الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلم

عبد الرحيم المغذوي

مقدمة

المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب:70-71) . أما بعد: فإن أي دعوة تشرف بما تدعو إليه، وتزكو بما تحث الناس عليه، ولا ريب أن الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم، هي أسمى المقاصد، وأنبل الفوائد، لأنها تتعلق بكتاب الله تعالى، وكفى بذلك شرفاً ومقصداً. أ - أهمية الموضوع، وأسباب الدراسة: المسلم مطالب دائماً وأبداً بالتمسك بكتاب الله تعالى حق التمسك وتطبيق ذلك في حياته الخاصة والعامة، وظهور آثار ذلك التمسك في سلوكه وتصرفاته

ولكن الملاحظ - وبخاصة في عصرناالحاضر - انصراف كثير من فئام المسلمين عن التمسك بكتاب ربهم تبارك وتعالى، وإن أظهروا حبهم وتقديسهم له، إلا أن الواقع المعاش يغاير ذلك ومن هنا كان الاختلال الواضح، في حياة المسلمين أفراداً ومجتمعات، الأمر الذي أوقع الوهن في حياة الأمة على مختلف الأصعدة الدينية والدنيوية. ولا ريب أن المتأمل في كتاب الله تعالى يجد الدعوة الصريحة الواضحة للتمسك بالقرآن الكريم، والآثار العظيمة التي سوف يجنيها الفرد والمجتمع من ذلك. ومن هنا كان الدافع للكتابة في هذا الموضوع الدعوي القرآني الهام، وكذا لعدم وجود مؤلف خاص في هذا الموضوع - على حد علمي - وإنما هنالك إشارات وذكر متناثر في بطون الكتب، فأحببت أن أجمع شتات الموضوع، وأبرز معالمه، وأوضح مقاصده ليكون دعوة خيّرة للناس لعلهم يتقون. كما أرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت وأنا أقدم هذا البحث المتواضع للندوة المباركة بإذن الله تعالى (ندوة عناية المملكة السعودية بالقرآن الكريم وعلومه) والتي يعقدها مشكوراً مأجوراً مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة في الفترة 4/6/1421هـ‍ إلى 7/6/1421هـ‍. ب - تساؤلات البحث: يهدف البحث إلى الإجابة عن التساؤلات الكبرى التالية: أولاً: ماالمقصود بالقرآن الكريم، وماأهمية التمسك به؟. ثانياً: ما مظاهر التمسك بالقرآن الكريم؟.

ثالثاً: ما فضائل التمسك بالقرآن الكريم؟. رابعاً: ما آثار التمسك بالقرآن الكريم في حياة المسلمين الخاصة والعامة؟. ج - منهج البحث والخطوات البحثية: استخدم الباحث منهج البحث الوصفي، وكذا منهج البحث التحليلي التأملي، للخروج بفوائد علمية هامة دقيقة. كما اتبع الباحث الخطوات البحثية المختصرة التالية: 1- عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها من المصحف. 2- تخريج الأحاديث من مظانها، وإيراد حكم العلماء عليها. 3- توثيق الآثار والأقوال بإرجاعها إلى مصادرها. 4- التأصيل العلمي للموضوعات البحثية، والخلوص إلى نتائج محددة.

د - خطة البحث بالتفصيل: - المقدمة: وتضمنت الحديث عن أهمية الموضوع، وبواعث دراسته، وتساؤلات البحث الكبرى، ومنهج البحث والخطوات البحثية، والخطة بالتفصيل. - الفصل الأول: الدَّعوة إلى التمسّك بالقرآن الكريم. ويتضمن أربعة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالقرآن الكريم، وأسمائه، وخصائصه. المبحث الثاني: أهمية الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم. المبحث الثالث: مظاهر التمسك بالقرآن الكريم. المبحث الرابع: فضائل التمسك بالقرآن الكريم. - الفصل الثاني: آثار التمسّك بالقرآن الكريم في حياة المسلمين. ويتضمن ستة مباحث: المبحث الأول: الأثر الإيماني والتعبدي. المبحث الثاني: الأثر الدعوي والإصلاحي. المبحث الثالث: الأثر الخلقي والمسلكي. المبحث الرابع: الأثر العلمي والفكري. المبحث الخامس: الأثر الإنساني والحضاري. المبحث السادس: الأثر الأمني الشامل. - الخاتمة: وفيها خلاصة البحث، ونتائجه، والتوصيات. - الفهارس.

هـ‍ - ثناء الباحث على الله تعالى بما هو أهل له. اللهم لك الحمد كله، والشكر كله فأنت أهل الثناء والحمد، والعزة والمجد، والميسر لكل قصد. اللهم لك الحمد أن جعلتنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم فأدم علينا نعمتك، وارزقنا شكرها على الوجه الذي ترضاه عنا يارب العالمين. اللهم نوِّر بالقرآن العظيم قلوبنا، وافتح به أبصارنا، واشرح به صدورنا، واكلأ به حياتنا، وأنر به دروبنا، واحفظنا به من أمامنا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، وما أنت أعلم به منا. {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286) .

الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلم

الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلم ... الفصل الأول الدَّعوة إلى التمسّك بالقرآن الكريم ويتضمّن أربعة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالقرآن الكريم، وأسمائه، وخصائصه. المبحث الثاني: أهمية الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم. المبحث الثالث: مظاهر التمسك بالقرآن الكريم. المبحث الرابع: فضائل التمسك بالقرآن الكريم.

المبحث الأول: التعريف بالقرآن الكريم، وأسمائه، وخصائصه. وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالقرآن الكريم لغةً. اختلفت آراء أهل اللغة حول أصل كلمة (القرآن) وتعددت، ويمكن لنا حصرها في اتجاهين رئيسين: - الاتجاه الأول: وهو الذي يذهب إلى أن القرآن اسم لكتاب الله تعالى، وأنه غير مشتق من أي مادة سواء من (قرأ) أو من غيرها. وذلك لأنه علم على كتاب الله تعالى مثل التوراة والإنجيل. وعلى هذا فالقرآن غير مهموز. - الاتجاه الثاني: وهو الذي يذهب إلى أن لفظ (القرآن) مشتق، واختلف أصحاب هذا الاتجاه على أربعة أقوال: 1- أن القرآن مصدر لقرأت كالرجحان والغفران، سمي به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر. وبه قال اللحياني وآخرون. 2- وقال قوم منهم الأشعري: هو مشتق من قرنت الشيء بالشيء: إذا ضممت أحدهما إلى الآخر. 3- وقال الفراء: هو مشتق من القرائن، لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضاً، ويشابه بعضها بعضاً وهي قرائن. وعلى القولين بلا همز أيضاً ونونه أصلية. 4- وقال آخرون منهم الزجاج: هو وصف على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته. قال أبو عبيدة: وسمي بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض.

وقال الراغب: لا يقال لكل جمع قرآن ولا لجمع كل كلام قرآن، وإنما سمي قرآناً لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة. وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها. ثم قال الحافظ السيوطي بعد أن ساق تلك الأقوال: والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي (1) . ويذهب الشيخ الزرقاني إلى خلاف ذلك ويؤكد أن القرآن مشتق فيقول: (أما لفظ القرآن فهو: في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 17-18) . ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل اسماً للكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من باب إطلاق المصدر على مفعوله، ذلك ما نختاره استناداً إلى موارد اللغة، وقوانين الاشتقاق، وإليه ذهب اللحياني وجماعة. أما القول: بأنه وصف من القَرء بمعنى: الجمع، أو أنه مشتق من القرائن، أو أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء، أو أنه مرتجل أي موضوع من أول الأمر عَلَماً على الكلام المعجز المنزل غير مهموز ولا مجرد من أل، فكل أولئك لا يظهر له وجه وجيه، ولا يخلو توجيه بعضه من كلفة، ولا من بُعد عن قواعد الاشتقاق وموارد اللغة. وعلى الرأي المختار: فلفظ قرآن مهموز، وإذا حذف همزه، فإنما ذلك للتخفيف، وإذا دخلته "أل" بعد التسمية فإنما هي للمح الأصل لا للتعريف) (2) .

_ (1) انظر تلك الأقوال في كتاب: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/67-68، وانظر: مدخل إلى علوم القرآن والتفسير، د. فاروق حمادة ص 15-16، والكلمات الإسلامية في الحقل القرآني، د. عبد العال سالم مكرم ص 126-127. (2) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني 1/14.

