترتيب للأوليات، وإغلاق لباب الفتن الذي إذا فُتح -والعياذ بالله- لا يعلم مداها إلا الله -تبارك وتعالى-. وفي نفس الوقت هناك حكام أحاديث تطلب النصيحة للأمة وللأمراء: ((الدين النصحية، قلن: لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكِتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) هو غاية ما في الأمر مناقشة الأسلوب. إذن المسألة لم تكن خنوعًا؛ إنما كانت محافظة على روح الأمة، في ضوء الأدلة، وعندنا مثلًا مَن قام لمروان بن الحكم وهو يريد أن يخطب قبل الصلاة في العيد على خلاف ما كانت عليه السنة، ونبهه إلى أن هذا مخالف للسنة، وهذا الموقف هو الذي رُوي فيه الحديث الذي عند مسلم من رواية أبي سعيد الخدري: ((مَن رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). أقصد أن أقول: رَوَوْا هذه الأحاديث، ورووا هذه الأحاديث التي تطلب الطاعة لولي الأمر ما دام مستقيًا على كتاب الله -تبارك وتعالى- وعلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بل إنه من المعروف أنه: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) حتى هذا الأمر بالنسبة للنبي -عليه الصلاة والسلام- نفسه وهو الذي لا يأمر إلا بالمعروف، وسجل له ذلك في

القرآن الكريم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) محلّ الشاهد: َ {أْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}. في الحديث المتفق على صحته من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف)) انظروا إلى قيد: ((في معروف)) مَن الذي يبايع؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهل النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بغير معروف -والعياذ بالله-؟ كلا، إنما هذا القيد لأمراء الأمة فيما بعد، لماذا لم يكتم العلماء هذا القيد؟ ولماذا لم يكتموا: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))؟ ولماذا لم يكتموا: ((الدين النصيحة لله، ولرسوله، وللأئمة المسلمين ولعامتهم))؟ وعندنا كتب مؤلفة في السياسية الشرعية التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ضوء الأدلة الشرعية المأخوذة من القرآن والسنة، ولها حديثها الخاص بها في كتب الفقه، وفي المواد التي تدرس فيها. لكن أنا ألفت النظر أن هؤلاء انتبهوا إلى حديث يأمر بالطاعة، ويطلب الصبر على الأمراء، وحتى وإن كانوا على أثرة فيهم، وتقديمهم لأنفسهم على الرعية، لم يقل هذا أحد: إن هذا ليس ظلمًا، قالوا: إنه ظلم، لكن طلب الصبر عليه؛ ترتيبًا للأولويات والمسائل؛ حفاظًا على وحدة الأمة، وإغلاقًا لباب الفتنة، لم يكن استسلامًا ولا ضعفًا؛ إنما هو صبر يؤجَرون عليه، وفي نفس الوقت يداومون النصيحة لولاة الأمر -إن شاء الله- لعل الله -عز وجل- يأتي بالخير على أيديهم.

إذن هناك أحاديث هنا، وهناك أحاديث هنا، ولأنهم يريدون أن يخدموا غرضهم، اقتصروا على جانب من الأحاديث، وتصوروا أن الوضَّاعين وضعوا هذا الأمر: ((وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي)) ((بايعنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والعسر واليسر على أثرة علينا)) وما داموا يقيمون الصلاة، وليس هناك خروج على الإمام إلا أن يكون هناك كفر بواح عندكم فيه من الله برهان، وهذا إغلاق لباب الفتنة، وحفاظ على وحدة الأمة، ولم يكن أبدًا استسلامًا، ولا ضعفًا، ولا مهانةً، ولا مذلةً، ولا انقسامًا. إذن هذه فِرية أن يُقال: إنهم وضعوا أحاديثَ، وأن علماء المسلمين استجابوا لهم في ذلك؛ إنما هي أحاديث قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولها مناسبات، النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح أمّر أميرًا، وهذا الأمير حاول أن يختبرهم، فأوقد نارًا، وطلب منهم أن يُلقوا بأنفسهم فيها فما استجابوا له؛ فاستحسن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك. بعض الروايات تقول: "لو كانوا أطاعوه كانوا دخلوا النار". إذن هو يعلمهم بشكل عملي أنه: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))، وهذا الحديث تناقله علماء الأمة لم يكتموه، لم يخفوه، لم يطمسوه، بالإضافة إلى الأحاديث الأخرى التي ذكرناها. هذا الفقه الواضح الجلي يعلمه علماء الأمة، ويعلمون الفهم السديد لهذه الأحاديث، ومصادرنا مليئة: شروح البخاري، وشروح مسلم، وكتب السياسية الشرعية، وغيرها، تتكلم عن فهم هذه الأحاديث، وليس من بينها أبدًا أن هناك من وضع حديثًا؛ ممالأةً لحاكم؛ لكي يعينه على ظلمه، أو على بَغيه، أو أن يؤسس لملكه كل ذلك افتراء، لا الحكام -كما قلنا- طلبوا ذلك، ولا العلماء وضعوا ذلك، ولا الأدلة الشرعية التي بين أيدينا سارت في خط واحد؛ إنما سارت في الخطين المتكاملين اللذين يصلانا بالأمة إلى برِّ الأمان. هذا بالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه.

الدرس: 16 بين المدرسة الحديثية والمدرسة العقلية

الدرس: 16 بين المدرسة الحديثية والمدرسة العقلية

دفع ما أثير حول المدرسة الحديثية من شبهات.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (بين المدرسة الحديثية والمدرسة العقلية) دفع ما أثير حول المدرسة الحديثية من شبهات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه، وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنحن الآن نبدأ -بإذن الله تعالى وعونه وتوفيقه- نبدأ الكلام عن شبهات من نوع جديد، وهي عن أحاديث بذاتها وبنصها وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. أثاروا زوابع حول كثير من الأحاديث النبوية، زعموا أنها تُخالف العقلَ، وأنها تُخالف القواعد الحسية، وأنها تخالف القواعد الطبية، وغير ذلك مما أثاروه من شبه وإشكالات. وأودُّ أن أنبِّه إلى أن المدرسة الحديثية لم تكن بحاجة إلى أحد لينبِّهها إلى أن هناك قواعد شرعية في ضوئها تُقبل الأحاديث المطهرة؛ بل إن هذا العناء الذي بذله المحدِّثون في صيانة السنة، في وضع قواعد الجرح والتعديل، وشروط قبول الرواية، وشروط قبول الراوي، وكيف يكون التحمل والأداء، وما هي شروط صحة الحديث. علم المصطلح الذي تفرعت عنه علوم كثيرة جدًّا كلها وضعت لخدمة السنة المطهرة ولصيانتها؛ لأن السنة المطهرة عبارة عن رواة نقلوا لنا كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم رجال الحديث، أو إسناد الحديث، أو طريق الحديث، ومتن نبوي نُقل إلينا عن طريق هؤلاء الرجال، وضعت القواعد الضابطة لأحوال الراوي وأحوال المروي معًا. لم نكن بحاجة إلى مَن ينبهنا إلى أن الحديث إذا خالف المعقول يكون ذلك من علامات الضعف، أو الوضع في الحديث النبوي، ولم نكن بحاجة إلى أن مخالفة الحديث للقواعد الحسية، أو الواقعية أو العقلية، دلالة على أن هذا الحديث فيه ضعف شديد إن لم يكن موضوعًا.

الضوابط التي وضعها لنا العلماء كثيرة جدًّا في التمييز بين الحديث الصحيح وبين الحديث الضعيف أو الموضوع، عن الوضع والوضاعون تكلموا كثيرًا، من علامات الوضع: ركاكة اللفظ وركاكة المعنى، ومخالفة الحديث للمنقول، ومباينة الحديث للمعقول، ومصادمة الحديث للأصول أي: أصول الشرع العامة المأخوذة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة. وضعوا قواعد نقول عنها: إنها تكتب بماء الذهب، لم نكن في حاجة إلى من ينبه؛ فقد سبقت المدرسة الحديثية المباركة بوضع الضوابط الكفيلة بالحفاظ على السنة المطهرة. إذن المحدثون سبقوا إلى هذه القواعد، في هذا الإطار كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) للإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهو كتاب صغير وبسيط لكنه طيب ومفيد؛ لأدلل أن المدرسة الحديثية هو ابن القيم -رحمه الله تعالى- أحد تلاميذها، وأحد نوابغها أيضًا يبيِّن ما اصطلحت عليه المدرسة من قواعد للحفاظ على السنة المطهرة، وعلى تنقية الأحاديث الضعيفة من الصحيحة. يقول -رحمه الله تعالى-: سئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ نرجو أن ننتبه إلى قيمة السؤال، يرجفون ويقولون: إن المدرسة الحديثية عنيت بدراسة الحديث أكثر من عنايتها بدراستها المتون، هذا قول مفترى إنما هي وضعت الضوابط لنقد المتن، ووضعت الضوابط لنقد الإسناد، والسؤال هل يمكن أن نعرف أو نقف على ضوابط لتمييز الحديث الموضوع من غير أن ننظر إلى إسناده؟

فأجاب ابن القيم -رحمه الله تعالى- وقال: هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلَّع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وسار له فيها ملَكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة؛ بحيث كأنه مخالط للرسول -صلى الله عليه وسلم- كواحد من أصحابه، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز ما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه؛ فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم، والله أعلم. خلاصة كلام ابن القيم -رحمه الله- هنا يضع قاعدة هامة جدًّا: حين نريد أن نسأل عن أي فنٍّ، فإنما نرجع إلى المتخصصين المتعمقين فيه، لكل علم متخصصون، وبكل أسف السنة هي الكلأ المباح، أو أمور الشرع عامة هي الكلأ المباح لكل مَن يتكلم فيه، وإذاَّ رد أحدنا عليهم باحترام التهم موجودة هل أنتم عندكم كهنوت؟ هل أنتم تنفردون بعلم الشرع؟ هل أنتم كذا هل أنتم كذا؟ كلمات قد تكون حقًّا في بعضها لكنه حق يُراد به باطل. الذي يتكلم في السنن من تضلَّع فيها -على حد تعبير ابن القيم- واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد، ليس اختصاصًا عاديًّا بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-. هذا الذي يعرف كأنه مخالط للنبي -صلى الله عليه وسلم- كواحد من أصحابه. هذه المعايشة العميقة الصادقة المخلصة تتيح لأصحابها أن يكونوا أصحاب خبرة عميقة في تمييز كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم. إذن لا بد من الرجوع إلى أهل التخصص في

معرفة أيِّ شيء يتعلَّق بهذا التخصص أيًّا كان هذا التخصص، والعلوم الشرعية، ومن بينها علوم السنة المطهرة هي أولى بذلك. ثم شرع -رحمه الله- يضرب أمثلة على ذلك قال: فمن ذلك ما روى جعفر بن جسر عن أبيه عن ثابت عن أنس يرفعه من قال: "سبحان الله وبحمده غرس الله له ألف نخلة في الجنة أصلها من ذهب" إلى آخر الحديث مبالغات وطامات كثيرة، جعفر هذا هو جعفر بن جسر أو جسر بن فرقد أبو سليمان القصاب البصري، قال ابن عدي: أحاديثه مناكير. وقال الأزدي: يتكلمون فيه. وأما أبوه فقال عنه يحيى بن معين: لا شيء، ولا يكتب حديثه. وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. إلى آخر ما قالوه في هذا الحديث. ابن القيم هنا يضرب أمثلة لبعض الروايات السمجة التي تُخالف المعقول، تخالف نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة. أيضًا يضرب مثالًا آخر يقول: من دعا بهذه الأسماء اللهم أنت حي لا تموت، وغالب لا تغلب، وبصير لا ترتاب، وسميع لا تشك، وصادق لا تكذب، وصمد لا تطعم، وعالم لا تعلم، إلى أن قال: فوالذي بعثني بالحق لو دُعي بهذه الدعوات على صفائح الحديد لذابت، وعلى ماء جار لسكن، ومن دعا .. إلى آخره هذا من رواية أحمد بن عبد الله الجويباري الكذاب، وتابعه كذاب آخر، وهو الحسين بن داود البلخي إلى آخر ما ذكر. سماجة اللفظ مع الكذابين الذين في إسناده دلُّوا على أن الحديث موضوع، وذكر أمثلة كثيرة. لكن على كل حال بعض القواعد التي ضربها يقول: ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعًا، قواعد ضابطة يتبين بها أن هذا الحديث مضوعًا من ذلك اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- وهي كثيرة جدًّا، كقوله في الحديث المكذوب: "من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة، يستغفرون الله له، ومن فعل كذا وكذا" إلى آخر هذه المجازفات الباردة التي لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين إما أن يكون في غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقًا قصد التنقيص بالرسول -صلى الله عليه وسلم- بإضافة مثل هذه الكلمات إليه. إذن هذا ضابط، اشتمال الحديث على مجازفات لا يمكن أبدًا أن تصدر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ومنها أيضًا تكذيب الحس له "الباذنجان لما أُكل له" هذا مثال: "الباذنجان شفاء من كل داء" يقول ابن القيم: قبح الله واضعهما، فإن هذا لو قاله يحنس أمهر الأطباء لسخر الناس منه، ولو أكل الباذنجان للحمَّى والسوداء الغالبة وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شدَّة، ولو أكله فقير ليستغني لم يفده الغنى، أو جاهل ليتعلم لم يفده العلم" هو يسخر ممن يقول هذا الكلام، وبالمناسبة ابن القيم -رحمه الله- له باع طويل في الطب أيضًا، ومعرفة به، وله كتاب في الطب النبوي من أفضل الكتب التي كُتبت في هذا الفن، لكن هنا القاعدة تكذيب الحسّ للحديث. "عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب، ويكثر الدمعة، قدس فيه سبعون نبيًّا". وقد سئل عبد الله بن المبارك يقول ابن القيم: ولو قدَّس فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء، فكيف بسبعين نبيّا، وقد سماه الله تعالى أدنى، ونعى على من اختاره على المن والسلوى، وجعله قرين الثوم والبصل، أفتُرى أنبياء بني إسرائيل قدموا فيه، أو قدسوا فيه لهذه العلة، والمضار التي فيه من تهييج السوداء، والنفخ والرياح الغليظة، وضيق النفس، والدم الفاسد، وغير ذلك

من المضار المحسوسة، ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع الذين اختاروه على المن والسلوى، أو أشباههم أي: من كذابي بني إسرائيل الذين أثاروه على المن والسلوى. وهكذا يمضي ابن القيم مع هذا الضابط مخالفته للحس. أيضًا يقول: ومنها سماجة الحديث، وكونه مما يسخر منه كحديث: "لو كان الأرز رجلًا لكان حليمًا ما أكله جائع إلا أشبعه"، فهذا من السمج البارد الذي يُصان عنه كلام العقلاء؛ فضلًا عن كلام سيد الأنبياء، وحديث: "الجوز دواء والجبن داء، فإذا صار في الجوف صار شفاء" فلعن الله واضعه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وذكر أيضًا أمثلة لذلك كثيرة جدًّا تقع هذا الضابط. أيضًا مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بينةً مثل أحاديث: مدح من اسمه أحمد أو محمد، وأن كل من يتسمَّى بهذه الأسماء لا يدخل النار، وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه -صلى الله عليه وسلم: ((أن النار لا يُجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان وبالأعمال الصالحة))، ولذلك يقول ابن القيم تأكيدًا لهذه القاعدة: فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه بريء، إلى آخر ما ضرب من أمثلة. أيضًا منها -أي: من الضوابط التي يعرف بها هذا الحديث- أن يُدَّعى على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه كيف يحدث هذا؟ يقول: كما يزعم أكذب الطوائف أنه أخذ بيد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمحضر من الصحابة كلهم وهم راجعون من حَجة الوداع، فأقاموه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: "هذا وصي وأخي والخليفة من

بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا". ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغييره ومخالفته. فلعنة الله على الكاذبين. يعني: إذا ضمننا إلى هذا أن حجة الوداع -في بعض الروايات- كان فيها ما يقرب من سبعين ألف، وبعض الروايات وصلت بها إلى مائة ألف وأربعة عشر ألفًا؛ لأن المسلمين في كل البقاع لما علموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقصد الحج من عامه، هذا تسارعوا إلى الحج؛ ليتشرفوا بمشاركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أداء هذه الفريضة، ثم إنه أخذ بيد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أمام الحجيج عند عودتهم، وأخبرهم بذلك، ومع ذلك كتموه. هذا كلام لا يقوله عاقلٌ أبدًا. أيضًا يقول: منها: أن يكون الحديث باطلًا في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- كحديث: "المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش"، وحديث: "إذا غضب الله تعالى أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية"، وحديث: "ست خصال تورث النسيان: أكل سؤر الفأر، وإلقاء القٌمل في النار وهي حية، والبول في الماء الراكد ... " إلى غير ذلك من السفاسف الممقوتة التي لا ينبغي أن نتوقف عنها. ومنها: أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء؛ فضلًا عن كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو لا يتكلم إلا بوحي من عند الله -تبارك وتعالى- كحديث مثلًا: "ثلاثة تزيد في البصر: النظر إلى القدرة، والماء الجاري، والوجه الحسن" يعني: هذا مما يجلُّ عنه، حتى الصحابة الذين يروُون الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا هو حتى من أقوالهم أبدًا؛ لأن كيف يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى النظر إلى الوجه الحسن، ونحن قد

أمرنا بغض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (النور: 30) إلى غير ذلك. ويغلب على الظن -كما قال ابن القيم- أن هذا ونحوه من وضع بعض الزنادقة الذين يفسدون على المسلمين دينهم. أيضًا منها: أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قولهم مثلًا: "إذا كانت سنة كذا وقع كيت وكيت" و"إذا كان في شهر كذا" وكقول الكذاب الأشر -على وصف ابن القيم رحمه الله- "إذا انكسف القمر في المحرم كان الغلاء، والقتال، وشغل السلطان" يقول: وأحاديث هذا الباب كلها كذب مفترى. أيضًا منها: أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق كحديث: "الهريسة تشدُّ الظهر "، "أكل السمك يُوهن الجسد "، الذي شكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قلة الولد فأمره "أن يأكل البيض والبصل "، "أتاني جبريل بهريسة من الجنة فأكلتها فأعطيت قوة أربعين رجلٍ من الجماع "، "المؤمن حلو يحب الحلاوة" إلى آخر هذه العبارات الواضح منها أن الذين وضعوها صانعو الحلوى وما يشابههم، كل واحد صاحب مهنة يتعصب لها، ويضع فيها أحاديث يحاول أن يروج لها. أيضًا الأحاديث التي وردت في العقل يقول: "أحاديث العقل كله اكذب" كقوله: "لما خلق الله العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال: له أدبر، فأدبر فقال: ما خلقت خلقًا أكرم عليَّ منك، بك آخذ وبك أعطي " هذا كلام عجيب غريب، الحجة في الشرع هي للقرآن الكريم وللسنة المطهرة، وحديث: "لكل شيء معدن، ومعدن التقوى قلوب العاقلين" وهو يضع قاعدة كلية هنا أن كل أحاديث العقل مكذوبة مفتراة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

كان الغرض أن المدرسة الحديثية بنفسها وضعت القواعد، وهو قد طال نفسه في الرّدّ على بعض الأحاديث، واستغرقت عدة صفحات، وردَّ عليها من القرآن ومن السنة ومن الإجماع، مثل "أن الخَضرَ موجود، وأنه حي الآن" طال نفسه جدًّا في الرّدّ عليه، وأقام عشرات الأدلة من القرآن، ومن السنة، ومن الإجماع، ومن العقل، على مخالفته للقرآن وللسنة الصريحة. وأيضًا أن يكون الحديثُ مخالفًا لصريح القرآن مثل حديث الذي حدَّد مقدار الدنيا، وأنها "سبعة آلاف سنة "، ونحن في الألف السابعة، وهذا من أبين الكذب -هذا كلام ابن القيم- لأنه لو كان صحيحًا لكان كل أحد عالِمًا أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا أي: في الوقت الذي تكلم فيه ابن القيم، والله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (النازعات: 42). والشيخ عبد الفتاح أبو جود -عليه رحمة الله- استنتج من كلمات ابن القيم هنا أن هذا الكتاب- (المنار المنيف) - ألفه ابن القيم قبل وفاته تقريبًا بعام واحد؛ لأنه سنة 750 لو كان سبعة آلاف سنة يقول: ونحن الآن في الألف السابعة باقي مائتان وخمسون عامًا وسنة أي: قبل وفاته بسنة واحدة -رحمه الله تعالى-. على كل حال هذا معارض أن علم الساعة قد انفرد به الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (لقمان: 34) {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} (الأعراف: 187) إلى آخر الآيات. وأيضًا في حديث جبريل المشهور سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة فقال: ((ما المسئول عنها بأعلم عن السائل)) ويقولون في ردِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الفصاحة والبلاغة كلها لم يقل: لا أعلم، لو قال النبي -صلى الله عليه وسلم: لا أعلم، لكان الباب مفتوحًا لمن يكون بعض

بيان خطأ المدرسة العقلية التي تخضع النص للعقل.

الناس يعلمون وقتها؛ إنما هو فقط هو الذي لا يعلم ((ما المسئول عنها بأعلم عن السائل)) قال العلماء في شرح هذه الجملة: أي: لتشمل كل سائل وكل مسئول، يعني: كل سائل وكل مسئول إلى يوم القيامة في الجهل بوقت القيامة سواء، لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى- لأن هذا مما انفرد الله تعالى بعلمه. بيان خطأ المدرسة العقلية التي تُخضع النصَّ للعقل نقف وقفة مع المدرسة العقلية التي تحكِّم العقلَ في النص: "هذا الحديث لا يوافق العقل!! ". أي عقل يقصدوه؟ وما هي الضوابط للنظر في السنة بالميزان العقلي؟ هذا أمر مهم جدًّا العقول من حقها أن تنظر، أي عقل ينظر؟ كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: أن العقل يمجُّ بعض الأحاديث التي ذكروها منسوبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، لكن الضوابط التي في ضوئها يعمل العقل هو الأمور المادية المحسوسة، الكون كله، بإيجاز شديد دائرة الماديات، كيف نزرع الأرض؟ كيف نصنع من الخشب مكتبًا ومنضدةً وسريرًا وكرسيًّا؟ إلى آخره، كيف ننقي الأرض من الحشائش؟ كيف نطير في أجواز الفضاء؟ كيف كذا؟ رجل مثلًا يجلس يقذف بالتفاحة أو بالطوبة إلى أعلى، فتنزل إلى أرض، لماذا لم تصعد إلى أعلى؟ فيكتشف قانون الجاذبية، كل ذلك وغيره. قلنا: نريد للعقل أن يسيح في الكون والله -عز وجل- يُنعم عليه بما شاء من معونات وفيوضات يبتكر بها أمورًا يعتمد فيها على خلق الله -عز وجل- تُيسّر للناس أمور معايشهم، نركب الطائرات، ونركب القطارات، ونركب السيارات، ونستعمل الهواتف، ونضع النظارات على أعيينا، ونلبس الأزياء الطيبة المباركة، إلى آخر ما نشاء من نعم الله -تبارك وتعالى-. الكون كله أمام العقل يعمل فيه بهدي الله -عز وجل-

وبقانون الله -عز وجل- فيجري الله -عز وجل- على يد البشر ابتكارات تنفعهم في أمور دينهم ودُنياهم، من تحسينهم مواد التربة، من البذور التي تُنتج غلة أكثر من المواد التي تخلو من المضار، يوفقهم الله إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. أما أن يدخل العقل فيما ليس له فيه، فهذا من باب إقحام العقل فيما ليس له، وقطعًا سيضل العقل وسيشقى ويُشقي صاحبه، ويسير به إلى طريق الضلال والغواية، هذه من البداهيات التي لا بد أن يصطلح عليها البشر جميعًا، كيف يتكلم العقل مثلًا في أمور ما وراء الطبيعة كما يقول الفلاسفة، أو غيرهم، يعني: كيف يتكلم في العالم الذي لا يراه؟ كيف يتكلم عن الغيبيات؟ كيف يتكلم عن الوحي؟ كيف يتكلم عن القبر وما يحدث فيه وهو لم يره؟ كل ذلك لا مجالَ للعقل فيه، كيف يتكلم عن القيامة ومشاهدها من بعث، وحشر، وجنة، ونار؟ وكل ذلك يعتمد على الأدلة النقلية المسموعة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة. أنتَ لا تستطيع أن تتكلم فيها بعقلك، العقل هنا لا يصلح أن يكون مقياسًا أبدًا لمعرفة الصواب والخطأ في هذه الأمور، كيف سيتكلم، هل هناك أحد ذهب إلى القبر وعاد ليخبرنا ماذا فيه؟ هل هناك أحد رأى مشاهد الآخرة التي لم تحدث بعدُ، ورأى الحساب، والميزان، والصراط، والحشرَ، والشفاعة، والجنة، والنار، والحوض، وما إلى ذلك، وجاء لينكر أو ليوافق؟ كل ذلك لا يصلح، أنا أحترم العقل حين أضعه في الدائرة التي يستطيع أن يعمل فيها، وأنا أهينه وأنزل من قدره حين أضعه فيما ليس له من تخصصه، سيتيه، سيضرب في بيداء من الجهل والظلمات والضلالات، سيصل إلى نتائج ربما تصل إلى الإلحاد والإنكار، هذا أمور بدهية.

وبالمناسبة لو أنصف الذين يزعمون أنهم أبناء المدرسة العقلية، أو أنهم يهتمون بالعقل، ووضعوا العقل في إطاره؛ العقل لا تصادم بينه وبين الدين، وحين نقول: إن العقل لا يدخل في هذه الأمور لا ينبغي أن يضحكوا علينا، وأن يقولوا لنا: هذه مصادرة على العقل، وهذه حرب على التفكير والإبداع، هذا كلام متهالك، لا ينبغي أن يُخدع به أحدٌ، أبدعوا في الطب، وأبدعوا في الصيدلة، وأبدعوا في الهندسة، وأبدعوا في الزراعة، وأبدعوا في الفضاء، وفي الأسلحة، أغنونا عن أعدائنا في كل هذا، اعملوا، وابتكروا، وأضيفوا إلى رصيد الأمة الإسلامية في هذه الميادين ما يوفقكم الله تعالى إليه. أما أن تدخلوا لتفسدوا على الأمة أمر دينها، وهكذا تحت دعوى أن هذا احترام، أي احترام للعقل أن أدخله فيما ليس فيه؟ هذا الكلام ما فائدته؟ لو أعملوا ذلك ما تدخلوا في أحاديث أنكروها بالعقل، وهي صحيحة وثابتة، ثم إن عقلونا تقبلها، وعقول الأمة كلها على مدار ال ال تاريخها قبلته، أعقولهم أنضج من عقولنا؟ لماذا يفرضون هذا؟ ولماذا يتصورون أن عقولهم أفهم وأوعب لهذه الأمور منا نحن؟ نحن لا نقل عنهم فهمًا، نحن لا ندعي لأنفسنا أننا أفقه منهم، لكننا على الأقل لا نقل عنهم فهمًا لأمور ديننا ودنيانا ونعرف الضوابط ثم إن هذه الأمور اصطلح عليها أهل العلم في العالم كله، وتكلمنا عن خلل المستشرقين في منهجهم، وأنهم يتكلمون كثيرًا عن المناهج العقلية، والمناهج العلمية، والتجريبية، والاستدلال، وينقضون كل ذلك فيما يتعلق بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، وليس عندهم أمانات في النقل، ويعتمدون على مصادر ضعيفة، ولا يعتد بها عند أهل العلم، ويزعمون أنهم أرباب المذهب العقلي، أو أرباب المذهب التجريبي.

ملامح المدرسة العقلية.

هذا الخلل سبَّب لهم خللًا شديدًا، هو السبب في إنكارهم لكثير من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- وكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي رَأَوا بمنظارهم أنها تُخالف العقل. ثم أيُّ عقل نسمح له أن ينظر في السنة، العقل الذي تربَّى على موائد الغرب، وتخرج في الجامعات الأجنبية، ولم يقرأ شيئًا عن الإسلام، ولا في الإسلام، وكل ما استقاه عن السنة وعن التفسر هو من كتب المتشرقين، أهذا يليق؟ أهذا يصلح؟ أهذا مقياس علمي أو ضابط دقيق يُرجع إليه؟ وندرك من قراءاتنا لكثير من انتقاداتهم أنهم لم يقرءوا حديثًا في البخاري ولم يقرءوا شروحَ العلماء الأجلاء كابن حجر، والعين، وغيرهم ممن شرحوا البخاري، أو شرحوا (صحيح الإمام مسلم) -رحمهم الله جميعًا- إنما استقوا كلامهم من المصادر المعادية للإسلام. ملامح المدرسة العقلية وهنا بسرعة أوضح أو أشير إلى بعض ملامح المدرسة العقلية: أولًا: هم يقدمون العقل على النص، ويجعلون العقل قاضيًا على النص، وكثيرًا ما تقرأ في كتاباتهم النص يقبل التأويل. خلاصة الكلمة: نحن نقول بعقولنا وأفهامنا، ويجترءون على القرآن في فهمه، في مخالفة الأمة كلها لفهمه، هناك مثلًا مَن يطالب المساواة بين البنت والولد في الميراث؛ ضاربًا عرض الحائط بقوله -تبارك وتعالى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11)، ويا أهل النص يا من ليست لكم عقول تفكر، أنتم وما تريدون في النص افهموه كما تريدون، أو أولوه كما تريدون، أما في السنة يجترءون عليها هي ليست من كلام الله، فالباب مفتوح لأن يقولوا: هذا حديث ضعيف، أو

مكذوب ويردُّونه، وإذا تكلمنا فيهم؛ نحن عقولنا مظلمة، ومغلقة، وضيقة، ولا تتسع للرأي الآخر، بل إنهم أخيرًا من يقول: حتى تفسير القرآن لا نريد تفسيرًا. كل واحد يقول في القرآن بفهمه، والسنة ليست قاضية على الكتاب، أيُّ عبث هذا، وأي فوضى هذا، وإلى أي طريق يريدون أن يصلوا بنا؟ ملامح أو بعض معالم المدرسة العقلية، تتمثل -كما قلت- في تحكيم العقل في النص هذا واحد، وأن العقل قاضٍ على النص، النص هو القاضي، وأن العقل يحاول أن يفهم، وأنه لا مصادرة للعقول في فهم النص، والقاعدة الشرعية المعروفة: لا اجتهادَ مع النص. يعني: لا يقول النص شيئًا ونقول نحن غيره، وقاعدة: لا اجتهادَ مع النص، لا تغلق البابَ أمام قاعدة أخرى تفتح الباب للفهم والاجتهاد، الاجتهاد في النص أي: في فهم النص، ماذا يريد النص أن يقول؟ كيف نطبقه؟ نحن نجتهد في فهمه لنطبقه، لا لنعارضه، ولا لنبعتد عنه، لنطبقه بفهم جيد يكون أقرب ما يكون إلى مراد الله -عز وجل- مثلًا: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ملامسة النساء من نواقض الوضوء، الذي يقول: إن ملامسة النساء غير ناقضة هذا يجتهد مع النص، لا اجتهادَ مع النص، يقول النص شيئًا، وهو يقول غيره يقول: إن الملامسة غير ناقضة، لكن أن يقول: ما المراد بالملامسة؟ هذا هو الاجتهاد في النص، والباب مفتوح فيه إلى يوم القيامة في ضوء القواعد المقررة عند علماء الشرع، أو عند العلماء في ضوابط الاجتهاد والمجتهدين. إذن العقل له ميدانه في فهم النص في الكون الفسيح إلى آخره، لكن أن يشرع العقل، أن ينظر العقل في النص، وأن يكون قاضيًا عليه؛ هذا ما لا يقول به عاقلٌ أبدًا، ولن نقبله مهما كان.

من ملامح المدرسة العقلية أيضًا: أنهم يردُّون السنة كليَّة أو جزئيًّا. الذين يزعمون أنهم قرآءنيون وينكرون السنة كلية، ومنهم من يردُّ بعضها، ومنهم مَن يقبل المتواتر ويرد الآحاد، دعاوَى كثيرة يثيرونها، الغرض كله هو تضييع السنة والتفلت منها. إذن هم يعجلون العقل قاضيًا على النص، وهذا أدى إلى إنكارهم للسنة إما كليًّا وإما جزئيًّا. وعلماء الأمة مجمعون على وجوب العمل بالحديث متى ثبتت صحته، وأن الحديث متى صح يصبح أصلًا من أصول الشرع بصرف النظر عن كونه متواترًا أو آحادًا، والتواتر والآحاد هذا تقسيم على أساس عدد الرواة في كل حلقة لا يتعلق أبدًا بوجوب العمل؛ لأنه حتى الفريق الذي قال: إن الآحاد يفيد الظن بمعنى: أننا يغلب على ظننا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله ولا نقطع بذلك، يجيبون على الأمة العملَ بما غلب على ظنها، وقلنا: إن هذه من الأمور المجمع عليها عند علماء الأمة. إذن قضية العمل به لا تقبل الجدال. أيضًا توسعوا جدًّا -المدرسة العقلية- في فهم القرآن الكريم والحديث النبوي في ضوء عقولهم، وفي ضوء معطيات العلم بكل جوانبه؛ بصرف النظر حتى عن كونها حقيقة علمية أو نظرية علمية لا زالت في طور نظرها بالتجريب، العلم قال كذا، إذًا ردُّوا القرآن وردوا السنة، وبعد سنين يردُّ العلم على نفسه؛ فيرفض ما كان يقبله اليوم، وهذا حدث مرارًا وتَكرارًا، وفي كل العلوم، المسلَّمات التي كانت من عشرين سنة انقلبت الآن على أعقابها؛ لتصبح من مظاهر التخلف. فرقوا بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية، الحقيقة العلمية الثابتة لا تتعارض أبدًا مع

القرآن والسنة، ولن يتعارض مع القرآن والسنة بحال من الأحوال. أما التي ما زالت في طور التجربة والاختبار؛ فهذه محلّ نظر. إذن لا نجعل معطيات العلم وخصوصًا في مراحلة التجريبة يعني: قيدًا على القرآن، أو على السنة المطهرة، هذا من مفتريات العقول، ومفتريات المنهج العلمي -كما يقولون- ويصنعون بذلك تناقضًا بين العلم والدين. الدين منه براء، ديننا دين العلم الذي امتلأ بالآيات التي تكلمت عن العلم والعلماء، وهذا أمر مفروغ لن نتكلم في البداهيات. وهذا هو السر في أنهم أنكروا ما يتعلَّق بالملائكة، أو بالشياطين، أو يئولونها على أحسن الأوجه إذا كانت واردة في القرآن الكريم، وتكلموا عن السحر، وعن قصة آدم، وعن كذا وكذا، وصرفوا الطير الأبابيل عن ظاهره في القرآن الكريم، ومن علماء المسلمين من قال ذلك، يعني: الطير الأبابيل مرض ميكروبي تعرَّض له جيش أبرهه لماذا؟ لأن بعض العقول لا تقبل أن طيرًا يحمل حجارةً من سجيل صغيرة يدحر بها جيشًا بأكمله، ويقضي الله عليه قضاءً مبرمًا، أليست هذه معجزة من معجزات السماء؟ فضيلة الشيخ محمد الشعراوي -عليه رحمة الله تعالى- في ردِّه على هذا الزعم -وهو يفسر القرآن الكريم- قال: من المؤكد أنه حين نزلت -يعني: سورة الفيل- كان من بين الموجودين في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن عاصر الحادثة، ولو كانت داءًا ميكروبيًّا قضى على الجيش، ولم تكن طيرًا أبابيبلَ تحمل حجارة من سجيل؛ لقالوا له: كذبت يا محمد، لم يكن هناك طير، ولا كذا، وإنما كان الأمر مرضًا معديًا فتك بالجيش كله، لكنَّ ذلك لم يحدث، ولم تنقل لنا رواية واحدة، هذا دليل من الواقع على كذب هذا. لماذا يريدون أن يجعلوا العقل قاطعًا في مثل هذا؟

أيضًا: تمجيدهم للعقل أدَّى بهم إلى تهوين من شأن الإجماع، والتقليل من قدره، وعباراتهم في ذلك كثيرة جدًّا، أيُّ إجماع تقصدون؟ ويعتبرون أنفسهم ممن خُلق بهم الإجماع، الأمة حين تصطلح على شيء وصارت على هذا قرونًا متعددةً، يأتي اليوم من يفسد عليها وحدتها واجتماعها تحت دعوى أن هذا اجتهاد عقلي أو كذا، هذا عبث هذا لا يوجد عند أمة. الأمم استقرت على أمور -حتى ليست عن طريق الوحي- أجمعت عليها حتى مع وجود من يخالفها مع أبناء الأمة، ومع ذلك لم يزعم أحد أبدًا أنه يحق له أن يخرج على القانون، أو على الدستور؛ لأن عقله لا يقبله، لماذا هم هناك يحترمون ذلك ونحن هنا نفتح البابَ على مقدساتنا من القرآن والسنة، نهوّن من إجماع أمتنا، ومن تحكم العقل في النص؟ ومن جعل العقل أو المعطيات العلمية التي لا زالت في طور التجربة حكمًا قاضيًا على ما ورد في القرآن أو في السنة، ويئولون، ويرفضون، ويبعِدون ... إلى آخره. هذه بعض ملامح المدرسة العقلية. أيضًا يكادون يغلقون باب الغيبيان، لا يريدون أن يتكلم أحد في الغيبيات. إذن نحن حددنا أن مدرسة السنة وضعت القواعد الضابطة لتمييز الصحيح والضعيف من غيره، وأدخلت في ذلك العقل، وأيضًا مباينة الحديث للمنقول من القرآن والسنة، ومن مصادمة الأصول، وأنهم قد وضعوا قاعدة تُكتب بماء الذهب أشار إليها ابن الجوزي وغيره في (تنقيح فهوم الآثر) -رحمه الله تعالى-: "إذا رأيت الحديث يباين المنقول، أو يخالف المعقول" يباين: يخالف مخالفة لا تقبل الجمع المنقول من القرآن والسنة، وأن يصادم، أو أن يخالف المعقول -الكلام عن العقؤئل- وأن يصادم الأصول أي: يصطدم بقواعد

الشرع العامة التي استنبطها العلماء من خلال الأحاديث والآيات القرآنية أي: من خلال قواعد الشرع، وصارت قواعد عامة لهذه الشريعة مثل: "المشقة توجب التيسير"، ومثل: "ما خُيّر بين أمرين إلا أخذ أيسرهما". هذه القواعد التي اصطلحت عليها الأمة، إذا وجدت الحديث يصادم شيئًا من ذلك فاعلم أنه موضوع. إذن المدرسة العقلية وضعت الضوابط، وصححت الأمور، ونقدت المتن، واحترمت العقل غير أنه العقل المحكوم بالقرآن والسنة، ليس هو العقل الذي تربَّى على موائد الغرب، ورضع من لَبانه، وتأثر بفكرهم ولا يقبل سواه، ثم هو يريد أن يفرض علينا ما انتهت إليهم دراستهم في ذلك، ومع أنهم يجتهدون في احترام مقدساتهم، إلا أنهم أشاعوا هذه الأمور بيننا؛ ليعملوا على انفصام الأمة عن هدي ربها المتمثل في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 17 حديث الذباب، ودفع ما أثير حوله من شبهات

الدرس: 17 حديث الذباب، ودفع ما أثير حوله من شبهات

تخريج الحديث، وبيان درجته.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (حديث الذباب، ودفع ما أثير حوله من شبهات) تخريج الحديث، وبيان درجته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فنتكلم عن حديث الذباب، وهذا الحديث أنموذج لما رفضوه بِناءً على أساء عقلي؛ فهو من وجهة نظرهم مخالف للعقل ولما هو معروف طبيًّا من أن الذباب ناقل للعدوى، فكيف يكون فيه شفاء!! إلى آخر ما أثاروه. نبدأ بذكر نص الحديث، ورواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الطبّ، باب: إذا وقع الذباب في الإناء، وأخرجه في كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، وله طرق كثيرة سنشير إليها بعد قليل. الحديث في (صحيح الإمام البخاري) -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا وقع الذبابُ في إناء أحدكم فليغمسه كلَّه، ثم ليطرحْه؛ فإن في أحد جناحيه شفاءً وفي الآخر داءً)) هذا نص الحديث عند الإمام البخاري -رحمه الله تعالى - مع تفاوت بين بعض الروايات في بعض الألفاظ اليسيرة، مثل كلمة: ((كله)) وردت في بعض الروايات أم لم ترِدْ في بعض الروايات. إذن الحديث يتكلم عن أن الذباب إذا وقع في إناء أحدنا فليغمسه كله، يعني يُغرِق الذباب في السائل الذي في الإناء، ثم ليقذف بالذباب إلى خارج الإناء، ثم ليطرحه -أي: يلقيه بعيدًا عن الإناء- فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء. أعداء السنة قديمًا وحديثًا يتكلمون حول هذا الحديث، ويُثيرون شُبَهًا كثيرة حوله: من هذه الشُّبه: أن هذا الحديث من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- هو أن البعض قد تكلم في رواية أبي هريرة، وننتبه إلى الشُّبَه حتى نتمكن من الرد عليها، أنه حديث

آحاد يفيد الظن فلا إشكال في ردّه، بمعنى: أن نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- مظنونة وليست متحققةً، ليست أكيدة، وأيضًا هو مخالف لقواعد الشرع. ما هي قواعد الشرع التي خالفها الحديث -على حد زعمهم- أنه يخالف قواعد الشرع في اجتناب النجاسة، وفي اجتناب المضارّ، وأيضًا يقولون: إن العلم أثبت بطلانه؛ لأن العِلْم يقطع بمضارّ الذباب، وأيضًا يقولون: إن هذه ليست عقيدة، حتى إن هذا أمر ليس من عبادات الإسلام، ولا من شرائعه، ولا من عقائده حتى ندافع عنها وحتى نستمسك بها، وهي مثْل حديث تأبير النخل، وبالتالي فإذا اعترضنا على هذا الحديث فلا غبار علينا، ولسنا نتجرأ على قواعد الشرع ولا عقائده ولا عباداته، ولا يصح للمَدرسة الإسلامية أن تتهمنا بشيء من ذلك، بل بالعكس هم يريدون أن يقولوا: إن كلامهم هذا هو دفْع شبهات عن الإسلام وتطهيره من كلام قد يُثَار حوله بأنه يخالف العلم ويأخذ بالمضرّات ... إلى آخره. وأيضًا يقولون: إن الاشتغال به إنما هو صَرْف للناس عن أمور هامة في مجالات الاختراعات والمكتشفات، والوقوف عند مثل هذه الأحاديث التي تعطل الناسَ عن الانطلاق في هذه المجالات. هذه بعض الشُّبَه التي أثارها خصوم السُّنة، وكثير منهم من أبناء الإسلام، وهم قد هيَّأَ لهم شيطانهم أنهم يدافعون عن الإسلام وعن السُّنة، وأنهم يطهرُّونها مما قد يَعْلَق بها مما يفتح بابًا للاتهام بالسنة المطهرة. نردّ على هذه الشُّبَه الواحدة تلو الواحدة، ثم نقول الفهم الصحيح للحديث والفوائد المستقاة منه. فضيلة الأستاذ الدكتور خليل إبراهيم مُلَّا خاطر -بارك الله فيه، نزيل المدينة المنورة- له كتاب اسمه (الإصابة في صحة حديث الذبابة) وهو كتاب يبحث في

صحة الحديث من النواحي الفقهية والطبية والحديثية قبل ذلك، يعني: يتكلم عن صحة الحديث، ثم يرد عن الشُّبَه التي أثاروها حوله، التي أشرنا إليها. الحديث رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، وأبو عبيدة، وأبو يعلى، وابن الجارود، وابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم، وابن السكن، والبزار، وابن قتيبة، والطبراني، والبيهقي، والطحاوي، وأبو داود الطيالسي، وابن النجار، والبغوي، وابن أبي خيثمة، وابن عبد البر، هؤلاء أصحاب كُتُب من كتب السنة، كلهم لهم طريق لرواية هذا الحديث، ليس كتابًا واحدًا، وليس هو البخاري فحسْب الذي انفرد بروايته، وإنما أشرنا بإيجاز، ونُحيل هنا على كتاب (الإصابة) لفضيلة الشيخ مُلَّا خاطر الذي تتبَّعَ طرق الحديث بكل تفصيلاتها، بل رسم لها شجرات تُوضِّح السند إلى كل صحابي، وتُبَيِّن صحة كل طريق. ولننتقل إلى النقاط المهمة المتعلقة بالحديث: أولًا: الحديث ليس من رواية أبي هريرة فحسْب، ولو كان من رواية أبي هريرة فحسب لكان على العين وعلى الرأس، لكن هم يجترئون على أبي هريرة، ومن ضِمْن المشاكل أو الشبهات التي أثاروها حول السنَّة المطهرة أنهم تجرءوا على أبي هريرة -رضي الله عنه- وكانت مراجعهم في هذا من كتب الروافض التي وقفت موقفًا شديدًا من أبي هريرة -رضي الله عنه- ذلك الصحابي الجليل الذي أجرى الله على يديه الخير الكثير للسنَّة، لا نخاف أبدًا أن ينفرد بالحديث أبو هريرة؛ فهو أستحي أن أقول: "هو عندنا ثقة!! " فهو من الصحابة العدول الثقات الذين أجمع أهل السنة والجماعة على ثقتهم وعدالتهم، ولا نبحث فيها أو نتكلم عنها، والذين أثنى الله عليهم في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة.

لكن بشكل عام هذا الحديث رواه أبو هريرة، وأبو سعيد الخُدْري، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين-. وكما قلت فإن فضيلة الشيخ خليل مُلَّا خاطر قد تتبع طرقه من رواية هؤلاء الأصحاب الأربعة، وَحَصَرَها في مباحث خاصة: طرق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- طرق حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- طرق حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وطرق حديث علىّ بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-. ثم بعد أن جَمَعَ الطرق درس الأسانيد وانتهى إلى أن الحديث صحيح كما هو إجماع أمة الإسلام، حقيقةً ليس كلامه في هذا الأمر جديدًا ولا شيء، لكنه يؤكد ما أجمعت عليه الأمة من أن هذا الحديث صحيح، وهو قد أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهو يختم كلامه في هذه المسألة فيقول: ومن الغريب جدًّا أن هذا الحديث بعينه -هو حديث الذبابة- لم يكن مما قد استدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري -رحمه الله تعالى- بل هو عندهم جميعًا مما جاء على شرطه، وفي أعلى درجات الصحة، ولم يتكلم فيه إلا من لا خَلَاق له في العصور المتأخرة، كما قال الخطابي -رحمه الله تعالى-: تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له. إن هذا الحديث قد أجمع المسلمون على الأخذ به والعمل بمقتضاه، وجعلوه أصلًا بنَوْا عليه حُكْمًا مهمًّا، وهو طهارة الماء القليل والطعام إذا وقع فيه ما لا نفسَ له سائلة، وقاسوا على الذبابة ما شاكلها مما يرتبط معها بنفس العلة، كما أن الأطباء المسلمين القدامى ذكروا أمورًا مهمة ما زال معمولًا بها في كثير من البلاد الإسلامية، إلا مَن أصاب بصيرتَه العمى؛ ولهذا فإني سأبحث في هذا الباب من ناحيتين: اعتماد الفقهاء على هذا الحديث، ما ورد على ألسنة الأطباء القدامى والمحدثين وفْق هذا الحديث.

هذه الكلمات التي ختم بها الشيخ مُلَّا -بارك الله فيه- كلامَه عن صحة الإسناد، إذن الإسناد صحيح والمتن صحيح، وكما قلت: أمَّتُنا كلها تلقت هذا الحديث بالقَبول، وأجمعت على أنه صحيح مائة في المائة، لا يخالف لا العقل ولا الواقع ولا الطب ولا أيَّ شيء. إذن هذه هي الشبهة الأولى، أن الحديث صحيح، أبو هريرة -رضي الله عنه- لم ينفرد بروايته، وأنه رواه معه من الصحابة ثلاثة غيره فأصبح الجميع أربعة: أبو هريرة، أبو سعيد الخدري، أنس بن مالك، علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين- وامتلأت بهم المصادر التي أشرنا إليها أكثر من عشرين كتابًا، والذي ذكر ذلك لم يحصِ الكتب، لا يكاد يوجد هناك ديوان من دواوين السنّة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة إلا ذكرتْ هذا الحديث الصحيح. أيضًا الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في سلسلة الأحاديث الصحيحة يتكلم عن هذا الحديث، هو هنا ذكر له ثلاثة طرق: من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك -رضي الله تعالى عنهم- ولم يُشِرْ إلى حديث علي بن أبي طالب الذي أضافه الشيخ مُلَّا خاطر -بارك الله فيه- وهذا من بركات تعاون أهل العلم على إثبات الحقائق الشرعية، واجتماع جهدهم على شيء ما، فيضيف بعضهم إلى جهود الآخرين. وذكر الشيخ الألباني -رحمه الله- طرق حديث أبي هريرة، وأنه أخرجه البخاري والدارمي وابن ماجه وأحمد، وفي بعض الروايات زيادة له، وأيضًا في حديث أبي سعيد رواه أبو داود والحسن بن عرفة الجزئي ... إلى آخره، وفيه زيادة: ((وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء؛ فليغمسه كله)) يعني: إن الذباب إذا وقع في إناء أحدنا فليغمسه فيه، ثم ليطرحه، ينزعه من هذا الإناء ويلقيه بعيدًا عن الإناء، ثم يستعمل المادة الموجودة في الإناء، أيًّا كانت، في بعض زيادات

الحديث، لماذا ذلك؟ لأنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء، يعني: ينزل في السائل بالجناح الذي فيه الداء، فإذا غمَسْت الذبابة وأغرقْتها في السائل تحققت المعادلة الطبية ما بين الترياق والسم، أو ما بين الداء والدواء، فالجناح الذي فيه الشفاء تعادل مع الجناح الذي فيه الداء، وإلا لو تركت الجناح الذي فيه الداء فقط لأصبح ضارًّا بمن يتناول هذا السائل أو هذا الطعام أو الشراب الذي في الإناء بدون أن يفعل كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. بعد أن أشار الشيخ الألباني إلى صحة الحديث تكلم عن روايات أخرى للحديث، وحَكَم عليه بما يليق بحاله، وسننقل كلامه بعد ذلك في الرد على أنه مخالف للأطباء أو للواقع أو ما شاكل ذلك. أيضًا فضيلة الشيخ الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه الطيب (الدفاع عن السنة) تكلم عن حديث الذباب، حتى ورد أنه قال: حديث الذباب وبيان أنه معجزة نبوية، قال: وروى البخاري وابن ماجه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء)) وهو يرد هنا على بعض الذين تكلموا في هذا الحديث، لكنه وضع هذا العنوان وتكلم عن صحة الحديث، يقول: هذا الحديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ولم أجد لأحد من نقاد الحديث طعنًا في سنده، فهو في درجة عالية من الصحة، وكل ما وقع من الطعن فيه من بعض المتساهلين إنما هو من جهة متنه ومدلوله. وهو هنا يتخفف في وصفه من بعض المتساهلين، فقد قالوا: كيف يكون الذباب الذي هو موبأة الجراثيم فيه دواء؟!! وكيف يجمع الله الداء والدواءَ في شيء واحد؟!! وهل الذباب يعقل فيقدم أحد الجناحين على الآخر؟!! هنا فضيلة الشيخ الدكتور يذكر شبهًا أخرى يثيرونها: هل الذباب عنده نوع من العقل

حتى لدرجة أنه وهو ينزل في سائل أو في إناء يقدم أحد الجناحين على الآخر؟!! وكيف يجمع الله الداء والدواء في شيء واحد؟!! والذباب مجتمع للجراثيم؛ لأنه كلما حطَّ على شيء جمع من قاذوراته فينقله للأشياء الأخرى ... إلى آخره. قبل أن أرد على الشُّبَه يثير الشيخ مُلَّا خاطر -بارك الله فيه- مسألة طيبة: يتسبب في وقوع بعض الناس في خطأ، وهو عدم تفريقهم بين ما هو مستحيل وما هو مستغرَب، قد يُستغرَب هذا لكنه لا يستحيل، المستحيل يعود إلى أصل الشيء ونُكرانه، إنما المُستغرَب يعود -كما يقول على حدّ تعبيره- إلى ضعف المتصوِّر نفسه وعدم إدراكه، يعني: أنا لا أستطيع أن أستوعب المسألة، المسألة ليس فيها خلل، أنت لو جئت برجل عاميّ وكلّمته مثلًا عن "الأوزون" واختراقه، وعن مثلًا هبوط الإنسان على سطح القمر، ربما استبعد ذلك جدًّا أو رأى أنه مستحيل، لكن الذين تمرّسوا في المسائل العلمية لا يستبعدون هذا، فهناك فرق بين الاستبعاد وبين الاستغراب؛ ولذلك في نظري أن الحديث وبشكل عام في الإسلام ليس فيه ما يخالف العقل أو يرفضه الواقع أو يحكم باستحالته؛ الحمد لله إسلامنا بريء من كل ذلك. ليس في إسلامنا ما نخجل منه أو نحاول أن نخفيَه، أو نتمنى أن لم يمكن قد حدث والحمد لله، كل ذلك غير موجود بإذن الله -تبارك وتعالى- ولن تجد تناقضًا أبدًا، نقصد بالتناقضِ التناقضَ الشديد التباين التام الذي يستحيل معه الجمع بين الأمرين المتناقضين، لن نجد في شيء من الإسلام هذا أبدًا، وبناء عليه حينما نعلم أن الإسلام قد قال كذا في مصادرنا الصحيحة، وأن علماء الأمة قد حكموا بصحة الأحاديث، قال كذا في القرآن أو في السنة، وحكم العلماء الأثبات الثقات الأجلاء الذين أفنَوا أعمارهم في خدمة السنة، حكموا بصحة ما قيل، علينا أن نقبله على العين وعلى الرأس بدون تردد، ولا نلتفت أبدًا إلى الذين يحاولون أن يُعِيقوا ذلك.

الرد على ما أثير حول الحديث من شبهات.

على كل حال لو استغربنا بعض الأمور فلا ينبغي أن ننكرها، ولا أن نقول باستحالتها، إنما علينا أن ندرسها بعمق حتى يزول هذا الاستغراب، لا أن يكون الاستغراب حاجزًا يتضخم إلى أن يصل إلى حد الإنكار والرفض الذي يوقع صاحبه في معاندة القرآن والسنة المطهرة. هذه خلاصة المسألة، فنحن لا نصادر على من يستغرِب، ولكن نعتب على من يتوقف عند حدود الاستغراب ثم يتضخم هذا الاستغراب عنده ليصل به إلى حد الإنكار والحكم بالاستحالة، فيصبح مصادمًا لنصوص القرآن الكريم ونصوص السنة المطهرة التي ثبتت صحتها عند علماء الأمة الأثبات. إذن نفرغ من هذا أن الحديث صحيح، وأنه ورد من طرق متعددة، وأنه ثبتت صحته، وأجمع علماء الأمة، ولا نجد واحدًا من علمائنا الأثبات القدامَى الذين نظروا في السنة ومنحوا الإجماعَ على حديث البخاري -أي: على صحته الإمام البخاري والإمام مسلم، رحمهما الله تعالى- وقلنا: إن الأمة قد تلقت أحاديثهما بالقبول وأجمعت على ذلك، لم نجد واحدًا من هؤلاء الأثبات توقف عند هذا الحديث واعترض عليه. الرد على ما أثير حول الحديث من شبهات الآن ندخل إلى بعض الشُّبَه التي أثاروها شبهةً شبهةً: كيف يعرف الذباب أنه يحمل في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً؟ وكيف أنه ينزل بالجناح الذي فيه الداء؟ هل الذباب عاقل حتى يستطيع أن يدرك ذلك؟ لو أنكرتَ ذلك، ما المانع أن يلهمه الله -تبارك وتعالى- ذلك، الذباب لا يتحرك بمفرده، يتحرك بفطرته التي فطره الله عليها، وليس الذباب فحسب، الحية فيها

السم وفيها الترياق، النحل فيه السم وفيه العسل، من الذي ألهم النملة وهي تحمل الحبة أن تخرقها لكي لا تَنبُت حتى تستطيع أن تحتفظ بها. عشرات المخلوقات التي ليست من أصحاب العقول، لها أمور فطرها الله عليها: تتقي الخطر، كل الحيوانات تتقي الخطر، وتعرف مَن يقف ضدها في هذا الكون وتهرب منه، وتفر وتبحث عن نفسها عن مأوى، وعن مفر، وعن مهرب، ذلك نراه بالعين حتى في الحيوانات المفترسة التي هي تستطيع أن تدافع عن نفسها. كل واحد فُطِر على أشياء يهتدي بها إلى ما ينفعه في المطعومات والمشروبات، وفي درء الخطر عن نفسه، في كل الأمور، هاتِ أي حيوان وألقِ به في النار مثلًا، واترك له الحرية في أن يبتعد عنها، لن يدخل، كيف عرف ذلك؟ هذا أمر فطريّ فطره الله عليه، يعني: لماذا يفر الفأر حين يرى القط؟ أين محل التفكير مثلًا، ويفر سريعًا ويهرب ويبحث عن ملاذ وملجأ حتى لا يفتك به القط، لماذا يهرب القط حين يرى الكل؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا ... ؟ أسئلة كثيرة تدحض في وضوح وجلاء إحدى الفريات التي بنوا عليها رفضهم للحديث. هل الذباب عاقل حتى يميز؟ نعم، الذباب يتحرك بالفطرة، يتحرك بما جبله الله عليه، وشأنه في ذلك شأن المخلوقات الكثيرة التي نراها رأيَ العين، وضربنا أمثلة بها. إذن هذه الشبهة مردود عليها في وضوح وجلاء. أيضًا هو ينزل بالجناح الذي فيه الداء بالفطرة يتقي هذا، أخبر به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- ينزل بالجناح الذي فيه الداء، يدفع عن نفسه الخطر بذلك، أيضًا أشرنا كل المخلوقات تقريبًا اهتدت بفطرتها المتضادات، المتضادات تخرج من

بطون المخلوقات جميعًا، والله -عز وجل- قد امتن علينا: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} (النحل: 65، 66) من بين الفرث والدم يُخرِج الله لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} (النحل: 67) تتخذون شيئًا يسكر يذهب العقل: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (النحل: 67) ولذلك وصف الرزق هنا بالحسن، كل شيء صالح لهذا، وصالح لهذا، إما بالاستعمال البشري، وإما بالفطرة التي فطره الله عليها، كل ذلك وارد في الأحاديث النبوية. إذن لا نستطيع أن نرد هذا الأمر، إنما نقول: وقد ضربنا أمثلة كثيرة لهذا الأمر من واقع المخلوقات التي خلقها الله -تبارك وتعالى-. أيضًا من ناحية أنه مخالف للعقل: أيّ عقل هذا؟ مادام أن الذباب في هذا الصنيع فائدة لنا أن تحدُث المعادلة بين الترياق وبين الداء، إذن هي فائدة، وأيّ عقل ينكر هذه الفائدةَ هو العقل الذي يراجع نفسه، عليه أن يكمل نفسه بالمواد العلمية، أو بالبحث العلمي الذي يستطيع أن يتأكد من هذه الحقيقة. إذن قوله: "إنه يخالف العقل" عقولنا تقبله، بل إني أرى أن هذا الحديث فيه سبق اقتصادي، فيه سبق مالي طيب جدًّا، يعني لو وقع الذباب في آنية من العسل فيها بضعة كيلوهات من العسل، من اللبن، من السمن، نرميه؟! من الذي يقول ذلك؟ أيّ عقل؟ هاتِ أي سيدة من رَبات البيوت التي تحافظ على المعاش وعلى النقود وعلى كذا، صدرها يضيق جدًّا بأن تُلقِيَه وأن تُرِيقَه؛ لأن الذباب وقع فيه، بل إنها لو لم تقل: "نغمسه" ستتصرف، تغليه في النار أو تقدحه في السمن