والرأي الذي أميل إليه في أصل كلمة قرآن لغةً: أن القرآن اسم لكتاب الله تعالى، وأنه غير مشتق وهو ما ذهب إليه الإمام الشافعي وابن كثير وغيرهما. المطلب الثاني: التعريف بالقرآن الكريم اصطلاحاً. القرآن الكريم كلام الله تعالى، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين نذيراً، وحوى من العقائد والشرائع والمعارف والعلوم والآداب والأخلاق ما يجلّ الوصف عن ذكره، وتضمّن بين طيّاته الإخبار عن الأوّلين والآخرين، وما كان وما سيكون. ورسم للإنسان منهجاً واضحاً، وطريقاً سليماً، وصراطاً مستقيماً يسير عليه، ويهتدي به، ويدعو إليه. كما اشتمل القرآن العظيم على الأمن والإيمان والطمأنينة والتوحيد، وانشراح الصدور، وهدوء الضمائر، وراحة البال. كما تميز كتاب الله تعالى بالاعجاز، وتحدي الخلق أجمعين أن يأتوا بمثله أو بأقل سورة فيه. كما أنه متعبد بتلاوته، ومحفوظ إلى يوم القيامة. وهنا نتساءل: من الذي يستطيع أن يعطي تعريفاً لهذا الكتاب الكريم الذي حوى كل تلك الأمور - وغيرها كثير؟ -. ومن الذي يقدر على تحديده في تعريف من تعاريف البشر التي اصطلحوا على وجود حدود ومعالم لها؟ أو أنها جامعة ومانعة؟ الحقيقة أنه من خلال تعاريف العلماء قديماً وحديثاً للقرآن الكريم، ومن خلال محاولات الكُتّاب والمؤلفين في هذا الصدد نجد أنها كلها لا تعدو توصيفاً للقرآن الكريم، دون إعطاء تعريف دقيق محدَّد له، فنجد بعض التعاريف تركز على شيء واحد وتهتم به، مثل كونه كلام الله

تعالى، أو أنه معجز، أو اشتماله على الأمور والمسائل العظيمة التي تهم المسلم في حياته ومآله وغير ذلك. والحقيقة أن ذلك راجع إلى عدم إحاطة أولئك العلماء والمؤلفين لمضامين القرآن العظيم، وعلومه وأحكامه، وفضائله وفوائده، وأنّى لهم ذلك. يقول الشيخ مناع القطان رحمه الله: (والقرآن الكريم يتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص. بحيث يكون تعريفه حداً حقيقياً، والحد الحقيقي له هو استحضاره معهوداً في الذهن أو مشاهداً في الحس كأن تشير إليه مكتوباً في المصحف أو مقروءاً باللسان، فتقول هو ما بين هاتين الدفتين، أو تقول: هو (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين ... إلى قوله: من الجنة والناس) (1) . ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز يرحمه الله: (أما ما ذكره العلماء من تعريفه بالأجناس والفصول كما تُعرف الحقائق الكلية فإنما أرادوا به تقريب معناه وتمييزه عن بعض ما عداه مما قد يشاركه في الاسم ولو توهماً، ذلك أن سائر كتب الله تعالى والأحاديث القدسية وبعض الأحاديث النبوية تشارك القرآن في كونها وحياً إلهياً فربما ظن ظان أنها تشاركه في اسم القرآن أيضاً، فأرادوا بيان اختصاص الاسم به ببيان صفاته التي امتاز بها عن تلك الأنواع) (2) . ومن التعاريف التي ذكرها العلماء والكتاب للقرآن الكريم ما يلي: أ - قيل هو: اسم للمتلوّ المحفوظ المرسوم في المصاحف (3) .

_ (1) مباحث في علوم القرآن، للشيخ مناع القطان ص 20-21، وأصل التعريف الذي أورده للدكتور محمد عبد الله دراز يرحمه الله في كتابه النبأ ص 14. (2) النبأ العظيم، للدكتور محمد عبد الله دراز ص 14. (3) إعجاز القرآن للباقلاني 1/20 على حاشية الاتقان للسيوطي.

ب - وقيل هو: اسم لما بين الدفتين من كلام الله (1) . ج - وقيل هو: الكلام المنزّل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلاً متواتراً (2) . د - وقيل في تعريفه هو: اللفظ المنزّل على النبي صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس (3) . هـ‍ - وقيل في تعريفه هو: كلام الله المنزّل على خاتم الأنبياء والمرسلين، بوساطة الأمين جبريل عليه السلام، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس) (4) . و وقيل أيضاً في تعريفه هو: كلام الله المعجز والموحى به على خاتم الأنبياء والمرسلين، والذي أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير للتعبد بتلاوتها والعمل بمقتضاها في جميع جوانب الحياة، في كل زمان ومكان (5) . ز - وقيل أيضاً في تعريفه هو: القرآن هو كلام الله المعجز، ووحيه المنزّل على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته (6) . ح - وقيل في تعريف القرآن هو: المنزّل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه نقلاً متواتراً بلا شبهة (7) .

_ (1) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي 5/92. (2) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد علي الشوكاني 1/85. (3) مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني 1/19. (4) التعبير الفني في القرآن، د. بكري شيخ أمين ص 11. (5) نور من القرآن، د. محمد الحسين أبو سم ص 11. (6) لمحات في علوم القرآن، لمحمد الصباغ ص 6. (7) التعريفات للجرجاني ص 174.

ط - وقيل أيضاً في تعريف القرآن الكريم هو: كلام الله المعجز المنزّل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي المنقول إلينا بالتواتر (1) . والمتأمل في التعاريف السابقة يجد أنها إما مسهبة أو مقصرة أو متوسطة في توصيف القرآن وتعريفه، ومهما قال القائلون إلا أنهم لن يبلغوا المراد الكامل للقرآن الكريم، والمعنى الشامل لكتاب الله تعالى. قال تعالى مخبراً عن كتابه العظيم: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 192-195) . وقال تعالى أيضاً في كتابه الكريم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم:1) وقال تعالى أيضاً في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57) . ومن خلال ما سبق يمكن أن أذكر تعريفاً أو قُل توصيفاً للقرآن الكريم فأقول هو: (كلام الله تعالى المعجز، الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لينذر به الخلق أجمعين، ويدعوهم إلى توحيد رب العالمين، والمكتوب بين دفتي المصحف، والمنقول إلينا بالتواتر، والمتعبد بتلاوته، والمحفوظ إلى آخر الدهر، والمشتمل على خيري الدنيا والآخرة) (2) .

_ (1) معجم لغة الفقهاء، د. محمد قلعجي وزميله ص 359. (2) (القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية) اللجنة العلمية..

المطلب الثالث: أسماء القرآن الكريم وأوصافه. إن تعدد الأسماء دليل على عظم المسمى، وإيماء إلى شرفه وعلوّه ورفعته. ولا ريب أن القرآن الكريم هو أعظم وأشرف كتاب، ولذا تعددت أسماؤه وأوصافه، وكلها مستفادة من القرآن ذاته. ومن تلك الأسماء والأوصاف العديدة ما يلي (1) : أ - القرآن. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9) . ب - الفرقان. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) . ج - الذكر. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) . د - الكتاب. قال تعالى: {ألم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1-2) . هـ‍ – التنزيل. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 192) . و النور. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة: 15) . ز - الروح. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} (الشورى:52) .

_ (1) انظر: كتاب الإتقان في علو م القرآن، للحافظ السيوطي 1/67.

وغير ذلك من الأسماء والأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم، تعظيماً لكتابه، وتقديساً له، وتخليداً لذكره، ولفت انتباه الناس إلى أهميته وفضله وهيمنته على الكتب كلها. ولكن الملاحظ أنه غلب من أسمائه: القرآن والكتاب. يقول الدكتور محمد عبد الله دراز يرحمه الله (1) ((روعي في تسميته قرآناً كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسميته كتاباً كونه مدوناً بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه. وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعاً، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلاً بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها صلى الله عليه وسلم بقي القرآن محفوظاً في حرز حريز، إنجازاً لوعد الله الذي تكفل بحفظه، حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) . المطلب الرابع: خصائص القرآن الكريم. يتفرد القرآن العظيم بجملة من الخصائص، والفرائد التي تميزه عن غيره من الكتب السماوية السابقة، كما ترفعه عن غيره من كتب أهل الأرض،

_ (1) النبأ العظيم، د. محمد عبد الله دراز ص 12-13.

وهذه الخصائص والفرائد والمزايا عديدة ومتنوعة، ولا يمكن حصرها في صفحات محدودة، ولكن يمكن لنا الاشارة إلى أهم تلك الخصائص، والمتمثلة فيما يلي: 1- أنه من عند الله: كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89) . وقال تعالى أيضاً: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) . 2- أنه كلام الله تعالى: وهذه من أخص خصائص كتاب الله تعالى كما قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6) . 3- نزوله منجماً: والمقصود بذلك نزول القرآن الكريم مفرقاً في مدة ثلاث وعشرين سنة (1) .

_ (1) انظر: لمحات في علوم القرآن، لمحمد الصباغ ص 32.

أما الكتب السماوية السابقة فكانت تنزل دفعة واحدة (1) . ومن هنا كان تعجب المشركين من عدم نزول القرآن الكريم مرة واحدة، وهو ما حكاه الله تعالى بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32) . 4- حفظ الله تعالى له: وهذه الخاصية تعني تكفل الله تعالى بحفظ كتابه من انتحال المبطلين، وادعاء المدعين، وتخرّص المكذبين وعدم ضياعه على توالي الدهور والليالي والأيام. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) . يقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: قرّر تعالى أنه هو الذي أنزل القرآن الكريم، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل (2) . 5- هيمنته على الكتب السابقة: والمقصود بذلك: إتيان القرآن على ما في الكتب السماوية السابقة، وشهادته عليها، واحتواؤه لفضائلها ومزاياها، وزيادته على ذلك. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) . يقول الحافظ ابن الجوزي في معنى الآية: وأصل كلمة مهيمن مؤيمن، وترد على أربعة أنحاء: أ - مؤتمناً على ما قبله من الكتب. ب - وشاهداً عليها.

_ (1) انظر: كتاب المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لأبي شامة المقدسي ص13. (2) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 2/547.