وما شَاكَلَ ذلك؛ حتى تموت الميكروبات، لو لم ترَ أن في أحد جناحيه داء، لو غاب عنها الحديث، لكنها بفطرتها سيشق عليها جدًّا أن تهدر هذا الأمر الذي هو يتكلف الآن، والدنيا غلاء الآن في كل مكان في العالم. أقول: إن الحديثَ فيه سبق اقتصادي، وأيضًا ليس هذا هو الرد الوحيد. أيضًا من ناحية الرد على الشبهات الأخرى هو مخالفة الطب، عندنا نُقول جدًّا نقلها العلماء عن الحديث ومدى موافقته لأهل الطب، فضيلة الشيخ الألباني -رحمه الله- يقول: هم يزعمون أنهم وقفوا على سَبْق علميّ أن هذا الحديث يعارض ما قاله أهل الطب. يقول الشيخ: ثم إن كثيرًا من الناس يتوهمون أن هذا الحديث يخالف ما يقرره الأطباء، وهو أن الذباب يحمل بأطرافه الجراثيم، فإذا وقع في الطعام أو في الشراب عَلَقت به تلك الجراثيم، والحقيقة أن هذا الحديث لا يخالف الأطباءَ في ذلك، بل هو يؤيده، يعني: الحديث لم يقل: إن الذباب لا يحمل الجراثيم، الذي يفهم ذلك من الحديث العيب في فهمه وليس في نَصّ الحديث، لم ينفِ الحديث أبدًا أن الذباب يحمل الجراثيم، بل لعل الحديث يؤكد هذه الحقيقة، يحملها في أحد جناحيه، ووضع الله ترياقًا مقابلًا لهذا الداء في الجناح الآخر فيه شفاء، كل المطلوب منك إذا أردت أن تستفيد من هذه المادة التي وقع فيها الذباب، أن تغمسه فيه ثم تنزعه وتطرحه بعيدًا عن الإناء، ثم استفِد بهذا الذي في الإناء. إذن الحديث لم يتعارض مع مقررات الطب في أن الذباب يحمل الجراثيم، بل هو وضَعَ العلاج لهذه الحالة، فكأن الحديث أخبر بما لم يُحيطوا بعلمه، أو هو في الحقيقة أخبر بهذا، وعلينا أن نحمد الله على هذه النعمة، بدل أن نُرِيق تلك المواد

الطيبة الغالية المفيدة لمجرد أن الذباب وقع فيها، علينا أن نحمد الله -عز وجل- أن هدانا إلى هذا على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى لا نهدر أموالنا ونضيعها، خصوصًا أنه مهما كانت درجة النظافة في أي بيت من البيوت، أو في أي مجتمع من المجتمعات، فإنه لن يستطيع أن يتحرَّز تمامًا من الذباب ومن وقوعه في بعض الأواني، هذا تحرّز صعب جدًّا إن لم يكن مستحيلًا، فهدانا الله -عز وجل- إلى هذا الحل. يقول الشيخ -رحمه الله-: والحقيقة أن الحديث لا يخالف الأطباء في ذلك، بل هو يؤيدهم؛ إذ يخبر أن في أحد جناحيه داء، ولكنه يَزيد عليهم فيقول: ((وفي الآخر شفاء))، فهذا مما لم يحيطوا بعلمه، فوجب عليهم الإيمان به إن كانوا مسلمين، وإلا فالتوقف إذا كانوا من غيرهم إن كانوا عقلاء علماء؛ ذلك لأن العِلْم الصحيح يشهد أن عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه حقيقةً، هل أنا لأني لا أعلم الشيء أقول: إنه غير موجود، هذه الأمور تنافي بداهيات العقول. نقول ذلك على افتراض أن الطب الحديث لم يشهد لهذا الحديث بالصحة، وقد اختلفت آراء الأطباء حوله، وقرأت مقالاتٍ كثيرة في مجلّات مختلفة، كل يؤيد ما ذهب إليه تأييدًا أو ردًّا، ونحن بصفتنا مؤمنين بصحة الحديث، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، لا يهمنا كثيرًا ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب؛ لأن الحديث برهان قائم في نفسه لا يحتاج إلى دعم خارجيّ، ومع ذلك فإن النفس تزداد إيمانًا حين ترى الحديث الصحيح يوافقه العلمُ الصحيح. ولذلك فلا يخلو من فائدة أن أنقُل إلى القرّاء خلاصة ألقاها أحد الأطباء في "جميعة الهداية الإسلامية" في مصر حول هذا الحديث، قال:

يقع الذباب على الموادّ القذرة المملوءة بالجراثيم التي تَنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضَها بأطرافه ويأكل بعضها، فيتكون في جسمه من ذلك مادة سامّة يسميها علماء الطب "مبعد البكتريا"، وهي تقتل كثيرًا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حيةً أو يكونَ لها تأثير في جسم الإنسان في حال وجود "مبعد البكتريا"، وأن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب، هي أنه يحول البكتريا إلى ناحيته، وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب، فإن أقربَ مُبيد لتلك الجراثيم وأول واقٍ منها هو "مبعد البكتريا" الذي يحمله الذباب في جوفه قريبًا من أحد جناحيه، فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه، وغمْس الذباب كله وطرحه كافٍ لقتل الجراثيم التي كانت عالقة، وكافٍ في إبطال عملها. هذا كلام الشيخ الألباني -رحمه الله- نقلًا عن أحد الأطباء. ويضيف ويقول: وقد قرأت قديمًا في هذه المجلة بحثًا إضافيًّا في هذا المعنى للطبيب الأستاذ سعيد السيوطي، مجلد العام الأول، وقرأت كلمة في مجلد العام الفائت ص 503 للطبيبين: محمود كمال، ومحمد عبد المنعم حسين، نقلًا عن مجلة "الأزهر"، ثم وقفت على العدد 82 من مجلة "العرب الكويتية" ص 144 تحت عنوان: "أنت تسأل ونحن نجيب" إلى آخر الكلام، يعني: ينقل عن أحد الذين اعترضوا على الحديث فيرد عليه بتفصيل يقول في النهاية: وبهذه المناسبة فإني أنصح القراء الكرام بألا يثقوا بكل ما يُكتَب اليوم في بعض المجلّات الثائرة أو الكتب الذائعة من البحوث الإسلامية، وخصوصًا ما كان منها في علم الحديث، إلا إذا كانت بقلم من يُوثَق بدينه أولًا، ثم بعلْمه واختصاصه فيه ثانيًا؛ فقد غلب الغرور على كثير من كُتَّاب العصر ... إلى آخره.

خلاصة كلامه: نعتمد على أهل التخصص فيها. إذن أهل الطب في أبحاثهم أو بعضهم في أبحاثهم لا يستبعد ولا يرفض هذا الكلام الذي يُثْبِت أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، ويؤكد هذه الحقيقة العلمية. ويقول الشيخ أبو شهبة -رحمه الله- في كتابه (الدفاع عن السُّنة): وقد شاء ربك العالِم بما كان وما يكون أن يُظهِر سِرّ هذا الحديث، وأن يتوصل بعض الأطباء إلى أن في الذباب مادة قاتلة للميكروب، فبغمسه في الإناء تكون هذه المادة سببًا في إبادة ما يحمله الذباب من الجراثيم التي ربما تكون عالقةً به، وبذلك أصبح ما قال العلماء الأقدمون تجويزًا أصبح حقيقة مُقَرَّرة. وإليك ما ذكره أحد الأطباء العصريين في محاضرة بـ"جمعية الهداية الإسلامية" بمصر، قال: يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضها بأطرافه ويأكل البعض الآخر ... إلى آخر الكلام الذي ذكره، أو بعضه الذي ذكره فضيلة الشيخ الألباني -رحمه الله- ينقل نقلًا آخر يقول: وفي مجلة "التجارب الطبية الإنجليزية" عدد 1307 سنة 1927 مَا تَرْجَمَتُهُ: لقد أُطْعِم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض، وبعد حينٍ من الزمن ماتت تلك الجراثيم واختفى أثرها، وتكوَّن في الذبابة مادة سامة تسمى "بكتريوفاج"، ولو عُمِلتَ خلاصة من الذباب لمحلول ملحيّ، لاحتوت على هذه المادة التي يُمكِنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولِّدة للأمراض. وقد كتب بعض الأطباء الغربيين ذلك. وبذلك يظهر أن هذا الحديث الذي عدَّه بعض المتساهلين كذبًا من أقوى المعجزات العلمية على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

وقد كتب طبيبان فاضلان بحثًا قيّمًا حول حديث الذباب مدعَّمًا بالأدلة، وذِكْر المراجع العلمية التي رجعَا إليها في إثبات صحة هذا الحديث بما لا يدع مجالًا للشك فيه، وإليك هذا الحديث بنصه. ينقل الشيخ أبو شهبة هذا الذي قاله الطبيبان الفاضلان: الدكتور محمود كمال، والدكتور محمد عبد المنعم حسين، وأيضًا هذا قد أشار إليه فضيلة الشيخ الألباني -رحم الله الجميع- والشيخ أبو شهبة يشير إلى أنَّ نُشِرَ هذا البحث القيم في مجلة "الأزهر" عدد شهر رجب لسنة 1378 هجرية، هذا البحث الذي كتبه هذان العالمان الفاضلان من أهل الطب -أي: من أهل التخصص- يؤكدان فيه ما يحمله الذباب من فرصة للتداوي، وأنه بنفسه يقضي على بعض الميكروبات، ليس التي نزل بها فقط، وإنما على بعض الميكروبات الأخرى، كما ذهبت إليه الأدلة. استدل فيه العالمان الجليلان بكثير من أبحاث أهل الغرب التي يعتبرها كثير من الباحثين عندنا كأنها مُنَزَّلة بوحي من الله، والعجيب أنهم عند ردّهم لهذا الحديث لا يشيرون إلى هذه المراجع، هذا الخلل العلمي الذي نقول به دائمًا، يأخذون من المراجع ما يوافق أهواءَهم، ما يتفق مع نظراتهم، هم حكَّموا العقل أولًا، ثم بعد ذلك بحثوا عن مؤيدات للنتيجة التي انتهوا إليها، نتائجهم ليست وليدة البحث والتنقيب، لا، إنما هي وليدة الرأي السابق المبني على الهوى وعلى النظر العقلي المجرد عن الأدلة العلمية، الطبيبان اللذان كتبَا هذا البحث في مجلة "الأزهر" في عدد رجب سنة 1378 أشارَا إلى كثير من البحوث التي قام بها كثير من علماء البلاد الغربية، وأشاروا إلى بلادهم، وأشاروا إلى المصادر التي ذَكرت هذه المعلومات، ذكروا العلماء بالاسم، وذكروا بحوثَهم والمجلات التي

نشرتها ... إلى آخر هذا، مما يدل في النهاية على أن الحديث صحيح بإذن الله -تبارك وتعالى-. ولذلك يقول الشيخ محمد أبو شهبة: وبعد، فلعلك أيها القارئ ازدت يقينًا بصحة هذا الحديث، واطمأننتَ إلى أن الإذعان والقبول لِمَا صح عن الرسول، أحرى بالمؤمن المتثبت وأَوْلى، وفي كل يوم تتقدم فيه العلوم والمعارف البشرية يُظهرُِ الله سبحانه من الآيات ما يدل على صدق النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وصدق معجزته الكبرى، وهي القرآن الكريم، وصَدَقَ الله حيث يقول {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53). إذن الشُّبَه التي أثاروها كلها أن الذباب كيف عقل؟ قلنا: هذا موجود في كل المخلوقات تقريبًا، كيف في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء؟ هذا ترياق من الله -عز وجل- العلم لم يعترض، وكثير من الأبحاث العلمية التي أثبتَتْ هذا، وليست على يد أطباء مسلمين فحسب، بل على يد كثير من الباحثين الغربيين الذين ذكرنا الإحالة إليهم وعليهم لمن أراد أن يتتبع. وأخونا الفاضل فضيلة الدكتور عبد المهدي عبد القادر في كتاب له (شبهات حول السنة) يقول: أعداء السنة قديمًا وحديثًا يدندنون بهذا الحديث، ويدَّعون أنه مناقض للعقل، وأنه يأباه الطبع سبحان الله! وأتساءل معهم: أَلَمْ تستعملوا "البنسلين" إذا مرضتم؛ إنه مصنوع من العفن، أما "السلبتومايسين" فإنه من طفيليات العفن وجراثيم المقابر، والعقرب في لسعتها السم الناقع وفي جسمها الدواء النافع، إنكم تَقبَلون ذلك عن الطب، أما إذا جاءكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأنتم تعترضون وتمرضون، أما نحن المسلمين فإننا نقبل هذا الحديث، وبكل الأحاديث

بكل سعادة وبكل سمع وطاعة؛ فإنه كلامُ مَنْ أرسله الله وعَصَمَهُ -صلى الله وسلم وبارك عليه-. إننا استفدنا من هذا الحديث أشياء كثيرة، منها: أن الذباب ناقل للأمراض فنحترز منها ما أمكن، لقد كنا نعلم، يعني: هذه فائدة نشير إليها، ونحن قلنا: إن الحديث لم يتعارض مع ما قاله العلم في هذا أنه يحمل الجراثيم في أحد جناحيه، نعم هذه فائدة، أنه حينما ينزل في طعام أو شراب فإنه يضع جناحه الحامل للمرض كما في الرواية التي قالت: ((وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء))، وفي رواية ((إنه يقدم السامة ويؤخر الشفاء)). قال بعض العلماء: تأملناه فوجدناه يتقي بجناحه الأيسر، فعُلِم أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء، فيه دواء يقضي على المرض الناتج عما في جناحه المُمْرض، وإن هذا الحديث يفيدنا هذه الفوائد وأكثر منها. وجاء الطب والبحث فاعترف بهذا وسلَّم به، فمنذ أن عُرفت المعامل وهذا الحديث أمامهم، والبحوث تفيد أن الذباب حامل جيد للجراثيم، وأجهزة الصحة في العالم تحذِّر مِنْ تناوُل الأطعمة التي يقع عليها الذباب، إنه من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- أن يخبرنا في زمنه -يعني: زمن لم تكن فيه معامل ولا أبحاث- أن الذباب حامل للأمراض، ولم تعرف البشرية هذا إلا حينما اكتشف ذلك الباحث الألماني "بريفيرد" سنة 1891. وفي الفترة من 1947 إلى 1950 تمكن الباحثان الإنجليزيان "أينشتاين" و"كوك"، والباحث السويسري "روليوس" من عزل مادة سمَّوها "جفاسيد" استخرجوها من فصيلة الفطريات التي تعيش في الذباب، وتبين لهم أن هذه المادة مضادة حيوية تقتل جراثيم مختلفة من بينها "الدسنتريا" و"التيفود"، كما تَوَصَّل غيرهم إلى هذه النتائج وغيرها ... إلى آخره. وهذا أيضًا من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- أن يخبر قبل أكثر من 1400 عام أن الذباب في أحد جناحيه شفاء، ولم تعرف البشرية ذلك إلا بعد 1370 سنة.

لو كان هناك إنصاف في الفكر الإنساني المعاصر لاعترفتْ البشرية للإسلام بالسَبْق العظيم في مثل هذه المسائل وفي غيرها، فقد تكلَّمَ -صلى الله عليه وسلم- على مسائل غاية في الأهمية امتثلها المسلمون، فاستفادوا بها وقلَّدهم غيرهم مدركين عظمة الحضارة الإسلامية التي ارتقت بالإنسان، فاستفادوا أيضًا بها ... إلى آخر ما قال. وأيضًا أحيل على كتابه (دفع الشبهات عن السنة النبوية) صحيفة 80 وما بعدها، ونقَلَ نُقولًا عن أن الذباب لعلاج الجروح والقرح، الذباب حتى بجسمه يُفْرك ويضاف إليه بعض المواد وبجسده تعالج به بعض الجروح والقرح والتقيحات، وهذا مما أثبتته معامل الغرب للذين لا يقتدون إلا بالغرب ولا يثقون إلا في كلام علماء الغرب. هكذا تتعدد الأدلة وأقوال علمائنا، ولكنني أحيل إلى كتاب (الإصابة في صحة حديث الذبابة). الحقيقة الشيخ -جزاه الله خيرًا- جمع ما يتعلق بهذا الحديث من ناحية الطرق ودرسها. إذن الحديث أثبتَ صحتَه، وأن أبا هريرة لم ينفرد به، وتكلم عن الفوائد الفقهية، ومن خلال فقه المذاهب، أقوال الأحناف، مثلًا: إنه تكلم عن طهارة الذباب إذا وقع في السائل، وعمَّا يقاس مثله مثل كذا، وأنه يستفاد بهذا السائل، يعني: أحكام فقهية كثيرة؛ لأن علماءنا تقبَّلوا الحديث ويرضون به، بل يحمدون الله على نعمته فبنوا أحكامهم، فالحديث عندهم لم يكن محل شك أبدًا؛ ولذلك استفادوا منه المسائل الفقهية كما يستفيدون وكما يستمدون بغيره من الأدلة. وتكلم فيه أيضًا عن الناحية الطبية في هذا الحديث عند المتقدمين وعند المتأخرين، وأنهى كلامه.

يقول: حاول المغرضون الذين أعْمَتْهم الحضارة الغربية ببريقها وأطمستْ بصائرهم، فلم يَعُدْ يعرفون القياس إلا بمقاييس الغرب، ولم يزِنُوا إلا بموازينهم، ولم يدركوا إلا ما وافق هواهم، إن في هذا الحديث معجزتين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن يخطر على بال هؤلاء، أو لم يدُرْ في خَلَدهم، إِنَّ هاتين المعجزتين قد اكتُشِفَتَا في العصور المتأخرة ولم يكن يعرفهما الناس من قبلُ، إنما كان المسلمون المؤمنون يُسلِّمون بصحة الحديث اعتقادًا منهم بصدق المُخْبِر به -صلى الله عليه وسلم- وهذا نابع من إيمانهم القوي برسولهم وبما جاء به. أما المعجزة الأولى التي أثبتها هذا الحديث ولم تُعْرَف إلا في العصور المتأخرة: فهي إثبات الداء والمرض في الذباب، إن هذا الحديث قد أثبت أن في الذباب داءً، وقد كان هذا الحدث العلمي الذي أخبر عنه هذا الحديث ساب قًا للاكتشافات الحديثة بمئات السنين ... إلى آخره. أما المعجزة الثانية: فهي إثبات الشفاء في الذباب، وإن الاكتشافات العلمية الحديثة والتي لم تنتهِ بعدُ، تُثْبِت وجود عنصر الشفاء، وهو المضاد الحيوي القاضي على الجراثيم والبكتريات، أو "البكترويوفاج" القاضي على الميكروبات، وهذا عنصر شفاء، أو الدواء؛ إذ كل منها كافٍ في القضاء على الجرثوم والميكروب الذي يحمله الذباب. إن المسلمين الأوَّلِين قد أخذوا الحديث بالتصديق والإيمان من غير أن يعرفوا أن فيه دواءً وداءً، جراثيم ومضادات حيوية -يعني: المصطلحات الحديثة- لأن هذا كله لم يُعْرَف ولم يتبيَّن إلا في العصر الحالي، ومع هذا كانوا يأخذون بالحديث عمليًّا، فما موقفُ المسلمين المعاصرين بعد أن اكتشف لهم تصديق الخبر النبوي علميًّا وعمليًّا ... ؟ إلى آخر ما قال.

إذن الجواب من العقل المُنْصف هو الوسيلة، اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-. إذن هذه كلها سياحة مع هذا الحديث، والأمر يتحمل أكثر من هذا ليتبين من خلاله أننا ندين الله تعالى بصدق هذا الحديث وبالعمل به. ثم يختم الشيخ مُلَّا خاطر -وهذا أمر معروف- كلامَه: بأن الحديث الأمر الذي فيه أمر إرشاد، على كلٍّ الذي لا تطيب نفسه بذلك الحديث لا يجبر على الفعل، الذي تطيب نفسه بهذا الصنيع فليصنع هذا، إذا وقع الذباب في الإناء يغمسه ثم يطرحه؛ لأنه قد تحققت المعادلة بين الداء والدواء وبين السم والترياق، وإن لم تطب نفسه ويريد أن يُرِيقه فَلْيُرِقْه، لكنْ لا يعترض على الحديث ولا يرفضه، يقول: إن نفسه قد تقززت، أو عافته نفسه، لكن مع اعتقاده بصحة الحديث تمامًا. وصلُ الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 18 حديث الإسراء والمعراج، ودفع ما أثير حوله من شبهات

الدرس: 18 حديث الإسراء والمعراج، ودفع ما أثير حوله من شبهات

تخريج الحديث، وبيان درجته.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (حديث الإسراء والمعراج، ودفع ما أثير حوله من شبهات) تخريج الحديث، وبيان درجته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: حديث الإسراء والمعراج: وهذا أيضًا من الأحاديث التي تكلموا فيها بعقولهم وأثاروا الشبه حولها؛ مما يجعلنا دائمًا في حاجة إلى مناقشة حدود العقل في الكلام عن الغيبيات، وعن أمور الوحي، وعن المعجزات، وما إلى ذلك للتنبيه على أن هذا إقحام للعقل فيما ليس من مجال عمله، وهذا ليس احترامًا للعقل أبدًا، وحين نتصدى لهذا فإن ذلك ليس من باب المصادرة على العقل في حرية التفكير، وما إلى ذلك على كل سنحاول أن نفهم وجهة نظرهم ونتوقف مع بعض الشبهات التي أثاروها حول الإسراء والمعراج، ونرد عليهم في ذلك، ونبدأ ببيان الحديث أو ذكر الحديث، وهو حديث طويل، وهو أيضًا موجود في كل كتب السنة من مصادرها، يعني نقول بلا مبالغة: لا يوجد مصدر من مصادرها في السنة إلا وذكر معجزة الإسراء والمعراج بتفصيلات طويلة جدًّا. الحديث ننقله الآن من البخاري: رواه البخاري في صحيحه: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن مالك بن صعصعة -يعني: صحابي يروي عن صحابي-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثه عن ليلة أُسري به)) هذه بداية الحديث. ((بينما أنا في الحَطِيم -وربما قال: في الحِجْر)) يعني: إما هنا أو هنا ((إذ أتاني آتٍ فقال: وسمعته يقول: فَشَقَّ ما بين هذه إلى جنبي)) يعني: شَقَّ من صدر النبي الشريف من أعلاه إلى منطقة الشعر من أسفل، واستخرج قلبه الشريف ((فاستخرج قلبي، ثم أُتِيت بطَست من ذهب مملوءةً إيمانًا فغسل قلبي، ثم حُشِيَ ثم أُعِيد)) الرحلة بدأت بشق صدره -صلى الله عليه وسلم- ((ثم أُتِيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض هو البُراق)) أحد رواة الحديث اسمه الجارود يسأل

سيدنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- أَهُوَ البُرَاق يا أبا حمزة؟ قال: "نعم، يضع خطوه عند أقصى طرفه". يعني: عند أقصى ما يصل إليه نَظَرُه. إذن بعد شق الصدر الشريف وإعادته إلى مكانه والْتِئَامه أُتِي بالبُراق، وهو دابة دون البغل وفوق الحمار، وخطوته إلى أن ينتهي بصره إلى مدّ بصره، إذا انطلق بصره إلى عشرات الكيلو مترات هي خطوة واحدة. ((فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به -قال- فَنِعْمَ المجيء جاء فَفَتَح، فلما خَلَصْتُ فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فَسلِّم عليه، فسلمتُ عليه فردّ السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسِل عليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فَنِعْمَ المجيء جاء فَفُتح -أو فَفَتَح- فلما خَلَصْتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنَا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما، فسلمت فردَّا ثم قالَا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صَعِد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فَنِعْمَ المجيء جاء فَفُتح -أو فَفَتَح- فلما خَلَصْتُ فإذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلمت عليه فَرَدَّ ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح)). وهكذا في الرابعة التقى بإدريس -عليه السلام- وفي الخامسة التقى بهارون -عليه السلام- وفي السادسة التقى بموسى -عليه السلام- وفي السابعة التقى بأبي الأنبياء الخليل -عليه السلام- كلهم رحبوا به، وألقى عليهم السلامَ.

((ثم رُفعت إلى سِدْرة المُنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قِلال هَجَر، وإذا ورقها مثل آذان الفِيَلة، قال: هذه سِدْرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار؛ نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رُفع لي البيت المعمور، ثم أُتِيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبنَ، فقال: هي الفِطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فُرضت عَلَيَّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم ثم رجعت فمررت على موسى فقال: بما أُمِرتَ؟ قال: أُمِرْتُ بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناسَ قَبْلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك، فاسأله التخفيفَ لأمتك، فرجعت فَوضَع عني عشرًا)). وظلت المراجعة إلى أن أُمر بخمس صلوات بعد أن استحى النبي -صلى الله عليه وسلم- من مراجعته لربه: ((ون ادى مُنادٍ: أمضيت فريضتي، وخَفَّفْتُ على عبادي)) هذا حديث أخرجه البخاري ومسلم. ومن حديث أبي هريرة أيضًا: ((أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن)). ومن حديث أبي ذر: ((كان يُحَدِّث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فُرِجَ سَقْفُ بيتي -أو سقفي- وأنا بمكة، فنزل جبريل -عليه السلام- ففرج صدر ي، ثم غسله بماء زمزم)). ومن حديث أنس أيضًا، وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وعن جابر بن عبد الله: ((لما كَذَّبتني قريش، قمت في الحِجْر، فَجَلّا الله لي بيتَ المقدس، فَطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه)). وفي أحاديث كثيرة جدًّا تعددت فيها الروايات.

تفاصيل رحلة الإسراء والمعراج، وبيان ما حدث فيها من معجزات.

هذا عرض موجز لحديث الإسراء والمعراج وهو -كما قلنا-: حديث صحيح، ورد في أصح مصادرنا، وهو عند البخاري في أماكنَ متعددة؛ من بينها كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: هل أتاك حديث موسى، ومن بينها كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومن بينها كتاب: مناقب الأنصار، باب: في المعراج، رواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى آخره. اقتصرنا هنا على البخاري ومسلم، ل كن كما قلت: هو موجود في كل كتب السنة المطهرة، التي هي مصادرنا التي نرجع إليها في كل أمور السنة، هذا الحديث ثبتت صحته، وه وعند المُحَدِّثين بإجماع، وعند علماء الأمة، وعند أهل السُّنة والجماعة، ثبتت صِحَّته عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. تفاصيل رحلة الإسراء والمعراج، وبيان ما حدث فيها من معجزات بدأ بِشَقِّ الصدر، وحادثة شَقّ الصدر تكررت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مرات عديدة، مجمع عند العلماء منها على ثلاثة، وشراح الحديث تكلموا عنها؛ ابن حجر وغيره، أشاروا إلى أنه شُق صدره الشريف وهو طفل في بادية بني سعد، وكان ذلك لنزع حظِّ الشيطان منه، وشُق صدره الشريف عند بدء الوحي، وكان ذلك لِيَتَهَيَّأَ لل تلقي عن الملك. العلماء يقولون: إن الوحي في جوهره إما أن ينتقل المَلَك إلى الحالة البشرية، وهذه أخف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يأتي المَلَك على هيئة بشر من البشر، كما في حديث جبريل، وكما كان يأتي على هيئة دِحْيَة الكلبي إلى آخره، وإما أن ينتقل المَلَك إلى إلى مرحلة الملائكية ليتم التفاعل، وهذه كانت شاقة وصعبة على النبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل: 5) وفي كتاب: بَدْء الوحي من

حديث أُمِّنا عائشة عند البخاري -رضي الله عنه-: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شِدّة)) إلى أن تقول: ((وإنه لَيَتَفَصَّد جبينه بالعرق في اليوم الشديد البرد)). ي تكلمون كثيرًا من الناحية العقلية في مثل هذه الأمور، ونقرأ الآن أنهم يَظَلُّون شهورًا يُعِدُّون العُدَّة لمن يرتقي أجواز الفضاء العُليا، وفي رحلات الفضاء المعروفة الآن له مَلْبَس خاص، ومَطْعَم خاص، ومَرْكَب خاص؛ لأنه يتجاوز مرحلة الجاذبية، هذه المرحلة أو هذه المنطقة لها قانونها غير الذي يسري على الأرض، هذا كله قام الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم- بمعجزة شق الصدر، حكمتها أن يَتَهَيَّأ إلى الصعود إلى الملأ الأعلى على الوجه الذي يريده -سبحانه وتعالى-. ثم جاء البُراق، وصفته: أنه دون البغل وفوق الحمار من ناحية الحجم، وهو أبيض، ويضع حافره عند منتهى طرف عينه، يعني: عند أقصى نقطة يصل إليها نظره، إذن خطوته واسعة جدًّا، وهو في حد ذاته معجزة. وصُعِد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العُلى، وفي كل سماء قابل نبيًّا من الأنبياء، واستفتح جبريل وفُتح الباب، وسُئِل من معك؟ محمد -صلى الله عليه وسلم-: ((أَوَقَدْ بُعث إليه؟)) كلهم يعرفون نُبوَّته -صلى الله عليه وسلم- من سؤالهم: ((أَوَقَدْ بُعث إليه؟)) كلهم يعرفون نبوته، ومصداق ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) الآية تثبت أن الله -عز وجل- قد أخذ العهد والميثاق على الأنبياء جميعًا، أنهم إن أدركوا هذا النبي العظيم الخاتم عليهم أن يؤمنوا به، وأن ينصروه. وابن عباس حَبْر الأمة وترجمان القرآن يقول: "العهد مأخوذ أيضًا على الأمم

من خلال أنبيائهم"؛ لأن كل خطاب للنبي إنما هو خطاب لأمته، إلا ما قام الدليل على تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- به. إذن حين أخذ الله العهد والميثاق من الأنبياء فإنه قد أخذه من أممهم في نفس الوقت، أن أحدًا منهم إذا أدرك هذا النبي عليه أن يؤمن به: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} وأعطوا العهد والميثاق على ذلك، وشهدوا على أنفسهم، وقامت الحُجّة عليهم، ولذلك عَلِم الأنبياء بنبوته -صلى الله عليه وسلم- وتطبيق ذلك عمليًّا كان في ليلة الإسراء والمعراج، حين أُسْرِي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو عُرِج به إلى السماوات العلى: ((أَوَقَدْ بُعث إليه؟)). هذا سؤال من يعرفون نُبُوَّته، غير أنه يسأل عن الوقت والزمان، هل بُعِث إليه الآن؟ فتكون الإجابة نعم، فيرحبون به، أما آدم -عليه السلام- فرحب به؛ لأنه ابن له، وآدم أبو الخلق جميعًا، وليس أبا الأنبياء فحسب، وفي السماء السابعة -يعني: في المبتدأ والمنتهى- التقى بأبويه؛ بأبيه البعيد آدم، وبأبيه القريب إبراهيم -عليهما السلام وعلى كل الأنبياء والمرسلين- وكلهم رَحَّبوا به، والأبوان قالَا: ((مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح))، وبقية الأنبياء قالوا: ((مرحبًا بالنبي الصالح وبالأخ الصالح))، رَحَّبوا به، وفرض الله الصلاة ثم نزل، وحدثت المراجعة مع موسى -عليه السلام-. كان من الممكن أن يُحْمَل جسده الشريف من غير دابة، لكنها تدريب لنا: أولًا: الدابة في حد ذاتها معجزة بما تملكه من قدرات وإمكانيات. ثانيًا: هي أيضًا تدريب لنا في الأخذ بالأسباب، يعني: نتوكل على الله ونفوض الأمر إليه، لكن ذلك لا يعني ترك الأسباب.

إذن شق الصدر، ثم البراق، ثم انطلق به إلى رحلة المعراج، ورحلة الإسراء والمعراج تضمنت معجزات كثيرة: الإسراء: معناها السير ليلًا، الإسراء والسُّرى هو: السير ليلًا، والماضي في الإسراء أسرى، هذه همزة التعدية، أسرى الله بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما نزلت سورة تحمل هذا الاسم في أول آياتها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الإسراء: 1). أما المعراج: اسم آلة على وزن مِفْعَال، وهي آلة الصعود، والمقصود به السُّلَّم الذي نصعد به أو عليه إلى أي مرتفع، هذا يسمى مِعْراجًا، والمقصود: هو رحلة العروج نفسها إلى السماوات العلى؛ لكن المِعْراج على وزن مِفْعَال، مثل: مِحْرَاث ومِنْشَار ومِسْمَار اسم آلة، مقصود بها أداة العروج وهي السُّلم أو المِصْعد، لكن المقصود بها في الشرع: هي الصعود نفسه إلى السماوات العلى؛ للفوائد التي تضمنتها هذه الرحلة المباركة. بعض الفوائد التي لها صلها بإثباتها؛ لأن الأصل هو إثبات المعجزة: أولًا: الحديث صحيح، فالكلام من ناحية صحة الحديث لا تحتاج إلى جدال ولا إلى نقاش، هذا من ناحية. ثانيًا: رحلة الإسراء والمعراج، رحلة هي معجزة، بل إنها معجزة تَضَمَّنَت في طياتها معجزات، من بين ما تضمنته من معجزات؛ شق الصدر أولًا، هذه معجزة، من بين ما تضمنته من معجزات البراق، هذه معجزة، من بين ما تضمنته من معجزات، لقاء الأنبياء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والترحيب به، هذه معجزة، أيضًا من بين المعجزات كما في التفصيل في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم إمامًا، هذه معجزة أن يأتوا من قبورهم ثم يعودون إلى قبورهم مرة ثانية هذه معجزة.

أيضًا لما رجعوا، وهذا عند البخاري: من رواية جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- ((لما كذبتني قريش)) حين عاد من رحلة الإسراء والمعراج حَدّث بها كذبوه، يقول: ((كُرِبْتُ لذلك)) يعني تَأَلَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- لتكذيبهم، وقالوا: صِفْ لنا بيت المقدس، مع أنهم يعلمون أنه لم يكن ذاهبًا في رحلة سياحية، ليعد عدد الأبواب في المسجد الأقصى، أو عدد الشبابيك أو لون الجدران، هو ذاهب لمهمة نبوية، مهمة دعوية. لما كرب لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ماذا فعل الله له؟ جَلَّا له بيت المقدس، -حمل له بيت المقدس- يقول: ((فَطَفِقْت أنظر أخبرهم عن آياته))، يقول: ((جَلّا الله)) في رواية يقول: ((جَلَا)، يجوز التخفيف هنا، التشديد: ((فَجَلّا الله)) أي: أظهر وأوضح لي بيت المقدس، ((فَطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) يخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن علاماته وهو ينظر إليه -صلى الله عليه وسلم-. إذن المعجزة بدأت بشق الصدر، والبُراق هي أيضًا معجزة تضمنت في طياتها معجزات، ثابتة من حيث الصحة بأقصى درجات الصحة، وبإجماع الأمة، وبتلقي الأمة لها بالقَبُول، هل العقل له مدخل؟ هذا ما يجعلنا نُلحّ على حدود إعمال العقل. والمعجزات يُعرفها العلماء: بأنها أمر خارق للعادة، يُظهره الله على يد نبي؛ تأييدًا لدعوته وتأكيدًا لنبوته، وتصديقًا له في كل ما يخبر به عن الله -عز وجل- إذًا هي أمر خارق للعادة، أمر لا يناقش بالعقل؛ لأنها فوق العقل، وفوق التصور العقلي، وحين يدخل العقل ويُقْحِم نفسه في مناقشة هذه الأمور، هذا ما نُلحّ عليه كثيرًا هو تَدَخُّل فيما ليس من دائرة عمله، وما ليس له فيه، وهو مخطئ أشد الخطأ حين يفعل ذلك، أنت تُصدِّق النبي أو لا تصدقه أنت حر، لكن أن تصدقه

الرد على ما أثير حول رحلة الإسراء والمعراج من شبهات.

وتناقش بعقلك فيما لا دخلَ للعقل فيه، هذا هو العَبَث، هذا هو المجون، هذا هو الخلل العلمي والعقلي معًا، المعجزات ليست من دائرة عمل العقل أبدًا، هي فوق العقل؛ لأنها أصلًا كما أجمعوا على تعريفها أمر خارق للعادة لا يألفه الناس، ولا يَعْرِفه الناس، يُظهره الله على يد نبي، كأنها رسالة من الله -تعالى- لتأييد هذا النبي فيما يخبر به عن ربه -سبحانه وتعالى-. الرد على ما أثير حول رحلة الإسراء والمعراج من شبهات لا بد أن نتفق على: أولًا: أن الإسراء والمعراج معجزة ليست خاضعة لعمل العقل؛ لأنها معجزة. ثانيًا: هذا الإبعاد العقلي لمعجزة الإسراء والمعراج ليس خاصًّا بها، بل هو في كل المعجزات، وليست في معجزات نبينا -صلى الله عليه وسلم- فَحَسْب، بل في معجزات الأنبياء جميعًا، لا نتدخل بعقولنا، لو تدخلنا بعقولنا في معجزات الأنبياء ربما أدى ذلك إلى الإنكار. ثالثًا: الأساس العقلي، الإمام الشيخ عبد الحليم محمود -رحمه الله- في بعض كتبه يَرُدّ على منكري الإسراء والمعراج، أو على مَن صرفوها عن ظاهرها، بأنهم يزعمون بأنهم تَقَدُمِيُّون، وأنهم أتباع المدرسة العقلية، أو أتباع المدرسة العلمية التجريبية، وهم رجعيون، ويفسر كلامهم فيقول: إنهم أتباع أبي جهل، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، كيف؟ أبو جهل ومدرسته وأضرابه حينما أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعجزة الإسراء والمعراج أنكروا ذلك، على أي أساس؟ على الاستبعاد العقلي، قالوا: أنضرب إليها أكباد الإبل شهرًا في الذهاب وشهرًا في الإياب، ثم تزعم أنك أتيتها في ليلة يا محمد؟!

لو فحصنا ودققنا في كلام أبي جهل ومَن شايعه هو استبعاد على أساس العقل، عقولهم لم تقبل ذلك، نحن نذهب إليها شهرًا في الذهاب وشهرًا في الإياب، نضرب إليها أكباد الإبل، ثم تزعم أنك أتيتها في ليلة يا محمد؟ قضية محمد - صلى الله عليه وسلم- لم يزعم أنه أتاها، وإنما أسند الفعلَ إلى القوة القادرة عليه، وهي قوة الله تعالى لم يقل محمد: سَريت، وإنما قال: أُسري بي، وأسند الله تعالى الفعلَ إلى نفسه في القرآن الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) لم يقل: سَرى محمد بنفسه، إذن القرآن يرد عليهم في هذا. هم رجعوا ألف سنة وأربعمائة إلى الخلف، هم رجعيون، رجعوا إلى اتِّباع أبي جهل، بل نقول بملء الفم ومن غير تردد: إن أبا جهل على كفره أفضل حالًا منهم، بالنسبة لأبناء المدرسة الإسلامية الذين ينكرون ذلك، لماذا؟ لأن أبا جهل متسق مع قضية كفره؛ كيف؟ هو أصلًا لم يؤمن بالنبوة، وبالتالي من البداهيات أن ينكر المعجزات، إذا كان لم يؤمن بالنبوة وبأنه نبي -صلى الله عليه وسلم- فهل سيؤمن بمعجزاته؟ أما أنتم يا من آمنتم بنوبته، جزء من الإيمان بالنبوة أن نؤمن بأن الله يجري المعجزات لأنبيائه، هذا جزء من الإيمان بالنبوة، كل ما يجريه الله -تعالى- على يد هذا النبي، بعد أن آمنت به وصدقته، عليك أن تصدقه، وإلا فما معنى أنك تصدقه ثم تنكر بعض ما يتعلق به! هل نبينا -صلى الله عليه وسلم- بدع في المعجزات؟ يعني: حدثت له معجزات لم تحدث للأنبياء قبله في غرابتها، في استبعاد العقل لها، إذا كنا سنعمل بالعقل، هل العقل يقبل أن يتكلم طفل في المهد كما أنطق الله سيدنا عيسى -عليه السلام-؟ هل العقل يقبل أن يولد ابن من غير أب؟ هل العقل أو العلم التجريبي يقبل أن تتحول العصا إلى حية؟

وأن تشق العصا البحر؟ إلى آخر ما أجرى الله، أن يدخل أحد إلى النار ويخرج سليمًا؟ بل لم يخرج سليمًا فحسب. النار من خاصيتها الإحراق، في معجزة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- لم يسلبها الله تعالى خاصية الإحراق فحسب، بل حولها إلى عكس خاصيتها، فجعلها بردًا وسلامًا على إبراهيم، وانظروا إلى بلاغة القرآن الكريم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا} (الأنبياء: 69) لم يقل: بردًا فقط؛ لأن بعض البرد يؤذي ويضر، ويسبب المرضَ، ويحتاج إلى تعاطي الدواء، إنما كوني يا نار بردًا وسلامًا، فهو برد لا يؤذي، فأفقدها الله خاصيتها، بل حولها إلى عكس خاصيتها، كأنه يجلس في تكييف غير مضر وغير مؤذ، حمل كل علامات الكمال، فهو برد وهو في نفس الوقت سلام لا يؤذي بفضل الله -عز وجل-. هذه معجزات للأنبياء جميعًا، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- ليس بدعًا في هذه المعجزات، ومن المستشرقين الذين تأثر بهم أبناؤنا من أبناء المدرسة الإسلامية، من هو اليهودي ومن هو النصراني، وآمنوا بمعجزات أنبيائهم، أما عند نبينا فأقحموا العقل والعلم فيما ليس من مجاله، وضحكوا علينا بهذه الترهات، وتقبلها البعض منا، كيف ذلك؟ إلى درجة أن أنكرنا ما ورد عندنا في مصادرنا الصحيحة!! كل هذا البلاء نتج من إدخال العقل فيما ليس من تخصصه، من التأثر بالمستشرقين، مع أن المستشرقين آمنوا بمعجزاتهم، لم نسمع أن مستشرقًا "جولدن زيهر" أو غيره أو غيره من الذين تأثر بهم أبناؤنا "وشاخت" "ويليام وير" هل أنكروا معجزات أنبيائهم؟ لم ينكروا، هذا أمر متفق عليه بين البشر، المعجزات تأييد من الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- والمعجزات دليل من الله -عز وجل- على صدق هذا النبي، وهي رسالة من الله -عز وجل- أو كأنها هكذا تحمل الدليل على تأييده وتصديقه، وكأنها رسالة للخلق أن يَتَّبِعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يخبر به عن الله -عز وجل-.

إذن الإسراء والمعراج ثبت، والأساس الذي بنوا عليه رفضهم متهافت ومردود عليه، بل نستطيع أن نقول: إذا كان لا بد من إعمال العقل أو العلم فإن الأقرب من المعجزات إلى هذا هي معجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم-. إن أكبر معجزتين تكلموا فيهما وأثاروا الشبهات وحاولوا أن يثيروا الغبار حولهما؛ معجزة شق الصدر التي تكررت، ومعجزة الإسراء والمعراج، وذكرنا مرارًا أن العلم جرى بقليل منهما، شق الصدر العلم الآن يزرع القلب ويزرع الأعضاء كأنواع من العلاج للبشر بفضل الله -عز وجل-. وأما ركوب الدابة، لو أن أحدًا من الناس أخبر الآن أنه انتقل بين مكة حيث خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين القدس حيث الإسراء، لكان عدة مرات في ليلة واحدة وليست مرة واحدة، لو قال: عدة مرات، يعني: تقريبًا الطائرة تستغرق ساعة أو قليلًا من الساعة، يعني: لو انتقل عدة مرات في ليلة واحدة وأخبرنا بذلك لصدقناه، فإذا كانت معجزة نكذبها أو يتوقف البعض منا فيها، ويزعم أن الأدلة أو هذا العقل لا يقبل أو كذا ... إلى آخره. هذا مما لا يجوز أبدًا، وكما نقول: نحن نتكلم بالأدلة، العقل يثبت، الواقع يثبت، لا غرابة في هذا أبدًا بالمرة، والأنبياء جرت لهم المعجزات بأغرب وأعجب مما حدث لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وآمن بها مَن آمن، ونحن نؤمن بها -بفضل الله عز وجل- ونؤمن بمعجزات الأنبياء جميعًا، وهذا من روعة الإسلام الذي يجعل إيماننا بكل الأنبياء كإيماننا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بل إن الطريق إلى معرفة الأنبياء السابقين بكل ما حدث لهم إنما عرفناه عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل الله عليه القرآن مخبرًا بذلك، والذي جاءت به أحاديث سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-. أبو بكر -رضي الله عنه- في ليلة الإسراء والمعراج -كما روت كتب السيرة المتعددة ابن هشام

وغيره- يعلمنا استعمال العقل بالطريقة الصحيحة، أبو بكر -رضي الله عنه- لم يكن حاضرًا حين أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإسراء والمعراج، جروا إليه وأخبروه: إن صاحبك يزعم أنه أتى بيتَ المقدس الليلة ثم أصبح بين ظَهرانَيْنا، ولله درك يا أبا بكر -رضي الله عنك وأرضاك- يا أفضل الخلق بعد الأنبياء. بعض الناس يقول: إن أبا بكر سمي بالصديق من هذه الليلة، وإن إيمانه بناء على حب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتصديقه، لا والله هذا قمة النضج العقلي بعد النضج الإيماني، الإيماني هذا حَدِّث ولا حرج، إيمانه يعدل إيمان الأمة، يقول لهم: "أي غرابة في ذلك! ". أولًا: عَلَّمَنا درسًا قال: "إن كان قال فقد صدَقَ" يعني: إذن علينا أن نتحرى في الأخبار، ومثل هذه المواقف هي التي أسس عليها المُحَدِّثون حين وضعوا قواعدَ قبول الرواية، ومنها صدق المخبر، وعلى رأسها، ورد ذلك في القرآن والسنة: "إن كان قال فقد صدق" الذي ينقل الخبر إليه الآن هم الكفار، ربما كانوا يكذبون على النبي -صلى الله عليه وسلم- خصوصًا وأنهم أعداء. إذن نتحرى في الأخبار، ثم أي غرابة في هذا؟! هو يخبرني أن الوحي يأتيه من السماء في لحظة، أنا أصدقه لأني مؤمن بأنه نبي، ما الفرق عقلًا وعلمًا وواقعًا؟ ما الفرق بين نزول الملك من الملأ الأعلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يريد الله تعالى أن يبلغه، وبين صعود النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الملأ الأعلى؟ العقل الذي يقبل هذا يقبل ذاك، بالنسبة لقدرة الله، بالنسبة لعظمة الله، كل ذلك أبسط مما يكون، لن نقول سهلًا أو مسهولًا، هذا أبسط مما يكون، كل شيء بإرادة الله كن فيكون، القدرة التي أنجزت إنزال الملَك، هي القدرة التي صعدت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الملأ الأعلى. هم تكلموا في المعراج أكثر مما تكلموا في الإسراء، الإسراء لأنه ثابت بالقرآن

الكريم وبنص الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ولذلك منكر الإسراء منكره كافر، هناك من يئوله، يؤوله ليس منكرًا له؛ لأنه يصطدم مع القرآن؛ لأنه ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لذلك تجرءوا على المعراج، لأن هناك الآيات في صدر سورة النجم تشعر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صُعد به إلى الملأ الأعلى، وحتى هذا من بين الشبهات التي أثاروها، أن المعراج لم يأتِ في القرآن وليكن، حتى لو لم نقل: إن آيات النجم لا تُحمل على المعراج: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم: 18) أو: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 16 - 18] يعني: لن ندخل في تفسيرها، حتى لو حملتموها على أن المراد ليس هو المعراج. المعراج ثبت بالسنة، والسنة في ثبوتها الدليل المستمد منها في قوة الدليل المستمد من القرآن، دعنا واعتراضنا لن نتوقف عنده، المهم أن نتأكد من صحة الحديث، وقد ثبتت صحته ولله الحمد، فلسنا محتاجين إلى أن نقول: ثبت بالقرآن، يعني: هو في نظر كثير من العلماء أن المعراج أيضًا ثبت بالقرآن، لكن هذه قضية لن أتوقف عندها كثيرًا؛ لأنه ليس شرطًا أن يثبت كل شيء بالقرآن، وإلا لما كانت السنة من الأول، ونحن نتكلم هنا عن حجية السنة، وعن أنها يجب العمل بها. إذن قضية ثبوت المعراج بالقرآن أو السنة قضية لا ولن تزعجنا، سآخذ من آخر الأمر، ولْنَقُل: ثبت بالسنة فقط -مع أنه ثابت بظاهر القرآن كما قلت- لكن حتى لو ثبت بالسنة فعلى العين وعلى الرأس. إذن أبو بكر -رضي الله عنه- يعلمنا العقل، قياسه يقيس صعود النبي -صلى الله عليه وسلم- على نزول الملك، أي فرق بينه؟ من الذي يقول بالفرق بين هذا وذاك؟ أي فرق؟ الذي أنزل الملك

هو الذي صعد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الملأ الأعلى. هل أنت تصدق نزول الملك أو لا تصدق؟ إذا كنت لا تصدق فهذا شأنك، الذي لا يصدق أخذ طريق الكفر من أوله وأنكر النبوة، وأنكر الوحي لا شأن لنا معه. بعض الشبهات التي أثاروها حول هذه المسألة: من هذه الشبهات: يحلو للبعض أن يسميها حادثة، ولا يريد أن يقول: معجزة، وبعضهم عَنْوَن لبعض معجزات النبي في كتابه قال: أسطورة شق الصدر، ولَمَّا عِيبَ عليه العنوان، كيف هذا؟ عدلها في الطبعات الثانية قال: حادثة شق الصدر، لا يريدون أن يسموها معجزة، يقول: المعراج يتعارض مع قول الله -تبارك وتعالى- بعد أن اقتنعوا حاولوا أن يأتوا بأدلة قال: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (الإسراء: 90) إلى أن قالوا: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (الإسراء: 93). أنا أستعجب ما وجه الاستدلال بهذه الآية على إنكار المعراج؟ أتريدون أن تقفوا في نفس المعسكر؟ هم قالوا: لا بد أن نراك ترقى في السماء، وحتى لو رأيناك فلن نؤمن لك، هذه صورة من المعاندة والكِبر الذي يضيع الحق ولا يستجيب له، نربأ بأي مسلم أن يقترب منها، لا أن يصل إليها: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ} حتى مع رُقِيِّك في السماء: {لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} هات لنا رسالة من الله أنك طلعت، جاء بالإسراء وغيره لكنهم لم يؤمنوا، فهل نريد أن نقف في نفس الخندق معهم؟

هم يستدلون بإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- هل كنتم تريدون أن يقول لهم: هذا ممكن وسأفعله لكم: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) هكذا يزعمون، الآية ليس فيها أبدًا دليل على هذا -على إنكار المعراج- وحين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} يعني يريد أن يقول: إنني بقدرتي لا أستطيع أن أرقى في السماء، كل فريق من الكفار مع نبينا أو مع غيره -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء طلبوا شيئًا يرسله إليهم، لا، ليس الأمر على هواهم. صِدقُ الرسل له علامات كثيرة يَتَحَثَّثُهَا الأعمى، صدق الرسل جميعًا، وليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحسب، إنما كل الأنبياء الأدلة على صدقهم واضحة جلية باهرة، بالمعجزات وبغير المعجزات، بمضمون ما جاء به، لا يحتاج الأمر إلى معجزات، هو يقول: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} يعني: يريدون أن يقولوا: هو يعلن أنه لا يستطيع أن يصعد السماء، نعم هو لا يصعد بذاته ولا بقدرته. ومَن الذي قال: إن الإسراء والمعراج تم بقدرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ والله -عز وجل- حين تكلم عن الإسراء والمعراج، أسنده إلى القوة القادرة عليه، وهي قوة الله تعالى، و {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}! الله -عز وجل- هو الذي أسرى، وفي أي حديث من الأحاديث لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت مثلًا ليلة سَريت أبدًا"، لم يُسْنِد الفعلَ إلى نفسه، في أي رواية من الروايات، إنما: ((رأيت ليلة أُسري بي، أسري بي)) بالبناء للمجهول، هناك مَن أسرى به وهو الله -عز وجل- وهنا: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} أنا لا أفعل شيئًا إلا بإرادة الله، وبإذن الله -تبارك وتعالى-.

المعراج رؤية منامية: يستندون إلى قول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (الإسراء: 60) ابن عباس -رضي الله عنهما- وكل التفاسير ذكرت ذلك: "هي رؤيا عين"، رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعينه في الإسراء وفي المعراج. الرؤيا في اللغة: عند الماضي رَأَى، والمضارع يَرى، والمصدر يتعدد، وبتعدد المصدر يتعدد المعنى، رأى رأيًا مثلًا، المسائل العلمية أو المسائل التي تحتاج للدراسة العلمية السياسية التقديرية بشكل عام، رأيي في المسألة كذا، أنا أنرى كذا، انتظر حتى أرى رأيي مثلًا، كل ذلك، رأى رؤيا بالألف، هذه للأمور المنامية، واستعمل في ذلك في الحديث، وعندنا كتاب الرؤيا في التعبير، الرؤيا عند الإمام مسلم، والتعبير عند الإمام البخاري، وتجمع على رؤى، ما يراه النائم في نومه بالألف، إذا قلت: رأيت رؤيا بالألف فهي لما يُرى منامًا، أما رأيت رؤية بالتاء هذه، فهي لما يرى بالبصر بالعين التي نبصر بها. إذن حين أقول: رؤيا بالألف فهي الرؤيا المنامية، وحين أقول: رؤية فهي الرؤية البصرية للعين، هل يجوز استعمال إحداهما مكان الأخرى؟ إذا رأيتُ أمرًا غريبًا لا يكاد يقع في واقع الناس إلا على ندرة وبُعد، كأنه لا يُرى إلا منامًا، أقول عما رأيته بعيني هاتين مثلًا: رأيت رؤيا؛ لأبين غرابة ما وقع، مثلًا: لو رأيت واحدًا يأكل عشرة أرغفة مثلًا أو عشرين رغيفًا في وجبة واحدة: والله رأيت رؤيا غريبة عجيبة، من الممكن أن تتكلم عنها حينئذٍ كأنها رؤيا لغرابتها منامية، أما العكس، يعني: لا يجوز أن تقول: رأيت رؤية عما يُرى منامًا. وأما الرؤية بالتاء، فلا تستعمل إلا في الرؤية البصرية، ومن ثم: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} أي: لغرابتها وندرتها وعجز البشر عنها، لا يستطيعها إلا

من خَلَق البشر -جل في علاه- فعبّر الله عنها، ولذلك قال: جعلها فتنةً للناس للمنكرين لتمييز المؤمنين وغيرهم: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ليتميز المؤمن الصادق من المؤمن الضعيف الذي يتردد، أو الكافر الذي ينكر ويجحد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. إذن الآية أيضًا ليس فيها أبدًا ما يفيد أن المعراج كان في المنام، وحتى لو كان في المنام، ما وجه المعجزة فيه؟ أما لو قيل: إنها منامية كما تريدون أن تقولوا، فلا وجه للإعجاز فيها، ولا داعي لإنكارها أصلًا، ولذلك أثبت العلماء بمجموعة من الأدلة أن الإسراء والمعراج كانت بالروح والجسد معًا، وجمهور العلماء على ذلك -جمهور علماء الأمة- بل إجماعهم منعقد على ذلك، لم ينازع في هذا إلا القليل. وجمهور العلماء على أن الإسراء والمعراج كانتَا في ليلة واحدة، وأنهما وقعَا بالروح والجسد معًا، وأنهما وقعَا في اليقظة وليس في المنام، كل ذلك ذكره العلماء المتعددون، ولم يستغرب أحد هذا، وإلا فما معنى أنها معجزة؟ وما وجه الغرابة فيها؟ أيقول الله -عز وجل-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بَعَبْدِهِ} والعبد تنصرف إلى الروح فقط دون الجسد أو في المنام؟ ولذلك أتباع المدرسة العقلية لما وجدوا أن الإسراء ثابت بالقرآن، وهم يتجرءون على السنة، بعضهم قال: إنه كان رؤية منامية، حتى على الإسراء وليس المعراج فحسب؛ لأنهم أعملوا عقلوهم في النص؛ ولأنهم قدموا العقل على النص، وجعلوا العقل قاضيًا على النص، وهذه من البلاءات التي وقعوا فيها، ونفاصلهم فيها في الواقع العلمي، ونفاصلهم فيها أمام الله -عز وجل- إذن: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ليس فيها دليل على إنكار المعراج.

أيضًا يقولون: إن المعراج لم يذكر في القرآن، وقد رددنا على هذه، لا نحتاج إلى ذكره في القرآن: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (النجم: 1 - 14). كل هذه آيات في كثير من المفسرين يرونها تتعلق بالمعراج، إذا لم يعجبكم ذلك فليكن، نحن لا نستفتيكم في هذا، نحن نُقَعِّد قاعدة مهمة: أن الأمور التي ثبتت بالسنة -سواء في الأحكام الشرعية، أو في العقائد، أو في أي أمر، أو في معجزات، أو في غيبيات- هي عندنا على العين والرأس، الذي ندرسه ونستوثق منه أن يكون الدليلُ صحيحًا، وهذا ما أثبتناه، ومتى ثبتت صحته فعلى العين والرأس، أقعد قاعدةً لهذا الأمر ولغيرِه: كل ما ثبت بالسنة فهو في قوة ما ثبت بالقرآن، من حيث الأدلة على العقيدة، على الغيبيات، على المعجزات. علينا أن نتأكد منه هو أن نستوثق من صحة الخبر، وصدق الرواية، كما فعل أبو بكر -رضي الله عنه-: "إن كان قال فقد صَدَقَ" وهذا ما تفعله المدرسة الحديثية، تتأكد من صدق الخبر. إذن كونها لم تثبت في القرآن -مع أن هذه مماحكة لن نتوقف عندها- فهي ثابتة بالسنة المطهرة عندنا. أيضًا يقولون: جمع له الأنبياء، فيها غرائب، نعم ما المشكلة؟ هذه من المعجزات وكلها فيها فوائد. توقفوا أيضًا مع مراجعة سيدنا موسى للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكأنهم يقولون: في الأمر تغيير للمقادير، من الذي قال ذلك؟ الأمر ليظهر الله لنا حكمته وفضله على الأمة. هذه المراجعة فيها دروس كثيرة، هذه المراجعة فيها احترام الخبرة، تلك القاعدة

التي غابت عن المسلمين الآن، احترام التخصص، احترام الخبراء في كل مَيْدان: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (الفرقان: 59) {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} (النحل: 43). سيدنا موسى يعطي خبرته للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ماذا فرض الله عليك؟ أنا خبرت الأمم قبلك، وقصة بني إسرائيل مع سيدنا موسى معروفة في القرآن والسنة، والعَنَت والمشقة التي تحملها من نقاشهم، فالخبرة ليعطيَها سيدنا موسى طائعًا مختارًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- تبادل الخبرات، والحكم على أساس الخبرة درس مهم جدًّا. ثم يبين ما بين الأنبياء من تآخٍ ومن تحاب، يقدمون لنا القدوة في ذلك، يعني: لم يضن بخبرته كما نفعل نحن مع بعضنا، تضييع أخلاقنا التي علمنا إياها الإسلام، فنضن بالفوائد والخبرات، سيدنا موسى يقول له: ((ارجِع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإني قد بلوت الأمم قبلك، أو بلوت بني إسرائيل واختبرتهم، فلم يطيقوا ذلك))، فإذن فهو حب وتآخ بين الأنبياء، هو تساعُد وتسانُد على القيام بالمهمة التي بُعثوا من أجلها؛ لكي ينجحوا فيها، ويأخذوا بيد البشر إلى الهداية، هي أيضًا اعتماد على الخبرة، هي إظهار لفضل الله الذي في علم الله حَسَمه الله في نهاية الأمر: ((ما يُبَدَّلُ القول، هن خمس في العمل، وهن خمسون في الأجر والثواب)) وهذا ما سبق به قدر الله. أما المراجعة فكانت لإظهار مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ربه، وإظهار فضل الله -عز وجل- على عباده، حيث لا يكلفهم إلا بما يطيقون وما يتحملون: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286). وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 19 حديث فقء موسى -عليه السلام- لعين ملك الموت، ودفع ما أثير حوله من شبهات

الدرس: 19 حديث فقء موسى -عليه السلام- لعين ملك الموت، ودفع ما أثير حوله من شبهات

تخريج الحديث، وبيان درجته.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (حديث فقء موسى -عليه السلام- لعين ملك الموت، ودفع ما أثير حوله من شبهات) تخريج الحديث، وبيان درجته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: حديث فقء موسى -عليه السلام- لعين ملك المو ت: وهذا من الأحاديث التي تكلموا بصددها، وتقوَّلُوا على هذا الحديث ما شاء لهم أن يقولوا، وتكلموا على أنه مخالف للعقل ومخالف للشريعة، وما إلى ذلك، ونحن في هذا الأمر سنردّ عليهم وعلى شُبههم التي أثاروها بإذن الله -تبارك وتعالى-. نتكلم أولًا عن تخريج الحديث: هذا الحديث روتْه كل كتب السنّة، رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في (الصحيح) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((أُرْسِل ملك الموت إلى موسى -عليهما السلام- فلما جاءه صكه)) يعني: لما جاء ملك الموت إلى سيدنا موسى صكه، أي: ضربه: ((فرجع إلى ربه فقال: أرسلتَني إلى عبد لا يريد الموت، فردَّ الله عليه عينَه، وقال: ارجِعْ، فقل له: يضع يده على متن ثَوْر، فله بكل ما غطَّت به يده بكل شَعْرة سَنَة)) رجع ملك الموت إلى سيدنا موسى أخبره بذلك، سيدنا موسى يسأل: ((قال: أيْ ربِّ، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل اللهَ أن يدنيَه من الأرض المقدسة رميةً بحَجَر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فلو كنت ثَمَّ -أي: هناك- لأريتُكم قبرَه إلى جانب الطريق عند الكَثِيب الأحمر)). هذا الحديث رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: الجنائز، باب: مَن أحبَّ الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها. وأخرجه أيضًا في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى -عليه السلام- وأخرجه مسلم -رحمه الله تعالى- من حديث أبي هريرة في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى -عليه السلام- وأخرجه من طريق آخر أيضًا في نفس الباب السابق والكتاب السابق.