ج - والمصدق على ما أخبر عنها. د - والرقيب والحافظ عليها (1) . 6- ختمه للكتب السابقة: والمقصود بذلك أن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية نزولاً، فلا كتاب بعده إلى قيام الساعة، وفي هذا دليل على خصوصيته، وأهمية العناية والاهتمام به. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . 7- إعجازه: يمتاز القرآن العظيم بأنه كتاب معجز في كل شيء، وقد تحدى الله تعالى به العرب، وهم أهل اللغة، وأرباب البيان فعجزوا عن الإتيان بمثله أو بأقل سورة منه، مع قدرتهم على نظم الكلام وتذوقهم له، وانفرادهم من بين الأمم بخاصية القول، وعذوبته، وجماله، وتقديرهم له، وهذا واضح في شعرهم، ونثرهم. قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88) . 8- يسره للناس: من الخصائص العظيمة للقرآن الكريم أنه ميسر لكل من يطلع عليه، يطلب وجه الحق والخير والصواب، وهذا التيسير القرآني يشمل عدة جوانب منه: كقرائته، وحفظه، واستذكاره، وتدبره، وتأمله، ومعرفة علومه، ومعانيه

_ (1) زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي 2/371.

، وفقهه. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17) . 9- شموله للخلق أجمعين: إن من فرائد القرآن العظيم أنه كتاب لجميع الخلق، وذلك بعكس الكتب السماوية الأخرى التي كانت خاصة لأناس معينين. أما القرآن الحكيم فهو دعوة الله للناس أجمعين، وحجته على الخلق، ورسالته لجميع البشر. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158) . وقال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم: 52) . 10- تضمّنه لخيري الدنيا والآخرة: إن المتأمل في كتاب الله تعالى يجد أنَّه قد اشتمل على ما ينفع الإنسان في دنياه، وآخرته، فما من خيرٍ إلا ودلّه عليه، وما من شرٍّ إلا وحذَّره منه. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 38) .

المبحث الثاني: أهمية الدعوة إلى التمسّك بالقرآن الكريم. أرسل الله تعالى نبيه المصطفى، ورسوله المجتبى محمدا صلى الله عليه وسلم، بخاتمة الرسائل، وآخر الدعوات، وأنزل معه الكتاب الكريم ليكون للعالمين نذيراً، وه‍ادياً ودليلاً، وسراجاً منيراً. وأمر الله تبارك وتعالى الناس بالتمسك بكتابه الكريم وحفظه، والعناية به، وعدم تفريطه، أو التهاون فيه. قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الزخرف: 43) . يقول ابن جرير الطبري في تفسيره للآية الكريمة: ((يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: فتمسّك يا محمد بما يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ومنهاج سديد، وذلك هو دين الله الذي أمر به، وهو الإسلام (1)) ) . وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة: ((أي: خذ بالقرآن المنزل على قلبك فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم)) (2) . ويقول الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} : بأن تعتقد أنه حق، وبأن تعمل بموجبه، فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضال في الدين (3) .

_ (1) تفسير الطبري 11/191. (2) تفسير ابن كثير 4/128. (3) التفسير الكبير للفخر الرازي 9/634.

وقال القاسمي في تفسيره للآية الكريمة: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعني: دين الله الذي أمر به وهو الإسلام، فإنه كامل الاستقامة من كل وجه. قال الشهاب: هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وأمر لأمته أوله، بالدوام على التمسك (1) . ومن مجموع أقوال المفسرين للآية الكريمة، يمكن لنا الخلوص بالهدايات التالية: 1- أهمية الاعتقاد الصحيح في دين الإسلام، وذلك يقتضي بأن تكون العقيدة الحقة بعيدة كل البعد عن الباطل والشرك والبدع. 2- أهمية التمسك بالقرآن الكريم، الذي هو وحي الله تعالى، ورسالته العظيمة، ودعوته الباقية للناس أجمعين. 3- أن التمسك بالقرآن العظيم يوصل بإذن الله تعالى إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم. 4- أهمية العمل بالقرآن الكريم، وتطبيقه في واقع الحياة المعاش فإن ذلك من أعظم الأدلة، وأوثق البراهين على صدق دعوى التمسك به. 5- أن القرآن الكريم كامل الاستقامة من كل وجه، خال من العيوب، صافٍ من الكدورات، فاستحق بذلك التمسك والعمل والإيمان به. 6- وضوح المنهج الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه منهج يسير على ضوء وتعاليم القرآن الكريم. 7- وفي الآية كذلك خطورة عدم التمسك بالقرآن الكريم، أو الميل عنه، وعدم الوثوق بعراه، وأن ذلك دلالة على الشقاء والعياذ بالله.

_ (1) تفسير القاسمي 8/392.

ويقول تعالى آمراً نبيّه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى ما أمره به وأنزله عليه وهو القرآن الكريم، وعدم اتباع الأهواء المضلة: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} الشورى: 15) . في هذه الآية الكريمة أمرٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة كما أمره وبينها له في كتابه الكريم، والاستقامة على ذلك، وعدم اتباع الأهواء المنحرفة والضالة. ومن جملة ما أمره الله تعالى به: الإيمان بالكتب المنزلة على الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام السابقين له، وكذلك أمره تعالى بالعدل بين الناس. كما أمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن ينبّه الناس إلى مسألة هامة ضل فيها كثير من البشر ألا وهي مسألة توحيد الله تعالى فهو سبحانه الإله والرب الذي لا شريك له، ولا ند له، ولا كفو له. ثم أمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس بأن لكل قوم عملهم، وأنه تعالى سوف يجمع الناس ويجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. يقول الحافظ ابن كثير موضحاً تلك المعاني ومركزاً إياها في نقاط محددة: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضاً عشر فصول كهذه. وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أي فللذي أوحينا إليك

من الدين الذي وَصَّينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه. وقوله عز وجل {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ، أي: واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل. وقوله تعالى {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يعني: المشركين فيما اختلقوه وكذّبوه وافتروه من عبادة الأوثان. وقوله جل وعلا: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي: صدقت بجيمع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي: في الحكم كما أمرني الله. وقوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي: هو المعبود لا إله غيره فنحن نقرّ بذلك اختياراً وأنتم وإن لم تفعلوه اختياراً فله يسجد من في العالمين طوعاً وإجباراً. وقوله {لنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي: نحن برآء منكم.. وقوله: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قال مجاهد: أي لا خصومة، قال السُّدِّي: وذلك قبل نزول آية السيف، وهذا متجه لأن هذه الآية مكية وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عز وجل: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أي: يوم القيامة.. وقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب يوم الحساب. ا. هـ‍ (1) . ويتضح لنا من خلال تفسير الآية الكريمة: الأمر بالتمسّك بالقرآن العظيم، والاستقامة عليه، والدعوة إليه، والحذر مما يضاد ذلك كله، وه‍ذا في الحقيقة راجع إلى أن: (القرآن الكريم هـ‍وكتاب الدعوة الإسلامية الشاملة للعقيدة والشريعة، والذي اشتمل على بيان العقيدة في صفائها، وعلى وضع أسس التشريع في مختلف الجوانب التي تمس حياة العباد) (2) .

_ (1) تفسير ابن كثير 4/109. (2) انظر: هذا القرآن، لعبد الحي العمراني ص 32.

وكذلك اشتمل القرآن العظيم على الحقائق الكاملة التي حارت الإنسانية واختلفت فيها، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) . وكذلك اشتمل كتاب الله تعالى على إيضاح المنهج القويم الذي ينبغي أن يسير عليه المؤمن في حياته دون عوج أو اضطراب كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) . كذلك تضمن كتاب الله تعالى الإخبار عن أحوال الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وما جاءوا به، وأمروا ونهوا عنه، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء:165) . وتضمن كتاب الله تعالى أيضاً الوعد والوعيد، والجزاء الحاصل على الأعمال في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. كما قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55) .

المبحث الثالث: مظاهر التمسّك بالقرآن الكريم. إن دعوى التمسك بالقرآن العظيم تحتاج إلى براهين تدلّ عليها، وإلى مظاهر تؤكدّها وترشد إليها. فمن مظاهر التمسك بالقرآن الكريم ما يلي: أولاً: الإيمان به: ومقتضى هذا الاعتقاد الجازم الذي لا يخالطه شك ولا يمازجه ريب أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ووحيه إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، لدعوة الخلق أجمعين. كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام:19) . كما أن من لوازم الإيمان بالقرآن الكريم الإيمان الجازم بكل ما جاء فيه، واعتقاد أنه الحق والصواب، كما قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الحج: 54) . يقول البيضاوي في تفسير هذه الآية: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أن القرآن هو الحق النازل من عند الله ... ، {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} بالقرآن أو بالله، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} بالانقياد والخشية، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيما أشكل {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه (1) .

_ (1) تفسير البيضاوي 2/93.

كما أن من مقتضيات الإيمان بالقرآن الكريم: الإيمان بمتشابهه. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) . يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ((يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أمّ الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أُخرى فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رَدَّ ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس)) (1) . ثانياً: العمل به: ومقتضى العمل بالقرآن، تنفيذ كل ما جاء في القرآن الكريم وذلك بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والالتزام الكامل بما دل عليه، وأرشد إليه، وعدم تجاوز ذلك أو مخالفته أو الزيادة عليه،لأن هذا من الكذب على الله تعالى. قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116-117) . ثالثاً: قراءته وتدبره: ومعنى ذلك المداومة على قراءة القرآن الكريم، وعدم هجره، مع تدبر معانيه، وتأمل مراميه، والعلم بعقائده، ومعرفة أحكامه، وشرائعه. قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30) .

_ (1) تفسير ابن كثير 1/344.

يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: كان المشركون إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعونه، فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه (1) . وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82) . وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24) . يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في إيضاح المقصود بهذه الآية الكريمة: أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء يحذر، ولعرَّفهم بربهم، وأسمائه وصفاته، وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل. وقوله تعالى {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي: قد أغلق على ما فيها من الإعراض والغفلة، والاعتراض، وأقفلت، فلا يدخلها خير أبداً (2) .

_ (1) تفسير ابن كثير 3/317. (2) تفسير ابن سعدي 7/80.

رابعاً: حفظه: والمقصود بذلك: حفظ القرآن في الصدور والسطور من الضياع أو الزيادة أو النقص أو الإهمال. ولا ريب أن حفظ القرآن من أفضل الأعمال وأجلها وأزكاها، وهو مظهر عظيم من مظاهر التمسك بالقرآن الكريم، ودليل على العناية والاهتمام به. وحفظ القرآن الكريم يتطلَّب من المسلم الإخلاص لله تعالى، وتصحيح النية، وحسن التوجه والقصد، وطلب العون من الله تعالى، مع تفريغ القلب من الشواغل، وبذل الأسباب واتخاذ المسببات المعينة على الحفظ. ولا ريب أن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه الكريم بقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) . يقول الخازن في تفسير هذه الآية الكريمة ما ملخصه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} يعني القرآن أنزلناه عليك يا محمد، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الضمير في (له) يرجع إلى الذكر، يعني: وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون، يعني: من الزيادة فيه، والنقص منه، والتغيير والتبديل والتحريف، فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه، أو ينقص منه حرفاً واحداً أو كلمة واحدةً، وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف، والتبديل والزيادة والنقصان، ولما تولى الله عز وجل

حفظ هذا الكتاب بقي مصوناً على الأبد محروساً من الزيادة والنقصان ... ، وقيض الله له العلماء الراسخين يحفظونه، ويذبون عنه إلى آخر الدهر (1) . ولا ريب أن من الوسائل المفيدة لحفظ القرآن في الصدور انتشار حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد، وتربية الناشئة على ذلك، وتنشئتهم عليه منذ الصغر. ومن وسائل حفظه كذلك إنشاء المدارس، والأقسام، والكليات التي تعنى بالقرآن الكريم وعلومه، والدراسات المتعلقة به مثل: كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي تقوم بدور هام وعظيم في تخريج الحفاظ العالمين، وكذا تعنى بالدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم كعلوم القراءات والتفسير. أما طرق حفظ القرآن الكريم في السطور فإن وسائل الطباعة الحديثة، والتقنية العلمية المتطورة قد ساهمت في ذلك. ومن الشواهد العظيمة للعناية بحفظ القرآن الكريم هو ما قامت به المملكة العربية السعودية من إنشاء (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) الذي وضع لبناته الأولى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله في 16 محرم 1403هـ‍ بالمدينة المنورة، وبدأ الإنتاج الفعلي في 6 صفر 1405هـ‍ (2) . ويقوم المجمع بطبع ملايين النسخ من المصحف الشريف طباعة صحيحة مراجعة خالية من أي عيب والحمد لله، ثم توزع في الداخل والخارج، وقد استفاد المسلمون في أقطار الأرض كافة من هذه الخدمة العظيمة، أجزل الله المثوبة لأولياء الأمور ووفقهم لخدمة كتابه العزيز.

_ (1) انظر: تفسير الخازن 3/496-497. (2) انظر: الأنشطة الدعوية في المملكة العربية السعودية، د. صالح بن غانم السدلان ص 254-255.

خامساً: احترامه وتوقيره، والخشوع والإنصات عند سماع القرآن الكريم. إن من المظاهر الدالة على التمسك بالقرآن العظيم، احترامه وتوقيره وعدم إهانته بأي حال من الأحوال معنوياً أو قولياً أو مادياً، والإنصات عند سماع ذكر الله تعالى يتلى والخشوع واستجماع القلب والعقل بالتفكير والتدبر والخشوع الكامل له. قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204) . يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: لما ذكر الله تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاماً له، واحتراماً (1) . وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: ((هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات. والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه. وأما الاستماع له فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه، ويتدبر ما يستمع. فإن من لازم على هذين الأمرين، حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيراً كثيراً، وعلماً غزيراً، وإيماناً مستمراً متجدداً، وهدى متزايداً، وبصيرة في دينه. ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما. فدلَّ ذلك على أن من تلي عليه الكتاب، فلم يستمع له ولم ينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة قد فاته خير كثير

_ (1) تفسير ابن كثير 2/280.

ومن أوكد ما يؤمر مستمع القرآن أنه يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه فإنه مأمور بالإنصات)) (1) . سادساً: الدعوة إليه: إن من عظيم مظاهر التمسك بالقرآن الكريم الدعوة إليه، وإلى ما تضمنه من العقائد والشرائع والأحكام والآداب والأخلاق وإلى ما حث النظر إليه، والتفكر فيه، وكذا إلى إخباره عن المغيبات وإلى ما كان وإلى ما سيكون، وإلى كل خير تضمّنه كتاب الله تعالى. فالقرآن العظيم هو الكتاب الوحيد المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من أي وجه من الوجوه كما قال تعالى عنه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) . يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية: ((أي: ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين ولهذا قال {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي: حكيم في أقواله وأفعاله حميد بمعنى محمود، أي: في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع، محمودة عواقبه وغاياته)) (2) . وقال السيد محمود الألوسي في إيضاح آخر للآية الكريمة: ((هذه - صفة أخرى لكتاب، وما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات، كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله، أي لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته فلا يمكن أعداؤه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين، وجوز أن

_ (1) انظر: تفسير ابن سعدي 3/138. (2) تفسير ابن كثير 4/102.

يكون المعنى لا يأتيه الباطل من جهة ما أخبر به من الأخبار الماضية والأمور الآتية. وقيل: الباطل بمعنى المبطل.. أو هو مصدر كالعافية بمعنى مبطل أيضاً، وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي: محمود على ما أسدى من النعم التي منها تنزيل الكتاب، وحمده سبحانه: بلسان الحال متحقق من كل مُنْعَم عليه، وبلسان المقال متحقق ممن وفق لذلك، خبر مبتدأ محذوف، أو صفة أخرى لكتاب، مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية)) (1) . والمتحصل من كلام المفسرين - رحمهم الله تعالى - في معنى الآية الكريمة: أن الله تعالى: حافظ كتابه الكريم من تطرق الباطل إليه بأي وجه من الوجوه في أي وقت من الأوقات وبأي شيء من الأشياء الباطلة الحسية أو المعنوية، فهو كتاب مصون، محفوظ مكلوء بالعناية والرعاية الإلهية لأنه تنزيل من الله تعالى الحكيم في كل أفعاله، الحميد في كل أموره وشؤونه. ولا ريب أن هذا الكتاب المحفوظ المصون هو كتاب الدعوة ومن حقوقه على كل مسلم أن يدعو الناس إليه وبه. كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125) . ومما فسرت به الحكمة هنا: القرآن الكريم (2) .

_ (1) روح المعاني، للألوسي 12/378-379. (2) انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4/506.

وقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى كتاب الله تعالى، وإلى ما أنزل إليه فيه وأعظمه التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وأجمعت الأمة وسلفها الصالح، وخيارها ودعاتها الأبرار على هذا النهج. سابعاً: الالتزام بمنهجه: إن قضية الالتزام بالمنهج مهمة جداً في أي أمر من الأمور، بل وفي حياة الأمم والشعوب. قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة:48) . يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية الكريمة: قال ابن عباس: شرعة: سبيلاً، ومنهاجاً: سنة. وبه قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبو إسحاق السبيعي - ثم قال ابن كثير رحمه الله - فإن الشرعة وهي: الشريعة أيضاً هي: ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع في كذا أي ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء.. أما المنهاج، فهو: الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق. ثم ذكر ابن كثير رحمه الله وجهاً آخر في تفسير الآية فقال: وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجاً أي هو لكم كلكم تقتدون به، وحذف الضمير المنصوب في قوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} أي: جعلناه يعني القرآن شرعة ومنهاجاً، أي: سبيلاً إلى المقاصد الصحيحة، وسنةً، أي: طريقاً ومسلكاً واضحاً بيناً. ثم يرجح ابن كثير رحمه الله بين القولين بقوله: والصحيح القول الأول (1) . وقال الفخر الرازي في تفسيره للآية الكريمة ملخصاً أقوال العلماء:

_ (1) تفسير ابن كثير 2/66.