الرد على ما أثير حول الحديث من شبهات.

وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) وآخرون، من حديث أبي هريرة أيضًا، وذكره في عدة مواطن من مسنده. وأخرجه النسائي من حديث أبي هريرة أيضًا في كتاب: الجنائز، باب التعزية ... إلى آخره. هذا الحديث يملأ دواوين السُّنة، لا يوجد كتابٌ من كتب السُّنة إلا وقد رواه، والحديث بذلك في أعلى درجات الصحة، يعني: لا ينازِع في صحته أحدٌ أبدًا من أئمة الشأن المعتمدين ممن لهم دارية وعمق في تخصص الحديث وعلومه قديمًا وحديثًا، ويكفي أن صاحبي (الصحيح) -رحمهما الله تعالى- روياه في صحيحيهما، فهو من المتفق عليه عند علماء الأمة، ويعتبر من الأحاديث التي أجمعت الأمة على تلقيهما بالقبول، بالتالي هو في أعلى درجات الصحة. الرد على ما أثير حول الحديث من شبهات لكنهم أثاروا حوله بعض الشبهات التي نحاول أن نوجزها فيما يلي: يقولون: إن الملائكة لا يتعرضون للعاهات. ويقولون أيضًا: إن الصالحين من عباد الله لا يكرهون الموتَ، فكيف بالرسل، بل كيف بأولي العزم من الرسل وسيدنا موسى منهم -خمسة من أولي العزم من الرسل، وهم أفضل الأنبياء: نوح، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، وسيدنا محمد -صلى الله عليهم جميعًا- هؤلاء أولي العزم من الرسل- فكيف بنبي من أولي العزم من الرسل يكره الموت، مع أن الصالحين يحبون الموت؟ وفي رأيهم من هذا الأمر استدلوا بحديث: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)) وهو حديث في الصحيحين أيضًا: ((ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)).

أيضًا: هل كان موسى -عليه السلام- خائفًا من عقاب الله؛ لأنه وكزَ المصريَّ وقتلَه؟ وهل كان خائفًا حتى لا يحاسب على هذا الأمر؟ ويقولون أيضًا: إن الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- أورد هذا الحديثَ في كتاب: الفضائل، فأيّ فضائل لنبي الله موسى في هذه القصة؟!! يقولون أيضًا: إن القرآن الكريم يُلصِق تهمة خشية الموت باليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة: 94، 95) يقولون: وها هو الحديث ينسب ذات التهمة إلى نبي الله سيدنا موسى -عليه السلام-. نلاحظ أن معظم التهم تدور حول أن نبي الله موسى -عليه السلام- الحديث يُسَجِّل عليه أنه خائف من الموت. أيضًا يقولون: إن هذا يعتبر من باب التعدي على موظّف أثناء تأدية عمله، ملك الموت جاء ليؤدي رسالته، فاعترض عليه سيدنا موسى وآذاه في أثناء تأدية عمله. هذا طبعًا من الكلمات الحديثة التي تعاقب عليها القوانين الوضعية، أن يعتدي مواطن على موظف أثناء تأدية عمله، وهذه شبهة لا تستحق أن تذكر؛ لأن أنبياء الله لا يعامَلُون كموظفين في دولة ما، لكن على كل حال نحن نذكر الشُّبَه التي أثاروها، سواء التي تستحق الرد أو التي لا تستحق الوقوف عندها. هذه معظم التهم التي أثاروها، والمشكلات التي ذكروها حول هذا الحديث الصحيح. يقولون أيضًا: إن هذا الحديث يتعارض مع القرآن الكريم في قوله -تبارك وتعالى-: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)

يعني: كيف يُمهِل الله نبيه موسى إلى أجل آخر، ولو اختاره فماذا يكون الحل، والمفترض أن الآجال محددة؟ أيضًا: هل يستأذن ملك الموت أحدًا قبل قبض روحه؟ إذا كان هذا لا يحدث فلماذا كان المفترض أن يحدث هذه المرة هنا؟ هذه بعض الإشكالات وبعض الشُّبَه التي أثارها المثيرون حول هذا الحديث قديمًا وحديثًا، والذين ينفخون في مثل هذه الشُّبَه الآن يتصورون أنهم أتوا بما يُوقِع العلماء، أو بما يوقع الدنيا في حيص وبيص ولن نستطيع أن نَرُدّ على ذلك. أول شيء في الرد: أن ملك الموت جاء لسيدنا موسى على هيئة رجل، وسيدنا موسى ظن أنه رجل يريد إيذاءَه، هو لم يقل له: إني ملك الموت وجئت لأقبض روحك، إنما الرواية التي معنا -كما قرأناها- هذا أولها: ((أرسل ملك الموت إلى موسى -عليه السلام- فلما جاءه صكَّه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتَنِي إلى عبد لا يريد الموت)) إذن جاء الملك على هيئة رجل. ونقف مع مجيء الملك على هيئة رجل أولًا، فهذا أمر وارد وثبت بالأدلة بالنسبة لسيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصص كثيرة، وأشهرها الحديث المعروف عند المحدثين باسم حديث جبريل -عليه السلام- وهو المرويّ، صدَّر به الإمام مسلم صحيحه: ((بينما نحن جلوس ذات يوم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، فجلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخِذيه، وقال: يا محمد، ما الإيمان؟)) ... إلى آخره، سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، وعن الإسلام،

وعن الإحسان، هو حديث معروف مشهور في أعلى درجات الصحة، وفي نهاية الأسئلة: ((انصرف الرجل فطلبه النبي -صلى الله عليه وسلم- فطلبوه، فلم يجدوه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: هذا جبريل، آتاكم يعلمكم أمورَ دينكم)). إذن الملائكة يتشكلون على هيئة البشر أحيانًا، وأحيانًا كما في (الصحيح) أيضًا كان يأتي الملك سيدُنا جبريلُ على هيئة دحية الكلبي، صحابي معروف عند الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعًا. إذن تَخَلّق الملائكة بخِلقة البشر هذا أمر مكَّنهم الله منه، هم لا يصنعون ذلك إلا بإرادة الله -تبارك وتعالى-. ويقول العلماء: إنَّ مَنْ يكون على غير هيئة البشر، إذا أخذ هيئة أخرى على غير هيئته التي خلقه الله عليها، هذا يتم بإرادة الله، ولِحِكَمٍ يريدها الله -عز وجل- يُحْكَم بقانون الهيئة التي اتخذها، الجن أيضًا أعطاهم الله القدرة على التشكل بأشكال مختلفة: يأتون على هيئة حيوانات، أو على هيئة بشر. هذا أمر معروف وعليه الأدلة، ونحن لا ننتقل للكلام عليه. لكن الذي أريد أن أوضّحه أن الملك أو الجن إذا أخذ هيئة البشر حُكِم بقانون البشر، بمعنى أنه تكون له يد وعين، ومن الممكن أن يَلطِم وأن يُلطَم ... إلى آخره. إذن سيدنا موسى تعامَل مع بشر، لم يخبره أنه ملك الموت وجاء ليقبض روحه. هذه مسألة أُولى، مجيء الملك على هيئة البشر وأنه جاء لموسى -عليه السلام- بهذه الهيئة، وأن موسى -عليه السلام- تعامل معه على أساس هذه الهيئة التي جاء بها عليه. ثانيًا: ظَنَّ سيدنا موسى أنه رجل يريد إيذاءَه، فدفع الإيذاءَ عن نفسه بما لم يكن يقصده من فقء العين، كما نعلم أن سيدنا -موسى عليه السلام- كان قويًّا متينًا، هذا ثبت في القرآن الكريم: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص: 26) وأيضًا في قصة الخلاف بين الإسرائيلي والمصري:

{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (القصص: 15) سيدنا موسى وكزه، لم يضربه بآلة قاتلة، ولم يضربه ضربًا شديدًا، رزقه الله القوةَ، هذه لحِكَم أخرى، وعلى رأسها أنه يتعامل مع قوم متعِبين مرهِقين جدًّا، بنو إسرائيل هؤلاء رأى منهم سيدنا موسى ما لا يحتمل وما لا يُتَصَوّر، لكن لأمور أرادها الله تعالى كان سيدنا موسى قويًّا جدًّا فوكزه، إذا أحد منا وكز إنسانًا آخر، هل هذه الوكزة تقضي عليه؟ لكنها بالنسبة لسيدنا موسى لأنه كان قويًّا قضت عليه، فلعل سيدنا موسى لَطَمَهُ لطْمةً لا يقصد بها أن يفقأ عينه فحدث ذلك. أما قضية: هل الملك له عين، فهل تفقأ؟ قلنا: إن الملك إذا أخذ هيئة البشر حُكِمَ بقانونها؛ فيُصبِح له عين، وله أرجل، وله أيدٍ، ومن الممكن أن يُلحِق الأذى بأيّ عضو من هذه الأعضاء، لأنه في الحالة التي تخلَّق فيها على هيئة البشر، أو أخَذَ في هيئة البشر، يُحْكَم بقانون البشر؛ فيتعرض لما يتعرض له البشر من كل شيء، هذا أمر قرره العلماء والأدلة قامت عليه، يمشي ويركب، ويلبس الثوب الأبيض، ويتكلم باللسان العربي الفصيح، كما جاء مع سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، وجلس كما يجلس البشر جميعًا، وأسند ركبتيه إلى ركبتَي النبي -صلى الله عليه وسلم- ووضع يديه على فخذَي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسأله: يا محمد ... )) إلى آخره، ثم انصرف بعد أن قال الأسئلة التي أراده الله -عز وجل- أن يقولها. إذن جاء الملك على هيئة بشر، لم يخبر سيدنا موسى بأنه ملَك الموت، سيدنا موسى ظنَّه رجلًا يريد إيذاءَه، فدفعه عن نفسه، هذه الدَّفعة كانت قويةً من غير

قصد إيذاء، إلا أنها فقأت عينَ الملك، فذهب إلى ربه يشكو له وقال له: ((إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت)). هذه بعض التلخيصات للرد على هذه الشبهة: الإمام النووي في (شرح مسلم) يقول: أولًا: ربما أذِنَ الله لموسى في تلك اللطمة؛ امتحانًا للملك نفْسِه الذي يقوم بهذه المهمة، يعني: امتحانًا للملطوم نفسه وهو الملك، كأن الله -تبارك وتعالى- يريد أن يقول له: ستتعرض لبعض المشاكل أثناء تأدية مهمتك، فعليك أن تتحملها، وأظن أنه لا توجد مهمة أبدًا في الدنيا من غير أن تكون لها بعض المشاكل الجانبية، وعلى الذين كُلِّفوا بمهامّ أن يتحملوا بعض المشاقّ التي تتعلق بأدائهم لهذه المهمة، وعليهم أن يصبروا وأن يحتسبوا، وأن يطلبوا الأجر من الله -تبارك وتعالى-. هناك وجه آخر في القضية قاله العلماء، قاله الإمام النووي، وقال القرطبي، وقاله القاضي عياض في تفسيرهم لفقء موسى لعين ملك الموت: إن هذا كان أمرًا معنويًّا، يعني: بمعنى أنه ليست هناك عين حقيقية فُقِئَت ولا شيء، والمراد أنه غَلَبَه بالحجة، يُقَال في المجاز عند أهل البلاغة وفي اللغة: فلان فقأ عين فلان أي: أفحمه، وأقام عليه الحجة، ومع أنهم ذكروا هذا الرأي إلا أنهم قالوا: إنه وجه ضعيف، يردّه ما ورد في الحديث نفسه من أنْ عاد إلى الله تعالى، فردَّ الله إليه بصرَه، فلو لم يكن هناك فقء حقيقي للعين ما كان هناك معنى لقوله: ((فردّ الله عليه عينه)). أيضًا ليس في الحديث تصريح بتعمُّد سيدنا موسى -عليه السلام- لإيذاء الملك، وهذا وجه قاله القاضي عياض، وقاله المازاري، وقاله غيرهم، أين هو النص في الحديث

الذي يبيِّن أن سيدنا موسى تعمَّدَ إيذاء الملك، هو يقول: ((صكه))، مثل: {وَكَزَه} في الآية القرآنية، فقضى عليه من غير قصد للقتل أبدًا، وأيضًا هنا صكه ففقأ عينه من غير قصد للإيذاء. إذن ليس في الحديث ما يدل أبدًا على أن سيدنا موسى تعرض بالقصد المتعمَّد بالإيذاء لملك الموت حين جاءه. أيضًا يقول القرطبي في (المفهم): هي عين متخيَّلة لا حقيقة، أو هي معنوية بمعنى الحجة، قال: وهذان القولان لا يُلتفت إليهما لفسادهما. هذا تعبير القرطبي في (المفهم). يعني: علماؤنا من شدة إيمانهم بالحديث لم يقبلوا بالمجاز فيه، ولم يقبلوا صرْفَه عن حقيقته؛ لأنه ليست عندنا لا ضرورة إيمانية ولا ضرورة عقدية ولا أي إشكال أبدًا في فَهم الحديث على ظاهره كما ورد في كتب السنة؛ ولذلك تكاد تُجْمِع كلماتُهم على رفض التأويل المجازي لهذا الحديث، هذا وقع من قوم لا يَمتنع عندهم في فَهمهم، مثل: الإمام النووي، والإمام القرطبي، من القول بالمجاز في كثير من القضايا. يقول القرطبي -رحمه الله تعالى-: وهذان القولان -أي: هي عين متخيلة، أو معنوية- لا يلتفت إليهما لفسادهما، وخصوصًا الأول التي هي عين متخيلة؛ لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة لها، يعني: لو أردنا مثلًا مخافة الشُّبَه والتهم أن نصْرِف الحديث عن ظاهره بأن نقول: إنها عين متخيلة وليست حقيقية، لوقعنا في إشكال آخر، معنى ذلك أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة على غير هيئتهم الملائكية لا حقيقة له، يعني: من الممكن أن يكون ملكًا أو ليس ملكًا، والنبي لا يعرف ذلك، وهذه قضية خطيرة جدًّا، إنما أن يقال: إنه كما قلت لم يقصد الإيذاء، وإن العين حقيقية، غير أن ملك الموت لمَّا أتى على

هيئة رجل لم يَعْرِف سيدُنا موسى أنه ملك الموت، وأنه رأى رجلًا دخل منزله بغير إذنه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه ففقأها من غير قصد منه، وهذا أيضًا رأي ابن خزيمة -رحمه الله تعالى-. هناك أيضًا توجيه آخر، واعتبره القرطبي أقوى الآراء في فَهم المسألة: وهو أن ملك الموت لم يخيِّرْ سيدنا موسى في قضية الموت. ومن بيْن الشُّبَه التي ذكرناها هناك من تساءل: هل ملائكة الموت يخيِّرون الناس أو يستأذنونهم قبل قبض أرواحهم؟ هذا ثابت بالنص في حق الملائكة، الحديث في الصحيحين رواه البخاري ومسلم: ((إن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يُخيِّره)). وأيضًا هذا ثابت في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله خيَّرَ عبدًا، فاختار ما عند الله)) ول ذلك حتى هذا الحديث لمَّا سمعه أبو بكر -رضي الله عنه- بكى، وتعجب الناس من بكاء أبي بكر، هذا الحديث مرويّ في (الصحيحين) في فضائل أبي بكر -رضي الله تبارك عنه- ومن رواية أبي سعيد الخدري، يقول: "تعجبنا من بكاء أبي بكر، النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن رجل خيَّره الله، فاختار ما عند الله، اختار الرفيق الأعلى، فلماذا يبكي أبو بكر؟ لكن فهِمْنا بعد ذلك أن هذا الرجل الذي خُيِّر هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلمنا أن أبا بكر -رضي الله عنه- هو أعلمنا". هذا من الأدلة التي يستدلون بها على أن أبا بكر -رضي الله عنه- هو أعلم الصحابة. لكن محل الشاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خُيِّر، وأيضًا في (الصحيحين) في مرض موته: ((بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى ((. وواضح جدًّا في الرواية أن سيدنا موسى لم يخيره الملك، ليس في الرواية نصٌّ أبدًا يفيد أن الملك خيَّره وأنه أعلمه أنه ملك الموت، ثم بعد ذلك فعل به سيدنا موسى ما فعل، كل ذلك ليس واردًا في الرواية، وتحميل الرواية ما لم يَرِد فيها تحميل

بغير موجب أبدًا وبغير مبرر، إنما فقط ليُثيروا الشُّبَه والإشكالات التي لا تساعدهم الرواية على ذلك. الخلاصة: أن ملك الموت جاء على هيئة رجل ولم يخيِّر سيدنا موسى، وسيدنا موسى ظنه رجلًا يريد إيذاءه فدفعه عن نفسه فلطم عينه من غير قصد للإيذاء، وذهب واشتكى إلى ربه فردَّ الله تعالى عينه، أَذِنَ الله لموسى في تلك اللطمة؛ امتحانًا للملطوم، أيضًا هذا وجه آخر قاله العلماء، وهو لا بأس به، وكما قلنا هناك من يقول: إنه على سبيل المجاز، أي: غلَبَه بالحجة، وهذا وارد في اللغة، يقولون: فقأ عينه، أي: أقام عليه الحجة وأفحمه، ومع ذلك فعلماؤنا لم يرتضوا هذا الوجه؛ لأنهم لم يقبلوا بصرف الحديث عن ظاهره، وأيضًا لم يقبلوا أن يقال معها: إن هذه العين متخَيَّلة وليست حقيقية، وردَدْنا وبيَّنَا أن القرطبي -رحمه الله- بيَّن أنه قول فاسد يترتب عليه قول آخر خطير، وهو أن الأنبياء حين يرون صورًا للملائكة فهي لا حقيقة لها، وهذا أمر خطير جدًّا. والقرطبي -كما قلنا- رجح، أو كان أقوى الأقوال عنده، أن سيدنا موسى ملك الموت لم يخيّره، فأراد أن يدفع الأذى عن نفسه بذلك، وسيدنا موسى يعلم أن الأنبياء لا تُقْبَض أرواحهم إلا إذا خُيِّروا. في قضية أن سيدنا موسى يكره الموت: ليس في الحديث أبدًا ما يبين أن سيدنا موسى يكره الموتَ، هو ليس فيه إلا كلمة الملك: ((أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت)) سيدنا موسى لم يقل: إنه لا يريد الموت، بل بالعكس، أنا أتعجب من الذين يُثيرون الشُّبَه، ولأنهم غير

متخصصين فَهُم لا يلتفتون إلى المتون وكيفية التعامل معها، متن الحديث نفسه يردّ على هذه الشبهة، وهي شبهة أن سيدنا موسى لا يريد الموت. لكن دعنا نقول: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) ما هو التطبيق العملي لهذا الحديث؟ وهذا التطبيق العملي ليس من عندنا، هو في (الصحيحين)، أمّنا عائشة تسأل إن كان المراد ما يَنْتَابُنَا من كراهية الموت، فكلنا نكره الموت، كلنا نخشى الموت ونكرهه، فإن كان هذا الحديث ينطبق على هذه الحالة من كراهية الموت جميعنا نقع تحت هذا المحظور، والله -عز وجل- في الحديث القدسي سجَّل علينا أننا نكره الموتَ، يقول -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: ((يَكْرَهُ الموتَ وأنا أكره مَسَاءَتَه)) فكراهية الموت مُسجَّلة على البشر. لكن حديث بالذات: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) التطبيق العملي والفهم الذي أقوله الآن ليس من عند نفسي، إنما تطبيقه من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما سُئل: هل هذا الحديث المعنيّ به الحالة التي تنتابنا من الخوف من الموت في الدنيا؟ لا، فسره بأنه عندما يقبل الإنسان على الموت فعلًا ويعاين الآخرة، ويرى ما هو مقبل عليه، تنطبق عليه هذه الحالة، إن كان من أهل التوفيق والفلاح والسداد، فيرى موقعَه الطيب الذي أعدّه الله -تبارك وتعالى- له فيفرح بلقاء الله؛ لأنه سيذهب إلى تلك المكانة الطيبة السامقة السامية والجنة بإذن الله -تبارك وتعالى- فيفرح بلقاء الله ويفرح الله تعالى بلقائه، وإن كان مكانه على غير ذلك -ونسأل الله أن يعيذنا جميعًا من هذا- فإنه يخاف ويتألم، ويُقْبِل على الله بنفس كريهة وقلب رافضٍ، لكنه لن يتمكن من الهروب، لكنه رأى آخرته وما هو مقبل عليه من عذاب، فكره ذلك، ويكره الله -تبارك وتعالى- لقاءه.

لكن الذين يحتجون بهذا الحديث، ثم يرتبون على هذا القول بأن عباد الله المخلصين وهم ليسوا بأنبياء وليسوا بأولي العزم من الرسل، لا يكرهون الموت ويُقْبلون على الله بحب، فكيف بنبي من أولي العزم من الرسل يكره الموت؟!! قلنا: الرد من عدة وجوه: أولا: ليس في الرواية ما يفيد أن سيدنا موسى يكره الموت، هذه واحدة. ثانيًا: حديث: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) التفسير له الذي يبين التطبيق العملي له هو من سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سؤال أمنا عائشة، وبيّن أن المراد هي لحظة معينة، التي يُقْبل فيها المرءُ على ربه بحب أو ببغض -والعياذ بالله- وفقًا للمكانة المعَدّة له في الآخرة، التي يطَّلع عليها عند المعاينة. ثالثًا: نصُّ الحديث يردّ على هذه الشبهة "ذهب ملك الموت" لا أدري لما لم يلتفتوا إلى هذا "ذهب ملك الموت إلى ربه، إنك يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت" ماذا كانت النتيجة؟ "قال له ربه: اذهب إليه وقل له: ضع يدك على متن ثَوْرٍ" اختر ثورًا، ضع يدك على متنه، على ظهره، وعُدَّ الشعرات التي وقعت يدك عليها. وأنا أسأل: حين يضع أحدنا يده على متن ثور، فكم يكون عدد الشعرات التي تقع تحت يده؟ آلاف الشعرات، هذا تخيير من الله -تبارك وتعالى- لنبيه: إن شئتَ كل هذه السنوات فهي لك. قال موسى -عليه السلام-: ((ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن)). أهذا تصرف رجل يخاف الموت؟! إذن نصُّ الحديث لو أعملوا عقولَهم في المتن لعلموا أن المتن يتضمن في طياته الرد على أخطر تهمة يتصورونها أنهم وجَّهوها للحديث، وهو أن سيدنا موسى يكره

الموت، وهو من أولي العزم من الرسل، ثم هذا خطأ لا يقع فيه إلا اليهودُ على حد ما قالوا، اليهود وغيرهم يخافون الموت، لكن اليهود أشد وأنكى، أما كما قلتُ فالله -عز وجل- قد سجَّل علينا: ((يَكْرَهُ الموت وأنا أكره مَسَاءَتَه)) أما اليهود فشنيعتهم أشد؛ ولذلك سُجِّل عليهم في القرآن الكريم وفي سورة البقرة وفي سورة الجمعة هذا الخوف: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96) وبيّن أنهم لن يتمنوا الموت أبدًا لا في الماضي ولا في المستقبل، بل هم يحبون العَيْش على أيّ صورة من صور الحياة أيًّا كانت هذه الحياة: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) حتى لو كانت حياة مُتعِبة مرهِقة فيها ذلة، فيها مهانة، هذا ليس من خُلُق أهل الإيمان ولا أهل التقوى، فهم أشنع وأشد في ذلك. أما الخوف الذي ينتابنا نتيجة أننا نعلم أننا مقبلون على الله -عز وجل- وأننا سنحاسَب على ما قدمت أيدينا، ونتذكر ما قدمنا من تفريط ومن تقصير، فلا بد، بل هذا شيء طبيعي، لا يتناقض مع الإيمان أن نخاف من الموت، ولعل هذا الخوف يدفعنا إلى أن نُحسِن العمل؛ رجاءً في أن نتبوَّأ مكانة طيبة عند الله -عز وجل -. أثاروا سؤالًا: كيف يضع الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب الفضائل؟ وأيُّ فضيلة لسيدنا موسى في هذا؟! هم حفظوا شيئًا وغابت عنهم أشياء، كل الذي تنبهوا له أو الذي وقعوا فيه تلك اللطمة، وكيف تقع، وفسروها كما يريدون، ونسُوا أنه فُتِحَ الباب أمامه ليعيش عشرات من السنين، ولكنه أقبل على ما عند الله -عز وجل- فهذه فضيلة، ثم سؤاله لربه أن يُدْفَن بالأرض المقدسة، هذه منقبة وفضيلة، كيف لا وهاتان منقبتان؟!

ذكر ما تضمنه الحديث من فوائد عظيمة.