قال بعضهم: الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد، والتكرير للتأكيد، والمراد بهما الدين. وقال آخرون: بينهما فرق، فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة، والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة، وهي المراد بالمنهاج، فالشريعة أول، والطريقة آخر. وقال المبرّد: الشريعة ابتداء الطريقة، والطريقة المنهاج المستمر (1) . والحاصل أنه ينبغي على المسلم الالتزام بالمنهج القرآني في عقيدته وعبادته ومعاملته وأخلاقه وسائر شؤونه وتصرفاته، وذلك لأنه النهج الأمثل والأعلم والأحكم والأسلم. والمتأمل في منهج القرآن الكريم يجد الخير كل الخير، والسعادة الأبدية، والفضائل التي بحث عنها البشر فأعجزتهم، والكمالات التي تسمو بالإنسانية إلى مراتب عالية رفيعة، ناهيك عن العقيدة العظيمة، والشريعة الكاملة السوية. قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 18-19-20) . ثامناً: التخلق بأخلاقه: إن من مظاهر التمسك بكتاب الله تعال التخلق بالأخلاق العالية التي حث عليها، والمسالك الرفيعة التي أمر بها، والصفات النبيلة التي ندب إليها.

_ (1) التفسير الكبير، للفخر الرازي 4/373.

وكتاب الله تعالى كله خير، وفضل، وخلق كريم لمن أراد التخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه. وكا ن صلى الله عليه وسلم صاحب الخُلق الكامل، وقد أثنى ربه تبارك وتعالى عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) . وكانت جميع أخلاقه صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن الكريم، فعندما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلقه صلى الله عليه وسلم قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن (1) .

_ (1) صحيح مسلم 1/513 كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل (رقم 746) .

المبحث الرابع: فضائل التمسّك بالقرآن الكريم. إن للتمسّك بالقرآن الكريم فضائل عديدة، ومزايا كثيرة تجل عن الوصف، وما ذاك إلا لأن كتاب الله تعالى كله فضائل وخيرات ومكارم في الدنيا والآخرة. فمن فضائله العديدة ما يلي: أولاً: حصول السعادة الدائمة، لمن آمن بكتاب الله تعالى، واعتقد صحة ما فيه، وعمل به في حياته. قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 105-106-107-108) . ثانياً: الفوز بالرضا الكامل من الله تعالى، لمن تمسك بكتابه، والتزمه، وسلك مسلك الصالحين وخشى ربه. قال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 7-8.) .

ثالثاً: الهداية للتي هي أقوم، والبشارة للمؤمنين، المتبعين لهدي القرآن، المستمسكين به. كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) . يقول الشيخ ابن سعدي في تفسيره للآية الكريمة: يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته، وأنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: أعدل وأعلى، من العقائد، والأعمال، والأخلاق. فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن، كان أكمل الناس، وأقومهم، وأهداهم في جميع الأمور {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} من الواجبات والسنن {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} أعده الله لهم في دار كرامته، لا يعلم وصفه إلا هو -سبحانه وتعالى - (1) . رابعاً: كونه شفاء وعافية ورحمة وهدى للمؤمنين. إن التمسك بكتاب الله تعالى حق التمسك يمد المؤمن بالشفاء والعافية وكذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة. ولا ريب أن القرآن الكريم طب القلوب والأبدان، ففيه دواء بإذن الله تعالى، وفيه شفاء وعافية لمن أخلص النيّة، وأحسن القصد، وأعظم الثقة بالله تعالى وبكتابه الكريم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57) .

_ (1) تفسير ابن سعدي 4/264.

ففي هذه الآية الكريمة يلفت الله تعالى أنظار الناس إلى أنه: قد جاءتكم موعظة من ربكم تذكركم عقاب الله وتخوفكم وعيده، وهي القرآن وما اشتمل عليه من الآيات والعظات لإصلاح أخلاقكم وأعمالكم، وفيه دواء لما في القلوب من الجهل والشرك وسائر الأمراض، ورشد لمن اتبعه من الخلق فينجيه من الهلاك، جعله سبحانه وتعالى نعمة ورحمة للمؤمنين، وخصهم بذلك؛ لأنهم المنتفعون بالإيمان، وأما الكافرون فهو عليهم عمى (1) . وقال تعالى في موضع آخر من كتابه الكريم مؤكداً شفاء كتابه الكريم لأمراض الناس وعللهم: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (الإسراء: 82) . يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في إيضاح المقصود بهذه الآية الكريمة: ((يقول تعالى مخبراً عن كتابه.. إنه شفاء ورحمة للمؤمنين أي: يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضاً رحمة يحصل فيها الإيمان، والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به، وصدقه، واتبعه، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعداً وكفراً، والآفة من الكافر لا من القرآن (2)) ) . وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها (3) .

_ (1) التفسير الميسر ص215. (2) تفسير ابن كثير 3/59. (3) صحيح البخاري 3/344 كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات (رقم 5016) .

وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليهوسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات (1) .خامساً: حصول الأجر العظيم على قراءة القرآن الكريم. إن قراءة القرآن الكريم، والمداومة عليها، مطلوبة من كل مسلم ومسلمة كما قال تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: 20) . ولا ريب أن المؤمن القارئ لكتاب الله تعالى سوف يحصل على الأجر العظيم والخير العميم، وله فضل على من سواه من الناس. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح فيها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مر، ولا ريح لها (2) . ومما قاله الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث: ((وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن، وضرب المثل للتقريب للفهم، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دَلَّ عليه (3)) ) .

_ (1) صحيح البخاري 3/344 كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات (رقم 5017) . (2) رواه البخاري في صحيحه 3/345 كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام (رقم 5020) . (3) فتح الباري، لابن حجر 8/685.

ومن أنواع الأجر الذي يتحصل عليه قارئ القرآن أن له بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، وهذا فضل وخير ولطف من الله تعالى بهذه الأمة، التي هي خير الأمم. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه (1) . يقول الحافظ المباركفوري في تعليقه على المقصود بالحرف الوارد في الحديث: والحرف يطلق على حرف الهجاء، والمعاني، والجملة المفيدة، والكلمة المختلفة في قراءتها، وعلى مطلق الكلمة (2) . وأما الأجر المتحصل لقارئ القرآن يوم القيامة فهو عظيم وجزيل. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتِّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (3) . ومن فضائل قارئ القرآن الكريم التي ينفرد ويتميزّ بها عن الناس أنه مرافق للملائكة الكرام البررة.

_ (1) سنن الترمذي 5/176 كتاب فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر (رقم 2910) ، وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي 3/9 (رقم 2327) . (2) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للإمام المباركفوري 8/182. (3) سنن الترمذي 5/177 كتاب فضائل القرآن، باب 18 (رقم 2914) ، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي 3/10 (رقم 2329) .

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران (1) . يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه للحديث. ((السفرة، جمع سافر ككاتب، وكتبة، والسافر: الرسول، والسفرة: الرسل، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله وقيل السفرة الكتبة، والبررة المطيعون من البر وهو الطاعة، والماهر: الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة بجودة حفظه واتقانه. قال القاضي: يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أنه له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة السفرة ولاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى. قال: ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم، وسالك مسلكهم، وأما الذي يتتعتع فيه فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه فله أجران، أجر بالقراءة وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته. قال القاضي وغيره من العلماء: وليس معناه الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجراً لأنه مع السفرة، وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه واتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه والله أعلم (2)) ) . سادساً: خيرية من تعلَّم القرآن وعلمه.

_ (1) رواه مسلم في صحيحه 1/549-550 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (رقم 798) ، ورواه الترمذي في سننه 5/171 كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل قارئ القرآن (رقم 2904) ، وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي 3/9 (رقم 2325) . (2) شرح النووي على صحيح مسلم 6/84-85.

إن في تعلّم القرآن الكريم وتعليمه خيرا كثيرا، وفضلا جزيلا وذلك لما يعود على العالم والمتعلم من الأجر والمثوبة. فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. ورواية أخرى: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه (1) . يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه للحديث. ((يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط، بل من أشرف العمل تعليم الغير، فمعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه، وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعد، ولا يقال لو كان المعنى حول النفع المتعدي لاشترك كل من علم غيره علماً ما في ذلك، لأنا نقول القرآن أشرف العلوم فيكون مَنْ تعَلَّمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن وإن علمه فيثبت المدعي. ولا شك أن الجامع بين تعلّم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عني سبحانه وتعالى بقوله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع ... إلى أن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من

_ (1) رواه البخاري في صحيحه 3/346-347 كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (رقم 5027-5028) .

يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عيناً (1) . وقد كان سلف الأمة الصالح يتعاهدون القرآن الكريم علماً وتعلّماً وتعليماً، وكانت لهم في ذلك عناية ورعاية خاصة، ومن آثارهم الدالة على ذلك. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه، وإن أدب الله تبارك وتعالى القرآن (2) . وعن الأعمش قال: مر أعرابي بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يقرئ قوماً القرآن، أو قال: وعنده قوم يتعلمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم (3) . وعن عمرو بن قيس السكوني قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما - يقول: عليكم بالقرآن، فتعلموه وعلموه أبناءكم، فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون وكفى به واعظاً لمن عقل (4) . ومن آثار السلف الصالح الدالة على حث الناس على تعلَّم القرآن وتعليمه ومن ثم حصول الأجر والخير والمثوبة. قول كعب: عليكم بالقرآن، فإنه فهم العقل ونور الحكمة، وينابيع العلم، وأحدث الكتب بالرحمن عهداً، وقال في التوراة: يا محمد، إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صُماً، وقلوباً غُلفاً (5) .