إذا كنا نسجل أننا جميعًا نخاف من الموت كما ثبت عن هـ بالأدلة، فإن سيدنا موسى -عليه السلام- كما فعل نبينا -صلى الله عليه وسلم- خُيِّر فاختار ما عند الرفيق الأعلى، أيضًا جاءه الملك مرة ثانية فقال: ((ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن)). وسأل ربَّه أن يدنيَه من الأرض المقدسة رميةَ حجر، ونال ما تمناه من الله -عز وجل- والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)) يعني: الجبل الصغير الأحمر. فإذن سيدنا موسى أقبَلَ على الله، تمنى على الله أن يُدْفَن قرب الأرض المقدسة، العلماء الأجلاء الذين يفهمون الأحاديث على وجهها الصحيح ذكروا هذه المناقب لسيدنا موسى أخذًا من هذا الحديث: إسراعه بطلب الموت، تمني الدفن بقرب الأرض المقدسة، وقالوا: حتى لم يطلب الدفن في الأرض المقدسة؛ مخافةَ أن يُتَّخذَ قبره وثنًا يُعْبَد من دون الله -تبارك وتعالى- كما يُفعَل في بعض الأماكن، فكان أنْ طلَبَ الدفن بالقرب من الأرض المقدسة وليس في الأرض المقدسة ذاتِها. إذن هذه أكبر تهمة، وتصوروا أنهم أوقعونا في حَيْصَ بَيْصَ، ولو كانت عندهم دُرْبة على التعامل مع الأحاديث النبوية وذاقوا حلاوتها، لعلموا أن المتن يتضمن في طيّاته الرد على الفِرية الخطيرة التي تصوروا أنهم جاءوا بها. ذكر ما تضمَّنه الحديث من فوائد عظيمة يقول بعض الناس أيضًا في الشُّبَه التي أثاروها حول هذا الحديث: هل فيه فوائد تنفعنا في ديننا ودنيانا، لماذا نتكلم حوله؟ أولًا: علماء السنة وضعوه في كتبهم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاله، والسُّنَّة: هي ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة. ولعلهم يقصدون، ما معنى أن نقوله للشباب الآن أو للناس الآن وحوله هذه الشُّبَه والإشكالات؟ لا، في الحديث فوائد عظيمة عقدية وغيرها سنشير إلى بعضها:

أولًا: في الحديث ابتلاء للمؤمن واختبار له بالإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب أحد عناصر الإيمان الهامة جدًّا، التي ينبغي على المؤمن أن تكون جزءًا رئيسًا من عقيدته التي يَدِين بها الله تعالى، بل إن الله -عز وجل- في مطلع سورة البقرة حين تكلَّم عن الغيب، أو عن صفات المؤمنين بمعنى أدقّ، جعل من أول صفاتهم أنهم يؤمنون بالغيب: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:1: 2) ما أول صفات المتقين؟: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (البقرة: 3) ذُكِرَ الإيمان بالغيب قبل إقامة الصلاة التي هي عماد الدين، والتي تُفرّق بين المؤمن والكافر، والتي يُحاسَب عليها المؤمن أول ما يحاسب، حين يذهب إلى ربه -سبحانه وتعالى-. إذن -على أهمية الصلاة- قُدِّمَ الإيمان بالغيب على ذلك، على الصلاة، وعلى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة: 3) وعلى: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 4). وفي الحقيقة الإيمان بالغيب مَحَكّ خطير جدًّا من محكّات الإيمان الحقيقية، بل ونحن نتكلم عن مدرسة العقل وملامحها وقلنا: إنها تُضَيّق جدًّا فكرة الغيب، بل إن اجتراءهم على الغيب، هو كان السبب لردّ هذا الحديث ولغيره من الأحاديث التي فيها ذكر للغيب الذي يعلمه الله -عز وجل-. تكلموا عن الشفاعة، وتكلموا عن عذاب القبر، وتكلموا عن الحَوْض، وتكلموا عن أمور كثيرة مما يتعلق بالدنيا أو بالآخرة أو بالغيبيات، مع أن الغيبيات -كما ذكرنا مرارًا- لا مجالَ للعقل فيها، بل هي اختبار للمؤمن، أنت تُصدِّق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو لا تُصدِّق، من الأمور الغيبية التي لا تراها بعينك، والتي لا يَعتمِد الدليل عليها إلا ما ورد في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة فقط؟ أين أنت من ذلك؟ ففي الحديث اختبار؛ ولذلك كلمة عجيبة جدًّا من السِّنْديّ -رحمه الله تعالى- في حاشيته على البخاري عند تعليقه على هذا الحديث -حديث فقء موسى لعين

ملك الموت- يقول السِّنْديّ: لعل هذا من المتشابه الذي لا يَعلَم تأويله إلا الله، أنا قرأت هذه الكلمة من أكثر من ثلاثين سنة، من خلالها تعلمت أن هناك متشابهًا أيضًا في السُّنة، وكنت أتصور أن المتشابه مقصور على القرآن: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) الذين في قلوبهم زيغ دائمًا هم الذين يتبعون المتشابه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 7). فيقول السِّنْديّ: لعل هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. والبعض، لا تعجبه كلمة السِّنْديّ، ويقول: إن هذا انغلاق في التفكير وتضييق على العقل في محاولة تَلمُّس الفهم. لا، هذا وَرَع وتقوَى، هبْ أنني أمام حديث ثبتت صحته وأجمعت الأمة على صحته كما هو الحال معنا، وعمِيَ عليَّ فهمه، غاب عني إدراكه على الوجه الصحيح إلى أن أقرأ، إلى أن أسأل أهل العلم، هل الحل هو في الجرأة على الحديث وردّه؟ هذا هو الحل الذي يرونه؟ عقولهم لا تقبله، ولا تقبل محامل العلماء التي حملوا الحديث عليها في هذا أو في غيره، يسارعون إلى رده، هذا هو الحل الأمثل من وجهة نظرهم؟ هكذا يتصورون. إذن في الحديث فعلًا ولو لم يكن فيه إلا هذه الفائدة لكفاه هذا بصدق الإيمان، يكفي أننا نُخْتَبر في إيماننا بالغيب، يخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث في أمر غيبي، وهو الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، فهل نصدقه أو لا نصدقه؟ أيضًا هناك ذكر للقِصَص السابقة مع الأنبياء السابقين ومع غيرهم، وكلها دروس وعظات وعِبَر للمؤمنين، هذا الحديث يعتبر مما وقع على الأمم السابقة، وله نظائر كثيرة جدًّا في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقُصّ الله قصة سيدنا

نوح في سورة هود على النبي -صلى الله عليه وسلم-: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) استفدْ من الدروس المليئة التي امتلأت بها القصة {إ ِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49). في سورة القصص، وهو يتحدث عن قارون يختم القصة بقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83) وفي قصة مريم: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 44) وفي قصة يوسف -عليه السلام-: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} (هود: 49) أنت لم تكن هناك لا أنت ولا قومك؛ فهذا دليل على صدق نبوتك. إذن كثير من الغيبيات ذكَرَها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الأمم السابقة، وذكَرَها القرآن الكريم، وهي اختبار للمؤمنين، هل تؤمنون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم تنتقون من كلامه ما يوافق عقولكم أو أهواءكم فتقبلون هذا وتردون ذاك؟ هل تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ كل ذلك لا يصلح مع منطق الإيمان؛ ولذلك كان اختبارًا ينجح فيه مَن ينجح ويرسب فيه مَن يرسب، ونسأل الله -عز وجل- أن نكون من الناجحين. أيضًا قلنا: فيه عظات: يعني" الحديث فيه فوائد كثيرة، إنه اختار ما عند الله، فيه أيضًا تمني الموت بالأرض الطيبة المقدسة. أيضًا كما قلنا: الإنسان أو البشر، اختارنا الله للجهاد مثلًا، اختارنا الله لنشر العلم، اختارنَا الله للدعوة، لا نتصور أن الطريق سيكون مفروشًا بالورود، بل

لا بد لكل مهنة من معاناة ومن تعب ووصب، ومن مشاكل تثار حولها، على القائمين عليها أن يتحملوا ما يلاقونه وهم يؤدون مهمتهم؛ ابتغاءَ ما عند الله، ورجاءً في أن ينجحوا بالمهمة التي كُلّفوا بها من قِبَل الله -تبارك وتعالى- ومن هنا أيضًا كان الأمر امتحانًا لملك الموت. أيضًا في الحديث دلالة على أن كراهية الموت جِبلة في الإنسان، ورغم أن الحديث ليس فيه ما يشير إلى كراهية سيدنا موسى من الموت، وقد ردننا على هذه الفرية، وقلنا: إنها ليست مأخوذة إلا من ملك الموت حين قال: ((إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت)) لكن بيَّنا من خلال الأدلة الأخرى أن كراهية الموت جبلة في الإنسان، لكنَّ هذه الكراهية لم تمنع من أن يأتيه الموت في الوقت الذي يريده الله -تبارك وتعالى-. القول بأنَّ لكل إنسان أجلًا محدَّدًا، وهذا الحديث يتعارض مع ذلك؟ لا يتعارض؛ لأننا قلنا بالحديث في (الصحيحين): إن الأنبياء يُخَيَّرون، والحديث أفاد ... أو كان لا بد من قضية التخيير هذه، فالأنبياء مستثنَوْن من هذه القضية إذا اختاروا ما عند الله، وعلى كل حال فالأدلة الواردة كلها تدل على أنهم دائمًا يختارون ما عند الله -تبارك وتعالى -. أيضًا الحديث يدل على أن الملائكة تتشكل بالبشر؛ ولذلك كانت العاهة التي أصابت الملك لصورته البشرية، أما صورته الملائكية فلم تتغير ولم تُصَبْ بأذى؛ لأننا قلنا: إن الملك حين يتشكل بهيئة بشرية فإنه في هذه الحالة يُحْكَم بقانون الهيئة التي أخَذها، فمن الممكن في هذه الحالة أن يلحقه الأذى كما يلحق البشر. وقلنا: واضح جدًّا من حديث جبريل أنه جاء يلبس الثياب، وهي بيضاء نقية لا غبش فيها ولا غبارَ، ولا يرى عليه أثر السفر، وشديد سواد الشعر، وشديد

بياض الثياب، كلها صفات بشرية، يصفونه وهم يصفون بشرًا لا يصفون ملكًا؛ لأنهم إلى هذه اللحظة لا يعرفونه، فلمَّا انصرف قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا جبريل، أتاكم يعلمكم أمور دينكم)). أيضًا السابق واللاحق من أمة الإسلام أمةٌ واحدة، السابق من الأنبياء؛ لأنهم مسلمون، ومن اللاحق داخل أمة الإسلام نفسها أو من المسلمين من السابقين كلهم أمة واحدة، أهل إيمان وأهل تقوى، قوانين الله -تبارك وتعالى- فيهم واحدة لا تتغير، جزاء المؤمن الجنة، على المؤمن أن يؤمن بالغيب، عليه أن يرضى بما قسَم الله -تبارك وتعالى- له، كل ما يتعلق بوحدة الأمة، وهي أمة واحدة فعلًا؛ ربها واحد، وقرآنها واحد، ونبيها واحد، وقِبلتها واحدة، كل شيء في هذه الأمة يجمع بين هذه الأمة على أنها أمة واحدة، لا ينبغي أبدًا أن تسمح لأحد بأن يخرق وحدة هذه الأمة، وأن يُفسد على الأمة وحدتها أبدًا كائنًا من كان، إنما هي أمة حتى وإن اختلفت ألسنتها أو اختلفت ألوانها أو اختلفت أوطانها، فهي أمة واحدة، على قلب رجل واحد منهم، تُحْكَم بقرآن وسُنّة، عباداتهم كلها واحدة، وتؤدَّى في وقت واحد؛ فهذا يدل على وحدة أهل الإيمان في كل زمان ومكان. أيضًا الحديث آمنت به كل الأمة، من أول ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لم نسمع أبدًا للأقدمين من الصحابة أو من الأجيال الصالحة، اعتراضًا على هذا الحديث بهذه الدعاوى الزائفة التي يذكرونها الآن، ويثيرون شبهًا وهي لا تصمد أمام البحث الصحيح بدون أدنى تعسفٍ، لكن الحديث ليس في المعنى أبدًا ما يثير أيّ غبار إيماني أو عقدي حتى نخشى منه، أو حتى نخاف منه، أو حتى نتمنى ألا يكون قد قيل، هذا كله لا نرى فيه شيئًا، وقد وضَّحْنا.

أيضًا من فوائد الحديث: أن لله قوانينَ لا يستثني منها أحدًا، لا أحد يقول عن نفسه: إن هذا القانون الإلهي لا ينطبق عليه، الموت الكل سيموت، وسيدنا موسى فَقِهَ ذلك: ((لك بكل شعرة تقع تحت يدك إذا وضعتها على متن ثَوْر سَنَة)) ومع ذلك يسأل، فالموت، نعم ماذا بعدُ؟ هو الموت، أنت لم تُستثنَ من هذا، وأنت من كرام خَلْق الله على الله، ومن أفضل خمسة من الأنبياء، من أولي العزم من الرسل؛ إذن فأنت من أفضل خمسة من البشر، ومع ذلك قانون الله -تبارك وتعالى- ينطبق عليك، غاية ما في الأمر أنك خُيِّرت الآن أو بعد الآن. هذا هو الذي زاده الأنبياء على غيرهم أنهم يُخيَّرون فقط، ربما ذلك لِحِكَم: هل يواصلون القيام بمهمتهم في الدعوة؟ هل يواصلون مهمتهم في القيام بالرسالة؟ هل يشعرون أن مهمتهم قد انتهت؟ أو يحتاجون إلى أجل إضافي ليتمموا ما بدءوه وليكللوا عملهم بالنجاح؟ وكل ذلك رغبة في أن يُرضوا اللهَ -عز وجل- بأنهم قاموا بالمهمة على خير قيام، لكنَّا كما قلنا الأدلة التي بين أيدينا هذا سيدنا موسى، وهذا سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُخَيَّر أحدٌ منهم إلا اختار الرفيقَ الأعلى؛ لأنهم يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى، وأفضل وأحسن وأكرم مما هو في الدنيا بكثير. أيضًا في الحديث فضل الموت في الأرض المقدسة، وهذا إذا حدث هو على كل حال لا يترتب عليه تمييز أو رفع في الدرجات، لكنها أرض مباركة قد ينال صاحبها بركتها، لكنَّ المعروف أن الأعمال هي الشفاعةُ التي نقدمها عند ربنا -سبحانه وتعالى- لنا بعد فضل الله -عز وجل-؛ لأنه: ((لن يُدْخِل أحدَكم عملُه الجَنّة -كما أخبر بذلك

الصادق المصدوق- ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل)). أما قضية الاعتداء على موظف أثناء عمله: فهذه حجة سخيفة، لا يجوز أن نتعامل بها مع الأنبياء، ومع ذلك كما قلنا: ليس في الحديث ما يُشْعِر أنه جاءه يخبره أنه ملك الموت، وأنه جاء للقيام بمهمته معه، إنما هو فقط كما قلنا ظنَّه رجلًا يريد إيذاءه، ونحن طُولِبْنَا بأن ندافع عن أنفسنا وعن أموالنا وعن أوطاننا، لا نستسلم لأي اعتداء علينا، إنما نحاول أن ندفعه بقدر ما يمكن، نعم ندفعه بغير إيذاء، لكن إذا وقع إيذاء فهذا مراد الله، وسيدنا موسى لم يقصد إيذاء الملك، وإنما الذي وقع كان بسبب قوته. الحديث في النهاية صحيح وقوي، وعلى العين والرأس، ولا نقبل أي جدل حوله أبدًا، وقد رددنا على الشُّبَه المتعلقة به. هذا وبالله التوفيق، وصلّ الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 20 حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات

الدرس: 20 حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات

تخريج الحديث وبيان درجته، وشرح بعض معانيه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات) تخريج الحديث وبيان درجته، وشرح بعض معانيه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: نبدأ أولًا بتخريج الحديث لبيان درجته: حديث السحر هذا ورد من روايةِ مجموعةٍ من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولكن أشهر رواية رواية أمِّنا عائشة -رضي الله تعالى عنها-. يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه من حديث أمِّنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- روى هذا الحديث عنها عروة بنُ الزبير ابن أختها، أسماء، وروى عنه ابنُه هشام، تقول: ((سَحَرَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ من بني زُرَيْق يقال له: لَبِيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُخَيَّل إليه أنه كان يفعل الشيءَ وما فعله، حتى إذا كان ذاتَ يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال: يا عائشةُ، أَشَعَرْتِ أن الله أفتاني فيما استفيتُه فيه؟ أتاني رجلان، فقعد أحدُهما عند رأسي والآخر عند رِجْلَيّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وَجَعُ الرَّجُل؟ فقال: مطبوب. قال: مَنْ طبَّه؟ قال: لَبِيد بنُ الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مُشط ومُشَاطة، وجُفّ طَلْع نخلةٍ ذَكَرٍ. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذَرْوانَ. فأتاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناس من أصحابه، فجاء، فقال: يا عائشة، كَأَنَّ ماءَها نُقَاعة الحِنَّاء وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين. قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجتَه؟ قال: قد عافاني الله، فكرهت أن أُثير على الناس فيه شرًّا. فأَمَر بها، فدُفِنَت)). هذا حديث رواه الإمام البخاري في كتاب: الطب، باب: السحر، ورواه في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، بنفس الإسناد الموجود معنا هنا، وأوّله: "سحر النبي -صلى الله عليه وسلم-" ورواه في كتاب: الدعوات، ورواه في كتاب: الأدب، ورواه في كتاب: الطب أيضًا، هل يستخرج السحر؟ إلى آخره، ورواه في كتاب: الجزية الموادعة، في باب: هل يعفى عن الذمي إذا سَحَرَ؟

ورواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب: السلام، باب السحر. ورواه الإمام النسائي في سننه الكبرى في كتاب: الطب، باب: السحر. ورواه ابن ماجه في سننه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده في عدة مواطن، وليس في موطن واحد، وأخرجه ابن حبان -رحمه الله تعالى- في صحيحه أيضًا في كتاب: التاريخ، باب: كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى آخره، أبو يعلى أخرجه والبيهقي في (دلائل النبوة) أخرجه، وابن سعد في (الطبقات) أخرجه، والحميدي في مسنده أخرجه، والإمام الشافعي في مسنده، أخرجه، والبيهقي في سننه الكبرى أخرجه، وابن جرير الطبري في (التفسير) أخرجه، كلها روايات من أمنا عائشة، وهناك طرق أخرى لأمِّنا عائشة أيضًا في كتب السنة. هذا التخريج يدل على أن هذا الحديث قد ملأ كتب السنة، وأنه لا يوجد مصدر أو ديوان من دواوين السُّنة المطهرة إلا وقد تعرَّض لهذا الحديث وذكره. إذَن الحديث بعد هذا التخريج صحيح، بل في أعلى درجات الصحة، الحديث إذا رواه البخاري ومسلم فقد تلقته الأمَّة بالقبول، وهو المتفق عليه، وهو في أعلى درجات الصحة، وعلماؤنا يُقسِّمون الحديثَ إلى مراتب الحديث الصحيح، أعلاها باتفاق الأمة ما اتفق عليه البخاري ومسلم. ننظر الآن في بعض لغويات الحديث: السحر له معانٍ متعددة، منها: صرْف الشيء عن وجهه بما خفيَ ولَطف ودقَّ، يعني: نصرف الشيء عن وجهه الذي هو عليه، ووسيلتنا في هذا الصرف بأشياء دقيقة خفية لطيفة لا يراها أحد، أو لا يكاد يعلمها كثير من الناس، ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر: 15) أي: مصروفون عن

المعرفة بالحقيقة، والسحر يُطلَق على الأمور الحسية وعلى الأمور المعنوية، ما دام يصرفك عن الحقيقة أو عن المتابعة، أو يقع في نفسك تزيين، فهذا نوع من السحر؛ ولذلك يقولون مثلًا ... وهذا في الحديث، رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه قدما رجلان من المشرق، فخطبا، فعجب الناس لبيانهما -يعني: كلامهما كان حلوًا طيبًا فصيحًا بليغًا- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من البيان لسحرًا، أو إن بعض البيان سحر)) هذا رواه البخاري في كتاب الطب، باب: "إن من البيان لسحرًا". إذن هذا البيان يكون سحرًا؛ لأنه قد يُقْصَد به تزيين الباطل، وقد يُقْصَد به صرف الناس عن الحق، يعني: الناس تتلقى الكلام الحلو وتتأثر به وقد لا يكون صادقًا، وقد لا يكون حقًّا، وقد يكون المقصود به أن يُصرَفوا عن الجهاد، عن متابعة مسألةٍ ما، فخدعهم هذا القول، فهذا نوع من السحر في المعنويات، يعني: ليس هناك شرْط، بأنْ جسمه سُحِر، أو عقله سحر، إنما صُرِفَ عن متابعة الحق بهذا الكلام المزيَّن الجميل المزخرف الذي خُدِعَ به سامعه. الكلام عن السحر له تفصيلات كثيرة، وكتب كثيرة مؤلفة عن السحر، وكل كتب السنّة التي شرحت الحديث تكلمت عن السحر، وكيف يكون؟ وآيات تفسير القرآن الكريم في قصة سيدنا موسى مع سحرة فرعون، تعرضوا لكثير جدًّا من السحر. السحر وسائله شديدة أو كثيرة، تكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، هو لا يظهر إلا على يد فاسق أو كافر، هو لا يُستدَل به على نبوة ولا يُتَحَدَّى به الخلق، وأحيانًا يكون بالاستعانة بالشياطين وبخداع وتخيلات لا أصلَ لها، المقصود بها خداع الناظر واستمالته كما يفعل الحُواة الذين يعتمدون على

خفة اليد وما إلى ذلك، يعني: هو يكون بالاستعانة بالشياطين، هو لا يصلح أن يكون معجزة؛ لأنه لا يُتَحَدَّى به الخلق، ولا يُسْتَدل به على نبوة، ولا تنقلب به حقائق الأشياء. وأنا هنا سأقف وقفة يسيرة مع عدم انقلاب حقائق الأشياء به؛ لأن هذا هو اللُّب في عمل السحرة كلهم، ولعل كثيرًا من المؤمنين يُحس بالعجز؛ لأنه يتصور أن الساحر يستطيع أن يفعل به ما يريد، وهذا ضعف في الإيمان خطير، بالإضافة إلى أنه فهْم خاطئ لقدرات السحر، الساحر لا يستطيع أبدًا تغيير حقائق الأشياء، علينا أن ننتبه إلى ذلك؛ لأنها مسألة عقدية، مسألة خطيرة أن تعطي للساحر القدرة على أن يغير حقائق الأشياء، فكأنك أعطيته ما لله؛ ولذلك الذي يأتي الساحر ويصدقه أو الكاهن ويصدقه أو العراف ويكهنه: ((فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-))؛ لأنه أعطى ما لله لغير الله. قصة سيدنا موسى مع السحرة: أولًا: القرآن وصفهم بأنهم في أعلى درجات السحر، لما جاء سيدنا موسى -كما في سورة الشعراء- إلى فرعون وناقشه، عَرَضَ فرعون الأمر على الملأ، فقال: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} (الشعراء: 36، 37) {سَحَّار} على وزن فعَّال، و {عَلِيمٍ} على وزن فَعيل، صيغتان من صيغ المبالغة، يعني: هم في علم السحر، والسحر علم غير أن تعليمه حرام، وتعاطيه حرام، وكل ما أوتوا له حرام، لكنه علم له قواعد وأصول، إذن هو كل سحّار، يعني لم يقل: ساحر، عالم، مثلًا على وزن فاعل، إنما سحار عليم، مما يدل على أنهما في أعلى قمم علم السحر إن كان للسحر علم، وله قمة.

والمهم: هؤلاء السحرة جاءوا مذهوِّيين منتفخِين واثقين من النصر يُقْسِمون بعزة فرعون -الذين يزعمون أنه إلههم- أنهم هم الغالبون، وكأنهم لثقتهم يقولون لموسى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (الأعراف: 115) سواء ألقيت أولًا أو ألقينا نحن أولًا نحن سنغلبك سنغلبك. كل هذه الصور المتكاملة من الموقف تُشْعِر بأن السحرة علماء كبار واثقون من الفوز، يتطلعون إلى القرب من إلههم المزعوم، ويتمنون أن ينالوا رضاه وعطاءه في وقت واحد، بدأت المسألة: ألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون. أول الناس الذين آمنوا هم السحرة، الذين وصلوا في علم السحر إلى قمته وتبوءوا الذروة منه، وكانوا يتمنون العطاء، فإذا بهم يُهدَّدون بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فلا يأبهون بذلك، يقولون: {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 50)، سبحان الله! لماذا؟ هذا هو لُبّ المسألة التي أتكلم فيها، وأنا استطردت إلى هذه المسألة لخطورتها وأهميتها العقدية، وأنا أثق في مجال الدعوة، وأتكلم عن هذا كثيرًا أن من أهم أسباب تنامي مكانة السحرة أننا ضعفاء أمامهم، وأننا لا نأخذ بالتحصينات الشرعية، وأننا نتصور أن لديهم القدرة على أن يفعلوا بنا ما يريدون، أعوذ بالله، فكأننا أعطيناهم بعض قدرات الله -عز وجل- ومن هنا كانت خطورة المسألة من الناحية العقدية. لماذا كان السحرة أولَ المؤمنين؟ لأنهم أيقنوا أن الذي جاء به موسى ليس في قدرة بشر، العصا فعلًا انقلبت إلى حية، حقيقتها تحولت، والله -عز وجل- كان يؤهله إلى ذلك، في مطلع سورة طه:

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: 17 - 21). موسى -عليه السلام- يتكلم عن أنه يعرف لماذا يحمل العصا؟ {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}، أراد الله -عز وجل- أن يلفت نظره إلى أننا سننبهك إلى لمهمة أخرى لهذه العصا: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى}، {فَإِذَا هِيَ} إذا الفجائية، تحولت إلى عصا، أنت علمت هذه الخاصية، ستحتاج إليها فيما بعد، حين يوحي الله إليك بأن تستخدمها على الوجه الذي يعلِّمك الله إياه. {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (الشعراء: 45) {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} (طه: 70) حتى بدون تردد، الفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، لم يترددوا لحظةً واحدةً؛ لأنهم علموا أن الذي جاء به موسى ليس في قدرة ساحر أبدًا. في المقابل لمَّا تكلم الله عن صنيعهم قال: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) هي حبال وعِصِيّ باقية على حالها لم تتغير ولم تتحول عن كونها حبالًا وعِصيًّا، غاية ما في الأمر أنه بعمل السحر الذي يعملونه خُيِّل لسيدنا من سحرهم -أي: بسبب سحرهم، مِنْ هنا سببية- أنها تسعى، لكنها لم تتحول إلى حية فعلًا؛ ولذلك لما رأوا العصا تحولت إلى حية علموا أن موسى مؤيَّد من قِبَل الله -تبارك وتعالى- ولذلك يقول المفسرون: لم يقولوا آمنا بموسى وهارون، إنما قالوا ... نقلوا الإيمان مباشرةً إلى رب موسى وهارون، علموا أن البشر لا يأتون بهذا، إنما الذي يأتي به هو الله -عز وجل-: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} (طه: 70). إذن السحرة يُستدَل بسحرهم على النبوة، لا يُتَحَدَّى به الخلق، لا تنقلب به حقائق الأشياء، تكون بالاستعانة بالشياطين، أو بخداع وتخيلات لا أصل لها،

شرح حديث السحر.

يتم بها خداع الناظر واستمالته، ويتصور أن الذي يحدُث أمامه كأنه حق، والسحرة يعانون معاناة في تركيب أشياء في الدفاع في فعل أشياء حتى يتحقق لهم ما يريدون، وهو لا يأتي إلا على يد فاسق أو كافر، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. شرح حديث السحر ((سحَرَه رجل من بني زُرَيْق يقال له: لَبِيد بن الأعصم))، هو ليس يهوديَّ الأصل، هو يهودي بالحِلْف مع اليهود، هو أنصاري خزرجي من بني زُرَيْق، يعني: من الأنصار لكنه منافق؛ لأنه تعاطى السحرَ وسحَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم-. إنما وصفته الروايات بأنه يهودي؛ لأنه كان بينه وبين اليهود حِلْف، وهذا كان موجودًا في المدينة بالذات، تَحالفَ كثيرٌ من بطون الأوس أو بطون الخزرج مع اليهود؛ نظرًا لما كان لهم من سَطوة اقتصادية أو عسكرية، وكان ذلك قبل الإسلام، وردّوا هذه العهود على أصحابها حين نهى الإسلام عن موالات غير المسلمين أو الذين يحاربون الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} (الممتحنة: 1) إلى آخره. "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن"، هذا أثرُ السحر في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم. ((يا عائشة، ألا ترين أن الله قد أفتاني فيما استفتيه)) أي: أظهر لي حقيقة مرضي، أَطلقَ عليه الدعاء، والداعي يسمَّى مستفتيًا والمُجيب يسمى مفتيًا؛ لأنه طلب من ربه -سبحانه وتعالى- أن يكشف عنه ما هو فيه. "الملكان جاءَا" في بعض الروايات أنهما "جبريل وميكائيل"، يسأل أحدهما صاحبه: ((ما يشكو الرجل؟ قال: مطبوب)) طب يطُبّ ويطِبّ في المضارع فاء الكلمة تُضَمّ وتُكْسَر، وهو من

أسماء الأضداد، يعني يستعمل في المعنى وضده. عندنا كلمات في اللغة العربية تستعمل في المعنى وضده، مثل كلمة "مولى" تستعمل على السيد وتستعمل في العبد، أيضًا هنا طَبَّ تطلق على العلاج الذي يتلقاه الناس لعلاج أجسامهم ونفوسهم حين يذهبون إلى الأطباء، ويُطلَق على السحر أيضًا، إذن هو مطبوب يعني: مسحور. ((مُشط ومُشَاطة)) والمُشط: هو الأداة التي نسوِّي بها شعرنا، وهو آلة معروفة لتسريح وتنظيم شعر الرأس واللحية، والمُشاطة هي الشعر الذي يسقط من الرأس نتيجة التمشيط، وهي بكسر الميم وضمها مِشاطة ومُشاطة، وتقال على بقايا الوَبَر من الكتَّان ومن غيره، يقال مثلًا: مشاطة الكتاب، وفي بعض الروايات هي بالقاف المشاقة أو المشاطة، هي بنفس المعنى ما سقط من الشعر. ((جُفّ طَلْع نَخْلٍ ذَكَر)) الجُفّ: بهذا الضبط الذي نقوله -بضم الجيم وتشديد الفاء- هو وعاء طلع النخل، هو الغشاء الذي يكون فيه على الطلع، أي: فوقه، وطرفه الذي يتخلق فيه، وفي رواية مسلم: ((جُبّ)) بدل: ((جُفّ)) وهما بمعنى أيضًا؛ ولذلك وقع الجمع بينهما في رواية عند الإمام أحمد ذكرتْهُما معًا، قالت: "جب أو جف"، وهناك بعض اللغويين فرّق بينهما، بأن الجف: هو وعاء الطلع، والجب -بالباء-: هو ما بداخل الطلعة نفسها. ((بئر ذَرْوانَ)) هو بئر لبني زُرَيْق بالمدينة، هذه المكونات كلها للبئر، مكونات السحر: المُشط والمُشاطة كانت موضوعة في الجب، والجب هذا موضوع تحت الصخرة في وسَط البئر، ولما جاء الملكان وأعلما النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكان السحر ذهب هو وجمْع من الصحابة، في روايات كثيرة: عمار بن ياسر، علي بن أبي طالب، استخرجاه من السحر، هناك روايات أنهما دفناه، وهناك روايات أنهما أحرقاه، وهناك غير هذا ...

الرد على ما أثير حول حديث السحر من شبهات.

والمهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تخلَّص منه ولم يُعَقِّبْ، ولم يُرِد أن يجعلها فتنةً للناس، إنما انتهى الأمر عند هذا الحد. الرد على ما أثير حول حديث السحر من شبهات الشُّبَه التي أثاروها: الشبهة الأولى -ولعلها أخطر شبهة-: هذا الحديث يَحُطُّ من منصب النبوة ويشكك فيه؛ وطبعًا كل ما يؤدي إلى ذلك فهو باطل. ومن ثَمَّ فمن وجهة نظرهم كل ما أدى إلى هذا فهو باطل، والحديث على ذلك باطل، هكذا يزعمون. نقول: كأنهم يريدون أن يقولوا تجويز الحديث يؤدي إلى القدح في النبوة، وقد يؤدي إلى عدم الثقة بالشرع؛ ولذلك أنكروا هذه الرواية، وكما قلت: هذه أخطر شبهة يثيرونها حول هذا الحديث. أولًا: في بداية الرد على هذه الشبهة نقول: إن الإجماع قد انعقد على وجوب عصمة الأنبياء مما يُخِلّ بالتلبيغ، يعني: الأنبياء معصومون مِنْ أن يتعرضوا لشيء يؤثِّر على تبليغهم لدعوتهم ولمنهجهم الذي جاءوا به من عند الله -عز وجل- وأيضًا معصومون من المعاصي، ومعصومون من كل ما لا يليق بمقام النبوة، يجوز في حقهم ما يجوز على البشر من: الأكل، والشرب، والنكاح، والزواج، وكل العوارض البشرية التي يتعرض لها البشر،

مما لا يؤدي إلى نقص في مراتبهم السامية: كالمرض، وأيضًا الإغماء، أغمي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الأخير كما ثبت في (الصحيح)، بخلاف المرض الذي فيه نقص: كالجنون، والجُذام، والبرص مثلًا، الذي يصرف القلوب عن متابعة الأنبياء، كل ذلك هم معصومون منه. فبالجملة: كل ما يؤدي إلى الانتقاص من مقام النبوة ومن أشخاص أصحابها، الأنبياء جميعًا والنبي -صلى الله عليه وسلم- على رأسهم معصومون منه؛ إذن هذه قضية لا جدال فيها، وأيضًا معصومون من كل عوارض بشرية تؤدي إلى نقص في مكانتهم أو منزلتهم أو تؤثر على تبليغهم، مثل: المرض الشديد الذي يصرف القلوب، أو الأمراض المعدية، أو ما شاكل ذلك. أما سائر العوارض البشرية فتسرِي عليهم، ولقد تعجب الكفار فقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (الفرقان: 7) وكأنهم يريدون أن يأتي ملك من جنس آخر غير الجنس الذي يأتي البشر، مع أنه من المنطق جدًّا حين يأتي الرسول إلى بشر أن يكون بشرًا مثلهم، وأن يخاطبهم بلسانهم حتى يفهموه ويستوعبوا عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم: 4). ومن العجيب في البيئة العربية القديمة أنهم في الوقت الذي استكثروا واستثقلوا أن يكون فيه الرسول بشرًا قَبِلوا أن يكون فيه الإله حجرًا -والعياذ بالله- مما يدل على خلل العقول، وأن الأمر إذا أوكل إلى العقول بدون عصمة الوحي فإن العقول تضل وتتيه في بيداء الظلمات ولا تهتدي إلى معرفة الحق والصواب. هذا التخيل المذكور ما الذي أثر في النبي -صلى الله عليه وسلم- في السحر؟ الذي يرد على هذا كل الروايات، حتى الروايات المطلقة تحمل على الروايات المقيدة، وهذا فن حديثيّ معروف عند أهل الصنعة، خلاصته: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كل الأثر الذي تعرّض له هو أنه كان يُخَيَّل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، كله أثر السحر.

هل نُقِل عن الرسول قول أو فعل أثناء إصابته بالسحر يُفهَم منه خلل في التبليغ، أو في الأحكام، أو في النقل، أو في آيات القرآن، أو ما شاكل ذلك؟ نحن نتحدى هاتوا لنا موقفًا واحدًا أثناء مرضه بالسحر، حتى العلماء حددوا التاريخ، قالوا: كان بعد عودته من الحديبية، في أواخر سنة ستة هجرية وأوائل سنة سبعة، وحددوا المكان الذي كان فيه السحر، كل ذلك وارد بالأدلة. يعني: لم يَخْفَ شيء، ليس هناك ما نخفيه ولا ما نستره، لا تأثيرَ للسحر أبدًا على القدرات التفكيرية أو ما شاكل ذلك، أو الوحي الذي جاءه. ونتحدى أن يأتي أحد -هذا الذي كان يخيفنا- أو يقال: قولكم بالسحر قد أثَّرَ على النبوة، ونتحدى أن يأتي موقف واحد يبين أنه أثَّرَ على ما يخص التبليغ، وما يخص الدعوة، وما يخص مهامّ النبوة بأيّ صورة من الصور. ((يُخَيَّل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله))، هذه رواية مطلقة فُسِّرت في روايات متعددة كلها في (الصحيح) بأنه يُخَيَّل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. وأثَر السحر يبدو في المقام الأول في قضية المعاشرة الزوجية، هل سمعنا عن رجل اختل عقله بسبب ذلك؟ هل سمعنا عن رجل ظهرت عليه علامات الجنون أو الخبل؟ لم نسمع أن رجلًا من الناس بسبب ذلك تعرض لشيء يتعلق بفكره، بعقله، بقدراته البشرية، أو البدنية، أو كذا ... نحن قلنا: إن الساحر لا يستطيع تغيير حقائق الأشياء، هو لا يسلب الرجل القدرة ثم يعيدها إليه، كل الذي يحدث إنما هو أثر في نفس المسحور، فيتخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، لكن القدرات لم تمس، لا القدرات العقلية، ولا القدرات البدنية، وحتى غير الأنبياء أمامنا دليل، ونحن نتحدى في هذا، حتى في حياة البشر العاديين أن يأتوا بحادثة واحدة يقولون: إن مَنْ مُنِعَ النساء بالسحر ...

وهذا هو الميدان الذي يعمل فيه السحرة، وأعتقد أنه لا مكان لهم وغيرهم، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله -تبارك وتعالى-. نحن نبالغ في قدرات الساحر، وبالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كل الذي حدث أنه كان يُخيَّل إليه أن يأتي النساء ولا يأتيهن، ما دليلنا على ذلك؟ الروايات، ودليلنا على ذلك الأوضح والأقوى أن يأتوا بحادثة واحدة يقولون فيها: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثَّر السحر عليه فيما يتعلق بالقدرات التفكيرية. إذن هو عارض بشري مما يعرض للبشر ولا يخل بمكانته ولا بمنزلته. ثم لا يتصورَنَّ أحدٌ أن هذا الأمر معارض لعصمته -صلى الله عليه وسلم- نحن تعرضنا لهذا قبل ذلك ونُذَكِّرُ به، كثيرٌ من الناس يقول: إن الله قد عصمه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) وتعرُّضه للسحر يعارض هذه الآية ويتناقض معها، وبالطبع حين يصِلون إلى هذه النتيجة فهم يردُّون الحديث، القرآن هو ما تعهد الله بحفظه، هكذا يقولون، ويُزيَّن لهم ذلك بالشبهات التي يثيرونها. {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) لا تعني أبدًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتعرض لمحاولات الإيذاء، لم يقل أحد من الأمة بذلك، بل قلنا: إن تعرضه للإيذاء هو دليل على العصمة. كيف ذلك؟ يعني: الذين يؤذونه يحاولون لكنهم لا ينجحون، لا ينالون ما يريدون، لا يحققون ما يهدفون إليه، إنما يتعرضونه، يحاولون ويُرَدّ كيدهم إلى نحورهم، ويُرَدُّون على أعقابهم فلا يتحقق مبتغاهم أبدًا. النبي -عليه الصلاة والسلام- سُمَّ، ما الفرق بين السم والسحر؟ سُمَّ، فتعرض للسم، وكَشْف السم عنه كان بمعجزة، كما هنا بالضبط م عجزة، تحدثت الشاة وقالت: "إني مسمومة". فظهرت عصمة الله له، أنهم كادوا ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن كيدهم أُحبِط

ورُدّ إلى نحورهم، وإلا لو لم يتعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- للإيذاء أبدًا، فكيف كنا سنتعرف على أنه معصوم، هل سيكون عندنا دليل؟ فقط ظاهر الآية، أما مواقف عملية تعرَّض فيها لشيء وحُفِظَ، لو لم تكن لدينا تلك المواقف كيف كنا سنرى التطبيقات العملية لهذه الآية!! إذن هذه التعرض للأذى دليل على عصمة الله له وحفظه للنبي -صلى الله عليه وسلم- بمعنى أنه يتعرض: يدبرون لقتله في الهجرة وفي غير الهجرة، يكيدون ضده، يضعون السم في طعامه، يسحرونه ... إلى آخر ذلك، لكن الدعوة ماضية إلى غايتها، ونصر الله معاضد لها، ولم يتركها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد أصبحت على المحجة البيضاء، وأكمل أصحابه المهمة من بعده، فبلغوا دين الله للعالمين. لم تتأثر الرسالة، ولم تتأثر الدعوة، ولم يتأثر الوحي ولا الموحَى به لا في القرآن ولا في السنة، ولا في التبليغ ولا في التشريعات، ولدينا الإسلام كله، ولدينا التحدي الذي نصرّ عليه، بأن يأتي أحد بحادثة واحدة فيها خلل في المنهج بسبب ذلك السحر الذي تعرض له النبي -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا لماذا الأمر في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ سيدنا موسى سُحِرَ، والقرآن هو الذي أثبت ذلك، ولم يقل أحد: إنّ سحر سيدنا موسى كان سببًا في شيء يتعلق بالدعوى، ونفس التعبير الذي استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمله ربنا مع سيدنا موسى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) خُيِّل إليه أنها تسعى بسبب ما صنعوه من السحر، أثَّرُوا فيه، لا أريد أن أقول سحروه، تعرض للسحر، فخيِّل إليه بسبب هذا السحر أن حبالهم وعصيهم تسعى، لكنها حبال وعِصِيّ، لم تخرج عن حقيقتها هذه؛ ولذلك آمن السحرة.

الأعداء -وحتى في زماننا هذا- يستعملون كل الأسلحة التي يستطيعون استعمالها: من سحر، وسُمّ، ومحاولة للقتل، ومحاولة لصرف الخصوم، وصبّ العذاب، وإثارة الشائعات؛ كل ذلك استُعمِل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع الصحابة، ما الضرر في هذا أن يتعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك؟ ولكن كما قلت ... نحن سنظن خيرًا ببعض المعترضين على الحديث بأنهم يخافون أن يسبب ذلك حرجًا للوحي نفسه أو للموحَى به من القرآن ومن السنة ومن أوامر الشرع ونواهيه، لكننا نطمئنهم أنه لم يحدُث ذلك لا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا مع سيدنا موسى، ونتحدى. النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له أعداء في زمانه في حياته، لم يقل أحد: يا محمد، هذا مما أثر فيه السحر فيك، فصرت تقول قولًا غير دقيق، مثلًا، أو صرت تعمل. كيف تَثْبُت الأمور؟ تثبت الأمور بمثل هذه الأدلة التي لا يستطيعون أن يأتوا بواحد منها أبدًا، فالله قد عصمه، وليست العصمة بأن لا يتعرض لأذى، وإنما العصمة تظهر مع محاولات وقوع الأذى لكنها لا تصل إلى أهدافها. أيضًا من الشُّبَه التي أثاروها حول هذا الحديث، يقولون: إنه على فرض صحته فهو حديث آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد التي ينبغي أن نؤمن بها. هذا كلام فيه تهويل، وفيه مبالغة، نعم، عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يؤثر على العقائد، هذه يجب أن نعتقدها، ونحن بدأنا كلامنا ببيان أن َّ مِن المُجْمَع عليه عند الأمة أن الأنبياء معصومون عن كل ما يؤثر في العقيدة، وفي التبليغ، وما إلى ذلك.

أما القول بأنه حديث آحاد، وانتهينا من خلال الأدلة ومن خلال عمل الأمة، أن الأمة أجمعت على وجوب العمل بخبر الآحاد، خبر الآحاد أو خبر المتواتر، هذا يتعلق بقضية هي أصلًا جاءت عند المحدِّثين من الأصوليين، هي ليست قضية حديثية في المقام الأول، المحدِّثون يهتمون بإثبات صحة نسبة الحديث، للنبي -صلى الله عليه وسلم- كل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو كذا ... أما أن يقال: إن هذا ظنيّ الثبوت، أو هذا قطعيّ الثبوت، هذا مبحث أصولي نقله المحدثون عنهم؛ لأنه يتعلق بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا .. خبر الآحاد ما هي القضية المثارة حوله؟ هو درجة ثبوته بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- يعني: الخبر المتواتر نحن نقطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله ومُنكِرُ ذلك كافر؛ لأنه كما أنكر القرآن؛ لأن القرآن ثبت بالتواتر، أما حديث الآحاد فهناك مَن قال من العلماء: إنه مقطوع بصحته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهناك من قال: إنه مظنون، يعني: يغلب على ظننا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، ولا نقطع بذلك بنسبة مائة في المائة، أيًّا كان، لكن الفريقين معًا اتفقَا على وجوب العمل بحديث الآحاد، لم ينازع في ذلك من أئمة الأمة الذين هم أهل الحل والعقد، والذين نأخذ عنهم، بدءًا من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة المتبوعين وغيرهم، كلهم؛ ولذلك صار من قواعد الأمة المجمع عليها أن حديث الآحاد يجب العمل به؛ لأن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها، وهذا أيضًا من القواعد التي اتفقت عليها الأمة، أن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها. نحن نصوم بإخبار واحد أو اثنين أنهما رأيَا الهلال، نحن نقيم الحدود بشهادة شاهدين، وكل ذلك خبر آحاد إذن، وخبر الآحاد يُعمَل به في العقائد، من الذي قصره على الأحكام دون العقائد، أو على الفرائض دون العقائد؟ مقتضى الأدلة يُثبت أن حديث الآحاد يعمل به في كل ذلك، عشرات الأدل ة، ذكرناها في حينها، النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أرسل الرسالات إلى الملوك والرؤساء يدعوهم للإسلام،

يدعوهم إلى العقيدة، للدخول في الإسلام ذاته: ((أسلمْ تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين)) قيلت هذه العبارة لهِرَقْل ولكسرى وغيرهم، حين أرسَل معاذًا إلى اليمن: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب، أول ما تطلب منهم، اطلب منهم أن يشهدوا ألا إله إلا الله، وأني رسول الله -هذه عقيدة- وإن هم أجابوا لذلك أو أطاعوا ذلك أُخبرُهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة". عشرات الأدلة على أن أخبار الآحاد يُعمَل بها في العقائد، ويعمل بها في الأحكام، وفي كل ذلك، ولا سبيل أبدًا للتفريق في الإسلام بين العقيدة وبين التشريعات؛ فكلها من أمور الدين، وكلها مطلوبة، نعم، بعضها أهم من بعض، لا ننازع في هذا، لكنَّ درجة ثبوتها واحدة، نحن لا نأخذ أمرًا حتى نقرّ بفضائل الأعمال، إلا إذا كان قد ثبت بدليل قوي يحتج به. إذن القول بأنه خبر آحاد هذا قول مردود عليه بوجوب العمل بخبر الآحاد، والحديث كما قلت رواياته كثيرة، ويُعْمَل به، وليس فيه أبدًا ما يجعلنا أن نقول: إنه خبر آحاد ولا نعمل به. هذه الشبهة أنا أود أن يغلق الباب حولها، لا يصح أن نَلُوكها في كل صغيرة وكبيرة، بعد هذه الأدلة المتعددة التي وردت في القرآن والسنة، تبيَّن أن حديث الآحاد يعمل به في كل شيء، ولقد أحلنا حين تكلمنا عن هذه القضية إلى رسالة الإمام الشافعي باعتبارها أصلًا في هذا الباب، وكتابًا مهما جدًّا في هذا الباب، وقد ذَكَرَ أكثر من ثلاثين دليلًا من القرآن والسنة على وجوب العمل بحديث الآحاد خاصة في العقائد، وفي الأحكام، وفي كل ذلك، وأن الذين فرَّقوا بين أمور الإيمان والعقائد وغيرها وفي الاحتجاج بالأدلة، لا يستندون إلى أدلة من القرآن أو السنة.

أيضًا من الشُّبَه التي أثاروها في هذا الأمر يقولون: إننا إذا أثبتنا السحر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فكأننا أيَّدنا قولَ الظالمين الذين حكى القرآن عليهم في سورة الفرقان: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا مَسْ حُورًا} (الفرقان: 8). الحقيقة: هذا كلام عجيب جدًّا، أولًا: هي دعوى يقولها أعداء كل نبي للنبي، الخصوم يقولونها وردت أيضًا في حق سيدنا موسى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} (الإسراء: 101) واستعملوها في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرنا في سورة الفرقان، وفي سورة الإسراء: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (الإسراء: 47) أوَكلمَّا قال الأعداء قولًا ننفيه بنفي ما ثبت عندنا من أدلة قوية؟ مع ملاحظة هذا، أن: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (الإسراء: 47) هذه لا علاقة لها أبدًا بحديث السحر، هذا موضوع مختلف تمامًا، ولا أدري ما هو الرابط بين القولين؟ بل إني أعتقد اعتقادًا جازمًا أن الكفار قالوها وهم يعلمون أنهم كاذبون فيها. يعني: السياق الذي ظهرت فيه الآيات ومواقفهم التي قرأناها في السيرة وفي غيرها، أنا أثق بأنهم قالوها وهم واثقون من كذبها. القرآن لم يُشِرْ إلى قضية سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريب ولا من بعيد، قضية السحر الذي تعرَّض له النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تأتِ في القرآن، إنما ذَكَرَ فقط قولهم: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (الإسراء: 47). لماذا وجَّهوا إليه هذه التهمة؟ هم تحيَّروا في بلاغة القرآن وفصاحته، استمعوا له من النبي -صلى الله عليه وسلم- هم عجزوا عن الإتيان بمثله، وتدرَّجَ القرآن معهم في التحدي، بعد أن كان المطلوب أن يأتوا بمثل

هذا القرآن، بيَّنَ عجزهم عن هذا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) ثم نزل التحدي إلى التحدي بعشر سور: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} (هود: 13) افتروا مثله، إذا كان هو ذكيًّا وفطنًا واستطاع أن يفتري، افتروا مثله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود: 13) ثم عجزوا في التحدي، فنزل منهم إلى سورة مثله، ثم إلى سورة ولو مِن مثله، لا يشترط أن تكون مثله تمامًا في الفصاحة والبلاغة. إذن هم لمَّا تحيَّروا مع القرآن وفصاحته وبلاغته وعجزوا عن الإتيان بمثله، لم يكن أمامهم بدلَ أن يهتدوا وأن يعرفوا أنه ليس كلام البشر، كما جرى على ألسنتهم أحيانًا من غير قصد، حين قال الوليد بن المغيرة: "إن أعلاه لمُثْمِر، وإن أسفله لمُغْدِق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة" لكنها لحظات ثم تعود العماية مرة ثانية فيُطَمس على قلوبهم ولا يستجيبون للحق. هم لمَّا تحيروا مع بلاغة القرآن وفصاحته قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (الإسراء: 47) كانوا يقولون عنه: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (ص: 4) السيرة تروي أنهم كانوا يجتمعون في ناديهم ويقولون لأنفسهم: ماذا نقول عن هذا القرآن؟ لقد عرفنا سجع الكهان، وعرفنا كذا وكذا، وما هو من هذا الأمر بشيء أبدًا، ثم يتفقون فيما بينهم على أن يقولوا: إنه سحر، أو يقولوا ما شاءوا. إذن الخوف من الآية أو من مقولة الكفار خوف لا محل له أبدًا، ولا يرِدُ معنا هنا، الآية في وادٍ والحديث في واحد أيضا. يقولون: السحر من عمل الشيطان، والشيطان ليس له سلطان على الأنبياء، بل إنه ليس له سلطان على عباد الله المخلصين، الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر:42: 43)

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (الإسراء: 65). بل إن الشيطان نفسه يَعْلم قدراتِه، ويعلم أنه لا يستطيع أن يؤثر في عباد الله الصالحين، هو حين طلب من الله مهلة أن يبقى إلى يوم القيامة ليفتن مَنْ يُفْتَن قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: 82، 83). والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد حدثنا عن بعض الناس في هذا، وهو عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- فقال في (الصحيحين) في مناقب عمر: ((إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لو رآك الشيطان سالكًا فجًّا قط، لَسَلَكَ فجًّا غير فجك)). إذن الشيطان نؤكد أنه ليس له سلطان على عباد الله المخلصين، ولن يكون له سلطان أبدًا على أنبياء الله المرسلين، ومن أوّلِهم وعلى رأسهم سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو معصوم محفوظ بحفظ الله -تبارك وتعالى- من الشيطان. القلوب الممتلئة بذكر الله تعالى لن ينال منها الشيطان أبدًا، وإنما الشيطان تسلُّط الإغواء والإضلال، كتزيين المعاصي مثلًا والآثام، التكسب بالحرام، تزيين الكفر لهم -والعياذ بالله-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (مريم: 83) تغويهم وتُزَيِّن لهم. كل ذلك الأنبياء معصومون منه، يعني: لا يمكن أبدًا أن ينالوا من الأنبياء في هذا، ولا من عباد الله المخلصين، أما أن يعقِدوا عليهم بسحر أو بكذا، هذا من الأمراض التي تجري على الأنبياء كما تجري على البشر، فلم يقل أحد أبدًا: إن هذا التأثير من الشيطان يتعلق بدينهم، بسلوكهم، بطهارتهم، بعفتهم، باستقامتهم، كلا وحاشا، هذا هو الميدان الذي لا يستطيع الشيطان أبدًا أن يأتي لا إلى الأنبياء ولا إلى عباد الله المخلصين من هذا الباب، لا هو يستطيع إغواءهم ولا إضلالهم، ولا أن يُزيِّن لهم، ولا أن يحبب إليهم الفسوق والكفر

والعصيان. كل ذلك أنبياء الله -يبارك وتعالى- معصومون منه بفضل الله -تبارك وتعالى-. إذن الخوف من هذا -وأنا أيضًا سأفترض حسن النية عند من يثيرون هذه الشبهة- نقول لهم: اطمئنوا، لا سلطانَ للشياطين أبدًا على الأنبياء، فضلًا عن أن يكون هو نبي الله سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- مع ملاحظة أن الشياطين مهما كانت قدرتهم، والسحرة مهما كانت قدرتهم، كل ذلك لن يتمكنوا أبدًا من النيل من أحد إلا بإرادة الله -عز وجل-: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 102) فإذا استعان أحد السحرة بالشياطين وتعرَّضُوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض الأذى من هذا، فهذا لا يدل أبدًا على تسلط الشياطين عليهم، أو أنهم يستطيعون أن يفعلوا معهم ما يفعلونه مع غيرهم من الخلق، كلا وحاشا، بل أنبياء الله -عز وجل- والنبي -صلى الله عليه وسلم- على رأسهم، معصوم من هذا. أيضًا يقولون: قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- المعوذتين في دعاء ورقية يرقِي بها نفسَه من السحر الذي تعرض له، والآيتان أو السورتان نزلتا بمكة: أولًا: نزولهما بمكة أو بالمدينة محل خلاف، لكن هَبْ أنهما نزلتا في مكة، ما المشكلة في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ بهما ويرقي بهما نفسه وغيره. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا أنه كان يقرأ المعوذتين وسورة الإخلاص ويمسح بهما نفسه ثلاث مرات قبل أن ينام، وهذه من السنة التي نتبعها أو نقتدي بها بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزول السورتين في مكة أو في المدينة، لا يؤثِّر في صحة الرواية في شيء أبدًا، وحتى لو هناك بعض الروايات تقول: إن سورتي المعوذتين نزلتا بسبب ذلك، عند علماء القرآن أنه يجوز أن تتعدد أسباب نزول الآية، وأن تنزل الآية على

أسباب متعددة ومرات متعددة، هذا موجود عندهم، ويضربون أمثلةً متعددة على ذلك. أيضًا يثيرون شبهًا لا تستحق الوقف، يقولون: سحره رجل هو لَبِيد بن الأعصم، ويقال في الآية: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (الفلق: 4) وهن النساء السواحر، فما العلاقة بين لبيد وبين الاستعاذة من النساء السواحر؟ لماذا لا نقول: إن الآية: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (الفلق: 4) أي: النفوس السواحر، هي تشمل الرجال والنساء، ما البعد في هذا إذا قلنا إن هذا المعنى، وأيضًا حتى لو قلنا: إن المقصود بهن النساء السواحر، فلعل ذلك على أن هذا الأمر يَكثر بين النساء، لكن هل إذا تعرض الرجل منا لسحر رجل لا يتعوذ بالسورة؟ من الذي يقول هذا؟ إن التعوذ من سحر النساء لا ينفع في التعوذ من سحر الرجال، أو العكس؟ هذه مماطلة ومماحَكة لا طائلَ من ورائها. هذا وبالله التوفيق، وصلّ الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 21 تابع حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات

الدرس: 21 تابع حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات

ذكر ما تضمنه الحديث من فوائد عظيمة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (تابع حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات) ذكر ما تضمَّنه الحديث من فوائد عظيمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فوائد الحديث الهامة التي تدل على صحة الحديث، وعلى احتياجنا إليه، وعلى أن فيه منهجًا يُتَّبع إلى يوم القيامة، وأن فيه دروسًا وعظاتٍ وعِبَرًا، نحتاجها في كل شئون حياتنا: أولًا: في هذا الحديث عَلَم ومعجزة، عَلَم من أعلام النبوة، معجزة من معجزات النبوة، أن الله -عز وجل- أطلَعَه على مكان السحر، وهو مكان خفيّ جدًّا، في جُبّ طَلْع شجر، في مُشاطة في بئر، شيء في داخل شيء، في داخل شيء، تحت صخرة كبيرة في وسط البئر، وكل ذلك أظهره الله تعالى عليه، وبعثَ ملكين يعالجانه ويخبرانه بمكان الجُبّ، هذه معجزة، هذا علم من أعلام النبوة، وهذا دليل ساطع وبرهان صادق على صدق نبوته -صلى الله عليه وسلم- وأنه أيضًا محفوظ من الله -تبارك وتعالى-. لماذا لم يأخذوا من هذه دليلًا على العصمة، وتوقفوا على أن الحديث قد يتعارض مع العصمة؟ هذه هي العصمة الحقيقية، يتعرض لأذى ويُصْرَف عنه الأذى، ويُدَلّ على مكانه رغم تصور السحرة الذين فعلوا السحر أنهم مهرة، وأنهم أذكياء في إخفائهم للسحر في هذا المكان الدقيق، ونسُوا أو تناسَوا أن الله -عز وجل- يؤيده بالوحي، وأنه كان سيعلمه حتمًا، وإنما ظل بعض الوقت ليصبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الابتلاء من ناحية، ولنعلَم أن الأنبياء تُبتلَى كما يُبْتَلى البشر، ولِنَعلَمَ أن الأمر علاج في نهاية الأمر. يعني: كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يثبت المعجزة أمام الصحابة، فاصطحب معه نفرًا منهم ليعاونوه وليستخرجوا السحر، يكون ذلك دليلًا على أن المكان الذي حُدِّدَ

له هو المكان الحق، وهو الحق لأنه أُخْبِرَ به عن طريق الوحي؛ إذًا هذا درس يدل على العصمة، يدل على صدق النبوة، يدل على حفظ الله -تبارك وتعالى- اصطحب النبي -صلى الله عليه وسلم- معه الصحابة ليعاونوه أو ليظهر أمامهم أنه نفس المكان الذي حُدِّدَ له في نومه، وأيضًا ليَثْبُت أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله تعالى لهم. هذا درس، وهذه قضية معروفة، نحن حين نُدَرِّس أو نقول عن السُّنة: ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو إقرار أو صفة خَلْقِيّة أو خُلُقِيّة، حتى الحركات والسكنات، في اليقظة وفي المنام، وهذا أمر قامت عليه أدلة كثيرة، وهذا الحديث من بين الأدلة على أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله -تبارك وتعالى- عنهم. أيضًا من فوائد الحديث: أن أمّنا عائشة تقول: ((لكنه دعا ودعا)) وفي رواية أخرى عند مسلم في (الصحيح) بلفظه: ((دعا رسول الله ثم دعا، ثم دعا)) يعني: ألح في الدعاء جدًّا؛ الدعاء يصرِف البلاء بإذن الله -تبارك وتعالى- والبلاء ينزل والدعاء يصعد، ويتعالجان إلى يوم القيامة، ولا يرفع البلاء إلا الدعاء، والدعاء برفع البلاء لا ينافي الصبر ولا التفويض ولا التسليم، هذا مقرر عند العلماء، إنما هو استنجاد واستغاثة واستعانة بالله -تبارك وتعالى- الذي لا يكشف الضُّر إلا هو، ولا يُنزل البلاء إلا هو، ولا يأتي بالخير إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (يونس: 107). وليعلمْ الذين يتعرضون للسحر، الذين يذهبون إلى السحرة لدفع الإتاوات ودفع الرشاوى، أنه عليهم أن يعتصموا بالمنهج النبوي في هذا، بأن يلجئوا إلى الله -عز وجل-

وأن يدعوه، وأن يستغيثوا به، وأن يستعينوا به، لا يتبعون وسائل أبدًا لم تأتِ في الشرع مما يتحدث به الناس. ((دعا ودعا، ثم دعا ثم دعا)): {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) هذا وعدٌ من الله أن نتوجه إليه بالدعاء -سبحانه وتعالى- فيستجيب دعاءنا. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) وهذا وعد من الله -عز وجل- لا يتخلّف أبدًا؛ لأنه وعد من الله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 6) لكننا نتقرب إلى الله -عز وجل- بما يرضيه، بالتضرع إليه، وبالإلحاح عليه؛ فإن الله يحب المتضرعين المُلحِّين؛ لأن الدعاء في جوهره خلاصته أنك تعلم أنه لن يأتي بالضر إلا اللهُ، ولن يصرف الضر إلا الله، لن يأتي بأي نفع إلا الله، ولن يصرف أي ضُر إلا الله -عز وجل- الذي يريد العزةَ يطلبها من الله، الذي يريد النصر يطلبه من الله، الذي يريد القوةَ يطلبها من الله، الذي يريد النفع يطلبه من الله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (يونس: 107) {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (فاطر: 2) العزة لا تطلبُ إلا من الله، من كان يريد العزة فالعزة لله جميعًا. السحر وما هو أشد من السحر، وما هو أنكى من السحر، وأيّ مرض مهما كانت خطورته يكشفه الله تعالى حين يريد، بحسن التضرع إليه، وبالأخذ بالأسباب، على أن يكون على رأس الأسباب: أن نبتعد عن المَطْعَم الحرام الذي يمنع إجابة الدعاء: ((مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِّي بالحرام؛ فأنى يستجاب له)). فهذا درس مهم جدًّا نقف عنده وقفاتٍ كثيرة جدًّا لنتعلمَها، ولنطلبَ من الله -عز وجل- وندعوه بما يرضيه عنا، بل إن ربنا -عز وجل- في كرمه وفي منه وعطائه للبشر، هو الذي