_ (1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/694. (2) فضائل القرآن ومعالمه وآدابه، لأبي عبيد القاسم بن سلام 1/241، وانظر الأثر في سنن الدارمي 2/891. (3) فضائل القرآن ومعالمه وآدابه، لأبي عبيد القاسم بن سلام 1/241. (4) المصدر السابق 1/243. (5) سنن الدارمي 2/891.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن هذا القرآن كان لكم أجراً، وكائن لكم ذكراً، وكائن بكم نوراً، وكائن عليكم وزراً، اتبعوا هذا القرآن، ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن يهبط في رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن يزُخُّ في قفاه، فيقذفه في جهنم (1) .

_ (1) سنن الدارمي 2/892، ومعنى يزخ: يدفع.

الفصل الثاني آثار التمسّك بالقرآن الكريم في حياة المسلمين ويتضمن ستة مباحث: المبحث الأول: الأثر الإيماني والتعبدي. المبحث الثاني: الأثر الدعوي والإصلاحي. المبحث الثالث: الأثر الخلقي والمسلكي. المبحث الرابع: الأثر العلمي والفكري. المبحث الخامس: الأثر الإنساني والحضاري. المبحث السادس: الأثر الأمني الشامل.

المبحث الأول: الأثر الإيماني والتعبدي. للقرآن الكريم آثاره العظيمة في المجتمع المسلم، ولعل أعظم ذلك الأثر الإيماني والأثر التعبدي. والمتأمل في أحوال الجاهلية وما كانت عليه من شرك، وظلم، وفساد في المعتقد، وعكوف على الأصنام والأوثان والأحجار، يدرك مدى ما كان عليه أولئك الناس من ضلال مبين. وهو ما ذكره الله تعالى في معرض امتنانه على هذه الأمة بقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2) . والإيمان الذي نعنيه هو: الاعتقاد بالجنان، والنطق باللسان والعمل بالجوارح والأركان (1) . وهو كما يقول الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله: هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبةً وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكما له في الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده، والطريق إليه تجريد متابعةرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله (2) .

_ (1) انظر: الإيمان، للإمام ابن تيمية ص 162، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز ص 331، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/426. (2) الفوائد، للإمام ابن القيم ص 140.

وقد أكد الله تعالى الإيمان وبين أهميته ولوازمه في كتابه الكريم فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177) . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15) . وفي حديث جبريل - المشهور - الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسؤاله له للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان بقوله: " فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت ... " الحديث (1) . ومعلوم النقلة الإيمانية العظيمة التي أحدثها القرآن الكريم في نفوس المسلمين، فانقاد الناس لتوحيد رب العالمين، وانغرست في قلوبهم معاني الخير للناس أجمعين. كذلك أثمر الإيمان في نفوس الناس التقوى والإخبات لله تعالى والخوف والخشية منه ومراقبته تعالى في السر والعلن، فكان لذلك الأمر نتائجه العظيمة في صلاح الناس واستقامة أحوالهم. وأما الأثر التعبدي الذي أحدثه القرآن الكريم في المجتمع المسلم فهو بلا شك أثر عظيم وكبير وذو فوائد جَمَّة عديدة.

_ (1) صحيح مسلم 1/36 كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى وبيان الدليل على التبرّي ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه (رقم 1) .

والعبادة التي نعنيها ليست قاصرة على نوع محدد من العبادات بل هي شاملة لكل ما يطلق عليه اسم العبادة. وهي كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اسم جامع لكل ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة (1) . والعبادة تستغرق جميع احوال المسلم وتصرفاته، فكل قصد وقول وعمل يريد به المسلم طاعة الله تعالى فهو عبادة، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162-163) . والعبادة المطلوبة شرعاً هي التي تكون خالصة لله تعالى، صالحة، بعيدة عن الشرك، مقتفية أثر النبي صلى الله عليه وسلم وملتزمة بمنهجه. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر:2- 3) ، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) .

_ (1) العبودية، للإمام ابن تيمية ص38.

المبحث الثاني: الأثر الدَّعوي والإصلاحي. إن من آثار القرآن العظيمة في المجتمع: أثره في دعوة الناس إلى الله تعالى، وإصلاحهم في مختلف المجالات الاجتماعية والحياتية. والدعوة إلى الله تعالى لا تقتصر على أمر معين بل ينتظم فيها كل ما يهم المسلم في دينه ودنياه، وبمعنى آخر: تعدُّ الدعوة صياغة جديدة لحياة المسلم، مبناها على التوحيد الخالص لله تعالى، والالتزام بشرعه، والتمسك بأمره والابتعاد عن نهيه. ومن هنا كانت النقلة النوعية العظيمة في حياة المجتمعات الإنسانية حينما ابتدأت الدعوة الإسلامية وظهرت وانتشرت. فدخل الناس في دين الله أفواجاً، واستقامت حياتهم على الحق والخير والهدى والصلاح. قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: 1) ، ودعوة الناس وإصلاحهم وإرشادهم هي وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36) . والداعية الموفق هو الذي يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وبعيد كل البعد عن الإساءة أو الغلظة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . كما أن الدعوة ينبغي أن تسير على المنهج الإيماني القويم، والسبيل النبوي الكريم، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) .

والداعية إلى الله تعالى ينبغي أن يكون واضحاً كالكتاب المقروء وأن لا يخالف قوله فعله، وأن يسلك بالناس المسالك الصالحة الحميدة، كما قال تعالى واصفاً حال شعيب عليه السلام مع قومه: {قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) . ولا ريب أن الأثر الدعوي والإصلاحي الذي أحدثه القرآن الكريم في المجتمع المسلم أثر عظيم وكبير، ليس فقط في داخل الأمة الإسلامية، بل وتأثرت به المجتمعات الإنسانية الأخرى. وأصبحت تلك المجتمعات تنظر إلى المسلمين نظرة الإعزاز والتقدير، وتتمنى أن تصل إلى ما وصل إليه المسلمون في حياتهم وشؤونهم الخاصة والعامة.

المبحث الثالث: الأثر الخلقي والمسلكي. للخلق والمسلك الحسن أهمية كبرى في حياة أي مجتمع من المجتمعات. وقد أوضح كتاب الله تعالى الأخلاق والمسالك الحميدة التي ينبغي أن يكون عليها المسلم، سواء في ألفاظه، أو أعماله، أو تصرفاته، أو طباعه، أو معاملته مع الآخرين. ولا ريب أن حالة المجتمعات قبل الإسلام حالة يرثى لها في التدني الخلقي، والانحراف المسلكي، والانحطاط الإجتماعي، وهو ما يوضحه قول جعفر بن أبي طالب ? للنجاشي ملك الحبشة حينما سأله عن الدين الذي من أجله فارقوا قومهم وأهليهم. فقال له جعفر: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ مِنَّا الضّعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرَّحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.. (1) . والحقيقة أن أخلاق القرآن العالية، ومسالكه الرفيعة تجل عن الوصف، فما من خلق كريم إلا ودل القرآن عليه، وما من مسلك جميل إلا وأرشد القرآن إليه. ومن هنا كانت المنظومة الإجتماعية القوية التي أرسى دعائمها القرآن الكريم، وأحاطها بسياج من الخلق والأدب الرفيع، والتعامل الذي لا يوجد له مثيل.

_ (1) سيرة النبي صلى اللله عليه وسلم، لابن هشام 1/358.

ومن الأمثلة القرآنية على الأخلاق والمسالك الفردية والجماعية، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) ، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 11-12) . وقال تعالى معدداً بعض أوصاف المؤمنين الصادقين وأخلاقهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المؤمنون: 1-9) . وقال تعالى مبيناً آداب الاستئذان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (النور: 27-28) .

وقال تعالى منبهاً على ما يجب أن يتصف به المؤمنون والمؤمنات من أخلاق ومسالك عالية رفيعة: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:30-31) . ومن الأخلاق القرآنية العظيمة الخاصة بالمؤمنين، قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً. إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً. وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا

وقال تعالى منبهاً على ما يجب أن يتصف به المؤمنون والمؤمنات من أخلاق ومسالك عالية رفيعة: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:30-31) . ومن الأخلاق القرآنية العظيمة الخاصة بالمؤمنين، قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً. إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً. وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} (الفرقان: 63-76) .

المبحث الرابع: الأثر العلمي والفكري. أول ما نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) . ومنذ نزول تلك الآيات المباركات طويت صفحات، وابتدأت صفحات في تاريخ الإنسانية جمعاء. طويت صفحات الجهل والخرافة والوهم والتخلف العلمي والعقلي والفكري، وابتدأت صفحات من نور العلم والمعرفة والعقل والفكر الصحيح. ولا ريب أن المتأمل في أحوال المجتمعات البشرية قبل الإسلام وما بعده يدرك صحة هذا القول. وكتاب الله تعالى قد تضمّن الإشارة إلى أهمية العلم، وتميز العالم، والهدف من التفكير الصحيح. قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) . وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) . وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28) . وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر:9) . وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190-191) .

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ: 46) . وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (الروم: 8) . كما تضمّن كتاب الله تعالى الإشارة إلى بعض الحقائق العلمية التي سيقت مساق الهداية، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} الحجر:22) . وقد أثبت العلم الحديث أن من وسائل تلقيح النبات الرياح لأنها تنقل الملقحات من عضو التذكير النباتي إلى عضو التأنيث النباتي (1) . ومن الآيات التي فيها إشارة علمية كذلك قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 125) . وتشير هذه الآية الكريمة إلى ظاهرة نقصان الأوكسجين في طبقات الجو العليا، فيتأثر الجسم نتيجة ذلك، وقد أثبت العلم الحديث أنه كلما ارتفعنا في الجو قَلَّ الضغط الجوي، وبالتالي الضغط الجوي للأوكسجين. ويعد عنصر الأوكسجين أهم عناصر الهواء المستنشق الذي يتركب من الآتي: 20.95 % غاز أوكسجين. 78.09 % غاز نيتروجين. 00.03 % غاز ثاني أوكسيد الكربون.