ينزل إليهم كل ليلة، عند السماء الدنيا، من منتصف الليل حتى الفجر، نزولًا يليق بجلاله وكرمه -جل في علاه- يقول: ((هل من سائل فأعطيَه، هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له)) هل من كذا، هل من كذا، هل من كذا ... إلى مطلع الفجر. أيضًا من فوائد الحديث الهامة جدًّا: أن الصالحين مثل غيرهم يتعرضون للابتلاء، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح: ((أشد الناس ابتلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)) على قدر منازل الناس في الطاعة والعبادة على قدر ما يكون الاختبار والامتحان لهم؛ ليتميزَ منهم الصادق من غيره، يعني: قد يكونون هم صالحون ملازمون للذكر والدعاء وقراءة القرآن، يُكثرون من الطاعات ويبتعدون عن المعاصي فكيف يتعرضون،: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35). والمشاكل أو البلاءات التي تصيب الناس هم يستفيدون منها، إن كان في رفع الدرجات، أو في حطّ الخطايا، أو تكفير الذنوب، والذي يحاسب الله عليه خلْقه أكثر من الذي يؤاخذهم عليه -جلَّ في علاه- إذًا الأنبياء والصالحون يتعرضون للابتلاء، والسبيل إلى رفع هذا الابتلاء هو بالتضرع إلى الله -جلَّ في علاه-. أيضًا في الحديث: ما يفيد أن تأثير السحر لم يكن قويًّا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو فقط يُخيَّل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وفي قصة سيدنا موسى أيضًا نفس القضية، يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، يعني: كل الذي استطاعه السحرة أنه خيل إليهم لم يؤثروا فيه تأثيرًا عميقًا، إنما التأثير العميق يكون مع أصحاب القلوب الضعيفة، كقلوب

النساء مثلًا والجهَّال، وما إلى ذلك. كما يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (زاد المعاد): إنَّ تأثير السحر يكون على القلوب الضعيفة، وعلى غير المُشَرَّب بالإيمان القوي، التي تستسلم للابتلاء أو للسحر وتبكي ولا تحاول الاستشفاء بالوسائل الشرعية، أو تضعف أمام الساحر وتستكين له، وكأنه يستطيع أن ينفع وأن يضر وأن يُعز وأن يُذِلّ -أعوذ بالله- وهذا من الدروس المستفادة، حتى من قصة السحر هنا، ومن قصة سيدنا موسى، ومن قصة السحرة؛ الساحر لا يستطيع أبدًا أن يتجاوز قَدْرَه. لو كان الساحر يستطيع أن يغير حقائق الأشياء كان يحوِّل الورق الذي في أيدينا إلى نقود وينتهي الأمر، كل الذي يفعله لينال العطاء، لينال النَوَال، ليأخذ من الناس الرشاوي على هذا المال الحرام، السحت، على ما يؤذيهم به، ثم يعود يوهمهم أنه يصرفه عنهم، كان بدل كل هذه المهانة، وهناك من يؤذيه، وهناك كذا، كان من أول الأمر يحوِّل الورق إلى نقود، أو يصنع النقود بادئ ذي بدء، لكن هو عاجز عن ذلك، كل الذي -كما قلنا- يستطيعه هو نوع من التأثير في نفس المسحور. ونحن هنا لا نتكلم عن السحر وأثره في النفس، هو حقيقة ثابتة بالقرآن والسنة، لكن أهل الإيمان القوي لا يكون تأثير السحر فيهم عميقًا قويًّا، أما أصحاب القلوب الضعيفة -التي نسأل الله عز وجل ألا نكون منهم- فهُم يشتد تأثيرهم ويضعفون، وبالتالي يرتكبون مخالفات حين يريدون صرف السحر عنهم. أيضًا الحديث فيه فائدة طيبة جدًّا: النبي -صلى الله عليه وسلم- أمّنا عائشة تقول له: ((هلا استخرجته؟ أو أفَلَا استخرجته؟ قال: عافاني الله فكرهت أن أُثِير على الناس فيه شرًّا)). لا نريد ماذا فعل؟ وكيف؟ وتفصيلات، ويظل الناس يتحدثون فيها أيامًا ويُفتَنُون حولها.

هنا قاعدة من أهم قواعد الإسلام الطيبة: "ترك مصلحة لخوف مَفْسدة أعظم منها" خشي الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا أخرج أجزاء السحر للناس أن يُشيع ضررًا وشرًّا بين المسلمين، يتذكرون السحر، يحاولون أن يشيعوه أو يتعلموه، أو أن يتكلموا فيه، أو أن يؤذوا فاعلَه الذي فعله وهو لَبِيد بن الأعصم، وهو رغم أنه قد عُلِمَ وعُرِفَ لم يسمح بأن يوجِّه إليه أحد أذى، لأنه اجترأ على مقام النبوة، ربما حَمَلَ ذلك بعض أهله أو المتعصبين له من المنافقين على سحر الناس وأذاهم. يعني: أبواب البلاء التي كانت من الممكن على ذلك كثيرة حَسَمَهَا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه حَمدَ الله على أنْ نجَّاه وعافاه، وبالتالي لم يُرِدْ أن يُثير بين الناس فتنة أو يُذيع شرًّا؛ لهذا هو قدَّم درء المفسدة على المصلحة المرجوَّة من إخراجه، وهي هذه القاعدة التي نقولها. وهنا هذا الأمر عليه أدلة كثيرة، من ذلك قصة بناء الكعبة مثلًا: ((إن قومك حديثو عهد بالإسلام)) والحجر من الكعبة، ونعرف جميعًا الحجر، وحين أعَادَ بناء الكعبة لم يضم إليه الحجر حتى لا يعترض الناس وحتى لا تثور فتنة. وهذه القاعدة في الحقيقة تستحق كلامًا كثيرًا لكنها من القواعد التي نحتاجها في دعوتنا، في تعاملنا مع الناس، في فقهنا لترتيب الأوليات الواجبة علينا كأفراد، وعلى الأمة في مجموعها العام حين تكون هناك بيئات تحتاج للجهاد فالجهاد يتقدم على غيره من أمهات الفضائل، حين هناك يكون إطعام الطعام، وحين يكون هناك فُرقة أو خلاف، فدرء الخلاف وإغلاق باب الفرقة وسدّ الفتنة هو الأولى، وهكذا هذه الأمور عليها -كما قلت- أدلة كثيرة، وتطبيقاتها العملية مستمرة إلى يوم أن يَرِثَ الله الأرض ومن عليها. أيضًا لم تذكر الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عاقب مَن فعل ذلك به، لا توجد روايات قالت: إنه عاقب لَبِيد بن الأعصم، ولعله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بمبدأ العفو

والإحسان وعدم الإجابة على السيئة بمثلها؛ فإن الإجابة على السيئة بمثلها هي درجة أقل من درجة الإيمان: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشورى: 40) {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126). ولكن هناك درجات أرقى: أن يكظم الإنسان غيظَه، وكظم الغيظ معناه أنك تتألم لكنك كظمت هذا الغيظ ولم ترُدّ، وهناك العفو، وهو أرقى من كظم الغيظ؛ لأن العفو معناه أنك تجاوزتَ حتى مرحلة الغيظ هذه؛ والألم هذه، فعفوتَ عنه، فزال أثر الألم من نفسك، وهناك درجة أرقى وأرقى، وهو أن تُحْسِن إلى من أساء إليك. إذن ردّ السيئة بمثلها هذا أمر أثبته القرآن الكريم وأثبتته السنة، لكن الذين يأخذون به عليهم أن يعلموا أنهم يأخذون بأقل درجات الإيمان، الأَوْلَى أن يقدموا الدرجات الأرقى رجاءً فيما عند الله -عز وجل-. هذا موقف من هذا الحديث عليه أدلة أخرى، يعني: تخيَّلْ مثلًا الذين وقعوا في الإفك، جريمة نكراء، كلمات الدنيا لا تُبيِّن خطورتها، تكلموا في زوج خير خلق الله على الإطلاق، وفي حق بنت خير الله بعد الأنبياء -صلى الله على سيدنا رسول الله، ورضي الله عن أبي بكر رضي الله عنه، وعن سائر الصحابة- ومِن الذين تكلَّموا مِسْطَح بن أَثَاثَة، وهو ابن خالة أبي بكر، حتى كانت تمنعه القرابة أو العصبية للقرابة أن يتكلم، وأبو بكر يُجْرِي عليه نفقته ويتصدق عليه، تخيَّلوا شناعةَ الجريمة، فغضب أو تألم أبو بكر، وأقسم ألا يجري عليه نفقته، فنزل الأمر من الله -تبارك وتعالى-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22).

درس مهم جدًّا، عليه أدلة عملية كثيرة وأدلة وصفية، وأنا أنبّه عليه، وأقف بسرعة عند بعضها؛ لأن هذا أمر يكاد يغيب عن المسلمين الآن، نحن نتعارك لأتفه الأسباب، ما الذي أصابنا؟ لا أدري، هل هناك أخطر من السحر، وهل هناك أخطر من التعرض لمقام النبوة، خير الخلق يفكر بعض الناس في إيذائه، هكذا فعلوا، بنت خير الله بعد الأنبياء وزوج سيد الخلق، يتقوَّلون عليها! وألسنتهم تطيعهم تجري بهذا الهراء الذي يعلمون أنه كذب وافتراء، وبراءتها نزلت من عند الله -تبارك وتعالى- نعم، حدث ووقع فيه البعض، ومع شناعة هذه الجريمة ... نحن نتخاصم مدى الدهر في أقل من ذلك بكثير جدًّا، ويقاطع الأخ أخاه، ويقاطع الوالد ابنه، والابن والده مقاطعةً تامةً، وتتقطع الأرحام، وتفسد العلاقات، ويذهب الوُدّ في أخطاء يسيرة أقل من ذلك بكثير جدًّا. أيضًا من فوائد الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخرجه من البئر وأبْطَلَه، وهذا يدلنا على أن نأخذ بالأسباب، يعني: نحاول في السحر أو في غيره، المرض، نذهب إلى الأطباء، ونتداوى، ونعتقد أن الشفاء بيد الله -عز وجل- السحر نُبْطله، إذا تمكنا من معرفة أسبابه علينا أن نزيلها، ونضيف إلى ذلك الأخذ بالعلاج الناجح الناجع قبل السحر وبعده، وهو التحصّن بالآيات القرآنية، بالأذكار، بالرُّقَى، بالأدعية النبوية المأثورة، بكل ما ورد من أدلة صحيحة، نحن لا ندعو إلى أدلة لم تَرِد بها نصوص صحيحة، إنما هناك أدلة كثيرة صحيحة، مثل قراءة القرآن، رواه مسلم من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: ((اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين -المنيرتين وهما سورة- البقرة وآل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتات أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ يحاجان عن صاحبهما))،

((واقرءوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) والبطَلَة: وهُم السحرة، لا يستطيعون أن يفعلوا معها شيئًا في البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة، أو في الرجل، أو في المرأة التي تقرأ سورة البقرة. وقال معاوية -رضي الله عنه-: "بلغني أن البَطَلَة السَّحَرَة". هذا حديث رواه الإمام مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، ورواه الإمام أحمد في (المسند)، وغير ذلك كثير. والبطلة هم السحرة، مشتق من: أبطل، إذا جاء بالباطل، يعني: هم سُمّوا بذلك؛ لأنهم يأتون بالسحر، ما يأتون به باطل، وسماهم باسم فعلهم، ولم يقدروا على حفظها، ولم يستطيعوا قراءتها -أي: السحرة- لزيغهم عن الحق، وانغماسهم في الباطل، وأنهم يتبعون الوسائل ... إلى آخره، إلى آخر المحصنات الشرعية، هناك آية الكرسي، وهناك خواتيم سورة البقرة، وهناك المعوذتان، وسورة الإخلاص، وهناك سورة البقرة، وتتبُّع ذلك في مظانّه إنما نرشد إليه بسرعة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله، ولأنه دَعَا إليه، ولأنه كان من الأسباب الدالة على ذلك. من الفوائد التي تؤخذ من هذا الحديث، حتى تَمْر المدينة المنورة: ((من تصبَّح بسبع تمرات -من تمر المدينة- لم يضره سُمّ ذلك اليوم ولا سِحْره)) أو ((لم يضره سم ولا سحر في ذلك اليوم))، الروايات متعددة، وهذا ورد عند البخاري في صحيحه، وأيضًا رواه مسلم، وهو من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، بل هو في أعلى درجات الصحة. وأيضًا العلاج بالرقية الشرعية، وهذه أيضًا وردت في الأدلة: ((باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك)) ... إلى آخر ما دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم- من أدعية وردت في الأدلة

قواعد كلية ينبغي للمسلم معرفتها أثناء دفاعه عن السنة.

الصحيحة، لا نترك القرآن والسنة، ثم نذهب إلى السحرة ونستغيث بهم -والعياذ بالله- فهذا قد يُخْرِج صاحبه عن الملة لو كان يعتقد أنهم ينفعون أو يضرون، وإنما نقول: إننا نأخذ بالأسباب الشرعية الواردة في هذا. هذه بعض أهم الفوائد من حديث السحر، وفي النهاية يتبين لنا أن حديث السحر صحيح، وأنه لا خوف أبدًا من أي مشكلة أثارها الذين أثاروا الشبهات حوله، ورددنا عليها بالتفصيل، وأرجو أن تكون الردود مقنعة وافية مسددة بإذن الله -تبارك وتعالى- ونعتقد أنها كذلك إن شاء الله، وقلوبنا مطمئنة إلى صحة الحديث، وأنه لا خوف على النبوة، ولا على مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى البلاغ، ولا على الدعوة من أي شيء من هذا، وأن السحر تعرض له سيدنا موسى، وثبت بالقرآن، فلماذا نجترئ على السنة؟ .... إلى آخره، وأن العلاجات الشرعية موجودة، وأن الاعتصام بالله وحده ... إلى آخر ما ذكرنا. وإنما أَخَذَ حديث السحر هذه المساحة من الدروس؛ لأنه في الحقيقة موضوع مهم جدًّا. قواعد كلية ينبغي للمسلم معرفتها أثناء دفاعه عن السنة أريد أن أركّز على بعض القواعد الكلية التي وردت في خلال الدروس، والتي أرجو أن تكون هي الثمرة المستفادة من الكلام حول الشُّبَه التي تكلمنا عن كثير من تفصيلاتها: أولًا: ينبغي أن يتوقَّر في نفس كل مسلم أنه متى صح الحديث وجب العمل به، يعني: أن نتنازع في صحة الحديث هذا أمر مقبول، شيء طيب أن تنازعني في صحة حديث، عليك أن تثبت أنه غير صحيح بأدلتك، وأنا أرد عليه بالأدلة، وحتى لو انتهى الأمر إلى عدم اقتناع أحدنا بكلام الآخر، فمن ثبتت عنده صحة

الحديث فهو ملتزم به، ومن لم تثبت عنده صحة الحديث هذا إذا كان من الأئمة المجتهدين، ليس لكل واحد أن تثبت عنده، فهو ليس حجة عليه، لكن العوام -ليس العوام فحسب- غير أهل الاختصاص عليهم أن يستمعوا لعلمائهم، وأن يتوجهوا لأهل الاختصاص بذلك. الحديث متى صحَّ وجب العمل به وأصبح أصلًا من أصول الشرع، وأيضًا لا يوجد أصل شرعي يتصادم مع أصول شرعية أخرى، لا يمكن أن يتناقض حديث مع حديث ولا مع آية قرآنية. نحن لاحظنا من خلال الشُّبَه التي أثيرت حول الحديث، أن بعضهم يحاول أن يُثبت أنها تتعارض مع بعض آيات القرآن الكريم، بيَّنا أن ذلك لا يمكن أبدًا، أمر مفروغ منه، مصدر الوحي واحد، القرآن والسنة كلاهما جاء من عند الله -تبارك وتعالى-: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (النساء: 113) فكيف يتعارض ما جاءنا من مشكاة واحدة، كيف يتعارض بعضه مع بعض؟!!! لا يمكن، مستحيل، وما وُجِدَ مما يبدو من ظاهره التعارض العلماء اجتهدوا في رد هذا التعارض ودفعه، والجمع بين النصوص المتعارضة: سواء من القرآن مع القرآن، من السنة مع السنة، أو مع القرآن والسنة بينهما مع بعضهما، وعندنا كتب ومؤلفات في هذا. أيضًا من القواعد التي نلحّ عليها: ينبغي أن نرجع إلى أهل الاختصاص في أي فن من الفنون، وعلى رأسها أن نعلم أن المختصين في الحديث هم الذين يتكلمون في السُّنة، من حيث صحة الأحاديث وفهمها، ومن حيث استنباط الأحكام منها ... أمور كثيرة جدًّا علينا أن ننتبه لها،

وهذه قاعدة قرآنية: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14). ومن العجيب -كما ذكرنا مرارًا- أن الكلأ المباح والميدان المفتوح لكل من يريد أن يتقوَّل أو يتكلم هي أمور الشرع وعلوم الشريعة، وكل أهل تخصص آخر يحافظون على تخصصهم، ويكَوِّنُونَ لهم نقابة ولا يسمحون لأحد أن يتكلم في الطب إلا بتصريح، الطبيب الذي يفتح عيادة عليه أن يحصل على تصريح من نقابة الأطباء، وكذلك المهندس، أما علوم الشرع فلها الله -عز وجل- هي الكلأ المباح المفتوح لكل مَن أراد أن يتكلم، حتى ليتهم يتكلمون بأدب أو ببحث عن الحق، إنما السيوف مُشْهَرة في أيديهم، ليست سيوف القتل، سيوف الاتهام بضيق العقل، بالظلامِيّة، بعدم قبول الآخر لكل مَن يتصدى لهم أو يحاول أن يردهم عن فهمهم الخاطئ. إذن هذه أيضًا من القواعد المقررة عند أهل العلم. من الأمور أيضًا التي نتكلم فيها: أن الغيبيات لا تُؤخَذ إلا من القرآن ومن السنة، لا مجالَ للعقل فيها، يعلموننا في علم التوحيد: الإلهيات، والنبوات، والسمعيات، أي: الأمور التي تعتمد على السمع، أو الغيبيات من حساب القبر، من كل أمور غائبة، نحن بُحَّ صوتنا أن ميدان عمل العقل هو الكون، هو الأشياء المادية، أما الأشياء التي ليست مادية فالدليل عليها هو القرآن الكريم والسنة المطهرة، لا تعتمد إلا على السمع وحده، لا مجال فيها للتخرُّصَات ولا ... العقل يتكلم فيها على أي أساس، هو هل رآها؟ هل كذا؟ ... كل ما لدينا من معلومات حولها إنما هو مما جاء في القرآن

الكريم، وما في السنة المطهرة؛ فلا يحق لأحد أن يقول: إن هذا الأمر يتعارض مع العقل، أو يتعارض مع كذا، إنما تُناقِش صحتَه، ومتى ثبتت صحته تُعمِل عقلك في فهمه ليس أكثر، وليس في أن تتصادم معه. هذه من القواعد المقررة التي ينبغي أن تتنبه لها الأمة في تعاملها مع أمور الشرع. هناك قواعد كلية نستطيع أن نرد بها على بقية الشبهات، وهناك كتب نزلت في السوق يستبعدون الأحاديث التي تتعلق بالغيب، ويتصورون -أو هم يزعمون- أن ذلك احتياط للشرع، وعدم تصادم مع الأدلة؛ لماذا؟ لأن الأدلة كلها قاطعة بأنه لا يعلم الغيب إلا اللهُ. نناقش هذه المسألة في ختام هذه النقاط؛ لأنها تقوّض الأساسَ الذي بَنَوْا عليه رفضهم لكل الأحاديث الغيبية: من الشفاعة، ومن الحوض، ومن الميزان، ومن نزول عيسى، ومن المهدي ... إلى آخره. أكرر: "إذا صح الحديث فعلى العين وعلى الرأس"، هذا هو الميدان، نشتغل بصحة الحديث، فمتى ثبت لا نقول: إلا سمعنا وأطعنا. يستدلون مثلًا بآية الأعراف: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (النمل: 65) في سورة النمل، يعني الآيات قاطعة في أن الذي ينفرد بعلم الغيب هو الله -تبارك وتعالى- في آخر سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34).

هناك غيوب انفرد اللهُ بعلمها، هذا من خلال الأدلة، وهذه تنطبق عليها الآيات التي قرأناها الآن، هو الغيب الذي انفرد بعلمه الله -عز وجل- وإلَّا فأنا عندي أدلة كثيرة على أن الله -عز وجل- أعلمَ الغيبَ لبعض رسله: أولًا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 27) أي: لا يطَّلع على غيبه إلا من ارتضى، أي: اصطفى مَن اصطفاه للنبوة، واطّلاعه على الغيب في هذه الحالة ليكون ذلك من الأدلة على صدق نبوته؛ ولذلك وضَّح الله ذلك في حق كثير من الأنبياء، في حق سيدنا يوسف: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} (يوسف: 37) علمه من الله، وهو نفسه أقرّ بهذا. لكن الآية تدل على أن الله يُطلِع بعض أنبيائه على بعض غيبه، والحكمة في ذلك وراءها كثيرة، نحن لو وقفنا مع قصة سيدنا يوسف والفوائد المستفادة منها كثيرة جدًّا، ويكفي أن الرجلين اللذين صاحباه في السجن علمَا أن عنده قدرة على تأويل الرؤيا وتعبيرها، وعندما خرجَا ونسيَا أنه كان معهما في السجن، وأراد الله أن يكشف ضره رأى الملِك الرؤيا الواردة في سورة يوسف، وتذكَّر الرجل الذي خدم في قصر الملك من كان معه في السجن: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} (يوسف: 46) إلى آخره. محل الشاهد: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} (يوسف: 37) لو كان بعد أن يأتيهما فلا اطلاعَ على الغيب، لكن قبل أن يأتيكما: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (يوسف: 37). أنا لم آتِ به من عند نفسي، أنا لم أقل إني أرجُم بالغيب، أو أضرب الودع، كما يفعل الجاهلون، وأن نقول: ذلك لا يكون إلا لنبي، لا يزعم أحد أبدًا: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} و {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن: 28) يعني: ذكْر بعض الأنبياء لبعض الأمور هذه، ثُم تحدُث

على الوجه الذي ذكروه، هذا مما يدعِّم الله به أنبياءه ويساعدهم به، ويقدِّم الأدلة على صدقهم فيما يخبرون به عن الله -عز وجل-. وأيضًا في قصة سيدنا عيسى في القرآن الكريم: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (آل عمران: 49) يعني: كيف عرف ما يأكلون، وحتى الذي يدخرونه في البيوت؟ أي: الذي لا يطلع عليه أحد إلا أهل البيت؟ وبالنسبة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-. كل هذه أدلة في القرآن الكريم، ليست في أحاديث حتى نجترئ عليها أو نردها، إنما هي في القرآن الكريم: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح: 27) أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك قبل وقوع المسألة، وحتى لما ذهب ورُدَّ قال له عمر: ((ألم تخبرنا أننا سندخل؟ قال: هل قلتُ لكم من هذا العام؟)) الآية لا تحديد فيها للعام الذي يدخلون؛ ولذلك مرَّ أبو بكر مرة ثانية: "الزم غَرْزَه؛ فإنه رسول الله"، هو الذي يُوحَى إليه، هو المعصوم بالوحي، ينصح الفاروق -رضي الله عنه- بذلك على قوة إيمان الجميع، بفضل الله -تبارك وتعالى-. إذن الأحاديث التي تتضمن شيئًا من الغيب سواء الماضي أو الذي يتعلق بأمر مستقبل، إنما هي من أقوى الأدلة على صدق نبوة الرسل، وعلى رأسهم سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولذلك ينبغي أن نتنبه: لماذا كانت أحاديث الغيب محلًّا لإثارة الشبهات؟ لأنه يؤخذ منها الدليل على صدق النبوة، وهم يريدون أن يشككوا في النبوة، هذا هدفهم، هم طبعًا لا يفصحون عن هذا الهدف، إنما يحاولون أن يُظهروا هذا

يتعارض مع القرآن الكريم، ها نحن أثبتنا بالأدلة أنه لا يتعارض مع القرآن الكريم، وإنما هو حق وصِدْق ثبت بالقرآن الكريم بنفسه. الخلاصة: الذي يعلم شيئًا من الغيب هو الرسل فقط، وليس كل الغيب، إنما ما أراده الله أن يعلِّمهم إياه؛ تدعيمًا لرسالتهم. وبعد أن وضع الله -عز وجل- هذه القاعدة كقاعدة عامة ذكرنا بعض الأدلة مع بعض الأنبياء الذين وقعت لهم بعض الأمور التي تدل على علم شيء من الغيب الذي لم يحدث بعدُ، وهذا تعريف الغيب الذي لم يأتِ بعد: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} إلى آخر ما ذكرناه من الأدلة. لكنَّ الأمور التي انفرد الله بعلمها لا يتكلم فيها أحد أبدًا، لمَّا سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) قلنا: إنه وضع إجابة تشمل كل سائل وكل مسئول إلى يوم القيامة؛ لأن علم الساعة من الأمور التي انفرد بها الله -عز وجل- في أكثر من آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (النازعات: 42) في الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} (الأعراف: 187). لا أحد يتكلم في "متى الساعة؟ "؛ ولذلك كما قلنا لمّا سأل جبريل -عليه السلام- النبي -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة؟ لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-له: لا أعلم، إنما لأنه يعلم أن هذا ما انفرد الله تعالى بعلمه، قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) لتشمل الإجابة كل سائل وكل مسئول إلى يوم أن يرث الله الأرض ومَن عليها. لذلك تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض أشراط الساعة في نفس الحديث: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} (محمد: 18) أشراط: جمع شَرَط، والشَّرَط: هو العلامة؛ ولذلك في الحديث أيضًا جبريل: فأخبرني عن علاماتها، أو فأخبرني عن أشراطها. وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما علمه الله

من علاماتها من غير أن يتكلم عن وقتها المحدَّد الذي لا يعلَمه إلا الله -عز وجل-. إذن هناك غيب انفرد الله بعلمه، وهناك بعض الغيب علَّمه لبعض الرسل فقط، وأقول: فقط، حتى لا يزعم زاعم أو يتخرص كما يفعل الدجالون، وكذا ... وحتى لو كان من الصالحين، أو هكذا يبدو، وزعم أنه يعلم الغيب فزعمه هذا مردود عليه، والآية واضحة في هذا، وإنما أظهر الله بعض غيبه لبعض رسله -كما قلت- من باب تأكيد رسالتهم، وإثبات صدقهم في نبوتهم، والذين يجادلون في هذا إنما يجادلون في أمر هو من حقائق النبوة؛ حتى يكذبوا النبوة نفسها. نسأل الله -عز وجل- أن يعصمنا من ذلك. توقفنا عند هذه النقطة بالذات؛ لأنها كانت المستند الأول لإنكارهم كثيرًا من أحاديث الغيبيات: فيما يتعلق بعذاب القبر، فيما يتعلق بالشفاعة، فيما يتعلق بنزول عيسى -عليه السلام- فيما يتعلق بنزول المهدي. وأختم الكلام وأقول: متى ثبتت صحة الرواية فعلى العين وعلى الرأس، الأساس الذي بنوا عليه رفضهم هو هذا. أهم ما يستند إليه المستندون في الرفض أنها تتعارض مع الغيب الذي انفرد بعلمه الله، فنقول: هذا مما أخبر الله تعالى به، ولا يوجد شيء أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بأمور الناس وحياتهم إلا وحدَثَ عن الوجه الذي أخبر به -صلى الله عليه وسلم-. في بدر وضع يده وقال: ((هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان))، من أبي جهل وغيره ... يقول الراوي: "والله ما عدا أحدهم المكانَ الذي حدده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". هذا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: ((إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يأتي الملك ويؤمر ... )) إلى آخر الأحاديث، أحاديث غيبية كثيرة تتعلق بالمستقبل:

((مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا مرّوا على من فوقهم ... )) إلى آخر الحديث. فيه عَلَم من أعلام النبوة، النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلم هنا عن سفينة تتكون من طابقين، في الوقت الذي لم تكن فيه إلا سفن صغيرة تسير بشراع اليد فقط، وليس بالآلات أو بالمعدات أو بالطاقة، أو ما شاكل ذلك، وغيرها كثير من أمور الشرع تكلَّم الله عنها لا تتعارض مع انفراد الله بالغيب؛ لأن هذا من القدر الذي سمح الله به إثباتًا لصدق أنبيائه وثبتت بالأدلة الصحيحة. إذن المنهج الذي نتعامل معه نشتغل بصحة النص، ومتى ثبتت صحة النص فعلى العين وعلى الرأس، وفهْم النَّص نرجع فيه إلى أهل الاختصاص من القدامَى والمحدثين الذين شرحوا (صحيح البخاري)، الذين شرحوا (صحيح مسلم)، الذين قاموا بكل هذه الأمور هم علماؤنا، وهم مشايخنا، وهم أساتذتنا، وهم متخصصون، الذين بذلوا حياتهم وأفنوا أعمارَهم في خدمة القرآن والسُّنة، ودراسةِ كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء نرجع إليهم، ولا نتأثر برأي المستشرقين أو المستغربين أو ما شاكل ذلك من الذين يُثيرون الشُّبَه. أقول هذا، وأستغفر الله العظيم، وأصلي وأسلم على خير خلق الله أجمعين، وجمعنا الله وإياكم على الحق دائمًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1