_ (1) انظر: مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان ص 272.

الباقي: غازات غير هامة لوظائف الجسم. وأما ظاهرة (الحرج) الواردة في الآية الكريمة فهو الذي يمثله الارتفاع الحرج الذي يهبط فيه الضغط إلى 87مم/زئبق والبالغ 50.000 قدم وهنا حتى استنشاق الأوكسجين الصافي 100 % لا يفي بتاتاً بحاجة الجسم من الأوكسجين. ويقسم العلماء مراحل أعراض ظاهرة نقص الأوكسجين إلى أربعة مراحل تتعلق بالضغط الجوي ومستوى الارتفاع، ونسبة تركيز الأوكسجين في الدم وهي: 1- مرحلة عدم التغيير (من مستوى سطح البحر إلى الارتفاع 10.000 قدم) وفي هذه المرحلة لا توجد أعراض لنقص الأوكسجين، ولا تتأثر الرؤية بالنهار. 2- مرحلة التكافؤ (الفسيولوجي) (من ارتفاع 10.000 قدم إلى 16.000 قدم) وتعمل أجهزة التكافؤ (الفسيولوجي) في هذه المرحلة على عدم ظهور أعراض نقص الأوكسجين إلا إذا طالت مدة التعرض لهذا النقص، أو قام الفرد بمجهود جسماني في هذه الظروف فتبدأ عملية التنفس في الازدياد عدداً وعمقاً، ويزيد النبض، وضغط الدم، وكذلك سرعة الدورة الدموية. 3- مرحلة الاختلال (الفسيولوجي) (من ارتفاع 16.000 قدم إلى 25.000 قدم) وفي هذه المرحلة لا تفي أجهزة التكافؤ (الفسيولوجي) بالمطلوب، ولا تستطيع توريد الكمية الكافية من الأوكسجين للأنسجة، وهنا يبدأ ظهور الأعراض. وفي هذه المرحلة نجد تفسيراً واضحاً لضيق الصدر الذي يشعر به الإنسان عندما يصعد إلى هذه الارتفاعات، كما يحدث عند الطيارين وغيرهم.

4- المرحلة الحرجة من ارتفاع (25000 قدم فأعلى) وفي هذه المرحلة يفقد الإنسان الوعي تماماً بسبب فشل الجهاز العصبي. وهذه الحقائق العلمية الواردة في الآية الكريمة لم يصل إليها العلماء إلا بعد اجتهادات وأبحاث دامت عشرات السنين (1) . ولا ريب أن كتاب الله تعالى قد تضمّن العديد من الآيات الكريمة التي أشارت إلى حقائق وركائز علمية في هذا الكون، بشكل محكم (وإن سوق القرآن الكريم لهذه الحقائق وبهذه السعة والشمول، وبهذه الدقة المتناهية يحمل كل صاحب عقل منصف إلى القول بأن هذا تنزيل من العزيز الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً (2) . ومن هنا ندرك مدى قوة النهضة العلمية والفكرية التي أحدثها القرآن الكريم في حياة المسلمين، وفي مختلف مجالات العلم والمعرفة والفكر (3) .

_ (1) انظر: تأملات في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. صلاح الدين المغربي وآخرين ص 14-19 بتصرف يسير. (2) مباحث في إعجاز القرآن، د. مصطفى مسلم ص 219. (3) انظر: حول ذلك في كتاب: الإيمان بالله وأثره في الحياة، د. عبد المجيد عمر النجار ص 185-191.

المبحث الخامس: الأثر الإنساني والحضاري. إن من آثار القرآن العظيم في المجتمع المسلم تقرير مفهوم الإنسان وأصله ومبدئه وحقيقته، وحقوقه وواجباته، وكيف يبني حضارته على وجه هذه الأرض وماضوابطها. ولا شك أن للقرآن العظيم منهجه المتميز في ذلك، وله وسائله وأساليبه وطرقه في تقرير تلك الحقائق والأمور. وبنظرة إلى حالة العرب، بل وإلى المجتمعات الإنسانية قبل نزول القرآن الكريم تتضح مدى ما كانت تعانيه من إهدار لكرامة الإنسان، ووأد له، ومصادرة لحقوقه، بل وجعله من ضمن المتاع الذي يورث. ولا يبعد عن ذلك ما تعانيه البشرية اليوم في كثير من مجتمعاتها - التي لم تهتد بكتاب الله تعالى - من انحراف في فهم الوجود الإنساني، ومن تضييع لكرامته ونتيجة لذلك حاولت تلك الأمم أن تقرّر شيئاً من حقوق الإنسان فاجتمعت وأصدرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948م (1) . والتساؤل: هل كان لذلك القانون أثر في حفظ الكرامة الإنسانية في العالم المعاصر اليوم؟ وهل كفل للإنسانية المعذبة الحياة اللائقة بها؟ بل هل كفل لها أدنى متطلبات الإنسان؟ . والجواب عن ذلك: أن الحالة السيئة التي تعيشها الإنسانية اليوم وفي ظل تلك القوانين والأعراف تنبئ عن حالها، وإن الواقع المشاهد المحسوس يغني عن كثير من الكلام.

_ (1) العلاقة الإنسانية في القرآن الكريم، حمزة إبراهيم فودة ص 14.

أما كتاب الله تعالى فله الأثر العظيم البالغ في تقرير حقوق الإنسان وهو ما طبقه المسلمون واقعاً في تاريخهم وحاضرهم لا ادعاءً. يقول الله تعالى مبيناً أولاً حقيقة الوجود الإنساني: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 28-29) . وفي مجال بيان التكريم الإلهي لهذا الإنسان يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) . وفي مجال مسؤولية الإنسان عن نفسه وعمله يقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38-39) . وقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم: 39) . وفي مجال المساواة الحقيقية بين البشر يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) . وقال تعالى في مجال العدل بين الناس: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) . وقوله سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) . إلى غير ذلك من الحقوق الإنسانية التي أقرها القرآن الكريم للإنسان والتي عجزت النظم الوضعية عن مجاراتها أو الإتيان بمثلها. كما قرر القرآن الكريم أن الحضارة الإنسانية ينبغي أن تؤسس على تقوى، وهدى من الله تعالى، وأن تكون وفق منهج الله تعالى ومراده لا للمباهاة أو المراءاة أو البطر والأشر. قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام مع قومه وتذكيره لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (الشعراء: 128-131) . وخلاصة القول: أن القرآن العظيم قد رسم للإنسانية منهجاً واضحاً في حياتها، وبين لها كل ما يهمها، وما ينبغي أن تسير عليه وتبني عليه علاقاتها وحضارتها فكان منهجاً متميزاً أثمر عن كل خير وفضل للإنسانية جمعاء.

المبحث السادس: الأثر الأمني الشامل. يعيش الإنسان على هذه الأرض ويتقلب في مناكبها، ويسعى بين جنباتها، وقد يعرض له ما يخيفه ويحذر منه، ونتيجةً لذلك أصبح الأمن مطلباً ضرورياً للإنسان في حياته. والمتأمل في كتاب الله تعالى يجد أن القرآن الكريم قد كفل للإنسان أمنه وطمأنينته في حياته الدنيا، وفي حياته الأخرى. والأمن الذي نادى به القرآن الكريم شامل وكامل في حياة الإنسان، (ولا يتوفر الأمن بمجرد ضمانه لحياة الإنسان فحسب، بل هو يحتاج إلى الأمن على عقيدته التي يؤمن بها، وعلى هويته الفكرية والثقافية، وعلى موارد حياته الاقتصادية والمادية) (1) . يقول تعالى ممتناً على قريش بما هيأه لها من الأمن دون سائر القبائل، وليكون ذلك داعياً لها إلى عبادة الله تعالى وتوحيده: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش: 3-4) . وقال تعالى مبيناً أن الأمن الحقيقي يكون لمن آمن به ووحده ولم يخلط إيمانه بشرك، وأن غير ذلك من الأمن تبع له، ويتضح ذلك في معرض قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ

_ (1) انظر: الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام، د. عبد الله التركي ص 8.

آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:80-82) . ويبين القرآن العظيم أن الأمن الحقيقي والدائم هو ما يكون يوم القيامة من دخول المؤمنين الجنة كما في قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} (الحجر:46) . أما في هذه الحياة الدنيا فإن الإنسان يتقلّب بين أمن وخوف، ولكن في الحقيقة لا أمن ولا طمأنينة له إلا بالاعتصام بكتاب الله الكريم، والإيمان به وعبادته سبحانه دون شريك له كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) . وقال تعالى منبهاً على خصوصية لبيته الحرام وهي خاصية الأمن دون سواه من البيوت: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} (البقرة: 125) . كما بين تعالى أنَّ من دخل بيته الكريم فهو آمن، كما قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) . وبعد أن بين الله تعالى أسباب الأمن الحقيقية في كتابه الكريم حذّر من مغبّة اخترامها، والاعتداء على حقوق الله تعالى، وحقوق الناس، وأن ذلك مدعاة للخراب والخوف والدمار، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112) . ومن الوسائل العظيمة التي شرعها القرآن الكريم كي يعم الأمن وتقوم الحياة على منهاج آمن صحيح: الحدود الشرعية، وتنفيذ أحكام الله تعالى بين الناس، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179) .

ولا ريب أن تشريعات القرآن العظيمة قد كفلت الأمن والسعادة للإنسان في حياته الدنيا وحياته الآخرة، فكان التميّز القرآني المجيد على غيره من النظم والقوانين الوضعية، والتي باتت ترنو إلى شيء من آثار القرآن الكريم وتشريعاته العالية الرفيعة.

الخاتمة استعرضنا في الصفحات السابقة موضوع (الدعوة إلى التمسّك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلمين) ، وقد تكلمنا في عدة نقاط: كالتعريف بالقرآن الكريم، وأسمائه، وخصائصه، وأهمية الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم، ومظاهر التمسك بالقرآن الكريم، وفضائل ذلك، ثم تحدثنا عن آثار التمسك بالقرآن الكريم في حياة المسلمين، وهي بلا شك عديدة ولكن ركزنا الحديث في الأثر الإيماني والتعبدي، والأثر الدعوي والإصلاحي، والأثر الخلقي والمسلكي، والأثر العلمي والفكري، والأثر الإنساني والحضاري، والأثر الأمني الشامل. وحقيقة الأمر، فإن آثار القرآن العظيمة أكبر وأجل من أن تحصى لأنها آثار ذات جوانب عديدة، ومتعلقات كثيرة. والذي أود التركيز عليه والتنبيه إليه هو: ما ينبغي لكل مسلم ومسلمة من التمسك بكتاب الله تعالى والعناية به وعدم هجره، والامتثال لأمره، والاجتناب عن نهيه. كما أود أن أوصي نفسي وإخواني الدعاة بضرورة الاهتمام بكتاب الله تعالى، وجعله منطلق الدعوة، ورائدها، ومحور ارتكازها واعتمادها. وإذا كان لي من اقتراح فإنني أود اقتراح الأمور الآتية: أولاً: تكثيف الدراسات القرآنية في مراحل التعليم المختلفة حتى الدراسات العليا. ثانياً: الاهتمام بعلوم القرآن الكريم والدراسات المتعلقة بذلك. ثالثاً: بيان أحكام القرآن الكريم ومزاياه وفضائله ونشره على الناس. رابعاً: إطلاع العالم غير الإسلامي على جوانب من كتاب الله ودعوتهم للإيمان به. خامساً: إنشاء المراكز القرآنية المتخصصة في العالم الإسلامي، وعقد الندوات المفيدة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

فهارس المصادر والمراجع أولاً: القرآن الكريم. ثانياً: 1- الإتقان في علوم القرآن، للحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ط 4 (مكتبة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1397 هـ‍) . 2- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للإمام محمد علي الشوكاني، تحقيق: أحمد عزّو عناية، ط 1 (دار الكتاب العربي، بيروت 1419هـ‍) . 3- إعجاز القرآن، للقاضي أبي بكر الباقلاني، على حاشية الإتقان للسيوطي، ط 4 (مكتبة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1397 هـ‍) . 4- الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، (من مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الرياض 1417هـ‍) . 5- الأنشطة الدعوية في المملكة العربية السعودية، د. صالح بن غانم السدلان، ط 2 (دار بلنسية، الرياض 1420هـ‍) . 6- الإيمان، للإمام ابن تيمية، ط 3 (المكتب الإسلامي، بيروت 1401هـ‍) . 7- الإيمان بالله وأثره في الحياة، د. عبد المجيد عمر النجار، ط 1، (دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997م) .

8- تأملات في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. صلاح الدين المغربي وآخرين، ط 1 (دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، 1414هـ‍) . 9- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للحافظ محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (دار الكتب العلمية، بيروت) . 10- التعبير الفني في القرآن، د. بكري شيخ أمين، ط 3 (دار الشروق، بيروت، 1399هـ‍) . 11- التعريفات، للشريف علي بن محمد الجرجاني، ط 1 (دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ‍) . 12- تفسير ابن سعدي (المسمى: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي (نشر مركز صالح بن صالح الثقافي، عنيزة، 1407هـ‍) . 13- تفسير البيضاوي (المسمى: أنوار التنزيل وأسرار التأويل) للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، ط 1 (دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ‍) . 14- تفسير الخازن (المسمى: لباب التأويل في معاني التنزيل) للإمام علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن، ط 1، (دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ‍) . 15- تفسير الطبري (المسمى: جامع البيان في تأويل القرآن) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ط 1 (دار الكتب العلمية، بيروت، 1412هـ‍) .

16- تفسير القاسمي (المسمى: محاسن التأويل) للإمام محمد جمال الدين القاسمي، ضبط وتصحيح محمد باسل عيون السود، ط 1 (دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ‍) . 17- تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير، (دار المعرفة، بيروت، 1402هـ‍) . 18- التفسير الكبير (المسمى: مفاتيح الغيب) ، للإمام الرازي، ط 1، (دار الإحياء التراث العربي،بيروت، 1415هـ‍) . 19- التفسير الميسّر، إعداد نخبة من العلماء، بإشراف د. عبد الله بن عبد المحسن التركي (إصدار مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية، 1419هـ‍) . 20- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للسيد محمود الألوسي البغدادي، ضبط وتصحيح علي عبد الباري عطية، ط 1 (دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ‍) . 21- زاد المسير في علم التفسير، للحافظ ابن الجوزي، ط 3 (المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ‍) . 22- سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، بتحقيق أحمد محمد شاكر وآخرين، ط 2 (مكتبة مصطفى الحلبي، القاهرة 1398هـ‍) . 23- سنن الدارمي، للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تحقيق وتعليق د. مصطفى ديب البغا، ط 3 (دار القلم، دمشق، 1417هـ‍) .

24- سيرة النبي ?، لأبي محمد عبد الملك بن هشام، بتعليق الشيخ محيي الدين عبد الحميد (توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض) . 25- شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق جماعة من العلماء، وتخريج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني / ط 8 (المكتب الإسلامي، بيروت 1404هـ‍) . 26- شرح النووي على صحيح مسلم، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ط 2 (دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1392هـ‍) . 27- صحيح البخاري (المسمى: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، بشرح محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ونشر ومراجعة قصي محب الدين الخطيب، ط1 (المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1400هـ‍) . 28- صحيح سنن الترمذي، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط 1 (المكتب الإسلامي، بيروت، 1408هـ‍) . 29- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي (مطبعة دار إحياء الكتب العربية، القاهرة) . 30- العبودية، للإمام ابن تيمية، ط 6 (المكتب الإسلامي، بيروت، 1403هـ‍) .

31- العلاقة الإنسانية في القرآن الكريم، حمزة إبراهيم فودة، ط 1 (مطبوعات نادي مكة الثقافي الأدبي، 1403هـ‍) . 32- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، بتصحيح محب الدين الخطيب، ط 1 (دار الريَّان، القاهرة، 1407هـ‍) . 33- فضائل القرآن ومعالمه وآدابه، لأبي عبيد القاسم بن سلام، دراسة وتحقيق أحمد بن عبد الواحد الخياطي (مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، 1415هـ‍) . 34- الفوائد، للإمام ابن القيم الجوزية، تخريج وحواشي أحمد راتب عرموش، ط 6 (دار النفائس، بيروت، 1405هـ‍) . 35- الكلمات الإسلامية في الحقل القرآني، د. عبد العال سالم مكرم، ط 1 (مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417هـ‍) . 36- لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، لمحمد الصباغ (المكتب الإسلامي، بيروت، 1394هـ‍) . 37- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، للشيخ محمدالسفاريني الحنبلي، ط 3 (المكتب الإسلامي، بيروت، 1411هـ‍) . 38- مباحث في إعجاز القرآن، د. مصطفى مسلم، ط 1 (دار المنارة جدة، 1408هـ‍) .

39- مباحث في علوم القرآن، للشيخ مناع القطان، ط 8 (مكتبة المعارف، الرياض، 1401هـ‍) . 40- معجم لغة الفقهاء، د. محمد قلعجي وزميله، ط 2 (دار النفائس، بيروت، 1408هـ‍) . 41- مدخل إلى علوم القرآن وتفسيره، د. فاروق حمادة، ط 1 (مكتبة المعارف، الرباط - المغرب، 1399هـ‍) . 42- المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لشهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة المقدسي، بتحقيق طيارآقولاج. (دار صادر، بيروت، 1395هـ‍) . 43- مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، (دار الفكر، بيروت، بدون) . 44- النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز، ط 2 (دار القلم، الكويت، 1390هـ‍) . 45- نور من القرآن في طريق الدعوة والدعاة، د. محمد الحسين أبو سم، (سلسلة دعوة الحق، السنة 8، العدد 88، 1409هـ‍، إصدار رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة) . 46- هذا القرآن، لعبد الحي العمراني (مطابع فضالة المحمدية-المغرب، 1403هـ‍) .

الدعوة إلى التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلمين إعداد د/ عبد الرحيم محمد المغذوي الأستاذ المشارك بقسم الدعوة - كلية الدعوة وأصول الدين الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة بحث مقدم لندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه تحت رعاية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية في الفترة من 4/6/1421هـ‍ وإلى 7/6/1421هـ‍

§1/1